هاجمى فؤادى بقوّة فتنتكِ وشتّتيه كما يشتت النسيم أوراق الزهرة

 

1

كان الليل يعشقها وهي لم تزل في المهد، فأتاها الظلام متلصصا وهي نائمة، وطبع علي أجفانها قبلة كحلتها. وحبا القمر علي سفوح الروابي، ثم تسلل إليها من بين الغصون، ورسم علي ثغرها ابتسامة.

وفي الصباح، هرع الضوء إلي عينيها فقامت للحظها قيامة، وأوراق الورد علي وجنتيها شرابا عصره من أوراقه فتضرجتا، ثم أفرغ علي جسدها كئوس نداه فتعطر.

ولقد مال الغصن يرضعها من لبنه فشبت ممشوقة. وهبت عليها نسمة صبا فعلمت قدها كيف يميس، ثم سكب البلبل أناشيده في أذنيها فتكلمت.

وفي عامها الثاني عشر، بزغ نهداها مع نضج الرمان، فعشقتها.

2

هذا الذي بدأ في صدرك يبزغ،

هذه الفاكهة التي لم يكتمل نضجها،

هاتان الرمانتان علي صغرهما أو الليمونتان - لله ما أحلاهما!

أتري يقدر لي يا وردتي المغمضة،

أن أنضو بأنفاسي الدافئة دفء الربيع، من جراء شوقي المستعر -

كمك المغلق علي سر وجنتيك المضرجتين،

وعلي عطرك الذي يحمل رسالة الحب من أصقاعه المجهولة،

إلي الأفئدة اليتيمة علي هذه الأرض،

بعد أن أقصتها الحياة عن الروح السرمد؟

وهل تكون دموعي؟

قطرات الندي التي تبلل تربتك؟

وتطرز أوراقك في الفجر؟

حتي إذا ما تفتحت عيناك المكحولتان بالنعاس،

رنوت إلي الوجود من خلال دمعي الشفيف،

حيث تتراقص في الضوء أطياف حي، رشيقة فاتنة،

فتبعث الرجفة الحلوة في جسدك،

وتحرك للرقص قدميك،

فتضربين وإياها علي ذات الوتر،

وتتحد من خطواتكما رقصة واحدة، لها خفة الفراش،

ووقع الندي علي ورق الزهر؟

أتري؟

ويكون غرامي؟

ذلك الشعاع الذي تصحين عليه من وسن طفولتك؟

مفترة المباسم ما ضحك في وجهك الصبح،

مياسة القد ما خاصرك النسيم،

فواحة العطر ما اكتويت بأشواقي؟

وتلفين إلي جوارك بلبلك،

واجفا يغني لك،

ويداعب وجنتيك بالقبل،

ويشهد الروض الذي ألف بيننا،

قصة حب خالدة؟

3

رأيتها أول مرة وهي تملأ سلتها من ورد البرية.

كان قدها يتثني كغصن، وثغرها يفتر كزهرة.

لم يكد يقع عليها نظري، حتي شعرت كأن طائرا خف إليَّ من مكان مجهول، واستقر يغرد في قلبي.

روحي، المخمورة من ترجيعه المسكر، تكاد أن تفقد نفسها. ومع ذلك، فليس أحب إليَّ من أن أصغي إليه.

لله در ذلك الطائر، وحسناته التي يغني لها!

إن أنغامه لتتسلل خفية في الليل، وتطبع قبلة علي أجفانها وهي نائمة. وتتبعها في النهار وهي ترعي الغنم، لتلثم أذيال قميصها وهي سائرة، ثم تجلس بجوارها عند الصخرة، تداعب خصلات شعرها مع النسيم.

وإنها لتقفو أثرها إلي الغدير حيث تغسل قدميها، لتقبلهما مع الموج، وتندس بين شقائق الورد الذي تهصره لتضمخهما بعطره.

متعبة هي في تعقب حسنها، حتي لتبدو موردة القدمين في مغرب الشمس. قد دأب علي إرسالها طائر طالما غرد وحده. يا حبيبتي ألا من طائر في قلبك يشدو معه؟ فيلتقي شدوهما كلما غردا، ويتاح لروحي أن تصافح روحك؟

4

إن الأغاني التي يبعثها في الغروب نابي المحترق، لتتحدر علي سفوح الربي، وتستقر عند قدميها وهي تجمع الورد لتصبغه لها بلونها الدامي.

والأهازيج التي أرسلها في سكون الليل، لتسافر إلي مخدعها خلال العبير، وترفرف علي أجفانها وهي نائمة لتترع مقلتيها بالأحلام.

والابتهالات التي يتجه بها فؤادي في الصباح المبكر، ليسكب طهرها علي زهر ياسمينها نصوعه، ويلقن يمامها تسبيحه القانت.

ولكنها لا تدري شيئا من أمر ذلك المغدق المجهول، الذي يبعث إليها بهذه الهدايا من بقاع نائية، رغم أنها ما تكف عن أن تتأملها في غبطة ظاهرة.

5

حبيبتي بين الزهور تعيش.

مع الورد شبت، وبأوصافه تتصف.

لها من خجوله حمرة خده، ومن بكره نفحاته.

إن بدت، كمثله فتنت، وإن روودت عن حسنها شوكت.

وتميل إذا عانقها النسيم، وفي الفجر تبكي علي أحلام الليل. ذلك بالندي، وهذه بدموع.

فرق واحد بينهما، ذلك أنها لا تذوي بين يوم وليلة. وتزيد علي الأيام صبا.

6

أنا جبار!

جبار عندما أجلس إلي وحيي الساعات الطوال فما أتعب.

جبار عندما أطلق عقلي في أثر الفكرة الطائرة، فما يلبث أن يقتنصها ويعود بها إليَّ.

جبار عندما أسرق ألوان الطبيعة، وأسكبها علي الورق في كلمات.

جبار عندما أهصر قلبي، وأحول أشواقه إلي نغم.

جبار عندما أغوص في أعماق نفسي، وأستخرج من أغوارها الدر.

ولكنني أرتد أضعف ما أكون أمام جمالك القاهر.

إن سحره لأقوي من أن يقاومه بشر.

فهلا رحمت هذا الجبار عندما يخر صريعا عند قدميك المعبودتين؟

وهلا ذكرت أنه سيد في مملكة أشعاره، مثلما أنت سيدة في مملكة فتنتك؟

7

شد ما أفقد نفسي أمام قوة سحرك!

إن به لخدرا عجبا.

يخامر العقل فيصبح نسيا.

ثم يملي أحكامه علي الفؤاد.

لله در عصا ذلك السحر!

تلمس الفؤاد المتمرد،

فما تلبث أن تروض عناده،

وتلفه في شباك فتنتها.

شعوذة وأية شعوذة!

لا يجدي الرقي فيها ولا تنفع التعاويذ.

كان نافثها شيطان!

ما لنا بمناهضته قبل.

إني ليذهب بلبي الدهش!

ويطير صوابي شعاعا مع الرياح.

أهيم في خمائل حسنك،

كفراشة مخمورة بالعبير.

تضرب بأجنحتها علي غير هدي.

حائر علي الرياض!

أفتش عن رشادي عبثا.

ولا ألفي لإرادتي من أثر.

ومع ذلك لا آسي علي شيء.

ذهب الجبروت أمامك غير مأسوف عليه.

وخررت طروبا بهزيمتي.

8

أمري عجب في حبها! وأعجب منه تصرفها معي!

إن الأحزان التي يفيض بها فؤادي، لتغمر الفجر بضباب رقيق، وتبلل بالندي الزهر الذي تقطفه في الصباح.

والزفرات التي أصعدها، لتحمل إلي روضها النسيم الدافئ في الربيع فتنضج براعمه.

والأشواق التي تبعثها جوانحي، لتستقر في الأفق مع النجوم، لتهديها السبيل في الليل.

والأحلام التي تخالط كراي، لتتسلل إلي نافذتها مع أشعة القمر، لتباركها وهي نائمة.

ومع ذلك فعندما أسألها أن تمنحني راحة يدها الناعمة، ونحن سائران جنبا إلي جنب في طريقنا إلي المرعي، تنظر إليَّ كأنني شحاذ!

9

نامي ما شئت واحلمي، يا من فرشت لي تحت النجوم!

نامي وخليني لرفيقاتي في الأوراق، أرنو إليها وترنو إليَّ.

نامي يا من مددت من الورد مخدعك، ومن الشوك مهادي!

نامي وسط حفل من الأحلام، ودعيني وحدي أشيع وسني الطائر، وهو يتنقل من نجم إلي نجم، ومن سماء إلي سماء، كيراعة ضالة.

قسما لأرسلن طيفي المسهد إلي مخدعك، يقتحم عليك منامك، ويثأر لي منك.

10

متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح قبلة تسبح؟ منورة الطيف علي متن الأثير، ولها علي الشفاه نغم؟

متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح حلم جفن؟ طافي النور علي حلكة الليل، وله بالعيون طواف؟

متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، نصبح كأس خمر؟ مشعشعة الأضواء في أيدي السقاة، ولها علي الألباب سحر؟

متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، وتصبح دمعة عين؟ مفضضة الذوب في زوايا المآقي، ولها علي الخدود مسيل؟

متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح فراشة روض؟ مذهبة الجناحين في أشعة الشمس، ولها علي الزهر رفيف؟

متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح طائر غاب، مجوب الآفاق من مطلع الفجر، وله علي الأفنان شدو؟

11

لله سحر سني مصباح في قلبي يضيء!

ماذا عليك لو أوقدت بدورك مصباحك، وعشنا معا شعلتين؟ علي هيكل الحب خافقتين، كلما سرت بهما هبة من نسيم، تذبذبتا فاعتنقتا علي النور واتحدتا في قبلتين.

إلي أن ينضب منهما الزيت، زيت الحياة، فيختلجان لبرهة، ثم يحترقان في قبلة عميقة تودي بهما.

انطفاء وما هو بانطفاء. بل توهج في عالم الخلد أبدي.

أشعلي مصباحك، ولنحترق معا في الحياة، فيضمنا الجوار في الأبد.

إني لأخشي إن أنا احترقت وحدي، أن أظل هائما الدهر وحدي. في هذه الدنيا، فرصتنا هيئت للاندماج. فتعالي نتعارف، قبل أن يذهب بنا الموت فرادي، فأظل أسبح وتسبحين وحدك في الكون روحين ضالتين.

الحب وحده، هو الذي يؤلف الأرواح. هنا في الدنيا، ومن بعد في الخلد.

12

لكَ الله! ناولتِني المصباحَ مصباحَ الحب، ثم قلْتِ لقلبي كُنْ له وقوداً فكان.

تبَّا لذلك الحُسْن، الذي ما يُرَي إلا علي لهب القلوب!

أمَا كان يمكن أن أفتدي فؤادي، وأستبينك علي قَبَسٍ سواه؟ ولو كان ومضةَ برق؟ أو نجماً في النجوم؟

ولكنه الجمال! الجمال الذي ما يبغيِ له من دون القلوب وقودا.

ومع ذلك تشْكين فما أعجَب! أعْرِف أني حَملت اللهبَ لهبَ الحب، فقُوليِ ماذا أنتِ تحملين؟

فمٌ ساحر، ولحْظٌ فتاك، وقوامٌ يَخلب اللُّب- تلكِ كل بضاعتك، وإنها لبَضاعةٌ هيِّنٌ حَمْلها، وجِدٌّ حبيب.

13

مِن زيت قلبي يضيء ذلك المصباحُ الذي يحترق في جوانبه.

إني لأحمل بين جوانحي اللهب، الذي أجَتليِ حسنك علي هداه. إني أدفع ثمنَ لمَحاتٍ منكِ أراها.

ومع ذلك فمَنٌّ وتيهٌ وحرمان: علام المن وأنا الشهيد علي المذبح!

وَرْدُكِ لمْ أقطفْه، وأنا الذي أُزْهِقَتْ أزهاري.

ماذا عليكِ لو استجبتِ للغزَل؟ قدُّك لن يهْصره العناق، وشفتاك لن تُذبلهما قُبَلي- أيتها البخيلة التي لم يَعرفِ القِرَي يوما فمُك!

14

اجلسي يا حبيبتي، وقُولي ليٍ مَن كحَّلك؟

أهُوَ الدُّجي حقَّاً كما تدَّعين، أم أنها أحزاني؟

ومَن ذا الذي ضرَّج خدَّك؟ أهو الورد مثلما زعموا، أم أُراهُ دمي؟

انظري وجهي العليل، وأمَاراتِ الجِراح في بحَّة شدودي، واحكمي.

إنني أنا مَن بَعث الدجي في الليل، وخضَّب بالدماء ذاك الشفَق.

إنني أنا مَن سكَب الندي في الفجر، ومِن أشجانه ينعقد الغمام.

وإذا ما نجمُ قالوا أضاء، فَثَمَّ شوقٌ في قلبي ومَض. أو قمرٌ للعاشقِين تبسَّم، فشعاعٌ مِن خواطري شَرَد.

هبّاتُ هذا النسيم، بعضُ زفَراتي، حَرُّ هذا الهجير، مِن نفَسي المحترق.

