سيرة المتنبي
نسبه
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار الجعفي الكندي الكوفي، أو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي … إلخ، كما روى الخطيب وابن خلكان، وروى بعض المؤرخين: أحمد بن محمد … إلخ.
وجُعفي جد المتنبي:١ هو جعفي بن سعد العشيرة من مَذحِج من كهلان من قحطان، وكندة التي ينسب إليها، محلة بالكوفة، وليست كندة القبيلة كما ظن بعضهم خطأ.
وكان والد المتنبي يعرف بعبدان السقاء، يسقي الماء لأهل المحلة، أما جدته لأمه فهي هَمْدانية صحيحة النسب، وكانت من صلحاء النساء الكوفيات، وكان جيرانهم بالكوفة من أشراف العلويين، وكان لأبي الطيب منهم خلصاء وأصدقاء.
ولم يذكر المتنبي في شعره نسبه أو قبيلته، ولا أشار إلى والده أو جده، وإنما ذكر جدته لأمه، وكان يدعوها والدته، في أشعار منها:
أَمُنْسِيَّ الْكَوْن وَحَضْرَمَوْتَا وَوَالِدَتِي وَكِنْدَةَ وَالسَّبِيعَا
وقد روى الخطيب عن علي بن المحسن عن أبيه قال: «وسألت المتنبي عن نسبه فما اعترف لي به، وقال: أنا رجل أخبط القبائل وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها، وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني.»
على أن المتنبي قد دافع عن نسبه هذا، في القصيدة التي مطلعها:
لَا تَحْسَبُوا رَبْعَكُمْ وَلَا طَلَلَهْ أَوَّلَ حَيٍّ فَرِاقُكُمْ قَتَلَهْ
وإن يكن لم يذكره، وإنما أشاد بآباء له عظام، في قصيدته هذه، وفي مواضع أخرى من شعره، دون أن يذكر رحله أو عشيرته أو قبيلته.
ولم يكن المتنبي يُعنَى بأن يعرف عنه إلا أنه المتنبي، لا يفخر بقبيلة، إنما تفخر به القبيلة التي هو منها، قال في إحدى قصائد الصبا:
لَا بِقَوْمِي شَرُفْتُ بَلْ شَرُفُوا بِي وَبِنَفْسِي فَخَرْتُ لَا بِجُدُودِي
وقال في رثاء جدته لأمه:
وَلَوْ لَمْ تَكُونِي بِنْتَ أَكْرَمِ وَالِدٍ لَكَانَ أَبَاكِ الضَّخْمَ كَوْنكِ لِي أُمَّا
ويقول بعض مؤرخي الأدب العربي: إن بعض شعر المتنبي قد يدل على عصبية يمانية، فأكثر ممدوحيه في أيامه الأولى من قبائل يمانية، مدح شجاع بن محمد الأزدي، وعلى بن أحمد الطائي، وغيرهم، ومدح التنوخيين في اللاذقية، وقال للحسين بن إسحاق التنوخي يمدحه — بعد أن هجاه بعض الناس ونسب الهجاء إلى المتنبي:
أَبَتْ لَكِ ذَمِّي نَخْوَةٌ يَمَنِيَّةٌ وَنَفْسٌ بِهَا فِي مَأْزِقٍ أَبَدًا تَرْمِي
على أن ذلك الذي يكتم نسبه عن الناس فينسى الناس ذلك النسب، والذي يختلف المؤرخون في تسمية آبائه، ليس ذا نسب نابه على كل حال، ثم إن خلط كندة التي ولد بها المتنبي، بكندة القبيلة، شيء يحقق خمول نسب شاعرنا الكبير وتفاهته، وهو — على الرغم من كل أولئك — عربي قح، عريق في عروبته، فلا يعيبه أن كان من بيت فقير.
أسرته
ولقد اتفقت روايات المؤرخين على أن أبا المتنبي كان سَقَّاء، وقد هجاه ابن لنكك البصري لما سمع بقدومه بغداد راجعًا من مصر فقال:
لَكِنَّ بَغْدَادَ جَاءَ الْغَيْثُ سَاكِنَهَا نِعَالُهُمْ فِي قَفَا السَّقَّاءِ تَزْدَحِمُ
وقال شاعر آخر:
أَيُّ فَضْلٍ لِشَاعِرٍ يَطْلُبُ الْفَضـْ ـلَ مِنَ النَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا
عَاشَ حِينًا يَبِيعُ فِي الْكُوفَةِ الْمَا ءَ وَحِينًا يَبِيعُ مَاءَ الْمُحَيَّا
وروي أن والد المتنبي سافر به إلى الشام، وتنقل به بين حضرها وباديتها ومدرها ووبرها، وردده في القبائل.
على أن الثابت الذي ينطق بأن والد المتنبي لم يكن رجلًا نابه الشأن — كما يرجح الرواة — أنه مات فما رثاه ولده بكلمة واحدة.
أما والدة المتنبي، فلم يذكر الرواة عنها شيئًا، ويرجح أنها ماتت في حداثته قبل سفره إلى الشام، وأما جدته لأمه فقد تقدم ذكرها، وهي التي تفردت من بين أسرته جميعًا برثائه لها واحترامه الفخم. قال إبَّان اعتقاله:
بِيَدِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ الْأَرِيبُ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنِّي غَرِيبُ
وَلِأُمٍّ لَهَا إِذَا ذَكَرَتْنِي دَمُ قَلْبٍ فِي دَمْعِ عَيْنٍ يَذُوبُ
وتلك هي جدته التي أخبرنا في شعره — كما أخبرنا الرواة — أنها ماتت فرحًا بكتاب جاءها منه بعد غيبة طويلة مؤيسة، وإنك لواجد أثرها البليغ في حياته وسيرته، ولامس ثورة نفسه وحزنه عليها في قصيدته التي مطلعها:
أَلَا لَا أُرِي الْأَحْدَاثَ مَدْحًا وَلَا ذَمَّا فَمَا بَطْشُهَا جَهْلًا وَلَا كَفُّهَا حِلْمَا
وأجمع رواة أخبار المتنبي على أن مولده كان في محلة كندة، إحدى محلات الكوفة، سنة ثلاث وثلاثمائة من الهجرة، وهذا هو كل ما نعرفه من أخبار نشأته الأولى اللهم إلا النزر الذي لا ينقع غلة، جاء في الإيضاح أنه «اختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف العلويين، فكان يتعلم دروس العربية شعرًا ولغة وإعرابًا» وكان — إلى جانب ذلك — يختلف إلى الوراقين ليفيد من كتبهم، وقد تميز منذ الطفولة بالذكاء وقوة الحفظ، واشتهر بحبه للعلم والأدب، وقد لزم الأدباء والعلماء، وأكثر ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم.
ومما يستطرف هنا ما ذكره بعض الرواة عن قوة الحفظ في المتنبي، وهي أن أحد الورَّاقين أخبره أن أبا الطيب كان عنده يومًا، فجاءه رجل بكتاب نحو من ثلاثين ورقة لييعه، فأخذ أبو الطيب الكتاب وأقبل يراجع صفحاته، فلما ملَّ صاحب الكتاب ذلك استعجله قائلًا: يا هذا لقد عطلتني عن بيعه، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة، فذلك بعيد عليك. قال المتنبي: فإن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال الرجل: أعطيكه. قال الورَّاق: فأمسكت الكتاب أراجع صفحاته والغلام يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره، ثم استلبه فجعله في كمه ومضى لشأنه.
وروي أن المتنبي صحب الأعراب في البادية فعاد إلى الكوفة عربيًّا صرفًا، أما مدة إقامته فيها فهي أكثر من سنتين، قال العلوي: إنه أقام في البادية سنين، وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أنه أقام فيها سنتين، ويُرجح أن مغادرة المتنبي إلى البادية كانت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، حينما أغار القرامطة على الكوفة، ويرجح كذلك أنه غادر الكوفة مرة أخرى سنة خمس عشرة وثلاثمائة عندما عاود القرامطة الغارة وهزموا جيش الخلافة، وقد كان لذلك أثر بيِّنٌ في نفس المتنبي فاض في بعض أحاديثه وأشعاره.
وقد رحل المتنبي بعد ذلك إلى بغداد. جاء في «الصبح المنبي»: أن أبا الطيب قال: «وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد.» وإنه وإن لم يذكر المؤرخون موعد ذهابه إلى بغداد، فمن الراجح أنه ذهب إليها سنة تسع عشرة وثلاثمائة فقد جاء في النجوم الزاهرة في حوادث تلك السنة: أن القرامطة أغاروا على الكوفة فرحل أهلها إلى بغداد. فليس بعيدًا أن تكون هجرة المتنبي إلى بغداد مع الراحلين إليها من أهل الكوفة، ومن المحتمل أيضًا أن يكون المتنبي قد ذهب إلى بغداد قبل ذلك مرة أو مرات.
ويبين — بعد ذلك — من سيرة المتنبي، ومن روايات المؤرخين، أن ثقافة الشاعر العربي لم تكن جماع ما تلقاه في كتَّاب الكوفة، وما أفاده من مصاحبة الأعراب في البادية، وما تعلمه في بغداد فحسب؛ بل لقد زاد على ذلك أنه هاجر إلى العلماء وصاحبهم، فدرس على السكري ونفطويه وابن دستويه، ولقي كذلك أبا بكر محمد بن دريد فقرأ عليه ولزمه، ولقي بعده من أصحابه أبا القاسم عمر بن سيف البغدادي، وأبا عمران موسى، وأنه «طلب الأدب وعلم العربية، ونظر في أيام الناس، وتعاطى قول الشعر من حداثته حتى بلغ الغاية التي فاق فيها أهل عصره، وطاول شعراء وقته.»
رحلته إلى الشام
وكانت رحلة أبي الطيب إلى الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كما يقول المعري في رسالة الغفران، وفي دائرة المعارف الإسلامية: أنه رحل إلى بغداد سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم رحل بعد ذلك إلى الشام، ويقول بعض شراح الديوان: إن القصيدة التي مطلعها:
ذِكَرُ الصِّبَا وَمَرَاتِعُ الْآرَامِ جَلَبَتْ حِمَامِي قَبْلَ يَوْمِ حِمَامِي
نظمها الشاعر في رأس عين، وأرجأ قولها إلى أن لقي سيف الدولة بإنطاكية، ولا ريب أن مرور الشاعر برأس عين كان في إبان ذهابه إلى الشام، وقد كان ذلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة؛ فإن صح هذا، يكون المتنبي قد رحل إلى الشام وسنه ثماني عشرة سنة.
وقد وضع الواحدي في شرحه القصيدة التي أولها:
أَحْيَا وَأَيْسَرَ مَا قَاسَيْتُ مَا قَتَلَا وَالْبَيْنُ جَارَ عَلَى ضَعْفِي وَمَا عَدَلَا
في القصائد الشامية؛ أي إنها وما بعدها إلى الكافوريات، قيلت في الشام، أما ما قبلها، فقيل في العراق، وليس ما قبلها بكثير.
ولم يُبدِ شاعرنا الكبير حنانًا إلى وطنه العراق، الذي سلخ فيه ثماني عشرة سنة من عمره، وإنما ذكره في بعض قصائده، وذكر أن وطن الإنسان هو الأرض التي حل فيها فلقي خيرًا وصحابًا، ويبدو أن وطنه ذلك قد نَبَا به، وضاق بآماله وأحلامه وطموحه.
ولم تكن رحلة المتنبي إلى الشام ومكثه به وقوله الشعر، إلا في طلب المجد والسؤدد ورفعة الشأن، ولا ندري أسافر إليها وحده، أم سافر في صحبة والده؟
وجدير بنا، قبل أن نمضي في ترجمة شاعرنا إبان إقامته في الشام، أنْ نلمع إلى الحالة السياسية بها في هذه الفترة؛ لما لها من أثر كبير في حياة الشاعر وسيرته.
فلقد كانت الشام — على عهد المتنبي — مقسمة بين الأخشيد وابن رائق، ثم بين الأخشيد وسيف الدولة، وقد استمرت المنازعات عليها منذ سنة ست عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر بالله العباسي، وقد ولى محمد بن طغج على الرملة، ثم أضاف إليه دمشق سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، وكانت حلب في أيدي ولاة يرسلون من بغداد، ثم وُلي محمد بن طغج مصر أيضًا ثم عُزل عنها، وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في عهد الراضي بالله العباسي عظم أمر ابن طغج، فأعيدت ولايته على مصر، وامتد سلطانه على الشام كلها، وخلع طاعة الخليفة؛ فأرسل إليه ابن رائق، فاستولى على الشام وولى ابن يزداد حلب، ثم دمشق، وكان الأخشيد قد استقر على الرملة، فسير جيشًا يقوده كافور إلى الشام، فهزم ابن يزداد واستولى على حلب، ثم استقر سلطان الأخشيد على الشام كلها، وفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة استولى سيف الدولة على حلب، وبقي الأخشيديون في دمشق.
وقد مدح أبو الطيب من رجال هذه الوقائع مساور بن محمد الرومي، والحسين بن عبد الله بن طغج، وهو ابن أخي الأخشيد، وطاهر العلوي، قال في مساور القصيدتين اللتين مطلعاهما:
جَللا كما بي فَليكُ التبريح أَغِذاءُ ذا الرشإِ الأَغَنْ الشِّيحُ
(و)
أَمُسَاوِرٌ أَمْ قَرْنُ شَمْسٍ هَذَا أَمْ لَيْثُ غَابٍ يَقدُمُ الأسْتَاذا
ويعني الشاعر بلفظة «الأستاذ»: كافورًا.
وكانت طريق أبي الطيب إلى الشام هي طريق الجزيرة، فمر برأس عين وانتهى إلى مَنْبج، حيث أقام يمدح جماعة من رؤساء العرب، وأول قصائده الشامية في الديوان يمدح بها سعيد بن عبد الله الكلابي المنبجي — وهي القصيدة التي أشرنا إليها من قبل — ثم مدح الشاعر جماعة أخرى في مَنْبِج وطَرابلس وغيرهما من بلاد الشام الشمالية.
ولا نحب أن نمضي قُدُمًا في سيرة الشاعر، دون أن نقف بحادثة ادعائه النبوة، وهي الحادثة التي أثرت أكبر التأثير في صوغ سيرته في كتب الأدب؛ لنعلم أحقًّا كان ذلك أم كذبًا؟ فإن كان كذبًا فلماذا لقب بالمتنبي؟
•••
لا جدال في أن أبا الطيب سجن بالشام في أيام شبابه، فقد أجمع على ذلك رواة سيرته جميعهم — كما أنبأ به في شعره — أما سبب سجنه فذلك ما اختلف فيه الرواة بعضهم مع بعض، وما اختلف فيه أبو الطيب، مع رواة سيرته، ويقول الخطيب البغدادي: إن أبا الطيب «لما خرج إلى كلب وأقام فيهم ادَّعى أنه علوي حسني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي، إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحبس دهرًا طويلًا، وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق.» ويقول أيضًا رواية عن خَلق يتحدثون: «إنه تنبأ في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية، فقاتله وأسره، وشرد من اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب، وحبسه في السجن حبسًا طويلًا فاعتل وكاد أن يتلف، حتى سئل في أمره؛ فاستتابه وكتب عليه وثيقة أشهد عليها فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام.»
ويروي المعري في رسالة الغفران: أنه لما حصل في بني عدي، وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له — وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل، حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها، ومشت مشى الممسحة، وأنه ورد الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.
وروى كذلك: أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحًا مفرطًا، فتفل عليها أبو الطيب من ريقه وشد عليها، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعدَّ له أيامًا وليالي، فقبل الكاتب ذلك وبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون فيه النبوة، ويقولون: إنه كمحيي الأموات.
وفي الصبح المنبي: أن أبا الطيب قدم اللاذقية بعد نيف وعشرين وثلاثمائة فأكرمه معاذ، ثم قال له: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير. فقال: ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل؛ ثم تلا عليه جملة من قرآنه — وهو مائة وأربع عشرة عبرة — ثم أراه معجزة، فمنع المطر عن بقعة وقف فيها، فأصاب المطر ما حولها ولم تصبها قطرة، فبايعه معاذ، وعمت بيعته كل مدينة في الشام، ثم إنه لما شاع ذكره، وخرج بأرض سلمية من عمل حمص قبض عليه ابن علي الهاشمي، وأمر النجار بأن يجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف، وقد كتب أبو الطيب من حبسه إلى الوالي:
بِيَدِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ الْأَرِيبُ … … … إلخ
تلك بعض الروايات التي ألصقتْ بأبي الطيب دعوى النبوة، وهي روايات واضحة الكذب واهية الأسانيد؛ فأما أولاها: فدعوى النبوة فيها مقحمة إقحامًا تسبقها وتعقبها دعوى العلوية، فكأنما صح في ذهن جمهرة الرواة أنه تنبأ فجعلوا في رواياتهم مصداق ما سمعوه وصح في أذهانهم، وأما الثانية: فهي رواية عن خَلق يتحدثون، وهذه مقطوع ببطلانها مقضيٌّ بكذبها، فأحاديث الخلق دائمًا مزوقة الجوانب موشاة الحواشي، بالكذب القصصي الشيق، واما رواية المعري: فهي حديث خرافة أيضًا، لا تقرر شيئًا، إلا أنه قام بالمعجزات وأن الناس صدقوا به، وذلك شيء بعيد الحدوث، بل مستحيله أيضًا؛ فلو أن المتنبي تنبأ فعلًا فمن المقطوع به أن أحدًا من الناس لم يؤمن بنبوته، وأما رواية معاذ فناطقة بالكذب الصريح والتلفيق البيِّن؛ لأن فيه قرآنًا ومعجزات وتصديقًا بدعوته، وحديثًا مفككًا يناقض أوله آخره.
والذي يسهل على التصديق ويدخل في نطاق الواقع من أيسر سبيل أن أبا الطيب لقب بالمتنبي؛ لبعض أبيات من شعره، ولتعاليه وتعاظمه، ففي الديوان قطعة جاء قبلها «وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي على ما كان قد شاهد من تهوره فقال:
أَيَا عَبْدَ الْإِلَهِ مَعَاذَ إِنِّي خَفِيٌّ عَنْكَ فِي الْهَيْجَا مقامِي»
وليس في هذه القطعة إلا المخاطرة ومصاولة الخطوب في سبيل ما يطمح إليه من المجد والسؤدد، وليس فيها ذكر لدعوى النبوة أو إشارة إلى خارق المعجزات التي حفلت بها الرواية السابقة.
ويقول الثعالبي: إنه بلغ من كبر نفسه وبعد همته أنه دعا قومًا من رائشي نبله، على الحداثة في سنه، والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم أمر دعوته، تأدَّى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما همَّ به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده.
وهذه رواية معقولة مقنعة مسايرة للمنطق والصدق، وقد روى الثعالبي بعد ذلك أنه «يُحكى أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه وحسن كلامه.» وهو يقصد بذلك أن يشير إلى ما تجاذبه الناس من حديث التنبؤ، وما لاكته الألسن من خرافة قصصية مشوقة.
وروى الخطيب عن التنوخي: «فأما أنا فسألته بالأهواز سنة ٣٥٤ﻫ عند اجتيازه بها إلى فارس في حديث طويل جرى بيننا عن معنى المتنبي؛ لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أم لا؟ فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء كان في الحداثة.»
ويقول ابن جني في شرحه: «وكان قوم قد وشوا به إلى السلطان في صباه وتكذبوا عليه، وقالوا له: قد انقاد له خلق كثير من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه فاعتقله، وضيق عليه، فكتب إليه يمدحه.»
أما رأي ابن جني في تلقيبه بالمتنبي فهو قوله:
أَنَا فِي أُمَّةٍ تَدَارَكَهَا اللهُ غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودِ
وذلك رأيٌ نميل إلى الأخذ به. فواضح من قصيدته في الاعتقال ومطلعها:
أَيَا خَدَّدَ اللهُ وَرْدَ الْخُدُودِ وقدَّ قُدُودَ الْحِسَانِ الْقُدُودِ
إن التهمة التي ألصقت بالمتنبي لم تكن ادعاءه النبوة، وإنما كانت دعوى أخرى تكشف عنها العقيدة، ويعترف بها الشاعر ولا يحاول إنكارها، وهي اتهامه «بالعدوان على العالمين» أي بالخروج على السلطان.
ويصح كذلك أن يكون سبب تسمية بالمتنبي ذلك البيت:
مَا مُقَامِي بِأَرْضِ نَخْلَةَ إِلَّا كَمُقَامِ الْمَسِيحِ بَيْنَ الْيَهُودِ
وليس أيسر من أن يسمع حاسدوه هذا الشعر فيلقبوه بالمتنبي، وفي أيامنا هذه من أمثال ذلك كثير في الصحف والمجلات، فإذا أطلق عليه هذا اللقب وذاع وسرى في الناس، ثم مضت مدة رجع فيها الناس إلى الاستقصاء استطاع أصحاب الخيالات القصصية أن يخلقوا قصة طريفة يفسرون بها هذا اللقب، ويسندون فيها إليه ادعاء النبوَّة.
•••
ونعود إلى سيرة المتنبي فنقول:
كان سجنه سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، أو في السنة التي بعدها، ويؤخذ ذلك من أنه قال في قصيدته التي أرسلها من سجنه إلى الوالي يمدحه:
فَوَلَّى بِأَشْيَاعِهِ الْخَرْشَنِيُّ كَشَاءٍ أَحَسَّ زَئِيرَ الْأُسُودِ
والخرشني هو: بدر الخرشني والي حلب من قبل الخليفة العباسي، وثابت في كتب التاريخ أن الأخشيد استولى على حلب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بعد أن تركها الخرشني إلى بغداد، فإن كان أبو الطيب يقصد بهذا البيت نزوح الخرشني إلى بغداد، قبل استيلاء الأخشيد على حلب؛ فيكون سجنه في هذه السنة أو في التي تليها.
ولقد لبث أبو الطيب بالشام خمس عشرة سنة، وهو دائم الترحال غير مستقر على حال، يقصد الممدوحين، فيخيبون أمله، فتثور نفسه، وتتحكم كبرياؤه، ثم يعود فيكبت النفس الأبية، ويمسك كبرياءه بيده، وتلجئه الحاجة الملحة إلى معاودة المدح، وقد مدح أثناء ذلك اثنين وثلاثين رجلًا بأربع وأربعين قصيدة، ومنهم التنوخيون باللاذقية، وبدر بن عمار الأسدي نائب ابن رائق في طبرية، ومساور بن محمد الرومي والي حلب، وقد لزم التنوخيين وابن عمار زمنًا، وأكثر البلاد نصيبًا من مدائحه: منبج، وإنطاكية، واللاذقية، وطبرية، ومدح كذلك في طرابلس، وطرسوس، وجبل جرش ودمشق، والرملة.
وقد نظم في تلك المدة خمس قصائد لنفسه، يُعرب فيها عن مطامعه ويفخر ويثور، وهي القصائد التي أبانت عن آماله وأوضحت عن أحلام نفسه الكبيرة.
•••
ولم يُفِدْ أبو الطيب من مديحه إلا العطاء النزر، على كثرة ما بالغ واحتفل. روى ياقوت في معجم الأدباء: أن المتنبي لما مدح محمد بن زريق الطرسوسي بقصيدته:
هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسًا ثُمَّ انْثَنَيْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسَا
وصله عليها بعشرة دراهم. فقيل له: إن شعره حسن. فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح، ولكن أزيده لقولك هذا عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهمًا، وروى الثعالبي: أن عليًّا بن منصور الحاجب أعطى أبا الطيب دينارًا حينما مدحه بقصيدته:
بَأَبِي الشُّمُوس الْجَانِحَات غَوَارِبًا اللَّابِسَات مِنَ الْحَرِيرِ جَلَابِبَا
فسميت القصيدة الدينارية، وروي كذلك أن أبا الطيب مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم، ولكن الذي لا ريب فيه، أن كبار الممدوحين أعطوه عطاء ضخمًا، يلائم شعره ومكانته.
•••
ولقد كان المتنبي في عهده هذا، يبغي المجد والسؤدد، ويلهج بالملك، ويبني صروح الآمال الجسام. قال في صباه:
وَمَنْ يَبْغِ مَا أَبْغِي مِنَ الْمَجْدِ وَالْعُلَى تَسَاوَى الْمُحَايِي عِنْدَهُ وَالْمُقَاتِلُ
وعند ما لامه معاذ اللاذقي على توعده قال:
أَيَا عَبْدَ الْإِلَهِ معاذَ إِنِّي خَفِيٌّ عَنْكَ فِي الْهَيْجَا مَقَامِي
وكثير جدًّا من شعره ينحو هذا المنحى ويسلك هذا السبيل، وكان يرى الوسيلة إلى الملك الكفاح والقتال ومصارعة الخطوب، وقد جاء ذلك في شعره في غير موضع، فإذا عاقته الأيام عن ذلك، وتوانى عن إدراك أحلامه العريضة، لام نفسه وأنَّبها تأنيبًا.
والذي يقرأ الديوان يدرك أن المتنبي كان يستعمل هذا الضرب من ذكر الآمال، وطلب المجد والسؤدد، في أول قصائده التي يمدح بها كما كان الشعراء يستفتحون قصائدهم بالنسيب، وقد جرى على ذلك في قصيدته التي مدح بها عليَّ بن إبراهيم التنوخي، والتي مطلعها:
أُحَادٍ أَمْ سُدَاسٍ فِي أُحَادٍ لِلَيْلَتِنَا الْمَنُوطَةِ بِالتَّنَادِ
وكذلك في قصيدته التي مدح بها المغيث بن علي بن بشر العجلي، والتي مطلعها:
فُؤَادٌ مَا تُسَلِّيهِ الْمُدَامُ وَعُمْرٌ مِثْلَ مَا تَهَبُ اللِّئَامُ
وبلغ من ولع شاعرنا بهذا اللون من ألوان الكلام، وقلة مبالاته بالناس أنه توعد بقتل الممدوحين أيضًا، وذلك في قصيدة يمدح بها محمد بن عبد الله الخصيبي.
وفي شعر المتنبي: أنه حارب في سبيل غايته، وعارك وقتل، ولا ندري متى حارب ومن قتل، ولعل ذلك وهم وسوس به إليه شيطانه النافر الجامح.
ومن عجب أن ذلك الشاعر الطامح إلى الملك والسلطان، الذي وسع صدره هذه الآمال الكبار، كان فقيرًا معسرًا لم ينل من حياته عيشًا رغدًا، يقول في إحدى قصائد صباه:
أَيْنَ فَضْلِي إِذَا قَنَعْتُ مِنَ الدَّهـْ ـرِ بِعَيْشٍ مُعَجَّلِ التَّنْكِيدِ
ضَاقَ صَدْرِي وَطَالَ فِي طَلَبِ الرِّزْ قِ قِيَامِي وَقَلَّ عَنْهُ قُعُودِي
ويقول بعض القصيدة الدينارية:
أَظْمَتْنِيَ الدُّنْيَا فَلَمَّا جِئْتُهَا مُسْتَسْقِيًا مَطَرَتْ عَلَيَّ مَصَائِبَا
ويقول الثعالبي: إن أبا الطيب كان يجشم نفسه أسفارًا أبعد من آماله، لا يستقر ببلد ولا يسكن إلى أحد، وكان من وفرة ما لاقى في سبيل غايته من مشقة، وشح ما لقي من مكافأة، وطول ما عانى ونصب، يكره الدنيا ومن فيها، ويخالها بناسها حربًا عليه، وليس يغيب عن الذِّهن ما قاله في تحقير الناس، من شعر ممعن في الذم، قال:
أَذُمُّ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ أُهَيْلَهُ فَأَعْلَمُهُمْ فَدْمٌ وَأَحْزَمُهُمْ وَغْدُ
إلى آخر الأبيات.
وليس يخفى أنه كان متعاليًا على الناس، شديد الاعتداد بنفسه، والإيمان بحقه على أهل زمانه، ونحسبه كان محقًّا في ذلك، وإلا لما حفل الناس به إلى يومنا هذا، ولما سعى إليه الممدوحون بدل أن يسعى إليهم. يقول في إحدى قصائد صباه:
إِنْ أَكُنْ مُعْجَبًا فَعُجْب عَجِيب لَمْ يَجْدِ فَوْقَ نَفْسِهِ مِنْ مَزِيدِ
إلى آخر ما هو من هذا القبيل.