وصباباتي الذي خالوه ترجيعَ بلابل. والذي حسِبوه نوْحَ حَمام، أغانيَّ الشاكية.

عشْقُ هذا الوجود، في قلبي أنا، فَعَلامَ الصدود، ولمَ لم تَعْطفي؟

15

إذا ما رأيتِني أحُومُ حولكِ كما يحُوم الفَرَاشُ حول المصباح ويحترق، فضاعفي برفيفِي ألِيقَك، واحرقي جثتي.

وإذا ما ألفيتِني تحتكِ في الصباح رماداً هامداً، فخُذي من هبابي وكحِّلي جفنك.

ثم استوِي علي عرش فتنْتك، واسْبي العقولَ بلحظك الفتاك وجفونك الكحيلة.

وابعثي من رجفة العشاق حولك ومضاً يَزيد نورَ عيونك، ومِن جثثهم هَبْواً يزيد كحْلَ جفونك.

16

كانت تَحرس قطيعها في ظل دوحة، وظهْرها لِي.

وكانت نظراتها تسير في اتجاهٍ واحدٍ مع الأغصان الشاردة، وشَعرها قَلِقٌ في مَهَبِّ نسيم الصِّبا.

وكانت ثَمَّةَ ابتسامةٌ ترتسم علي ثغرها، شأنَ مَن وقَع تحت سحْر خاطرٍ سعيد.

تُرَي فيمَ تحلم؟ قلتُها وخفَفْتُ إليها أسترقُ الخطا.

دقَّ فؤادي. وخُيِّل إليَّ أن الأشجار تتهامس بي، وأن ورد البرِِّّية قد احمر خجلاً من جرأتي.

»‬لن تنتبِّه لِي. إنها واقعةٌ تحت تأثير سحرٍ منوِّم» بهذا رحت أهمس وأنا أنقل خطواتي في حذر.

وتابعتُ سيْري إلي أن صرتُ منها عن كثَب، وكاد شَعرها المتطاير أن يَلمس أجفاني.

أُوهِمتُ أن أنفاسي ستَشي بِي. وأن خفقات فؤادي ستنُمُّ عليّْ. غير أني لم أعطهما الفرصة.

طوقتُ خصرها بذراعي، وفي مثل لمح البرق طبعتُ علي خدها الأسيل قبلة. قبلةً طويلةً أودعتُها بعضَ رمقي.

أمّا هي، فقد انتفضتْ كحمامةٍ مذعورة.

ثم عادت تتبسَّم.

17

حبيبتي وأنا، نسكن بعيداً في البرِّيَّة.

هي فوق الرابية، وأنا عند السفح.

في كوخين مقامين من أعواد الخيزُران.

يتسلق عليهما الزهر البرِّي.

سماءٌ واحدةٌ تظللنا.

وطيورٌ واحدةٌ تغني لنا.

النسيمُ الذي يهب من روضها، يَحمل إليّ أنفاسها في غدُوِّه.

والجدولُ الذي فيه تستحم، ينحدر إليّ معطَّراً من جسدها.

في النهار، يجمعنا المرعَي معاً.

غنمي تلعب مع غنمها.

وبين كلبينا حبٌّ مفقود.

وإذا ما انتطح من قطيعينا عنزان، اشتبكنا معاً في شِجار، نَخرج منه ضاحكيْن.

نمزج إنْ أكلنا زادنا.

وأشرب من جرَّتها وتشرب من جرَّتي.

وإذا أمسكتُ نايي، تناولتْ أرغُنَها وطَفِقْنا نُنْشِد.

ولقد نذهب نَستَبِق.

ونتسلق الدوْحَ في طلب الفاكهة.

حتي إذا أدركنَا الكلال، جلسْنا نرسم الخطوط علي الرمل، ونقرأ فيها حظنا.

وعندما تؤذِّن الشمسُ بالمغيب، نعود سريعاً إلي الحِمَي. كلٌّ يقود قطيعه، ويهُشُّ بعصاهُ علي غنمه، وهو شادٍ بالأناشيد.

وإنّا لَنَرْقَي في سيْرنا الهضاب. ونهبط السهولَ مِن كلِّ مُونِقٍ مخضَرّ، وقد ورَّدتْه الجِراحُ أسيَ علي فرقة الشمس.

تُباركنا تراتيلُ الطيور الغاربة، تنبعثُ في قلب الفضاء، أشبْهَ شيءٍ بموسيقَي كَنَسِيَّة، مُوَلْوِلةَ الرنينِ مكتئبة الجَرْس، مِن وجدٍ بها علي انصرام النهار، فتُترِعُ بالنغم حزنا بنا، يتصاعدُ بين الجوانح كالضباب الرقيق، أسفاً منا علي وشْك الفراق، ثم ينعقد دموعاً في المآقي.

وإذا ما الحيُّ لاح، وبدا الجدول كالمرآة، وعليه من الشفَق حريق، ومِن حوله الأكواخ منتثرة، افترقنا حتي لا يرانا الأهل.

وطفقنا نتبادل النظر من بُعد، ويبعث كلٌّ لرفيقه بالقبل، تطير عَبْرَ الفضاء، وكأنها مما بها من بريق يَرَقَاتٌ تلتمع.

18

نحن الرعاةَ في البراري ضاربون، وعلي عشبْها المُخْضَلِّ نجلس. في مُلْكنا ذا تائهون، وأمامنا الأغنام تَرعي.

يومُنا لعِبٌ علي الناي، واسْتِباقٌ فوق ظلال الرُّبيَ، وتخطيطُ البيوت علي الرمال، ونقْلُ الحصَي في حُجَرها.

مِن مياه المطر نشرب، ومِن العيون الجارية، ونَتَاجَ الغنم نأكل، مِن شِوَاءِ وحليب.

رفاقنا غنَمٌ وكلبٌ، وحبيبٌ نصطفيه.

ومتاعنا نايٌ ومِغْزل، وعصاً نَهُشُّ بها القطيع.

ولقد زهدْنا في الثراء، مذ مَلكنْا العافية، وعرفنا ما الهناء، مذ رضيِنا فقزنا.

ويشغلنا عشْقُ الكعاب، علي خلوِّ بالنا. ولنا فيه أغانٍ وقصص.

19

أنا في الأحْرَاج راعٍ

وهْيَ مثلي راعيةْ

قد زهدْنا كلَّ تاجٍ

مُذْ لبسْنا العافيةْ

إنْ صَحَا الطيرُ ضَربْنا

في البراري النائيهْ

فهبطنا عند سهلٍ

أو صعدنا رابيهْ

حيث تَرعَي حولنا الأغْ

نامُ فرْحَي لاهيةْ

مِن خِرَافٍ تتبارَي

أو نعاجٍ ثاغيهْ

نشرب الماء قَرَاحاً

من عيونٍ جاريهْ

وإذا جعنا طَعِمْنا

من نَتَاج الماشيهْ

أو ثمارٍ طيّباتٍ

وقطوف دانيهْ

يومُنا عشْقٌ وزَمْرٌ

بالأغاني الشاكيهْ

واسْتِبَاقٌ في الضحي فَوْ

ق الظلال الساجيهْ

لاَ برمل الباديهْ

ثم نمحو ما خَطَطْنا

لِدواعٍ واهيهْ

شَغَلَ الحبُّ قلوباً

في سوانا خاليهْ

ما تَرَي أن فؤادي

مِلْكُها وهْيَ لِيَهْ؟

آهِ من شوقٍ تعاني

وصَباباتٍ بِبَهْ

حالُها منذ أحَبَّتْ

ليس إلا حاليهْ

نحن ندَّيْنا الأغاني

بالدموع الغاليهْ

وهْيَ لولا ما شَجَانا

ما دريْنا ما هيهْ

20

ما أسعدَنا راعياً وراعية! كفَانا مِن زمْرٍ وقُبَل.

خذي الجرَّة، واحلبي الشاة. ريثما أصيب بالقوس بطةٌ برِّيَّة.

أغَنَمُنا تَشبع رعْياً ونعاني المسْغَبة؟

هاتي النِّبَال.

هذا صيدُنا خَرَّ فأوقدي الحطب، وتَولَّي شيَّهُ علي الدُّخَان. إني ذاهبٌ أتسلق الأشجار، وأحْضر تيناً وعنباً.

وما رأيك في جوْزةٍ أشُجُّها في رأسك؟

حسَناً، إني آتيكِ بها. إذ لا غنَي عن المرَح.

في ظل هذه الدوحة، سنمدُّ، المائدة.

وعلي هذا الحشيش ، سنجلس نأكل.

ثم نقصد إلي النبع، نسقي ونغتسل.

21

العصافير في أعلي الكرم تزدرد العنب.

ما رأيك في عُنقود؟

اعتليِ مَنْكبِي، وائتينا بقِطْف.

أفضِّل منه الأبيض. شبيهَ الكهرمان.

هذا ما اشتهيت. دونك والنبعَ فاغسليه، ثم عُودي به علي ورق الموْز.

إذَن رجعتِ فهيّا اجلسي. ولنْأكلْ معاً.

عنبٌ كالنجف! أو كشموع نُضِّدَت!

وإنّ منه المنفرط! كنجوم نُثِرَت!

والذي منه بكفِّك، أرأيتِ كيف يترجرج؟ ما أجمَله! كأنه الزئبق!

سأخطف عنبة. عنبةً من فمك.

شيطانتي! ألعْتِها؟ ما أخبثك!

أنا إذَن غضبان. ما كان ضرَّك لو أجبتِ سؤالي؟ أو ضَرَّ ثغرك لو رشفتُ رحيقه؟

22

حبيبتي بزينتها مُولَعة.

حليُّها يتجدد مع كل صباح.

فالعقد الذي يطوِّق جِيدَها، منضَّدٌ من حَبِّ الياسَمين.

والإكليل الذي يتوِّج مَفْرِقها، من الفل مصفَّف.

ذلك أنها زهرةٌ في الزهور. فهي بِلِداتها تتزين.

حوْل معصمها سِوَارٌ من نرجسٍ أصفر.

وبإصبعها خَاتَمٌ فصُّهُ حَبَّةُ رمّان.

ومن عُنّابتيْن قرْطاها.

ذلك أنها فاكهةٌ في الفواكه. فهي بأتْرابها تتحلي.

أمّا خلخالها، فمن ذهب رنان. كيْما أسمع جلْجلتَه، كلما اقتربتْ من كوخي.

23

أنتِ منِّي الخَمْار، وأنا مُدْمِنُ خمرك.

أيُها الخمْار!

هاتِ قدَحاً من فمك.

إنّ مِن الشفاه لَكأسَاً، وإن من الرُّضَاب لَخمراً، وإن من الخمر الحلال.

فَبِنَفسْي هذا الرحيق. أحْتسِيهِ وما أفيق، ثم أطْلق قلبي، في الجمال يعربد.

24

ثغرك!

كأسُ خمر.

سُلافُهُ ريقُك.

وأنا المُدْمِن.

لحظك!

ضياءُ شمس.

ظِلُّه كحْلك.

وأنا اللاجئ.

شَعرك!

سوادُ ليل.

قمرهُ وجهك.

وأنا الساهر.

صوتك!

شدوُ بلبل.

في ذُرَي أيْك.

وأنا المُصْغِي.

نفَسك!

عطْرُ زهرة.

في رُبَي روض.

وأنا الناشق.

دمعك!

طَلُّ فجْر.

كَلَّلَ وردة.

وأنا المعجب.

25

ما هو عطْرُ بنفسَج، ذلك الذي يَنْفح

منك. ولا هو عطْرُ فلٍّ أو ياسَمين.

ولكنه عطْرُ زهرةٍ مجهولة، تَنْبت في

روض حسنك. عطْرُك أنت.

يَنفح من فمك. ويَضُوع من شَعرك،

ومن غَضِّ إهابك. رقيقاً كالحلم، خفيفاً

كالنسيم. يوقظ بفؤادي حنانا مسْكراً،

ويعود بروحي إلي مَواطنَ مسحورة.

وردةٌ أنتِ تَنفح شذاها من زِرِّها

وتأبي أن تستعيره.

وردةُ أنتِ لولا أنك من الورد أجمل،

وأطيبُ عَرْفاً منه.

أو غزالٌ أنتِ عَبَقُه فيه. لولا أن

مِسْكَكِ من مِسْكه أذكي.

لكَم أخاف عليك من عَبَقك هذا،

وأخشي أن يُرْديك مجنونة! كيف أنه لا

يُجَنُّ حاملُ العبَق ليلَ نهار؟ كيف،

ويَحتمل سُكْراً لا تفيق نُهَاهُ منه؟

صدِّقيني لمْ أعُد لنزَفك أعجَب، ولا

لخفة حركاتك. مَن كان هذا الخمرُ فيه،

ما لَه وللِوقارِ؟ ولمَ لا تكون له رعونةُ

الغزال ورشاقةُ لَفَتاته؟

لمَ لا يكون كظبْي الأكَم، حاملِ

المسك في دمه، والمستجيرِ من فرْط حلاوةٍ

فيه؟

26

كأني بساقيْك عمودا رخامٍ أقيما في

هيكل حسنك، وكأني بقلبي ذلك الراهب

الذي يتبتَّل فيه ويَحرق تحت قبَّته البخور.

لولا أن صلواتي إطراءُُ خالصُُُ لحسنك،

وبخوري من القلب سحقْتُه وليس من الصندل

والزعفران.

وهكذا أختار لنُسْكي معْبدك، ولِصلواتي

تمثالك، يا إلهي الصغير!

وكما يطوف الوثنيُّ بأصنامه ليلَ نهار،

يطوف فؤادي بقدميك المعبودتين، ثم يَخِرُّ

عندهما ساجداً وهو قرير.

27

ما أشْبَهَ بَنانك الورديَّ بِزِرِّ وردةٍ

بَدَتْ تباشيرُ أوراقها في البُكور.

وما أشْبه خدك بهذه الوردة وقد نضجتْ

وزَها لونها.

وما أشْبه أظافرِك بأشواكها المرهَفة،

التي تجرحني في قسوةٍ محبَّبة، كلما بدا ليِ

أن أقطفها بفمي.

28

كأني بقدك غصنُ ممشوق، ونهديك

فاكهته.

وكأني بوجنتيك وردتان أطلَّتا عليهما من

ربوةٍ دانية. وعينيك بحيرتان عميقتان قد

سَجَتْ فوقهما من أهدابك الكثيفة ظلال.

ونظراتي طيورُ الماء المصفِّقة، التي ترفرف

علي سطحهما.

وكأني بقلبي ذلك البستانيُّ الذي يرْوِي

هذه الحديقة بدمعه، ويَجمع بين حينٍ

وآخَرَ جَنَاها ويشكرك.

29

ما نحن إلا شمعتان محترقتان علي هيكل

حبٍّ عذْري.

وما قلبانا إلا ذلك الزيتُ السحريُّ الذي

يحترقان به، وقُبَلُنا غيرُ تلك الشرارةِ

المقدسة التي تُضرِم فيهما النار.

ولكنْ علي الرغم من أننا نعيش علي هيكلنا

هذا إلي حين، ثم نموت بحبنا المضني قصيريْ

الأجل، ما كان يمكن ألبتَّة أن نسْطع

مثلما نسْطعُ الآن في عمرنا هذا القصير،

وقد لمسَنا فيه ذلك اللهبُ المقدس.

30

إنيَ لأعزِف محاسنَ وجهك علي قيثارتي.

فَتخرجُ منها أغنيةً حلوة، تمرح في هذا

الفضاء مع النحل والطير والفَرَاش.

وكلما مرت في طريقها بحقلٍ أو غابٍ

أو جبل، قصَّت عليه أنباءَ حسنك، حتي

غدتْ معروفةً في كل نجع.

إن خدك لم يتورَّد، ولا زان عينيك

ذلك التيه، إلا خجلاً لجمالك الذي فشَا

سرُّه في كل مكان.

ومع ذلك فما أراك إلا تنكرين عليّ

أنِّي شَهَرتُ اسمك، وإن كنتِ في قرارة

نفسك تطربين لهذا أيَّما طرب.

31

سجا الليلُ وآن ليِ أغازلك بأنغامي.

لقد ذاق العاشقُ فيَّ كأسَ حلاوتك،

وحَقَّ للشاعر فيّ أن يذوق نصيبه.

عليّ بمزماري المُواتي، وبأكليل الزهر

فطوِّقي به هامتي. ثم اهبطي الحديقة ودعيني

في البرج وحدي.

اهبطي حيث الزهور تحُفُّ بمقعدك،

وشعاعُ القمر يتوِّج رأسك الذهبي، فَتبدين

كأميرةٍ علي عرشها استوت، ومِن حولها

جواريها واقفات.

وهناك وأنتِ في بلاطك، لسوف

تنحدر إليك أنغامي علي مَتْن النسيم،

فتبدو وهي تلمس قدميك الجميلتين، كعبدٍ

مَثَلَ بين يديْ مولاته، فانحني حتي مسَّ

جبينه التراب.

اهبطي الحديقة، وخلِّيني وحدي. إن

فؤادي لَتجيش به أشواقُ جمَّة، لا أستطيع

التعبير عنها إلا عندما أخلو إلي نايي، أبثها

إليه فِيترجمها لك في نغم.

لن أشكو بعادك، مادمتُ سأشدو لك في

وحدتَي، بل إني ما أحسُّ دنوك مني، قَدْرَ

ما أحسه في وحدتي هذه المقدسة. عندما

أمزُج شوقي وجمالَك في كأسٍ واحدة،

شرابها من نغمٍ حنون.

32

أدركي الشادي، فلقد كاد أن يَغرق في

موجات النغم.

عواصفُ فتْنتك، حولتْ أغانيه إلي

بحرٍ خِضَمّْ.

مسكينٌ هو وسْط هذه الزوبعة! يكاد

زورقُه أن ينقلب وهو يكافح الموج.

ولقد مَزَّقتْ شِراعَه الأعاصيرُ

وعطَّلتْ دفَّته.

أيُّ رُبّان! أفْلتَ منه زمامُ سفينته!

انظريه عند صاريها واقفاً يجاهد، وقد

لَطَّخ الزَّبَدُ ثيابه، وحلَّت شَعَره الرياحُ

وعبثتْ به.

ويا ليت أن الكفاح كان بذي جدوَي!

إنه وسط اللُّجِّ العجاج. وسفَرٌ طويلٌ

مايزال بينه وبين الشاطئ.

وأيُّ شاطئ؟ إنه نفسه لا يَعرف متي

تبدو طلائعه.

ذلك أنه حين يتناول قيثارته ويبدأ في

توقيع محاسنك، لا يدري متي يضع القوس.

الساعات تمرٌ، ومايزال علي أوتاره

عاكفاً يستوحيها النغم، وقد هزَلَ وجهه

ورقَّتْ سِمَاتُه، واستحال إلي طيفٍ

ما يُريَ منه غيرُ عينين تَحكيان ما يكابد

من ضني.

رفقاً بهذا الغريق!

تعاليْ لوِّحي له بقبلة، علَّها أن تغريه

بأن يُمسِك مَلِيَّا عن الشدو، ويرسو

من سفره المضنِي علي فمك، ذلك المرفأ

الذي يلقَي عنده السلام.

33

عنك يا روضَ الجمال، عنكِ يا مهْد

النغم - آخُذُ معانَّي وأرجِّع شدوي.

إنيَ لأقضي نهاري بطولهِ أجمعُ زهرك،

وأجتذب الألحان من أوتارك، ثم أعود

آخِر اليوم إلي أهل القرية وسِلاليِ محمَّلةُ

بالزهر، ونايي يرقص حوله النغم.

نَهَكْتِ قوايَ في جمْع نفائسك!

زهركِ لا عَدَدَ له. ونغمك بحرٌ

خِضَمّْ، وإني لَينفد عمري قبل أن آتي

علي جَنَاك، وأعزف كلَّ أناشيدك.

34

الأسرار! التي كانت حبيسةٍ في فؤادي،

استباحها جمالُك.

كنوزي سطوتِ عليها، وأودعِتها أغلفةَ

الكتب، مَشَاعاً لكل إنسان، وتركتِني

أعيش بلا سرٍّ أحتفظ به.

قديماً كنتُ زهرة، وعلي عبيري مغلَقة.

فَنضَوْتِ أكمامي ونهبتِ عطري.

العصفورُ الذي كان في قلبي يغرد،

أخذِته وفي رياضك أطلقتِه.

غمامي شتَِّته في دموع. ونايي طيَّرتِ

منه النغم في إطراء حسنك.

ولقد زيَّنتِ أعطافك بحريري، وحليتِ

صدرك بجواهري. وتركتِني عارياً مجرداً من

كل شيء، اللهمّ إلا من مجْدٍ كاذب.

يا لَلشحَّاذ الذي يرَسُغ في أطماره،

ومع ذلك تعْنو أمامه الجباه!

أيها العاقدون علي مَفْرقي أكاليل الغار،

خذوا أزهاركم ورُدوا إليّ أسراري.

إني رثَّةٌ ثيابي. وزهركم يموت علي جبينيَ

المنهوك فما أنتفعٌ به.

ما هذه اللُّعَب، التي ضحكتم عليّ بها،

ونهبتم في مقابلها كنوزي؟

35

بُرجي عاجي. وسائده من حرير،

ويتسلق عُمُدَه الزهر.

وعندما تزورينني فيه علي غير موعد،

أطفيء المصباح الأزرق، ونجلس في ضوء

القمر.

عندئذ أطْرح أُرْغني، وأوقِّع أناشيدي

علي شفتيك.

أحْلي مِن زَمْرِهِ قُبَلُنا. وصَخَبُ

خلاخيلك ووسوسةُ أساورك. وصوتُك

عندما تقولينَ: حبيبي!

وأحلي من وردي عبيرُ أنفاسك. ومن

حريري ملمسُ يدك.

يا مَن بَزَّ حسْنُكِ كلَّ شيء، إني

لَأنَسي بجوارك كلَّ شيء. حتي عرائسُ

أحلامي، أطلِّقها حين تكونين معي.

زهري يخجل منك. وحريري منك يغار.

وأرغني يحسدك.

أمَا ترين إلي النرجس كيف انكسف

لونُه حين رأي خدك؟

وإلي الوسائد كيف تتلوَّي حقداً تحت

ساعدك الملفوف؟

وإلي الأرغن كيف فَقَأتْ تمائمُك

عيونَه فبدي مثقبَّا؟

قسَماً بحسنك لولا أنني أحوطك بحبي

وأرقيك بقبلاتي، لخفتُ عليك من كل

ما التفُ حولك. حتي ولو كان زهرةً

مرموقة، أو فراشةً مجنَّحَة في الرياض.

ولَمَا رضيتُ لخدك أن يتيه أمام وردة.

ولا لقدِّك أن يميس بين غصون.

36

ذا مجذافي فهاكِ مجذافك. ولنْمضِ

بالفُلْك إلي الشطِّ البعيد.

هناك الظل وارف، وللحَمام بأعلي الأيك

سجْع.

حبذا غفوةُ علي هديله الناعس، تزورنا

فيها الأحلامُ الذهبية! ثم نصحو علي هَرْج

الكراكي في الغروب.

هيّا، أعْمليِ المجذاف. وغنِّيني في

سيرنا أغنيةَ ملاّح. يسافر صداها في السكون

إلي أراضٍ بعيدة.

هيّا وغالي الأمواج. تلك التي جَعلتْ

مِن فلْكنا أرجوحة.

عجَبٌ لهاَ! في النهر راقصةٌ بَطِرة،

وعلي حَوَافيِ المجذاف دمْع!

يا بُشْرانا! الفُلْكُ من الشَّطِّ دنا

أمَا تَطرق سمعَك وقْوقةُ البجع؟ وصَخَبُ

الأوزِّ، ذلك الثرثار؟

ما أجمل نَزَقَه! انظري كيف اندفعَ

زُمَراً في طيش، وفي النهر غطَس!

خلِّي المجذاف. ودَعي الزورق يرسو.

أين ذراعك؟ ناولينيه. ولْنقفزْ معا.

سنجلس فوق المنحدَر، في ظل هذا

الخيزُران. حيث يتلاقي ماءُ وخضرة، ومحياك

الحسَن

37

أحبكِ في الليل. حين يغمرك شعاع

القمر، وظلالُ الغصون تتيه علي خدك.

حين يبدو شَعرك كدُجُنَّة، وعيناك

كنجمتين.

أحبك في الليل. حين نَسْرِي في الروض

كفراشتين، يَحفُّ بنا الزهر، وتزقُّنا

الجنادب.

وحين تصخب في السكون دقاتُ قلبينا

فنَجِف.

أحبك في الليل. حين نَلجُ الخميلة

فنوقظ الطيرَ الراقد، ونقلق الهَوَامَّ المختبئة.

ثم نمتزج معاً في قبلةٍ تدنينا من السماء.

وإذا بنا نَري الليل في مهده، والدراري في

في أفلاكها.

38

عندما نجلس معاً تحت ضوء القمر، أين نكون؟

أرانا نفقد نفسينا عندئذ، فما نعي مما حولنا شيئا.

فالأشجار الدانية منا، تبدو لنا كأنها أشباح. وأصوات الجنادب المختبئة بجوارنا في العشب، تطرق آذاننا كأصداءٍ آتيةٍ من بعيد.

وكأن أنفاسك عندئذ طلائعُ نسيم تهب من أصقاع نائية. ولمسات شعرك أجنحة كسري تداعب أجفاني.

فأين نكون؟

أترينا نرقي بقلبينا عندئذ علي ذلك الشعاع الحالم شعاع القمر، فنهبط مملكة النجوم ومهد الليل؟

وترين ذياك الليل يسقينا من كئوسه الناعسة ما نغفي به هناك، حتي إذا ما تحركت لنا علي الدنيا ذراع أو مال جنب، لم ندر ماذا فعلت أعضاؤنا، ولا درت هي أين منها نكون؟

39

أنظري عبث هذا النسيم! لقد أطفأ المصباح. وما هو ذا يحل غدائرك، ويعابث وجهي بها.