ولم يكن أبو الطيب يتغنى بالثورة والمجد عبثًا، ولا كان عاجزًا يُمَنِّي نفسه بالقول دون الفعل، وإنما كان يسعى لآماله سعي المشيح المجدِّ، فلقد هم بالثورة وترقب لها الفرص، ثم سكت عن أشباه ذلك بعد أن بارح عتبة الصبا، وأوغل في سني الرجولة الحكيمة، فتركزت آماله في عقله الباطن، وراح يعمل على تحقيقها في هدوء ويقين وثقة بالنجاح، وقد استمر يُمنِّي النفس، ويبسط أمامها سبل الأمل الباسم الخلاب، حتى قتل الزمان هذا الأمل في رأسه وخياله؛ فآب صامتًا محتملًا يشكو لنفسه مطل الزمان، ولا يشكو لبني الإنسان، فهو يراهم دونه بكثير.
•••
تلك كانت حالة الشاعر في بلاد الشام، منذ ألقى بها عصا التسيار، حتى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، بيد أنه على سوء حاله وإغراقه في شكوى الزمان، قد سار ذكره ونبه شأنه، وبسط شعره سلطانه على الناطقين بالضاد، حتى رغب في مدائحه الأمراء والحاكمون، فدعاه الحسن بن عبيد الله بن طغج إلى الرملة ليمحدحه — وهو أخو الأخشيد كما قدمنا — ثم تيسر له سبيل الاتصال بأبي العشائر بن حمدان، فمهد له الوصول إلى سيف الدولة علي بن حمدان، الذي هيأ له السعادة والمجد، وأعانه على الدخول في زمرة الخالدين، وكان له على خطوب الأيام خير معين.
وكان لقاء الشاعر للحسن بن طغج في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة؛ إذ أرسل إليه رسوله بركوبة يركبها، فامتنع الشاعر عليه، فأقسم ألا يبرحه، فدخل أبو الطيب فكتب قصيدة وعاد ومدادها لم يجف، ثم ركب مع الرسول، فدخلا على ابن طغج فأنشده إياها، وهي:
أَنَا لَائِمِي إِنْ كُنْتُ وَقْتَ اللَّوَائِمِ عَلِمْتُ بِمَا بِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
وكان هذا أول شعر للمتنبي أجيز عليه إجازة كبيرة. جاء في الإيضاح: «أن المتنبي حدَّث بأنه أُعطي من أجلها ألف دينار، وقد أقام الشاعر مدةً عند ابن طغج، وفي الديوان غير هذه القصيدة: أرجوزة قصيرة، وثلاث وعشرون قطعة قصيرة أكثرها بيتان، وقد قيلت قطعتان منها بعد عشر سنين من هذا التاريخ، حين مر الشاعر بالرملة قاصدًا مصر وهما قوله:
تَرْكُ مَدْحِكَ كَالْهِجَاءِ لِنَفْسِي وَقَلِيلٌ لَكَ الْمَدِيحُ الْكَثِيرُ
و
مَاذَا الْوَدَاعُ وَدَاعُ الْوَامِقِ الْكَمِدِ هَذَا الْوَدَاعُ وَدَاعُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ»
•••
ومدح أبو الطيب في الرملة أيضًا أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي، وفي شرح المعري وشروح أخرى: أن ابن طغج سأل الشاعر مدح أبي القاسم مرات عدة، وألح عليه في ذلك كثيرًا فكان يمتنع، ثم سأله الأمير قصيدة في أبي القاسم بدل قصيدة كان يريدها لنفسه فرضي أبو الطيب، ولما ذهب الشاعر إلى أبي القاسم ومعه حاشية، وجده في فريق من أشراف قومه يجلس على سريره، وقد نزل لأبي الطيب عن سريره ولقيه بعيدًا، وأقبل عليه يحدثه ويؤنسه ويجلسه على سريره، ثم يجلس هو بين يديه، وقد كان ذلك بدعًا في المديح حقًّا، فلم يسمع أحد قبل أبي الطيب أن شاعرًا جلس الممدوح بين يديد، وهذه القصيدة هي:
أَعِيدُوا صَبَاحِي فَهْوُ عِنْدَ الْكَوَاعِبِ وَرُدُّوا رُقَادِي فَهْوُ لَحْظُ الْحَبَائِبِ
•••
ويجمل بنا أن نشير هنا إلى أنه لما غُلِبَ العباسيون على أمرهم، وأصبح الخلفاء في أيدي القواد والأمراء، نشأت في قبائل العرب أربع دول: هي بنو حمدان بالموصل وحلب (٣١٧–٣٩٤ﻫ) وبنو مرداس، وبنو المسيب، وبنو مريد، وإنما يعنينا من هذه الدول دولة بني حمدان التغلبيين، التي أنجبت سيف الدولة الحمداني، وتنسب هذه العشيرة إلى حمدان أحد رؤساء بني تغلب، وهو ابن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد، يقول المتنبي:
وَحَمْدَانُ حَمْدُونٍ، وَحَمْدُونُ حَارِثٍ وَحَارِثُ لُقْمَانٍ، وَلُقْمَانُ رَاشِدِ
وكان للحمدانيين نفوذ وسلطان إبان الخلافة العباسية منذ سنة ٢٦٠، وولي أمراؤهم ولايات كثيرة، وكان علي سيف الدولة الحمداني يملك واسطًا وما حولها، ثم أخذ لنفسه بسيفه مملكة من الأخشيديين في شمال الشام، واستولى على حلب وحمص سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة كما تقدم، وكانت له وقائع مع الأخشيديين، وقد استولى على دمشق والرملة بعد موت الأخشيد، ثم غُلب عليهما، فاصطلح مع الأخشيديين على أن تكون له حلب ولهم دمشق، وتزوج بنت الأخشيد، واستمر له الملك ولذريته حتى أخذه الفاطميون.
وفي تاريخه: أنه صمد للروم يحاربهم عن العرب، فكانت له معهم وقائع قبل أن يملك حلب، فلما استقرَّ له الملك وبسط يده على المدائن كان عليه أن يحمي ذمار ملكه، وأن يناضل عن بني دينه ولغته، وأن يقيم عرشه على السيوف المسلطة والدماء المراقة، وقد استطاع أن يقف وحده عشرين عامًا شوكة وخازة في جسم الروم، وسيفًا مشهرًا يذود عن العروبة والإسلام. لم تمضِ منها سنة واحدة إلا كان له فيها حروب ونضال، فقدر له النصر مرات عدَّة، وأوغل في بلادهم سنة ٣٣٩ حتى قارب القسطنطينية، وقُدِّر له كذلك أن يلقى الهزائم المرَّة، وكان شر هزائمه واقعة سنة ٣٥١ التي زحف فيها الروم على حلب، فذبحوا فيها وقتلوا تقتيلا، ونهبوا دار الأمير وخربوها.
على أن سيف الدولة — الذي أصيب بفالج في يده ورجله سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة — لم يقعده ذلك عن حرب الروم، فثأر منهم، وانتصر عليهم في السنة التالية.
وكان ذلك الأمير الأديب الشاعر شجاعًا في انتصاره وهزيمته معًا، ماضي العزيمة، عظيم البلاء، وقد توفي في حلب سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ودفن في ميافارقين.
وأضاف فتى الحرب والنضال إلى شجاعته وأدبه كرمًا وسماحة بالغة، فكان مقصد العلماء والأدباء والشعراء، وقبلة آمالهم ومحط رحالهم، فيروى أنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء مثل ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر وفحول الأدب والعلم.
وممن قصده من الشعراء — غير أبي الطيب — أبو فراس، وأبو العباس النامي، وعلي بن عبد الله الناشئ، والسري الرفَّاء، وكثيرون غيرهم، وبلغت مدائحه عشرات الألوف من الأبيات، اختار منها بعض الأدباء عشرة آلاف بيت وجمعوها في كتاب، وصحبه من الأدباء كثيرون أيضًا منهم ابن خالويه وأبو علي الفارسي، وأهداه أبو الفرج الأصفهاني كتاب الأغاني فأعطاه ألف دينار، ولجأ إليه كذلك الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي وعاش في كنفه، وكان سخاؤه يشمل من بَعُد عنه، وله شعر يدل على أنه شاعر مطبوع، ونقد يدل على سلامة الذوق والعلم بلغة الضاد.
•••
وبارح شاعرنا الرملة سنة ٣٣٦ قاصدًا إنطاكية، مارًّا ببعلبك، وكان فيها عليُّ بن عسكر، فخلع عليه، وسأله أن يقيم عنده، فمدحه بأربعة أبيات، ورحل إلى إنطاكية فمدح فيها أبا العشائر بالقصيدة التي مطلعها:
أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ الْعُشَّاقِ تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً فِي الْمَآقِي
ثم مدحه بثلاث قطع أخرى، وأنشأ في إنطاكية كذلك أرجوزة أولها:
مَا لِلْمُرُوجِ الْخُضْرِ وَالْحَدَائِقِ يَشْكُو خَلَاهَا كَثْرَةُ الْعَوَائِقِ
وذلك عندما شهد الثلج يكسو أديم الأرض، ويغشى الربا والوهاد.
وأثناء إقامته في إنطاكية، أغار عليها بانس المؤنسى — قائد الأخشيديين — وفوجئ أبو العشائر فقاتل عن نفسه حتى بلغ حلب، فقال المتنبي قصيدته:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
ثم رجع أبو العشائر إلى إنطاكية، وكان أبو الطيب عاد إلى الرملة، فلما سمع بقدومه خرج يقصده، فلما غدا بطرابلس أراده إسحاق بن كيغلغ على مدحه — وكان جاهلًا — وكان بعض الناس قد أغروه به، وقالوا: إنما يترك مدحك استصغارًا لك، فلما راسله يستمدحه احتج أبو الطيب بيمين ألا يمدح أحدًا إلى مدة، فأخذ عليه الطرق حتى تنقضي المدَّة، فهجاه أبو الطيب بقصيدة أملاها على من يثق به، ولما ذاب الثلج عن لبنان خرج إلى دمشق، وأتبعه ابن كيغلغ خيلًا ورجلًا فأعجزهم، ثم ظهرت القصيدة، وقد أقذع فيها المتنبي وأفحش إلى جانب ما أودعها من الحكمة الرائعة.
ولما بلغ الشاعر إنطاكية، لقي أبا العشائر ومدحه بقصيدتين وثماني قطع.
•••
وأراد الله للشاعر الكبير أن يلقى ممدوحه الكبير، وأن يمتزج تاريخهما على مر العصور والأيام، فقد كان أبو العشائر بن حمدان واليًا على إنطاكية من قبل سيف الدولة، فلما قدم الأمير إنطاكية سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، قدم أبو العشائر إليه أبا الطيب، وأثنى عليه، ولم يشأ أبو الطيب أن يمدح الأمير إلا بعد أن اشترط عليه ألا ينشده وهو واقف، وألا يقبل الأرض بين يديه، فقبل سيف الدولة شروطه، وكانت مما تميز به المتنبي على الشعراء جميعًا، ومما أوحت به إليه نفسه الطموح التي لا تقبل الهوان، فقد تعوَّد أن يتخذ من ممدوحيه أصدقاء له وصحابًا، وكان سيف الدولة سمح النفس كريم الخلق، فمن الهين عليه أن يتخذ المتنبي صديقًا صدوقًا، وأن يكون هو له نعم الصاحب أيضًا، فهو الشاعر المجيد الذي يستطيع أن يشيد بمآثره، ويخلد بطولته، كما رأى المتنبي أن سيف الدولة هو الأمير العربي الذي يجدر بدرره الغوالي وآياته الخالدات؛ بل إنه لشاعر المجد الذي يبغي مصاحبته شاعر اللفظ والبيان، قال المتنبي:
شَاعِرُ اللَّفْظِ خِدْنُهُ شَاعِرُ الْمَجْدِ كِلَانَا رَبُّ الْمَعَانِي الدِّقَاقِ
وقال:
لَكَ الْحَمْدُ فِي الدُّرِّ الَّذِي لِي لَفْظُهُ فَإِنَّك مُعْطِيهِ وَإِنِّيَ نَاظِمُ
وصحب أبو الطيب سيف الدولة ثماني سنوات، نظم فيها اثني عشر وخمسمائة وألف بيت، في ثمانٍ وثلاثين قصيدة، وإحدى وثلاثين قطعة: منها أربع عشرة قصيدة في وصف وقائعه مع الروم، وأربع في وقائعه مع العرب، وخمس عشرة في المدح المجرد عن وصف الوقائع، وخمس في الرثاء، ومن القطع اثنتان في حوادث الروم، والباقي في مقاصد مختلفة، يضاف إلى كل هذا قصيدة:
ذِكْرُ الصِّبَا وَمَرَاتِعِ الْآرَامِ جَلَبَتْ حِمَامِي قَبْلَ يَوْمِ حِمَامِي
نظمها الشاعر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في ثلاثة وثلاثين بيتًا، وألحقها بمدائح سيف الدولة، وقد اتفقت روايات المؤرخين على أنه قالها في ذلك التاريخ، ولكن الدكتور عبد الوهاب عزام لا يميل إلى تصديق ذلك مرتكنًا على أسباب وجيهة، يراها القارئ في كتابه عن المتنبي الذي اعتمدنا عليه في تلخيص هذه السيرة.
وقد مدح الشاعر سيف الدولة غير ذلك بقصيدتين، وعزَّاه عن أخته بأخرى، وذلك بعد أن رجع إلى العراق.
وكان سيف الدولة يغدق على شاعره أيَّما إغداق، ويكرمه ويبالغ في العطف عليه وإكبار شأنه، فكان يعطيه كل عام ثلاثة آلاف دينار، وكان يمنحه غير ذلك عطايا أخرى ومكافآت. قال المتنبي قطعته:
مَوْقِعُ الْخَيْلِ مِنْ نَدَاكَ طَفِيفُ وَلَوْ أَنَّ الْجِيَادَ فِيهَا أَلُوفُ
حين سأله الأمير عن فرس يرسله إليه، وقال قطعته:
اخْتَرْتَ دَهْمَاءَتَيْنِ يَا مَطَرُ وَمَنْ لَهُ فِي الْفَضَائِلِ الْخِيَرُ
حين خيَّره في فرسين، إحداهما دهماء والأخرى كميت، وقال قطعته:
فَعَلْتَ بِنَا فِعْلَ السَّمَاءِ بِأَرْضِهِ خِلَعُ الْأَمِيرِ وَحَقَّهُ لَمْ نَقْضِهِ
في خلع أنفذها إليه، وقال قطعته:
أَيَا رَامِيًا يُصْمِي فُؤَادَ مَرَامِهِ تُرَبِّي عِدَاهُ رِيشَهَا لِسِهَامِهِ
وهو خارج إلى أقطاع أقطعه إياه الأمير في معرة النعمان، وجاء في الشروح ذكر لهدايا جمة منحها الأمير للشاعر بعد أن تصالحا إثر تنافرهما.
وينطق شعر المتنبي في سيف الدولة، بالغبطة والرضا، ويفيض بالشكر الأوفر، يقول:
أَسِيرُ إِلَى إِقْطَاعِهِ فِي ثِيَابِهِ عَلَى طَرْفِهِ مِنْ دَارِهِ بِحُسَامِهِ
وقد سكن أبو الطيب إلى صحبة الأمير الكريم، وطاب له زمانه، فسكت عن حديث الثورة والقتل الذي غمر شعره الأول وفاض في كل قصائده إلا قليلًا، وكان يصحبه في أغلب حروبه، فتمكن من وصفها وصف الشاهد كما بين في الديوان.
ثم … ثم أراد الله مرة أخرى أن يفرق بين الرجلين، وأن يتم ما خطه في أم الكتاب … وذلك بعد ثماني سنوات لبثها الشاعر في كنف الأمير كانت أولى قصائد مدحه فيها:
وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبْعِ أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ بِأَنْ تَسْعَدَا وَالدَّمْعُ أَشْفَاهُ سَاجِمُهْ
وذلك سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكانت آخر قصيدة في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وهي:
عُقْبَى الْيَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ مَاذَا يَزِيدُكَ فِي إِقْدَامِكَ الْقَسَمُ
وأما سبب فرقة الصديقين فهو حسد أكل قلوب شعراء سيف الدولة والمحيطين به غير أبي الطيب، وهو كذلك ضيق الأمير ذرعًا بالشاعر المتعالي الذي لا يقول فيه القصيدة إلا بعد أن يطلبها ويستعجلها أشهرًا طوالًا.
أجل: فلقد كان حول سيف الدولة شعراء كثر ينشدون الخير والنعمة، وكانت شمس المتنبي غالبة على شموسهم؛ فلا غرو أن ينقموا عليه ويحسدوه، سيما وهو المتكبر المتعالي، الضارب في ذرى الأنفة والكبرياء، الفخور بشعره، والمتفرد وحده برضى الأمير وإيثاره، وذلك الشاعر الذي يقول:
أَنَا السَّابِقُ الْهَادِي إِلَى مَا أَقُولُهُ إِذِ الْقَوْلُ قَبْلَ الْقَائِلِينَ مَقُولُ
لا يستطيع أن يلقى من شاعر آخر حبًّا أو وفاء أو إخلاصًا.
على أن من غير الشعراء كثيرين كانوا ينقمون عليه كذلك، ويحسدون مكانته عند الأمير، وعظمته بين الناس. قال المتنبي:
أَزِلْ حَسَدَ الْحُسَّادِ عَنِّي بِكَبْتِهِمْ فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدَا
ولا مراء في أن أولئك الشعراء قد غلبهم حسد أبي الطيب فبيتوا له المكائد وناصبوه العداء، يقول الشاعر العملاق:
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْت ضبْنِي شُوَيْعِرٌ ضَعِيفٌ يُقَاوِينِي قَصِيرٌ يُطَاوِلُ
ويقول غير ذلك كثيرًا بين يديك في صفحات الديوان.
هذا، وكان سيف الدولة مغرمًا بشعر أبي الطيب، يود أن يسمع كل يوم قصيدة له في مدحه، وكان الشاعر ينظم أربع قصائد في كل سنة أو خمسًا غير القطع، فكان الأمير يغضب عليه. فنحن نرى في الديوان قصيدة قيلت في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وأخرى قيلت يوم الأضحى من تلك السنة، وبين التاريخين زهاء خمسة أشهر، نظم الشاعر فيها سبع قطع وقصائد قصيرة يعتذر في اثنتين عن تأخير مدحه.
وجاء في الصبح المنبي: أن أبا فراس قال للأمير: «إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تغدق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره.»
وفي شرح ابن جني: «وكان سيف الدولة إذا تأخر عن مدحه شق عليه، وأكثر أذاه، وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، فلا يجيب أبو الطيب أحدًا عن شيء، فيزيد ذلك في غيظ سيف الدولة … إلخ.»
وقويت النفرة بين الرجلين، فأنشد الشاعر قصيدته المشهورة:
وَا حَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ وَمَنْ بِجِسْمِي وَحَالِي عِنْدَهُ أَلَمُ
وقد اضطرب المجلس عند إنشاد هذه القصيدة، وثارت حاشية الأمير مطالبة بدمه، فرخص الأمير في ذلك، حتى كاد الشاعر يهلك. يقول الشاعر في السامري — وهو أحد كتاب الأمير، وكان قد طالب بدمه:
أَسَامِرِيُّ ضُحْكَةَ كُلِّ رَاءِ فَطَنْتَ وَكُنْتَ أَغْبَى الْأَغْبِيَاءِ
إلى آخر الأبيات.
ولما خرج أبو الطيب بعد ذلك لقي عناء كبيرًا من رجال سيف الدولة: وقد أشهر سيفه فيهم حتى اخترقهم ولم يصنعوا به شيئًا، وأرسل أبو العشائر جماعة من غلمانه وقفت في سبيل الشاعر ففرقهم بسيفه ولم يصبه منهم أذى، وفي ذلك يقول:
وَمُنْتَسِبٍ عِنْدِي إِلَى مَنْ أُحِبُّهُ وَلِلنَّبْلِ حَوْلِي مِنْ يَدَيْهِ حَنِيفُ
ثم عاد أبو الطيب إلى المدينة مستخفيًا فأقام عند بعض أصدقائه وراسل الأمير، فأنكر الأمير أنه أمر له بسوء، وكتب الشاعر الأبيات:
أَلَا مَا لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْيَوْمَ عَاتِبًا فداهُ الْوَرَى أَمْضَى السُّيُوفِ مَضَارِبَا
ثم دخل الشاعر دار الأمير بعد تسعة عشر يومًا، ودخل على الأمير؛ فخلع عليه، ورحب به، وسأله عن حاله، فقال: رأيت الموت عندك أحب من الحياة عند غيرك؛ فقال: بل يطيل الله بقاءك؛ ثم ركب الشاعر، وأتبعه الأمير هدايا؛ فقال القصيدة:
أَجَابَ دَمْعِي وَمَا الدَّاعِي سِوَى طَلَلِ دَعَا فَلَبَّاهُ قَبْلَ الرَّكْبِ وَالْإِبِلِ
•••
على أن الشاعر كان يهدد بالفراق قبل ذلك، فقد أشار إليه في القصيدة:
دُرُوعٌ لِمَلْكِ الرُّومِ هَذِي الرَّسَائِلُ يَرُدُّ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيُشَاغِلُ
وتبرم في قصيدته:
أُغَالِبُ فِيكَ الشَّوْقَ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ وَأَعْجَبُ مِن ذَا الْهَجْرِ وَالْوَصْلُ أَعْجَبُ
وقد صرح الشاعر بكل ما في نفسه بعد أن رحل إلى كافور، وفي قصائده التي مدحه بها تعريض بسيف الدولة والحمدانيين، يراه القارئ واضحًا في الديوان؛ من ذلك قوله لكافور:
حَبَبْتُكَ قَلْبِي قَبْلَ حُبِّكَ مَنْ نَأَى وَقَدْ كَانَ غَدَّارًا فَكُنْ أَنْتَ وَافِيَا
على أنه لم يشأ أن يخفي ذلك عن سيف الدولة نفسه، فقد صارحه به في القصيدة التي أرسلها إليه من العراق إجابة لدعوته، وذلك بعد أن مدحه بقصيدتين، وهي:
فَهِمْتُ الْكِتَابَ أَبَرَّ الْكُتُبْ فَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ الْعَرَبْ
من أجل ذلك فارق المتنبي سيف الدولة، ولو أنه من المعقول أيضًا أن تكون آماله الواسعة في السلطان هي التي حملته إلى مصر، يبغي ما عز عليه في رحاب بني حمدان، ويقول ابن جني: إن المتنبي قد اعترف بأن قصيدته:
عُقْبَى الْيَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ مَاذَا يَزِيدُكَ فِي إِقْدَامِكَ الْقَسَمُ
كانت وداعًا … ويا له من وداع.
ولم يكن سيف الدولة على علم بأن وجهة المتنبي بعد مبارحته إياه ستكون مصر، فقد استأذنه الشاعر في الرحيل إلى إقطاعه فأذن له، وكان أبو الطيب يبيِّتُ في نفسه أمرًا: أن يبرح حدود مملكة سيف الدولة، وأن ينشد بابًا آخر غير بابه. جاء في شرح المعرِّي: «فأجمع رأيه على الرحيل من حلب، فلم يجد بلدًا يأوي إليه أولى من دمشق؛ لأن حمص من عمل سيف الدولة.» وقال في الصبح المنبي ما يقارب ذلك، وواضح من هذا أن المتنبي لم يرضَ أن يستأذن سيف الدولة في الرحيل خوف ألا يأذن له، ولا ريب أن سيف الدولة لم يكن ليأذن له، وقد يكون المتنبي أوجس خيفة من بطش الأمير، فلا يبعد عليه ذلك وهو الذي عرض بغدره — بعد — في إحدى الكافوريات.
وسار المتنبي من حلب إلى دمشق، فانتقل من مملكة سيف الدولة الحمداني إلى مملكة أبي المسك كافور الإخشيدي، وقد لبث الشاعر في دمشق مدة، ثم دعاه كافور إليه فسار إلى مصر؛ ويذهب بعضهم إلى أن أبا الطيب لبث في دمشق متلكئًا لا يريد الذهاب إلى كافور، فلما دعاه كافور إليه مرتين لم يستطع إلا الذهاب، وهم بذلك يضعون مقدمة للهجاء المر الذي هجا به الشاعر كافورًا بعد أن مدحه خير مديح … ولكن الواضح أن أبا الطيب لم يخرج من بلاد سيف الدولة إلا قاصدًا أبا المسك كافورًا دون غيره، ولذلك يروى أن والي كافور على دمشق أراده على مدحه — لما كان نازلًا ببلده — فلم يرض ذلك، وثابت أن أبا الطيب — لما نزل الرملة في طريقه إلى مصر، ولقي فيها أميرها الحسن بن عبد الله بن طغج — لم يقل فيه مدحًا، إلا قطعتين صغيرتين تقدم ذكرهما، وهما:
تَرْكُ مَدْحِكَ كَالْهِجَاءِ لِنَفْسِي وَقَلِيلٌ لَكَ الْمَدِيحُ الْكَثِيرُ
(و)
مَاذَا الْوَدَاعُ وَدَاعُ الْوَامِقِ الْكَمِدِ هَذَا الْوَدَاعُ وَدَاعُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ
وكان قد مدحه من قبل، ويغلب على الظن أن الشاعر لم يشأ أن يمدح أحدًا قبل كافور وهو في طريقه إليه، وأنه كان سائرًا إلى هناك عن عمد، ونية مبيتة وأمر محزوم.
فأما كافور الأخشيدي هذا، فلا مندوحة من أن نوجز تاريخه في لمحة خاطفة، وهو تاريخ لا نخال القارئ إلا عالمًا به.
هو مولى أسود كان لمحمد بن طغج الأخشيد، ومحمد بن طغج كان واليًا من قبل المقتدر بالله العباسي على دمشق سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ثم ضم إليه الراضي بالله مصر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ولقبه بعد ذلك «الأخشيد» واستتب الأمر له ولذريته في مصر إلى عهد الفاطميين.
ويقول صاحب النجوم الزهراء: إن الأخشيد اشترى كافورًا بثمانية عشر دينارًا من بعض رؤساء مصر، وأعتقه، ثم رقَّاه حتى جعله من كبار القواد؛ لما رأى منه الحزم والعقل وحسن التدبير، ولما أضحى كافور قائد الجيوش الأخشيدية حارب ابن رائق، ثم سيف الدولة في الشام، وقد قدمنا أن أبا الطيب ذكره في مدحه لمساور بن محمد.
وعندما توفي الأخشيد أخذ كافور البيعة لابنه أنوجور وعاد به إلى مصر، وقد ظن سيف الدولة أن موت الأخشيد يمكنه من دمشق، فاستولى عليها وتقدم إلى الرملة، ولكنَّ كافورًا — وكان الحاكم الفعلي — سار إليه فهزمه وأخرجه من حلب، ثم اصطلحا، فأخذ سيف الدولة حلب، وأخذ أنوجور دمشق، وتوفي أنوجور سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فاجتهد كافور في أن يبقى الأمر لبني الأخشيد، ونجح في ذلك؛ إذ نال من الخليفة المطيع لله تولية لعلي بن الأخشيد مكان أخيه، على أن علي بن الأخشيد لم يلبث أن مات سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وبقيت مصر أيامًا بغير أمير — وكان أمرها في يد كافور — فاتفق أعيانها على تأميره، فأصبح بذلك هو السلطان — اسمًا وفعلًا — حتى توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وعمره خمسة وستين سنة بعد أن حكم مصر وقسمًا من الشام اثنتين وعشرين سنة.
وكان كافور الأخشيدي داهية في السياسة، شجاعًا حكيمًا، استطاع أن يكسب صداقة العباسيين والفاطميين معًا، ويقال: إنه هو الذي أخر غزو جيوش المعز لمصر حتى مات، فخلَّى لها السبيل، وإن حزمَه وكياسته جعلت منه سياسيًّا قديرًا، وداهية خطيرًا، وكان له — إلى هذا — بصر بالعربية والأدب، وكان محبًّا للعلماء والأدباء، يقرب الشعراء ويجزيهم، وكان دينًا متواضعًا، سخيًّا كثير الهبات والخلع والعطايا والصدقات.
ولا بأس من أن نقول: إن كافورًا الذي عرفه التاريخ السياسي، غير كافور الذي عرفه كثيرون من رواة تاريخ الأدب؛ فمن هؤلاء من صوره في أقبح الصور، متأثرًا بما لطخه به أبو الطيب من صفات أودعها كل نقمة وبغضاء؛ فمن الخير أن نعرف الرجل على حقيقته، ولا ننكر عليه مكانته وفطنته وكفايته؛ لنسير في سيرة شاعرنا — بعد ذلك — سير المحايد غير المحابي أو المتجني.