ما ذنبي الآن إذا أنا قبلتك؟ أنت تنهين، ولكن الريح تأمر. ومن يدريني أنك نفسك لم توحي لهذه النسمة بأن تهب؟

خلي يدك بجانبك. كفاني ما نلت من خمشات الليلة، أيتها القطة البرية. وعلي بفمك.

الريح تغريني بك. لقد أطفأت النور وهيأت الجو، وأوعزت لشعرك أن يتحرش بي.

40

هاجمي فؤادي ياحبيبي بقوة فتنتك. شتتيه كما يشتت النسيم أوراق الزهرة.

اذريه في مهب الرياح، واستلي مهجتي، وعندئذ دعيني أجتاز لحظة موت فاتنة.

أين فمك العندمي؟ أتحسبينني أكره أن

أموت دقائق؟ وأني لي إذن أن أنعم بهذه السكرات؟

عجباً نجزع من الموت، وسر هنائنا فيه!

عندما يرين علي أجفاني الكري، فأرخيها له في استسلام، أما أذوق بعض الموت؟

عندما أرتد مخموراً علي أثر نشقة من عبير، أما أذوق بعض الموت؟

عندما أطبع القبلة علي ثغرك فأودعها جانباً من روحي، أما أذوق بعض الموت؟

إيه يا موت! أخطأنا فهمك يا من تتوج كل أمل. يا ذا القدم الذهبية التي تدوس رغباتنا الموردة لتعصر منها خمر اللذة! فيك ما نعزوه للحياة من قيم. يا أيها العصير الدامي لو رود أمانينا الحسان.

أنت يا زهر المني وجنا غرس الأحلام!

ياقاطف ورد الأمل، لتدنيه إلي أنوفنا ننشقه! وهاصراً أوراقه لتضمخنا بعصيرها!

يا مشتتا ضباب الأحلام في قطر نحتسه!

يامشعل النار في فصور شهواتنا لتصعدها لنا بخورا! أنت يا فصل الخطاب إذا طال الحديث، ولحظة الاستقرار لشوق معذب- دعني أقبل يدك القاسية.

إنا لنبني من ذواتنا في لحظات الأحلام بيوت عناكب، ثم نتساءل هل غدت أدني إلي نفوسنا؟ إلي أن تجيء يا موت وتضرم فيها حريقك، فنجلس نلتهم في لذة دخانها المسكر. عندئذ ترتد إلينا ذواتنا. وتعود إلينا أحلامنا في دخان.

لك الله تتغلغل في كل شيء لتسدي إلينا جميلك! تزور في أعقاب كل أمل، لتصر لنا خمرته. وتدب خطاك في كل إحساس جميل لتدنيه إلي نفوسنا.

عندما نخرج في الربيع نتأمل كتل العبق المتهادية في خفاء. عندما نستمع إلي نقرات الماء في يوم ممطر. عندما نجلس في الأماسي المقمرة نحتسي الكأس أو نخطف قبلة من حبيب- تأتي إلينا طي هذا الجمال، لتخدرنا ذلك الخدر المقدس، الذي يفتح له قلوبنا.

ما أسخي يدك، لولا أن الأسي يكمن فيك! قصير هو حريقك. وما إن يخمد حتي يهمد معه كل شيء. وعندئذ لاقصور ولا دخان. وإنما هشيم مكتئب.

حسرة تعقب موكبك، وفي معناك يكمن كل أمل وكل نسيان. ألسنا نشيع في سكراتك اللذيذة أحلامنا؟ ألا تسير هي الدخان إلي حيث لا أحد يعلم؟

ولكنك مع ذلك محبب. يا حلوا في مرارتك!

غير أنك عندما تأتي لتحصد كل شيء. عندما تستل منا المهجة حتي الدماء- عندئذ تكون بغيضا. لا لأن القبح من صفاتك، وإنما لأنك تطفيء فينا مصباح الحياة، الذي نتبينك علي ضوئه.

تنعم، إن الحياة إلا نور مسخر لك. غير أنك بدونه لا شيء.

فعندما تزور زورتك الأخيرة. عندما يبدو لك أن تطفيء المصباح- عندئذ ينتابنا الهلع. الهلع عليك أنت. لأننا ما نعود نراك.

41

لكم خزنت بقلبي من لحظك شعاعاً، لو أتيح له أن يحل محل الشمس لأضاء علي العالمين بدلاً منها.

وخبأت فيه من شعرك الفاحم ظلمات لو أنها إلي الوجود خرجت، لأخلي لها الليل مكانه لتسدل سترها علي العاشقين عوضاً عنه.

وكأي من ورد من فمك قطفته، يزدحم بقلبي حتي لكأنني أسير وبين جنبي بستان!

ونعم صوتك سمعته، يتجاوب فيه حتي لأحسبي بلابل الأرض طرا.

لقد خلعت علي بهواك دنيا بأسرها. أثقل فيها، وأطير مجنحا في سمائها كما يطير عصفور الروض الطليق.

42

عندما تمنحيني القبلة الغالية، لا تدرين أنك تضعين في يميني الدنيا كلها.

إنك تجهلين قيم عطاياك التي تغدقينها علي في سذاجة وسخاء.

إنك وردة مغمضة لاتري ما تجود به. ولكنها تستطيع أن تمنحنا أضعاف ما تمنحنا إياه عندما تفتح وتنهب عطرها النسمات.

43

زوجوها من صاحب ضيعة، وحامل لقب ووسام. وتركوا محبا لها عقد الجيل علي رأسه للشعر تاجا.

تركوا محبا إن شدا رقصت قلوب، وإذا بكي ذابت مهج.

تركوه من من شعره نشقوا العطور، وأسمعوا الناي يترنم.

من رقي بهم علي متن الخيال إلي حيث الزهر في روضه والطير في فننه.

من رقي بهم علي متنه فأراهم القمر في مهده يحبو، والدراري في الأفلاك تسبح.

من سري بهم إلي سدة الغيب، وأراهم من السماء أمرح السرمد.

وأراهم السفن تنسق في البحر العباب، والقوارب في أنهارها تتهادي.

كم حسوا من خياله كئوس سلاف، ثم غابوا في أحلي نشوة!

كم غفوا في شدوه بنوم رغيد، وراوا فيه أحب الرؤي!

ورنوا في فنه لألوان ائتلفت وعقود در نضدت!

وكأي من طاقة من زهور الشعر أهداهم، وطيور من شوارد الفكر لهم قنص!

ولكم أسا منهم من جريح فؤاد وكفكف من دمع موجع!

ورقي منهم من عاشق مجدود، وزف منهم في الليالي من عروس!

وحين جاءهم اليوم يطلب وديعة له، هي في شرعهم ملك لهم، وفي شرع الغرام ملك فؤاده، أغلقوا أبوابهم في وجهه، وحرموا عليه ما حلله له الهوي. منكرين ظلماً مواهبه، مؤثرين عليه امرءاً لم ترق في عينه نفسه فالتمس لها الزينة في عروض زائلة، وأحس بها خفضاً فحاول أن يعلو يا أطياف النهار؟

44

الأغاني! التي شدونا بها في فجر حبنا، ذهبت مع النهار. لم يبق إلا الحسرات، أبعثها دامية في مغرب الشمس.

واأسفا علي ألحانٍ غاربة! خبا الأليق الذي كان يخلعه عليها الصباح، ولم يعد بها غير جراح.

وعما قليل نغوص مع الشمس في النهر وتنطفيء، وتلفها في ظلماتها الأعماق.

رب نجم تألق في الدجي، هو بقايا شوق بها لم يهمد. أو قمر علي الليل ابتسم، وهو حلم طاف بأجفانها وهي راقدة.

أيها الليل، يا من تلف في نسيانك كل شيء، لم تبقي في حناياك الذكر، تطفو علي كراك كحلم، وتنضح من تحت أجفانك المسبلة نجوماً كابية؟

لم لاتطويها مع عهودها التي طويت، وتجعل نسيانك شاملا؟ أفحتم علي الجفون المرخاة، أن تحلم بالنور الذي مع اليوم انطوي؟

رب لم ننام، إذا لم يكن لننسي كل شيء؟ وعلام الظلام، إذا لم يكن ليمحو كل ما للنور من أثر؟

ولم يبدو مريباً ذلك النور، نود الحلم؟ وكأنه ما يمت لدنيانا بسبب! ولم يقض مضاجعنا هو، إذا لم يكن بد من أن يكون خيالا في خيال؟

أيتها الأطياف العزيزة يا أطياف النهار، لم لا تأخذين في ركابك الذكريات قبل أن ترحلي، وتتركين الأجسام التي لفها الليل ترقد في سلام؟

حسبها الرقاد محنة، فعلام تذكارها بالأوهام؟ علام بربك، أيتها الأطياف، يا أطياف النهار؟

45

لقد نشأت في روضتي كما ينشأ البرعم، فعكفت عليك أظللك من حر الشمس، وأروي بدموعي تربتك.

إلي أن تفتحت كورد الربيع، فكنت النسيم الذي بعث الرعشة في أوراقك، والبلبل الذي غرد لك فعلمك الحب.

ولكن اللصوص ويا لهم من أشرار، لم يلبثوا أن فتنوا بك، فغافلوني وسرقوك ليزينوا بك روضاً لهم، تاركين فراغك يشيع البلي في أيامي.

أواه! فيما مضي كنت أبكي لأبلل تربتك وأندي أوراقك. وكنت أغني لأشيع في أيامك الحنان، وأزف إلي قلبك أشواقي. ولكني الآن واأسفا بعد أن فقدتك، لا أدري لمن أغني أو أذرف الدمع.

تري من ذا الذي يبكي لك الآن فينديك، وإذا غني لك تنصتين؟ وهل نسيت أنت روضك القديم، وأنست إلي أولئك القوم الغرباء، أم مايزال يعاودك الحنين إلي الربوع التي رعت طفولتك، ونمت فيك مناظرها وترعرعت؟

واأسفا علي غرس ضاع سدي، وجهود ذهبت أدراج الرياح! كأني ما زرعت إلا ليحصدوا، ولا كددت إلا ليستحلوا لأنفسهم عرق جبيني.

حسبهم الله، من جنوا غرسي ونهبوا

أحلامي، وتركوا روضي بلا زرع، ولياليَّ بلا أحلام!

46

لمحوه في الطريق إلي بيتها يضرب في الأرض بعصاه. كان خافض الرأس مهلهل الثياب كشحاذ، فأنكروا هيئته.

مسكين، أين زمن كان يقطع فيه هذا الطريق في مركبة من حرير، تجرها خيل مذهبة؟

انتصف النهار، وما يزال التعس يضرب في الأرض علي غير هدي.

انقضي اليوم، فسربت الدماء من قدميه مع مسيل الشفق.

خيم الليل، فرئي يتابع السير مهتدياً بالنجوم.

وفي الصباح، سألوا الملقي علي الطريق: أين وجهتك؟

نكس رأسه ولم يجب. إنه نفسه لا يعرف إلي من يسير.

لقد هجر الطائر عشه وذهب إلي بلاد نائية. ولكن أليفه وارحمتاه له! يصر علي أن يقطع الطريق الذي اعتاد أن يقطعه كل يوم.

رحمة بنفسك يا من أدميت قدميك في العبث! قم عد أدراجك. لقد انقضي كل شيء. والطريق الذي كان بينكما يفرشه الورد، لم يعد به غير أشواك.

47

لقد تألقِت زماناً في سماء حياتي، كنجم المساء إذ يزين بردة الليل، ويهدي الساري سواء السبيل.

وتفتحتِ في حنايا فؤادي كبرعوم زهرة وافاها الربيع، فعطرت أيامي، وحليت صدري بمنظرك.

ورفرفت في خواطري كمثل حمامة الأيك، فأشعت في خمائلها النغم، وأفأت عليها من جناحيك ظلاً ظليلاً.

ولكن لاح الصباح فاختفي النجم واقتطف الوردة عابرو السبيل، ثم جاء الصيادون فلفوا الحمامة في شباكهم ومضوا بها.

وترك أولئك القساةٌ سمائي بغير نجم وصدري بغير زهرة. وغصني بلا طائر يغرد فوقه.

48

في نسيم الرياض، أنشق عبيرك. وفي ترجيع البلابل أسمع صوتك- أيتها النائية.

ترين أتدركين وأنت تقطفين زهور الصباح، أن أنداءها دموعي حملتها الرياح، وعبيرها نفحات من شوقي سافرت إليك عبر الوادي؟

وهل تذكرين وأنت واقفة تجمعين الورود في مغرب الشمس، أن جواي هو الذي أضرم النار في الشفق، وأن وردك ما تخضب إلا من دمي؟

وعندما يخيم الليل وترنو إليك النجوم اللوامع، ألا تلمحين في ومضها بريق عيني الساهرتين؟

وإذا ما حَبَا إليك من القمر شعاع، فأسعَدَ بالأحلام منامك، أفما تقرئين في ضوئه الهزيل سطورَ وجهي الشاحب، أنا الذي أضناني في حبك البعادُ وسهرٌ الليالي؟

49

طال بيِ هَجْرهُ وهٌنْتٌ عليهِ

فاتنٌ تسجدٌ القلوبٌ لديهَ

يا حبيبي وَهَي المحبّ فرفقاَ

بصريع الهوي وخذ بيديه

ما سقيط الندي علي الزهر إلا

عبرات تفيض من مقلتيه

ونواح الحمام غير شكاة

رجعتها الطيور عن شفتيه

أنا بي وجد عاشق مستهام

لا تنام الجراح في جانبيه

في سبيل الحبيب يمشي علي الشو

كِ ويدمي من أجله قدميهِ

لو سألت الورودَ عمّن تٌراها

من دماه ارتوت لأومت إليه

أو سألت الرياض من بث فيها

نسمات الصبا لَدلّتْ عليهِ

كم قضي الليلَ يرقبٌ النجم حتي

خيل ومْضٌ النجوم من دمعتيهِ

فإذا ما غَفَا فذاك ليحظي

بخيال الحبيب في غمضتيهِ

50

لماذا عدتِ إليّ يا غادرة؟ لقد كنتٌ أظن وقد زوجوك كرْهاً من سواي، أنك ستعيشين عمْرك بَتولاً، محتفظةً إلي الأبد بفمك عَفًّا، ليظل يسبح بذكريات حبنا الجريح.

ولكنك واأسفَا أنِسْتِ علي مَر الأيام لمن نفِرتِ قبْلاً منه، وأسلمْتِه بعد التمتع فمك، منتهكةً حرمة حبنا المقدس، ناسيةً أن هناك علي بقعةٍ أخري من هذه الأرض، عاشقاً هجر زخرف الحياة، ووقَف أيامه علي التوجه لهذا الحب، يصلي له ليل نهار، ولا يضنّ عليه بأن يحرق شبابه بخوراً له.

لَطالما حدثوني وأطنبوا عن جميل وفائك، وأكبروا فيك عذراءَ ضحت علي مذبح العفة بجمال جسدها حفظاً لعهود الهوي. ولكنني لم أعتمّ أن وقفتٌ علي الحقيقة ولَشدّ ما كانت مٌرة، فهوي علي رأسه وتحطّم، صنمُُُ ُ لك كنتٌ في فؤادي قد أقمتٌه، تاركاً علي البقعة التي تردّي فيها ألْفَ جرحٍ وجرح.

لكِ الله! يا من جازيتِ بالسوء عابدك! وجعلتِ آخِر صلواته النار.

لا تجادِلي. لقد شهدتُ بعينِي كل شيء.

ويا لها من مفاجأةٍ كانت!

أعلمٌ أن المرأة لا تكون بين أحضان زوجها خائنة، ولكنّ زواجك نفسه كان خيانة. خيانة لحبنا الذي تبادلناه يومئذ وأنت مطلقة السراح من كل قيد، فصار أسبقَ في حقه عليك من كل صاحب حق. وإنّ زواجاً يقوم علي خيانة، لَحلاله حرام. وإنصافٌ الزوج فيه، إنصافٌ علي حساب الحبيب.

اذهبي، فلقد انقضي كل شيء. وأحسبك عرفت يومئذ من نظراتي أنني أصدرتٌ حكمي، وقضيتٌ علي حبنا بالزوال.

اذهبي لمن رٌمْت إنصافه. اذهبي لمن بعتِه حقي ثم قضيتِ له به. اذهبي، لقد بعتِ ما لا تملكين. وكنتِ في عدلك ظالمة.

ما جدوي بكائك؟ دمعٌك لن يأسو جرحي. ولن يغسل إثماً اقترفته، قد سبقه ومضي مع اليوم الذي راح به، واستقرّ في ضمير الزمان بعيداً عن محاولاتنا.

لو كان للأمس أن يعود فيمثل بين أيدينا، لقلتٌ لك أغْرِقيه في صيِّبً من دموعك، وردي عليه نقاوته. ولكن هيهات وقد ولي غير تارك منه إلا الظلال التي لا سبيل لتبديلها.

هبيك تقدمت إلي الآن وحاضرٌك في يمينك ناصع طاهر، فكيف أستطيع أن أحجب عن عيني أمْسك الموصوم؟

اذهبي، لا أستطيع أن أنسي الماضي بحال ولا أن أسْقطه من حساب حبنا.ذلك أن الود كالعمر لا يتجزأ. أمْسٌه يعيش في حاضره، بكل ما فيه من كٌدْرةٍ أو نقاء.

لا فائدة. لقد أتلفت كل شيء. أنا نفسي لا أعرف كيف أنسَي أمْسك الملوث، ولا أيةٌ رُقْيَةٍ في مقدورها أن تطهره.

والأمرّ من إباحتِكِ فمَك أنك أسلمتِه من أسلمته عن رغبة،هبيها عابرة كما تقولين، لمعت بجسدك في لحظة طيش، إلا أنها رغبةٌ علي أي حال، وهذا ما لا أغتفره.

ذلك أنك لم تكوني لي بقلبك فقط، وإنما بقلبك وجسدك، بسرك وجهْرك معا. أجَل، كل ما فيك كان ملكا لي وإني لأنكر عليك أن تمنحي امرءاً سواي قبلة تحْدوها الرغبةٌ أيةً كانت طبيعتها. حتي ولو كانت إلي حبة الفؤاد أن تتغلغل، وعلي شفتيك تموت قبل أن تتجاوزهما.

اذهبي، إنّا شقيان. الأقدار تحالفتْ علينا. فحرمتنا حتي ذلك العزاء الذي لبثنا نعيش في كنفه بعد أن تشتتنا كل في مكان بأن أوعزت إليك أن ترشقي فيه سهماً بيدك.

فرشقته، فانبثق منه الدم، فخرَّ صريعاً.

يا تولاك الله! إنك مسكينة مثلي سخرتك الأقدار في حفر قبرك. فحفرته وحفرت قبري معك.

اذهبي، آن لنا أن نفترق. آن لنا ذلك فالوداع.

51

أيها المحبّ العابدٌ للجمال! ما آخرةٌ هذا اللهب الذي تشعِلٌ في قلبك، وتركع أمامه في خشوع؟ أمشرك أنت تعبد النار؟

عجب لأمرك! لقد أقمت لك من غادة تمثالاً، وأوقدتَ من صبوتك ناراً، ثم قضيتَ يومك تسجد للتمثال وتخر عند اللهب!

كبرت فعلة أقدمت عليها! قم أخمد النار وحطم الصنم، ثم توجه لربك الحق واعبده تعالي في المعني السرمدي والأسماء الحسان.

52

كنتٌ في حديقة الضاحية، وجلستْ عذراءٌ بين لداتها تنضد عقداً من الياسمين كانت حسناء رائعة الحسن، فجلست قبالتها يفصل بيننا ممشي غير مطروق.

وكان اليوم ربيعاً، وثمة شدو بلبل مختبئ ينبعث من الدغل.

وخفتت ثرثرة العذاري لمقدمي، فما عدن يتحدثن إلا بهمس. وكثر ما تبادلن من غمز وبسمات.

وبدأ علي أجملهن الارتباك، وكنت قد خصصتها بأعمق نظراتي. وكانت هي من تنضد العقد.

وقلقت حبات الياسمين في يديها، وأفلت أكثرها من بين أصابعها تباعا.

ودحرجتها نحو مقعدي النسمات، ولا أدري لم تورد وجه الحسناء آنئذ؟

وخيل لي والزهرات البيض تتعلق بذيل ردائي، أنها تقضي إليَّ بسر من كانت بها ممسكة. تلك التي لبثت علي حرجها، حي لقد مر وقت غير قصير وما تقدم عقدها في سبيل التمام خطوة تذكر.

وكأنما لم يعد لها بمتابعة تنضيده قبَل، فلقد همست في آذان رفيقاتها يضع كلمات ونهضت.

ووجف فؤادي عندما رأيتها تتخذ وجهتها نحو ممشي منعزل. فغافلت أترابها وتسللت سالكاً طريقاً غير الطريق. غير أنهن لمحنني وابتسمن.

وسرتٌ أتعثر في خجلي عندئذ، وأسائل نفسي عن سر نهوض الفتاة، وابتسام صويحباتها حين نهضت.

كانت خطتي أن أدور مع الممشي الملتف، وألتقي بها عند تقاطع الطريقين.

ودق فؤادي في عنف عندما صح ما توقعت وألفيتني أمامها وجها لوجه. وكان ذلك بقرب حظيرة الغزال.

لم تفاجأ الصغيرة بي، غير أن رجفة حبيبة داعبت شفتيها. تراها كانت تتوقع قدومي؟

جمعتٌ أطراف شجاعتي وسألتها: أتعرفين مكان الخميلة هنا؟

وأطرقت حياء ولم تجب.

أعدتٌ عليها السؤال فنكست عينيها إلي الأرض. وخيل لي أن لحظها يسكب علي الممشي الظليل نقطا من نور. فهل خدشت حياءها فراح يقطر هذا المطر النوراني؟

وقفت برهة أتأمل منظرها في عجب، ثم عدت أقول لها: أما تجيين؟ أين الخميلة التي هنا؟

وأخيرا أجابت: بالخجل! ولم تسأل؟

تناولت قبضة يدها في يدي ورحت ألاطفها وأنا أقول: لله يدك الناعمة كزهر البكور، وقدك الممشوق كغصن بان! أوما ترين أن شعرك كريش نعام، وأن رداءك في لون رقبة الطاووس؟ ما أروع الجمال إذا اجتمع إلي الأناقة! أين الخميلة التي هنا؟

وأجفلت وهي تقول: دع يدي. إنك تلقي عليَّ أسئلة غريبة. لست أعرف أين تقع.

قلتٌ: إذن نبحث عنها.

قالت: وما شأني بهذا؟

قلت: أما تريدين أن نمضي بها بعض الوقت؟

قالت: وماذا نصنع هناك؟

قلت: تكملين تنضيد العقد الذي لم تكمليه. وكلما أفلتت من يدك حبة من زهر الياسمين فدحرجها النسيم علي الأرض، التقطتها لك ووضعتها في حجرك.

وابتسمتْ وبدا عليها أنها تذكرت شيئا خجلت له، شيئاً كشف سرها ثم عادت تقول: وما فائدتك من هدا؟

قلت: أن أرقب من زوايا عيني الماكرتين، أصابعك المخروطة كأنها الموز، وهي عاكفة علي أداء عملها في رشاقة. وأتناول العقد بعد أن تكمليه، فأطوق به جيدك هذا المرمري. وأحاول وأنا أزلقه من رأسك المستدير كجوهرة، أن ألمس خدك الأسيل، وأنشق عبير شعرك وهو يعبث بوجهي كلما داعبته نسمة عابرة وأن أبث العراقيل وأنا أؤدي لك هذه الخدمة، وأتظاهر بأن بالعقد ضيقا، لكي يستغرق أداؤها أطول وقت ممكن.

وانفجرت ضاحكة. ثم عادت فاعتدلت في وقفتها وقالت: حسنا. سأصحبك إلي الخميلة أين تكون هي؟ إنك تعرف مكانها بلا ريب.

قلت: صدقت. إنها هناك. وأشرت إلي مقعدين يعرش فوقهما نبات ذو زهر أزرق ثم قصدنا إليها ذراعاً في ذراع.

كان النسيم عليلاً، والممشي الطويل المنعرج يفرشه نثار من زهر البرتقال.

ولاحت لنا الخميلة ونحن نقترب منها، كحلم جميل نشر أجنحته ليرفرف علينا.

53

عندما دنوتِ من النهر تملئين جرتك وخلاخيلك تجلجل فوق الأعشاب، كم رقص الموج عندئذ علي نغماتها الموقعة، وشب لكي يلثم قدمك!

وعندما رفعت الجرة إلي رأسك، وأساورك تصخب ذلك الصخب المكتوم، كم فار الزبد عندئذ من الوعاء، وسأل علي صلصاله ليقبل رسغك.

وعندما سرت ونهداك يرتجان ذلك الارتجاج العف، كم قلق النسيم عندئذ، وتسلل من تحت قميصك ليسر إليهما أشواقه.

فلا تعجبي إذا كان قلبي قد دق في جنون وأنا أرقبك، وأفشي إليك سري عندما مررت بي وأنت عائدة.

54

رقص القلب حين دقت تحت شرفتي خطواتك، ثم غاب معك يا عابرة السبيل.

ألا خبريني بالله أين ذهبت به، فإنه لشيء محير أن يجهل امرؤ مكان فؤاده.

قولي أين تكون من الحي دارك، وإلي أي جيراننا تنتمين؟

أين تجلسين لتلاعبي طيورك، وتعزفي موسيقاك؟

أين يقع بستانك حيث تقطفين زهور الصباح؟ وبركتك حيث تستحمين؟

وأين تمدين هذا الجسد البديع في الليل، حين يرفرف علي أجفانك النعاس؟

فهنالك أستطيع أن أتعقب فؤادي وهو سائر في ركابك، يشاطرك تمضية أيامك المترفة.

لك الله! لقد مررت بي في مثل لمحة البرق، فسلبتني أنفس ما أملك، ثم اختفيت كلص.

ومع ذلك فقدماك الجميلتان تجهلان تلك الجوهرة التي علقت بهما وهما مسرعتان تعبران السبيل.

55

لقد مررت ببستاني كنسمة عابرة، ثم اختفيت بين خمائل رياض عدة، بعد أن أغرقتني في كأس من عبيرك المسكر، تاركة إياي حين أفقت، أفتش عنك عبثاً في زوايا ألْف بستان وبستان.