•••
وقدم أبو الطيب مصر في جمادى الثانية سنة ست وأربعين وثلاثمائة، فأقام بها أربع سنين ونصف سنة، حتى بارحها في ذي الحجة سنة خمسين وثلاثمائة، وقد مدح كافورًا حين قدم عليه بقصيدته:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى الْمَوْتَ شَافِيَا وَحَسْبُ الْمَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا
وختم مدائحه بقصيدة أنشدها سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وبقي بعد ذلك سنة وشهرين لم ينشده شيئًا، وبين فاتحة مدائحه وخاتمتها أربعة أشهر وثلاث سنين مدح فيها المتنبي كافورًا بتسع قصائد وقطعتين، فيها كلها سبعون وثلاثمائة بيت، وهو ربع ما مدح به سيف الدولة.
وكانت بغية أبي الطيب من ذهابه إلى أبي المسك، أن يقطعه ضيعة أو إمارة، وكان شديد الأمل في ذلك عظيم الرجاء، ولكن رجاءه خاب، وأمله تبخر وطواه الهواء — وسيبين كل ذلك بعد — وظاهر في مدائح أبي الطيب الأولى لكافور، أنه لم يكن كارهًا لمدحه، ولا مسوقًا إليه عن رهبة أو مثلها، فهو يكشف في أولى قصائده عن حزنه من صديقه الأول الذي غدر به، وهو سيف الدولة، وعن أمله الواسع في صديقه الجديد كافور، وقد رضي الوقوف بين يديه مبالغة في تعظيمه وابتغاء معونته، ولن ننسى أن نقول إن كافورًا عندما نزل أبو الطيب في مصر أخلى له دارًا، وكفله، وأضافه، وخلع عليه، وفي هذه القصيدة أشار الشاعر إلى سيف الدولة وإلى بني حمدان في مواضع مختلفة، وأطنب في مدح أبي المسك، ثم لمح إلى غايته فلم يشأ أن يخفيها، يقول:
إِذَا كَسَبَ النَّاسُ الْمَعَالِيَ بِالنَّدَى فَإِنَّكَ تُعْطِي فِي نَدَاكَ الْمَعَالِيَا
وَغَيْرُ كَثِيرٍ أَنْ يَزُورَكَ رَاجِلٌ فَيَرْجِعُ مَلِكًا لِلْعِرَاقَيْنِ وَالِيَا
وفي الشهر التالي قال أبو الطيب قصيدته الثانية يهنئ بها كافورًا بدار بناها، وهي التي أولها:
إِنَّمَا التَّهْنِئَاتُ لِلْأَكْفَاءِ وَلِمَنْ يُدْنَى مِنَ الْبُعَدَاءِ
وَأَنَا مِنْكَ لَا يُهَنِّئُ عُضْوٌ بِالْمَسَرَّاتِ سِائِرَ الْأَعْضَاءِ
وتلك كانت طريقة المتنبي في المدح، لا يغفل نفسه والإشادة بها، وإشراكها مع الممدوح فيما يغدق عليه من صفات طيبات.
وفي هذه القصيدة يقول الشاعر:
وَفُؤَادِي مِنَ الْمُلُوكِ وَإِنْ كَا نَ لِسَانِي يُرَى مِنَ الشُّعَرَاءِ
ويقول المعري: «ولما أَنشده أبو الطيب حلف ليبلغه جميع ما في نفسه، وإنه لأكذب ما يكون إذا حلف.»
ثم بعد شهرين، قال أبو الطيب يمدح الأستاذ أبا المسك كافور قصيدته:
مِنَ الْجَآذِرِ فِي زِيِّ الْأَعَارِيبِ حُمْرُ الْحُلَى وَالْمَطَايَا وَالْجَلَابِيبِ
وفيها يقول أيضًا:
إِلَى الَّذِي تَهَبُ الدَّوْلَاتِ رَاحَتُهُ وَلَا يَمُنُّ عَلَى آثَارِ مَوْهُوبِ
ثم أنشد الشاعر كافورًا في عيد الأضحى قصيدته الرابعة:
أَوَدُّ مِنَ الْأَيَّامِ مَا لَا تَوَدُّهُ وَأَشْكُو إِلَيْهَا بَيْنَنَا وَهْيِ جُنْدُهُ
وفيها بيَّن الشاعر عن آلام نفسه؛ لأنه قصر عما يبتغيه، وبدأ بالشكوى الخفية والبيِّنة من مطل أبي المسك، ولا ريب أن كافورًا كان قد وعد الشاعر فعلًا بولاية، فهو هنا يستنجزه وعده، ويسأله أن يجربه فيقول:
وَوَعْدُكَ فِعْلٌ قَبْلَ وَعْدٍ لِأَنَّهُ نَظِيرُ فِعَالِ الصَّادِقِ الْقَوْلِ وَعْدُهُ
ثم بعد ثلاثة أشهر من ذلك قال الشاعر قصيدته الخامسة، وكان فرس المتنبي قد جرح فحزن عليه، فتبين كافور ذلك وأرسل له فرسًا أدهم، وأول القصيدة:
فِرَاقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيْرُ مُذَمَّمِ وَأَمٌّ وَمَنْ يَمَّمْتُ خَيْرُ مُيَمَّمِ
وفي هذه القصيدة يعاود الشاعر مدح سيف الدولة، وذكر الحمدانيين بالخير، كأنما ضاق بكافور ووعده، وفي آخرها يقول:
وَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي كَمْ حَيَاتِي قَسَمْتُهَا وَصَيَّرْتُ ثُلْثَيْهَا انْتَظَارَكَ فَاعْلَمِ
ثم قال الشاعر بعد ذلك قصيدة حكمية مدح فيها كافورًا، وذلك إثر شقاق كان بين أبي المسك وبين الأمير أنوجور انتهى بالصلح.
على أن حال أبي الطيب لا يطيب لها أن تسير في طريق واحدة أو تستقر على وتيرة، فها هو يمل انتظار بغيته، ويطفح الكيل فلا يستطيع اصطبارًا، وها هو يقول — بعد أن أرسل إليه أبو المسك ستمائة دينار ذهبًا عسى أن تلهيه عن رجائه — قصيدته:
أُغَالِبُ فِيكَ الشَّوْقَ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا الْهَجْرِ وَالْوَصْلُ أَعْجَبُ
وذلك في عيد الفطر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة؛ أي بعد مقام الشاعر بمصر سنة وشهرين، وفي هذه القصيدة — كما يبين من الديوان — يندم أبو الطيب على مبارحته سيف الدولة وقصده كافورًا، ويعتب فيها على سيف الدولة وعلى بني حمدان، ثم يختمها بمدح كافور؛ لعلمه بأنها ستبلغه وإن لم ينشده إياها.
وهنا أخذت النفرة بين الرجلين مظهرًا واضحًا، فقد سكت الشاعر عن المديح، بعد أن كان يواصل قصائده غيرَ وانٍ ولا متمهلٍ، ثم يضطر بعد ذلك لإنشاده، وذلك أن كافورًا كان قد ولَّى شبيبًا العقيلي الخارجي عمان والبلقاء وما يليها، فخرج على كافور وسار إلى دمشق في جيش كثيف ودخل المدينة، وفي غمرة من الهرج والمرج ألفى شبيب ميتًا، فارتاع جيشه، وهرب جنده وتفرقوا، ولم يعرف الناس كيف مات، وجاءت الأخبار مصر فطالب كافور أبا الطيب بأن يذكر هذا في شعره؛ فقال قصيدته التي مطلعها:
عَدُوُّكَ مَذْمُومٌ بِكُلِّ لِسَانِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْدَائِكَ الْقَمَرَانِ
وذلك في جمادى الثانية سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة، وإنك لواجد — من قراءة القصيدة — أن الشاعر الذي سكت عن مدح أبي المسك ثمانية أشهر، ثم لقيه في هذه القصيدة، لم يكن مادحًا، وإنما كان كمن يقصد الهجاء، وكأنما أراد أن يؤبِّن القتيل ويرثيه بدل أن يغتبط لمقتله.
ثم انقطع المتنبي بعد هذه القصيدة المريبة عن مدح أبي المسك سنة وأربعة أشهر، وأصابته في أثناء ذلك حُمَّى فقال قصيدته:
مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ الْمَلَامِ وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الْكَلَامِ
وقد عرض فيها بكافور، وبخله، ومنعه عن الرحيل عن مصر، وأعجب بها أهل مصر برغم أنها ساءت كافورًا لما بلغته.
وفي أثناء ذلك أيضًا اتصل المتنبي بأبي شجاع فاتك الملقب بالمجنون، وقد كان روميًّا، وأسر وربِّي في فلسطين، ثم اغتصبه كافور من سيده بالرملة بلا ثمن فأعتقه صاحبه، فكان معه في عدة المماليك، كريم النفس، حر الطبع، بعيد الهمة، ويقول المعري: إنه كان في أيام كافور مقيمًا بالفيوم، أنفة من الأسود، وحياء من الناس أن يركب معه، وأنه مرض وأحوجته العلة إلى دخول مصر فدخلها، وأن أبا الطيب لم يتمكن من عيادته على أن فاتكًا كان يسأل عنه ويراسله بالسلام، وأنه لما لقي أبا الطيب في الصحراء أهداه هدية قيمتها ألف دينار ذهبًا، ثم أتبعها هدايا بعدها، ويقول ابن خلكان: إن الفيوم كان إقطاعًا لفاتك، وإن أبا الطيب كان يسمع بكرمه وشجاعته، ولا يستطيع أن يقصده خشية كافور، ثم استأذن كافورًا في مدحه فأذن له، ويروى أن ذلك كان بعد استقرار ما بين فاتك والأستاذ كافور.
ويظهر أن الشاعر لم يرغب في مدح فاتك — مع ما بينه وبين كافور من المنافسة — إلا ليأسه من أبي المسك، وقد مدح أبو الطيب فاتكًا في جمادى الثانية سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة بقصيدته:
لَا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلَا مَالُ فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الْحَالُ
وفي هذه القصيدة تعريض بكافور.
ثم عاود أبو الطيب مدح كافور، بعد أن انقطع عن ذلك ستة عشر شهرًا كاملة، وبعد أن قال قصيدة الحمى التي تقدم ذكرها، وبعد أن تعرض لكافور في مدح فاتك، ويرى بعض المؤرخين أن عودة أبي الطيب إلى مديح كافور كانت خارجة عن إرادته، فقد طالبه كافور بذلك فلم يستطع إلا إجابته، وقد يكون تطلع كافور إلى مدح الشاعر قد أحيا في نفسه الرجاء فعاد يلقي آخر سهم، وينفض عن نفسه اليأس والإشفاق من أن يخيب، وأما القصيدة فهي:
مُنًى كُنْ لِي إِنَّ الْبَيَاضَ خِضَابُ فَيَخْفَى بِتَبْيِيضِ الْقُرُونِ شَبَابُ
وفيها يتحدث الشاعر عن نفسه وعن آماله، وعن وعد كافور له في غالب أبياتها، ويمدحه فيها باثني عشر بيتًا.
ثم بقي أبو الطيب بمصر بعد هذه القصيدة سنةً وشهرين دون أن يمدح كافورًا فما كان يلقاه إلا أن يركب فيسير معه في الطريق؛ لئلا يوحشه، وكان الشاعر ضيف كافور مدة مقامه في مصر، فكان ذلك هو الصلة بينهما بعد انقطاع الشاعر عن مدحه وحضور مجلسه.
وواضح غاية الوضوح من شعر المتنبي في كافور، أنه لم يكن يبغي منه مالًا فحسب، بالغًا ما بلغت قيمة ذلك المال، وإنما كان يبغي ضيعة أو ولاية كما تقدم، يقول:
إِذَا لَمْ تَنُطْ بِي ضَيْعَةً أَوْ وِلَايَةً فَجُودُكَ يَكْسُونِي وَشُغْلُكَ يَسْلِبُ
ولو أنه كان يطلب المال لأعطاه كافور فوق ما أعطاه، ألوفًا مؤلفة، ونحسب أن كافورًا لم يدر بذهنه أن يقطعه هذا الذي يريد، وإن كان يعده ويمطله فذلك شيء من التلطف والمداجاة، وقال بعض الشراح: إنه قال لأبي الطيب: «أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمتْ نفسُك إلى النبوة، فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك؟» ولا نخاله قال ذلك، وإن كان من السهل أن يفكر فيه، ويقول بعض الشراح أيضًا: إن كافورًا كان ينوي إقطاعه ما يريد، وقد حلف له بذلك، ولكن أمورًا بدرت من الشاعر لم تلقَ رضاه، منها: أنه ذكر سواده في قصائده، وكان كافور يكره ذلك غاية الكراهة، ولا نظن ذلك سببًا معقولًا، فقد ذكر الشاعر سواد الممدوح في مواضع طرب لها كافور واهتز لها، وكان ذلك منذ أول عهد الشاعر بمدحه، فلو أدرك منه امتعاضًا من هذا؛ لما كرره في قصائده بعد ذلك.
وليس بعيدًا أن يكون كافور كره من الشاعر إلحاحه في طلبه، ومداومته على التذكير بالوعد في لغة يصح أن تسمى توبيخًا وتأنيبًا، فصح في عزمه ألا ينيله طلبته، ثم إن تمادي الشاعر في أشباه ذلك، ورثائه لشبيب في القصيدة التي تقدم ذكرها، وتعريضه بكافور في قصيدة الحمى، ومدحه لفاتك، كل أولئك كان سببًا في أن يخيب أمل الشاعر في بغيته، وأن يجعل بينه وبينها سدًّا، وكانت صراحة المتنبي وعلو نفسه، يأبيان له إلا أن يقول ما يجول بخاطره، فلم يشأ إلا أن يقول ما قال، داخلًا في نطاق التوبيخ، لا الاستعطاف والطلب الذليل.
ومما كان له أثر بين في خيبة الشاعر في أمله في كافور، أنه لم يشأ أن يمدح الوزير ابن الفرات، كما مدحه شعراء آخرون؛ ليكون له عونًا يساعده على بلوغ غايته ومبتغاه، وكان الوزير ابن الفرات هذا، وزيرًا خطيرًا من أسرة وزراء، ومحدثًا أديبًا ميالًا لأهل العلم والأدب.
وكان أبو الطيب في آخر مقامه بمصر، يود الرحيل ويبغي الفكاك من ذلك النطاق المضروب، فلقد طالما ردد ذلك في قصائده، ولقد طالما تبرم بمطل كافور وضاق به ذرعًا … ولكن كافورًا كان يمسكه عن الرحيل، ويضع حوله العيون.
وليس خافيًا أن كافورًا — لما نزل الشاعر بمصر — أنزله دارًا، وأغدق عليه من ماله وأغرقه في عطائه، وقد حسب أن ذلك يكفيه، فلما طالبه الشاعر بولاية أو ضيعة، وعده إجابة طلبه، ثم خاف كافور الشاعر، حين أدرك علو نفسه، ولمس بُعد أمانيه، وعلم ما حفل به ماضيه من حبس وادِّعاء النبوة … وما إلى ذلك، وقد أدرك القارئ أن الشاعر بدأ يستعجل الوعد، ويندد بالمماطلة، بعد بقائه بمصر ثلاثة أشهر ليس غير، وأدرك كذلك أنه سكت عن مديح كافور — بعد أن قال قصيدة شبيب والقصيدة الأخرى الأخيرة — سنة وشهرين، وأنه ذكر الرحيل في شعره مرات عِدَّة، كأنما كان كافور يحرص على ألا يفلته، ابتغاء مدحه من ناحية، واتقاء هجوه من أخرى … بل إنه لمن الثابت أن كافورًا منعه عن الرحيل منعًا، ففي هجاء الشاعر له من بَعْد ما ينطق بذلك في صراحة وبيان، وجاء في شرح المعري وشروح أخرى: أن الشاعر كتب إلى كافور يستأذنه في المسير إلى الرملة؛ ليتنجز مالًا بها، وأراد أن يعرف رأيه في مسيره؛ فأجابه: لا، والله، أطال الله بقاءك، لا نكلفك المسير، ولكن ننفذ رسولًا يأتيك به، فلما قرأ الجواب قال أبياته التي أولها:
أَتَحْلِفُ لَا تُكَلِّفُنِي مَسِيرًا إِلَى بَلَدٍ أُحَاوِلُ فِيهِ مَالَا
ولما ضاق صدر الشاعر الكبير بذلك الذي لقيه بمصر، ولم يطق بعده اصطبارًا، رحل إلى الكوفة رحيل هارب لا رحيل مودع مشيع، فلم يعد له ما يتعزى به بعد وفاة أبي شجاع فاتك، الذي اتخذه صديقًا مؤنسًا طوال مدة بقائه بمصر بعد سكوته عن مديح كافور، وكانت وفاة فاتك في شوال سنة خمسين وثلاثمائة، وقد لبث الشاعر بعدها شهرين يدبِّر لرحيله، جاء في شرح المعري وشروح أخرى: «وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق، ولا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج ودفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل لعشر ليال، وتزود لعشرين.»
وفي ليلة عيد الأضحى قال الشاعر قصيدته الحزينة الثائرة التي مطلعها:
عِيدُ بِأَيَّةِ حَالٍ عُدْتَ يَا عِيدُ بِمَا مَضَى أَمْ لِأَمْرٍ فِيكَ تَجْدِيدُ
وقد هجا فيها كافورًا هجاء مرًّا، وعرض بإمساكه إياه عن الرحيل.
وقد انتهز أبو الطيب غفلة كافور، وانشغاله بالعيد، وبما يصحب العيد من سنن، وهمَّ بأخذ طريقه التي بَيَّت سلوكها، ولما اجتاز أبو الطيب بلبيس نزل على عبد العزيز بن يوسف القيسي فأضافه وأكرمه وسيره، وقد كتب إليه الشاعر أبياته التي أولها:
جَزَى عَرَبًا أَمْسَتْ بِبُلْبَيْسَ رَبُّهَا بِمَسْعَاتِهَا تَقْرِرْ بِذَاكَ عُيُونُهَا
وكان الشاعر يعرف عبد العزيز من قبل، وله فيه أبياته الثلاثة التي أولها:
لَئِنْ مَرَّ بِالْفسْطَاطِ عَيْشِي فَقَدْ حَلَا بِعَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِدِ الطَّرْفَيْنِ
ولا ريب في أن كافورًا ثار لما بلغته القصيدة التي قالها الشاعر ليلة العيد، ولا ريب كذلك أنه غضب لرحيله، وتوجس خيفة من هجائه المر الذي سوف يلاحق بعضه بعضًا، ويقول بعض الرواة: إن كافورًا أتبع الشاعر بالخيل والرجل، وكتب إلى عماله؛ ليسدوا عليه الطرق.
وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجة الطير حتى خرج إلى مساء يعرف بنحل بعد أيام، فلقي عنده في الليل ركبًا وخيلًا صادرة عن كافور فأخذهم وتركهم، ولما قرب من النقاب رأى رائدين لبني سيلم على قلوصين، فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما، فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين، فلما أمنهما استبقاهما ورد عليهما متاعهما، وسار معهما حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل، فأكرمه ملاعب بن أبي النجم وذبح له، ثم غدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسُنْبُس، وهناك أكرمه عَفيف المعنَّى وذبح له. ثم غدا من عنده فسار يومه وبعض ليلته، وعند الصباح دخل حِسْمى، وهي أرض طيبة خصبة، وبها جبال شاهقة.
وكان بنو فزارة شاتين بها، فنزل الشاعر بقوم من عدي فزارة، وطاب له المقام فلبث شهرًا. ثم ظهر له فساد عبيده — وكان كافور قد كتب لمن حوله من العرب ووعدهم — فأنفذ رسولًا إلى فتى بني فزارة ثم من بني مازن، وهم قوم يؤثر عنهم رعاية الجوار. ثم سار إليه في الليل، والقوم لا يعلمون رحيله، ولا يشكون أنه يريد البياض فأخذ طريق البياض حتى بلغ رأس الصوان قتوقف، وأنفذ رسولًا إلى عرب بين يديه، وأراد أحد عبيده أن يخونه فضرب أبو الطيب وجهه بالسيف، وأمر الغلمان فقطعوه، وفي ذلك العبد قال أبو الطيب:
أَعْدَدْتُ لِلْغَادِرِينَ أَسْيَافًا … … … إلخ
ويقول ارتجالًا في هجاء وردان:
إِنْ تَكُ طَيِّئٌ كَانَتْ لِئَامًا فَأَلْأَمُهُمْ رَبِيعَةُ أَوْ بَنُوهُ
إلى آخر الأبيات.
وكان رسول أبي الطيب قد عاد إليه وليس معه خبر عن العرب التي طلبها، فسار على بركة الله إلى دومة الجندل، وذلك لإشفاقه من أن تكون عليه عيون بحَسْمَى تعلم أنه يريد البياض، وورد الشاعر البويرة بعد ثلاث ليال، ولما توسط الشاعر بسيطة — وهي أرض بقرب الكوفة — رأى بعض عبيده ثورًا، فقال: هذه منارة الجامع، ونظر آخر إلى نعامة، فقال: هذه نخلة، فضحك أبو الطيب وقال:
بَسِيطَةُ مَهْلًا سَقَيْتِ الْقِطَارَا تَرَكْتِ عُيُونَ عَبِيدِي حَيَارَى
إلى آخر الأبيات.
وورد العقدة بعد ليال، واجتاز ببني جعفر بن كلاب وهو بالبرية فبات فيهم، ثم دخل الكوفة في شهر ربيع الثاني سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
ولم يسلك أبو الطيب من مصر إلى الكوفة الطريق المعهودة، فقد سار «على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل الأواجن» كما يقول صاحب الإيضاح، وهو بذلك يؤيد ما ادَّعى في شعره من الجرأة والدربة على الأسفار بالليل والنهار.
وكانت أولى قصائد الشاعر في الكوفة هي التي أولها:
أَلَا كُلُّ مَاشِيَةِ الْخَيْزَلى فِدَى كُلِّ مَاشِيَةِ الْهَيْدَبى
وقد عدد فيها المواضع التي مر بها في سيره، وفخر، وهجا كافورًا … وقد استغرقت رحلته من الفسطاط إلى الكوفة ثلاثة أشهر، وكان رجوع الشاعر الفحل إلى بلده ومسقط رأسه بعد غيبة طويلة عدتها ثلاثون سنة.
ولم يستطع الشاعر — وقد بارح الديار المصرية — أن ينسى صديقه أبا شجاع فاتك، ولا أن يحرر قلبه من التحسر عليه والأسى لفقده، ولم يستطع كذلك إلا أن يفيض نقمة على كافور وكراهة وبغضاء، وقد رثى فاتكًا في ثلاث قصائد. أنشأ أُولاها بعد خروجه من مصر، وأولها:
الْحُزْنُ يُقْلِقُ وَالتَّجَمُّلُ يَرْدَعُ وَالدَّمْعُ بَيْنَهُمَا عَصِيٌّ طَيِّعُ
وأنشأ ثانيتها في الكوفة، وقد أخرج تفاحة من الند عليها اسم فاتك، وأولها:
يُذَكِّرُنِي فَاتِكًا حِلْمُهُ وَشَيْءٌ مِنَ النِّدِّ فِيهِ اسْمُهُ
وأنشأ الثالثة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، بعد خروجه من بغداد، وأولها:
حَتَّامَ نَحْنُ نُسَاري النَّجْمَ فِي الظُّلَمِ وَمَا سُرَاهُ عَلَى خُفٍّ وَلَا قَدَمِ
وشاء الشاعر أن يهجو كافورًا أقذع الهجاء، وأن يطلق من صدره جذوة مشتعلة من النقمة البالغة، وذلك لأنه لم ينل عنده ما يبتغي، ولأنه وعده فأخلفه، ولأنه حبسه عن الرحيل، ولأنه — في كل ذلك — أهَّله لشماتة الأعداء والحاسدين.
وقد ضمن الشاعر ثلاث قصائد — تضمنت أغراضًا أخرى — هجاء كافور وهي قصيدة العيد التي تقدم ذكرها، والقصيدة التي وصف فيها سيره من مصر إلى الكوفة، والقصيدة العينية التي رثى بها فاتكًا، وقد تقدم ذكرهما أيضًا. ثم ضمن هجاءه كذلك، القطعة التي رثى بها فاتكًا حين أذكرته به تفاحة الند.
وخصص الشاعر غير ذلك — لهجاء كافور — ست قطع فيها أربع وأربعون بيتًا. منها القطعة التي أولها:
أُرِيكَ الرِّضَا لَوْ أَخْفَتِ النَّفْسُ خَافِيَا وَمَا أَنَا عَنْ نَفْسِي وَلَا عَنْكَ رَاضِيَا
ومنها القطعة التي أولها:
أَنوكُ مِنْ عَبْدٍ وَمِنْ عِرْسِهِ مَنْ سَلَّطَ الْعَبْدَ عَلَى نَفْسِهِ
ومنها القطعة التي أولها:
وَأَسْوَدَ أَمَّا الْقَلْبُ مِنْهُ فَضَيِّق نَخِيبٌ وَأَمَّا بَطْنُهُ فَرَحِيبُ
وقد نظمت في شوال سنة خمسين وثلاثمائة.
ومنها القطعة التي أولها:
لَوْ كَانَ ذَا الآكِلُ أَزْوَادَنَا ضَيْفًا لَأَوْسَعْنَاهُ إِحْسَانَا
وقد نظمت حينما همَّ بالرحيل عن مصر.
•••
وكانت العراق لما قدمها أبو الطيب في أيدي بني بويه، وقد نشأت دولة بني بويه هذه في أوائل القرن الرابع الهجري، فتعاون الإخوة الثلاثة: علي والحسن وأحمد على التسلط في فارس والعراق، واستولى أصغرهم أحمد على بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة؛ فمنحهم الخليفة المستكفي بالله الولاية على ما بأيديهم، ولقب عليًّا عماد الدولة، والحسن ركن الدولة، وأحمد معز الدولة. وبقي ملك بني بويه على العراق حتى سنة سبع وأربعين وأربعمائة حين استولى عليه السلاجقة.
ولم يكد معز الدولة يمكث في العراق أسابيع، حتى خلع الخليفة وسمل عينيه، وولى مكانه الخليفة المطيع، وانتقل بذلك الملك جملة من أيدي الخلفاء إلى أيدي البويهيين، وكان ذلك إيذانًا بالخراب والدمار، وانتشار الظلم والطغيان، والفوضى الآخذة بالعنان.
وقدم أبو الطيب العراق بعد ستة عشر عامًا من استيلاء معز الدولة عليها، وأقام بالكوفة التي هجرها من قبل مرارًا فرارًا من القرامطة والأعراب، فشهد بعد سنتين غارة بني كلاب عليها، وشارك هو في الحرب والدفاع عنها.
وكان يلي الوزارة الحسن بن محمد المعروف بالوزير المهلبي، وكان أديبًا شاعرًا اجتمع حوله أدباء، منهم القاضي التنوخي، وأبو الفرج الأصفهاني، وشعراء منهم السري الرفَّاء، وكان جوادًا مسرفًا كَلِفًا باللهو والمجون.
وقد لبث أبو الطيب بالعراق ثلاث سنين منذ قدمها حتى غادرها إلى فارس سنة أربع وخمسين — وكانت إقامته بالكوفة — وقد سافر في أثناء ذلك إلى بغداد مرة أو يزيد. ثم قدمها بعد في طريقه إلى فارس، ولا ندري ما فعله بالكوفة إلا ما يحصل بقوله الشعر، ففي جمادى الثانية سنة ثلاث وخمسين هجا ضبة بن يزيد العيني، ويروى أن ابن يزيد العيني هذا جاء من سفاح، يغدر بكل من نزل به وأكل معه وشرب، وكان أبو الطيب قد نزل بالطف بأصدقاء له، وسارت خيلهم إلى هذا العبد، واستركبوه فلزمه السير معهم، فدخل العبد الحصن، وأخذ يشتمهم أيامًا من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمي أبا الطيب ويشتمه، وأراد القوم أن يجيبوه بمثل ألفاظه، وسألوا أبا الطيب ذلك فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضًا لم يفهم، ولم يعمل فيه عمل التصريح؛ فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو فقال … إلخ.
وفي هذه القصيدة أقذع المتنبي غاية الإقذاع، وفاض حقده فغمر القصيدة وأفعمها.
وجاء في شرح ابن جني: أن أبا الطيب أنكر إنشاد هذه القصيدة، وقال الواحدي مثل ذلك.
ثم وقعت بعد ذلك حوادث بالكوفة اشترك فيها أبو الطيب وقاتل، ومدح قائد الجيش الذي قدم من بغداد؛ لصد غارة الأعراب من بني كلاب على الكوفة، وكان أبو الطيب قبل قدوم ذلك القائد يقود الجيش المدافع عن المدينة لعدة أيام، فلما حضر جيش بغداد كان بنو كلاب قد رحلوا عن الكوفة، فنزل القائد وأنفذ إلى أبي الطيب ثيابًا نفيسة من ديباج وخزٍّ، فأنشده هذه القصيدة في الميدان وهما على فرسيهما، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين، وأول القصيدة:
كَدَعْوَاكَ كُلٌّ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْلِ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَدْرِي بِمَا فِيهِ مِنْ جَهْلِ
وخرج أبو الطيب من الكوفة — قبل أن يبرحها إلى فارس — في شعبان سنة اثنتين وخمسين، قاصدًا بغداد، وفيها لقي الوزير المهلبي، ويرجح أنه أقام بها من جمادى الآخرة إلى شعبان، أو قبل ذلك بقليل، وقد نزل فيها بدار علي بن حمزة البصري اللغوي الذي روى ديوانه، وبقي ضيفه إلى أن رحل عنها، ولم يطل فيها مقامه.
وكان ببغداد معز الدولة بن بويه والوزير المهلبي.
وقد زار أبو الطيب المهلبي، وجلس معه مرتين، ولكنه لم يمدحه، ولا هو مدح معز الدولة، وقد كان أبو الطيب يود مدح المهلبي، وأن يتخذه سبيلًا إلى معز الدولة، وإنما صده عن ذلك ما سمعه عنه من تماديه في السخف واستهتاره واستيلاء أهل الخلاعة عليه، وقد أغرى المهلبي بالمتنبي شاعرًا ماجنًا هو ابن حجاج فعلق بلجام دابته وقد تكأكأ الناس عليه، وأخذ ينشده:
يَا شَيْخَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِينَا وَمَنْ يَلْزَمُ أَهْلَ الْعِلْمِ تَوْقِيرُهُ
فلم يحفل به المتنبي، وانصرف إلى منزله.
وقد كان الوزير المهلبي راغبًا في مدح أبي الطيب، مغيظًا مُحْنَقًا من إغفاله إياه، وقد روي أنه أحضر علي بن يوسف البقال فأنشده في حضرة المتنبي، فقال المتنبي: «ما رأيت ببغداد من يجوز أن يقطع عليه اسم شاعر إلا ابن البقال.»
ولما كان الوزير المهلبي وسيلة الشاعر إلى معز الدولة، فإن الشاعر لم يجد إلى معز الدولة من سبيل، ولم يمدحه تبعًا لذلك.
ولم يشأ المهلبي أن ينسى إساءة الشاعر إليه وإغفاله إياه، فأغرى به جماعة من شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، ومنهم ابن الحجاج، وابن سكرة الهاشمي، والحاتمي. فلم يجبهم المتنبي ولا حفل بهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني قد فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
أَرَى الْمُتَشَاعِرِينَ غُرُّوا بِذَمِّي وَمَنْ ذَا يَحْمَدُ الدَّاءَ الْعُضَالَا
وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءَ الزُّلَالَا
وقولي:
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْنِي شُوَيْعِرٌ ضَعِيفٌ يُقَاوِينِي قَصِيرٌ يُطَاوِلُ
إلى آخر الأبيات.
وقولي:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ كَامِلُ
ومما كان بين أبي الطيب وبين أعوان المهلبي ما حكاه الحاتمي من مناظرته لأبي الطيب ببغداد، ولا ريب أن الحاتمي كذب في ذلك على خصمه، وبالغ في دعواه إرضاء للمهلبي، وقد قال ياقوت عن الحاتمي هذا: إنه كان مبغضًا لأهل العلم، وفي الفترة التي أقامها الشاعر ببغداد، قرئ عليه ديوانه وسمعه جماعة، منهم علي بن حمزة البصري، وابن جني، والقاضي أبو الحسن المحاملي.
وشاء الله أن يعاود قلب الشاعر الكبير الحنين إلى الأمير العربي الجليل سيف الدولة بن حمدان، فإنه لما سمع سيف الدولة بخروج أبي الطيب من مصر مراغمًا كافورًا، وبلوغه الكوفة، كاتبه معرضًا برجوعه إلى حلب، ثم أهدى إليه هدايا متعاقبة. فأجابه أبو الطيب في شوال سنة اثنتين وخمسين بقصيدته التي مطلعها:
مَا لَنَا كُلِّنَا جَوٌّ يَا رَسُولُ أَنَا أَهْوَى وَقَلْبُكَ الْمَتْبُولُ
وفيها يبين حزن الشاعر، ومعاودته مدح الأمير الهمام، وقد قالها لما بلغه خروج سيف الدولة — وهو مريض — للقاء الروم، ورجوعهم عن غزو طرسوس.
ثم توفيت أخت سيف الدولة الكبرى في جمادى الثانية سنة اثنتين وخمسين، وورد العراق خبرها، فقال الشاعر في شعبان قصيدته:
يَا أُخْتَ خَيْرِ أَخٍ يَا بِنْتَ خَيْرِ أَبٍ كِنَايَةً بِهِمَا عَنْ أَشْرَفِ النَّسَبِ
فكان لهذا الرثاء أبلغ الأثر في نفس سيف الدولة، فأرسل إلى الشاعر هدية ومالًا وأمانًا بخطه وكتابًا يستدعيه، فكتب أبو الطيب في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين قصيدته التي مطلعها:
فَهِمْتُ الْكِتَابَ أَبَرَّ الْكُتُبْ فَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ الْعَرَبْ
وبعد أن عاد الشاعر إلى الكوفة ولبث فيها عاود الذهاب إلى بغداد، في طريقه إلى فارس قاصدًا ابن العميد، وقد بارح بغداد للمرة الثانية في صفر سنة أربع وخمسين، وذلك بعد مبارحته لها في المرة الأولى بسنة وخمسة أشهر، وقد أخذ طريق الأهواز وبها لقيه التنوخي، وبلغ أرَّجان في الشهر نفسه. فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن؛ فضرب بيده على صدره، وقال: تركت ملوك الأرض يتعبدون بي، وقصدت ربَّ هذه المدَرَة فما يكون منه؟ ثم وقف بظاهر المدينة، وأرسل غلامًا على راحلته إلى ابن العميد، ودخل عليه، وقال: مولاي أبو الطيب خارج البلد، فثار من مضجعه ثم أمر حاجبه باستقباله. فركب واستركب من لقيه في الطريق، فتلقوا الشاعر وقضوا حقه وأدخلوه البلد، فدخل على أبي الفضل بن العميد فقام له، وطُرح له كرسيٌّ عليه وسادة ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقًا إليك يا أبا الطيب.
وقد أفرد أبو الفضل له دارًا نزلها، وكان يغشى أبا الفضل كل يوم ويؤاكله، وابن العميد هذا — كما لا يخفى — هو الأديب الكبير أبو الفضل ابن العميد، وزير عضد الدولة، وقد كان أبو الفضل ناقمًا على الشاعر من قبل لأنه لم يمدحه، وكان يريد أن يخمل ذكره، حتى إنه ليروى أن بعض أصحابه دخل عليه يومًا قبل دخول المتنبي فوجده واجمًا — وكانت أخته قد ماتت — فظنه واجدًا لأجلها، فسأله الخبر، فقال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمل ذكره، وقد ورد عليَّ نيف وستون كتابًا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طَوَى الْجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرُ فَزِعْتُ فِيهِ بِآمَالِي إِلَى الْكَذِبِ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أَمَلًا شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يُشْرَقُ بِي
ويروى أن ابن العميد لم يرسل إلى المتنبي ليدعوه، ولكن الذي لا ريب فيه أنه فرح بمقدمه وطرب لمدحه، فذلك كان أملًا من آماله، وأمنية من أمنياته المعسولات.
وقد لبث الشاعر شهرين عند ابن العميد، وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه، ويتعجب من حفظه، وغزارة علمه، ومدحه الشاعر بثلاث قصائد، كانت أولاها القصيدة التي مطلعها:
بَادٍ هَوَاكَ صَبَرْتَ أَمْ لَمْ تَصْبِرَا وَبُكَاكَ مَا لَمْ يَجْرِ دَمْعُكَ أَوْ جَرَى
وكانت ثانيتها القصيدة التي مدحه بها في النوروز، وهي التي أولها:
جَاءَ نَيْرُوزُنَا وَأَنْتَ مُرَادُهُ وَوَرَتْ بِالَّذِي أَرَادَ زِنَادُهُ
وفيها يتواضع الشاعر ويتحذر، كأنما أحس بأنه يخاطب بها أديبًا كبيرًا متميزًا على غيره من الممدوحين:
وبعد هذه القصيدة — وقبل القصيدة الثالثة — قطعتان قال الشاعر إحداهما حين ورد، كتاب من أبي الفتح بن أبي الفضل ابن العميد، وأولها:
بَكُتُبِ الْأَنَامِ كِتَابٌ وَرَدْ فَدَتْ يَدَ كَاتِبِهِ كُلُّ يَدْ
وثانيتهما قالها يصف مجمرة رآها عند ابن العميد، وأولها:
أَحَبُّ امْرِئٍ حَبَّتِ الْأَنْفُسُ وَأَطْيَبُ مَا شَمَّهُ مَعْطِسُ
ثم تأتي بعد ذلك القصيدة الثالثة، التي يودع فيها الشاعر أبا الفضل ابن العميد، وهي التي مطلعها:
نَسِيتُ وَمَا أَنْسَى عِتَابًا عَلَى الصَّدِّ وَلَا خَفَرًا زَادَتْ بِهِ حُمْرَةُ الْخَدِّ
وما كاد المتنبي — بعد قصيدة الوداع — يتأهب للرحيل إلى أهله بالكوفة حتى جاء ابن العميد كتاب من عضد الدولة في طلب المتنبي، فأنبأه ابن العميد به فقال: ما لي وللديلم؟ فقال أبو الفضل: عضد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به، فأجاب: بأني ملقى من هؤلاء الملوك أقصد الواحد بعد الواحد، وأملكهم شيئًا يبقى ببقاء النيرين، ويعطونني عرضًا فانيًا، ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه. فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث، فورد الجواب بأنه مملك مراده في المقام والظعن.
وكان عضد الدولة بصيرًا بالأدب، له شعر جيد، وكانت دولة بني بويه عامة دولة للأدب العربي، فتولى الوزارة لهم ابن العميد والصاحب والمهلبي.
وسار المتنبي من أرَّجان، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي صاحب كتاب حدائق الآداب، ثم دخل البلد فأنزل دارًا مفروشة، ولما نفض غبار السفر واستراح ركب إلى عضد الدولة فتوسط الدار وانتهى إلى قرب السرير فقبل الأرض واستولى قائمًا، وقال: شكرت مطية حملتني إليك، وأملًا وقف بي عليك.
وأنشأ أبو الطيب عند عضد الدولة ست قصائد وأرجوزة وقطعة، وأولى هذه القصائد هي:
أَوْهِ بَدِيلٌ مِنْ قَوْلَتِي وَاهَا لِمَنْ نَأَتْ وَالْبَدِيلُ ذِكْرَاهَا
وهي التي يعزي بها عضد الدولة في وفاة عمته، وكانت قد توفيت ببغداد، وثانية القصائد هي التي أولها:
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغَانِي بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزَّمَانِ
وفيها يحن الشاعر إلى العربية التي افتقدها في فارس فما وجد لها أثرًا.
ووصل عضد الدولة الشاعر صلات كثيرة، قدرت بأكثر من مائتي ألف درهم، ولما استأذنه في المسير أمر أن يخلع عليه ويقاد إليه ويوصل بالمال الكثير، وقد ظهر أثر ذلك في شعر المتنبي.
وأقام أبو الطيب في شيراز زهاء ثلاثة أشهر، وقرئ عليه ديوانه، ثم أنشد قصيدة الوداع في شعبان سنة أربع وخمسين، وفيها يطنب في شكر الأمير، ويرغب في الرجوع إليه، ويحن إلى أهله، ثم يتوقع أن شرًّا سيصيبه في طريقه، وهي القصيدة التي أولها:
فِدًى لَكَ مَنْ يُقَصِّرُ عَنْ مَدَاكَا فَلَا مَلِكٌ إِذَنْ إِلَّا فَدَاكَا
وكان خروج أبي الطيب من شيراز، في الثامن من شعبان، قاصدًا بغداد فالكوفة، وسار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز، فقطع بذلك واحدًا وخمسين فرسخًا، ثم سار خمسين فرسخًا أخرى حتى بلغ واسط ونزل بها، وبين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخًا، كان على الشاعر أن يجتازها قبل أن يصل مدينة السلام، وعلى الطريق إليها بلاد ذكر منها في الروايات التي وردت عن مقتل أبي الطيب: النعمانية، ودير العاقول، والصافية؛ فأما النعمانية فهي في وسط الطريق، وهي قائمة اليوم على الشاطئ الغربي من دجلة، وإلى الجنوب الشرقي من «دير العاقول» وعلى مقربة منه دير قُنَّى أو «قنة» وهو يبعد عن الشاطئ قليلًا، وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخًا، وأمام دير العاقول «الصافية» وهي على فرسخين جنوب شرقي دير العاقول.
وسار أبو الطيب من واسط قاصدًا بغداد في طريقه إلى الكوفة في اليوم السابع عشر من رمضان، وفي ذلك اليوم كتب عنه علي بن حمزة البصري — على روايته — القصيدتين الأخيرتين في شعره.
وبلغ جبَّل بعد أن قطع زهاء سبعة عشر فرسخًا، فنزل عند أبي نصر الجبَّلي، ثم أخذ طريقه حتى أصبح حيال النعمانية، ثم سار فمر بجرجرايا على أربعة فراسخ من الجنوب الشرقي من دير العاقول، وتقدم بعد ذلك حتى قارب الصافية وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخًا، وهنالك خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي خال ضبة بن يزيد الذي هجاه أبو الطيب، وكان فاتك في نيف وثلاثين فارسًا رامحين وناشبين، ولا ريب أنه كان يتربص لأبي الطيب؛ لينتقم لابن أخته ضبة، وليستولي على ما يحمله معه من ثروة، فقد روي أنه ومن معه كانوا ممن يقطعون طريق الحجاج.
وكان مع أبي الطيب ابنه محسد وغلمانه، وقد وصفهم من قبل في قصيدة رثاء فاتك الميمية، وفي قصيدة توديع ابن العميد، ولا شك أن غلمانه هؤلاء كانوا أقل عددًا من عدوهم.
وقاتل الشاعر الشجاع حتى قتل، وقتل ابنه، ويقول صاحب الإيضاح: إنهم «قتلوا كل من معه» وإن كان ذلك يبدو بعيدًا، ويروى أن أبا النصر قال: «ولما صح خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه، وذهبت دماؤهم هدرًا.»
ومن المرجح أن اليوم الذي أودى فيه الشاعر هو يوم الأربعاء الثامن والعشرون من رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة هجرية.
وقد رثى أبا الطيب من معاصريه، أبو الفتح عثمان بن جني بقصيدة أولها:
غَاضَ الْقَرِيضُ وَأَوْدَتْ نُضْرَةُ الْأَدَبِ وَصَوَّحَتْ بَعْدَ رِيٍّ دَوْحَةُ الْكُتُبِ٢
ورثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بأربعة أبيات رواها الثعالبي في اليتيمة، وأولها:
لَا رَعَى اللهُ سرْبَ هَذَا الزَّمَانِ إِذْ دَهَانَا فِي مِثْلِ ذَاكَ اللِّسَانِ
ورثاه ثابت بن هارون الرقي النصراني، وحرض عضد الدولة على عقاب من قتلوه بقصيدة أولها:
الدَّهْرُ أَخْبَثُ وَاللَّيَالِي أَنْكَدُ مِنْ أَنْ تَعِيشَ لِأَهْلِهَا يَا أَحْمَدُ
وقبل أن نختم سيرة المتنبي، نقول: إنه تزوج بعد سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ولكنا لا ندري متى تزوج، وكان له عيال حنَّ إليهم في شعره وتشوق للقائهم، وقد ورد في أخبار المتنبي ذكر لابنه محسد، ولم يرد ذكر لغيره، ويرجح أن زوجه كانت من الشام.
•••
ذلكم كان أبو الطيب المتنبي، الشاعر الذي خُلِّد مع فنه الخالد وشعره الشاعر، ولا ريب أن القارئ أدرك من مجمل سيرته ما كان يدين به من خلق واضح الحدود، بيِّن المعالم، فقد كان الشاعر — كما يبين في شعره — متكبرًا أبيًّا معجبًا بعيد الهمة، وكان شجاعًا عظيم الإقدام، وقد سيطرت عليه أخلاقه هذه ولعبت بحياته، فجعلته متعاليًا عن شعراء وقته عزوفًا عن مسايرتهم في اللهو والمجون ومعاقرة الخمر، وكان كذلك صادق القول صريحه، قال علي بن حمزة: إنه لم يكذب قط، ومن آثار هذا أنه كان ينفر من التكلف ويفضل البداوة على التحضر.
وكان أبو الطيب عدا ذلك، حاقدًا على الناس، يحقرهم، ويطوي كَشْحَه لهم على الموجدة والضغينة، وذلك أثر من آثار اعتداده بنفسه وطموحه إلى السؤدد، ثم قصوره عن بلوغ أمله، على أنه — برغم هذا — كان وفيًّا لأصدقائه محبًّا لهم متأسيًا لفراقهم، جازعًا لموتهم، ثم كان في كل هذا حزين الطبع، ثائرًا، يتنزَّى قلبه ألمًا وحسرة على ما أمل وفشل.
ومما أثر عن المتنبي أنه كان بخيلًا، حريصًا على المال؛ ليبلغ به غايته، ويستعين به على تحقيق آماله الجسام، وأحلامه الواسعة.
ولا نحسب الشاعر — ولم تسعده الحال في حياته على تحقيق مراده — إلا بالغًا المبالغ في مماته، وواجدًا فوق ما أمل وأراد، وكفاه خلودًا أن يظل على الأيام صاحب الذكر الدائم، الباقي بقاء الضاد.
هوامش
(١) قام بتلخيص هذا الفصل: هلال شتا، وعمدته في هذا التلخيص: كتاب «ذكرى المتنبي» للدكتور عبد الوهاب عزام.
(٢) انظر ترجمة ابن جني.
ترجمة المتنبي
بقلم أحد معاصريه
وقد استحسنا — لمناسبة كتاب إيضاح المشكل من شعر المتنبي الذي ورد ذكره في هذه السيرة، لمصنفه أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني — أن نورد هنا ترجمة هذا الأصفهاني لأبي الطيب المتنبي. قال عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب: وهذه ترجمة المتنبي نقلتها من كتاب «إيضاح المشْكِل لشعر المتنبي من تصانيف أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني» وهذا الإيضاح قاصر على شرح ابن جني لديوان المتنبي، يوضح ما أخطأ فيه من شرحه، وهو ممن عاصر ابن جني، وألف الإيضاح لبهاء الدولة بن بويه قال: «وقد بدأت بذكر المتنبي ومنشئه ومُغْتَرَبه، وما دل عليه شعره من معتقده إلى مختَتم أمره، ومَقْدَمِه على الملك — نضر الله وجهه — بشيراز وانصرافه عنه، إلى أن وقعت مقتلته بين دير قنة، والنعمانية، واقتسام عقائله وصفاياه … حدثني ابن النجار ببغداد: أن مولد المتنبي كان بالكوفة في محلة تعرف بكِنْدَة بها ثلاثة آلاف بيت، من بين رَوَّاء ونسَّاج.
واختلف إلى كتَّاب فيه أولاد أشراف الكوفة، فكان يتعلم دروس العلوية١ شعرًا ولغة وإعرابًا؛ فنشأ في خير حاضرة، وقال الشعر صبيًّا، ثم وقع إلى خير بادية — بادية اللاذقية، وحصل في بيوت العرب، فادعى الفضول الذي نُبز به، فنمى خبره إلى أمير بعض أطرافها — فأشخص إليه من قَيَّدَه وسار به إلى محبسه، فبقي يعتذر إليه ويتبرأ مما وُسم به، في كلمته التي يقول فيها:
فَمَا لَكَ تَقْبَلُ زُورَ الْكَلَامِ وَقَدْرُ الشَّهَادَةِ قَدْرُ الشُّهُود
وَفِي جُودِ كَفِّكَ مَا جُدْتَ لِي بِنَفْسِي وَلَوْ كُنْتُ أَشْقَى ثَمُود
وقد هجاه شعراء وقته، فقال الضبي:
الْزَمْ مَقَالَ الشِّعْرِ تَحْظَ بِقُرْبَةٍ وَعَنِ النُّبُوَّةِ، لَا أَبَا لَكَ، فَانْتَزِحْ
تَرْبَحْ دَمًا قَدْ كُنْتَ تُوجِبُ سَفْكَهُ إِنَّ التَّمَتُّعَ بِالْحَيَاةِ لِمَنْ رَبِحْ
فأجابه المتنبي:
أَمْرِي إِلَيَّ فَإِنْ سَمَحْتُ بِمُهْجَةٍ كَرُمَتْ عَلَيَّ فَإِنَّ مِثْلِي مَنْ سَمَحْ
وهجاه غيره فقال:
أَطْلَلْتَ يَا أَيُّهَا الشَّقِيُّ دَمَكْ بِالْهَذَيَانِ الَّذِي مَلَأْتَ فَمَكْ
أَقْسَمْتُ لَوْ أَقْسَمَ الْأَمِيرُ عَلَى قَتْلِكَ قَبْلَ الْعِشَاءِ مَا ظَلَمَكْ
فأجابه المتنبي:
هَمُّكَ فِي أَمْرَدٍ تُقَلِّبُ فِي عَيْنِ دَوَاةٍ مِنْ صُلْبِهِ قَلَمَكْ
وَهِمَّتِي فِي انْتِضَاءِ ذِي شُطَبٍ أَقُدُّ يَوْمًا بِحَدِّهِ أَدَمَكْ
فَاخْسَ كُلَيْبًا وَاقْعُدْ عَلَى ذَنَبٍ وَأَظْلِ بِمَا بَيْنَ أَلْيَتَيْكَ فَمَكْ
وهو في الجملة خبيث الاعتقاد، وكان في صغره وقع إلى واحد يكني أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوَّسه وأضله كما ضل، وأما ما يدل عليه شعره فمتلوِّن، وقوله:
هَوِّنْ عَلَى بَصَرٍ مَا شَقَّ مَنْظَرُهُ فَإِنَّمَا يَقَظَاتُ الْعَيْنِ كَالْحُلُمِ
مذهب السوفسطائية، وقوله:
تَمَتَّعْ مِنْ سُهَادٍ أَوْ رُقَادٍ وَلَا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجَامِ
فَإِنَّ لِثَالِثِ الْحَالَيْنِ مَعْنًى سِوَى مَعْنَى انْتِبَاهِكَ وَالْمَنَامِ
مذهب التناسخ، وقوله:
نَحْنُ بَنُو الدُّنْيَا فَمَا بَالُنَا نَعَافُ مَا لَا بُدَّ مِنْ شُرْبِه
فَهَذِهِ الْأَرْوَاحُ مِنْ جَوِّهِ وَهَذِهِ الْأَجْسَامُ مِنْ تُرْبِه
مذهب الفضائية، وقوله في أبي الفضل بن العميد:
فَإِنْ يَكُنِ الْمَهْدِيُّ مَنْ بَانَ هَدْيُهُ فَهَذَا، وَإِلَّا فَالْهُدَى ذَا، فَمَا الْمَهْدِي
مذهب الشيعة، وقوله:
تَخَالَفَ النَّاسُ حَتَّى لَا اتِّفَاقَ لَهُمْ إِلَّا عَلَى شَجَبٍ، وَالْخُلْفُ فِي الشَّجَبِ
فَقِيلَ: تَخْلُدُ نَفْسُ الْمَرْءِ بَاقِيَةً وَقِيلَ: تَشْرَكُ جِسْمَ الْمَرْءِ فِي الْعَطَبِ
فهذا من يقول بالنفس الناطقة، ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية، والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه، وأسلمه الله — عز وجل — إلى حوله وقوته، وجد في الضلالات مجالًا واسعًا، وفي البدع والجهالات منادِيحَ وفُسَحًا. ثم جئنا إلى حديثه وانتجاعه، ومفارقته الكوفة أصلًا، وتطوافه في أطراف الشام، واستقرائه بلاد العرب، ومقاساته للضرِّ وسوء الحال، ونزارة كسبه، وحقارة ما يوصل به، حتى إنه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد — وكان لقي المتنبي دفعات في حال عسره ويسره — أن المتنبي قد مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم، وأنشد في قوله مصداقًا لحكايته:
انْصُرْ بِجُودِكَ أَلْفَاظًا تَرَكْتُ بِهَا فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مَنْ عَادَاكَ مَكْبُوتَا
فَقَدْ نَظَرْتُكَ حَتَّى حَانَ مُرْتَحِلٌ وَذَا الْوَدَاعُ، فَكُنْ أَهْلًا لِمَا شِيتَا
وأخبرني أبو الحسن الطرائفي قال: سمعت المتنبي يقول: أوَّلُ شعر قلته وابيضت أيامي بعده، قولي:
أَنَا لَائِمِي إِنْ كُنْتُ وَقْتَ اللَّوَائِمِ عَلِمْتُ بِمَا بِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فإني أعطيتُ بها بدمشق مائة دينار … ثم اتصلَ بأبي العشائر، فأقام ما أقام ثم أهداه إلى سيف الدولة، فاشترط أنه لا ينشد إلَّا قاعدًا وعلى الوحدة، فاستحملوه وأجابوه إليه. فلما سمع سيف الدولة شعره حكم له بالفضل، وعدَّ ما طَلَبَه استحقاقًا.
وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني: أن المتنبي أسقط من شعره الكثير، وبقي ما تداوله الناس … وأخبرني الحلبي أنه قيل للمتنبي: معنى بيتك هذا أخذته من قول الطائي. فأجاب المتنبي: الشعر جادَّة، وربما وقع حافر على حافر، وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيَّيْنِ، ويستصحبهما في أسفاره ويجحدهما، فلما قُتل توزعت دفاتره، فوقع ديوان البحتري إلى بعض من درس عليَّ، وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه، وسمعت من قال: إن كافورًا لما سمع قوله:
إِذَا لَمْ تَنُطْ بِي ضَيْعَةً أَوْ وِلَايَةً فَجُودُكَ يَكْسُونِي وَشُغْلُكَ يَسْلُبُ
يلتمس ولاية صَيدَاء. فأجابه: لستُ أجسُر على توليتك صيداء؛ لأنك على ما أنت عليه، تحدِّث نفسك بما تحدث؛ فإن ولَّيتك صيداء، فمن يطيقك؟!
وسمعت أنه قيل للمتنبي: قولك لكافور:
فَارْمِ بِي حَيْثُمَا أَرَدْتَ فَإِنِّي أَسَدُ الْقَلْبِ آدَمِيُّ الرَّوَاءِ
وَفُؤَادِي مِنَ الْمُلُوكِ وَإِنْ كَا نَ لِسَانِي يُرَى مِنَ الشُّعَرَاءِ
ليس قول ممتدح ولا منتجع، إنما هو قول مضاد! فأجاب المتنبي إلى أن قال: هذه القلوب، كما سمعت أحدها يقول:
يَقَرُّ بِعَيْنِي أَنْ أَرَى قِصَدَ الْقَنَا وَصَرْعَى رِجَالٍ فِي وَغًى أَنَا حَاضِرُه
وأحدها يقول:
يَقَرُّ بِعَيْنِي أَنْ أَرَى مِنْ مَكَانِهَا ذُرَا عَقدَاتِ الْأَجْرَعِ الْمُتَقَاوِدِ
ثم أقام المتنبي عند سيف الدولة على التكرمة البليغة: في إسناء الجائزة، ورفع المنزلة، ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم، وتأثَّل حالًا في جنبته بعد أن كان حويلة، وكان سيف الدولة يستحبُّ الاستكثار من شعره والمتنبي يستقله، وكان مُلَقى من هذه الحال، يشكوها أبدًا، وبها فارقه حيث أنشده:
وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِنَاظِرِهِ إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ
وآخرها:
بِأَيِّ لَفْظٍ يَقُولُ الشِّعْرَ زِعْنِفَةٌ تَجُوزُ عِنْدَكَ لَا عُرْبٌ وَلَا عَجَمُ
وقال في أخرى:
إِذَا شَاءَ أَنْ يَلْهُو بِلِحْيَةِ أَحْمَقٍ أَرَاهُ غُبَارِي ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحَقِ!