وقع خطواتك، لم يزل يدق في قلبي.

رنة خلاخيلك، لم تزل في صدري تجلجل.

مصعدة إلي لبِّي المسحور، تلافيف أنغامها كأنها دخان.

ساقاك البضتان، المخروطتان كجمارتي نخلة، ما تزالان تضيئان أمامي الفراغ الذي خلفته وراءهما شئ واحد أذهلتني المفاجأة عن انتهازه، أيتها العابرة بسبيلي. بيد أنه كان كل شيء ذلك أن أمد جسدي في طريق قدميك لتدبا عليه ذلك الدبيب الحبيب، ومن فوقهما ساقاك الحلوتان تصبان جمالهما علي تلك الخطا فينفذ إليَّ خلالها.

لك الله! لقد تركتني أحسد الحصا الذي دسته، والفراغ الذي شغلته ساقاك هاتان!

56

لدي بابك يا غادة الحي سائل جاء يستجدي.

فهلا رميت إليه من عينيك بشعاع؟ أو بزهرة فائضة من سلة أزهارك؟

هلاّ نهضتِ فلاعبتِ بيانك، وحدَّرتِ

إليه من نافذتك بأغنَيةٍ حنون؟

هلاّ سكبتِ قرارة كأسك من شرْفتك،

فأصبتِه من مائها المعطَّر برشَاش؟

هلاّ قذفتِ إليه بقشور فواكهك،

أو بلفائف الحلوي التي تفضِّين، فيتلقفها

شاكرا؟

بربك إلاّ منحِته شيئاً ولا تدَعيه يعود

محزون الفؤاد.

إنه مسكين! منذ الصباح وهو يتوسد

العشب لدي عتبة بابك، معرِّضاً نفسه لحرِّ

الهجير، ولعيون عابرِي السبيل المتسائلة

ثم إنه قنوع. يقنع ولو بنظرة. ولو

بزهرٍة فائضةٍ من سلة أزهارك. أليس شحَّاذا؟

57

لم أكنْ قد رأيتكِ من قبل، حين طرقتِ

بابي أول مرة، غير أن نورك لم تغب معرفته

علي فؤادي الذي طالما سبتْه منه فتنةٌ غامضة.

ولكم انثنيتُ إلي نفسي أسألها كلما لمحتُك

في مبهمٍ من شعاع، قائلاً: حقًّا ما أجمل

هذا السَّني! غير أني لا أعرف من أي

كوكبٍ يسطع؟

إلي أن جئتِني باعثةً إلي قلبي ذَيّاك الضياء

المألوف له، فعرفتُك لأول وهلةٍ وهتفتُ:

ها هي ذي!

أفَتُريْنك إذَن تلك الحسناء المقنَّعة،

التي سكنتْ خيالي من أمدٍ بعيد، عاكسةً

ضوءها الحبيب علي حياتي، دون أن أعرف

موضعها من هذه الدنيا؟

وهل حقًّا أنني طالما أرسلتُ في طلبك

خواطري، لتستدلّ عليك وتقتنصك لي،

فكانت تتنقل باحثةً عنك من كوكبٍ إلي

كوكب، ومن سماء إلي سماء، ثم تعود إليّ

من جولتها خالية الوفاض، ويمرُّ اليوم في

تعبٍ وضني؟

أوَ ليس من العجيب وكل هذا الخفاء

يكتنفك، أن ينشأ بيننا ذلك التعارف المبهم،

إلا أن نكون قد التقينا معاً في عالَمٍ غيْر

العالَم، وزمان غير الزمن، فتوثقتْ بيننا

أواصرُ ألفةٍ وطيدة، لم يستطع أن يحجبها

عن أرواحنا النسيانُ الذي مَرَّ بنا خلال

موْتاتِ عِدَّة، ومحَا من ذاكرتنا كلَّ شيء؟

حتي إذا ما جمَعت اليوم شملَنا الأقدار،

عرفتك علي التو وفَتحتُ ذراعيّ لاستقبالك،

واضعاً بين يديك فؤادي لتنقذيه من تيهه،

وتَردِّي عليه حياةً طالما في التَّعِلَّة ضيَّعها

58

لقد اهتديتُ إليكِ متأخرا. نعَم لقد كنتِ

أمنيّة القلب، ولكنّ بُعدَ سمائك يومئذ

جعَله يحلِّق إلي حين في سماءٍ أخري.

إنه ذاق قبلك الهوَي، وشربَ منه كأساً

مُتْرعَة. ولكنّ قرارة الكأس واأسفَا

كانت من علقم. فلما أن جَرَعها، عكَّرتْ

صفوه المعهود.

مسكينٌ لقد تَمَرَّرَ فمه، فما عاد

يستطيع أن يتذوق حلاوة كأسك.

كل الكئوس الآن في فمه سواء. لأن

مرارة فمه تمرِّرها جميعا.

أجَل، لن يبتهج لك الآن، كما لو كنتِ

أتيتِه وهو من الأحزان خال.

إنك رائعة، ولكنْ أين القلب؟ مَن

كان له جمالك، يحتاج إلي قلبٍ بكْر، لا

يشاركه فيه حزن، ولا طيفُ حبٍّ قديم.

في وسعي أن أمنحك خالص إعجابي.

وأن أغازلك فأحسِن غزَلك. ولكنني لا

أستطيع أن أمنحك حبًّا عظيما لأنك لن

تتغلغلي إلي قلبي إلا ممتزجةً بهذه المرارة التي

تسمِّمه. لأنك لن تكوني فيه بلا شريك.

وشريكاتك فيه أحزاني، وطيفُ المرأة

التي كانت قد احتلته من قبلك. ثم كلُّ نساء

الأرض من بَعْد.

ذلك أنه مادام ليس له ربةٌ تحميه، فلن

يكون بابُه إلا مفتوحاً لكل عابرة سبيل.

لسوف يمْلكه الجميع، ومن ثَم لن

يكون لأحد.

59

لا يُنْقِمَنَّك عليه أنه يغنِّي للجميع.

إنه شاعر، وتلك رسالته.

إنه عنصرٌ من عناصر الطبيعة، كالسماوات

والنجوم والأقمار، وهذه لن يتملكها أحد.

أحبِّيه إذَن ذلك الحبَّ الحزين، الذي

يشبُّ في القلب بلا أملٍ فُيذبِل عُوده.

كُوني كالزهرة إذ تَعشق القمر، ولَهَا

فيه شريكات. ترنو إليه في وجْد، وقد

خُضِّلتْ من نَداها بدموع.

كوني كالريح إذ تَعشق الغضن، وهو

مع كل الرياح يميل.

كوني كالضفَّة إذ تهوَي الموج، وهو

لكلِّ الضفاف مُعانِق.

كوني ككل هاتيك العاشقات، اللاَّتي

كلِفْنَ بمن ليس لهم قلب.

في هذه الدنيا أشياءُ لا تُمْلك، لأنه

من الخير أن تظل للجميع.

تصوَّري أيةُ ظُلُماتٍ تعمُّ الكون،

لو أن زهرةً واحدةً استأثرتْ بالقمر.

وكيف أن الغصون تصفرّ، لو أنها

نَشقت من ريحٍ واحدة.

ويقفُ مجري النهر، لو استحوذتْ عليه

ضفةٌ بعينها.

وما مثَلُ الشعراء إلا مثَل القمر

والأغصان والموج. يضيئون علي كل قلب،

ويميلون مع كل هوي، ويحيُّون كل شفاه.

وإنها لَمحاولةٌ عقيمةُ أن تستأثري بشاعر،

وهو ماخُلِقَ إلا ليكون للجميع.

60

يا وردةَ الفجر البهيج يا ما أبْدعك!

بِكْرٌ عبيرُك! ورطْبٌ ملمسُك!

ولكنْ خبِّريني ما هذا الذي عليك يرفُّ،

وأيُّ قطْرٍ بلَّلك؟ أهو الندَي أزجاه في

الفجر الغمام، أم الدموع ذرَفْتِها علي ارتحال

القمر؟

يا حسْنَها! إنها له عاشقة! حظُّها في

الليل. ولذا يحزنُها النهار.

لك الله يا قمر! في المساء، تَسكب عليها

ضوءك المسْكر، فُتتْرع رأسها بالأحلام.

حتي إذا ما انطوي الليلُ وسَطا علي الأحلام

الصباح، ذَكَرتْ عشْقها وبَكت.

أين صبركِ الجميل؟ وشيكاً يرْجع الليل.

ولكنْ، والهفاه! إنك ما تُمهَلين حتي

يعود.

ذلك أن القدَر شاء أن تكوني قصيرة

الأجَل. حتي لقد شبَّهوا بك قصار الأعمار.

فإذا ما صبيةٌ في ميْعة العمر قضَت، قالوا:

يا حَسْرَتا! كان عمرها من عمر الزهر.

ولهذا أنتِ تبكين. وتبدو أوراقك

كمُقَلٍ مُغرورِة. لعْلمك أنك ذاويةٌ

عمّا قليل. وأن ليالي الأحلام مرتْ خاطفة.

سريعةَ الخُطَوات كعمرك القصير.

كل شيء فيك خاطف! حتي سناك،

يخطِف الأبصار!

فواأسفَا علي لحَظاتٍ عابرة! كانت تهُون

لو لم تكن عزيزة. أو أنها أمهلَت.

61

نرجستي، يا نرجسة الرُّبيَ! خبِّريني عن

سرِّ صفرةٍ ما تفارق وجنتك.

يخيَّل ليِ أنك مضناة. وأن ثَمَّةَ

وجْداً بكِ بَرَّح.

تَبًّا لهذا القمر عشيقِك! ما يَعرف

في العشق تقوي الله!

يغازِل من شرْفته ألْف زهرةٍ وزهرة.

ويَسكب الحنان في قلوبهنَّ جميعا.

كأسٌ حلوةٌ لولا أنها مسْمومة. مُزِجتْ

خمرتها بالحرمان. ذلك أنها تُمنَح كلَّ الشفاه.

فما تُروِي بأيهنَّ ظمأ.

مسكيناتٌ هذه الزهور! تَبذُل للهوي

عمرَها في ليلة!

حتي إذا ما طلع الصباح، ألْفوْها ذاوية.

ألْفوْها مكانَها براعمَ تتقدم للفداء. لِيضحِّيَ

بهنَّ الغادرُ علي مذبح عبثه.

وإنْ هو إلا أن تغرب الشمس، حتي

يُقبِل عليها في موكِبٍ من ضياء. تحفُّ به

الدراري، وتزفُّه الجنادب بأرخم نغم.

وما إنْ يَبذر لحْظَه المفسِد، حتي يَهتك

سِرهنَّ المغلَق، وينْفُض منه ذلك العبيرَ

الجميل.

ومِن عجَبٍ يا زهوري الفانية، أن

شبابه أبدي! وما يُرَي إلا يتبسَّم!

62

وهكذا ينقضي كل شيء، وتموتين يا أول

مَن حفَر مِن الغيد اسمَه في قلبي.

لكَم قلَب لنا الدهرُ ظَهْرَ المِجَنِّ،

وهبَّت علي حبنا الأعاصيرُ من كل جانب،

ومع ذلك فما أفلحتْ في أن تمحو نقوشه،

لأنها لم تكن محفورةً في رمال.

لم تكن محفورةً في رمال، وإنما في

الفؤاد وفي حبَّته. تتعاقب عليها الأيامُ والليالي

بها تمرّ، وماتزال في عمْق مجراها كأنها

حُفِرت أمس.

ولقد نجح القدَر في أن يغريك بالإساءة

إليّ، كما نجح في أن يثير عليك نقمتي، ولكنه

لم ينجح البتَّة في محو ما كان بيننا.

والآن وقد رحلتِ عن هذه الفانية، قبل

أن تشاهِدي بعينيك سحابة غضبي تنقشع من

سماء حياتك، وتُفْسح لصفحي الجميل لكي

يُسعِد أيامك الأخيرة، إني لَتفعل بي

الحسرةُ فعْلَها ويُودِي بي الندم.

ولَئِنْ يكُن قد فاتني أن أؤدي حقَّ

الوفاء لأيامك، فلن يفوتني أن أكون الوفيَّ

عمري لذكراكِ وأنتِ ميتة.

ولَيظفرنَّ رفاتكِ مني في الجدَث، بما لم

يظفر به جسدُك الجميل وأنت علي الدنيا.

63

كانت زلةً اقترفها فمك، في لحظةٍ من

لحَظات الطيش.

فاجأتُك ومايزال الرحيق فيه، فقلَبْتُه

في حلقك غُصَّة.

ومع ذلك انثنيتِ يومئذ تسألينني الصفح،

لكنني لم آبَه لك.

ألححتِ في التوسل، غير أني أوصدتُ

أذنيّ دونك.

خررتِ عند قدميّ باكية، فتركتُك

وذهبت.

وفي الصباح، جئتِ تطرقين بابي، إلا

أني أصررتُ علي ألا أفتحه.

ولمّا أن تورَّدتْ يداك علي غير طائل،

عدتِ أدراجك يائسة.

ومرَّت أيامٌ فأخبِرتُ أنك في الضني

راسفة. وأن ورْدَ خدك قد ذَبُلَ وغارتْ

عيناك في محْجَرَيْهما. وأنه قد مات علي

شفتيك بمرارةٍ ذلك الابتسامُ الحلو الذي لم

يكُن يفارقهما.

وانصرم عامٌ فقالوا ليِ إنك ملازمةٌ

فراشك، تعانين داءً جرَّه عليك الحزن.

وأخذتْني بك شفقةٌ، وعاودني إليك

حنين، فقصدتُ إليك أعُودك.

وطالَعني منك سأمٌ من الحياة، وإشاحةٌ

بوجهك عن كل شيء. وراعني أن بصرك

كان كلما التقي بشأنٍ من شئون الدنيا، لَوَي

نورَه عنه وراح يُفْرغ نفسه في السماء.

فأيقنتُ أنك نفَضْت يدك من دنيا فانية،

وأنك أعددتِ للنوَي أهْبتك.

أنَّبت نفسي في قسوة، وسألتُك ألا

تذهبي.

فرنوتِ إليّ عاتبة، وكأنك تقولين ليِ:

جئتَ بعد الأوان.

توسلتُ إليك، ولكنك قلَّبتِ كفَّيك

في يأسٍ وقلتِ: خرج الأمر من يدِي.

تشبثت بك وأنتِ تجرجرين آخِر

خطواتك، فانسللتِ من بين يديَّ وذهبتِ.

نععم، ذهبتِ إلي السماء، حاملةً شكواك

معك.

عندئذ قالوا: يرحمها الله! لقد بَرِئتْ

جراحُها. ثم خرُّوا باكين علي الجثمان

المُسَجَّي.

لم يكن في وسعك إلا أن تغادري هذه

الفانية. لقد ضيَّقتْ عليك الخناق وسَدَّتْ

في وجهك السبُل، فأسلمتِ أمرك إلي الله،

وذهبتِ تبحثين عن مكانٍ آخر، يتَّسع

لشخصك الذي نُبِذ ظلماً وعدوانا.

واكبِداهُ للمسكينة! ماذا علي المرء وهو

يمشي فوق صِراط التُّقَي الشائك، لو

زلَّتْ به القدمُ مرة، فانحني يقطف وردةً

يَخْلِسُ منها بارقةً من نعيم؟

ولكنَّ الدنيا قامت قيامتها عليك يومئذ،

لا لشيءٍ إلا لأنك رشفتِ في ساعة من

ساعات نزَقك كأساً تاقتْ نفسُك إليها،

ثم عدتِ تكفِّرين عن ذلك بالندم.

وكأنما قد ضاقت ذرعاً بلحظة مرَحٍ

ابتهج لها قلبك، فراحت تطاردك وتغلق في

وجهك الأبواب، حتي إذا ما التفتِّ حولك

فلم تجِدي مِن مجير، وأحسستِ كما لو كان

مُقامُك لا يطيب لها، تَركْتِها وذهبتِ

في سلام.

فكنتِ كذلك الشريد الذي إذا أضناه

السُّرَي، مالَ بجنبه إلي الأرض ونام.

فنمتِ نومك الأبدي، ولكنْ قبل أن ينصرم

نهارُ حياتك، ويجيء الليلُ الذي ما يضيرُ

الأجفانَ أن تغمِض فيه.

64

أين عهدٌ منكِ خَلا، غردتِ فيه فوق

خمائلي، وأشَعْتِ منه البهجة في حياتي،

أيتها النائية.

بستاني قد عَرَاهُ الجفُوفُ من بَعدك،

وهجرتْه صَوَادحُ الطير. انظري وردَه

الذابل، وأوراقَه المصفرَّة. وعروشَه التي

عشَشَت فوقها الغربانُ، وإليها البومُ أوَي.

انظري مَمَاشيه كيف نبَت فيها الشوك،

بَعد أن كان يغطيها نِثارٌ من زهر الشجر.

وكوخَنا كيف تداعتْ قوائمه، ويَبستْ

فوق سقفه الأغصان، ولِلوحش أضْحي

مَسْرحاً وجوارحِ الطير.

أين منه جدولٌ كان ينساب منْعرجاً

وسط المروج، وقد رَقَّ فوقه الموجُ،

وازدانت منه الضفافُ بالعشب النَّضر؟

وبحيرةٌ طَفَا فوق سطحها الزَّنبق، وسبَحتْ

فيها أسرابُ الإِوَزِّ رائحةً غادية؟

واأسفاه عليهما ! الماء مِنَ مَعينهما نَضَب.

وذبل زهرهما، والطيرُ عنهما نَزَحَت.

كل شيءٍ بَلِي. وهذا زورقنا مُلقيً علي

الضفاف. محطماً ينْخر السوسُ فيه.

أين منه شراعٌ كجناح الحمامة كان؟ ومجاذيفُ

مَقابضُها ذهب؟ أين منه وسائدُ من الحرير

صُنِعَت وريشِ النعام؟ وهَودَجٌ فيه

حكَت نقوشُه الإِبداعَ، ومصباحٌ عليه أزرقُ

اللهب سحري؟ حيث كنا نتخذ مجلسَنا

والفُلْكُ يَسري بنا علي مَتْن الأمواج،

تنير لنا سماءٌ زُرعَت شُهُبا. حتي إذا ما

استبدت بنا عاطفةٌ من حنان، ورأسك

مُسنَدٌ إلي صدري ونسيمُ المساء يداعب

غدائرك، أدنيتُ من فمك الجميل فمي، فتلاقَيَا

في قبلةٍ تكون حلمَ ليلتنا.

عندئذ يساورك قاتلٌ من هواجس. قلَقاً

علي سعادةٍ تضنِّين بها. فتتساءلين والدموعُ

فوق مقلتيك يترقرق: أتُرَي الأيام تمهل

سعادتَنا طويلا، أم أن هناءً كاملاً لن

يُطِلَّ علي عمرٍ بأكمله؟

فأعكف عليك أسَرِّي عنك وأبدد أوهامك،

وقد انعكستْ علي خواطري هواجسُ مماثلة،

كأننا كنا نقرأ الغيب من لوحٍ واحد، فترتعد

نفسي فَرَقاً من مستقبلِ غامض.

وها قد أجابت علي سؤالكِ الأيامُ،

وحَققت الليالي هواجسك. فنضَب من البحيرة

ماؤها. وزورقنا علي جنبه انكفأ. وأضحَي

روضنا من بَعد يُنوعٍ بلْقَعا.

فمَن ذا الذي كان يَظن والبهجةُ ترفرف

علي ذَيَّاك المكان، وظلانا الحبيبان يمرحان

في طُرُقاته ويعمران خمائله، أن يد البلَي

ستمتد إليه قبل الأوان، فتُعمِلُ الهدمَ في

رُبَاهُ وتجففُ أعواده. وأن هَذِي البِقاع

وشيكاً ستندثر، تاركةً ذِكرياتِنا تحدِّثُ

عنها هاتيك الحُطَام.

إيه يا حبيبتي! ذهبتِ وأخذتِ ربيعي

معك. وخلَّفتنِي لخريفٍ كالبيداء قاحل.

لا خُضرةَ تنْبتُ فيه ولا يغرِّد طير. وإنما

إجدابٌ علي طول البصر. وهَيْنَمَةٌ

للريح تَبعث الوحشة في النفس. وتملؤها

مخاوفَ مبهمة.

تعاليْ حبيبتي انظري مُوجَعك. تجِديه قد

شَيَّد له علي الأطلال صومعة. تدبُّ فوق

صخورها الأشواكُ ولا يَنْبتُ زهر. اللهمَّ

إلا نُوَّارٌ دقيقٌ أبيض، لا أنْسَ فيه ولا

حياة. فكأنه في جفائه الثلجُ أو فكأنه

الكفَن. فيبدو أشْبه شيء بحسرتي المميتة.

ويعكِس الفناءَ علي أيامي الباقية.

طيْري فيها غربانٌ وبوم. وأناشيدي

نعيبٌ يَخرج من صدورها مكبوتا، ثم ينتفخ

في الفضاء كعاصفة، فيبُتُّ الهولَ حولي

والفزع.

تلك حياتي كذلك أقْضيها. خريفٌ

أعْقبَ منِّي الربيع. وفي انتظار شتائي،

أعُدُّ اللحَظاتِ لأسدل الستار علي نفسٍ

معذبة. حين تمتد يدٌ للموت كالصقيع باردة،

فتطفيء الذَّمَاء من شعلةٍ يا طالما جادت في

النوائب من لهبها، وعندئذ يَخمد منها آخرُ

قَبَس، مصعِّداً لهيبَه المائت إلي السماء،

وإذا الجسدُ الحيُّ جثمانٌ مُسَجَّي، في

هُمود الثلج وبرودته.

65

لمَ لمْ أصدق عينيكِ حينما أنبأتاني بأنك

راحلة؟ يومَ كنتِ وماتزال العافية تختال

علي شبابك، وكلُّ شيء فيك بَطِرٌ مَرِح،

لولا عينان منكِ كثيراً ما كانتا تشْردان،

كأنهما تقرآن من الغيب شيئاً. شيئاً إنْ كان

قد فاتك حَلُّ طلاسمه، فهو لم يغب عني

لأنه كان في عينيك مسطورا.

أجَل، فلقد قرأتُ السرَّ الرهيب عندئذ،

غير أني لم أشأ أن أصدِّقه، لم أشأ أن أصدِّق

أن هذا الشباب وشيكاً سينطفئ، وأن ذَيَّاك

الجمالَ الغضَّ يحنُّ إلي التراب وما يدرِي.

يا ليتني كنتُ صدَّقتُ أنك راحلة!

إذَن لَمَا كنتُ فارقتكِ لحظةً وأنتِ

جالسةٌ علي حافة عمرك، تشيِّعين آخِر

سرْبٍ من أيامك وهو يغيب، لأشاطر ضميرك

يومئذ حزنه المبهم، الذي لم يكن يَعرف

مأتاه فأبي أن يخطَّه علي أساريرك الضاحكة،

وتركك في مرحكِ عمياءَ عما ينتظرك من

مصير.

66

أنا ظمآن! ظمآن إلي طلْعتك! أين

نأيتِ؟ أين غاب هذا الجمال؟

أوّاه! ما كنتُ أحسبُ يوم كنتِ

وجسدُك الغضُّ بين يديَّ، وصوتك الحنون

في أذنيِ ينسكب، أنك ستصبحين طيفاً يأتيني

علي مَتْنِ الرياح، ويزورني إنْ زار في

الكري. أنك ستصبحين نسيماً يجيئني طيَّ

نسيم الصَّبا، أنْشقه وما أراه.

أوّاه! عطْركِ لم يزل في أنفي، مِن

أثر قُبَلٍ ذوت وبقي عبيرها. مِن أثر

قُبل خبا نورها ومايزال علي القلب ظلال.

تعالي حبيبتي! تعالي أضم طيفك، وأطبع علي ثغرك الشفيف قبلة في الهواء، يتردد صداها فيٌ فؤادي حسرة.

تعالي أخاطبك كما كنتُ أفعلُ حين كنت في الدنيا، وإن كنتُ لن أسمع منك الجواب إلا همساً.

أواه من هذا الشفوف الذي صرت إليه ويقتلني! نعم لم أصبحت نوراً في نور؟ ولم أضحي حديثك صدي لاصوت له؟ ولم أضحي حديثك صدي لاصوت له؟

أين جسدك الجميل؟ أين صوتك الشجي؟ أين هما؟ أريدهما وما أريد منك هذا الزيف. أريد أن تلمسك يدي وتسمعك أذني، كما كاتنتا تفعلان وأنت حية.

نورك هذا لاتعرفه يدي. وهمسك لاعهد لأذني به.

أنت كلك، أصبحت غير مفهومة لي. لم تعودي تجيئينني كما كنتُ آلف منك، ولا أنت تخاطبينني كما عودتني.

وعزيز علي أن أجهلك بعد معرفة. وأرتاب فيك من بعد يقين.

67

إني لأراك ياحبيبتي كما كنت منذ عام.

أراك حية، وقد ولجت غرفتي وارتميت بين ذراعي، وقطرات العرق تسيل علي خدك الجوري، من طول ما قطعت إلي من شقة، كندي سال علي وردة في البكور.

فآخذ عندئذ من يدك البيضاء منديلك الحريري، وأنكب عليه أجففه في رفق وأقبل جبهتك.

أراك حية؟ وقد جلست علي حجري تحدثينني حديثك الساذج، وأنفاسك الدافئة تتدفق في صدري، ساكبة فيه عبير شبابك الغض.

نعم أراك كما كنت يومئذ حية، وقد أخذت تعبثين في وجهي ببنانك الوردي، وتهزين ساقيك في نزق الأطفال.

يا لك طفلة، قدمت إلي الحياة في ذات فجر ذهبي، فلم تعيش فيها غير هذا الفجر وبعض الصباح، ثم رحلت قبل أن تغرب شمسُ يومها.

فكان مثلك مثل زهرة الروض، ماتكاد تتألق علي فرعها حتي تسارع إلي قطفها الأيدي، لتزين بها قبل أن تذبل. فذهبت في باكورة العمر وأوج الجمال، ولكن لتزيني الخلود.