فلما انتهت مدته عند سيف الدولة استأذنه في المسير إلى أقطاعه؛ فأذن له وامتد باسطًا عنانه إلى دمشق، إلى أن قصد مصر فألمَّ بكافور، فأنزله وأقام ما أقام، إلا أن أول شعره فيه دليلٌ على ندمه لفراق سيف الدولة، وهو:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى الْمَوْتَ شَافِيَا وَحَسْبُ الْمَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا
حتى انتهى إلى قوله:
قَوَاصِدَ كَافُورٍ تَوَارِكَ غَيْرِهِ وَمَنْ قَصَدَ الْبَحْرَ اسْتَقَلَّ السَّوَاقِيَا
وأخبرني بعض المولدين ببغداد، وخاله أبو الفتح يتوزَّرُ لسيف الدولة، أن سيف الدولة رسم لي التوقيع إلى ديوان البر بإخراج الحال فيما وصل به المتنبي، فخرجَتْ بخمسةٍ وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين.
ثم لما أنشد الثانية كافورًا خرجت موجهة يشتاق سيف الدولة، وأوَّلها:
فِرَاقٌ، وَمَنْ فَارَقْتُ غَيْرُ مُذَمَّمِ وَأَمٌّ، وَمَنْ يَمَّمْتُ خَيْرُ مُيَمَّمِ
وأقام على كره بمصر إلى أن ورد فاتك غلام الأخشيدي من الفيوم — وهي وبيئةٌ، فنبتْ به واجتواها — وقادوا بين يديه في مدخله إلى مصر أربعة آلاف جَنِيبة مُنَعَّلةٍ بالذهب؛ فسماه أهل مصر بفاتك المجنون. فلقيه المتنبي في الميدان على رِقْبَةٍ من كافور فقال:
لَا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلَا مَالُ فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الْحَالُ
فوصل إليه من أنواع صلاته وأصناف جوائزه ما تبلغ قيمته عشرين ألف دينار، ثم مضى فاتك لسبيله، فرثاه المتنبي وذم كافورًا:
أَيَمُوتُ مِثْلُ أَبِي شُجَاعٍ فَاتِكٍ وَيَعِيشُ حَاسِدُهُ الْخَصِيُّ الْأَوْكَعُ!
فاحتال بعده في الخلاص من كافور، فانتهز الفرصة في العيد — وكان رسم السلطان أن يستقبل العيد بيوم، وتعدُّ فيه الخلع والحملانات وأنواعُ المبارِّ، لرابطة جنده وراتبة جيشه، وصبيحة العيد تفرَّق، وثاني اليوم يذكر له مَنْ قبِل ومن ردَّ واستزاد — فاهتبل المتنبي غفلة كافور، ودفن رماحه برًّا، وسار ليلته، وحمل بغاله وجماله وهو لا يألو سيرًا وسُرًى هذه الليلة مسافة أيام؛ حتى وقع في تِيه بني إسرائيل؛ إلى أن جازه على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل، والمناهل الأواجن، ونزل الكوفة، وقال يقص حاله:
أَلَا كُلُّ مَاشِيَةِ الْخَيْزَلَى فِدَا كُلِّ مَاشِيَةِ الْهَيْذَبَى
وفيها يقول:
ضَرَبْتُ بِهَا التِّيهَ ضَرْبَ الْقِمَا رِ: إِمَّا لِهَذَا، وَإِمَّا لِذَا
ثم مدح بالكوفة دلِّير بن لشْكَرَوَّز، وأنشده في الميدان؛ فحمله على فرس بمركب ذهب.
وكان السبب في قَصْدِه، أبا الفضل بن العميد — على ما أخبرني أبو عليِّ بن شبيب القاشاني — وكان أحد تلامذتي، ودرس عليَّ بقاشان سنة ثلاثمائة وسبعين وتوزَّر للأصبهبد بالجبل وأبوه أبو القاسم توزر لوشمكير بجرجان — عن العلوي العباسي نديم أبي الفضل بن العميد الذي يقول فيه:
أَبْلِغْ رِسَالَاتِي الشَّرِيفَ، وَقُلْ لَهُ: قَدَّكَ اتَّئِدْ أَرْبَيْتَ فِي الْغُلَوَاءِ
إن المعروفَ المطوَّق الشاشِي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور:
أُغَالِبُ فِيكَ الشَّوْقَ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ
وجعل مكان أبا المسك أبا الفضل، وسار إلى خراسان وحمل القصيدة، أعني قصيدة المتنبي إلى أبي الفضل، وزعم أنه رسوله، فوصله أبو الفضل بألفي درهم، واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد، فقال: رجل يعطي لحامل شعري هذا، فما تكون صلته لي؟ وكان ابن العميد يخرج في السنة من الريِّ خرجتين إلى أرَّجان، يَجْبِي بها أربع عشرة مرة ألفَ ألفِ درهم. فنما حديثه إلى المتنبي بحصوله بأرَّجان، فلما حصل المتنبي ببغداد نزل رَبَضَ حُميد، فركب إلى المهلَّبي، فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه، وصاعد خليفته دونه، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، فأنشدوا هذا البيت:
سَقَى اللهُ أَمْوَاهًا عَرَفْتُ مَكَانَهَا جُرَامًا وَمَلْكُومًا وَبَذَّرَ فَالْغَمْرَا
وقال المتنبي: هو جُرابًا، وهذه أمكنة قتلتها علمًا، وإنما الخطأ وقع من النقلة! فأنكره أبو الفرج، قال الشيخ: هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه في كتابه جرامًا، بالميم، وهو الصحيح وعليه علماء اللغة، وتفرق المجلس عن هذه الجملة، ثم عاوده اليوم الثاني وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعلْ، وإنما صدَّه ما سمعه من تماديه في السخف، واستهتاره بالهزل، واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مُرَّ النفس صعبَ الشكيمة حادًّا مجدًا فخرج، فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجَّاج حتى علَّق لجامَ دابته في صينبة الكرخ وقد تكابسَ الناسُ عليه من الجوانب، وابتدأ ينشد:
يَا شَيْخَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِينَا وَمَنْ يَلْزَمُ أَهْلَ الْعِلْمِ تَوْقِيرُهُ
فصبر عليه المتنبي ساكنًا ساكتًا، إلى أن نجَّزها، ثم خلَّى عنان دابته، وانصرف المتنبي إلى منزله، وقد تيقن استقرارَ أبي الفضل ابن العميد بأرَّجان وانتظاره له فاستعدَّ للمسير.
وحدثنا أبو الفتح عثمان بن جني عن عليِّ بن حمزة البصري قال: كنت مع المتنبي لما ورد أرَّجان، فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن، فضرب بيده على صدره وقال: تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون بي، وقصدتُ ربَّ هذه المدَرَة، فما يكون منه! ثم وقف بظاهر المدينة، وأرسل غلامًا على راحلته إلى ابن العميد، فدخل عليه وقال: مولاي أبو الطيِّب المتنبي خارجَ البلد — وكان وقت القيلولة، وهو مضطجع في دَسته — فثار من مضجعه واستثبته، ثم أمر حاجبه باستقباله، فركب واستركبَ من لقيه في الطريق، ففصل عن البلد بجمعٍ كثير، فتلقوه وقضوا حقَّه وأدخلوه البلد. فدخل على أبي الفضل، فقام له من الدست قيامًا مستويًا، وطُرِح له كرسي عليه مَخِدةُ ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقًا إليك يا أبا الطيب، ثم أفاض المتنبي في حديث سفره، وأن غلامًا له احتمل سيفًا وشذَّ عنه، وأخرج من كمه عقيب هذه المفاوضة دَرْجًا فيه قصيدته:
بَادٍ هَوَاكَ صَبَرْتَ أَوْ لَمْ تَصْبِرَا
فوحَى أبو الفضل إلى حاجبه بقرطاسٍ فيه مائتا دينار، وسيف غشاؤه فضة، وقال: هذا عوضٌ عن السيف المأخوذ، وأفرد له دارًا نزلها، فلما استراح من تعب السفر كان يَغشى أبا الفضل كل يوم، ويقول: ما أزورك إكبابًا إلا لشهوة النظر إليك! ويؤاكله، وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه، ويتعجب من حفظه وغزارة علمه، فأظلَّهم النيروز فأرسل أبو الفضل بعض ندمائه إلى المتنبي: كان يبلُغني شعرك بالشام والمغرب وما سمعته دونه، فلم يُحِرْ جوابًا، إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئًا ومعتذرًا فقال:
هَلْ لِعُذْرِي إِلَى الْهُمَامِ أَبِي الْفَضـْ ـلِ قَبُولٌ، سَوَادُ عَيْنِي مِدَادُهُ
فأخبرني البديهي، سنة ثلاثمائة وسبعين: أن المتنبي قال بأرجان: الملوك قرود يشبه بعضهم بعضًا، على الجودة يعطون، وكان حمل إليه أبو الفضل خمسين ألف دينار، سوى توابعها، وهو من أجاود زمان الديلم، وكذلك أبو المطرف وزير مرداويج، قصده شاعر من قزوين فأنشده وأمَّله مادة نفقة يرجع بها إلى بلده، فكتب إليه أبياتًا أولها:
أَأَقْلَامٌ بِكَفِّكَ أَمْ رِمَاحُ وَعَزْمٌ ذَاكَ، أَمْ أَجَلٌ مُتَاحُ
فقال أبو المطرف: أعطوه ألف دينار، وكذلك أبو الفضل البلعَمِيُّ وزير بُخارى أعطى المطراني الشاعر على قصيدته التي أولها:
لَا شُرْبَ إِلَّا بِسَيْرِ النَّايِ وَالْعُودِ
خمسة عشر ألف دينار، وكذلك خلف صاحب سجستان، أعطى أبا بكر الحنبليَّ خمسة آلاف دينار على كلمة فيه، وكان سيف الدولة لا يملك نفسه، وكان يأتيه علوي من بعض جبال خراسان كل سنة فيعطيه رسمًا له جاريًا على التأبيد، فأتاه وهو في بعض الثغور، فقال للخازن: أطلق له ما في الخزانة، فبلغ أربعين ألف دينار، فشاطر الخازنَ وقبض عشرين ألف دينار، إشفاقًا من خلل يقع على عسكره في الحرب، وأخبرني بعض أهل الأدب أنه تعرض سائلٌ لسيف الدولة وهو راكب، فأنشده في طريقه:
أَنْتَ عَلِيٌّ وَهَذِهِ حَلَبُ قَدْ فَنَى الزَّادُ وَانْتَهَى الطَّلَبُ
فأطلق له ألف دينار، وتعرض سائل لأبي علي بن إلياس وهو في موكبه فأمر له بخمسمائة دينار، فجاءه الخازن بالدواة والبياض، فوقع بألفي دينار؛ فلما أبصره الخازن راجعه فيها فقال أبو علي: الكلام ريح، والخط شهادة، ولا يجوز أن يشهد علي بدون هذا …
ثم إن أبا الطيب المتنبي لما ودَّع أبا الفضل بن العميد، ورد كتابُ عضدِ الدولة يستدعيه، فعرَّفه ابن العميد فقال المتنبي: مَا لِي وللديلم؟ فقال أبو الفضل عَضُدُ الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به، فأجاب بأني مُلقى من هؤلاء الملوك: أقصد الواحد بعد الواحد، وأُمَلكهم شيئًا يبقى ببقاء النيرين، ويعطونني عَرَضًا فانيًا، ولي ضجَرات واختيارات، فيعوقونني عن مرادي، فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجود! فكاتب ابنُ العميد عضد الدولة بهذا الحديث. فورد الجواب بأنه مملك مُرادَه في المقام والظعن. فسار المتنبي من أرَّجان، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز، استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصبَّاغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب. فلما تلاقيا وتسايرا، استنشده فقال المتنبي: الناس يتناشدون فاسمعه. فأخبر أبو عمر أنه رُسم له ذلك عن المجلس العالي. فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها:
أَلَا كُلُّ مَاشِيَةِ الْخَيْزَلَى فِدَا كُلِّ مَاشِيَةِ الْهَيْدَبَى
ثم دخل البلد فأنزل دارًا مفروشة، ورجع أبو عمر الصبَّاغ إلى عضد الدولة فأخبره بما جرى، وأنشده أبياتًا من كلمته، وهي:
فَلَمَّا أَنَخْنَا رَكَزْنَا الرِّمَا حَ حَوْلَ مَكَارِمِنَا وَالْعُلَا
وَبِتْنَا نُقَبِّلُ أَسْيَافَنَا وَنَمْسَحُهَا مِنْ دِمَاءِ الْعِدَا
لِتَعْلَمَ مِصْرٌ وَمَنْ بِالْعِرَاقِ وَمَنْ بِالْعَوَاصِمِ أَنِّي الْفَتَى
وَأَنِّي وَفَيْتُ وَأَنِّي أَبَيْتُ وَأَنِّي عَتَوْتُ عَلَى مَنْ عَتَا
فقال عضد الدولة: هونًا، يتهددنا المتنبي! …
ثم لما نفض غبارَ السفر واستراح، ركب إلى عضد الدولة؛ فلما توسط الدار انتهى إلى قرب السرير مصادمة، فقبَّل الأرض، واستوى قائمًا وقال: شكرتُ مطية حملتني إليك، وأملًا وقف بي عليك. ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر، وعن علي بن حمدان، فذكره وانصرف وما أنشده. فبعد أيام حضر السماط وقام بيده دَرْج، فأجلسه عضد الدولة وأنشد:
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغَانِي
فلما أنشدها وفرغوا من السماط، حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية الأمنان من بين الكافور والعنبر والمسك والعود، وقاد فرسه الملقَّب بالمجروح — وكان اشتُرِي له بخمسين ألف شاة — وبَدْرة دراهمُها عدلية، ورداءً حشوه ديباجٌ روميٌّ مفصَّل، وعمامة قوِّمت بخمسمائة دينار، ونصلًا هِنْدِيًّا مرصَّع النجاد والجفن بالذهب، وبعد ذلك كان ينشده في كل حدَث يحدث قصيدة، إلى أن حدث يوم نثرِ الورد. فدخل عليه والملك على السرير في قبة يَحسِر البصر في ملاحظتها، والأتراك ينثرون الورد، فمثل المتنبي بين يديه، وقال: ما خدمت عيني قلبي كاليوم؟ وأنشأ يقول:
قَدْ صَدَقَ الْوَرْدُ فِي الَّذِي زَعَمَا أَنَّكَ صَيَّرْتَ نَثْرَهُ دِيَمَا
كَأَنَّمَا مَائِحُ الْهَوَاءِ بِهِ بَحْرٌ حَوَى مِثْلَ مَائِهِ عَنَمَا
فحُمل على فرس بمركب، وأُلبِس خِلعة ملكية، وبدرةٌ بين يديه محمولة، وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورًا بالاختلاف إليه، وحَفِظَ المنازلَ والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرَّفها منه، فقال: كنت حاضرَه، وقام ابنهُ يلتمس أجرةَ الغسَّال، فأحدَّ المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصُّعلوك والغسَّال! يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء: يطبخ قِدْرَه، ويُنْعِل فرسه، ويغسل ثيابه؟ ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة.
وورد كتابُ أبي الفتح ذي الكفايتين بن أبي الفضل — وكان من أجاود زمان الديلم، فرَّق في يوم واحد بِشبْدِيز قرميسِينَ، ألفين وخمسمائة قطعة إبْرَيْسَم — ومضمونُه كتاب الشوق إلى لقاء المتنبي وتشوُّفه إلى نظرته فأجابه المتنبي:
يَكْتُبُ الْأَنَامُ كِتَابٌ وَرَدْ فَدَتْ يَدَ كَاتِبِهِ كُلُّ يَدْ
فلما عاد الجواب إلى أبي الفتح، جعل الأبيات سورة يدرسها، ويحكم للمتنبي بالفضل على أهل زمانه … فقال أبو محمد بن أبي الثبات البغدادي:
لَوَارِدُ شِعْرٍ كَذوب الْبَرَد أَتَانَا بِهِ خَاطِرٌ قَدْ جَمَدْ
فَأَقْبَلَ يَمْضُغُهُ بَعْضُنَا وَهَمُّ السَّنَانِيرِ أَكْلُ الْغُدَدْ
وَقَالُوا: جَوَادٌ يَفُوقُ الْجِيَادَ وَيَسْبِقُ مِنْ عَفْوِهِ الْمُقْتَصدْ
وَلَوْ وَلِيَ النَّقْدُ أَمْثَالهُ لَظَلَّتْ خَفَافِيشُنَا تَنْتَقِدْ
فاستخف أبو الفتح به وجرَّه برجله ففارقهم وهاجر إلى أذربيجان، والأميرُ أبو سالم ديسم بن شادكويه على الإمْرة، فاتصل به وحظي عنده على غاية الإكرام.
وقال عضد الدولة: إن المتنبي كان جيد شعره بالغَرْب، فأخبر المتنبي به فقال: الشعر على قدر البقاع …
وكان عضد الدولة جالسًا في البستان الزاهر يوم زينته، وأكابرُ حواشيه وُقوف. فقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الحكاريُّ: ما يُعوِز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين. فقال عضد الدولة: لو حضر المتنبي لناب عنهما، فلما أقام مدة مقامه وسمع ديوان شعره. ارتحل وسار بمراكبه وظهوره وأثقاله وأحماله إلى أن نزل الجسر بالأهواز، وأخبرنا أبو الحسن السوسيُّ في دار الوقف بين السورَين، قال: كنت أتولى الأهوازَ من قبل المهلَّبيِّ، وورد علينا المتنبي، ونزل عن فرسه ومِقوده بيده، وفتح عِيابَه وصناديقَه لبللٍ مسَّها في الطريق، وصارت الأرضُ كأنها مطارفُ منشورة فحضرته أنا وقلت: قد أقمت للشيخ نُزُلًا. فقال المتنبي: إن كان تمَّ فآتيه. ثم جاءه فاتك الأسد بجَمْع وقال: قدم الشيخ في هذه الديار وشرَّفها بشعره، والطريق بينه وبين دير قُنَّة خشِنٌ قد احتوشتْه الصعالكة، وبنو أسدٍ يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي: ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذبابَ الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق! فقام فاتك ونفض ثوبه وجمع من رُتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حَسْوًا، سبعين رجلًا ورصد له، فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه فقتلوا كل من كان في صحبته، وَحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكَّسه عن فرسه، وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرسَ أحدُهم وجزَّ رأسه، وصبوا أمواله يتقاسمونها بطُرْطورة:
وقال بعض من شاهده: إنه لم تكن فيه فروسيَّة، وإنما كان سيف الدولة سلمه إلى النخَّاسين والروَّاضِ بحلب، فاستجرأ على الركض والحُضر فأما استعمال السلاح فلم يكن من عمله.
وجملة القول فيه: أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر، وكل ما في كلامه من «الغريب المصنف» سوى حرف واحد هو في «كتاب الجمهرة» وهو قوله:
يَطْوِي الْمُجَلِّحَةُ الْعُقْدُ٢
وأما الحكم عليه وعلى شعره: فهو سريع الهجوم على المعاني، ونعتُ الخيل والحرب من خصائصه؛ وما كان يراد طبعَه في شيء مما يسمح به، يقبل الساقط الرديء كما يقبل النادر البدع، وفي متن شعره وَهْي، وفي ألفاظه تعقيد وتعويصٌ.» ا.ﻫ كلامه مع بعض اختصار.
هوامش
(١) كذا في الأصل ويحتمل أن تكون «العربية».
(٢) من بيت هذا نصه:
وَأَمْضِي كَمَا يَمْضِي السِّنَانُ لِطِيَّتِي وَأَطْوِي كَمَا تَطْوِي الْمُجَلِّحَةُ الْعُقْدُ
شراح المتنبي
وإليك تراجم بعض شراح المتنبي، ممن ورد ذكرهم في هذا الشرح … وقولنا هنا: «شراح المتنبي» إنما هو ضرب من التسامح؛ لأن منهم من لم يضع شرحًا بالمعنى المتعارف؛ أي إنهم لم يضعوا شروحًا تامَّة كاملة، وإنما تَصَدَّوا لشرح بعض مشكلات الأبيات، أو لنقد بعض الشراح فيما ذهبوا إليه من شرح وتفسير أو لسرقات المتنبي، مثل أبي السعادات بن الشجري، وابن فورجه، وأبي الفضل العروضي، وابن وكيع، والصاحب ابن عباد، وأبي بكر الخوارزمي، ولم نتبسط في هذه التراجم، ولم ننهج فيها منهجًا تحليليًّا يخرج بنا عما قصدنا إليه منها وهو التعريف بمن تتعثر بأسمائهم في هذا الشرح حتى تكون على بصيرة تامة بكل ما يتصل بهذا الشاعر المحظوظ، ومن ثم لم نَعْدُ أن نسرد لك في هذه التراجم تاريخ مولد المترجم له، وتاريخ وفاته، وطرفًا من أخباره وسيرته وتواليفه ومكانته العلمية وآراء الناس فيه.
ابن جني
أظنني في غير حاجة إلى التعريف بأن أبا الفتح عثمان بن جني هو أول من شرح المتنبي، فله بذلك فضل السبق، ومن ثَمَّ كان حقيقًا بأن نبدأ بترجمته …
•••
جاء في معجم الأدباء لياقوت وفي وفيات الأعيان لابن خلكان ما تلخيصه:
أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي: كان أبوه جني مملوكًا روميًّا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي — أقول: فهو إذن من أبناء يونان، لا من أبناء عدنان، وبعبارة أخرى: هو من أبناء الموالي، شأنه شأن أكثر حملة العلم، ونوابغ الشعراء والأدباء في الإسلام — وإلى أصله أشار بقوله:
فَإِنْ أُصْبِحْ بِلَا نَسَبٍ فَعِلْمِي فِي الْوَرَى نَسَبِي
عَلَى أَنِّي أَئُولُ إِلَى قُرُومٍ سَادَةٍ نُجُبِ
قَيَاصِرَةٌ إِذَا نَطَقُوا أَرَمَّ الدَّهْرُ ذُو الْخُطَبِ١
أَوْلَاكَ دَعَا النَّبِيُّ لَهُمْ كَفَى شَرَفًا دُعَاءُ نَبِي
ولد ابن جني بالموصل قبل الثلاثين والثلاثمائة للهجرة، وتوفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة ٣٩٢ﻫ ببغداد، وكان أبو الفتح مُمتَّعًا بإحدى عينيه، وما أظرفه حين يقول لأحد أصدقائه:
صُدُودُكَ عَنِّي وَلَا ذَنْبَ لِي دَلِيلٌ عَلَى نِيَّةٍ فَاسِدَهْ
فَقَدْ وَحَيَاتِكَ مِمَّا بَكَيْتُ خَشِيتُ عَلَى عَيْنِيَ الْوَاحِدَهْ
وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَلَّا أَرَاكَ لَمَا كَانَ فِي تَرْكِهَا فَائِدَهْ
وحدَّثوا أنه صحب أبا علي الفارسي٢ أربعين سنة، وكان السبب في صحبته له: أن أبا علي اجتاز بالموصل، فمر بالجامع وأبو الفتح في حلقة يُقرِئ النحو وهو شاب، فسأله أبو عليٍّ عن مسألة في التصريف فقصَّر فيها، فقال له أبو علي: تزبَّبْتَ وأنت حِصرِم … فسأل عنه، فقيل له: هذا أبو عليٍّ الفارسي، فلزمه من يومئذ، واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله، وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه؛ فلما مات أبو عليٍّ تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد، فأخذ عنه كثير من أعلام العلماء … وحدَّث أبو الحسن الطرائفي قال: كان أبو الفتح عثمان بن جني يحضر بحلب عند المتنبي كثيرًا، ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه شيئًا من شعره، أنفةً واستكبارًا لنفسه، وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجل لا يعرف قدرَه كثير من الناس … وسئل المتنبي بشيراز عن قوله:
وَكَانَ ابْنَا عَدُوٍّ كَاثَرَاهُ لَهُ يَاءَيْ حُرُوفِ أُنَيْسِيَانِ٣
فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضرًا لفسره … وكان لابن جني من الولد عليٌّ وعالٍ وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء قد خَرَّجَهم والدهم وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسني الخط … ولابن جني شعر — ولكنه كسائر شعر العلماء — فمنه:
غَزَالٌ غَيْرُ وَحْشِيٍّ حَكَى الْوَحْشِيُّ مُقْلَتَهُ
رَآهُ الْوَرْدُ يَجْنِي الْوَرْ دَ فَاسْتَكْسَاهُ حُلَّتَهُ
وَشَمَّ بِأَنْفِهِ الرَّيْحَا نَ فَاسْتَهْدَاهُ زَهْرَتَهُ
وَذَاقَتْ رِيحُهُ الصَّهْبَا ءَ فَاخْتَلَسَتْهُ نَكْهَتَهُ٤
وقال الباخَرْزي في دمية القصر: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات، ما له، وما كنت أعلم أنه ينظم القريض، أو يسيغ ذلك الجريض٥ حتى قرأت له مرثية في المتنبي أولها:
غَاضَ الْقَرِيضُ وَأَوْدَتْ نُضْرَةُ الْأَدَبِ وَصَوَّحَتْ بَعْدَ رِيٍّ دَوْحَةُ الْكُتُبِ٦
مَا زِلْتَ تَصْحَبُ فِي الْجُلَّى إِذَا انْشَعَبَتْ قَلْبًا جَمِيعًا وَعَزْمًا غَيْرَ مُنْشَعِبِ٧
وَقَدْ حَلَبْتَ لَعَمْرِي الدَّهْرَ أَشْطُرَهُ تَمْطُو بِهِمَّةِ لَا وَانٍ وَلَا نَصِبِ٨
مَنْ لِلْهَوَاجِلِ يُحْيِي مَيْتَ أَرْسُمِهَا بِكُلِّ جَائِلَةِ التَّصْدِيرِ وَالْحِقَبِ٩
قَبَّاءَ خَوْصَاءَ مَحْمُودٌ عُلَالَتُهَا تَنْبُو عَرِيكَتُهَا بِالْحِلْسِ وَالْقَتَبِ١٠
أَمْ مَنْ لِبِيضِ الظُّبَا تَوْكَافُهُنَّ دَمٌ أَمْ مَنْ لِسُمْرِ الْقَنَا وَالزَّغْفِ وَالْيَلَبِ١١
أَمْ لِلْجَحَافِلِ يُذْكِي جَمْرَ جَاحِمِهَا حَتَّى يُقَرِّبَهَا مِنْ جَاحِمِ اللَّهَبِ١٢
أَمْ لِلْمَحَافِلِ إِذْ تَبْدُو لِتَعْمُرَهَا بِالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْأَمْثَالِ وَالْخُطَبِ
أَمْ لِلصَّوَاهِلِ مُحْمَرًّا سَرَابِلُهَا مِنْ بَعْدِ مَا غَرَبَتْ مَعْرُوفَةُ الشُّهُبِ١٣
أَمْ لِلْمَنَاهِلِ وَالظَّلْمَاءُ عَاطِفَةٌ يُوَاصِلُ الْكَرَّ بَيْنَ الْوِرْدِ وَالْقَرَبِ١٤
أَمْ لِلْقَسَاطِلِ تَعْتَمُّ الْحُزُونُ بِهَا أَمْ مَنْ لِضَغْمِ الْهِزَبْرِ الضَّيْغَمِ الْحَرِبِ١٥
أَمْ لِلْمُلُوكِ يُحَلِّيهَا وَيُلْبِسُهَا حَتَّى تَمَايَسُ فِي أَبْرَادِهَا الْقُشُبِ١٦
بَاتَتْ وِسَادِي أَطْرَابٌ تُوَرِّقُنِي لَمَّا غَدَوْتَ لَقًى فِي قَبْضَةِ النُّوَبِ١٧
عُمِّرْتَ خِدْنَ الْمَسَاعِي غَيْرَ مُضْطَهَدٍ كَالنَّصْلِ لَمْ يَدَّنِسْ يَوْمًا وَلَمْ يُصَبِ
فَاذْهَبْ عَلَيْكَ سَلَامُ الْمَجْدِ مَا قَلِقَتْ خُوصُ الرَّكَائِبِ بِالْأَكْوَارِ وَالشُّعُبِ
ومن شعر ابن جني:
رَأَيْتُ مَحَاسِنَ ضِحْكِ الرَّبِيعِ أَطَالَ عَلَيْهَا بُكَاءُ السَّحَابْ
وَقَدْ ضَحِكَ الشَّيْبُ فِي لِمَّتِي فَلِمْ لَا أُبَكِّي رَبِيعَ الشَّبَابْ
أَأَشْرَبُ فِي الْكَأْسِ، كَلَّا وَحَاشَا لِأُبْصِرَهُ فِي صَفَاءِ الشَّرَابْ
ومنه:
تَحَبَّبْ أَوْ تَذَرَّعْ أَوْ تَأَبَّى فَلَا وَاللهِ لَا أَزْدَادُ حُبَّا
أَخَذْتَ بِبَعْضِ حُبِّكَ كُلَّ قَلْبِي فَإِنْ رُمْتَ الْمَزِيدَ فَهَاتِ قَلْبَا
قال ياقوت: وقرأت بخط الشيخ أبي منصور بن الجواليقي: قال لنا أبو زكريا: رأيت بخط ابن جني: أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الفَرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: قرأ علي أعرابي «طِيبَى لهم وَحُسنُ مآب» فقلت: «طُوبى» فقال: «طِيبى» فقلت ثانيًا: «طُوبى» فقال: «طِيبَى» فلما طال علي قلت: «طُوطُو» فقال الأعرابي: «طِي طِي» أما ترى إلى هذه النحيزَة ما أبقاها وأشد محافظة هذا البدوي عليها حتى أنه استُكره على تركها فأبى إلا إخلادًا إليها! ونحو ذلك قال عمرو الكلبي وقد أنشد بعض أهل الأدب:
بَانَتْ نَعِيمَةُ وَالدُّنْيَا مُفَرِّقَةٌ وَحَالُ مَنْ دُونِهَا غَيْرَانُ مَزْعُوجُ
فقيل له: لا يقال مزعوج، إنما يقال مُزْعَجٌ، فجفا ذلك عليه، وقال يهجو النحويين:
مَاذَا لَقِينَا مِنَ الْمُسْتَعْرِبِينَ وَمِنْ قِيَاسِ نَحْوِهِمُ هَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوا
إِنْ قُلْتُ قَافِيَةً بِكْرًا يَكُونُ بِهَا بَيْتَ خِلَافِ الَّذِي قَاسَوْهُ أَوْ ذَرَعُوا
قَالُوا لَحَنْتَ وَهَذَا لَيْسَ مُنْتَصِبًا وَذَاكَ خَفْضٌ وَهَذَا لَيْسَ يَرْتَفِعُ
وَحَرَّضُوا بَيْنَ عَبْدِ اللهِ مِنْ حُمُقٍ وَبَيْنَ زَيْدٍ فَطَالَ الضَّرْبُ وَالْوَجَعُ
كَمْ بَيْنَ قَوْمٍ قَدِ احْتَالُوا لِمَنْطِقِهِمْ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَلَى إِعْرَابِهِمْ طُبِعُوا
مَا كُلُّ قَوْلِيَ مَشْرُوحًا لَكُمْ فَخُذُوا مَا تَعْرِفُونَ وَمَا لَمْ تَعْرِفُوا فَدَعُوا
لِأَنَّ أَرْضِيَ أَرْضٌ لَا تُشَبُّ بِهَا نَارُ الْمَجُوسِ وَلَا تُبْنَى بِهَا الْبِيَعُ
قال ابن جني: وعلى نحو ذلك فحضرني قديمًا بالموصل أعرابي عقيلي جوثِيٌّ تميميٌّ، يقال له محمد بن العَسَّاف الشَّجري، وقلما رأيت بدويًّا أفصح منه، فقلت له يومًا — شَغفًا بفصاحته والتذاذًا بمطاولته، وجريًا على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زَنْدِ فِطنته: كيف تقول: «أكرم أخوك أباك» فقال كذاك، فقلت له: أفتقول: «أكرم أخوك أبوك» فقال: لا أقول «أبوك» أبدًا فقلت: فكيف تقول: «أكرمني أبوك» فقال كذاك، قلت: ألست تزعمُ أنك لا تقول «أبوك» أبدًا؟ فقال «إيش هذا؟ اختلفت جهتا الكلام» فهل قوله اختلفت جهتا الكلام. إلا كقولنا نحن هو الآن فاعل وكان في الأول مفعولًا! فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تقطع به عبارتهم.
أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ: «ولا الليلُ سابقٌ النهارَ» فقلت له: ما أردت؟ قال: أردت سابقَ النهار، فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأفصح، ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء؛ أحدها: أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم، والثاني: أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نص أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال: «أردت كذا» وهو خلاف ما لفظ به، والثالث: أنهم قد ينطقون بالشيء وغيره أقوى منه استلانة وتخفيفًا، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزنَ؛ أي أقوى وأعربَ.
قال ابن جنِّي: وسألت الشجري صاحبنا، هذا الذي قد مضى ذكره، قلت له: كيف يا أبا عبد الله تقول: «اليوم كان زيد قائمًا؟» فقال: كذلك، فقلت: فكيف نقول: «اليوم إن زيدًا قائم؟» فأباها البتة، وذلك أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها؛ لأنها إنما تأتي أبدًا مستقبلة قاطعة لما قبلها عما بعدها وما بعدها عما قبلها، قلت له يومًا ولابن عمٍّ له يقال له غصن — وكان أصغر منه سنًّا وألين لسانًا: كيف تحقران «حمراء» فقالا: حُميراء، قلت: فصفراء قالا: «صفيراء» قلت: «فسوداء» قالا: «سويداء» واستمررت بهما في نحو هذا، فلما استويا عليه دسست بين ذلك «عِلْباء» فقلت: «فعلباء» فأسرع ابن عمه على طريقته فقال: «عُليباء» وكان الشجري يقولها معه، فلما هم بفتح الباء استرجع مستنكرًا فقال إهْ «عُلَيْبَى» وأشم الفتحة دائمًا للحركة في الوقف، وتلك عادة …
قال ابن جني: فسألته يومًا: يا أبا عبد الله، كيف تجمع مُحرَنْجَمًا — وكان غرضي من ذلك أن أعلم ما يقوله: يكسِّر فيقول: حَراجم، أم يصححُ فيقول: محرنجماتٌ، فذهب هو مذهبًا غير ذين فقال: «وإيش فرقه حتى أجمعه؟» وَصَدَق، وذلك أن المحرنجم هو المجتمع: يقولها مارًّا على شكيمته غير مُحِسٍّ لما أريده منه والجماعة معي على غاية الاستغراب لفصاحته، قلت له: فدع هذا: إذا أنت مررت بإبل محرنجمةٍ وأخرى محرنجمةً، وأخرى محرنجمة. تقول: مررت بإبل ماذا؟ فقال — وقد أحس الموضع — «يا هذا هكذا أقول: مررت بإبل محرنجمات» وأقام على التصحيح البتة استيحاشًا من تكسير ذوات الأربعة لِمُصاقبتها ذوات الخمسة التي لا سبيل إلى تكسيرها لا سيما إذا كان فيها زيادة، والزيادة قد تُعتَدُّ في كثيرٍ من المواضيع اعتداد الأصول حتى إنها لتلزم لزومها نحو: كوكب، وحوشب،١٨ وضَيْوَنَ،١٩ وهَزَنَبَرَانَ،٢٠ ودودرى،٢١ وقرنفُل، وهذا موضعٌ يحتاج إلى إصغاء إليه وإرعاء عليه، والوقت لتلاحمه وتقارب أجزائه مانع منه، ويعين الله فيما يليه على المعتقد المنوي فيه بقدرته، وسألته يومًا كيف تجمع سرحانًا؟ فقال: سراحين، قلت: فدكانًا، قال: دكاكين قلت: فقُرطانًا، قال: قراطين، قلت: فعثمان، قال عثمانون، قلت: هلَّا قلت عثامين كما قلت سراحين وقراطين؟ فأباها البتة وقال: «إيش ذا؟ أرأيت إنسانًا يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبدًا.» استوحش من تكسير العلم إكثارًا له لا سيما وفيه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوز فيه فعالين نحو: سكران وغضبان …
ونكتفي بهذا المقدار من التعريف بأبي الفتح بن جني شارح المتنبي، وإذا أردت الزيادة والوقوف على فهرس مؤلفاته فارجع إلى معجم الأدباء ج١٢ طبعة فريد الرفاعي.
الواحدي
وهذا الإمام أبو الحسن عليُّ بن أحمد بن محمد بن عليٍّ الواحدي النيسابوري أحد شراح المتنبي هو — كما قال ياقوت وابن خلكان وغيرهما — الإمام المصنف المفسر النحوي أستاذ عصره، وواحد دهره، أنفق صباه، وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول على الأئمة، وطاف على أعلام الأمة، وتتلمذ لأبي الفضل العروضي،٢٢ وقرأ النحو على أبي الحسن الضرير القَهَندَزي، ولازم مجالس الثعلبي٢٣ في تحصيل التفسير … ثم أخذ في التصنيف، وقعد للإفادة والتدريس سنين، وتخرَّج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرءوا عليه، وبلغوا محل الإفادة، وكان حقيقًا بكل احترام وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرَائه على الأئمة المتقدمين وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بماضيهم. قال الحسن بن المظفر النيسابوري: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري هو الذي قيل فيه:
قَدْ جَمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ عَالِمُنَا الْمَعْرُوفُ بِالْوَاحِدِي
قال ومن غرر شعره:
أَيَا قَادِمًا مِنْ طُوسَ أَهْلًا وَمَرْحبًا بَقِيتَ عَلَى الْأَيَّامِ مَا هَبَّتِ الصَّبَا
لَعَمْرِي لَئِنْ أَحْيَا قُدُومُكَ مُدْنَفًا بِحُبِّكَ صَبًّا فِي هَوَاكَ مُعَذَّبَا
يَظَلُّ أَسِيرَ الْوَجْدِ نَهْبَ صَبَابَةٍ وَيُمْسِي عَلَى جَمْرِ الْغَضَا مُتَقَلِّبَا
فَكَمْ زَفْرَةٍ قَدْ هِجْتَهَا لَوْ زَفَرْتُهَا عَلَى سَدِّ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَمْسَى مُذَوَّبَا
وَكَمْ لَوْعَةٍ قَاسَيْتُ يَوْمَ تَرَكْتَنِي أُلَاحِظُ مِنْكَ الْبَدْرَ حِينَ تَغَيَّبَا
وَعَادَ النَّهَارُ الطَّلْقُ أَسْوَدَ مُظْلِمًا وَعَادَ سَنَا الْإِصْبَاحِ بَعْدَكَ غَيْهَبَا
وَأَصْبَحَ حُسْنُ الصَّبْرِ عَنِّيَ ظَاعِنًا وَحَدَّدَ نَحْوِي الْبَيْنُ نَابًا وَمِخْلَبَا
فَأُقْسِم لَوْ أَبْصَرْتَ طَرْفِيَ بَاكِيًا لَشَاهَدْتُ دَمْعًا بِالدِّمَاءِ مُخَضَّبَا
مَسَالِكُ لَهْوٍ سَدَّهَا الْوَجْدُ وَالْجَوَى وَرَوْضُ سُرُورٍ عَادَ بَعْدَكَ مُجْدِبَا
فِدَاؤُكَ رُوحِي يَا ابْنَ أَكْرَمِ وَالِدٍ وَيَا مَنْ فُؤَادِي غَيْرَ حُبِّيهِ قَدْ أَبَى
وأنشد له:
تَشَوَّهَتِ الدُّنْيَا وَأَبْدَتْ عَوَارَهَا وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالرَّحْبِ وَالسَّعَهْ
وَأَظْلَمَ فِي عَيْنِي ضِيَاءُ نَهَارِهَا لِتَوْدِيعِ مَنْ قَدْ بَانَ عَنِّي بِأَرْبَعَهْ
فُؤَادِي وَعَيْشِي وَالْمَسَرَّةُ وَالْكَرَى فَإِنْ عَادَ عَادَ الْكُلُّ وَالْأُنْسُ وَالدَّعَهْ
وقال أبو الحسن الواحدي في مقدمة البسيط: وأظنني لم آل جهدًا في أحكام أصول هذا العلم حسب ما يليق بزمننا هذا وتسَعُه سِنُو عُمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله — وله الحمد — حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مَظَانِّه، وأخذته من معادِنِه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي رحمه الله،٢٤ وكان قد خنق التسعين في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار، وقرأ عليهم وروى عنهم كأبي منصور الأزهري، روى عنه كتاب التهذيب وغيره من الكتب، وأدرك أبا العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي، وأبا نصر طاهر بن محمد الوزيري، وأبا الحسن الرُّخجي، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة، وسمع أبا العباس الأصم وروى عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على درسه عند غيبته، وله المصنفات الكبار والاستدراكات على الفحول من العلماء باللغة والنحو، وكنت قد لازمته سنين أدخُل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها، أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين واللغة حتى عابني شيخي — رحمه الله — يومًا وقال: إنك لم تُبقِ ديوانًا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي تأتيه البعداء من أقصى البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار — يعني الأستاذ الإمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي — فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب، لم أرم في غرض التفسير من كثب، ثم لم أُغِبَّ زيارته في يوم من الأيام حتى حال بيننا قدر الحِمام.
وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية وحقائقها، ولعله تفرس فيَّ، وتوسم الخير لديَّ، فتجرد لتخريجي، وصرف وكدَه إلى تأديبي، ولم يدخر عني شيئًا من مكنون ما عنده حتى استأثرني بأَفْلاذِه، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبًا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل، وخصني بكتابه الكبير في علل القراءة المرتبة في كتاب الغاية لابن مِهران، ثم ورد علينا الشيخ أبو عمران المغربي المالكي، وكان واحد دهره، وباقعة عصره، في علم النحو، لم يلحق أحد مما سمعناه شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة في مقامه عندنا حتى استنْزَفْت غرر ما عنده، وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي — رحمه الله — وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران، ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري، وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما، وأخذت من كل واحد منهما حظًّا وافرًا بعون الله وحسن توفيقه، وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي السفوي عنه٢٥ وقرأت عليه بلفظي كتاب الزَّجَّاج بحق روايته عن ابن مقسم عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير، ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي — رحمه الله — وكان خير العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء، بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بالكشف والبيان عن تفسير القرآن، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار.
فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وأصفَقَت عليه كافة الأمة على اختلاف نِحَلِهم، وأقرُّوا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وَصَحِبَه عَلِم أنه منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته؛ ليستدلَّ بها على أنه كان بحرًا لا يُنزَف، وغمرًا لا يُسْبَر، وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، منها: تفسيره الكبير وكتابه المعنون بالكامل في علم القرآن وغيرهما، ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطأتها طال الخطب ومَلَّ الناظرُ، وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب — أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه — مشتمل على ما نقمتُ على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارَّةً في صدره حتى يخرجه من ظلمة الرَّيب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمِّلُ مُرتاضًا في صنعة الأدب والنحو، مهتديًا بطرق الحِجَاج، مارحًا في سلوك المنهاج، فأما الجَذَع المُرخَى من المقتبسين، والرَّيِّض الكزُّ من المبتدئين، فإنَّه مع هذا الكتاب كمزاولٍ غلقًا ضاع عنه المفتاح، ومتخبط في ظلماء ليل خانَه المصباح:
يُحَاوِلُ فَتْقَ غَيْمٍ وَهْوَ يَأْبَى كَعِنِّينٍ يُرِيدُ نِكَاحَ بِكْرِ
ثُمَّ قال بعد كلام: إن هذا الكتاب عُجالة الوقت، وقبسَةُ العجلان، وتذكرة يستصحبها الرجل حيث حل وارتحل وإن أُنسِئَ الأجل، وأُرخِيَ الطوَلُ، وأنظرَني الليلُ والنهارُ، حتى يتلفع بالمشيب العِذارُ أردفته بكتاب أنضجه بنار الرَّوية، وأردده على رُواق الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته، ولطائف ما جمعته، وعلى الله المعول في تيسير ما رمتُ، وله الحمدُ كلما قعدت أو قمت.
ابن فورجه
قال ياقوت — ونقله السيوطي في بغية الوعاة: هو محمد بن حمد بن محمد بن عبد الله بن محمود بن فورجه — بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم — البروجرديُّ، أديب فاضل مصنف، له كتاب الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني، يرد فيه على أبي الفتح بن جني في شرح شعر المتنبي، ومولده في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاثمائة، كان موجودًا سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ومن شعره:
أَيُّهَا الْقَاتِلِي بِعَيْنَيْهِ رِفْقًا إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَا مَنْ قَلَاكَا
أَكْثَرَ اللَّائِمُونَ فِيكَ عِتَابِي أَنَا وَاللَّائِمُونَ فِيكَ فِدَاكَا
إِنَّ لِي غَيْرَةً عَلَيكَ مِنِ اسْمِي إِنَّهُ دَائِمًا يُقَبِّلُ فَاكَا
هذا وقد ضبطه ابن شاكر صاحب فوات الوفيات. هكذا: ابن فُوزَجَّه فقال: بضم الفاء وسكون الواو وفتح الزاي وتشديد الجيم.
ابن القطاع الصقلي
قال ابن خلكان: هو أبو القاسم علي بن جعفر … إلى آخر النسب قال: كان أحد أئمة الأدب خصوصًا اللغة، وله تصانيف نافعة منها كتاب الأفعال، أحسن فيه كل إحسان، وهو أجود من الأفعال لابن القوطية، وإن كان ذلك قد سبقه إليه، وله كتاب أبنية الأسماء، جمع فيه فأوعى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه وله عروض حسن جيد، وكتاب الدرة الخطيرة في المختار من شعر شعراء الجزيرة، وكتاب لمح الملح، جمع فيه خَلقًا من شعراء الأندلس، وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية، وقرأ الأدب على فضلائها كابن البر اللغوي وأمثاله، وأجاد في النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الرواية ومن شعره في ألْثغ:
وَشَادِنٍ فِي لِسَانِهِ عُقَدٌ حَلَّتْ عُقُودِي وَأَوْهَنَتْ جَلَدِي
عَابُوهُ جَهْلًا بِهَا فَقُلْتُ لَهُمْ أَمَا سَمِعْتُمُ بِالنَّفْثِ فِي الْعُقَدِ
وله من قصيدة:
فَلَا تُنْفِدَنَّ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الصِّبَا وَلَا تَشْقَيَنْ يَوْمًا بِسُعْدَى وَلَا نُعْمِ
وَلَا تَنْدُبَنْ أَطْلَالَ مَيَّةَ بِاللِّوَى وَلَا تَسْفَحَنْ مَاءَ الشُّئُونِ عَلَى رَسْمِ
فَإِنَّ قُصَارَى الْمَرْءِ إِدْرَاكُ حَاجَةٍ وَتَبْقَى مَذَمَّاتُ الْأَحَادِيثِ وَالْإِثْمِ
ومن شعره في غلام اسمه حمزة:
يَا مَنْ رَمَى النَّارَ فِي فُؤَادِي وَأَنْبَطَ الْعَيْنَ بِالْبُكَاءِ
اسْمُكَ تَصْحِيفُهُ بِقَلْبِي وَفِي ثَنَايَاكَ بُرْءُ دَائِي
ارْدُدْ سَلَامِي فَإِنَّ نَفْسِي لَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى الذِّمَاءِ
وَارْفُقْ بِصَبٍّ أَتَى ذَلِيلًا قَدْ مَزَجَ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ
أَنْهَكَهُ فِي الْهَوَى التَّجَنِّي فَصَارَ فِي رِقَّةِ الْهَوَاءِ
وله شعر كثير، وتوفي بمصر في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.
ابن الإفليلي
كان هذا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا بن مفرج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المعروف بابن الإفليلي٢٦ إمامًا من أئمة النحو واللغة، ترجمه ابن خلكان في بضعة أسطر، وذكره ابن بسام عرضًا كذلك، قال في بضعة أسطر لمناسبة تعرض ابن شهيد له في رسالة التوابع والزوابع إذ قال ابن شهيد: وأما أبو القاسم الإفليلي فإنه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل، على أنه متحامل علي، ومنتسب إليَّ … فقال ابن بسام نقلًا عن ابن حيان المؤرخ: كان ابن الإفليلي الذي به عرض قد بذَّ أهل زمانه بقرطبة في علم اللسان العربي والضبط لغريب اللغة في أشعار الجاهلية والإسلام والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيورًا على ما يحمل من ذلك الفنِّ كثير الحسد فيه، راكبًا رأسه في الخطأ البيِّن إذا أنشب فيه، يجادل عليه ولا يصرفه صارف عنه، وعَدِمَ علم العروض ومعرفته مع احتياجه إليه وكمال صناعته به، فلم يكن له رسوخ فيه، وكان لحق الفتنة البربرية وَمَضَى الناس من حائر وظاعن، فازدلف إلى الأمراء الكائنين بقرطبة من آل حمود إلى أن نال الجاه، واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي بعد ابن بُرْد، فوقع كلامه نائيًا عن البلاغة؛ لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلمين، فلم يَجْرِ في أساليب الكتاب المطبوعين، فزَهد فيه، وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة إلا شَرْحه ديوان المتنبي لا غير، ولحقته تهمة في دينه أيام هشام المرواني في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم والساسي والحمار وغيرهم، وطلب ابن الإفليلي وسجن بالمُطبِق، ثم أطلق … وقال ابن خلكان: كان متصدرًا بالأندلس لإقراء الأدب، وكان حافظًا للأشعار ذاكرًا للأخبار وأيام الناس، وكان عنده من أشعار أهل بلاده قطعة صالحة، وكان أشد الناس انتقادًا للكلام، صادق اللهجة، حسن المغيب، صافي الضمير، وكانت ولادته في شوال سنة ٣٥٢، وتوفي يوم السبت ١٣ ذي القعدة سنة ٤٤١، ودُفن في صحن مسجد خرب عند باب عامر بقرطبة.
الصاحب بن عباد
هو الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني. قال ابن خلكان: كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما، وقال أبو منصور الثعالبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر؛ لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجَهْدُ وَصْفى يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه … ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله.
وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درِّها، وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:
وَرِثَ الْوِزَارَةَ كَابِرًا عَنْ كَابِرِ مَوْصَولَةَ الْإِسْنَادِ بِالْإِسْنَادِ
يَرْوِي عَنِ الْعَبَّاسِ عَبَّادُ وِزَا رَتِهِ وَإِسْمَاعِيل عَنْ عَبَّادِ
وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء؛ لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي عَلَمًا عليه.
وذكر أبو إسحاق الصابي في كتاب التاجي: أنه إنما قيل له الصاحب؛ لأنه صحب مؤيد الدولة بن بويه منذ الصبا، وسماه الصاحب، فاستمر عليه هذا اللقب، واشتهر به، ثم سُمي به كل من ولي الوزارة بعده، وكان أولًا وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه الديلمي، تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بجرجان استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن علي فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلًا عنده ومعظمًا نافذ الأمر، وأنشده أبو القاسم الزعفراني يومًا أبياتًا نونية من جملتها:
أَيَا مَنْ عَطَايَاهُ تُهْدِي الْغِنَى إِلَى رَاحَتَيْ مَنْ نَأَى أَوْ دَنَا
كَسَوْتَ الْمُقِيمِينَ وَالزَّائِرِينَ كِسًى لَمْ نَخَلْ مِثْلَهَا مُمْكِنَا
وَحَاشِيَةُ الدَّارِ يَمْشُونَ فِي صُنُوفٍ مِنَ الْخَزِّ إِلَّا أَنَا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلًا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله — سبحانه وتعالى — خلق مركوبًا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخَزِّ بجبَّةٍ وقميص، وعمامة، ودُراعة، وسراويل، ومنديل، ومطرف، ورداء، وكساء، وجورب، وكيس، ولو علمنا لباسًا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكم، واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره ومدحوه بِغُررِ المدائح، وكان حسن الأجوبة رفع الضرابون من دار الضرب إليه رقعة في مظلمة مترجمة بالضرابين، فوقَّع تحتها: في حديد بارد. وكتب بعضهم إليه ورقة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه فوقع فيها: هذه بضاعتنا ردت إلينا. وحبس بعض عماله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يومًا فاطلع عليه فرآه، فناداه المحبوس بأعلى صوته: فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال الصاحب: اخْسَئُوا فيها ولا تكلمون، ونوادره كثيرة.
وصنف في اللغة كتابًا سماه المحيط وهو في سبعة مجلدات رتبه على حروف المعجم كثَّر فيه الألفاظ وقلَّل الشواهد، فاشتمل من اللغة على جزء متوفر، وكتاب الكافي في الرسائل، وكتاب الأعياد، وفضائل النيروز، وكتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — ويثبت إمامة من تقدمه، وكتاب الوزراء، وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، وكتاب أسماء الله تعالى وصفاته، وله رسائل بديعة ونظم جيد فمنه قوله:
وَشَادِنٍ جَمَالُهُ تَقْصُرُ عَنْهُ صِفَتِي
أَهْوَى لِتَقْبِيلِ يَدِي فَقُلْتُ قَبِّلْ شَفَتِي
وله في رقة الخمر:
رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَاقَتِ الْخَمْرُ وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ
وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي: أن نوح بن منصور أحد ملوك بني سامان كتب إليه ورقة في السر يستدعيه؛ ليفوضَ إليه وزارته، وتدبير أمر مملكته، فكان من جملة أعذاره إليه: أنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من التحمل؟ وأخباره كثيرة.
قال ابن خلكان: وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة بأصطخر وقيل بالطالقان، وتوفي ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة بالري، ثم نقل إلى أصبهان — رحمه الله تعالى — ودفن في قبة بمحلة تعرف بباب دزيه، وهي عامرة إلى الآن، وأولاد بنته يتعاهدونها بالتبييض.
قال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلًا يقول لي: لمَ لمْ تَرْث الصاحب مع فضلك وشعرك؟ فقلت: ألجَمَتْني كثرة محاسنه فلم أدرِ بما أبدأ منها؟ وقد خفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، فقلت: قل، فقال:
ثَوَى الْجُودُ وَالْكَافِي مَعًا في حُفَيْرَةٍ
فقلت:
لِيَأْنَسَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَخِيهِ
فقال:
هُمَا اصْطَحَبَا حَيَّيْنِ ثُمَّ تَعَانَقَا
فقلت:
ضَجِيعَيْنِ فِي لَحْدٍ بِبَابِ دَزِيهِ
فقال:
إِذَا ارْتَحَلَ الثَّاوُونَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِمْ
فقلت:
أَقَامَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِيهِ
ذكر هذا البيَّاسي في حماسته، ورأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب، فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة، وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس وقعد للعزاء أيامًا، ورثاه أبو سعيد الرستمي بقوله:
أَبَعْدَ ابْنِ عَبَّادٍ يَهَشُّ إِلَى السُّرَى أَخُو أَمَلٍ أَوْ يُسْتَمَاحُ جَوَادُ
أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يَمُوتَا بِمَوْتِهِ فَمَا لَهُمَا حَتَّى الْمَعَادِ مَعَادُ
وتوفي والده أبو الحسن عباد بن العباس في سنة أربع أو خمس وثلاثين وثلاثمائة — رحمه الله تعالى — وكان وزير ركن الدولة بن بويه، وهو والد فخر الدولة ووالد عضد الدولة فناخسرو ممدوح المتنبي، وتوفي فخر الدولة في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، ومولده في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، والطَّالقاني — بفتح الطاء المهملة وبعد الألف لام مفتوحة ثم قاف — وبعد الألف الثانية نون: هذه النسبة إلى الطالقان، وهو اسم لمدينتين؛ إحداهما بخراسان والأخرى من أعمال قزوين، والصاحب المذكور أصله من طالقان قزوين، لا طالقان خراسان.
أبو بكر الخوارزمي
هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي — وهو كما قال ابن خلكان — ابن أخت أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ — قال ابن خلكان: كان أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، وكان إمامًا في اللغة والأنساب أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان يشار إليه في عصره، ويحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد وهو بأرَّجان فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب على البابِ أحد الأدباء، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي فأذن له في الدخول، فدخل عليه فعرفه وانبسط له، وأبو بكر المذكور له ديوان رسائل وديوان شعر، وقد ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة، وذكر قطعة من نثره ثم أعقبها بشيء من نظمه فمن ذلك قوله:
رَأَيْتُكَ إِنْ أَيْسَرْتَ خَيَّمْتَ عِنْدَنَا مُقِيمًا وَإِنْ أَعْسَرْتَ زُرْتَ لمَامَا
فَمَا أَنْتَ إِلَّا الْبَدْرُ إِنْ قَلَّ ضَوْءُهُ أَغَبَّ وَإِنْ زَادَ الضِّيَاءُ أَقَامَا
ومن شعره أيضًا:
يَا مَنْ يُحَاوِلُ صِرْفَ الرَّاحِ يَشْرَبُهَا وَلَا يَفُكُّ لِمَا يَلْقَاهُ قِرْطَاسَا
الْكَاسُ وَالْكِيسُ لَمْ يَقْضِ امْتِلَاؤُهُمَا فَفَرِّغِ الْكِيسَ حَتَّى تَمْلَأَ الْكَاسَا
وفيه يقول أبو سعيد أحمد بن شهيب الخوارزمي:
أَبُو بَكْرٍ لَهُ أَدَبٌ وَفَضْلُ وَلَكِنْ لَا يَدُومُ عَلَى الْوَفَاءِ
مَوَدَّتُهُ إِذَا دَامَتْ لِخِلٍّ فَمِنْ وَقْتِ الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ
وملحه ونوادره كثيرة.
ولما رجع من الشام سكن نيسابور، ومات بها في منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه: أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وكان قد فارق الصاحب بن عباد غير راضٍ فعمل فيه:
لَا تَحْمَدَنَّ ابْنَ عَبَّادٍ وَإِنْ هَطَلَتْ يَدَاهُ بِالْجُودِ حَتَّى أَخْجَلَ الدِّيَمَا
فَإِنَّهُ خَطَرَاتٌ مِنْ وَسَاوِسِهِ يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمَا
فبلغ ابن عباد ذلك، فلما بلغه خبر موته أنشده:
أَقُولُ لِرَكْبٍ مِنْ خُرَاسَانَ قَافِلٍ أَمَاتَ خُوَارِزْمِيُّكُمْ قِيلَ لِي نَعَمْ
فَقُلْتُ اكْتُبُوا بِالْجَصِّ مِنْ فَوْقِ قَبْرِهِ أَلَا لَعَنَ الرَّحْمَنُ مَنْ كَفَرَ النِّعَمْ
العميدي «صاحب الإبانة عن سرقات المتنبي»
قال ياقوت: أبو سعيد محمد بن أحمد بن محمد العَمِيدي: أديب نحوي لغوي مصنف، سكن مصر.
قال أبو إسحاق الحبال: أبو سعيد العميدي: له أدبيات … مات يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، قال: وكان العميدي يتولى ديوان الترتيب، وعزل عنه — كما ذكر الروذباري — في سنة ثلاث عشرة في أيام الظاهر، ووليه ابن معشر، ثم تولى ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر، استخدم فيه عوضًا من ولي الدولة بن خبران الكاتب في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتولى الديوان بعده أبو الفرج الذهلي في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وأربعمائة. قال: وله تصانيف في الأدب، منها: كتاب تنقيح البلاغة في عشرة مجلدات، رأيته بدمشق في خزانة الملك المعظم وعليه خطه، وقد قرئ عليه في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائةٍ، وكتاب الإرشاد إلى حَلِّ المنظوم والهداية إلى نظم المنثور، وكتاب انتزاعات القرآن، وكتاب العروض، كتاب القوافي كبير.
قال علي بن مشرف: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمود بن الدليل الصواف بمصر قال: أنشدنا أبو سعيد محمد بن أحمد العميدي لنفسه:
إِذَا مَا ضَاقَ صَدْرِي لَمْ أَجِدْ لِي مَقَرَّ عِبَادَةٍ إِلَّا الْقَرَافَهْ
لَئِنْ لَمْ يَرْحَمِ الْمَوْلَى اجْتِهَادِي وَقِلَّةَ نَاصِرِي لَمْ أَلْقَ رَافَهْ
ابن وكيع
وهذا ابن وكيع هو — كما قال ابن خلكان والثعلبي — أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد الضبي، المعروف بابن وكيع التنيسي … شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعة تسحر الأوهام، وتستعبد الأفهام، وله ديوان شعر جيد، وله كتاب بيَّنَ فيه سرقات أبي الطيب، سماه المنصف، وكان في لسانه عجمة، ومن شعره:
سَلَا عَنْ حُبِّكَ الْقَلْبُ الْمَشُوق فَمَا يَصْبُو إِلَيْكَ وَلَا يَتُوق
جَفَاؤُكَ كَانَ عَنْكَ لَنَا عَزَاءً وَقَدْ يُسْلِي عَنِ الْوَلَدِ الْعُقُوق
وله أيضًا:
إِنْ كَانَ قَدْ بَعُدَ اللِّقَاءُ فَودُّنَا بَاقٍ وَنَحْنُ عَلَى النَّوَى أَحْبَابُ
كَمْ قَاطِعٍ لِلْوَصْلِ يُؤْمَنُ ودُّهُ وَمُوَاصِلٍ بِوِدَادِهِ يُرْتَابُ
وله أيضًا:
لَقَدْ شَمَتُّ بِقَلْبِي لَا فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ
كَمْ لُمْتُهُ فِي هَوَاهُ فَقَالَ لَا بُدَّ مِنْهُ
وقد ألمَّ بهذا المعنى بعضهم فقال:
لَا رَعَى اللهُ عَزْمَةً ضَمِنَتْ لِي سَلْوَةَ الْقَلْبِ وَالتَّصَبُّرَ عَنْهُ
مَا وَفَتْ غَيْرَ سَاعَةٍ ثُمَّ عَادَتْ مِثْلَ قَلْبِي تَقُولُ لَا بُدَّ مِنْهُ
ومثله قول أسامة بن منقذ:
لَا تَسْتَعِرْ جَلَدًا عَلَى هِجْرَانِهِمْ فَقُوَاكَ تَضْعُفُ عَنْ صُدُودٍ دَائِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَيْهِم طَوْعًا وَإِلَّا عُدْتَ عَوْدَةَ رَاغِمِ
وقال بعض الفقهاء: أنشدت الشيخ مرتضى الدين أبا الفتح نصر بن محمد بن مقلد القضاعي الشيزري المدرس كان بتربة الإمام الشافعي — رضي الله عنه — بالقرافة لابن وكيع المذكور:
لَقَدْ قَنعَتْ هِمَّتِي بِالْخُمُولِ وَصَدَّتْهُ عَنِ الرُّتَبِ الْعَالِيَهْ
وَمَا جَهِلَتْ طَعْمَ طِيبِ الْعُلَا وَلَكِنَّهَا تُؤْثِرُ الْعَافِيَهْ
فأنشدني لنفسه على البديهة:
بِقَدْرِ الصُّعُودِ يَكُونُ الْهُبُوطُ فَإِيَّاكَ وَالرُّتَبَ الْعَالِيَهْ
وَكُنْ فِي مَكَانٍ إِذَا مَا سَقَطْتَ تَقُومُ وَرِجْلَاكَ فِي الْعَافِيَهْ
ولابن وكيع أيضًا:
أَبْصَرَهُ عَاذِلِي عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَا رَآهُ
فَقَالَ لِي: لَوْ هَوِيتَ هَذَا مَا لَامَكَ النَّاسُ فِي هَوَاهُ
قُلْ لِي إِلَى مَنْ عَدَلْتَ عَنْهُ فَلَيْسَ أَهْلُ الْهَوَى سِوَاهُ
فَظَلَّ مِنْ حَيْثُ لَيْسَ يَدْرِي يَأْمُرُ بِالْحُبِّ مَنْ نَهَاهُ
قال ابن خلكان: وكنت أنشدت هذه الأبيات لصاحبنا الفقيه شهاب الدين محمد ولد الشيخ تقي الدين عبد المنعم المعروف بالخيمي، فأنشدني لنفسه في المعنى:
لَوْ رَأَى وَجْهَ حَبِيبِي عَاذِلِي لَتَفَاصَلْنَا عَلَى وَجْهٍ جَمِيلِ
وهذا البيت من جملة أبيات، ولقد أجاد فيه وأحسن في التورية، ولابن وكيع كل معنى حسن، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بمدينة تِنِّيس، ودفن في المقبرة الكبرى في القبة التي بنيت له بها رحمه الله تعالى.
ووكيع بفتح الواو وكسر الكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، وهو لقب جده أبي بكر محمد بن خلف، وكان نائبًا في الحكم بالأهواز لعبدان الجواليقي، وكان فاضلًا نبيلًا فصيحًا من أهل القرآن والفقه والنحو والسير وأيام الناس وأخبارهم، وله مصنفات كثيرة، فمنها: كتاب الطريق، وكتاب الشريف، وكتاب عدد آي القرآن والاختلاف فيه، وكتاب الرمي والنضال، وكتاب المكاييل والموازين … وغير ذلك، وله شعر كشعر العلماء، وتوفي يوم الأحد لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ستٍّ وثلاثمائة ببغداد.
وقال ابن قانع: توفي عبدان الأهوازي سنة سبع وثلاثمائة بعسكر مكرم رحمه الله تعالى؛ والتنيسي بكسر التاء المثناة من فوقها وكسر النون المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة نسبة إلى تنيس مدينة بديار مصر بالقرب من دمياط.
الخطيب التبريزي
هو أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي المعروف بالخطيب، قال ابن خلكان: كانت له معرفة تامة بالأدب، من النحو واللغة وغيرهما، قرأ على الشيخ أبي العلاء المعري، وأبي القاسم عبد الله بن علي الرقي، وأبي محمد الدهان اللغوي … وغيرهم من أهل الأدب، وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي، ومن أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الله بن يوسف الدلال الساوي البغدادي، وأبي القاسم عبد الله بن علي … وغيرهم، وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد، والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، وأبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأندلسي … وغيرهم من الأعيان، وتخرَّج عليه خلق كثير وتتلمذوا له، وذكره الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب الذيل وكتاب الأنساب وعدد فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ما كان بمَرْضِيِّ الطريقة، وذكر عنه أشياء. ثم قال: وذاكرت أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون فسكت عنه وكأنه ما أنكر ما قال، ولكن كان ثقة في اللغة وما كان ينقله.
وصنف في الأدب كتبًا كثيرة مفيدة: منها شرح الحماسة، وكتاب شرح ديوان المتنبي، وكتاب شرح سقط الزند وهو ديوان أبي العلاء المعري، وشرح المعلقات السبع، وشرح المفضليات، وله تهذيب غريب الحديث، وتهذيب إصلاح المنطق، وله في النحو مقدمات حسنة والمقصود منها أسرار الصنعة وهي عزيزة الوجود، وله كتاب الكافي في علم العروض والقوافي، وكتاب في إعراب القرآن، سماه الملخص، رأيته في أربعة مجلدات، وشروحه لكتاب الحماسة ثلاث أكبر وأوسط وأصغر، وله غير ذلك من التآليف، ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد، وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري: أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهري في عدة مجلدات لطاف، وأراد تحقيق ما فيها، وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري فجعل الكتاب في مخلاة، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوبًا فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل، وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب المذكور، وكان الخطيب قد دخل مصر في عنفوان شبابه فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات.
وكان يَرْوِي عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن محيريز البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك قوله على ما حكاه السمعاني في كتاب الذيل في ترجمة الخطيب، وهي من أشهر أشعاره:
خَلِيلَيَّ مَا أَحْلَى صَبُوحِي بِدَجْلَة وَأَطْيَبُ مِنْهُ بِالصرَاةِ غَبُوقِي
شَرِبْتُ عَلَى الْمَاءَيْنِ مِنْ مَاءِ كَرْمَةٍ فَكَانَا كَدُرٍّ ذَائِبٍ وَعَقِيقِ
عَلَى قَمَرَيْ أُفْقٍ وَأَرْضٍ تَقَابَلَا فَمِنْ شَائِقٍ حُلْوِ الْهَوَى وَمَشُوقِ
فَمَا زِلْتُ أَسْقِيهِ وَأَشْرَبُ رِيقَهُ وَمَا زَالَ يَسْقِينِي وَيَشْرَبُ رِيقِي
وَقُلْتُ لِبَدْرِ التَّمِّ تَعْرِفُ ذَا الْفَتَى فَقَالَ نَعَمْ هَذَا أَخِي وَشَقِيقِي
وهذه الأبيات من أملح الشعر وأطرفه، والبيت الأخير منها يستمد من معنى قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة الأندلسي في مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيليه من جملة قصيدة طويلة:
سَأَلْتُ أَخَاهُ الْبَحْرَ عَنْهُ فَقَالَ لِي شَقِيقِي إِلَّا أَنَّهُ السَّاكِنُ الْعَذْبُ
ما كفاه أنه جعله شقيق البحر حتى رجحهُ عليه فقال: الساكن العذب والبحر مضطرب مالح، وهذا من خالص المدح وأبدعه، وأول هذه القصيدة:
بَكَتْ عِنْدَ تَوْدِيعِي فَمَا عَلِمَ الرَّكْبُ أَذَاكَ سَقِيطُ الطَّلِّ أَمْ لُؤْلُؤٌ رَطْبُ
وَتَابَعَهَا سَرْبٌ وَإِنِّي لِمُخْطِئٌ نُجُومَ الدَّيَاجِي لَا يُقَالُ لَهَا سَرْبُ
وهي قصيدة طويلة، وللخطيب أيضًا:
فَمَنْ يَسْأَمْ مِنَ الْأَسْفَارِ يَوْمًا فَإِنِّي قَدْ سَئِمْتُ مِنَ الْمُقَامِ
أَقَمْنَا بِالْعِرَاقِ عَلَى رِجَالٍ لِئَامٍ يَنْتَمُونَ إِلَى لِئَامِ
وقال الخطيب: كتب إليَّ العميد الفياض:
قُلْ لِيَحْيَى بْنِ عَلِي وَالْأَقَاوِيلُ فُنُونْ
غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ مَنْ يَكـْ ـذِبُ فِيهَا وَيَخُونْ
أَنْتَ عَيْنُ الْفَضْلِ إِنْ مَدَّ إِلَى الْفَضْلِ عُيُونْ
أَنْتَ مَنْ عَزَّ بِهِ الْفَضـْ ـلُ وَقَدْ كَادَ يَهُونْ
فُقْتَ مَنْ كَانَ وَأَتْعَبـْ ـتَ لَعَمْرِي مَنْ يَكُونْ
قَدْ مَضَى فِيكَ قِرَانٌ وَمَضَى قَبْل قُرُونْ
وَإِذَا قِيسَ بِكَ الكُلُّ فَصَحْوٌ وَدُجُونْ
وَإِذَا فَتَّشَ عَنْهُمُ فَالْأَحَادِيثُ شُجُونْ
قَدْ سَمْعِنَا وَرَأَيْنَا فَسُهُولٌ وَحُزُونْ
وَوَزَنَّا بِكَ مَنْ كَا نَ فَقِيلٌ وَقُيُونْ
أَيْنَ شَيْبَان وَأَزْدٌ كُلُّ مَا زَالَ ظُنُونْ
إِنَّكَ الْأَصْلُ وَمَنْ دُو نَكَ فِي الْعِلْمِ غُصُونْ
إِنَّكَ الْبَحْرُ وَأَعْيَا نُ ذَوِي الْفَضْلِ عُيُونْ
لَيْسَ كَالسَّيْفِ وَإِنْ حَلَّ فِي الْحُكْمِ جُفُونْ
لَيْسَ كَالْقَدَحِ الْمُعَلَّى لَيْسَ كَالْبَيْتِ الْحَجُونْ
لَيْسَ كَالْجِدِّ وَإِنْ آ نَسَ هَزْلٌ وَمُجُونْ
لَيْسَ فِي الْحُسْنِ سَوَاء أَبَدًا بِيضٌ وَجُونْ
لَيْسَ كَالْأَبْكَارِ فِي اللُّطـ ـفِ وَإِنْ رَاقَتْكَ عُونْ
قُلْتُ لِلْحُسَّادِ كُونُوا كَيْفَ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونُوا
سَبَقَ الزَّائِدُ بِالْفَضْلِ فَعَزُّوا أَوْ فَهُونُوا
دُمْتَ مَا خَالَفَ فِي الْحَدِّ حَرَاكٌ وَسُكُونْ
وَتَلَقَّاكَ الْمُنَى مَا قَرَّ بِالطَّيْرِ الْوُكُونْ
إِنَّ وُدِّي لَكَ عَمَّا يَصِمُ الْوُدَّ مَصُونْ
لَيْسَ لِي فِيهِ ظُهُورٌ تَتَنَافَى أَوْ بُطُونْ
بَلْ لِقَلْبِي فِيكَ صَبٌّ بَالْمُصَافَاةِ يَكُونْ
غَلقَ الرَّهْنُ وَقَدْ تغـْ ـلَقُ فِي الْحُبِّ رُهُونْ
وَمِنَ النَّاسِ أَمِينٌ فِي هَوَاهُ وَخَئُونْ
وقال ابن الجواليقي: قال لنا شيخنا الخطيب أبو زكريا: فكتبت أنا إلى العميد الفياض المذكور هذه الأبيات:
قُلْ لِلْعَمِيدِ أَخِي الْعُلَا الْفَيَّاضِ أَنَا قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرِكَ الْفَيَّاضِ
شَرَّفَتَنِي وَرَفَعْتَ ذِكْرِي بِالَّذِي أَلْبَسْتَنِيهِ مِنَ الثَّنَا الْفَضْفَاضِ
أَلْبَسَتَنِي حُلَلَ الْقَرِيضِ تَفَضُّلًا فَرَفَلْتُ مِنْهَا فِي عُلًا وَرِيَاضِ
إِنِّي أَتَيْتُكَ بِالْحَصَى عَنْ لُؤْلُؤٍ أَبْرَزْتُهُ مِنْ خَاطِرٍ مُرْتَاضِ
وَبِخَاطِرِي عَنْ مِثْلِ ذَاكَ تَوَقُّفٌ مَا إِنْ يَكَادُ يَجُودُ بِالْأبْعَاضِ
الْعَارِضُ الْبَحْرُ الْغُطَامِطُ جَدْوَلٌ أَمْ دُرَّةٌ تَنْقَاسُ بِالرضْرَاضِ
يَا فَارِسَ النَّظْمِ الْمُرَصَّعِ جَوْهَرًا وَالنَّثْرِ يَكْشِفُ غُمَّةَ الْأَمْرَاضِ
يَرْمِي بِهِ الْغَرَضَ الْبَعِيدَ وَقَدْ غَدَا فِكْرِي يُقَصِّرُ عَنْ مَدَى الْأَغْرَاضِ
لَا تُلْزِمَنِّي مِنْ ثَنَائِكَ مُوْجِبًا حَقًّا فَلَسْت لِحَقِّهِ بِالْقَاضِي
فَلَقَدْ عَجَزْتُ عَنِ الْقَرِيضِ وَرُبَّمَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ أَيَّمَا إِعْرَاضِ
أَنْعِمْ عَلَيَّ بِبَسْطِ عُذْرِيَ إِنَّنِي أَقْرَرْتُ عِنْدَ نَدَاكَ بِالْإِنْفَاضِ
وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز — رحمه الله تعالى — وبسطام بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم.
العكبري
أما الإمام العُكبَرِي فهو أبو البقاء عبد الله بن أبي عبد الله الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الأصل البغدادي المولد والدار الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير الملقب محب الدين، أخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وعن غيره من مشايخ عصره ببغداد، وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن البطي ومن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغيرهما، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه، وكان الغالب عليه علم النحو، وصنف فيه مصنفات مفيدة، وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وديوان المتنبي، وله كتاب إعراب القرآن الكريم في مجلدين، وكتاب إغراب الحديث لطيف، وكتاب شرح اللُّمع لابن جِنِّي، وكتاب اللباب في علل النحو، وكتاب إعراب شعر الحماسة، وشرح المفصَّل للزمخشري شرحًا مستوفى، وشرح الخطب النُّباتِية والمقامات الحريرية، وصنف في النحو والحساب، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد وهو حي وبعُدَ صيته، وكانت ولادته سنة ثمانٍ وثلاثين وخمسمائة، وتوفي ليلة الأحد ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه الله تعالى.
والعكبري بضم العين المهملة وسكون الكاف وفتح الباء الموحدة وبعدها راء، هذه النسبة إلى عُكْبَرا وهي بليدة على دجلة فوق بغداد بعشرة فراسخ، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم.
ابن الشجري
هو الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي. قال ابن خلكان: كان إمامًا في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها كامل الفضائل متضلعًا من الأدب صنَّف فيه عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب الأمالي، وهو أكبر تآليفه وأكثرها إفادة أملاه في أربعة وثمانين مجلسًا، وهو يشتمل على فؤاد جمة من فنون الأدب، وختمه بمجلس قَصَرَه على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم عليها، وذكر ما قاله الشراح فيها، وزاد من عنده ما سنَحَ له، وهو من الكتب الممتعة، ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبد الله المعروف بابن الخشاب والتمس فيه سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه وردَّ عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الردِّ فردَّ عليه في رده وبين وجوه غلطه وجمعه كتابًا وسماه الانتصار، وهو على صغر حجمه مفيد جدًّا وسمعه عليه الناس، وجمع أيضًا كتابًا سماه الحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي، وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف: ما اتفق لفظه واختلف معناه، وشرح اللمع لابن جني، وشرح التصريف الملوكي، وكان حسن الكلام حلو الألفاظ فصيحًا جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد القاسم الصيرفي، وأبي علي محمد بن سعيد بن شهاب الكاتب وغيرهما، وذكره الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب الذيل وقال: اجتمعنا في دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئًا من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه، وقرأت عليه جزءًا من أمالي أبي العباس ثعلب النحوي.
وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي في كتابه الذي سماه مناقب الأدباء: أن العلامة أبا القاسم محمودًا الزمخشري لما قدم بغداد قاصدًا الحج في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري فمضينا معه إليه فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي:
وَأَسْتَكْبِرُ الْأَخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا صَغَّرَ الْخَبَرَ الْخُبْرُ
ثم أنشده بعد ذلك:
كَانَتْ مُسَاءَلَةُ الرُّكْبَانِ تُخْبِرُنَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاح أَحْسَنَ الْخَبَرِ
ثُمَّ الْتَقَيْنَا فَلَا وَاللهِ مَا سَمِعَتْ أُذُنِي بِأَحْسَنَ مِمَّا قَدْ رَأَى بَصَرِي
وهذان البيتان منسوبان إلى أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي، وينسبان إلى غيره أيضًا؛ قال ابن الأنباري: فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي ﷺ أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له: «يا زيد ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون ما وصف لي، غيرك.» قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل أعجمي؟ وكان ابن الشجري نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر وله شعر حسن، فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي بن محمد بن جهير وأولها:
هَذِي السديرَةُ وَالْغَدِيرُ الطَّافِحُ فَاحْفَظْ فُؤَادَكَ إِنَّنِي لَكَ نَاصِحُ
يَا سِدْرَةَ الْوَادِي الَّذِي إِنْ ضَلَّهُ الـ ـسَّارِي هَدَاهُ نَشْرُهُ الْمُتَفَاوِحُ
هَلْ عَائِدٌ قَبْلَ الْمَمَاتِ لِمُغْرَمٍ عَيْشٌ تَقَضَّى فِي ظِلَالِكَ صَالِحُ
مَا أَنْصَفَ الرَّشَأُ الضَّنِينُ بِنَظْرَةٍ لَمَّا دَعَا مُضْنَى الصَّبَابَةِ طَامِحُ
شَطَّ الْمَزَارُ بِهِ وَبُوِّئَ مَنْزِلًا بِصَمِيمِ قَلْبِكَ فَهْوَ دَانٍ نَازِحُ
غُصْنٌ يُعَطِّفُهُ النَّسِيمُ وَفَوْقَهُ قَمَرٌ يَحُفُّ بِهِ ظَلَامٌ جَانِحُ
وَإِذَا الْعُيُونُ تَسَاهَمَتْهُ لِحَاظُهَا لَمْ يَرْوِ مِنْهُ النَّاظِرُ الْمُتَرَوِاحُ
وَلَقَدْ مَرَرْنَا بِالْعَقِيقِ فَشَاقَنَا فِيهِ مَرَاتِعُ لِلْمَهَا وَمَسَارِحُ
ظَللْنَا بِهِ نَبْكِي فَكَمْ مِنْ مُضْمَرٍ وَجْدًا أَذَاعَ هَوَاهُ دَمْعٌ سَافِحُ
بَرَتِ السُّنُونُ رُسُومَهَا فَكَأَنَّمَا تِلْكَ الْعِرَاصُ الْمُقْفِرَاتُ نَوَاضِحُ
يَا صَاحِبَيَّ تَأَمَّلَا حُيِّيتُمَا وَسَقَى دِيَارَكُمَا الْمُلِثُّ الرَّائِحُ
أَدُمًى بَدَتْ لِعُيُونِنَا أَمْ رَبْرَبٌ أَمْ خُرَّدٌ أَكْفَالُهُنَّ رَوَاجِحُ
أَمْ هَذِهِ مُقَلُ الصَّوَارِ رَنَتْ لَنَا خِلَلَ الْبَرَاقِعِ أَمْ قَنًا وَصَفَائِحُ
لَمْ يَبْقَ جَارِحَةٌ وَقَدْ وَاجَهْنَنَا إِلَّا وَهُنَّ لَهَا بِهِنَّ جَوَارِحُ
كَيْفَ ارْتِجَاعُ الْقَلْبِ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى وَمِنَ الشَّقَاوَةِ أَنْ يُرَاضَ الْقَارِحُ
لَوْ بَلَّهُ مِنْ مَاءِ ضَارِجِ شَرْبَةٍ مَا أَثَّرَتْ لِلْوَجْدِ فِيهِ لَوَاقِحُ
ومن ها هنا يخرج إلى المديح فأضربت عنه خوف الإطالة، ولم يكن المقصود إلا إثبات شيء من نظمه؛ لتستدل به على طريقته فيه، ومن شعره أيضًا:
هَلِ الْوَجْدُ خَافٍ وَالدُّمُوعُ شُهُودُ وَهَلْ مُكَذِّبٌ قَوْلَ الْوُشَاةِ جُحُودُ
وَحَتَّى مَتَى تُفْنِي شُئُونَكَ بِالْبُكَا وَقَدْ حَدَّ حَدًّا لِلْبُكَاءِ لَبِيدُ
وَإِنِّي وَإِنْ خَفَّتْ قَنَاتِيَ كبْرَةً لَذُو مِرَّةٍ فِي النَّائِبَاتِ جَلِيدُ
وفيه إشارة إلى أبيات لبيد بن ربيعة العامري، وهي:
تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشُ أَبُوهُمَا وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
فَقُومَا فَنُوحَا بِالَّذِي تَعْلَمَانِهِ وَلَا تَخْمِشَا وَجْهًا وَلَا تَحْلِقَا شَعَرْ
وَقُولَا هُوَ الْمَرْءُ الَّذِي لَا صَدِيقَهُ أَضَاعَ وَلَا خَانَ الْعُهُودَ وَلَا غَدَرْ
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
وإلى هذا أشار أبو تمام الطائي بقوله:
ظَعَنُوا فَكَانَ بُكَاءُ حَوْلٍ بَعْدَهُمْ ثُمَّ ارْعَوَيْتُ وَذَاكَ حُكْمُ لَبِيدِ
وقال الشريف أبو السعادات المذكور، أنشدني أبو إسماعيل الحسين الطغرائي لنفسه:
إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ مَلِكًا مُطَاعًا فَكُنْ عَبْدًا لِمَالِكِهِ مُطِيعَا
وَإِنْ لَمْ تَمْلِكِ الدُّنْيَا جَمِيعًا كَمَا تَهْوَاهُ فَاتْرُكْهَا جَمِيعَا
هُمَا سَبَبَانِ مِنْ مُلْكٍ وَتَرْكٍ يُنِيلَانِ الْفَتَى الشَّرَفَ الرَّفِيعَا
فَمَنْ يَقْنَعْ مِنَ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ سِوَى هَذَيْنِ عَاشَ بِهَا وَضِيعَا
وكان بين أبي السعادات المذكور وبين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن حكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور تنافس جرت العادة بمثله بين أهل الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه قوله:
يَا سَيِّدِي وَالَّذِي يُعِيذُكَ مِنْ نَظْمِ قَرِيضٍ يَصْدَا بِهِ الْفِكْرُ
مَا لَكَ مِنْ جَدِّكَ النَّبِيِّ سِوَى أَنَّكَ مَا يَنْبَغِي لَكَ الشِّعْرُ
وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد، رحمه الله تعالى.