68

لقد تفتحت وسط أحزاني طاقة من نور، حين دب علي الظلمات طيفك النائي، وإذا بي أطل خلالها علي عالم كله نسيان في نسيان، غير أنه كان في وقته شيئاً يُذكر.

فرأيتُ ثم بحيرة قد انعكس علي سطحها ضوء القمر، يسري بها فلك، ذو شراع، وقد جلس إليه عاشقان في ريعان الصبا، لم يكونا إلاك وأنا.

وإذا بك تقولين لي وكنت يومئذ حية: ما أجمل لقاءنا! أني ما أحسب أن الليل شهد لقاء أجمل منه. ولا انعكست أشعة هذا القمر، في عيون أعمق حلماً من عيوننا وأشد رضوخاً للهوي.

ولكن لماذا كل شيء جميل يحز في نفسي؟ ألأنه يعكس علي مقامه السعيد صور اغترابه، فيقرن فرحتنا به بالقلق عليه؟

لم نلتق الآن، إذا كان لابد من أن نفترق يوماً، ونعاني مرارة هذا الفراق؟

إني لأري بعين الفؤاد، آلامنا المستقبلة، راسبة في ذات الكأس التي ننهل منها رحيق سعادتنا الآن. ولسوف يأتي يوم نجرعها حين نأتي علي قرارة الكأس.

فعلا م نشدانُ الأشياء الجميلة؟ ولم نزرع بأيدينا بذور حسراتنا المقبلة، من أجل وامضة من نعيم ماتلبث أن تنطفيء؟

أو ليس من الامتهان لكرامة هذه الأشياء العزيزة أن نخلقها للنسيان؟ أو ليس الأولي بنا أن نتركها ثاوية في أطواء العدم، تنزيهاً لأنفسنا عن أن نكون حافري قبورها فيما بعد؟ لماذا نكون كتلك الهرة، التي تلد لتأكل أولادها؟ لايجدر البتة بعاقل، أن يدع له شيئاً عزيزاً علي هذه الأرض. إننا فيها عابرون. فلا ينبغي أن نترك شيئاً من هذه الفانية يعلق بأذيالنا ساعة الوداع، لأننا لن نعود إليها لنصل ود ما انقطع.

إن قلبي ليرتعد وجلاً من مستقبل غادر. وكأني أري بعين بصيرتي خاتمتنا محفورة في هذه السماء.

وإني لأعدني وأعدك مسئولين عن أن مهدنا بتعارفنا لهذه الخاتمة. أجل، ما كان ينبغي أن نخلق البداية، لئلا تكون ثمة نهاية. فإن في أحرف هذه الكلمة الرهيبة، تجم كل آلام البشر.

وانتهيت عندئذ من حديثك، وما يزال الفلك يجوس بنا خلال الأمواج، فرفرف علينا سكونٌ أشبه بذلك السكون الذي يرفرف الآن علي أيامنا. اللهم إلا خطواته من نسيم ان يهب، فيسمع له خفق بالشراع.

ثم أخذت سحبُ المستقبل تمطر مآقينا وابلاً من دموع، ذرفتها ليلتئذ أعيننا قبل الآوان.

ولبثنا هكذا إلي أن رسا الورق وطوينا الشراع، ثم رقينا البر ملوحين بالوداع لليلتنا. فكان في هذا المعني نفسه، ما تمثلنا فيه خاتمتنا المحزنة. حين يئين لسفينة حبنا أن تقطع الشوط الذي كتب لها، ثم تبلغ المرسي وتقف إلي الأبد.

وها قد مرت الأيام، وغاب عني طيفك الحبيب في ظلمات القبور. ولحقت ليالينا بتلك الليالي التي ذهبت ونسيت منذ بدء الخليقة، كأنها لم تمر بهذه الدنيا.

وهأنذا الآن أحصد حسراتي الراهنة، من غرس تلك الليلة وشبيهاتها وأجرع الآلام من ذات الكأس التي رشفت منها فيما مضي الرحيق.

فسلام عليك ياحبيبتي في جدثك النائي. وعلي أيامنا في غياهب النسيان سلام.

69

أسائل نفسي: علي أي المناظر ينسدل ستار حياتنا؟ أليس علي منظر الموت البغيض وهو يصارعنا فيصرعنا؟ أوما نغمض آخر مانغمض، علي هذه المأساة؟ أولسنا ننام علي هذه الحسرة الأليمة ملايين الأعوام، وهي ماثلة أمامنا وطي جفوننا إلي الأبد؟

وأسائل نفسي ما هو آخر صوت يطرق أسماعنا؟ أليس صرخة فزع مخنوقة، نصرخها ثم تخرس ألستنا ونفارق الحياة، فتظل تدوي في آذاننا مدي الدهر؟

أسائل نفسي بكل هذا، ثم أعجب لأولئك الذين يزعمون أن الحياة مرحٌ وحبور، ويتغاضون عن الحقيقة المرة.

لماذا لانعرف الأشياء بنهاياتها؟ تلك النهايات التي يبقي أثرها فينا وينمحي ماعداه. ولئن فعلنا، فماذا غير الهول حقيق بأن يسم الحياة بميسمه، وهو خاتمة كل حي؟

إننا نعيش أعواماً محدودة، قد تكتحل فيها أعيننا بمرآي أشياء مبهجة، أو تطرب آذاننا فيها لنغمات حبيبة، ولكننا نعيش الدهر كله رهن هذا الفزع الذي هو آخر ما نري. أفبعد هذا لاتكون حماقةً منا أن نرمق الحياة بنظرة متفائلة؟

يقولون: لنضحك لنغالب الحياة! وياحبذا هي من أمنية، ولكن كيف السبيل إليها والحياة تغلبنا في النهاية؟ ولماذا نناضل في عراك لن ننتصر فيه، ونعرض للزراية كرامتنا؟.

لماذا نثير وسط أحزان الضمير المبهمة، بسبب محن يسمع من الغيب ديب خطاها، ذوبعة ضحك تخدش وقاره، وفيها من الاستخفاف بحزنه ما فيها؟

إضحك يضحك لك العالم! هكذا يقولون! ولكنني أشهد أن الموت لم يزر امرءاً قط بوجه بشوش، يدخل السرور علي فؤاده، حتي يقال إن من دأب دنيانا المرح.

إني ما أمعنت في الضحك مرة، إلا شعرت بوخز مبهم في ضميري. وكأنه راح يقول لي: كيف سولت لك نفسك الضحك، وتلك الحسرة الأليمة تغمض عيون رفاقك منذ بدء الخليقة، وتنتظر أجفانك أنت ومعاصريك لتغمضها ذلك الإغماض البغيض؟

ابك، خير لك، علي أولئك الثاوين في التراب. علي أولئك الذين أغمضت عيونهم علي فزع، وأطبقت شفاهم علي غصة. ثم ابك سلفاً لعينيك وشفتيك.

ولاتلومن في ذلك نفسك علي ضعف تتوهمه فيك، أو تتهمن شجاعتك. فهكذا شاءت الحياة، وفي ذلك الطريق أمرتنا أن نسير.

والحكيم من استمد من طبيعة الأشياء فلسفته، وليس من ترهات يخدع نفسه بها.

70

بينما يفد العشاق زمراً علي الرياض، يتراشقون بالزهر ويرشفون القبل، وأقبع وحيداً في ركن منعزل، أذكر أزهاري الذابلة، وأزدرد حسراتي.

واأسفاء لي! غصونهم مورقة، وغصني عار. وبلابلهم شادية، وبلبلي كسيف.

إيه يازمان! لكم أتيتك يا روضُ وحبيبي معي. نمرح فوق ظلالك، ونهش في وجه زهرك. حتي إذا ما دعا للشوق داع، ولجنا خمائلك، ومضينا نتبادل القبُل في حماها ونعتنق.

وهأنذا الآن بعد عام فراق، أجيئك وحدي وأسير ذليلاً في مماشك. لا يد في يدي، ولا عين ترنو إلي.

71

قديما والأمل بين جوانحي يتبسم، كان كزهرة الربيع فؤادي، مفتح الأبواب لكل عابر جميل.

فكانت كذا مرت بي نفحة من عطر الغيد، أنشقها وأتنهد.

أو لمست راحتي منهن كفاً ناعمة، أرتجف صبوة من فرعي.

أو قبلت شفتي منهن شفة، يرقص قلبي وهو نشوان.

يومئذ كان مجنونً، فؤادي. جد ظريف في جنونه.

أما الآن وقد ولي الأمل، فلقد انغلق علي نفسه هذا الفؤاد.

لفه اليأس كما يلف الضباب زهر الخريف. يمر به الجمال فما يدري. ويناديه فما يستجيب.

لقد أوصدت أبوابه في وجه كل شيء. وأن الأكف لتدمي في طرقها، ثم ترتد علي أعقابها يائسة.

مسكين، من ذا يفتحه، وهذه شمسه غربت؟

لك الله يا أمل! لا شيء جميلٌ يدخل قلوبنا حتي تفتح له. ولاسعادة تزورنا إلا أن تزفها إلينا.

72

حياك الله يا أيام الصبا! يا أيتها الطريق المعبدة للجمال، يطؤها بأقدامه الذهبية، ليحل منها ضيفاً علي الفؤاد.

لقد وليت واأسفاه، فأضحت شائكة طريقه. يدمي وطؤها أقدامه الرقيقة.

ولذا فهو يتحول عنها إلي حيث الطرق المفروشة بالورد، يدب عليها دبيبه المحبوب، فيتلقاه من أقصي الطريق قلب فتي، مايلبث أن يفتح له شغافه وهو جذل.

أجل، ذهبت ياصبا فذهب في أثرك العبد الحسان. تاركات في الضلوع طريقهن المهجور لاورد يفرشه، ولاقدم جميلةٌ تدب عليه.

73

كانت في حديقتي زهور، ولكنني لم أهتم بقطفها.

وكان بها طير، غير أني لم أكترث لغنائه.

وكانت تخطر بين خمائلها غيد فلم أحفل بشأنها.

ذلك أني لم أكن أري فيها الجمال الذي يغريني بها.

ثم مرت أيام فذبل الزهر، وشردت الطيور، واختفت الغيد.

عندئذ تراءت لي كلها رائعة من بعيد. وأدركت عظم الفرصة التي ضيعت.

فضربت كفاً بكفً ورحت أقول: واأسفاه! لقد كانت السعادة بين يدي، ولكنني لم أرها حتي كنتُ أفتح لها قلبي. شيء ما أْغماني عنها.

أتري كانت يومئذ مقنعة؟ أم أن العين لم ترها لأنها كانت في العين؟

واهاً لذلك الإنسان الذي لايبصر الأشياء إلا من بعيد! إنه ليري النجوم في السماء، والقمم في الجبال الشوامخ، والشاطيء النائي عبر النهر، ولكنه لايري أنفه المثبت في وجهه.

كأنك أيتها السعادة أسطورة! تحكي حوادثها وماتري. حتي إذا ماتناهت للأذن أخبارها النائية، كما تتناهي إليها الأصداء، ذرفت العين علي نعيم ضاع سدي. وذهب ولم يمتع به أحد.

74

لي زمان يمر بي أحداثاً

وأراني كريشه في يديه

إن مثلي إذا تأمل في الدهْر

يري عبئه علي كتفيه

وإذا ما الجمال تيم صبا

شيب الأسودين من فوديه

ياحبيبي هل لي إليك سبيلٌ

قدمي زل بي فما نفع ويه

ماتغني الفؤاد إلا ليشكو

لوعة للغرام صارت إليه

يا له عاشق إذا هو غني

تسمع الدر فاض من شفتيه

فكلامي مثل الجمان نضيد

يملأ الصب عنده راحتيه

عشق الدهر ما أقول فأصغي

مرهفاً للسماع لي أذنيه

ولكم بحت في الهوي بنشيد

فوعاه الزمان في مسمعيه

75

ياللخجل! لن يشهد لك معاصروك أيها الشاعر. أولئك الذين يحسدونك.

عليك أن تموت أولاً، لأن الموتي لا يحسدون.

إن منظرك وأنت كومة معتمة من تراب، لكفيل بأن يغفر لك كل أضواء المجد التي كانت في نظرهم جريرة، لأنها كانت في عيونهم قذي.

ياللأسف! لن تشهد بعينيك تماثيل الخلود التي ستقام لك، ولا أكاليل الزهر التي ستوضع علي قبرك.

ولكنك مع ذلك تلمح طيفها يتراقص من خلال سحب المستقبل، وتري الوفود في حفلات إقامتها وهي تهتف لك. تراها كشعاع قمر مختف خلف الربي، وعما قليل يحبو ويطلع علي الوادي بوجهه الجميل.

قر عيناً بذياك الشعاع. إنه ليحمل إليك بشري الخلود، وهي بشري حقيقة بأن تعزيك في محنتك.

نعم، بهذا يحدثك فؤادك، وهو ماتخفق له جوانحك، كلما عكفت ترتل أناشيدك، فآمنت بأنه نغمها هذا الجميل، لايمكن أن يضيع هباء.

No comments:

Post a Comment

Pages