والشجري بفتح الشين المعجمة والجيم وبعدها راء: هذه النسبة إلى شجرة، وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وشجرة أيضًا اسم رجل قد سمَّت به العرب ومن بعدها، وقد انتسب إليه خلق كثير من العلماء وغيرهم، ولا أدري إلى من ينتسب الشريف المذكور منهما، هل هو نسبة إلى القرية أم إلى أحد أجداده كان اسمه شجرة؟ والله أعلم.
القاضي الجرجاني
هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، قال ياقوت: كان أريبًا أديبًا كاملًا، مات بالرَّيِّ يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وهو قاضي القضاة بالري حينئذ، وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال: ورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة مع أخيه أبي بكر، وأخوه إذ ذاك فقيهٌ مناظر، وأبو الحسن قد ناهز الحُلُم، فسمعا معًا الحديث الكبير، ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذُكِرَ في الدنيا،٢٧ وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وحضر جنازته الوزير الخطير أبو علي القاسم بن علي بن القاسم وزير مجد الدولة، وأبو الفضل العارض، راجِلين، ووقع الاختيار بعد موته على أبي موسى عيسى بن أحمد الديلمي، فاستدعي من قزوين وولي قضاء القضاة بالري، وله يقول الصاحب بن عباد، وقد أنشأ عهدًا للقاضي عبد الجبار على قاضي الري:
إِذَا نَحْنُ سَلَّمْنَا لَكَ الْعِلْمَ كُلَّهُ فَدَعْنَا وَهَذِي الْكُتْبَ نُحْسِنْ صُدُورَهَا
فَإِنَّهُمُ لَا يَرْتَضُونَ مَجِيئَنَا بِجَزَعٍ إِذَا نَظَّمْتَ أَنْتَ شُذُورَهَا٢٨
وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به٢٩ وشمخ بأنفه بالانتماء إليه، وطوف في صباه البلاد وخالط العباد، واقتبس العلوم والآداب، ولقي مشايخ وقته وعلماء عصره، وله رسائل مدونة، وأشعار مُفنَّنَة، وكان جيد الخط مليحًا يشبه بخط ابن مقلة، ومن شعره:
أَفْدِي الَّذِي قَالَ وَفِي كَفِّهِ مِثْلُ الَّذِي أَشْرَبُ مِنْ فِيهِ
الْوَرْدُ قَدْ أَيْنَعَ فِي وَجْنَتِي قُلْتُ: فَمِي بِاللَّثْمِ يَجْنِيهِ
ومنه:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٍ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلًا فِي مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أَكْرَمَا
وَمَا زِلْتُ مُنْحَازًا بِعِرْضِيَ جَانِبًا مِنَ الذَّمِّ أَعْتَدُّ الصِّيَانَةَ مَغْنَمَا
إِذَا قِيلَ هَذَا مَشْرَبٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي وَلَا كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِيَ سُلَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً؟ إِذَنْ فَابْتِيَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ تَعَظَّمَا
وَلَكِنْ أَذَلوهُ جَهَارًا وَدَنَّسُوا مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
ومنه:
وَقَالُوا: اضْطَرِبْ فِي الْأَرْضِ فَالرِّزْقُ وَاسِعُ فَقُلْتُ: وَلَكِنْ مَطْلَبُ الرِّزْقِ ضَيِّقُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ حُرٌّ يُعِينُنِي وَلَمْ يَكُ لِي كَسْبٌ فَمِنْ أَيْنَ أُرْزَقُ؟
ومنه:
أُحِبُّ اسْمَهُ مِنْ أَجْلِهِ وَسَمِيَّهُ وَيَتْبَعُهُ فِي كُلِّ أَخْلَاقِهِ قَلْبِي
وَيَجْتَازُ بِالْقَوْمِ الْعِدَا فَأُحِبُّهُمْ وَكُلُّهُمْ طَاوِي الضِّمِيرِ عَلَى حَرْبِي
ومنه:
قَدْ بَرَّحَ الشَّوقُ بِمُشْتَاقِكْ فَأَوْلِهِ أَحْسَنَ أَخْلَاقِكْ
لَا تَجْفُهُ وَارْعَ لَهُ حَقَّهُ فَإِنَّهُ خَاتَمُ عُشَّاقِكْ
وللقاضي عدة تصانيف منها: كتاب تفسير القرآن المجيد، كتاب تهذيب التاريخ، كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وفي هذا الكتاب يقول بعض أهل نيسابور:
أَيَا قَاضِيًا قَدْ دَنَتْ كُتْبُه وَإِنْ أَصْبَحَتْ دَارُهُ شَاحِطَهْ
كِتَابُ الْوَسَاطَةِ فِي حُسْنِهِ لِعِقْدِ مَعَالِيكَ كَالْوَاسِطَهْ
ومن شعره:
وَمَا تَطَعَّمْتُ لَذَّةَ الْعَيْشِ حَتَّى صِرْتُ لِلْبَيْتِ وَالْكِتَابِ جَلِيسَا
لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ عِنْدِي مِنَ الْعِلـْ ـمِ فَلَمْ أَبْتَغِي سِوَاهُ أَنِيسَا!
إِنَّمَا الذُّلُّ فِي مُخَالَطَةِ النَّا سِ فَدَعْهُمْ وَعِشْ عَزِيزًا رَئِيسَا
ومن سائر شعره قوله:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا عَلَيْكَ وَإِنْظَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ فَكُلُّ مَنُوعٍ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ
وحدث الثعالبي عن أبي نصر التهذيبي قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يومًا من دار الصاحب وذلك قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يَا أَيُّهَا الْقَاضِي الَّذِي نَفْسِي لَهُ مَعَ قُرْبِ عَهْدِ لِقَائِهِ مُشْتَاقَهْ
أَهْدَيْتُ عِطْرًا مِثْلَ طِيبِ ثَنَائِهِ فَكَأَنَّمَا أُهْدِي لَهُ أَخْلَاقَهْ
قال وسمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه لي بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يومًا من فرط تحفيه بي وتواضعه لي؛ فأنشدني:
أَكْرِمْ أَخَاكَ بِأَرْضِ مَوْلِدِهِ وَأَمِدَّهُ مِنْ فِعْلِكَ الْحَسَنِ
فَالْعِزُّ مَطْلُوبٌ وَمُلْتَمَسٌ وَأَعَزُّهُ مَا نِيلَ فِي الْوَطَنِ
ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وَشَيَّدْتُ مَجْدِي بَيْنَ قَوْمِي فَلَمْ أَقُلْ أَلَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ صَنِيعِي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ قال الثعالبي: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز، حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري: وينظم عقد الإتقان، والإحسان في كل ما يتعاطاه، «وأنشد بيت الصاحب المقدم ذكره» وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلماء عَلَمًا، وفي الكمال عالمًا، ثم عرج على حضرة الصاحب فألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلًّا بعيدًا في رفعته، قريبًا في أسرته، وسير فيه قصائد أخلصت على قَصْد، وفرائد أتت من فردٍ، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل، وتقلد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته، من الولاية والعُطْلة، وترقى محله إلى قضاء القضاة بالري، فلم يعزله إلا موته، رحمه الله تعالى.
وعرض عليٌّ أبو نصر المصعبي كتابًا للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب، في معنى القاضي أبي الحسن نسخته بعد التصيد والتشبيب: قد تقدم من وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش — دام علوه — من كتبي ما أعلم أني لم أؤَدِّ فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل، وتكشف عن أنَّه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني: فالموقع الذي تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي ألا يفارقني مقيمًا وظاعنًا ومسافرًا وقاطنًا، وقد احتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام. فطالبني مكانه بتعريف الأمير مصدره ومورده؛ فإن عنَّ له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد من فضله؛ ليتعجل انكفاؤه إليَّ بما رسم — أدام الله أيامه — من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بَذْرَقةٍ٣٠ إن احتاج إلى الاستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق بتعرف النهج فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده فإني ما غاب كالمضلِّ الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي، عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، فأحسن وأبدع، وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب، وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ، وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح.
وقال فيه بعض النيسابوريين البيتين المقدم ذكرهما، ومن شعره:
اُنْثُرْ عَلَى خَدِّيَ مِنْ وَرْدِكْ أَوْدَعْ فَمَنْ يَقْطِفْهُ مِنْ خَدِّكْ
اِرْحَمْ قَضِيبَ الْبَانِ وَارْفُقْ بِهِ قَدْ خِفْتُ أَنْ يَنْقَدَّ مِنْ قَدِّكْ
وَقُلْ لِعَيْنَيْكَ، بِنَفْسِي هُمَا يُخَفِّفَانِ السُّقْمَ عَنْ عَبْدِكْ
وله:
وَفَارَقْتُ حَتَّى مَا أُسرُّ بِمَنْ دَنَا مَخَافَةَ نَأْيٍ أَوْ حِذَارَ صُدُودِ
فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَقُولُ لِمُقْلَتِي وَقَدْ قَربوا — خَوْفَ التَّبَاعُدِ — جُودِي
فَلَيْسَ قَرِيبًا مَنْ يُخَافُ بِعَادُهُ وَلَا مَنْ يُرَجَّى قُرْبُهُ بِبَعِيدِ
وله يستطرد:
مَنْ عَاذِرِي مِنْ زَمَنٍ ظَالِمِ لَيْسَ بِمُسْتَحْيٍ وَلَا رَاحِمِ؟
يَفْعَلُ بِالْإِخْوَانِ أَحْدَاثَهُ فِعْلَ الْهَوَى بِالدَّنِفِ الْهَائِمِ
كَأَنَّمَا أَصْبَحَ يَرْمِيهِمُ عَنْ جَفْنِ مَوْلَايَ أَبِي الْقَاسِمِ
وقال يذكر بغداد ويتشوقها:
يَا نَسِيمَ الْجَنُوبِ بِاللهِ بَلِّغْ مَا يَقُولُ الْمُتَيَّمُ الْمُسْتَهَامُ
قُلْ لِأَحْبَابِهِ فِدَاكُمْ فُؤَادٌ لَيْسَ يَسْلُو وَمُقْلَةٌ لَا تَنَامُ
بِنْتُمْ فَالرُّقَادُ عِنْدِي سُهَادٌ مُذْ نَأَيْتُمْ وَالْعَيْشُ عِنْدِي لِمَامُ
فَعَلَى الْكَرْخِ فَالْقَطِيعَةِ فَالشَّطِّ فَبَابِ الشَّعِيرِ مِنِّي السَّلَامُ
يَا دِيَارَ السُّرُورِ لَا زَالَ يَبْكِي بِكَ فِي مَضْحَكِ الرِّيَاضِ غَمَامُ
رُبَّ عَيْشٍ صَحِبْتُهُ فِيكَ غَضٍّ وَجُفُونِ الْخُطُوبِ عَنِّي نِيَامُ
فِي لَيَالٍ كَأَنَّهُنَّ أَمَانٌ مِنَ زَمَانٍ كَأَنَّهُ أَحْلَامُ
وَكَأَنَّ الْأَوْقَاتَ فِيهَا كُئُوسٌ دَائِرَاتٌ وَأُنْسُهُنَّ مُدَامُ
زَمَنٌ مُسْعِدٌ وَإِلْفٌ وَصُولُ وَمُنًى يَسْتَلِذُّهَا الْأَوْهَامُ
كُلُّ أُنْسٍ وَلَذَّةٍ وَسُرُورٍ بَعْدَمَا بِنْتُمْ عَلَيَّ حَرَامُ
وله في ذلك:
سَقَى جَانِبَيْ بَغْدَادَ أَخْلَافُ مُزْنَةٍ تُحَاكِي دُمُوعِي صَوْبَهَا وَانْحِدَارَهَا
فَلِي مِنْهُمَا قَلْبٌ شَجَانِي اشْتِيَاقُهُ وَمُهْجَةُ نَفْسٍ مَا أَمَلُّ ادِّكَارَهَا
سَأَغْفِرُ لِلْأَيَّامِ كُلَّ عَظِيمَةٍ لَئِنْ قَربتْ بَعْدَ الْبعَادِ مَزارها
وله في ذلك:
أَرَاجِعَةٌ تِلْكَ اللَّيَالِي كَعَهْدِهَا إِلَى الْوَصْلِ أَمْ لَا يُرْتَجَى لِي رُجُوعُهَا؟
وَصُحْبَةُ أَحْبَابٍ لَبِسْتُ لِفَقْدِهِمْ ثِيَابَ حِدَادٍ يُسْتَجَدُّ خَلِيعُهَا
إِذَا لَاحَ لِي مِنْ نَحْوِ بَغْدَادَ بَارِقٌ تَجَافَتْ جُفُونِي وَاسْتُطِيرَ هُجُوعُهَا!
وَإِنْ أَخْلَفَتْهَا الْغَادِيَاتُ رُعُودَهَا تَكَلَّفَ تَصْدِيقَ الْغَمَامِ دُمُوعُهَا
سَقَى جَانِبَيْ بَغْدَادَ كُلُّ غَمَامَةٍ يُحَاكِي دُمُوعَ الْمُسْتَهَامِ هُمُوعُهَا
مَعَاهِدَ مِنْ غِزْلَانِ أُنْسٍ تَحَالَفَتْ لَوَاحِظُهَا أَلَّا يُدَاوَى صَرِيعُهَا
بِهَا تَسْكُنُ النَّفْسُ النَّفُورُ وَيَغْتَدِي بِآنَسَ مِنْ قَلْبِ الْمُقِيمِ نَزِيعُهَا
يَحِنُّ إِلَيْهَا كُلُّ قَلْبٍ كَأَنَّمَا يُشَادُ بِحَبَّاتِ الْقُلُوبِ رُبُوعُهَا
فَكُلُّ لَيَالِي عَيْشِهَا زَمَنُ الصِّبَا وَكُلُّ فُصُولِ الدَّهْرِ فِيهَا رَبِيعُهَا
وله في ذلك:
بِجَانِبِ الْكَرْخِ مِنْ بَغْدَادَ لِي سَكَنٌ لَوْلَا التَّحَمُّلُ لَمْ أَنْفَكَّ أَنْدُبُهُ
وَصَاحِبٌ مَا صَحِبْتُ الصَّبْرَ مُذْ بَعُدَتْ دِيَارُهُ وَأرَانِي لَسْتُ أَصْحَبُهُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ لِعَيْنِي مَا يُؤَرِّقُهَا مِنْ ذِكْرِهِ وَلِقَلْبِي مَا يُعَذِّبُهُ
مَا زَالَ يُبْعِدُنِي عَنْهُ وَأَتْبَعُهُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ظُلْمِي وَأَعْتِبُهُ
حَتَّى أَوَتْ لِيَ النَّوَى مِنْ طُولِ جَفْوَتِهِ وَسَهَّلَتْ لِي سَبِيلًا كُنْتُ أَرْهَبُهُ
وَمَا الْبِعَادُ دَهَانِي بَلْ خَلَائِقُهُ وَلَا الْفِرَاقُ شَجَانِي بَلْ تَجَنُّبُهُ
وله في التخلص:
أَوَمَا انْثَنَيْتَ عَنِ الْوَدَاعِ بِلَوْعَةٍ مَلَأَتْ حَشَاكَ صَبَابَةً وَغَلِيلَا؟
وَمَدَامِعٍ تَجْرِي فَتَحْسَبُ أَنَّ فِي آمَاقِهِنَّ بَنَانَ إِسْمَاعِيلَا
وله من قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
وَلَمَّا تَدَاعَتْ لِلْغُرُوبِ شُمُوسُهُمْ وَقُمْنَا لِتَوْدِيعِ الْفَرِيقِ الْمُغَرِّبِ
تَلَقَّيْنَ أَطْرَافَ السُّجُوفِ بِمُشْرِقٍ لَهُنَّ وَأَعْطَافَ الْخُدُورِ بِمُغْرِبِ
فَمَا سِرْنَ إِلَّا بَيْنَ دَمْعٍ مُضَيَّعٍ وَلَا قُمْنَ إِلَّا بَيْنَ قَلْبٍ مُعَذَّبِ
كَأَنَّ فُؤَادِي قِرْنُ قَابُوسَ رَاعَهُ تُلَاعِبُهُ بِالْفَيْلَقِ الْمُتَنَاشِبِ
وله في الصاحب من قصيدة:
وَمَا بَالُ هَذَا الدَّهْرِ يَطْوِي جَوَانِحِي عَلَى نَفْسِ مَحْزُونٍ وَقَلْبِ كَئِيبِ
تَقَسَّمُنِي الْأَيَّامُ قِسْمَةَ جَائِرٍ عَلَى نَضْرَةٍ مِنْ حَالِهَا وَشُحُوبِ
كَأَنِّيَ فِي كَفِّ الْوَزِيرِ رَغِيبَةٌ تُقَسَّمُ فِي جَدْوَى أَغَرَّ وَهُوبِ
وله من قصيدة في الصاحب:
وَلَا ذَنْبَ لِلْأَفْكَارِ أَنْتَ تَرَكْتَهَا إِذَا احْتَشَدَتْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِاحْتِشَادِهَا
سَبَقْتَ بِأَفْرَادِ الْمَعَانِي وَأَلَّفَتْ خَوَاطِرُكَ الْأَلْفَاظَ بَعْدَ شِرَادِهَا
وَإِنْ نَحْنُ حَاوَلْنَا اخْتِرَاعَ بَدِيعَةٍ حَصَلْنَا عَلَى مَسْرُوقِهَا وَمُعَادِهَا
وله في الصاحب من قصيدة يهنئه بالبرء من المرض:
بِكَ الدَّهْرُ يُبْدِي ظِلَّهُ وَيَطِيبُ وَيُقْلِعُ عَمَّا سَاءَنَا وَيَتُوبُ
وَنَحْمَدُ آثَارَ الزَّمَانِ وَرُبَّمَا ظَللْنَا وَأَوْقَاتِ الزَّمَانِ ذُنُوبُ
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ لِلْمَكَارِمِ رَوْعَةٌ لَهَا فِي قُلُوبِ الْمَكْرُمَاتِ وَجِيبُ؟
تَقَسَّمَتِ الْعَلْيَاءُ جِسْمَكَ كُلَّهُ فَمِنْ أَيْنَ فِيهِ لِلسِّقَامِ نَصِيبُ؟
إِذَا أَلِمَتْ نَفْسُ الْوَزِيرِ تَأَلَّمَتْ لَهَا أَنْفُسٌ تَحْيَا بِهَا وَقُلُوبُ
وَوَاللهِ لَا لَاحَظْتُ وَجْهًا أحبه حَيَاتِي وَفِي وَجْهِ الْوَزِيرِ شُحُوبُ
وَلَيْسَ شُحُوبًا مَا أَرَاهُ بِوَجْهِهِ وَلَكِنَّهُ فِي الْمَكْرُمَاتِ نُدُوبُ
فَلَا تَجْزَعَنْ تِلْكَ السَّمَاءُ تَغَيَّمَتْ وَعَمَّا قَلِيلٍ تَبْتَدِي فَتَصُوبُ
تَهَلَّلَ وَجْهُ الْمَجْدِ وَابْتَسَمَ النَّدَى وَأَصْبَحَ غُصْنُ الْفَضْلِ وَهْوَ رَطِيبُ
فَلَا زَالَتِ الدُّنْيَا بِمُلكِكَ طَلْقَةً وَلَا زَالَ فِيهَا مِنْ ظِلَالِكَ طِيبُ
وله:
عَلَى مُهْجَتِي تَجْنِي الْحَوَادِثُ وَالدَّهْرُ فَأَمَّا اصْطِبَارِي فَهْوُ مُمْتَنِعٌ وَعْرُ
كَأَنِّي أُلَاقِي كُلَّ يَوْمٍ يَنُوبُنِي بِذَنْبٍ وَمَا ذَنْبِي سِوَى أَنَّنِي حُرُّ
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الزَّمَانِ سِوَى الَّذِي أَضِيقُ بِهِ ذَرْعًا فَعِنْدِي لَهُ الصَّبْرُ
وَقَالُوا: تَوَصَّلْ بِالْخُضُوعِ إِلَى الْغِنَى وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الْخُضُوعَ هُوَ الْفَقْرُ
وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَالِ بَابَانِ حَرَّمَا عَلَيَّ الْغِنَى: نَفْسِي الْأَبِيَّةُ وَالدَّهْرُ
إِذَا قِيلَ: هَذَا الْيُسْرُ عَايَنْتُ دُونَهُ مَوَاقِفَ خَيْرٍ مِنْ وُقُوفِي بِهَا الْعُسْرُ
إِذَا قَدَّمُوا بِالْوَفْرِ قَدَّمْتُ قَبْلَهُمْ بِنَفْسِ فَقِيرٍ كُلُّ أَخْلَاقِهِ وَفْرُ
وَمَاذَا عَلَى مِثْلِي إِذَا خَضَعَتْ لَهُ مَطَامِعُهُ فِي كَفِّ مَنْ حَصلَ التِّبْرُ
وله:
سَقَى الْغَيْثُ أَوْ دَمْعِي — وَقَلَّ كِلَاهُمَا — لَهَا أَرْبُعًا، جُورُ الْهَوَى بَيْنَهَا عَدْلُ
بِحَيْثُ اسْتَرَقَّ الدِّعْصُ وَانْبَسَطَ النَّقَى وَحَيْثُ تَنَاهَى الْحِقْفُ وَانْقَطَعَ الرَّمْلُ
أُكَثِّرُ مِنْ أَوْصَافِهَا وَهْيَ وَاحِدٌ وَلَكِنْ أَرَى أَسْمَاءَهَا فِي فَمِي تَحْلُو
وَفِي ذَلِكَ الْخِدْرِ الْمُكَلَّلِ ظَبْيَةٌ لِكُلِّ فُؤَادٍ عِنْدَ أَجْفَانِهَا ذَحْلُ
إِذَا خَطَرَاتُ الرِّيحِ بَيْنَ سُجُوفِهَا أَبَاحَتْ لِطَرْفِ الْعَيْنِ مَا حَظَرَ الْبُخْلُ
تَلَقَّتْ بِأَثْنَاءِ النَّصِيفِ لِحَاظَنَا وَقَالَتْ لِأُخْرَى: مَا لِمُسْتَهْتَرٍ عَقْلُ؟
أَفِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ يَمْرَحُ طَرْفُهُ وَأَعْدَاؤُنَا حُوَلٌ وَحُسَّادُنَا قُبْلُ؟
وَمَدَّتْ لِإِسْبَالِ السُّجُوُفِ بَنَانَهَا فَغَازَلَنَا عَنْهَا الشَّمَائِلُ وَالشَّكْلُ
أبو العلاء المعري
وهل يتوقع منا قارئ هذه التراجم أن نترجم له شاعر الحكماء وحكيم الشعراء أبا العلاء المعري، وهو أعرف من أن يعرف، وقد أحاط المتأدبون بسيرته وعبقريته علمًا؟ وحسبنا أن ننبه هنا إلى أنه ولد سنة ٣٦٣ وتوفي سنة ٤٤٩، وأنه وضع شرحًا لشعر المتنبي وسمَّاه اللامع العزيزي، واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه ذكرى حبيب، وديوان البحتري، وسماه «عبث الوليد» وديوان المتنبي، وسماه معجز أحمد، وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم.
قال ابن خلكان: وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو زكريا التبريزي — أحد شراح المتنبي وقد ترجمنا له — وغيرهما، والله أعلم.
هوامش
(١) أرم الرجل إرمامًا: سكت، ويقال كلمه فما ترمرم؛ أي ما ردَّ جوابًا، وما ترمرم فلان بحرف؛ أي ما نطق، وفي حديث عائشة — رضي الله عنها: كان لآل رسول الله ﷺ وحش، فإذا خرج — أي رسول الله — لعب — أي الوحش — وجاء وذهب، فإذا جاء ربض ولم يترمرم ما دام في البيت؛ أي سكن ولم يتحرك.
(٢) كان أبو علي الفارسي إمام وقته في علم النحو، ولد سنة ٢٨٨، وتوفي سنة ٣٧٧ ببغداد: وأقام بحلب عند سيف الدولة، وكان قدومه عليه سنة ٣٤١، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة بن بويه، وحظي لديه وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي في النحو، وقد صنف له كتاب الإيضاح والتكملة في النحو … يحكى أنه كان يومًا في ميدان شيراز يساير عضد الدولة فقال له: لمَ انتصب المستثنى في قولنا قام القوم إلا زيدًا؟ فقال أبو علي: بفعل مقدر، فقال له: كيف تقديره؟ فقال: أستثني زيدًا، فقال له عضد الدولة: هلا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد؟ فانقطع أبو علي وقال له: هذا الجواب ميداني … ولما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلامًا حسنًا وحمله إليه فاستحسنه … وذكر في كتاب الإيضاح أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا …
(٣) من قصيدة يمدح بها عضد الدولة وولديه أبا الفوارس وأبا دلف، ويذكر طريقه بشعب بوان. انظر القصيدة التي مطلعها:
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغَانِي بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزَّمَانِ
(٤) الصهباء من أسماء الخمر، والنكهة رائحة الفم.
(٥) الريق الذي يغص به.
(٦) صوح النبات: يبس وتشقق، والدوحة: الشجرة العظيمة.
(٧) الجلى: الأمر العظيم، وجمعها جلل مثل كبرى وكبر، وقلب جميع ورأي جميع ومجتمع: شديد غير منتشر، ومنشعب متفرق.
(٨) يقال حلب الدهر أشطره، مارس الأيام وخبرها، والمطو: الجد والنجاء في السير، ووان: متمهل، ونصب: تعب.
(٩) الهواجل: الصحراوات، وجائلة التصدير والحقب؛ أي ناقة هذه صفتها، ويقال: صدر بعيره إذا شده بحبل من حزامه إلى كركرته، والحقب: حبل يشد به الرحل في بطنه.
(١٠) القباء من الخيل: الخميصة البطن، والأقب: الضامر البطن، والخوصاء: الغائرة العينين، والحلس: كساء تجلل به الدابة يوضع تحت البرذعة.
(١١) الظبا: أطراف السيوف، والتوكاف: مصدر وكف يستعمل في الدمع والمطر إذا نزلا، وسمر القنا: الرماح، والزغف: الدروع، واليلب: الدروع اليمانية.
(١٢) الجحفل الجيش العظيم.
(١٣) محمرًّا سرابلها: فالسرابيل: الثياب. يقول: مضرجة بالدماء.
(١٤) المناهل: موارد الماء، والقرب: طلب الماء ليلًا.
(١٥) القساطل: جمع قسطل: الغبار المنعقد فوق الرءوس في حومة الوغى، والضغم العض أو النهش، والهزبر الضيغم الحرب: الأسد.
(١٦) تمايس: بحذف إحدى التاءين؛ أي تتمايس وتتخايل.
(١٧) اللقى: الشيء الملقى في الطريق ونحوه.
(١٨) الأرنب أو ولد البقرة الذكر والثعلب الذكر.
(١٩) السنور الذكر أو دويبة تشبهه.
(٢٠) يقال: رجل هزنبر وهنزبران؛ أي حديد وثاب.
(٢١) الذي يذهب ويجيء من غير حاجة.
(٢٢) سيمر بك في هذه الترجمة.
(٢٣) قال ابن خلكان: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المفسر المشهور: كان أوحد زمانه في علم التفسير، وكان يقال له الثعلبي والثعالبي وهو لقب له وليس بنسب، توفي سنة ٤٢٧ وهو — طبعًا — غير الثعالبي صاحب يتيمة الدهر.
(٢٤) جاء في بغية الوعاة: أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن مالك النهشلي الأديب أبو الفضل العروضي الصفار الشافعي: هو شيخ أهل الأدب في عصره، حدث عن الأصم وأبي منصور الأزهري والطبقة، وتخرج به جماعة من الأئمة منهم الواحدي … إلى أن قال: جاز السبعين في خدمة الكتب وأنفق عمره في مطالعة العلوم وتدريس مؤدبي نيسابور، ولد سنة ٣٣٤ ومات بعد سنة ٤١٦.
(٢٥) هو أبو علي الفارسي.
(٢٦) الإفليلي — بكسر الهمزة وسكون الفاء وكسر اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام ثانية — هذه النسبة إلى الإفليل، وهي قرية بالشام كان أصله منها.
(٢٧) يريد إلى أن مات.
(٢٨) الجزع: الخرز اليماني.
(٢٩) أي قال: بخ بخ.
(٣٠) الخفارة في الطريق.
https://hassanbalam.yoo7.com/
ديوان المتنبى كامل مع الشرح سيرة المتنبّى
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment