شرح ديوان المتنبي
قافية القاف
وقال يمدح سيف الدولة وقد أمر له بفرس دهماء وجارية:
أَيَدْرِي الرَّبْعُ أَيَّ دَمٍ أَرَاقَا؟ وَأَيَّ قُلُوبِ هَذَا الرَّكْبِ شَاقَا؟١
لَنَا وَلِأَهْلِهِ أَبَدًا قُلُوبٌ تَلَاقَى فِي جُسُومٍ مَا تَلَاقَى٢
وَمَا عَفَتِ الرِّيَاحُ لَهُ مَحَلًّا عَفَاهُ مَنْ حَدَا بِهِمُ وَسَاقَا٣
فَلَيْتَ هَوَى الْأَحِبَّةِ كَانَ عَدْلًا فَحَمَّلَ كُلَّ قَلْبٍ مَا أَطَاقَا٤
نَظَرْتُ إِلَيْهِمُ وَالْعَيْنُ شَكْرَى فَصَارَتْ كُلُّهَا لِلدَّمْعِ مَاقَا٥
وَقَدْ أَخَذَ التَّمَامَ الْبَدْرُ فِيهِمْ وَأَعْطَانِي مِنَ السَّقَمِ الْمُحَاقَا٦
وَبَيْنَ الْفَرْعِ وَالْقَدَمَيْنِ نُورٌ يَقُودُ بِلَا أَزِمَّتِهَا النِّيَاقَا٧
وَطَرْفٌ إِنْ سَقَى الْعُشَّاقَ كَأْسًا بِهَا نَقْصٌ سَقَانِيهَا دِهَاقَا٨
وَخَصْرٌ تَثْبُتُ الْأَبْصَارُ فِيهِ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ حَدَقٍ نِطَاقَا٩
سَلِي عَنْ سِيرَتِي فَرَسِي وَسَيْفِي وَرُمْحِي وَالْهَمَلَّعَةَ الدِّفَاقَا١٠
تَرَكْنَا مِنْ وَرَاءِ الْعِيسِ نَجْدًا وَنَكَّبْنَا السَّمَاوَةَ وَالْعِرَاقَا١١
فَمَا زَالَتْ تَرَى وَاللَّيْلُ دَاجٍ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْمَلِكِ ائْتِلَاقَا١٢
أَدِلَّتُهَا رِيَاحُ الْمِسْكِ مِنْهُ إِذَا فَتَحَتْ مَنَاخِرَهَا انْتِشَاقَا١٣
أَبَاحَكِ أَيُّهَا الْوَحْشُ الْأَعَادِي فَلِمْ تَتَعَرَّضِينَ لَهُ الرِّفَاقَا؟١٤
وَلَوْ تَبَّعْتِ مَا طَرَحَتْ قَنَاهُ لَكَفَّكِ عَنْ رَذَايَانَا وَعَاقَا١٥
وَلَوْ سِرْنَا إِلَيْهِ فِي طَرِيقٍ مِنَ النِّيرَانِ لَمْ نَخَفِ احْتِرَاقَا١٦
إِمَامٌ لِلْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى مَنْ يَتَّقُونَ لَهُ شِقَاقَا١٧
يَكُونُ لَهُمْ إِذَا غَضِبُوا حُسَامًا وَلِلْهَيْجَاءِ حِينَ تَقُومُ سَاقَا١٨
فَلَا تَسْتَنْكِرَنَّ لَهُ ابْتِسَامًا إِذَا فَهِقَ الْمَكَرُّ دَمًا وَضَاقَا١٩
فَقَدْ ضَمِنَتْ لَهُ الْمُهَجَ الْعَوَالِي وَحَمَّلَ هَمَّهُ الْخَيْلَ الْعِتَاقَا٢٠
إِذَا أُنْعِلْنَ فِي آثَارِ قَوْمٍ وَإِنْ بَعُدُوا جَعَلْنَهُمُ طِرَاقَا٢١
وَإِنْ نَقَعَ الصَّرِيخُ إِلَى مَكَانٍ نَصَبْنَ لَهُ مُؤَلَّلَةً دِقَاقَا٢٢
فَكَانَ الطَّعْنُ بَيْنَهُمَا جَوَابًا وَكَانَ اللُّبْثُ بَيْنَهُمَا فُوَاقَا٢٣
مُلَاقِيَةً نَوَاصِيهَا الْمَنَايَا مُعَوَّدَةً فَوَارِسُهَا الْعِنَاقَا٢٤
تَبِيتُ رِمَاحُهُ فَوْقَ الْهَوَادِي وَقَدْ ضَرَبَ الْعَجَاجُ لَهَا رِوَاقَا٢٥
تَمِيلُ كَأَنَّ فِي الْأَبْطَالِ خَمْرًا عُلِلْنَ بِهَا اصْطِبَاحًا وَاغْتِبَاقَا٢٦
تَعَجَّبَتِ الْمُدَامُ وَقَدْ حَسَاهَا فَلَمْ يَسْكَرْ وَجَادَ فَمَا أَفَاقَا٢٧
أَقَامَ الشِّعْرُ يَنْتَظِرُ الْعَطَايَا فَلَمَّا فَاقَتِ الْأَمْطَارَ فَاقَا٢٨
وَزَنَّا قِيمَةَ الدَّهْمَاءِ مِنْهُ وَوَفَّيْنَا الْقِيَانَ بِهِ الصَّدَاقَا٢٩
وَحَاشَا لِارْتِيَاحِكَ أَنْ يُبَارَى وَلِلْكَرَمِ الَّذِي لَكَ أَنْ يُبَاقَى٣٠
وَلَكِنَّا نُدَاعِبُ مِنْكَ قَرْمًا تَرَاجَعَتِ الْقُرُومُ لَهُ حِقَاقَا٣١
فَتًى لَا تَسْلُبُ الْقَتْلَى يَدَاهُ وَيَسْلُبُ عَفْوُهُ الْأَسْرَى الْوَثَاقَا٣٢
وَلَمْ تَأْتِ الْجَمِيلَ إِلَيَّ سَهْوًا وَلَمْ أَظْفَرْ بِهِ مِنْكَ اسْتِرَاقَا٣٣
فَأَبْلِغْ حَاسِدِيَّ عَلَيْكَ أَنِّي كَبَا بَرْقٌ يُحَاوِلُ بِي لِحَاقَا٣٤
وَهَلْ تُغْنِي الرَّسَائِلُ فِي عَدُوٍّ إِذَا مَا لَمْ يَكُنَّ ظُبًا رِقَاقَا؟٣٥
إِذَا مَا النَّاسُ جَرَّبَهُمْ لَبِيبٌ فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُهُمُ وَذَاقَا٣٦
فَلَمْ أَرَ وُدَّهُمْ إِلَّا خِدَاعًا وَلَمْ أَرَ دِينَهُمْ إِلَّا نِفَاقَا
يُقَصِّرُ عَنْ يَمِينِكَ كُلُّ بَحْرٍ وَعَمَّا لَمْ تُلِقْهُ مَا أَلَاقَا٣٧
وَلَوْلَا قُدْرَةُ الْخَلَّاقِ قُلْنَا: أَعْمَدًا كَانَ خَلْقُكَ أَمْ وِفَاقَا؟٣٨
فَلَا حَطَّتْ لَكَ الْهَيْجَاءُ سَرْجًا وَلَا ذَاقَتْ لَكَ الدُّنْيَا فِرَاقَا٣٩
وقال يمدحه ويذكر الفداء الذي طلبه رسول ملك الروم وكتابه إليه:
لِعَيْنَيْكِ مَا يَلْقَى الْفُؤَادُ وَمَا لَقِي وَلِلْحُبِّ مَا لَمْ يَبْقَ مِنِّي وَمَا بَقِي٤٠
وَمَا كُنْتُ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْعِشْقُ قَلْبَهُ وَلَكِنَّ مَنْ يُبْصِرْ جُفُونَكِ يَعْشَقِ٤١
وَبَيْنَ الرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْقُرْبِ وَالنَّوَى مَجَالٌ لِدَمْعِ الْمُقْلَةِ الْمُتَرَقْرِقِ٤٢
وَأَحْلَى الْهَوَى مَا شَكَّ فِي الْوَصْلِ رَبُّهُ وَفِي الْهَجْرِ فَهْوَ الدَّهْرَ يَرْجُو وَيَتَّقِي٤٣
وَغَضْبَى مِنَ الْإِدْلَالِ سَكْرَى مِنَ الصَّبَا شَفَعْتُ إِلَيْهَا مِنْ شَبَابِي بِرَيِّقِ٤٤
وَأَشْنَبَ مَعْسُولِ الثَّنِيَّاتِ وَاضِحٍ سَتَرْتُ فَمِي عَنْهُ فَقَبَّلَ مَفْرِقِي٤٥
وَأَجْيَادِ غِزْلَانٍ كَجِيدِكِ زُرْنَنِي فَلَمْ أَتَبَيَّنْ عَاطِلًا مِنْ مُطَوَّقِ٤٦
وَمَا كُلُّ مَنْ يَهْوَى يَعِفُّ إِذَا خَلَا عَفَافِي وَيُرْضِي الْحِبَّ وَالْخَيْلُ تَلْتَقِي٤٧
سَقَى اللهُ أَيَّامَ الصِّبَا مَا يَسُرُّهَا وَيَفْعَلُ فِعْلَ الْبَابِلِيِّ الْمُعَتَّقِ٤٨
إِذَا مَا لَبِسْتَ الدَّهْرَ مُسْتَمْتِعًا بِهِ تَخَرَّقْتَ وَالْمَلْبُوسُ لَمْ يَتَخَرَّقِ٤٩
وَلَمْ أَرَ كَالْأَلْحَاظِ يَوْمَ رَحِيلِهِمْ بَعَثْنَ بِكُلِّ الْقَتْلِ مِنْ كُلِّ مُشْفِقِ٥٠
أَدَرْنَ عُيُونًا حَائِرَاتٍ كَأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ أَحْدَاقُهَا فَوْقَ زِئْبَقِ٥١
عَشِيَّةَ يَعْدُونَا عَنِ النَّظَرِ الْبُكَا وَعَنْ لَذَّةِ التَّوْدِيعِ خَوْفُ التَّفَرُّقِ٥٢
نُوَدِّعُهُمْ وَالْبَيْنُ فِينَا كَأَنَّهُ قَنَا ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ فِي قَلْب فَيْلَقِ٥٣
قَوَاضٍ مَوَاضٍ نَسْجُ دَاوُدَ عِنْدَهَا إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ كَنَسْجِ الْخَدَرْنَقِ٥٤
هَوَادٍ لِأَمْلَاكِ الْجُيُوشِ كَأَنَّهَا تَخَيَّرُ أَرْوَاحَ الْكُمَاةِ وَتَنْتَقِي٥٥
تَقُدُّ عَلَيْهِمْ كُلَّ دِرْعٍ وَجَوْشَنٍ وَتَفْرِي إِلَيْهِمْ كُلَّ سُورٍ وَخَنْدَقِ٥٦
يُغِيرُ بِهَا بَيْنَ اللُّقَانِ وَوَاسِطٍ وَيُرْكِزُهَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَجِلِّقِ٥٧
وَيُرْجِعُهَا حُمْرًا كَأَنَّ صَحِيحَهَا يُبَكِّي دَمًا مِنْ رَحْمَةِ الْمُتَدَقِّقِ٥٨
فَلَا تُبْلِغَاهُ مَا أَقُولُ فَإِنَّهُ شُجَاعٌ مَتَى يُذْكَرْ لَهُ الطَّعْنُ يَشْتَقِ٥٩
ضَرُوبٌ بِأَطْرَافِ السُّيُوفِ بَنَانُهُ لَعُوبٌ بِأَطْرَافِ الْكَلَامِ الْمُشَقَّقِ٦٠
كَسَائِلِهِ مَنْ يَسْأَلُ الْغَيْثَ قَطْرَةً كَعَاذِلِهِ مَنْ قَالَ لِلْفُلْكِ ارْفُقِ٦١
لَقَدْ جُدْتَ حَتَّى جُدْتَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ وَحَتَّى أَتَاكَ الْحَمْدُ مِنْ كُلِّ مَنْطِقِ٦٢
رَأَى مَلِكُ الرُّومِ ارْتِيَاحَكَ لِلنَّدَى فَقَامَ مَقَامَ الْمُجْتَدِي الْمُتَمَلِّقِ٦٣
وَخَلَّى الرِّمَاحَ السَّمْهَرِيَّةَ صَاغِرًا لِأَدْرَبَ مِنْهُ بِالطِّعَانِ وَأَحْذَقِ٦٤
وَكَاتَبَ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدٍ مَرَامُهَا قَرِيبٍ عَلَى خَيْلٍ حَوَالَيْكَ سُبَّقِ٦٥
وَقَدْ سَارَ فِي مَسْرَاكَ مِنْهَا رَسُولُهُ فَمَا سَارَ إِلَّا فَوْقَ هَامٍ مُفَلَّقِ٦٦
فَلَمَّا دَنَا أَخْفَى عَلَيْهِ مَكَانَهُ شُعَاعُ الْحَدِيدِ الْبَارِقِ الْمُتَأَلِّقِ٦٧
وَأَقْبَلَ يَمْشِي فِي الْبِسَاطِ فَمَا دَرَى إِلَى الْبَحْرِ يَمْشِي أَمْ إِلَى الْبَدْرِ يَرْتَقِي؟!٦٨
وَلَمْ يَثْنِكَ الْأَعْدَاءُ عَنْ مُهَجَاتِهِمْ بِمِثْلِ خُضُوعٍ فِي كَلَامٍ مُنَمَّقِ٦٩
وَكُنْتَ إِذَا كَاتَبْتَهُ قَبْلَ هَذِهِ كَتَبْتَ إِلَيْهِ فِي قَذَالِ الدُّمُستُقِ٧٠
فَإِنْ تُعْطِهِ مِنْكَ الْأَمَانَ فَسَائِلٌ وَإِنْ تُعْطِهِ حَدَّ الْحُسَامِ فَأَخْلِقِ!٧١
وَهَلْ تَرَكَ الْبِيضُ الصَّوَارِمُ مِنْهُمُ أَسِيرًا لِفَادٍ أَوْ رَقِيقًا لِمُعْتِقِ٧٢
لَقَدْ وَرَدُوا وِرْدَ الْقَطَا شَفَرَاتِهَا وَمَرُّوا عَلَيْهَا زَرْدَقًا بَعْدَ زَرْدَقِ٧٣
بَلَغْتُ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ النُّورِ رُتْبَةً أَثَرْتُ بِهَا مَا بَيْنَ غَرْبٍ وَمَشْرِقِ٧٤
إِذَا شَاءَ أَنْ يَلْهُو بِلِحْيَةِ أَحْمَقٍ أَرَاهُ غُبَارِي ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْحَقِ٧٥
وَمَا كَمَدُ الْحُسَّادِ شَيْئًا قَصَدْتُهُ وَلَكِنَّهُ مَنْ يَزْحَمِ الْبَحْرَ يَغْرَقِ٧٦
وَيَمْتَحِنُ النَّاسَ الْأَمِيرُ بِرَأْيِهِ وَيُغْضِي عَلَى عِلْمٍ بِكُلِّ مُمَخْرِقِ٧٧
وَإِطْرَاقُ طَرْفِ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَافِعٍ إِذَا كَانَ طَرْفُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِمُطْرِقِ٧٨
فَيَا أَيُّهَا الْمَطْلُوبُ جَاوِرْهُ تَمْتَنِعْ وَيَا أَيُّهَا الْمَحْرُومُ يَمِّمْهُ تُرْزَقِ٧٩
وَيَا أَجْبَنَ الْفُرْسَانِ صَاحِبْهُ تَجْتَرِئْ وَيَا أَشْجَعَ الشُّجْعَانِ فَارِقْهُ تَفْرَقِ٨٠
إِذَا سَعَتِ الْأَعْدَاءُ فِي كَيْدِ مَجْدِهِ سَعَى جَدُّهُ فِي كَيْدِهِمْ سَعْيَ مُحْنَقِ٨١
وَمَا يَنْصُرُ الْفَضْلُ الْمُبِينُ عَلَى الْعِدَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَضْلَ السَّعِيدِ الْمُوَفَّقِ؟٨٢
وقال يمدحه ويذكر إيقاعه ببني عقيل وقشير وبني العجلان وكلاب لما عاثوا في نواحي أعماله، وقصدَه إياهم، وإهلاكَ من أهلكه منهم، وعفوه عمن عفا بعد تضافرهم وتضامهم عن لقائه سنة ٣٤٤:
تَذَكَّرْتُ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَبَارِقِ مَجَرَّ عَوَالِينَا وَمَجْرَى السَّوَابِقِ٨٣
وَصُحْبَةَ قَوْمٍ يَذْبَحُونَ قَنِيصَهُمْ بِفَضْلَةِ مَا قَدْ كَسَّرُوا فِي الْمَفَارِقِ٨٤
وَلَيْلًا تَوَسَّدْنَا الثَّوِيَّةَ تَحْتَهُ كَأَنَّ ثَرَاهَا عَنْبَرٌ فِي الْمَرَافِقِ٨٥
بِلَادٌ إِذَا زَارَ الْحِسَانَ بِغَيْرِهَا حَصَا تُرْبِهَا ثَقَّبْنَهُ لِلْمَخَانِقِ٨٦
سَقَتْنِي بِهَا الْقُطْرُبُّلِيَّ مَلِيحَةٌ عَلَى كَاذِبٍ مِنْ وَعْدِهَا ضَوْءُ صَادِقِ٨٧
سُهَادٌ لِأَجْفَانٍ وَشَمْسٌ لِنَاظِرٍ وَسُقْمٌ لِأَبْدَانٍ وَمِسْكٌ لِنَاشِقِ٨٨
وَأَغْيَدُ يَهْوَى نَفْسَهُ كُلُّ عَاقِلٍ عَفِيفٍ وَيَهْوَى جِسْمَهُ كُلُّ فَاسِقِ٨٩
أَدِيبٌ إِذَا مَا جَسَّ أَوْتَارَ مِزْهَرٍ بَلَا كُلَّ سَمْعٍ عَنْ سِوَاهَا بِعَائِقِ٩٠
يُحَدِّثُ عَمَّا بَيْنَ عَادٍ وَبَيْنَهُ وَصُدْغَاهُ فِي خَدَّيْ غُلَامٍ مُرَاهِقِ٩١
وَمَا الْحُسْنُ فِي وَجْهِ الْفَتَى شَرَفًا لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ وَالْخَلَائِقِ٩٢
وَمَا بَلَدُ الْإِنْسَانِ غَيْرُ الْمُوَافِقِ وَلَا أَهْلُهُ الْأَدْنَوْنَ غَيْرُ الْأَصَادِقِ٩٣
وَجَائِزَةٌ دَعْوَى الْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى كَلَامُ الْمُنَافِقِ٩٤
بِرَأْيِ مَنِ انْقَادَتْ عُقَيْلٌ إِلَى الرَّدَى وَإِشْمَاتِ مَخْلُوقٍ وَإِسْخَاطِ خَالِقِ؟٩٥
أَرَادُوا عَلِيًّا بِالَّذِي يُعْجِزُ الْوَرَى وَيُوسِعُ قَتْلَ الْجَحْفَلِ الْمُتَضَايِقِ٩٦
فَمَا بَسَطُوا كَفًّا إِلَى غَيْرِ قَاطِعٍ وَلَا حَمَلُوا رَأْسًا إِلَى غَيْرِ فَالِقِ٩٧
لَقَدْ أَقْدَمُوا لَوْ صَادَفُوا غَيْرَ آخِذ وَقَدْ هَرَبُوا لَوْ صَادَفُوا غَيْرَ لَاحِقِ٩٨
وَلَمَّا كَسَا كَعْبًا ثِيَابًا طَغَوْا بِهَا رَمَى كُلَّ ثَوْبٍ مِنْ سِنَانٍ بِخَارِقِ٩٩
وَلَمَّا سَقَى الْغَيْثَ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ سَقَى غَيْرَهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبَوَارِقِ١٠٠
وَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ حَارِمٍ كَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ رَازِقِ١٠١
أَتَاهُمْ بِهَا حَشْوَ الْعَجَاجَةِ وَالْقَنَا سَنَابِكُهَا تَحْشُو بُطُونَ الْحَمَالِقِ١٠٢
عَوَابِسَ حَلَّى يَابِسُ الْمَاءِ حُزْمَهَا فَهُنَّ عَلَى أَوْسَاطِهَا كَالْمَنَاطِقِ١٠٣
فَلَيْتَ أَبَا الْهَيْجَا يَرَى خَلْفَ تَدْمُرٍ طِوَالَ الْعَوَالِي فِي طِوَالِ السَّمَالِقِ١٠٤
وَسَوْقَ عَلِيٍّ مِنْ مَعَدٍّ وَغَيْرِهَا قَبَائِلَ لَا تُعْطِي الْقُفِيَّ لِسَائِقِ١٠٥
قُشَيْرٌ وَبَلْعَجْلَانِ فِيهَا خَفِيَّةٌ كَرَاءَيْنِ فِي أَلْفَاظِ أَلْثَغَ نَاطِقِ١٠٦
تُخَلِّيهِمِ النِّسْوَانُ غَيْرَ فَوَارِكٍ وَهُمْ خَلَّوُا النِّسْوَانَ غَيْرَ طَوَالِقِ١٠٧
يُفَرِّقُ مَا بَيْنَ الْكُمَاةِ وَبَيْنَهَا بِضَرْبٍ يُسَلِّي حَرُّهُ كُلَّ عَاشِقِ١٠٨
أَتَى الظُّعْنَ حَتَّى مَا تَطِيرُ رَشَاشَةٌ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فِي نُحُورِ الْعَوَاتِقِ١٠٩
بِكُلِّ فَلَاةٍ تُنْكِرُ الْإِنْسَ أَرْضُهَا ظَعَائِنُ حُمْرُ الْحَلْيِ حُمْرُ الْأَيَانِقِ١١٠
وَمَلْمُومَةٌ سَيْفِيَّةٌ رَبَعِيَّةٌ يَصِيحُ الْحَصَى فِيهَا صِيَاحَ اللَّقَالِقِ١١١
بَعِيدَةُ أَطْرَافِ الْقَنَا مِنْ أُصُولِهِ قَرِيبَةُ بَيْن الْبَيْضِ غُبْرُ الْيَلَامِقِ١١٢
نَهَاهَا وَأَغْنَاهَا عَنِ النَّهْبِ جُودُهُ فَمَا تَبْتَغِي إِلَّا حُمَاةَ الْحَقَائِقِ١١٣
تَوَهَّمَهَا الْأَعْرَابُ سَوْرَةَ مُتْرَفٍ تُذَكِّرُهُ الْبَيْدَاءُ ظِلَّ السُّرَادِقِ١١٤
فَذَكَّرْتَهُمْ بِالْمَاءِ سَاعَةَ غَبَّرَتْ سَمَاوَةُ كَلْبٍ فِي أُنُوفِ الْحَزَائِقِ١١٥
وَكَانُوا يَرُوعُونَ الْمُلُوكَ بِأَنْ بَدَوْا وَأَنْ نَبَتَتْ فِي الْمَاءِ نَبْتَ الْغَلَافِقِ١١٦
فَهَاجُوكَ أَهْدَى فِي الْفَلَا مِنْ نُجُومِهِ وَأَبْدَى بُيُوتًا مِنْ أَدَاحِي النَّقَانِقِ١١٧
وَأَصْبَرَ عَنْ أَمْوَاهِهِ مِنْ ضِبَابِهِ وَآلَفَ مِنْهَا مُقْلَةً لِلْوَدَائِقِ١١٨
وَكَانَ هَدِيرًا مِنْ فُحُولٍ تَرَكْتَهَا مُهَلَّبَةَ الْأَذْنَابِ خُرْسَ الشَّقَاشِقِ١١٩
فَمَا حَرَمُوا بِالرَّكْضِ خَيْلَكَ رَاحَةً وَلَكِنْ كَفَاهَا الْبَرُّ قَطْعَ الشَّوَاهِقِ١٢٠
وَلَا شَغَلُوا صُمَّ الْقَنَا بِقُلُوبِهِمْ عَنِ الرَّكْزِ لَكِنْ عَنْ قُلُوبِ الدَّمَاسِقِ١٢١
أَلَمْ يَحْذَرُوا مَسْخَ الَّذِي يَمْسَخُ الْعِدَا وَيَجْعَلُ أَيْدِي الْأُسْدِ أَيْدِي الْخَرَانِقِ١٢٢
وَقَدْ عَايَنُوهُ فِي سِوَاهُمْ وَرُبَّمَا أَرَى مَارِقًا فِي الْحَرْبِ مَصْرَعَ مَارِقِ١٢٣
تَعَوَّدَ أَنْ لَا تَقْضَمَ الْحَبَّ خَيْلُهُ إِذَا الْهَامُ لَمْ تَرْفَعْ جُنُوبَ الْعَلَائِقِ١٢٤
وَلَا تَرِدَ الْغُدْرَانَ إِلَّا وَمَاؤُهَا مِنَ الدَّمِ كَالرَّيْحَانِ تَحْتَ الشَّقَائِقِ١٢٥
لَوَفْدُ نُمَيْرٍ كَانَ أَرْشَدَ مِنْهُمُ وَقَدْ طَرَدُوا الْأَظْعَانَ طَرْدَ الْوَسَائِقِ١٢٦
أَعَدُّوا رِمَاحًا مِنْ خُضُوعٍ فَطَاعَنُوا بِهَا الْجَيْشَ حَتَّى رَدَّ غَرْبَ الْفَيَالِقِ١٢٧
فَلَمْ أَرَ أَرْمَى مِنْهُ غَيْرَ مُخَاتِلٍ وَأَسْرَى إِلَى الْأَعْدَاءِ غَيْرَ مُسَارِقِ١٢٨
تُصِيبُ الْمَجَانِيقُ الْعِظَامُ بِكَفِّهِ دَقَائِقَ قَدْ أَعْيَتْ قِسِيَّ الْبَنَادِقِ١٢٩
وقال في صباه يمدح أبا المنتصر شجاع بن محمد بن أرس بن معن بن الرضي الأزدي:
أَرَقٌ عَلَى أَرَقٍ وَمِثْلِيَ يَأْرَقُ وَجَوًى يَزِيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ١٣٠
جُهْدُ الصَّبَابَةِ أَنْ تَكُونَ كَمَا أُرَى عَيْنٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلْبٌ يَخْفِقُ١٣١
مَا لَاحَ بَرْقٌ أَوْ تَرَنَّمَ طَائِرٌ إِلَّا انْثَنَيْتُ وَلِي فُؤَادٌ شَيِّقُ١٣٢
جَرَّبْتُ مِنْ نَارِ الْهَوَى مَا تَنْطَفِي نَارُ الْغَضَى وَتَكِلُّ عَمَّا تُحْرِقُ١٣٣
وَعَذَلْتُ أَهْلَ الْعِشْقِ حَتَّى ذُقْتُهُ فَعَجِبْتُ كَيْفَ يَمُوتُ مَنْ لَا يَعْشَقُ؟!١٣٤
وَعَذَرْتُهُمْ وَعَرَفْتُ ذَنْبِي أَنَّنِي عَيَّرْتُهُمْ فَلَقِيتُ فِيهِ مَا لَقُوا١٣٥
أَبَنِي أَبِينَا نَحْنُ أَهْلُ مَنَازِلٍ أَبَدًا غُرَابُ الْبَيْنِ فِيهَا يَنْعِقُ١٣٦
نَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَرَّقُوا١٣٧
أَيْنَ الْأَكَاسِرَةُ الْجَبَابِرَةُ الْأُلَى كَنَزُوا الْكُنُوزَ فَمَا بَقِينَ وَلَا بَقُوا١٣٨
مِنْ كُلِّ مَنْ ضَاقَ الْفَضَاءُ بِجَيْشِهِ حَتَّى ثَوَى فَحَوَاهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ١٣٩
خُرْسٌ إِذَا نُودُوا كَأَنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَهُمْ حَلَالٌ مُطْلَقُ١٤٠
وَالْمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفَائِسٌ وَالْمُسْتَغِرُّ بِمَا لَدَيْهِ الْأَحْمَقُ١٤١
وَالْمَرْءُ يَأْمُلُ وَالْحَيَاةُ شَهِيَّةٌ وَالشَّيْبُ أَوْقَرُ وَالشَّبِيبَةُ أَنْزَقُ١٤٢
وَلَقَدْ بَكَيْتُ عَلَى الشَّبَابِ وَلِمَّتِي مُسْوَدَّةٌ وَلِمَاءِ وَجْهِيَ رَوْنَقُ١٤٣
حَذَرًا عَلَيْهِ قَبْلَ يَوْمِ فِرَاقِهِ حَتَّى لَكِدْتُ بِمَاءِ جَفْنِيَ أَشْرَقُ١٤٤
أَمَّا بَنُو أَوْسِ بْنِ مَعْنِ بْنِ الرِّضَا فَأَعَزُّ مَنْ تُحْدَى إِلَيْهِ الْأَيْنُقُ١٤٥
كَبَّرْتُ حَوْلَ دِيَارِهِمْ لَمَّا بَدَتْ مِنْهَا الشُّمُوسُ وَلَيْسَ فِيهَا الْمَشْرِقُ١٤٦
وَعَجِبْتُ مِنْ أَرْضٍ سَحَابُ أَكُفِّهِمْ مِنْ فَوْقِهَا وَصُخُورُهَا لَا تُورِقُ١٤٧
وَتَفُوحُ مِنْ طِيبِ الثَّنَاءِ رَوَائِحٌ لَهُمُ بِكُلِّ مَكَانَةٍ تُسْتَنْشَقُ١٤٨
مِسْكِيَّةُ النَّفحَاتِ إِلَّا أَنَّهَا وَحْشِيَّةٌ بِسِوَاهُمُ لَا تَعْبَقُ١٤٩
أَمُرِيدَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي عَصْرِنَا لَا تَبْلُنَا بِطِلَابِ مَا لَا يُلْحَقُ١٥٠
لَمْ يَخْلُقِ الرَّحْمَنُ مِثْلَ مُحَمَّدٍ أَبَدًا وَظَنِّي أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ١٥١
يَا ذَا الَّذِي يَهَبُ الْجَزِيلَ وَعِنْدَهُ أَنِّي عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ أَتَصَدَّقُ١٥٢
أَمْطِرْ عَلَيَّ سَحَابَ جُودِكَ ثَرَّةَ وَانْظُرْ إِلَيَّ بِرَحْمَةٍ لَا أَغْرَقُ١٥٣
كَذَبَ ابْنُ فَاعِلَةٍ يَقُولُ بِجَهْلِهِ مَاتَ الْكِرَامُ وَأَنْتَ حَيٌّ تُرْزَقُ١٥٤
وقال في صباه ارتجالًا:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرْتَقِي؟ أَيَّ عَظِيمٍ أَتَّقِي؟١٥٥
وَكُلُّ مَا قَدْ خَلَقَ اللهُ وَمَا لَمْ يَخْلُقِ
مُحْتَقَرٌ فِي هِمَّتِي كَشَعْرَةٍ فِي مَفْرِقِي١٥٦
وقال يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي:
هُوَ الْبَيْنُ حَتَّى مَا تَأَنَّى الْحَزَائِقُ وَيَا قَلْبِ حَتَّى أَنْتَ مِمَّنْ أُفَارِقُ١٥٧
وَقَفْنَا وَمِمَّا زَادَ بَثًّا وُقُوفُنَا فَرِيقَيْ هَوًى مِنَّا مَشُوقٌ وَشَائِقُ١٥٨
وَقَدْ صَارَتِ الْأَجْفَانُ قَرْحَى مِنَ الْبُكَا وَصَارَ بَهَارًا فِي الْخُدُودِ الشَّقَائِقُ١٥٩
عَلَى ذَا مَضَى النَّاسُ؛ اجْتِمَاعٌ وَفُرْقَةٌ وَمَيْتٌ وَمَوْلُودٌ وَقَالٍ وَوَامِقُ١٦٠
تَغَيَّرَ حَالِي وَاللَّيَالِي بِحَالِهَا وَشِبْتُ وَمَا شَابَ الزَّمَانُ الْغُرَانِقُ١٦١
سَلِ الْبِيدَ: أَيْنَ الْجِنُّ مِنَّا بِجَوْزِهَا وَعَنْ ذِي الْمَهَارِي: أَيْنَ مِنْهَا النَّقَانِقُ؟١٦٢
وَلَيْلٍ دَجُوجِيٍّ كَأَنَّا جَلَتْ لَنَا مُحَيَّاكَ فِيهِ فَاهْتَدَيْنَا السَّمَالِقُ١٦٣
فَمَا زَالَ لَوْلَا نُورُ وَجْهِكَ جُنْحُهُ وَلَا جَابَهَا الرُّكْبَانُ لَوْلَا الْأَيَانِقُ١٦٤
وَهَزٌّ أَطَارَ النَّوْمَ حَتَّى كَأَنَّنِي مِنَ السُّكْرِ فِي الْغَرْزَيْنِ ثَوْبٌ شُبَارِقُ١٦٥
شَدَوْا بِابْنِ إِسْحَقَ الْحُسَيْنِ فَصَافَحَتْ ذَفَارِيَهَا كِيرَانُهَا وَالنَّمَارِقُ١٦٦
بِمَنْ تَقْشَعِرُّ الْأَرْضُ خَوْفًا إِذَا مَشَى عَلَيْهَا وَتَرْتَجُّ الْجِبَالُ الشَّوَاهِقُ١٦٧
فَتًى كَالسَّحَابِ الْجُونِ يُخْشَى وَيُرْتَجَى يُرَجَّى الْحَيَا مِنْهَا وَتُخْشَى الصَّوَاعِقُ١٦٨
وَلَكِنَّهَا تَمْضِي وَهَذَا مُخَيِّمٌ وَتَكْذِبُ أَحْيَانًا وَذَا الدَّهْرَ صَادِقُ١٦٩
تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا لِيُنْسَى فَمَا خَلَتْ مَغَارِبُهَا مِنْ ذِكْرِهِ وَالْمَشَارِقُ١٧٠
غَذَا الْهِنْدُوَانِيَّاتِ بِالْهَامِ وَالطُّلَا فَهُنَّ مَدَارِيهَا وَهُنَّ الْمَخَانِقُ١٧١
تُشَقَّقُ مِنْهُنَّ الْجُيُوبُ إِذَا غَزَا وَتُخْضَبُ مِنْهُنَّ اللِّحَى وَالْمَفَارِقُ١٧٢
يُجَنَّبُهَا مَنْ حَتْفُهُ عَنْهُ غَافِلٌ وَيَصْلَى بِهَا مَنْ نَفْسُهُ مِنْهُ طَالِقُ١٧٣
يُحَاجَى بِهِ: مَا نَاطِقٌ وَهْوَ سَاكِتٌ يُرَى سَاكِتًا وَالسَّيْفُ عَنْ فِيهِ نَاطِقُ؟١٧٤
نَكِرْتُكَ حَتَّى طَالَ مِنْكَ تَعَجُّبِي وَلَا عَجَبٌ مِنْ حُسْنِ مَا اللهُ خَالِقُ١٧٥
كَأَنَّكَ فِي الْإِعْطَاءِ لِلْمَالِ مُبْغِضٌ وَفِي كُلِّ حَرْبٍ لِلْمَنِيَّةِ عَاشِقُ١٧٦
أَلَا قَلَّمَا تبْقَى عَلَى مَا بَدَا لَهَا وَحَلَّ بِهَا مِنْكَ الْقَنَا وَالسَّوَابِقُ١٧٧
سَيُحْيِي بِكَ السُّمَّارُ مَا لَاحَ كَوْكَبٌ وَيَحْدُو بِكَ السُّفَّارُ مَا ذَرَّ شَارِقُ١٧٨
خَفِ اللهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقُعٍ فَإِنْ لُحْتَ ذَابَتْ فِي الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ١٧٩
فَمَا تَرْزُقُ الْأَقْدَارُ مَنْ أَنْتَ حَارِمٌ وَلَا تَحْرِمُ الْأَقْدَارُ مَنْ أَنْتَ رَازِقُ
وَلَا تَفْتُقُ الْأَيَّامُ مَا أَنْتَ رَاتِقُ وَلَا تَرْتُقُ الْأَيَّامُ مَا أَنْتَ فَاتِقُ١٨٠
لَكَ الْخَيْرُ غَيْرِي رَامَ مِنْ غَيْرِكَ الْغِنَى وَغَيْرِي بِغَيْرِ اللَّاذِقِيَّةِ لَاحِقُ١٨١
هِيَ الْغَرَضُ الْأَقْصَى وَرُؤْيَتُكَ الْمُنَى وَمَنْزِلُكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ الْخَلَائِقُ١٨٢
وعرض عليه بدر بن عمار الصحبة للشرب في غد فقال ارتجالًا:
وَجَدْتُ الْمُدَامَةَ غَلَّابَةً تُهَيِّجُ لِلْقَلْبِ أَشْوَاقَهُ١٨٣
تُسِيءُ مِنَ الْمَرْءِ تَأْدِيبَهُ وَلَكِنْ تُحَسِّنُ أَخْلَاقَهُ١٨٤
وَأَنْفَسُ مَا لِلْفَتَى لُبُّهُ وَذُو اللُّبِّ يَكْرَهُ إِنْفَاقَهُ١٨٥
وَقَدْ مُتُّ أَمْسِ بِهَا مَوْتَةً وَلَا يَشْتَهِي الْمَوْتَ مَنْ ذَاقَهُ١٨٦
وقال في وصف لعبة عند بدر بن عمار:
وَذَاتِ غَدَائِرٍ لَا عَيْبَ فِيهَا سِوَى أَنْ لَيْسَ تَصْلُحُ لِلْعِنَاقِ١٨٧
أَمَرْتَ بِأَنْ تُشَالَ فَفَارَقْتَنَا وَمَا أَلِمَتْ لِحَادِثَةِ الْفِرَاقِ١٨٨
إِذَا هَجَرَتْ فَعَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَإِنْ زَارَتْ فَعَنْ غَيْرِ اشْتِيَاقِ
وعرض عليه محمد بن طغج الشرب فامتنع، فأقسم عليه بحقه فشرب، وقال:
سَقَانِي الْخَمْرَ قَوْلُكَ لِي: بِحَقِّي وَوُدٌّ لَمْ تَشُبْهُ لِي بِمَذْقِ١٨٩
يَمِينًا لَوْ حَلَفْتَ وَأَنْتَ نَاءٍ عَلَى قَتْلِي بِهَا لَضَرَبْتُ عُنْقِي١٩٠
وكان لأبي الطيب حِجْرة١٩١ تسمى الجهامة، ولها مهر يسمى الطخرور، فأقام الثلج على الأرض بأنطاكيَة وتعذر المرعى على المهر، فقال:
مَا لِلْمُرُوجِ الْخُضْرِ وَالْحَدَائِقِ يَشْكُو خَلَاهَا كَثْرَةَ الْعَوَائِقِ١٩٢
أَقَامَ فِيهَا الثَّلْجُ كَالْمُرَافِقِ يَعْقِدُ فَوْقَ السِّنِّ رِيقَ الْبَاصِقِ١٩٣
ثُمَّ مَضَى لَا عَادَ مِنْ مُفَارِقِ بِقَائِدٍ مِنْ ذَوْبِهِ وَسَائِقِ١٩٤
كَأَنَّمَا الطُّخْرُورُ بَاغِي آبِقِ يَأْكُلُ مِنْ نَبْتٍ قَصِيرٍ لَاصِقِ١٩٥
كَقَشْرِكَ الْحِبْرَ عَنِ الْمَهَارِقِ أَرُودُهُ مِنْهُ بِكَالشُّوذَانِقِ١٩٦
بِمُطْلَقِ الْيُمْنَى طَوِيلِ الْفَائِقِ عَبْلِ الشَّوَى مُقَارِبِ الْمَرَافِقِ١٩٧
رَحْبِ اللَّبَانِ نَائِهِ الطَّرَائِقِ ذِي مَنْخِرٍ رَحْبٍ وَإِطْلٍ لَاحِقِ١٩٨
مُحَجَّلٍ نَهْدٍ كُمَيْتٍ زَاهِقِ شَادِخَةٍ غُرَّتُهُ كَالشَّارِقِ١٩٩
كَأَنَّهَا مِنْ لَوْنِهِ فِي بَارِقِ٢٠٠
بَاقٍ عَلَى الْبَوْغَاءِ وَالشَّقَائِقِ وَالْأَبْرَدَيْنِ وَالْهَجِيرِ الْمَاحِقِ٢٠١
لِلْفَارِسِ الرَّاكِضِ مِنْهُ الْوَاثِقِ خَوْفُ الْجَبَانِ فِي فُؤَادِ الْعَاشِقِ٢٠٢
كَأَنَّهُ فِي رَيْدِ طَوْدٍ شَاهِق٢٠٣ يَشْأَى إِلَى الْمِسْمَعِ صَوْتَ النَّاطِقِ٢٠٤
لَوْ سَابَقَ الشَّمْسَ مِنَ الْمَشَارِقِ جَاءَ إِلَى الْغَرْبِ مَجِيءَ السَّابِقِ
يَتْرُكُ فِي حِجَارَةِ الْأَبَارِقِ آثَارَ قَلْعِ الْحَلْيِ فِي الْمَنَاطِقِ٢٠٥
مَشْيًا وَإِنْ يَعْدُ فَكَالْخَنَادِقِ٢٠٦
لَوْ أُورِدَتْ غِبَّ سَحَابٍ صَادِقِ لَأَحْسَبَتْ خَوَامِسَ الْأَيَانِقِ٢٠٧
إِذَا اللِّجَامُ جَاءَهُ لِطَارِقِ شَحَا لَهُ شَحْوَ الْغُرَابِ النَّاغِقِ٢٠٨
كَأَنَّمَا الْجِلْدُ لِعُرْيِ النَّاهِقِ مُنْحَدِرٌ عَنْ سِيَتَيْ جُلَاهِقِ٢٠٩
بَزَّ الْمَذَاكِي وَهْوَ فِي الْعَقَائِقِ وَزَادَ فِي السَّاقِ عَلَى النَّقَانِقِ٢١٠
وَزَادَ فِي الْوَقْعِ عَلَى الصَّوَاعِقِ وَزَادَ فِي الْأُذْنِ عَلَى الْخَرَانِقِ٢١١
وَزَادَ فِي الْحِذْرِ عَلَى الْعَقَاعِقِ يُمَيِّزُ الْهَزْلَ مِنَ الْحَقَائِقِ٢١٢
وَيُنْذِرُ الرَّكْبَ بِكُلِّ سَارِقِ يُرِيكَ خُرْقًا وَهْوَ عَيْنُ الْحَاذِقِ٢١٣
يَحُكُّ أَنَّى شَاءَ حَكَّ الْبَاشِقِ قُوبِلَ مِنْ آفِقَةٍ وَآفِقِ٢١٤
بَيْنَ عِتَاقِ الْخَيْلِ وَالْعَتَائِقِ فَعُنْقُهُ يُرْبِي عَلَى الْبَوَاسِقِ٢١٥
وَحَلْقُهُ يُمْكِنُ فِتْرَ الْخَانِقِ أُعِدُّهُ لِلطَّعْنِ فِي الْفَيَالِقِ٢١٦
وَالضَّرْبِ فِي الْأَوْجُهِ وَالْمَفَارِقِ وَالسَّيْرِ فِي ظِلِّ اللِّوَاءِ الْخَافِقِ٢١٧
يَحْمِلُنِي وَالنَّصْلُ ذُو السَّفَاسِقِ يَقْطُرُ فِي كُمِّي عَلَى الْبَنَائِقِ٢١٨
لَا أَلْحَظُ الدُّنْيَا بِعَيْنَيْ وَامِقِ وَلَا أُبَالِي قِلَّةَ الْمُرَافِقِ٢١٩
أَيْ كَبْتَ كُلِّ حَاسِدٍ مُنَافِقِ أَنْتَ لَنَا وَكُلُّنَا لِلْخَالِقِ٢٢٠
وقال يهجو إسحاق بن كيغلغ وقد بلغه أن غلمانه قتلوه:
قَالُوا لَنَا: مَاتَ إِسْحَاقٌ فَقُلْتُ لَهُمْ: هَذَا الدَّوَاءُ الَّذِي يَشْفِي مِنَ الْحُمْقِ٢٢١
إِنْ مَاتَ مَاتَ بِلَا فَقْدٍ وَلَا أَسَفٍ أَوْ عَاشَ عَاشَ بِلَا خَلْقٍ وَلَا خُلُقِ٢٢٢
مِنْهُ تَعَلَّمَ عَبْدٌ شَقَّ هَامَتَهُ خَوْنَ الصَّدِيقِ وَدَسَّ الْغَدْرِ فِي الْمَلَقِ٢٢٣
وَحَلْفَ أَلْفِ يَمِينٍ غَيْرِ صَادِقَةٍ مَطْرُودَةٍ كَكُعُوبِ الرُّمْحِ فِي نَسَقِ٢٢٤
مَا زِلْتُ أَعْرِفُهُ قِرْدًا بِلَا ذَنَبٍ صِفْرًا مِنَ الْبَأْسِ مَمْلُوءًا مِنَ النَّزَقِ٢٢٥
كَرِيشَةٍ بِمَهَبِّ الرِّيحِ سَاقِطَةٍ لَا تَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ مِنَ الْقَلَقِ٢٢٦
تَسْتَغْرِقُ الْكَفُّ فَوْدَيْهِ وَمَنْكِبَهُ وَتَكْتَسِي مِنْهُ رِيحَ الْجَوْرَبِ الْعَرِقِ٢٢٧
فَسَائِلُوا قَاتِلِيهِ كَيْفَ مَاتَ لَهُمْ مَوْتًا مِنَ الضَّرْبِ أَوْ مَوْتًا مِنَ الْفَرَقِ؟٢٢٨
وَأَيْنَ مَوْقِعُ حَدِّ السَّيْفِ مِنْ شَبَحٍ بِغَيْرِ رَأْسٍ وَلَا جِسْمٍ وَلَا عُنُقِ٢٢٩
لَوْلَا اللِّئَامُ وَشَيْءٌ مِنْ مُشَابَهَةٍ لَكَانَ أَلْأَمَ طِفْلٍ لُفَّ فِي خِرَقِ٢٣٠
كَلَامُ أَكْثَرِ مَنْ تَلْقَى وَمَنْظَرُهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْآذَانِ وَالْحَدَقِ٢٣١
وقال يمدح أبا العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي:
أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ الْعُشَّاقِ تَحْسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً فِي الْمَآقِي؟٢٣٢
كَيْفَ ترْثِي الَّتِي تَرَى كُلَّ جَفْنٍ رَاءَهَا غَيْرَ جَفْنِهَا غَيْرَ رَاقِي؟!٢٣٣
أَنْتِ مِنَّا فَتَنْتِ نَفْسَكِ لَكِنـْ ـنَكِ عُوفِيتِ مِنْ ضَنًى وَاشْتِيَاقِ٢٣٤
حُلْتِ دُونَ الْمَزَارِ فَالْيَوْمَ لَوْ زُرْ تِ لَحَالَ النُّحُولُ دُونَ الْعِنَاقِ٢٣٥
إِنَّ لَحْظًا أَدَمْتِهِ وَأَدَمْنَا كَانَ عَمْدًا لَنَا وَحَتْفَ اتِّفَاقِ٢٣٦
لَوْ عَدَا عَنْكِ غَيْرَ هَجْرِكِ بُعْدٌ لَأَرَارَ الرَّسِيمُ مُخَّ الْمَنَاقِي٢٣٧
وَلَسِرْنَا وَلَوْ وَصَلْنَا عَلَيْهَا مِثْلَ أَنْفَاسِنَا عَلَى الْأَرْمَاقِ٢٣٨
مَا بِنَا مِنْ هَوَى الْعُيُونِ اللَّوَاتِي لَوْنُ أَشْفَارِهِنَّ لَوْنُ الْحِدَاقِ٢٣٩
قَصَّرَتْ مُدَّةَ اللَّيَالِي الْمَوَاضِي فَأَطَالَتْ بِهَا اللَّيَالِي الْبَوَاقِي٢٤٠
كَاثَرَتْ نَائِلَ الْأَمِيرِ مِنَ الْمَا لِ بِمَا نَوَّلَتْ مِنَ الْإِيرَاقِ٢٤١
لَيْسَ إِلَّا أَبَا الْعَشَائِرِ خَلْقٌ سَادَ هَذَا الْأَنَامَ بِاسْتِحْقَاقِ٢٤٢
طَاعِنُ الطَّعْنَةِ الَّتِي تَطْعَنُ الْفَيـْ ـلَقَ بِالذُّعْرِ وَالدَّمِ الْمُهَرَاقِ٢٤٣
ذَاتُ فَرْغٍ كَأَنَّهَا فِي حَشَا الْمُخـْ ـبَرِ عَنْهَا مِنْ شِدَّةِ الْإِطْرَاقِ٢٤٤
ضَارِبُ الْهَامِ فِي الْغُبَارِ وَمَا يَرْ هَبُ أَنْ يَشْرَبَ الَّذِي هُوَ سَاقِي٢٤٥
فَوْقَ شَقَّاءَ لِلْأَشَقِّ مَجَالٌ بَيْنَ أَرْسَاغِهَا وَبَيْنَ الصِّفَاقِ٢٤٦
مَا رَآهَا مُكَذِّبُ الرُّسْلِ إِلَّا صَدَّقَ الْقَوْلَ فِي صِفَاتِ الْبُرَاقِ٢٤٧
هَمُّهُ فِي ذَوِي الْأَسِنَّةِ لَا فِيهَا وَأَطْرَافُهَا لَهُ كَالنِّطَاقِ٢٤٨
ثَاقِبُ الرَّأْيِ ثَابِتُ الْحِلْمِ لَا يَقـْ ـدِرُ أَمْرٌ لَهُ عَلَى إِقْلَاقِ٢٤٩
يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ لُقْمَانَ لَا تَعـْ ـدَمْكُمُ فِي الْوَغَى مُتُونُ الْعِتَاقِ٢٥٠
بَعَثُوا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْأَعَادِيـْ ـيَ فَكَانَ الْقِتَالُ قَبْلَ التَّلاقِي٢٥١
وَتَكَادُ الظُّبَا لِمَا عَوَّدُوهَا تَنْتَضِي نَفْسَهَا إِلَى الْأَعْنَاقِ٢٥٢
وَإِذَا أَشْفَقَ الْفَوَارِسُ مِنْ وَقـْ ـعِ الْقَنَا أَشْفَقُوا مِنَ الْإِشْفَاقِ٢٥٣
كُلُّ ذِمْرٍ يَزِيدُ فِي الْمَوْتِ حُسْنًا كَبُدُورٍ تَمَامُهَا فِي الْمُحَاقِ٢٥٤
جَاعِلٍ دِرْعَهُ مَنِيَّتَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ دُونَها مِنَ الْعَارِ وَاقِ٢٥٥
كَرَمٌ خَشَّنَ الْجَوَانِبَ مِنْهُمْ فَهْوَ كَالْمَاءِ فِي الشِّفَارِ الرِّقَاقِ٢٥٦
وَمَعَالٍ إِذَا ادَّعَاهَا سِوَاهُمْ لَزِمَتْهُ جِنَايَةُ السُّرَاقِ٢٥٧
يَا ابْنَ مَنْ كُلَّمَا بَدَوْتَ بَدَا لِي غَائِبَ الشَّخْصِ حَاضِرَ الْأَخْلَاقِ٢٥٨
لَوْ تَنَكَّرْتَ فِي الْمَكَرِّ لِقَوْمٍ حَلَفُوا أَنَّكَ ابْنُهُ بِالطَّلَاقِ٢٥٩
كَيْفَ يَقْوَى بِكَفِّكَ الزِّنْدُ وَالْآ فَاقُ فِيهَا كَالْكَفِّ فِي الْآفَاقِ؟!٢٦٠
قَلَّ نَفْعُ الْحَدِيدِ فِيكَ فَما يَلـْ ـقَاكَ إِلَّا مَنْ سَيْفُهُ مِنْ نِفَاقِ٢٦١
إِلْفُ هَذَا الْهَوَاءِ أَوْقَعَ فِي الْأَنـْ ـفُسِ أَنَّ الْحِمَامَ مُرُّ الْمَذَاقِ٢٦٢
وَالْأَسَى قَبْلَ فُرْقَةِ الرُّوحِ عَجْزٌ وَالْأَسَى لَا يَكُونُ بَعْدَ الْفِرَاقِ٢٦٣
كَمْ ثَرَاءٍ فَرَّجْتَ بِالرُّمْحِ عَنْهُ كَانَ مِنْ بُخْلِ أَهْلِهِ فِي وَثَاقِ!٢٦٤
وَالْغِنَى فِي يَدِ اللَّئِيمِ قَبِيحٌ قَدْرَ قُبْحِ الْكَرِيمِ فِي الْإِمْلَاقِ٢٦٥
لَيْسَ قَوْلِي فِي شَمْسِ فِعْلِكَ كَالشَّمـْ ـسِ وَلَكِنْ فِي الشَّمْسِ كَالْإِشْرَاقِ٢٦٦
شَاعِرُ الْمَجْدِ خِدْنُهُ شَاعِرُ اللَّفـْ ـظِ كِلَانَا رَبُّ الْمَعَانِي الدِّقَاقِ٢٦٧
لَمْ تَزَلْ تَسْمَعُ الْمَدِيحَ وَلَكِنـْ ـنَ صَهِيلَ الْجِيَادِ غَيْرُ النِّهَاقِ٢٦٨
لَيْتَ لِي مِثْلَ جَدِّ ذَا الدَّهْرِ فِي الْأَدْ هُرِ أَوْ رِزْقِهِ مِنَ الْأَرْزَاقِ!٢٦٩
أَنْتَ فِيهِ وَكَانَ كُلُّ زَمَانٍ يَشْتَهِي بَعْضَ ذَا عَلَى الْخَلَّاقِ٢٧٠
وضرب أبو العشائر خيمة على الطريق فكثر سؤَّالُه وغاشيته، فقال له إنسان: جعلت مضربك على الطريق! فقال: أحب أن يذكره أبو الطيب، فقال:
لَامَ أُنَاسٌ أَبَا الْعَشَائِرِ فِي جُودِ يَدَيْهِ بِالْعَيْنِ وَالْوَرِقِ٢٧١
وَإِنَّمَا قِيلَ: لِمْ خُلِقْتَ كَذَا وَخَالِقُ الْخَلْقِ خَالِقُ الْخُلُقِ؟!٢٧٢
قَالُوا: أَلَمْ تَكْفِهِ سَمَاحَتُهُ حَتَّى بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الطُّرُقِ؟!٢٧٣
فَقُلْتُ: إِنَّ الْفَتَى شَجَاعَتُهُ تُرِيهِ فِي الشُّحِّ صُورَةَ الْفَرَقِ٢٧٤
بِضَرْبِ هَامِ الْكُمَاةِ تَمَّ لَهُ كَسْبُ الَّذِي يَكْسِبُونَ بِالْمَلَقِ٢٧٥
الشَّمْسُ قَدْ حَلَّتِ السَّمَاءَ وَمَا يَحْجُبُهَا بُعْدُهَا عَنِ الْحَدَقِ٢٧٦
كُنْ لُجَّةً أَيُّهَا السَّمَاحُ فَقَدْ آمَنَهُ سَيْفُهُ مِنَ الْغَرَقِ٢٧٧
هوامش
(١) أراق: سفك. والركب: جماعة الركبان، وهذا استفهام إنكار واستعظام لما فعله الربع من قتله بشوقه إلى أحبته. يقول: هل يدري هذا الربع — ربع الأحبة — ما فعل من إراقة دمي وما هاج في قلبي من الشوق؟ وذلك أن وقوفه بالربع هيج شوقه وجدد له ذكر الأحبة، فكان البكاء والنحيب، وكانت اللوعة والأسى، وكان حق الكلام أن يقدم «شاق» على «أراق»؛ لأن الربع إذا لم يشق لم يرق الدم، لكن الواو لا توجب الترتيب. أو تقول: إنه ابتدأ بالأهم ثم عاد إلى ذكر سببه، وهو الشوق، وشاقه يشوقه: حمله على الشوق.
(٢) تلاقى: أي تتلاقى، فحذف إحدى التاءين. يقول: لنا وللذين كانوا أهل هذا الربع — يعني الأحبة — قلوب تتلاقى في جسوم ما تتلاقى، يعني نحن نذكرهم وهم يذكروننا، فكأننا نتلاقى بالقلوب وإن لم نتلاقَ بالأشخاص، كما قال ابن المعتز:
إِنَّا عَلَى الْبِعَادِ وَالتَّفَرُّقِ لَنَلْتَقِي بِالذِّكْرِ إِنْ لَمْ نَلْتَقِ
(٣) عفته الريح: درسته. يقول: لم تدرس الرياح لهذا الربع منزلًا، فلا ذنب للريح في دروس منازله، إنما عفاه الحادي الذي ساق الإبل بأهله فلو لم يخرجوا منه لما درس الربع. وهذا كما قال أبو الشيص:
مَا فَرَّقَ الْأُلَّافَ بَعـْ ـدَ اللهِ إِلَّا الْإِبِلُ
وَالنَّاسُ يَلْحَوْنَ غُرَا بَ الْبَيْنِ لَمَّا جَهِلُوا
وَمَا إِذَا صَاحَ غُرَا بٌ فِي الدِّيَارِ احْتَمَلُوا
وَلَا عَلَى ظَهْرِ غُرَا بِ الْبَيْنِ تُطْوَى الرِّحَلُ
وَمَا غُرَابُ الْبَيْنِ إِلَّا نَاقَةٌ أَوْ جَمَلُ
(٤) يريد أن العشق بلغ منه الغاية، وأن الهوى حمله ما لا يطيق فجار عليه يشير إلى أنه أعشق العشاق، وهذا ينظر إلى قول الآخر:
فَيَا رَبِّ قَدْ حَمَّلْتَنِي فَوْقَ طَاقَتِي مِنَ الْحُبِّ حَمْلًا قَاتِلِي فَوْقَ مَا بِيَا
وَإِلَّا فَسَاوِ الْحُبَّ يَا رَبِّ بَيْنَنَا يَكُونُ سَوَاءً لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَا
(٥) عين شكرى: ملأى بالدمع. والماق: طرف العين مما يلي الأنف، وهو مخرج الدمع من العين. يقول: نظرت إلى الأحبة لدى ارتحالهم والعين ممتلئة بالدموع فسال الدمع من جميع جوانبها لامتلائها به حتى كأن جميع الجوانب ماق يسيل الدمع منه؛ يشير إلى غلبة البكاء من لوعة الفراق.
(٦) المحاق — بضم الميم، وكسرها — نقصان القمر آخر الشهر. والتمام: الكمال، وقد طابق بين التمام والمحاق. يقول: لما ارتحلوا أخذ الحبيب الذي هو كالبدر فيهم الكمال في الحسن والإشراق، وأنا لسقمي كأنه أعطاني المحاق؛ يعني أن الحبيب كان في الحسن كالبدر كله نور وبهاء وكنت أنا في الدقة والنحول كالقمر في المحاق، وقد أخذ هذا القائل:
يَا مَنْ يُحَاكِي الْبَدْرَ عِنْدَ تَمَامِهِ ارْحَمْ فَتًى يَحْكِيهِ عِنْدَ مُحَاقِهِ
(٧) الفرع: الشعر. والأزمة: جمع زمام؛ ما تقاد به الدابة. والنياق: جمع ناقة. وقوله: بين الفرع والقدمين، ظرف لنور وما يليه في البيتين التاليين، والضمير في أزمتها: للنياق، وجاز تقديمه؛ لأنه مؤخر في الرتبة. لما جعله بدرًا والبدر لا يخص النور بعضه؛ وصفه بأنه من فرعه إلى قدمه نور، وأن نياق الركب تهتدي بنوره فكأنه يقودها بلا أزمة. ويجوز أن يريد بالنور وجهه؛ وذلك أنه أراد أن يذكر تفاصيل المحاسن التي بين شعره وقدميه، فبدأ بالوجه ثم ثنى بالطرف ثم ثلث بالخصر، وفي هذا البيت نظر إلى قول أبي العتاهية:
وَلَوْ أَنَّ رَكْبًا يَمَّمُوكَ لَقَادَهُمْ نَسِيمُكَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِكَ الرَّكْبُ
(٨) دهاقا: ملأى. يقول: وله طرف ساحر إذا سقى عشاقه كأسًا ناقصة سقانيها مترعة، يعني أنه أعشق العشاق له، وفيه نظر إلى قول القائل:
وَمَا لَبِسَ الْعُشَّاقُ مِنْ حُلَلِ الْهَوَى وَلَا أَخْلَقُوا إِلَّا الثِّيَابَ الَّتِي أُبْلِي
وَلَا شَرِبُوا كَأْسًا مِنَ الْحُبِّ حُلْوَةً وَلَا مُرَّةً إِلَّا شَرَابُهُمْ فَضْلِي
(٩) يقول: إن الأبصار تثبت في خصره استحسانًا له وتكثر عليه من الجوانب حتى تصير كالنطاق عليه. وفي هذا المعنى يقول بشار:
وَمُكَلَّلَاتٍ بِالْعُيُو نِ طَرَقْنَنِي وَرَجَعْنَ مُلْسَا
[يريد بشار أنهن — لحسنهن — تعلو الأبصار إلى وجوههن ورءوسهن حتى كأن لهن إكليلًا من العيون. وملسا: أي لم يعلق بهن أذًى ولا ريبة.] ويقول أبو العتاهية:
أَحَاطَتْ عُيُونُ الْعَاشِقِينَ بِخَصْرِهِ فَهُنَّ لَهُ دُونَ النِّطَاقِ نِطَاقُ
(١٠) الهملعة: الناقة السريعة. والدفاق: المتدفقة في السير. يخاطب محبوبته يقول: سلي عن حال سيري هذه الأشياء تخبرك بإقدامي وتجلدي للأهوال؛ يعني أنه كان وحده لم يصحبه غير ما ذكر فلا يستخبر عن سيره غير الفرس والرمح والسيف والناقة.
(١١) العيس: الإبل البيض. ونكبه: عدل عنه. والسماوة: فلاة بين الشام والعراق. يقول: خلفنا — في قصدنا إلى الممدوح — نجدًا وراءنا وملنا عن طريق السماوة وطريق العراق ومنتوانا حلب.
(١٢) ترى: أي العيس. ودجى الليل: أظلم. والائتلاق: البريق والالتماع، يقال: ائتلق البرق وتألق: إذا لمع. يقول: لم تزل العيس ترى نور وجه سيف الدولة في ظلمة الليل يسطع لها فتستصبح به ويقتادها. وهذا من قول سحيم:
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا كَفَى لِمَطَايَانَا بِوَجْهِكَ هَادِيَا
ومثله قول أبي الطمحان القيني:
أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجزعَ ثَاقِبُهُ
(الجزع — بفتح الجيم، وكسرها — ضرب من الخرز اليماني فيه بياض وسواد تشبه به العيون. وقبل البيت:
وَإِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمُ هُمُ إِذَا مَاتَ مِنْهُم سَيِّدٌ قَامَ صَاحِبُهْ
نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا غَارَ كَوْكَبٌ بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهْ
وبعده:
وَمَا زَالَ مِنْهُمْ حَيْثُ كَانُوا مُسَوَّدٌ تَسِيرُ الْمَنَايَا حَيْثُ سَارَتْ رَكَائِبُهْ
إلى آخر أبيات يمدح بها أبو الطمحان بجير به أوس بن حارثة بن لأم الطائي.)
(١٣) انتشاقا: حال، أو مفعول له. يقول: أدلة العيس في طريقها إلى سيف الدولة انتشاقها رياح المسك منه إذا فتحت مناخرها، وفي مثل هذا المعنى يقول ابن الرومي:
فَهَدَتْ عُيُونَهُمْ لَهُ أَضْوَاؤُهُ وَهَدَتْ أُنُوفَهُمُ لَهُ أَرْوَاحُهُ
ويقول أيضًا:
إِنْ جَاءَ مَنْ يَبْغِي لَنَا مَنْزِلًا فَقُلْ لَهُ يَمْشِي وَيَسْتَنْشِقُ
ولعلهم يريدون المعنى المجازي فيريدون بريحه طيب ثنائه ويريدون بائتلاقه مجده ومكارمه. فعبروا عن المعنوي بالحسي مبالغة في ظهوره حتى أدركته النياق فاهتدت به إليه.
(١٤) التعرض: القصد. والرفاق: جمع رفقة، وهي الجماعة في السفر. يقول — للوحش: إن سيف الدولة أباحك أعداءه بأن قتلهم وجعلهم طعمة لك، فلم تقصدين الرفاق التي تسير إليه؟ وهو يشير بذلك إلى كثرة إيقاعه بمن يخالفه وشدة استظهاره على من يعارضه ويخفر ذمته. قال الواحدي قوله: فلم تتعرضين الرفاقا، تقديره: فلم تتعرضين الرفاق له؟ أي رفاقه.
(١٥) تبع: بمعنى اتبع. والقنا: الرماح. والرذايا: المهازيل من الإبل، واحدها رذية؛ ما هزل من الإبل وانقطع عن السير فلا يستطيع براحا. يقول: لو تتبعت أيها الوحش ما طرحت رماحه من القتلى لكفك ذلك عن مطايانا، ولكان لك فيه غناء عن التعرض لنا؛ لكثرته.
(١٦) يقول: نحن آمنون في طريقنا إليه حتى لو سرنا في النيران ما قدرت على إحراقنا، يريد أن الخوف من سطوته شامل فالسالكون إليه في أمن وطمأنينة. ومثله لأبي تمام:
فَمَضَى لَوَ انَّ النَّارَ دُونَكَ خَاضَهَا بِالسَّيْفِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ النَّارَا
«يريد: جهنم.» ولأبي حية النميري:
لَوْ أَنَّ جَمْرَ النَّارِ دُونَ بِلَادِهِمْ لَعَلِمْتَ أَنِّي جَمْرَهَا مُتَخَوِّضُ
(١٧) من قريش: حال من الأئمة. يقول: هو إمام للخلفاء — يعني خلفاء بني العباس — إذا شاقهم عدو؛ أي تمرد عليهم، يحذرون شقاقه — خلافه وعصيانه — تقدمهم إليه وكفاهم ذلك العدو؛ وذلك لعلو قدره وارتفاع أمره وشدة سطوته. فقوله: إلى من يتقون: متعلق بما في إمام من معنى التقدم، وقد بين هذه الإمامة في البيت التالي.
(١٨) يقول: فهو سيفهم الذي يبطشون به عند غضبهم، وإذا قامت حرب فهو ساقها الذي تعتمد عليه.
(١٩) الفهق: الامتلاء، ومنه المتفيهق الذي يفهق فمه بالكلام. والمكر: مجال الحرب. يقول: لا تنكر تبسمه في أهوال ساعة الحرب وهو عند ضيق المكر بازدحام الأبطال وامتلائه بالدم، يعني أنه ملك عظيم إذا رام مطلبًا أدركه بالأسلحة والخيل، ثم بين علة ترك الإنكار لتبسمه في البيت التالي. وفي مثل هذا يقول البحتري:
ضَحُوكٌ إِلَى الْأَبْطَالِ وَهْوَ يَرُوعُهُمْ وَللسَّيْفِ حَدٌّ حِينَ يَسْطُو وَرَوْنَقُ
(٢٠) المهج: الأرواح، والعوالي: الرماح. وهمه: همته. والعتاق: الخيل الكرام. يقول: لا تنكر ابتسامه في هذه الحالة؛ لأنه لا كلفة عليه في الحرب إذ إن الرماح قد ضمنت له أرواح أعدائه، وإذا هم بأمر أدركه على ظهور خيله، فقد حملت همتَه، وقد كشف عن هذا المعنى في البيت التالي.
(٢١) إنعال الخيل: تصفيح أيديها بالحديد، والطراق: نعل تحت نعل. يقول: إذا أنعلت خيله لقصد قوم أدركتهم فداستهم بحوافرها حتى تصير جلودهم ولحومهم طراقا لنعالها وإن بعد المطلوبون. ومثل هذا لأبي الأخزر الحماني:
لَمْ تَشْكُ خَيْلُهُمُ الْوَجَى مِنْ رَوْحَةٍ إِلَّا انْتَعَلْنَ مِنَ الدِّمَاءِ قَتْيِلَا
(٢٢) نقع: ارتفع صوته وبعد. والصريخ: المستغيث. وضمير نصبن للخيل. والمؤللة: المحددة؛ يريد: آذانها، وآذان الخيل توصف بالدقة. قال الشاعر:
يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْبَطِرِّ النَّقْعِ دَامِيَةً كَأَنَّ آذَانَهَا أَطْرَافُ أَقْلَامِ
يقول: إذا سمعت الخيل صوت المستغيث نصبت آذانها المرهفة لاستماعه؛ لأنها تعودت إجابة المستغيث وإن كان يدعو غيرها، وهذا معنى قوله: إلى مكان؛ أي إلى مكان سوى مكانهن.
(٢٣) الضمير في بينهما للصريخ والخيل. والفواق بضم الفاء، وفتحها: مقدار ما بين الحلبتين، ويضرب مثلًا في السرعة. والفواق أيضًا: الشهقة الغالبة للإنسان. يقول: إن خيله متى دعاها المستغيث كان جوابها الطعان من غير بطء في إجابته فتجعل الطعن جوابا، ومقدار اللبث بين الإجابة وبين دعاء المستغيث مقدار فواق ناقة، أو فواق إنسان؛ أي لا لبث بينهما. ولله سلامة بن جندل حين يقول:
كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَابِيبِ
(يقول: إذا استغاث بنا مستغيث، كان جوابه الجد في نصرته، ويقال: قرع لهذا الأمر ظنبوبه: إذا جد فيه. والظنبوب: طرف العظم اليابس من الساق فجعل قرع الصوت على ساق الخف قرعًا للظنبوب.)
(٢٤) النواصي: جمع ناصية؛ شعر مقدم الرأس. وملاقية ومعادوة: حالان من الخيل، والعامل فيهما: المصدر — من قوله: وكان الطعن. يقول: إن خيله تلقى نواصيها المنايا مُقْدِمة عليها بوجهها مسرعة وقد اعتادت فوارسها معانقة الأبطال في الحرب. قالوا: والمعانقة آخر حالة في الحرب، وأولها الملاقاة من بعيد، ثم المراماة بالسهام، ثم المنازلة بالرماح، ثم المنازلة إلى الأقران، ثم المعانقة.
(٢٥) أراد بالهوادي: أعنق الخيل. والعجاج: الغبار. يقول: تبيت رماحه معروضة فوق أعناق خيله في سراه إلى عدوه فلا ينزل بالليل أخذًا بالحزم، وكأنها من الغبار الذي تثيره تحت رواق. وهو من قول ابن الرومي:
وَإِعْمَالِي إِلَيْكَ بِهَا الْمَطَايَا وَقَدْ ضَرَبَ الْعَجَاجُ بِهَا روَاقَا
(٢٦) العلل: الشرب مرة بعد أخرى. والاصطباح: الشرب في الصباح. والاغتباق: الشرب في العشي. يقول: تميل هذه الرماح كأن دم الأبطال خمر علت بها صباحًا وغبوقا فهي لسكرها تميل، وميلانها إنما هو للينها، وفيه إشارة إلى أنه كثير الغارات لا تفتر خيله جائلة غدوًا وعشيًّا. وفي مثل هذا يقول البحتري:
يَتَعَثَّرْنَ فِي النُّحُورِ وَفِي الْأَوْ جُهِ سُكْرًا لَمَّا شَرِبْنَ الدِّمَاءَ
(٢٧) حساها: شربها. يقول: شرب سيف الدولة الخمر فلم تغلبه الخمر على عقله حتى تعجبت حين لم تقدر عليه؛ وذلك لقوته ومتانته، ولما جاد بالمال لم يُفق من سكر الجود ولم يصح من أريحيته. وقد أحسن البحتري في هذا المعنى إذ يقول:
تَكَرَّمْتَ مِنْ قَبْلِ الْكُئُوسِ عَلَيْهِمِ فَمَا اسْطَعْنَ أَنْ يُحْدِثْنَ فِيكَ تَكَرُّمَا
(٢٨) يقول: أقام الشعر ببابه ينتظر عطاياه، فلما فاقت عطاياه الأمطار في كثرتها فاق الشعر الأمطار كذلك؛ يعني كثرت عطاياه وكثرت الأشعار في مدحه.
(٢٩) الدهماء: يريد الفرس الدهماء؛ أي السوداء. والقيان: جمع قينة؛ الجارية المغنية وغير المغنية. والصداق: مهر المرأة. وكان سيف الدولة أعطاه فرسًا وجارية، يقول: وزنا قيمة الفرس من الشعر وبذلنا مهر الجارية منه؛ أي ملكنا الفرس والجارية بالشعر، يريد أنه كافأ هبته بمدحه. قال العكبري: وسمى قيمة الجارية صداقًا؛ لأن القيمة للأمة، كالصداق للحرة؛ لأنها تستحل بالثمن كما تستحل الحرة بالمهر.
(٣٠) حاشا: كلمة للاستثناء والتبعيد للشيء. والارتياح: الاهتزاز للبذل. ويُبارى: يُجارى. ويُباقى: يغالب من البقاء. وقد استدرك في هذا البيت ما ذكره في البيت السابق من أنه كافأ بالشعر، يقول: حاشا لارتياحك للعطاء؛ أي لجودك، أن يبارى بشيء، فهو أكثر من أن يعارضه شيء، وحاشا لكرمك أن يباهى بالبقاء فهو أبقى من كرم غيرك، يعني أن جوده وكرمه أكثر وأبقى من شعرنا الذي نجازيهما به.
(٣١) منك: تجريد. والقرم: الفحل الكريم من الإبل، ثم أطلق على السيد الشريف. والحقاق: جمع حقة، وهي التي دخلت في السنة الرابعة من النوق فاستحقت الركوب والحمل. يقول: بيد أني قلت ذلك — أي أنَّا وَزَنَّا قيمة الفرس والجارية من الشعر — ممازحة، فنحن نداعب منك سيدًا كلُّ سيدٍ في جنبه يتصاغر حتى يصير كالحقة في جنب الفحل الكريم.
(٣٢) يقول: إذا قتل قتيلًا لم يأخذ سلبه ترفعًا عن ذلك، ولكن عفوه يسلب أسراه أغلالهم وقيودهم؛ أي يعفو عنهم ويطلقهم. والأصل في هذا المعنى قول عنترة:
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الْوَقِيعَةَ أَنَّنِي أَغْشَى الْوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ
(٣٣) يقول: إنك لم تحسن إليَّ غفلة منك وإنما عن علم وتجربة أحسنت إلي، ولم أظفر بإحسانك من غير استحقاق كمن يسرق شيئًا، ولكني كنت أهلًا لما أسديت وكنت أنت مصيبًا فيما أوليت.
(٣٤) يقول: أبلغ هؤلاء الذين يحسدونني عليك أنهم لا يلحقونني ولا يبلغون شأوي؛ لأن البرق إذا حاول اللحاق بي كبا على وجهه — عثر وسقط — وإذا لم يلحقني البرق فكيف يلحقونني هم؟ قال الواحدي: وتحميله الممدوح الرسالة إلى أعدائه قبيح لولا قوله: حاسدي عليك.
(٣٥) الظُّبَا: جمع ظبة، وهي حد السيف. وهذا استفهام إنكار. يقول: إن حاسدي لا تكفي أمرهم الرسائل إنما يكفي أمرهم السيوف؛ يعني ليس يشفيني منهم الرسالة، إنما يشفيني منهم القتل بالسيف.
(٣٦) يقول: إني أَعْرَفُ المجربين الألبَّاء بأحوال الناس؛ لأن غيري إذا كان قد ذاقهم فإني قد ذقت وذقت حتى صرت كالآكل، والآكل أعرف بالمأكول من الذائق.
(٣٧) ألاق الشيء: أمسكه، قال الشاعر:
كَفَّاكَ كَفُّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمَا جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا
يقول: كل بحر لا يبلغ شأوك في الجود، وما يمسكه من مائه على كثرته أقل مما لم تمسكه وجدت به.
(٣٨) يقول: لولا أن الله سبحانه قادر على أن يخلق ما يشاء لساورنا الشك هل أنت خلقت وفاقا — اتفاقا — أو عن عمد، لاستبعاد الوهم أن يكون مثلك في جوده وتناهي محاسنه قد خُلق.
(٣٩) يدعو له. والهيجاء: الحرب: قالوا: وهذا منقول من قول البحتري:
حُطَّتْ سُرُوجُ أَبِي سَعِيدٍ وَاغْتَدَتْ أَسْيَافُهُ دُونَ الْعَدُوِّ تُشَامُ
(٤٠) يقول: إن عينيك هما دائي فكل ما لقيه قلبي من برح الهوى وما سيلقاه إنما هو لأجل عينيك وما تضمنتاه من السحر، وإن الحب هو الذي أذاب جسمي وأكل لحمي فالذي لم يبقَ مني — وهو الذاهب — وما بقي، كلاهما له يفنيه ويذهبه. فاللام في قوله لعينيك: للتعليل، ومن قوله للحب: للملك. ويروى بدل للحب: للشوق.
(٤١) يذكر أنه عزهاة يعزف عن النساء ولا يميل إلى الغزل والعشق، ولكن جفون عيني حبيبه فتانة لمن يراها فتضطر من لم يعشق إلى العشق. وفي هذا نظر إلى قول صريع الغواني:
وَقَدْ كَانَ لَا يَصْبُو وَلَكِنَّ عَيْنَهُ رَأَتْ مَنْظَرًا يُضْنِي الْقُلُوبَ فَرَانَهَا
وقوله: ولكن من يبصر، أراد: ولكنه — بضمير الشأن — فحذفه وجزم بعده على الشرط.
(٤٢) يقول: إنه يبكي في كل حال رَضِي عنه المحبوب أو سخط عليه، قرب منه أو بعد عنه؛ لأنه في حالة الرضا يخاف السخط وعند قربه يخاف البعد. فالنوى: البعد. والمترقرق: الذي يجول في العين ولا ينحدر. وعبارة العكبري: ما بين ما أرجوه من رضا من أحبه وأحذره من سخطه وما أتمناه من اقترابه وأخافه من بعده مجال للدموع التي تترقرق في المقل كلفًا بالحبيب وحذارًا من الرقيب. وقد شرح هذا المعنى الحماسي حين يقول:
وَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلِّ وَقْتٍ مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّنَائِي وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي
(٤٣) ربه: صاحبه. والدهر: ظرف. يقول: أحلى الهوى وأعذبه ما كان صاحبه شاكًّا بين الوصل والهجر؛ لأنه إذا كان كذلك كان للوصل أشد اغتنامًا، أما إذا تيقن الوصل فإنه لا يلتذ به عند حصوله وإذا كان يائسًا منه فقد لذة الرجاء، فالهوى عليه بلاء كله، كما قال الآخر:
تَعَبٌ يَطُولُ مَعَ الرَّجَاءِ بِذِي الْهَوَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ رَاحَةٍ مَعَ يَاسِ
وفي هذا المعنى يقول قيس ابن الرقيات:
تَرَكْتَنِي وَاقِفًا عَلَى الشَّكِّ لَمْ أَصْدُرْ بِيَأْسٍ مِنْكُمْ وَلَمْ أرِدِ
ويقول ابن أبي زرعة الدمشقي:
فَكَأَنِّي بَيْنَ الْوِصَالِ وَبَيْنَ الْهَجْرِ مِمَّنْ مَقَامُهُ الْأَعْرَافُ
فِي مَحَلٍّ بَيْنَ الْجِنَانِ وَبَيْنَ النَّارِ أَرْجُو طَوْرًا وَطَوْرًا أَخَافُ
قال العكبري: وأصل البيت من قول الحكيم: الرجاء تمن والشك توقف، وهما أصل الأمل. وقال الآخر: أحلى الهوى وأعذبه ما كان صاحبه بين يأس وطمع ومخافة وأمل، فهو يحذر الهجر ويتقيه ويؤمل الوصل ويرتجيه. ولقد أحسن أبو حفص الشطرنجي في قوله:
وَأَحْسَنُ أَيَّامِ الْهَوَى يَوْمُكَ الَّذِي تُهَدَّدُ بِالتَّحْرِيشِ فِيهِ وَبِالْعَتْبِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُبِّ سُخْطٌ وَلَا رِضًا فَأَيْنَ حَلَاوَاتُ الرَّسَائِلِ وَالْكُتْبِ؟!
(٤٤) وغضبى: أي ورب غضبى. وريق الشباب: أوله، ومنه ريق المطر؛ أوله. جعلها غضبي لفرط دلالها، فهي ترى من نفسها الغضب دلالًا على عاشقها، وجعلها سكرى من الصبا والحداثة فهي مزهوة مختالة، ثم جعل شبابه شفيعًا إليها. كما قال محمود الوراق:
كَفَاكَ بِالشَّيْبِ ذَنْبًا عِنْدَ غَانِيَةٍ وَبالِشَّبَابِ شَفِيعًا أَيُّهَا الرَّجُلُ
وقال البحتري:
أَأَخِيبُ عِنْدَكَ وَالصِّبَا لِي شَافِعٌ وَأُرَدُّ دُونَكَ وَالشَّبَابُ رَسُولِي
وقال أيضًا:
وَإِذَا تَوَسَّلَ بِالشَّبَابِ أَخُو الْهَوَى أَلْفَاهُ نِعْمَ وَسِيلَةَ الْمُتَوَسِّلِ
(٤٥) وأشنب: عطف على غضبى. والأشنب: الأبيض الأسنان الحسنها. والمعسول: الحلو الذي كأنَّ فيه عسلًا. والثنيات: الأسنان التي في مقدم الفم. والمفرق: موضع افتراق الشعر من الرأس. يقول: ورب حبيب حسن الأسنان حلو رضاب الثنايا واضح الوجه — مشرقه — تعفَّفْتُ عنه وتصوَّنت بستر الفم منه عفة وتورعًا كي لا يقبلني فقبَّل رأسي إجلالًا لي وميلًا إليَّ. يريد أنه أحب وصله وتعفف هو عمَّا لا يليق به.
(٤٦) الأجياد: جمع جِيد؛ العنق. والعاطل: الذي لا حُلي عليه. والمطوق: الذي قد تطوَّق بالحلي. يصف نفسه بالعفة والنزاهة، وأنه قد زاره من الحسان عاطلات وحاليات، فلم يعرف ذات الحلي ممن لا حلي عليها.
(٤٧) الحِبِّ بكسر الحاء: المحبوب. وعفافي: مفعول مطلق. وقوله: والخيل تلتقي: حال. يقول: ليس كل عاشق عفيفًا مثلي وقت الخلوة بالمحبوب، ومع أني عفيف أرضي المحبوب في الوغى — الحرب — بشجاعتي. قال ابن جني: سألته — المتنبي — عن معناه وقت القراءة عليه، فقال: المرأة من العرب تريد من صاحبها أن يكون مِقْدامًا في الحرب فترضى حينئذٍ عنه. ومنه قول عمرو بن كلثوم:
يَقُتْنَ جِيَادَنَا وَيَقُلْنَ: لَسْتُمْ بُعُولَتَنَا إِذَا لَمْ تَمْنَعُونَا
(من معلقته، يقول: يعلفن خيلنا ويقلن لنا: لستم أزواجنا إذا لم تمنعونا من سبي الأعداء إيانا.)
وفي مثل هذا المعنى يقول القائل:
أَخَذْتُ لِطَرْفِ الْعَيْنِ مِمَّا تُصِيبُهُ وَأَخْلَيْتُ مِنْ كَفِّي مَكَانَ الْمُخَلْخَلِ
ويقول الآخر:
لِي مَا حَوَاهُ قِنَاعُهَا مِنْ فَوْقِ مَا حَوَتِ الْجُيُوبُ وَلِي مَكَانُ ثَرَاهَا
لَمْ تُلْفِ مُعْتَنِقَيْنِ لَيْسَ عَلَيْهِمَا حَرَجٌ سِوَايَ مَعَ الْهَوَى وَسِوَاهَا
وقال العكبري: هذا البيت من الحكمة، قال الحكيم: لسنا نمنع محبة ائتلاف الأرواح إنما نمنع محبة اجتماع الأجسام فإنما ذلك من طباع البهائم.
(٤٨) ما يسرها: مفعول ثانٍ لسقى. والبابلي: الخمر نسبة إلى بابل. يدعو لأيام الصبا، يقول: سقاها الله ما يورثها السرور والطرب ويفعل فعل الخمر المعتقة. وهذا على عادة العرب من الدعاء بالسقيا، وهو مجاز؛ لأن الأيام ليست مما يسقى.
(٤٩) يقول: إن الدهر مشتمل على ناسه اشتمال الثوب على لابسه، بيد أن هذا الثوب — الدهر — باق لا يبلى، أما لابسه؛ وهو الإنسان فإنه يبلى ويفنى. ومن ثم يسمى الدهر الأزلم الجذع؛ أي أنه باق على حاله لا يتغير على طول إناه، فهو أبدًا جذع لا يسن. قال الأخطل:
يَا بِشْرُ لَوْ لَمْ أَكُنْ مِنْكُمْ بِمَنْزِلَةٍ أَلْقَى عَلَيَّ يَدَيْهِ الْأَزْلَمُ الْجَذعُ
وفي مثل هذا المعنى يقول ابن دريد في مقصورته:
إِنَّ الْجَدِيدَيْنِ إِذَا مَا اسْتَوْلَيَا عَلَى جَدِيدٍ أَدْنَيَاهُ لِلْبِلَى
(٥٠) الكاف في قوله: كالألحاظ: اسم بمنزلة مثل، مفعول به. وجملة: بعثن: حال. وبكل القتل: أي بقتل فظيع. يقول: لم أرَ مثل الألحاظ ولا مثل فعلها يوم رحيل الذين أحبهم! بعثت لنا القتل؛ أي قتلتنا بسحرها دون أن يقصد ذلك من أدارها. والأصل في هذا قول النابغة:
فِي إِثْرِ غَانِيَةٍ رَمَتْكَ سِهَامُهَا فَأَصَابَ قَلْبَكَ غَيْرَ أَنْ لَمْ تُقْصِدِ
[رماه فأقصده: قتله في المكان.]
(٥١) الضمير — في أدرن — للحببيات، لدلالة المقام. والأحداق: جمع حدقة؛ سواد العين. يقول: أكثرن من إدارة عيونهن وتقليبها لصعوبة الموقف وترقب ما يكون من الفراق فلم تستقر الأعين حتى كأن أحداقها مركبة على زئبق. وهو معروف أن الزئبق يوصف بقلة الثبات وبالترجرج، وقال بعضهم يصف عقعقًا — طائر على شكل الغراب، أو هو الغراب:
يُقَلِّبُ عَيْنَيْنِ فِي رَأْسِهِ كَأَنَّهُمَا قَطْرَتَا زِئْبَقِ
(٥٢) يعدونا: يمنعنا ويصرفنا، والبكاء يمنع من النظر؛ لأن الدمع إذا امتلأت به العين غاض البصر. كما قال القائل:
نَظَرْتُ كَأَنِّي مِنْ وَرَاءِ زُجَاجَةٍ إِلَى الدَّارِ مِنْ فَرْطِ الصَّبَابَةِ أَنْظُرُ
وخوف الفراق كذلك يمنع من لذة الوداع، ألا ترى إلى قول البحتري:
لَا تَعْذُلَنِّي فِي مَسِيرِي يَوْمَ سِرْتُ وَلَمْ أُلَاقِكْ
إِنِّي خَشِيتُ مَوَاقِفًا لِلْبَيْنِ تَسْفَحُ غَرْبَ مَاقِكْ
وَذَكَرْتُ مَا يَجِدُ الْمُوَدْ دِعُ عِنْدَ ضَمِّكَ وَاعْتِنَاقِكْ
فَتَرَكْتُ ذَاكَ تَعَمُّدًا وَخَرَجْتُ أَهْرُبُ مِنْ فِرَاقِكْ
ومن هذا قول الآخر:
يَوْمَ الْفِرَاقِ شَكَرْتُ تَرْكَ وَدَاعِكُمْ وَالْعُذْرُ فِيهِ مُوَسَّعٌ تَوْسِيعَا
أَوَ هَلْ رَأَيْتَ وَهَلْ سَمِعْتَ بِوَاحِدٍ يَمْشِي يُوَدِّعُ رُوحَهُ تَوْدِيعَا؟
وقول الآخر:
صَدَّنِي عَنْ حَلَاوَةِ التَّشْيِيعِ حَذَرِي مِنْ مَرَارَةِ التَّوْدِيعِ
لَمْ يَقُمْ أُنْسُ ذَا بِوَحْشَةِ هَذَا فَرَأَيْتُ الصَّوَابَ تَرْكَ الْجَمِيعِ
(٥٣) القنا: الرماح. وأبو الهيجاء: هو والد سيف الدولة. والفيلق: الكتيبة من الجيش. يقول: إن البين — البعد — يفتك بنا فتك رماح سيف الدولة بجيوش أعدائه. وهذا من حسن التخلص وهو بديع.
(٥٤) قواضٍ: قواتل؛ يعني الرماح، وهو خبر عن محذوف ضمير القنا. ومواضٍ: نوافذ. ونسج داود: الدروع. والخدرنق — بالدال والذال — العنكبوت وإذا جمعته حذفت آخره فقلت: خدارن، وفي الصحاح: بالدال المهملة. وأنشد أبو عبيدة الزفيان السعدي:
وَمَنْهَلٍ طَام عَلَيْهِ الْغَلْفَقُ يُنِيرُ أَوْ يُسْدِي بِهِ الْخَدَرْنَقُ
(الغلفق: الطحلب؛ الخضرة على رأس الماء، يقال: ينبت في الماء ذو ورق عريض.)
يقول: هي — أي رماح سيف الدولة — قواتل من يقصدها نوافذ في دروع الأبطال تخرقها إليهم، كأنها تخرق نسج العنكبوت.
(٥٥) هوادٍ: من الهداية، يقال: هداه فهدي. والأملاك: الملوك. وتخير بحذف إحدى التاءين: أي تتخير. والكماة: جمع كمي؛ البطل المستتر في سلاحه. يقول: إن هذه الرماح تهدي أربابها أو تهتدي هي بنفسها إلى الملوك فتقتلهم كأنها تتخير الأبطال فتأبى إلا خيارهم وسادتهم. وفي مثل هذا يقول أبو تمام:
قَفَا سِنْدبَايَا وَالْمَنَايَا كَأَنَّهَا تُهَدَّى إِلَى الرُّوحِ الْخَفِيِّ فَتَهْتَدِي
(قال ياقوت: سندبايا: موضع بأذربيجان بالبذ، من نواحي بابك الخرمي. قال أبو تمام يمدح أبا سعيد محمد بن يوسف:
رَمَى اللهُ مِنْهُ بَابَكًا وَوُلَاتَهُ بِقَاصِمَةِ الْأَصْلَابِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ
فَتًى يَوْمَ بذ الْخُرَمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بِهَيَّابَةٍ نكْسٍ وَلَا بِمعَرَّدِ
قَفَا سِنْدَبَايَا وَالرِّمَاح مُشِيحَة تُهَدَّى إِلَى الرُّوحِ الْخَفِيِّ فَتَهْتَدِي)
(٥٦) الجوشن: الدرع. يقول: لا تحصنهم منها الدروع فإنها تقدها — تقطها — ولا الأسوار والخنادق فإنها تفريها — تقطعها — وتأتي عليها؛ وذلك لشدة طعن فرسان الممدوح وشجاعتهم.
(٥٧) اللقان: بلد من بلاد الروم. وواسط: بلد بالعراق بناها الحجاج. وجلق: دمشق أو غوطتها. قال الواحدي: وكان أوقع ببني البريدي بواسط، يريد كثرة غاراته وفشوها في البلاد من العراق إلى أقاصي الروم، وانتشار عساكره إذا عادوا إلى ديارهم ما بين الفرات إلى أقاصي الشام.
(٥٨) المتدقق: المتكسر. يقول: يرد الرماح من القتال متلطخة بالدماء تقطر منها، كأن صحاحها تبكي على ما تكسر منها من شدة الطعن؛ رثاء لها ورحمة. ويَبْكِي كيُبَكِّي، والتشديد للمبالغة.
(٥٩) فلا تبلغاه: أي الممدوح، يقول — مخاطبًا صاحبيه على عادة العرب: لا تبلغاه ما أقول فإنه لحبه الحرب وشجاعته متى ذكر له وصف الحرب والطعان اشتقاق إليها وحن. والبيت منقول من قول كُثَيِّر:
فَلَا تُذْكِرَاهُ الْحَاجِبِيَّةَ إِنَّهُ مَتَى تُذْكِرَاهُ الْحَاجِبِيَّةَ يَحْزَنِ
(٦٠) بنانه: فاعل ضروب. والكلام المشقق: الذي شق بعضه من بعض، ويقال: شقق الكلام: إذا أخرجه أحسن مخرج. يقول: إنه شجاع في الحرب بليغ لدى القول قادر عليه حسن التصرف فيه مبدع. قال العكبري: وقد نقل هذا المعنى في الهجاء إلى المدح من قول الأول:
فَبَاعِدْ يَزِيدًا مِنْ قِرَاعِ كَتِيبَةٍ وَأَدْنِ يَزِيدًا مِنْ كَلَامٍ مُشَقَّقِ
(٦١) يقول: إن من يسأل الغيث قطرة يتكلف ما هو في غنًى عنه؛ إذ إن قطر الغيث مبذول لمن أراده، كذلك من يسأل الممدوح يتكلف ما لا حاجة به إليه، إذ إنه يعطي بلا سؤال، ولما كان الممدوح مطبوعًا على الجود لم يكن في استطاعته العدول عنه، وإذن يكون عاذله عليه كمن يقول للفلك ارفق في حركتك. فقوله كسائله: خبر مقدم. ومن يسأل: مبتدأ مؤخر ومثله كعاذله من قال. وذهب ابن جني إلى أن المعنى: كما أن الغيث لا تؤثر فيه القطرة، كذلك سائله لا يؤثر في ماله جوده. قال العروضي ناقدًا: وهذا على خلاف العادة في المدح؛ لأن العرب تمدح بالعطاء على القلة والمواساة مع الحاجة إليه، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. وقال الشاعر:
وَلَمْ يَكُ أَكْثَرَ الْفِتْيَانِ مَالًا وَلَكِنْ كَانَ أَرْحَبَهُمْ ذِرَاعَا
والذي فسره — أي ابن جني — مدح بكثرة المال لا الجود … وإنما أراد — أي المتنبي: من عادته وطبعه الجود كعادة الغيث أن يقطر — أي يمطر — فسائله مستغنٍ عن تكليفه ما هو في طبعه.
(٦٢) يقول: لقد عم جودك أهل كل ملة وأهل كل لغة حتى حمدوك جميعًا لما نالوا من برك وإحسانك.
(٦٣) الارتياح: الانبساط. والندى: الجود. والمجتدي: طالب العطاء. والمتملق: المتودد، أو الذي يخضع ويلين كلامه — مأخوذ من الصخرة الملقة؛ وهي الملساء — يقول: لما علم ملك الروم انبساطك للجود وأريحيتك له تملق إليك تملق السائل. وفي هذا نظر إلى قول القائل:
وَلَوْ لَمْ تُنَاهِضْهُ وَأَبْصَرَ عُظْمَ مَا تُنِيلُ مِنَ الْجَدْوَى لَجَاءَكَ سَائِلَا
(٦٤) الرماح السمهرية: نسبة إلى سمهر؛ زوج ردينة، كانا يقومان الرماح. وأدرب: من الدربة؛ وهي العادة. يقال: درب بالشيء؛ اعتاده وضرى به. والحاذق: الخبير بالشيء. يقول: وترك ملك الروم الرماح صغارًا لا اختيارًا لمن هو أحذق بالطعان وأجرى عادة به منه — يعني سيف الدولة — يعني ترك الحرب صاغرًا واستأمن بالكتاب.
(٦٥) يقول: استأمن إليك من أرضه البعيدة لعلمه أنها لا يبعد على خيلك السبق فإنك تدركه بها متي أردت. وقوله: بعيد: يروى بالجر، على أنه نعت سببي لأرض، ومرامها — أي مطلبها — فاعل له. ويروى بالرفع على أنه خبر مقدم، والجملة: نعت أرض.
(٦٦) المسرى: الموضع الذي يسار فيه ليلًا. والهام: الرءوس؛ يذكر كثرة قتلاه في أرض الروم، وأن رسوله سار إليك عند قصده إياك في طريقك فما سار إلا فوق رءوس القتلى. وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:
بِكُلِّ مُنْعَرَجٍ مِنْ فَارِسٍ بَطَلٍ جَنَاجِنٌ فِلَقٌ فِيهَا قَنَا قِصَدُ
(الجناجن: عظام الصدر، ويروى: جماجم.)
وقول الأول:
بِكُلِّ قَرَارَةٍ وَبِكُلِّ نَجْدٍ بَنَانُ فَتًى وَجُمْجُمَةٌ فَلِيقُ
(٦٧) يقول: لما قرب الرسول أغشى بصره لمعان الحديد والسلاح حتى لم يرَ مكان سيف الدولة ولم يبصر موضعه؛ لشدة لمعان الأسلحة حواليه. وقال العكبري: الضمير في «مكانه» للرسول؛ أي حتى لم يبصر طريق نفسه لشدة لمعان الحديد في عسكر سيف الدولة.
(٦٨) في البساط: يروى في السماط، والسماط: صف يقومون بين يدي الملك. وقوله إلى البحر: أي أإلى البحر، فحذف همزة الاستفهام. ويرتقي: يصعد. يقول: وأقبل الرسول يمشي إليك بين السماطين فغشيه من هيبتك ما لا يعرض مثله إلا لمن قصد إلى البحر أو ارتفع إلى البدر؛ لعظم ما عاين.
(٦٩) لم يثنك: لم يصرفك. والمهجة: الروح. ونمق الكلام: زينه. يقول: لم يجد الأعداء شيئًا يصرفونك به عن العبث بأرواحهم وإراقة دمائهم مثل أن يخضعوا لك في كتاب يكتبونه إليك؛ لأنك لا تدفع بالمقاومة. ولعله من قول أبي تمام:
فَحَاطَ لَهُ الْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ رُوحَهُ وَجُثْمَانَهُ إِذْ لَمْ تَحُطْهُ قَبَائِلُهْ
وقوله أيضًا:
عَدَا خَائِفًا يَسْتَنْجِدُ الْكُتْبَ مُذْعِنًا عَلَيْكَ فَلَا رُسْلٌ ثَنَتْكَ وَلَا كُتْبُ
(٧٠) الإشارة بهذه: إلى المرة. والقذال: مؤخر الرأس. والدمستق: القائد من قواد الروم. يقول: كنت قبل استغاثته بك إذا أردت مكاتبته كتبت إليه بما تحدثه سيوفك في قذال الدمستق من الجراحات؛ أي إن هذه الجراحات التي تصيبه وهو منهزم كالكتاب إليه، لأنه يتبين بها كيفية الأمر كما تتبين بالكتاب — وكان الدمستق قد جرح في بعض وقائع سيف الدولة، فأشار المتنبي إلى ذلك ودل به على ضرورة ملك الروم إلى ما أظهره من الخضوع. وقد فصل ذلك أبو تمام وما أبدعه:
كَتَبْتَ أَوْجُهَهُمْ مَشْقًا وَنَمْنَمَةً ضَرْبًا وَطَعْنًا يُقَاتُ الْهَامَ وَالصُّلُفَا
كِتَابَةً لَا تَنِي مَقْرُوءَةً أَبَدًا وَمَا خَطَطْتَ بِهَا لَامًا وَلَا أَلِفَا
فَإِن أَلَطُّوا بِإِنْكَارٍ فَقَدْ تُرِكَتْ وُجُوهُهُمْ بِالَّذِي أَوْلَيْتَهُمْ صُحُفَا
[المشق: مد الحروف. والنمنمة: النقش. والصلف: جمع صليف؛ صفحة العنق. وألطوا بإنكار — بالطاء والظاء — لازموه ولم يفارقوه.]
(٧١) أخلق صيغة تعجب من قولهم: فلان خليق بهذا؛ أي جدير به. يقول: فإن أعطيته ما يطلب من الأمان فهو سائل يسألك، وأنت لا تخيب سائلًا، وإن قتلته فهو جدير بذلك؛ لأنه حربي مباح الدم.
(٧٢) البيض: السيوف. والصوارم: القواطع. والرقيق: العبد. يقول: إنك عممتهم بالقتل فلم تترك أسيرًا يُفدى أو رقيقًا يُعتق.
(٧٣) الضمير في شفراتها: للبيض الصوارم. وشفرة السيف: حده. والزردق: الصف من الناس — تعريب رسته. يقول: إنهم وردوا شفرات السيوف كما ترد القطا مناهل الماء ومروا عليها صفًّا بعد صف حتى أفنتهم. وفيه نظر إلى قول بعضهم:
لَقَدْ وَرَدُوا وِرْدَ الْقَطَا بِنُفُوسِهِمْ رِضَا اللهِ مَصْفُوفَ الْقَنَا الْمُتَشَاجِرِ
(٧٤) وصفه بالنور لبعد صيته وشهرة اسمه في الناس كشهرة النور المستضاء به. يقول: هو نور وقد بلغت بخدمته رتبة ارتفع بها ذكري واشتهر صيتي اشتهار النور في المشرق والمغرب.
(٧٥) الأحمق: الجاهل الذي لا عقل له. يقول: إذا أراد سيف الدولة أن يسخر من أحمق من الشعراء أمره باللحاق بي. فهو بحمقه يظن أنه يقدر على إدراك شأوي وليس يقدر. والغبار واللحاق استعارة من سباق الخيل. وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:
يَا طَالِبًا مَسْعَاتَهُمْ لِيَنَالَهَا هَيْهَاتَ مِنْكَ غُبَارُ ذَاكَ الْمَوْكِبِ!
قيل: إن الخالديين — أبا بكر وأخاه عثمان — قالا لسيف الدولة: إنك لتغالي في شعر المتنبي، اقترح علينا ما شئت من قصائده حتى نعمل أجود منها، فدافعهما زمانًا، ثم كررا عليه، فأعطاهما هذه القصيدة: فلما أخذاها قال عثمان لأخيه أبي بكر: ما هذه من قصائده الطنانات فلأي شيء أعطانا؟ ثم فكرا، فقال أحدهما لصاحبه: والله ما أراد إلا هذا البيت، فتركا القصيدة ولم يعاوداه ولم يعملا شيئًا.
(٧٦) يقول: لست أقصد أن أكمد حسادي؛ لأني لا آبه لهم ولا أحفل إلا أنهم لما تعرضوا لي لم يطيقوا مزاحمتي فكمدوا وحزنوا لذلك، فكانوا كمن زاحم البحر فغرق في تياره. وقال الخطيب التبريزي: المعنى: وما الإزراء على أهل الحسد أردتُ بما أبدعته ولا التعجيز لهم قصدت فيما خلدته، ولكني كالبحر الذي يغرق من يزاحمه غير قاصد ويهلك من اعترضه غير عامد. وهو منقول من قول زياد الأعجم:
وَإِنَّا وَمَا يُهْدَى بِهِ مِنْ هِجَائِنَا لَكَالْبَحْرِ مَهْمَا يُرْمَ فِي الْبَحْرِ يَغْرَقِ
(٧٧) الممخرق: لغة عراقية مولدة يراد بها صاحب العبث والأباطيل، مأخوذة من المخراق، وهو شيء يلعب به؛ إما منديل يلف أو خشب. ومنه قول عمرو بن كلثوم:
كَأَنَّ سُيُوفَنَا فِينَا وَفِيهِمْ مَخَارِيقٌ بِأَيْدِي لَاعِبِينَا
يقول: يمتحن الناس بعقله ليعرف ما عندهم ثم يغضي مع علمه بذي العبث منهم فلا يفضحه لكرمه.
(٧٨) الإطراق: أن ترمي ببصرك إلى الأرض. وطرف العين: نظرها. يقول: إن إغضاءه عن هؤلاء العابثين لا ينفعهم إذا كان يعرفهم بقلبه فلا يخفى عليه حالهم. وعبارة العكبري: يريد: هو يغضي للممخرق إغضاء تجاوز وحلم لا إغضاء غيظ وسوء، وغض العين لطرفها وكفها للحظها لا ينفع المموه المغالط والمقصر الممخرق، إذا كان طرف القلب يلحظه وينظر إليه. وفي هذا نظر إلى قول ابن الرومي:
وَالْفُؤَادُ الذَّكِيُّ لِلنَّاظِرِ الْمُطـْ ـرِقِ عَيْنٌ يَرَى بِهَا مِنْ وَرَاءِ
ولابن دريد:
وَلَمْ يَرَ قَبْلِي مُغْضِيًا وَهْوَ نَاظِرٌ وَلَمْ يَرَ قَبْلِي سَاكِتًا يَتَكَلَّمُ
(٧٩) يقول: يا من يُطلب فيخاف طالبَه! كن جارًا له حتى تصير منيعًا لا يصل إليك سوء، ويا من حرم حظه من الرزق! اقصده سائلًا تصر مرزوقًا، فهو ذو نجدة يحمي الذمار معطاء.
(٨٠) يقول: إن من صاحبه صار جريئًا إما لأنه يعديه بشجاعته وإما ثقة بنصرته. ومن فارقه وإن كان شجاعًا فرق — خاف وفزع — وصار جبانًا. قال علي بن جبلة:
بِهِ عَلِمَ الْإِعْطَاءَ كُلُّ مُبَخَّلٍ وَأَقْدَمَ يَوْمَ الرَّوْعِ كُلُّ جَبَانِ
وقال البحتري:
يَسْخُو الْبَخِيلُ — إِذْ رَآكَ — بِنَفْسِهِ وَالنِّكْسُ يَمْلَأُ مَضْرِبَ الصَّمْصَامِ
(٨١) المحنق: المغضب. يقول: إذا سعت أعداؤه ليكيدوا مجده ويبطلوه سعى جده — سعده — في إبطال كيدهم سعي محنق، ويروى: سعى جده في مجده؛ أي في تشييد مجده، أي إن جده يرفع مجده إذا قصد الأعداء وضعه.
(٨٢) المبين: الظاهر البين، يقال: أبنت الشيء، وأبان هو. واسم يكن: ضمير الفضل الأول؛ أي إذا لم يكن ذلك الفضل فضل السعيد. يقول: لا يعنيك فضلك الظاهر إذا لم يعنك جدك القاهر؛ أي أنه إذا لم يكن مع الفضل سعادة وتوفيق لم يغن ذلك الفضل صاحبه شيئًا. قال حسان:
رُبَّ حِلْمٍ أَضَاعَهُ عَدَمُ الْمَا لِ وَجَهْلٍ غَطَّى عَلَيْهِ النَّعِيمُ
[الحلم: العقل. والجهل: الحمق وعدم العقل.] وقال ابن دريد:
لَا يَرْفَعُ الْجَدُّ بِلَا لُبٍّ وَلَا يَحُطُّكَ الْجَهْلُ إِذَا الْجَدُّ عَلَا
(٨٣) العذيب وبارق: موضعان بظاهر الكوفة. والعوالي: الرماح. والسوابق: الخيل. و«ما بين»: لك أن تجعله ظرفًا لتذكرت، و«مجر عوالينا» بدل منه بدل اشتمال، كأنه قال: مجر عوالينا فيه. ولك أن تجعل «ما» زائدة و«بين العذيب» ظرفًا لمجر. ومجرى — بفتح الميم وضمها — وهو ومجر: مصدران ميميان. يقول: تذكرت نزولنا بين هذين الموضعين حين كنا نجر رماحنا عند مطاردة الفرسان ونتسابق على الخيل، يعني أنه تذكر أرضه ومنشأه ومطاردة الفرسان وإجراء الخيل.
(٨٤) القنيص: الصيد. والمفارق: جمع مفرق؛ موضع افتراق الشعر من الرأس. يقول: وتذكرت صحبة قوم صعاليك كانوا من البطولة والشجاعة بحيث كانوا لا يكسرون سيوفهم إلا في جماجم الأبطال، وكانوا من الأيد وشدة السواعد وإجادة الضرب بحيث يذبحون ما يصيدون بفضول ما بقي من سيوفهم التي كسرت في رءوس الأعداء.
(٨٥) الثوية: موضع بقرب الكوفة. وتوسد الشيء: جعله كالوسادة تحت رأسه. والمرافق: جمع مرفق؛ مرفق اليد. وثراها: ترابها. يقول: وتذكرت ليلًا اتخذنا فيه هذا المكان مخدات لنا؛ أي نمنا عليه وكان طيب التراب، فكأن ترابه الذي ارتفقنا به حين اتكأنا عليه عنبر في المرافق. وقال ابن جني: المرافق: جمع مرفقة؛ وهي الوسادة، وهذا غير موائم للمقام؛ لأنه يصف تصعلكه وتصعلك أصحابه وجلدهم على مشقة السفر وأن الفضلات المكسرة من السيوف مداهم والأرض وسائدهم، ولا يفتخر الصعلوك بوضع الرأس على الوسادة. والبيت من قول البحتري:
فِي رَأْسِ مُشْرِفَةٍ حَصَاهَا لُؤْلُؤٌ وَتُرَابُهَا مِسْكٌ يُشَابُ بِعَنْبَرِ
(٨٦) بغيرها: حال من الحسان. وحصا: فاعل زار. والمخانق: جمع مخنقة، وهي القلادة. يقول: هذه البلاد بلاد إذا حمل حصاها إلى النساء الحسان بأرض غيرها ثقبنه كما يثقب اللؤلؤ وجعلنه قلائد لهن لحسنه ونفاسته. وقال الخطيب التبريزي: إنما أراد ما يوجد حول الكوفة من الحصا الفرومي؛ أي إن تراب تلك الأرض ينوب عن العنبر، وحصباءها ينوب عن الدر والياقوت، كأن النساء يتحلين به وينظمنه في عقودهن. وفيه نظر إلى قول دعبل:
فَكَأَنَّمَا حَصْبَاؤُهَا فِي أَرْضِهَا خَرَزُ الْعَقِيقِ نُظِمْنَ فِي سِلْكِ
(٨٧) قطربل: ضيعة من أعمال بغداد، تنسب إليها الخمر القطربلية. وعلى كاذب خبر مقدم على ضوء. ومن وعدها: نعت لكاذب يقول: سقتني الشراب القطربلي امرأة مليحة على وعدها الكاذب ضوء الوعد الصادق؛ أي يستحسن كلامها فيقبل كذبها قبول الصدق. ويجوز أن يريد أنها تقرب الأمر وتعد كأنها تريد الوفاء بذلك، فهو ضوء الصدق. ويجوز أن يريد أن الوعد الكاذب منها محبوب مطلوب. وفي مثله يقول منصور النمري:
تُعَلِّلُهُ مِنْهَا غَدَاةَ يَرَى لَهَا ظَوَاهِرَ صِدْقٍ وَالْبَوَاطِن زُورُ
(٨٨) قال ابن جني: أي قد اجتمعت فيها — أي المليحة — الأضداد، فعاشقها لا ينام شوقًا إليها، وإذا رآها فكأنه يرى بها الشمس، وهي سقام لبدنه، ومسك عند الشم، فذهب ابن جني — كما ترى — إلى أن البيت صفة المليحة. وقال العروضي: إنما يصف القطربلي — الخمر — والخمر تجمع هذه الأوصاف، فإن من اشتغل بشربها لها عن النوم، وهي — بشعاعها — كالشمس للناظر، وهي ترخي الأعضاء فيصير شاربها كالسقم لعجزه عن النهوض، وهي طيبة الرائحة فهي مسك لمن شمها. والأظهر ما ذهب إليه ابن جني. وقد عاب ابن وكيع على المتنبي هذا، وقال: ينبغي أن يقول:
سُهَادٌ لِأَجْفَانٍ وَنَوْمٌ لِسَاهِرٍ وَسُقْمٌ لِأَبْدَانٍ وَبُرْءُ سَقَامِ
حتى يصح التقسيم والطباق.
(٨٩) وأغيد: عطف على مليحة. ويروى بالجر — على إضمار رب — والأغيد: الناعم المتثني لينًا. يقول: وسقاني أغيد جمع بين خفة الروح وحسن الجسم، فالفاسق يميل إليه حبًّا لجسمه، والعاقل العفيف — الذي لا يفسق — يصبو إلى روحه لخفته وظَرفه. وهذا ينظر إلى قول أبي نواس:
فَتَنَتْنِي وَصِيفَةٌ كَالْغُلَامِ الْمُرَاهِقِ
هِمَّةُ النَّاسِكِ الْعَفِـ ـيفِ وَسُؤْلُ الْمُنَافِقِ
(٩٠) المزهر: العود. والعائق: المانع. يقول: إذا تناول العود فجس الأوتار أتى بما يشغل كل سمع عما سوى الأوتار لحذقه وجودة ضربه، كما قال الآخر:
إِذَا مَا حَنَّ مِزْهَرُهَا إِلَيْهَا وَحَنَّتْ نَحْوَهُ أَذِنَ الْكِرَامُ
وَأَصْغَوْا نَحْوَهَا الْأَسْمَاعَ حَتَّى كَأَنَّهُمُ — وَمَا نَامُوا — نِيَامُ
ووصفه بالأدب: إما لأن ضرب العود من آداب اليد، وإما لأنه يحفظ الأبيات الحلوة والأشعار النادرة. ويؤكد هذا البيت التالي.
(٩١) عاد: هي تلك القبيلة العربية القديمة. والمراهق: الذي قد راهق الحلم — أي داناه وقاربه — يقول: إنه يأتي بالألحان القديمة والأشعار التي قيلت في الدهور الماضية، فهو بغنائه يحدث عما بين زمان عاد وبين زمانه مع أنه غلام لم يبلغ الحلم. وعبارة ابن جني: هو أديب حافظ لأيام الناس وسيرهم.
(٩٢) ضمير يكن: للحسن. والخلائق: كالشمائل — الخصال — أي الأخلاق. يقول: إذا لم تكن أفعال الفتى وأخلاقه حسنة جميلة فليس حسن وجهه شرفًا له، قال العباس بن مرداس:
وَمَا عِظَمُ الرِّجَالِ لَهُمْ بِفَخْرٍ وَلَكِنْ فَخْرُهُمْ كَرَمٌ وَخِيرُ
وقال الفرزدق:
وَلَا خَيْرَ فِي حُسْنِ الْجُسُومِ وَطُولِهَا إِذَا لَمْ يَزِنْ حُسْنَ الْجُسُومِ عُقُولُ
وقال دعبل:
وَمَا حُسْنُ الْجُسُومِ لَهُمْ بِزَيْنٍ إِذَا كَانَتْ خَلَائِقُهُمْ قِبَاحَا
(٩٣) الأدنون: الأقربون، جمع أدنى. والأصادق: جمع أصدقاء، جمع صديق. قال الواحدي: هذا حث على السفر والتغرب. يقول: ليس بلد الإنسان إلا ما يوافقه، ولا أقاربه إلا أصدقاؤه، يعني أن كل مكان وافقه وطاب به عيشه فهو بلده، وكل قوم صادقوه وأصفوا له المحبة فهم رهطه الأدنون. قال العكبري: وأخذ صدره من قول القائل:
يُسْرُ الْفَتَى وَطَنٌ لَهُ وَالْفَقْرُ فِي الْأَوْطَانِ غُرْبَهْ
وأخذ عجزه من قول الآخر:
دَعَوْتُ وَقَدْ دَهَتْنِي دَاهِيَاتٌ وَلِلْأَيَّامِ دَاهِيَةٌ طَرُوقُ
صَدِيقًا لَا شَقِيقًا فِيهِ غِلُّ أَلَا إِنَّ الصَّدِيقَ هُوَ الشَّقِيقُ
(٩٤) يقول: يجوز أن يدعيَ المحبة من لا يعتقدها ويتظاهر بها من لا يلتزمها، ولكن المنافق لا يخفى اضطراب لفظه. قال العكبري: وهذا إشارة إلى أن شكره لسيف الدولة ليس كشكر من يتصنع له ولا يخلص له حقيقة وده. وقال الواحدي: يعرض في هذا بمشيخة من بني كلاب؛ إذ طرحوا أنفسهم على سيف الدولة لما قصدهم يبدون له المحبة غير صادقين. وفي مثل هذا يقول الآخر:
وَالْعَيْنُ تَعْلَمُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا مَنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
ويقول القائل:
خَلِيلَيَّ لِلْبَغْضَاءِ حَالٌ مُبِينَةٌ وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُرَى وَمَعَارِفُ
(٩٥) عقيل بن كعب: قبيلة من قبائل قيس عيلان، ومنهم كان رؤساء الجيش الذي أوقع بهم سيف الدولة. يقول: من الذي أشار على عقيل هذه أن يعصوك ويتمردوا عليك حتى ألقوا بأيديهم إلى التهلكة وأشمتوا أعداءهم وأسخطوا الله سبحانه؟ يعني أنهم أساءوا في هذا التدبير.
(٩٦) علي: هو سيف الدولة. ويوسع: يكثر. والجحفل: الجيش العظيم. والذي يعجز الورى: هو عصيان سيف الدولة. يقول: أرادوا عصيانك الذي يعجز الناس — لأنه لا يقدر أحد على أن يعصيك — والذي يكثر به قتل الجيش العظيم المتضايق لكثرته وازدحامه. يعني أنه لا يقدر أحد على عصيانه ولا يقدر جيش على ملاقاته.
(٩٧) يقول: حين عصوه وقاتلوه بسطوا أكفهم إلى من قطعها وحملوا رءوسهم إلى من فلقها — يريد بني عقيل — وأنهم كانوا في تلك الحرب جزر السيوف وغرض الحتوف.
(٩٨) يقول: لقد أقدموا على الحرب، ولكنهم وجدوا منك من أخذهم عند الإقدام ولحقهم عند الهرب، فلم ينفعهم الإقدام ولا الهرب. يعني أنهم لم يؤتوا من ضعف في حربهم ولا من تقصير في هربهم، ولكنهم رأو من لا يواقف في حرب ولا يمتنع منه بهرب.
(٩٩) كعب: قبيلة منهم. وطغوا: تمردوا. والسنان: الرمح. يقول: لما أنعم عليهم فألبسهم ثياب نعمته طغوا وتمردوا ولم يشكروا نعمته فسلبهم النعمة بالإغارة عليهم وتقتيلهم، فكأنه خرق بأسنته ما ألبسهم من ثياب نعمته.
(١٠٠) أراد بالغيث: إنعامه عليهم. والبوارق: جمع بارق، وهو السحاب فيه برق. وقوله: سقى غيره؛ أي سقاهم كأس الموت في غير بوارق الغيث؛ يعني في بوارق السيوف. والمعنى: لما أمطر عليهم الخير والجود وكفروا به أمطر عليهم العذاب؛ لأنه أتاهم من عسكره في مثل السحائب البارقة، فكانت ضد السحائب التي أحسن إليهم بها فكفروها. وفي مثل هذا يقول البحتري:
لَقَدْ نَشَأَتْ بِالشَّامِ مِنْكَ سَحَابَةٌ تُؤَمَّلُ جَدْوَاهَا وَيُخْشَى دَمَارُهَا
فَإِنْ سَأَلُوا كَانَتْ غَمَامَةَ وَابِلٍ وَغَيْثًا وَإِلَّا فَالدَّمَارُ قِطارُهَا
(١٠١) يقول: إن إساءته إليهم أوجع من إساءة غيره؛ لأنه كان محسنًا إليهم وهم تعودوا إحسانه، فإذا تنكر لهم كان أشد عليهم. فهو يقول — موبخًا لبني كعب لما حرمت أنفسها فضل سيف الدولة، الذي كان عندهم عادة دائمة ونعمة سابغة: وما يوجع الحرمان ممن لا يرتقب فضله، ولا يؤلم المنع ممن لا يؤمل بذله، كما يوجع ذلك ممن قد أنست النفوس إلى كريم عوائده وسكنت القلوب إلى جميل عواطفه. يريد أنهم كانوا أصدقاءه فحرموا فضله ورفده.
(١٠٢) بها: أي بالخيل — وإن لم يجر لها ذكر — وحشو: حال، كأنه قال: محشوة. والعجاجة: واحدة العجاج؛ الغبار. والقنا: الرماح. والسنابك: أطراف الحوافر. والحمالق — بحذف الياء؛ لأنها الحماليق — جمع حملاق؛ بطن جفن العين. يقول: أتاهم بالخيل وقد أحاطت بها الرماح والغبار فهي حشو هذين، وحوافر تحشو العيون بما تثير من الغبار. وقال العروضي: أبلغ من هذا أن الخيل تطأ رءوس القتلى فتحشو حماليقها بسنبكها، كما قال:
وَمَوْطِئُهَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ مَلَاغِمه
فأما أن يرتفع الغبار فيدخل في العيون فلا كثير افتخار في هذا.
(١٠٣) عوابس: حال — أي كالحة لما أصابها من الجهد — وحلَّى: من الحلية. وأراد بيابس الماء: ما جف من العرق، وعرق الخيل إذا جف ابيض. والحزم: جمع حزام. والمناطق: جمع منطقة؛ ما يشد به الوسط. يقول: أتتهم الخيل كالحة وقد جف العرق على حزمها فابيض، فصارت الحزم كأنها المناطق المحلاة بالفضة.
(١٠٤) أبو الهيجا: كنية والد سيف الدولة. وتدمر: البلد القديم المعروف. والعوالي: الرماح. والسمالق: جمع سملق؛ المفازة المستوية الأرض المترامية الأطراف. يقول: ليت أباك حي فيراك وقد خلفت تدمر تطارد قبائل العرب برماحك الطويلة في المفاوز الطوال.
(١٠٥) القفي: جمع قفا. وعلي: اسم سيف الدولة. يقول: ويراك تسوق أمامك من بني معد وغيرهم قبائل لا تنهزم من أحد ولا تولي أقفيتها من يسوقها؛ يعني: إنك أذللت من العرب من لم يذللْه غيرك. واللام في لسائق: زيادة في التوكيد.
(١٠٦) بلعجلان: يريد بني العجلان، فحذف النون لمشابهتها اللام، كما قالوا في بني الحارث: بلحارث. وقوله فيها: أي القبائل. يقول: إن هاتين القبيلتين قد تبدد شملهما بين ما تبدد من القبائل التي هربت بين يديك، فقلتا وخفيتا فيها خفاء راءين في لفظ ألثغ إذا كررهما. وفيه إشارة إلى كثرة الجموع التي ظهر عليها سيف الدولة من العرب، ومع هذا إنما اعتصموا منه بالهرب.
(١٠٧) فركت المرأة: إذا أبغضت الزوج، فهي فارك. والطوالق: جمع طالق. يقول: لشدة ما لحقهم من الخوف وتشتتهم في كل وجه تركت النساء أزواجهن من غير بغضة، والرجال النساء من غير طلاق. وهذا ينظر إلى قول النابغة:
دَعَانَا النِّسَاءُ إِذْ عَرَفْنَ وُجُوهَنَا دُعَاءَ نِسَاءٍ لَمْ يُفَارِقْنَ عَنْ قِلَى
(١٠٨) الضمير في يفرق: لسيف الدولة. والكماة: الأبطال عليهم السلاح، جمع كمي. والضمير في بينها للنسوان. يقول: يفرق سيف الدولة بين الأبطال وبين نسائهم بضرب شديد ينسي العاشق معشوقه؛ أي إن شدة ذلك الضرب أنستهم حياطة أحبتهم وحملهم على إسلام ذريتهم، وكل هذا مما يقيم لهم العذر في هربهم منه.
(١٠٩) الظعن: جمع ظعينة، وهي النساء في الهوادج. والرشاشة: واحدة الرشاش؛ ما ترشرش من الدم ونحوه. والعواتق: جمع عاتق، وهي الجارية التي قد أدركت وشبت في بيت أبيها. يقول: إن خيل سيف الدولة لحقت بنساء هؤلاء القوم فكان فرسانه إذا طعنوا تناضح الدم في نحور النساء، وإذا لحقوا بالعواتق فهو أعظم من لحاقهم بغيرهن؛ لأنهن أحق بالصون والحماية. هذه رواية ابن جني وتفسيره. وروى ابن فورجه: أتى الطعن حتى ما يطير رشاشه: الطعن — بالطاء المهملة. ورشاشه: بالهاء ضمير الطعن. أي طاعن الأعداء وهم في بيوتهم حتى يطير رشاشه في نحور النساء؛ أي أنه غزا العدو في عقر داره.
(١١٠) بكل: خبر مقدم، وظعائن: مبتدأ مؤخر. والظعائن: جمع ظعينة، وهي النساء المحمولات في الهوادج. وحمر الحلي: أي أن حليهن الذهب. والأيانق: جمع أينق، جمع ناقة؛ أي أنهن من الأشراف، ذوي اليسار حليهن الذهب ومركوبهن النياق الحمر — وهي أكرم النياق عند العرب — يقول: إنهم أبعدوا في الهرب حتى انتشرت نساؤهم في كل فلاة منقطعة لا عهد لها بالأنس، ومع ذلك أدركهم، فما ينفعهم هربهم. أو تقول: حمر الحلي وحمر الأيانق من الرشاش الذي أصاب نحور العواتق فحمَّر حليهن ونوقهن، فيكون الكلام متصلًا بما قبله.
(١١١) وملمومة: عطف على ظعائن، والكتيبة الملمومة: المجتمعة. وسيفية: نسبة إلى سيف الدولة: وربعية: لأنه من ربيعة. واللقالق: جمع لقلق؛ طائر كبير كثير في العراق. ويصيح الحصى فيها: أي عند وقع حوافر الخيل عليه. شبه صوت الحصى بصوت اللقالق. يقول: إن جيش سيف الدولة بلغ تلك الفلاة البعيدة.
(١١٢) بعيدة: صفة الملمومة. والقنا: الرماح. والبيض: جمع بيضة؛ الخوذة تكون على الرأس. واليلامق: الأقبية، جمع يلمق. وغبر: جمع أغبر، وكان الوجه أن يقول: غبراء اليلامق؛ لأنها صفة للكتيبة، لكنه جمع ذهابًا إلى المعنى؛ لأن الكتيبة جماعة، وهذا كما تقول: مررت بكتيبة صفر الأعلام طوال الرماح. يقول: إن رماحهم طويلة قد تباعدت أطرافها من أصولها وهم متضايقون متكاثفون مجتمعون لازدحامهم، فتقارب ما بين رءوسهم وقد اغبرت ثيابهم لما تثير خيلهم من الغبار. وفي هذا إشارة إلى أن الفلوات التي لجأ إليها هؤلاء القوم ظانين أنها تعصمهم من خيل سيف الدولة لم تُجْدِهِم فقد أقحمها عليهم ولم يتهيب اختراقها.
(١١٣) جوده: يروى: سيبه. والحقائق: جمع الحقيقة؛ ما تحق حمايته من أهل ومال ونحوهما. يقول: إن جود سيف الدولة يغنيهم عن نهب الأموال فهم لا يطلبون إلا قتل الشجعان الذين يحمون ما يحق عليهم حمايته. كما قال أبو تمام:
إِنَّ الْأُسُودَ أُسُودَ الْغَابِ هِمَّتُهَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ فِي الْمَسْلُوبِ لَا السَّلَبِ
(١١٤) السورة: الوثبة. والهاء في توهمها: للسورة. أي توهم الأعراب هذه السورة منك سورة مترف. ويجوز أن تكون ضمير الشأن فسره بمفرد. والأعراب: سكان البادية. والمترف: المتنعم. والبيداء: الفلاة المهلكة. والسرادق: ما يدار حول الخيمة من شقق بلا سقف. يقول: توهم الأعراب أن حربك سورة متنعم إذا صار في البيداء تذكر ما كان فيه من الظل والنعيم كعادة الملوك فانصرف عنهم وتركهم هربًا من العطش والحر. وفي هذا نظر إلى قول البحتري:
أَلُوفُ الدِّيَارِ فَإِن أزمعَ التـْ ـتَرَحُّلَ حَرَّمَ إِيطَانَهَا
إِذَا هَمَّ لَمْ يَهْتَدِمْ عَزْمَهُ مَقَاصِيرُ يَعْتَادُ أَكْنَانَهَا
وإلى قول منصور النمري:
كَذَبَ الْعِدَا لَوْ كُنْتَ صَاحِبَ نِعْمَةٍ صَرَعَتْكَ بَيْنَ إِقَامَةٍ وَكَلَالِ
(١١٥) غبرت: أثارت الغبار. وسماوة كلب: أي سماوة بني كلب، وهي برية معروفة بناحية العواصم. والحزائق: جمع حزيقة، وهي الجماعة. يقول: في هذا الوقت ذكرتهم أنت بالماء، أي حملتهم على تذكر الماء حين اشتد عطشهم في برية السماوة وقد ملأ غبارها أنوفهم وهم هاربون بين يديك، يعني عرفتهم صبرك عن الماء وأن الأمر لم يكن على ما ظنوا من أنك لا تصبر عن الماء وأنت تتبعهم.
(١١٦) يروعون: يخيفون. وبأن بدوا: أي بأنهم أقاموا بالبادية. وأن: مخففة من الثقيلة. والضمير في نبتت: للملوك. والغلافق: جمع غلفق، وهو الطحلب. يقول: إن هؤلاء القبائل كانوا يخيفون الملوك بأنهم نشئوا في البادية فلا يكترثون للحر والعطش ويصبرون على عدم الماء، وأن الملوك لا صبر لهم عن الماء؛ لأنهم نشئوا فيه — أي في جواره — كما ينشأ الطحلب في الماء، فظنوا أن سيف الدولة مثل أولئك الملوك.
(١١٧) أهدى: أفعل تفضيل — من الهداية — وهو حال من ضمير المخاطب. والفلا: جمع فلاة، والضمير من نجومه يرجع إلى الفلا؛ لأن كل جمع بينه وبين واحده التاء يجوز فيه التأنيث والتذكير. وأضاف النجوم إلى ضمير الفلا مجازًا على تشبيه النجوم بالقوم المسافرين. وأبدى: أظهر. وأداحي: جمع أدحي — ككرسي — موضع بيض النعام من الرمل. والنقانق: جمع النقنق؛ ذكر النعام. يقول: فهيجوك وأثاروك عليهم بعصيانهم فكنت أهدى إليهم في الفلوات من النجم وأظهر بيوتًا فيها من مبيض النعام؛ وذلك أن النعامة لا عش لها ولكنها تدحو الرمل برجلها، أي تبسطه ثم تبيض فيه. يريد أنه لم يتلمس مواضع الشجر والظل، ولكن ينزل على وجه الصحراء معرضًا لحر الشمس.
(١١٨) الضِّباب: جمع ضب؛ الدويبة البرية المعروفة. والودائق: جمع وديقة؛ شدة الحر عند دنو الشمس من الرءوس. قال بعضهم: سميت وديقة؛ لأنها ودقت إلى كل شي أي وصلت إليه. قال أبو المثلم الهذلي يرثي صخرًا:
حامي الحقيقة نسَّال الوديقة معـ ـتاق الوسيقة لا نِكسٌ ولا واني
(قبله:
آبي الهضيمة نابٍ بالعظيمة متـ ـلاف الكريمة جلد غير ثنيان
قال ابن الأعرابي: يقال: فلان يحمي الحقيقة وينسل الوديقة، يقال للرجل المشمر القوي؛ أي ينسل نسلانًا في وقت الحر نصف النهار. والوسيقة: الطريدة من الإبل، وفرس معتاق الوسيقة وهو الذي إذا طرد عليه طريدة أنجاها وسبق بها.)
وأصبر: عطف على أهدى — في البيت السابق — يقول: وكنت أصبر على الماء من الضب — والضب لا يرد الماء قط — وكنت آلف مقلة للهجير — شدة الحر — من الضب مع أنها تسكن الفلوات. وكل هذا إشارة إلى أنهم أخطئوا في تقديرهم سيف الدولة وخبرته باختراق القفار، وأنهم عجزوا عما بدا منه من الأيد والجلد.
(١١٩) اسم كان: ضمير فيها، وهديرًا: خبرها، والتقدير: وكان فعلهم أو كيدهم. والهدير: صوت البعير إذا ردده في حنجرته. والمهلبة: المقطوعة الهلب، وهو شعر الذنب. والشقاشق: جمع الشقشقة، وهي لهاة البعير إذا هدر أخرجها من فمه. يقول: كان طغيانهم وغيهم مثل هدير فحول تهادرت فانتدب لها قرم — فحل كريم، هو سيف الدولة — مصعب فضغمها — عضها بملء فمه؛ أي نال منها وسار عليها فتركها — صيرها — مهلبة الأذناب ساكنة الهدير، يعني أذلهم وصغر أمرهم؛ لأن الفحل إذا أخذ هلبه ذل، لأن الفحول إنما تتخاطر بأذنابها، وإذا أخذ شعر ذنبها ذلت، قال الشاعر:
أَبَىَ صِغَرُ الْأَذْنَابِ أَنْ تَخْطُرُوا بِهَا
والمعنى: تركت فحول تلك القبائل كفحول إبل تستذل بقطع الأذناب، وسكنتها بغلبتك عليها فانقطعت أصوات شقاشقها؛ يريد أنه أذل أعزاء الأعراب وذهب بقوتهم وظفر بهم.
(١٢٠) الشواهق: جمع شاهق؛ الجبل الشامخ العالي. يقول: إنهم بفرارهم منك وإحواجهم إياك إلى الركض خلفهم لم يحرموا خيلك راحة؛ لأنك لو لم تذهب إليهم لقصدت الروم، فلما قصدت هؤلاء الأعراب أغنى خيلك السير في البراري عن تجشم قطع الجبال بأرض الروم.
(١٢١) الصم: الصلاب. والقنا: الرماح. وبقلوبهم: متعلق بشغلوا. وركز الرمح: غرزه في الأرض قائمًا لا يطعن به. والدماسق: جمع دمستق — على حذف التاء — والدمستق: قائد الروم. يقول: إنك لو لم تحاربهم ما كنت تركز رماحك تاركًا للحرب بل كنت تغزو الروم، فهم إنما شغلوا رماحك بحربهم عن طعن قلوب قواد الروم؛ أي فلا راحة لخيلك ولا لسلاحك.
(١٢٢) المسخ: قلب الخلقة. والخرانق: جمع خِرنق — بكسر الخاء — وهن الإناث من أولاد الأرانب أو الصغار منها. يريد بمسخه الأعداء أن يجعل الشجعان منهم جبناء والأقوياء ضعفاء، فتصير الأيدي القوية التي كأنها أيدي الأسد أيديًا ضعيفة كأنها أيدي الأرانب. وعبارة العكبري: ألم يحذر الأعداء سطوته التي هي على عدوه كالمسخ الذي يقلب الخلق ويقبح الصور ويعيد بها عزيزهم ذليلًا وكثيرهم بالقتل قليلًا ويجعل أيدي الأسد من أعاديه وقد تناهت في القوة كأيدي الخرانق قصيرة؛ مما يكسبهم من الذلة والصغار؟ وفي هذا المعنى يقول أبو تمام:
لَوْ أَنَّ أَيْدِيَكُمْ طِوَالٌ قَصَّرَتْ عَنْهُ فَكَيْفَ تَكُونُ وَهْيَ قِصَارُ؟!
(١٢٣) وقد عاينوه: حال من ضمير يحذروا في البيت السابق. والمارق في الأصل: الذي يمرق من الدين. والمراد: الخارج عن الطاعة، من مروق السهم. والمصرع: مصدر صرعه، إذا طرحه على الأرض، ويراد به القتل. يقول: قد عاينوا بطشه بغيرهم فما اعتبروا بتلك المصارع وكان جديرًا بهم أن يعتبروا بها وقد أراهم سيف الدولة مصرع العاصي المتمرد عليه حتى يعتبر الثاني بالأول، كما قال أشجع:
شَدَّ الْخِطَامَ بِأَنْفِ كُلِّ مُخَالِفٍ حَتَّى اسْتَقَامَ لَهُ الَّذِي لَمْ يُخْطَمِ
(١٢٤) القضم: أكل الشيء اليابس. والهام: الرءوس. والعلائق: جمع عليقة، وهي المخلاة تعلق من رأس الدابة لتعتلف. وجنوبها: نواحيها. قال ابن جني: سألته — المتنبي — عن معنى هذا البيت فقال: الفرس إذا علقت عليه المخلاة طلب لها موضعًا مرتفعًا يجعلها عليه ثم يأكل، فخيله أبدًا إذا أعطيت عليقها رفعته على هام الرجال الذين قتلهم لكثرتهم حولها، فقد تعودت خيله ذلك في غزواتها.
(١٢٥) ولا ترد: عطف على لا تقضم. والغدران: جمع غدير، وهو ما غدره السيل — تركه — والشقائق: نَور أحمر يقال له: شقائق النعمان، قال ابن جني: أي لكثرة ما قتله من أعدائه جرت دماؤهم إلى الغدران فغلبت على خضرة الماء حمرة الدم، والماء يلوح من خلال الدم كالريحان تحت الشقائق، وماء الغدير أخضر من الطحلب فشبه خضرة الماء وحمرة الدم بالريحان تحت الشقائق. وقال ابن فورجه: إنما يعني أنه لا يروم الهوينا ولا تشرب خيله الماء إلا وقد حاربت عليه واحمر الماء من دم الأعداء، كما قال بشار:
فَتًى لَا يَبِيتُ عَلَى دِمْنَةٍ وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ إِلَّا بِدَمْ
وقال العكبري: ويجوز أن يكون أراد أن خيله لا تقرب الغدران واردة، ولا تقتحم مياهها شاربة إلا وتلك المياه تحت ما يسفكه من دماء أعدائه كالريحان في خضرته إذا استبان تحت الشقائق، واستولت بحمرتها على جملته. وأشار بخضرة الماء إلى صفائه وكثرته، ونبه بذلك على جمومه، وأن هذه الخيل إنما تأنس من الماء ما هذه صفته، وترد منه ما هذه حقيقته. وفيه نظر إلى قول جرير:
وَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُورُ دِمَاؤُهَا بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أشْكَلُ
(تمور: تجري. وأشكل: فيه بياض وحمرة، قد اختلطا.)
(١٢٦) لوفد: اللام للابتداء. والوفد: القوم الوافدون. ونمير: قبيلة منهم استسلمت لسيف الدولة — كما سيذكر في البيت التالي — والأظعان: جمع ظعن، جمع ظعينة؛ المرأة ما دامت في الهودج. والوسائق: جمع وسيقة؛ الطريدة من الغنم أو الإبل. يقول: إن هؤلاء الذين وفدوا إليك من بني نمير كانوا أرشد من الذين هربوا عاصين وطردوا نساءهم كما تطرد الوسائق.
(١٢٧) ضمير رد: للخضوع. وغرب كل شيء: حده. والفيالق: جمع فيلق؛ القطعة من الجيش. يقول: إن هؤلاء الوافدين عليك من نمير أتوك خاشعين فقام خضوعهم مقام رماح طاعنوا بها جيشك مدافعين عن أنفسهم، وهذا كما يقول أبو تمام:
فَحَاطَ لَهُ الْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ رُوحَهُ وَجُثْمَانَهُ إِذْ لَمْ تحُطْهُ قَنَابِلُهْ
(١٢٨) المخاتل: المخادع. والمسارق: الذي يترقب غفلة. يقول: لم أر أحدًا يرمي أعداءه جهارًا ويسري إلى أعدائه معالنًا غير مسر كما يرمي هو ويسري، فهو لا يحتاج إلى المخاتلة والمسارقة في الظفر بعدوه. وفي هذا يقول البحتري:
فَنُدْرِكُ بِالْإِقْدَامِ بُغْيَتَنَا الَّتِي نُطَالِبُهَا لَا بِالْخَدِيعَةِ وَالْمَكْرِ
وهو معنًى قديم.
(١٢٩) المجانيق: جمع منجنيق؛ آلة تُرمى بها الحجارة ونحوها على الحصون في الحصار. والدقائق: الأشياء الدقيقة. وأعيت: أعجزت. والقسي: جمع قوس، وهو من القلب المكاني. والبنادق: جمع بندقة؛ ما يعمل من الطين ويرمى به الطير. يقول: إنه يقدر على ما لا يقدر عليه غيره حتى يصيب بالمنجنيق مع اختلاف رميه وتعذر ضبطه من الأشياء الدقيقة، ما يعجز غيره عن أن يصيبه بالقسي التي ترمي بها البنادق، يعني أنه معان موفق مؤيد.
(١٣٠) الأرق: فقد النوم. والجوى: الحرقة — من حزن أو عشق — والعبرة: الدمعة تتردد في العين. وتقول: رقرقت الماء فترقرق: مثل أسلته فسال. يقول: لي سهاد بعد سهاد على أثر سهاد، ومثلي ممن كان عاشقًا يسهد لامتناع النوم عليه، وحرقته تزداد كل يوم ودمعه يسيل.
(١٣١) جهد الصبابة: مبتدأ، خبره: أن تكون. والجَهد بالفتح: المشقة، وبالضم الطاقة والوسع، وقيل: هما لغتان بمعنًى. والصبابة: رقة الشوق. وعين: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: لي عين. ويجوز أن تكون عين خبرًا عن جهد الصبابة، و«أن تكون» في موضع الحال. يقول: غاية الشوق أن تكون بهذه الحال التي أنا فيها. وقال البحتري:
هَلْ غَايَةُ الشَّوْقِ الْمُبَرِّحِ غَيْرَ أَنْ يَعْلُوَ نَشِيجٌ أَوْ تَفِيضَ مَدَامِعُ؟
(١٣٢) انثنيت: رجعت. ولي فؤاد: جملة حالية. والشيق: المشتاق. وهو معلوم أن لمعان البرق يهيج العاشق ويحرك شوقه إلى أحبته؛ لأنه يتذكر به ارتحالهم للنجعة وفراقهم، ولأن البرق ربما لمع من الجانب الذي هم به، وكذلك ترنم الطائر. وهذا كثير في أشعارهم، ومنه قول بعضهم:
مَا تَغَنَّى الْقُمْرِيُّ إِلَّا شَجَانِي وَغِنَاءُ الْقُمْرِيِّ لِلصَّبِّ شَاجِي
(١٣٣) الغضى: شجر معروف يستوقد به، فتكون ناره أبقى. يقول: جربت من نار الهوى نارًا تكل نار الغضى عما تحرقه تلك النار وتنطفئ عنه ولا تحرقه، يريد أن نار الهوى أشد إحراقًا من نار الغضى. وهذا ينظر إلى قول الآخر:
لَوْ كَانَ قَلْبِي فِي نَارٍ لَأَحْرَقَهَا لِأَنَّ إِحْرَاقَهُ أَذْكَى مِنَ النَّارِ
فما — من قوله: «ما تنطفي»، مصدرية. والضمير في «تحرق» لنار الهوى. وعما تحرق: متعلق بتكل. ومعمول تنطفي — كما يقول العكبري: محذوف على رأي البصريين في إعمال ثاني الفعلين، كقولك: رضيت وصفحت عن زيد، فحذفت معمول الأول لدلالة الثاني عليه؛ وحجتهم أن الثاني أقرب إلى المعمول. واختار الكوفيون إعمال الأول؛ لأنه أسبق في الذكر. وقد جاء في الكتاب العزيز إعمال الثاني. فهو دليل «للبصريين»، وجاء في أشعار العرب إعمال الأول. ففي القرآن: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، وفي البيت محذوفان هذا الذي ذكرناه. والثاني: حذف العائد إلى «ما» الثانية من صلتها، وفيه حذفان آخران تقديرهما: جربت من قوة نار الهوى انطفاء نار الغضى وكلولها عن إحراق ما تحرقه نار الهوى.
(١٣٤) يريد أن يعظم أمر العشق ويجعله غاية في الشدة، يقول: كيف يكون موت من غير عشق؟ أي من لم يعشق يجب أن لا يموت لأنه لم يقاسِ ما يوجب الموت، وإنما الذي يوجبه هو العشق. وقال بعض الشراح: لما كان المتقرر في النفوس أن الموت في أعلى مراتب الشدة قال: لما ذقت العشق وعرفت شدته عجبت كيف يكون هذا الأمر المتفق على شدته غير العشق!
(١٣٥) يقول: لما ذقت مرارة العشق وما فيه من ضروب البلاء عذرت العشاق في وقوعهم في العشق وفي جزعهم، وعرفت أني أذنبت بتعييرهم بالعشق فابتليت بما ابتلوا به ولقيت في العشق من الشدائد ما لقوا. وفي مثل هذا يقول علي بن الجهم:
وَقَدْ كُنْتُ بِالْعُشَّاقِ أَهْزَأُ مَرَّةً وَهَا أَنَا بِالْعُشَّاقِ أَصْبَحْتُ بَاكِيَا
ويقول أبو الشيص:
وَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ فَتًى يُبَكِّي عَلَى شَجَنٍ هَزَأْتُ إِذَا خَلَوْتُ
وَأَحْسَبُنِي أَدَالَ اللهُ مِنِّي فَصِرْتُ إِذَا بَصُرْتُ بِهِ بَكَيْتُ
(١٣٦) نعق الغراب ونغق: صاح. انتقل أبو الطيب من النسيب إلى الوعظ وذكر الموت، ومثل هذا — كما قال الواحدي — يستحسن في المراثي لا في المدح. وقوله: أبني أبينا؛ أي يا إخواننا، يجوز أن يكون نداء لجميع الناس — لأن الناس كلهم بنو آدم — ويجوز أن يريد قومًا مخصوصين: إما العرب، وإما رهطه وقبيلته. يقول: نحن نازلون في منازل يتفرق عنها أهلها بالموت، وإنما ذكر غراب البين؛ لأن العرب تتشاءم بصياح الغراب، يقولون: إذا صاح الغراب في دار تفرق أهلها، وهو كثير في أشعارهم.
(١٣٧) مثله:
لَا يُلْبِثُ الْقُرَنَاءَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا لَيْلٌ يكرُّ عَلَيْهِم وَنَهَارُ
(١٣٨) الألى: أي الذين. وبقين: أي الكنوز. وبقوا: أي الأكاسرة.
(١٣٩) من — في أول البيت — للتفسير. والجار والمجرور في موضع الحال من الأكاسرة. ومن — المضافة إليها كل — نكرة موصوفة، والجملة بعدها: صفتها. وثوى: أي أقام في قبره، ويروى: نوى؛ أي هلك. يقول: أولئك الذين ذكرناهم من كل ملك كثرت جنوده حتى ضاق بهم الفضاء فجمعه لحد — شق في جانب قبر — ضيق بعد أن كان الفضاء الواسع يضيق عنه. قال أشجع:
وَأَصْبَحَ فِي لَحْدٍ مِنَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ وَكَانَتْ بِهِ حَيًّا تَضِيقُ الصَّحَاصِحُ
«الصحاصح: جمع صحصح: الأرض الجرداء ليس بها شجر ولا ماء.»
(١٤٠) يقول: إنهم موتى لا يجيبون من ناداهم كأنهم يظنون أن الكلام محرم عليهم لا يحل لهم أن يتكلموا. ولو وصفهم بالعجز عن الكلام وعدم القدرة على النطق لكان أولى وأحسن؛ لأن الميت لا يوصف بما ذكره … قاله الواحدي.
(١٤١) النفيس: الشيء الذي ينفس به؛ أي يضن به. والمستغر: المغرور. يقول: الموت يأتي على الناس فيودي بهم وإن كانت نفوسهم عزيزة، والكيس لا يغتر بما جمعه من الدنيا لعلمه أنه لا يبقى ولا يدفع عنه شيئًا، ومن لم يعلم هذا فهو أحمق. ورُوي المستعز: أي الذي يطلب العز بماله هو أحمق، وفي معنى البيت:
وَإِنِ امْرَأً أَمِنَ الزَّمَا نَ لَمُسْتَغْرٌّ أَحْمَقُ
(١٤٢) شهية: مشتهاة طيبة. وأوقر: من الوقار. والشبيبة: اسم بمعنى الشباب. وأنزق: أخف وأطيش. يقول: إن المرء يرجو الحياة لطيبها عنده، ويكره الشيب وهو خير له؛ لأنه يفيده الحلم والوقار، ويحب الشباب وهو شر له؛ لأنه يحمله على الطيش والخفة.
(١٤٣) اللمة من الشعر: ما جاوز شحمة الأذن. والواو قبلها: للحال. والرونق: الحسن والنضارة.
(١٤٤) حذرًا: مفعول لأجله. والعامل فيه: بكيت، واللام من قوله لكدت: للتوكيد. والتقدير: لقد كدت فحذف «قد» ويقال شرق بالماء. كما يقال غص بالطعام يقول: لكثرة دموعي كاد يشرق بها جفني: أي يضيق عنها، وإذا شرق جفنه فقد شرق هو، ويجوز أن يغلبه البكاء فلا يبلع ريقه ويكون التقدير: بسبب ماء جفني أشرق بريقي، وفي هذين البيتين نظر إلى قول الآخر — وهو من باب غير هذا الباب:
مَا كُنْتُ أَيَّامَ كُنْتِ رَاضِيَةً عَنِّي بِذَاكِ الرِّضَا بِمُغْتَبِطِ
عِلْمًا بِأَنَّ الرِّضَا سَيَتْبَعُهُ مِنْكِ التَّجَنِّي وَكَثْرَةُ السَّخَطِ
(١٤٥) الأينق: النياق، جمع ناقة — على غير قياس — والقياس: الأنوق. يقول: إن قوم هذا الممدوح أعز الناس لمنعتهم وشرفهم، فهم أعز من يقصد ويسري إليه الطلاب والقصاد ويحدون جمالهم. قال الواحدي: روى الأستاذ أبو بكر الخوارزمي: الرُّضا بضم الراء؛ وهو اسم صنم، وأراد ابن عبد الرضا، كما قالوا: ابن مناف، ويريدون: ابن عبد مناف.
(١٤٦) جعلهم كالشموس في علو ذكرهم واشتهارهم أو في حسن وجوههم. يقول: كبرت لله — أي قلت: الله أكبر — تعجبًا من قدرته حين أطلع شموسًا لا من المشرق، وكانت منازل الممدوحين في جهة المغرب. قال العكبري: وإنما جمع الشموس ليجعل كل واحد منهم شمسًا، فقابل جماعة بجماعة، واستجاز ذلك؛ لأن الشمس يختلف طلوعها وغروبها وازدياد حرها وانتقاصه وتغير لونها في الأصائل وغيرها، فيقال: شمس الضحى، وشمس الأصائل، وشمس الصيف، وشمس الشتاء. كقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ورَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وقال الله تعالى: وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وقال النخعي:
حَمِيَ الْحَدِيدُ عَلَيْهِمِ فَكَأَنَّهُ لَمَعَانُ بَرْقٍ أَوْ شُعَاعُ شُمُوسِ
(١٤٧) يقول: إذا كانوا يسقونها بندى أيديهم فلم لا تورق صخورها لفضل ندى أيديهم على ندى السحاب؛ أي كان من حقها أن تلين حتى تنبت الورق. وهذا من قول البحتري يصف أيام المتوكل:
أَشْرَقْنَ حَتَّى كَادَ يَحْتَبِسُ الدُّجَى وَرَطُبْنَ حَتَّى كَادَ يَجْرِي الْجَنْدَلُ
ويقول أبو الشمقمق — وكان مع طاهر بن الحسين في حراقة في دجلة:
عَجِبْتُ لِحَرَّاقَةِ ابْنِ الْحُسَيـ ـنِ كَيْفَ تَعُومُ وَلَا تَغْرَقُ؟
وَبَحْرَانِ: مِنْ تَحْتِهَا وَاحِدٌ وَآخَرُ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبِقُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ عِيدَانُهَا وَقَدْ مَسَّهَا كَيْفَ لَا تُورِقُ؟!
وَيقول مسلم:
لَوْ أَنَّ كَفًّا أَعْشَبَتْ لِسَمَاحَةٍ لَبَدَا بِرَاحَتِهِ النَّبَاتُ الْأَخْضَرُ
(١٤٨) مكانة: أي مكان، ومثله: منزلة ومنزل، قال تعالى: عَلَى مَكَانَتِكُمْ، والثناء يوصف بطيب الرائحة؛ لأن طيب أخبار الثناء في الآذان مسموعة كطيب الروائح في الأنوف مشمومة. يقول: إن أخبار الثناء عليهم تسمع بكل مكان لكثرة المثنين عليهم. ولله ابن الرومي حين يقول:
أَعْبَقْتَهُ مِنْ طِيبِ رِيحِكَ عَبْقَةً كَادَتْ تَكُونُ ثَنَاءَكَ الْمَسْمُوعَا
ولآخر:
لَوْ كَانَ يُوجَدُ رِيحُ مَجْدٍ فَائِحًا لَوَجَدْتَهُ مِنْهُ عَلَى أَمْيَالِ
ولابن الرومي أيضًا:
إِنْ جَاءَ مَنْ يَبْغِي لَنَا مَنْزِلًا فَقُلْ لَهُ يَمْشِي وَيَسْتَنْشِقُ
ومثله:
وَلَوْ أَنَّ رَكْبًا يَمَّمُوكَ لَقَادَهُمْ شَمِيمُكَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِكَ الرَّكْبُ
(١٤٩) النفحات: الروائح. وتعبق: تفوح. يقول: روائح ما يسمع من الثناء عليهم مسكية — لها طيب المسك — إلا أنها نافرة لا تعلق بغيرهم ولا تفوح إلا منهم؛ يعني لا يثنى على غيرهم كما يثنى عليهم.
(١٥٠) أمريد: نداء. يقول: يا من يريد أن يوجد له نظير لا تمتحنا بطلاب ما لا يدرك؛ أي أنه لا يوجد له نظير. وفي مثل هذا يقول البحتري:
وَلَئِنْ طَلَبْتُ نَظِيرَهُ إِنِّي إِذَنْ لَمُكَلِّفٌ طَلَبَ الْمُحَالِ رِكَابِي
(١٥١) يقول: إذا كان الله سبحانه لم يخلق له مثلًا كان طلب مثله محالًا. وعبارة العكبري: لا تطلب مثله، فظني أنه لا يخلق الله مثل محمد، وصدق إن أراد الاسم لا الصورة — لأن الله تعالى لم يخلق في الأول ولا في الآخر مثل محمد ﷺ، ومثله لأبي الشيص:
مَا كَانَ مِثْلُك فِي الْوَرَى فِيمَنْ مَضَى أَحَدٌ وَظَنِّي أَنَّهُ لَا يُخْلَقُ
ولابن الرومي:
فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى مِثْلِهِ أَبَى اللَّهُ ذَاكَ عَلَى مَنْ خَلَق
وللحصني:
لَمْ يَكُنْ فِي خَلِيقَةِ اللهِ نِدٌّ لَكَ فِيمَا مَضَى وَلَيْسَ يَكُونُ
(١٥٢) وعنده: أي وفي اعتقاده أني إذا أخذت هبته فقد تصدقت عليه وأعطيته، فهو متقلد المنة بذلك وموجب لي الشكر. والأصل في هذا قول زهير:
ترَاهُ — إِذَا مَا جِئْتَهُ — مُتَهَلِّلًا كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلهْ
فقوله: أتصدق؛ أي أعطيه الصدقة وأهبها له، وقد جاء: تصدق؛ بمعنى: سأل، وأنشدوا:
وَلَوْ أَنَّهُمْ رُزِقُوا عَلَى أَقْدَارِهِمْ لَلَقِيتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى يَتَصَدَّقُ
(١٥٣) ثرة: غزيرة كثيرة الماء. يقول: اجعل سحاب جودك ماطرًا عليَّ مطرًا غزيرًا، ثم ارحمني بأن تحفظني من الغرق كيلا أغرق في كثرة مطرك، وهذا ينظر إلى قول ابن أبي السمط في وصف سحابة:
حَتَّى ظَلِلْتُ أَقُولُ فِي إِلْحَاحِهَا بِالوبل: هَلْ أَنَا سَالِمٌ لَا أَغْرقُ؟!
هذا، وقد قال ابن الشجري في «آماليه» تعليقًا على قوله: لا أغرق: تقديره: فإن تنظر إلي لا أغرق، ويحتمل رفعه وجهين؛ أحدهما: أراد لئلا أغرق، فحذف لام العلة ثم حذف أن فارتفع، كقوله:
أُوجَدُ مَيتًا قُبَيْلَ أَفْقِدُهَا
كما جاء في قول طرفة:
أَلَا أَيُهَذَا الزَّاجِرِي أحضُرُ الْوَغَى
(من معلقة طرفة، وقد تقدم شرحه في غير موضع من هذا الشرح.)
أراد أن أحضر، فحذفها. يدلك على حذفها قوله: وأن أشهد اللذات. والثاني: أن يكون بالفاء مقدرة، وإذا كانت في الجواب مقدرة ارتفع الفعل بتقديرها، كما يرتفع بإثباتها، وإذا كانوا يحذفونها من جواب الشرط الصريح فيرفعون فحذفها من جواب الأمر أسهل، كقوله:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
(لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وقبله:
إِنْ يَسْلَمُ الْمَرْءُ مِنْ قَتْلٍ وَمِنْ هَرَمٍ للذَّة الْعَيْشِ أَفْنَاهُ الْجَدِيدَانِ
فَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا كَالزَّادِ لَا بُدَّ يَوْمًا أَنَّهُ فَانِي
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ)
وأما قوله تعالى: لَا يَضُرُّكُمْ في قراءة الكوفيين وابن عامر، ففيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: بتقدير الفاء، والثاني: على التقديم والتأخير، كأنه قال: لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وبهذا التقدير ارتفع قول الشاعر — وهو بيت الكتاب:
إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ
(من رجز لعمرو بن خثارم البجلي وهو:
يَا أَقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ إِنِّي أَخُوكَ فَانْظُرَنْ مَا تَصْنَعُ
إِنَّكَ إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ إِنِّي أَنَا الدَّاعِي نِزَارًا فَاسْمَعُوا
فِي بَاذِخٍ مِنْ عِزِّ مَجْدٍ يَفْرعُ بِهِ يَضُرُّ قَادِرٌ وَيَنْفَعُ
وَأَدْفَعُ الضَّيْمَ غَدًا وَأَمْنَعُ عِزٌّ أَلَدٌّ شَامِخٌ لَا يُقْمَعُ
يَتْبَعُهُ النَّاسُ وَلَا يُسْتَتْبَعُ هَلْ هُوَ إِلَّا ذَنَبٌ وَأَكْرُعُ
وَزَمَعٌ مُؤْتَشَبٌ مُجَمَّعُ وَحَسبٌ وغلٌ وأنفٌ أَجْدَعُ؟
وأقرع بن حابس صحابي، وكانت هذه المنافرة في الجاهلية قبل إسلامه. والصرع: الهلاك. ونزار: هو أبو القبيلة. والباذخ: العالي. ويفرع: يعلو. والألد: الأشد. والشامخ: المرتفع. ويقمع: يقهر ويذل. وقوله: هل هو، الضمير لرجل اسمه خالد بن أرطاة. والأكرع: جمع كراع، وهو مستدق الساق، استعاره لأسفل الناس كالذئب. والزمع: رذال الناس. والمؤتشب: أي غير الصريح في نسبه. والوغل: النذل من الرجال. والأجدع: المقطوع الأنف.)
والثالث: أن يكون الضم للاتباع.
(١٥٤) كذب ابن فاعلة: أي كذب ابن زانية، كنى بالفاعلة عن الزانية، يقول: كذب من قال: إن الكرام قد ماتوا ما دمت في الأحياء مرزوقًا. ويروى: تَرزق — بفتح التاء — أي ترزق الناس؛ أي تعطيهم أرزاقهم، والأولى أجود.
(١٥٥) أي: استفهام معناه الإنكار. يقول: لم يبقَ محل ولا درجة في العلو إلا وقد بلغها، وليس يخاف عظيمًا.
(١٥٦) المفرق: وسط الرأس حيث يفترق الشعر، وقوله: وما لم يخلق: قال الواحدي: ليس معناه ما لا يجوز أن يكون مخلوقًا كذات الباري عز وجل وصفاته؛ لأنه لو أراد هذا للزمه الكفر بهذا القول، وإنما أراد: وما لم يخلقه مما سيخلقه بعد، وإن كان قد لزمه الكفر باحتقاره خلق الله، وفيهم الأنبياء والمرسلون والملائكة المقربون.
(١٥٧) هو: كناية عن البين، والنحويون يسمون ما كان مثل هذا: الإضمار على شرطية التفسير، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. وحتى: ابتدائية. وتأنى — بحذف إحدى التاءين — أي تتمهل وتترفق. والحزائق: الجماعات، جمع حزيقة. يقول: هو البين يفرق كل شيء حتى لا تتمهل الجماعات ولا تلبث أن تتفرق إذا جرى فيها حكم البين. ثم خاطب قلبه فقال: وأنت أيضًا — على ما لك من علائق القرب — ممن أفارقه! يعني أن الأحبة إذا فارقوني ذهب القلب معهم ففارقني وفارقته. ومثله للعباس بن أحنف.
تَفَرَّقَ قَلْبِي مِنْ مُقِيمٍ وَظَاعِنٍ فَلِلَّهِ دَرِّي أَيَّ قَلْبٍ أُشَيِّعُ!
ولآخر:
كَأَنَّ أَرْوَاحَنَا لَمْ تَرْتَحِلْ مَعَنَا أَوْ سِرْنَ فِي أَثَرِ الْحَيِّ الَّذِي سَارَا
(١٥٨) البث: الحزن. وفريقي هوى: نصب على الحال من الضمير في وقوفنا. يقول: وقفنا للوداع ومما زادنا حزنًا أنا وقفنا فريقين يجمعهما الهوى، منا مشوق؛ وهو العاشق يشوقه الحبيب بعد فراقه، وشائق؛ وهو المعشوق يشوق عاشقه. وجعل هذه الحالة تزيده حزنًا؛ لأن فراق الأحبة أشق على القلب من فراق الجيران والمعارف ومن لف لفهم ممن لا علاقة بينك وبينهم.
(١٥٩) قرحى: كجرحى ومرضى، جمع قريح؛ أي جريح، فهو بدون تنوين. وقال ابن جني: قلت له — للمتنبي — عند القراءة عليه: قرحى، أتريده بالتنوين؟ فقال: نعم، جمع قرحة، وهي اسم لا وصف. والبهار: زهر أصفر. والشقائق: جمع شقيقة؛ زهر أحمر يقال له: شقائق النعمان. يقول: صارت الجفون قرحى من كثرة البكاء، وحمرة الخدود صفرة لأجل البين. كما قال عبد الصمد بن المعذل:
بَاكَرَتْهُ الْحُمَّي وَرَاحَتْ عَلَيْهِ فَكَسَتْهُ حُمَّى الرَّوَاحِ بهَارَا
لَمْ تُشِنْهُ لمَّا أَلَحَّتْ وَلَكِنْ بَدَّلَتْهُ بِالاحْمِرَارِ اصْفِرَارَا
وقال أبو تمام:
لَمْ تشِنْ وَجْهَهُ الْمَلِيحَ وَلَكِنْ حَوَّلَتْ وَرْدَ وَجْنَتَيْهِ بهَارَا
وقال أيضًا:
لَهَا مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ احْتِرَاقٌ يُعِيدُ بَنفسجًا وَرْدَ الْخُدُودِ
(١٦٠) اجتماع: مبتدأ، محذوف الخبر؛ أي لهم اجتماع، والجملة: حال. وقوله: وميت: أي ومنهم ميت. يذكر أحوال الناس واختلاف الدهر بهم، يقول: على هذا مضى الناس قبلنا، لهم اجتماع مرة وفرقة مرة، ومنهم ميت يموت ومولود يولد، ومنهم قالٍ مبغض، ووامق محب. كما قال الأعشى:
شَبَابٌ وَشَيْبٌ وَافِتَقارٌ وَثَرْوَةٌ فَللهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا!
وقال الآخر:
وَمَا النَّاسُ وَالْأَيَّامُ إِلَّا كَمَا تَرَى رَزِيَّةُ مَالٍ أَوْ فِرَاقُ حَبِيبِ
هذا، وقد عاب أبا الطيب بعضُ المتحذلقين، فقال: كان ينبغي أن يقول: على ذا عهدنا الناس: راضٍ وساخط، وميت ومولود. أو يقول: اجتماع وفرقة، وموت وولادة، وقلًى ومقة.
(١٦١) الغرانق: الشاب الناعم الجميل، وجمعه غَرانق — بفتح الغين — ويقال الغرانيق؛ وهو في الأصل طائر مائي يشبه الكركي. يقول: تمر الليالي وتجيء وهي على حالها وبمرها تغير حالي وشيبتني وهي لا تشيب. يعني أن الزمان يُبلي ولا يَبلى.
(١٦٢) جوز كل شيء: وسطه. والمهاري: جمع مهرية، وهي الإبل المنسوبة إلى قبيلة من اليمن يقال لها: مهرة بن حيدان، ويجوز في المهاري فتح الراء وكسرها: كصحارى وصحاري — بتشديد الياء وتخفيفها — قال رؤبة:
بِهِ تَمَطَّتْ غولَ كُلِّ مِيلهِ بِنَا حَرَاجِيج الْمهَارِي النُّفَّه
(قبله:
ومخفقٍ مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهٍ فِي مَهْمَهٍ أَطْرَافُهُ فِي مَهْمَهِ
أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّهِ بِهِ تَمَطَّتْ غَوْلَ كُلِّ مِيلَهِ
بِنَا حَراجيج الْمهَارِي النُّفهِ يَجْذِبْنَهُ بالبوع والتأوُّهِ
المخفق: الموضوع الذي يخفق فيه السحاب. واللهله: المكان المستوي الذي ليس به علم. وغول كل ميله: أي بعد؛ يريد مكانًا بعيدًا يغتال المشي فلا يستبين فيه، ولا يكاد يقطع من بعده. وبعير نافه: كال مُعْيٍ، والجمع نفه. ويجذبنه: يريد يجذبن أنفسهن فيه، والتأوه مثل قول المثقب العبدي:
إِذَا مَا قُمْتُ أرحلُهَا بِلَيْلٍ تَأَوَّهُ آهةَ الرَّجلِ الْحَزِينِ)
والنقانق: جمع نقنق، وهو ذكر النعام. يقول — لصاحبه: سل البيد تخبرك أين تقع الجن منا بهذه المفازة؛ أي إننا كنا أسرع فيها من الجن — وعن إبلنا أين تقع منها الظلمان في السرعة؛ أي إن إبلنا كانت أسرع من النعام.
(١٦٣) وليل: أي ورب ليل، وليل: في موضع رفع مبتدأ. خبره: جملة كأنا … إلخ. ودجوجي: مظلم. وجلت: كشفت وأظهرت. ولنا: متعلق بجلت. والمحيا: الوجه. والسمالق: فاعل جلت؛ جمع سملق، وهي الأرض البعيدة الطويلة. والضمير من فيه: لليل، وهي متعلقة باهتدينا. يقول: رب ليل مظلم كأن السمالق التي كنا نقطعها أظهرت لنا وجهك فاهتدينا للطريق بنوره. وهذا من قول مزاحم العقيلي:
وُجُوهٌ لَوَ انَّ الْمُدْلِجِينَ اعْتَشَوْا بِهَا صَدَعْنَ الدُّجَى حَتَّى تَرَى اللَّيْلَ يَنْجَلِي
ويقول أشجع السلمي:
مَلِكٌ بِنُورِ جَبِينِهِ نَسْرِي وَبَحْرُ الليْلِ طامِي
ولصريع الغواني:
أجِدِّكِ هل تَدْرِينَ أَنْ بِتُّ لَيْلَةً كَأَنَّ دُجَاهَا مِنْ قُرُونِكِ ينشرُ؟
صَبَرْتُ لَهَا حَتَّى تَجَلَّتْ بِغُرَّةٍ كَغُرَّةِ يَحْيَى حِينَ يُذْكَرُ جَعْفَرُ
(١٦٤) زال — من الزوال — أي ذهب. وجنحه: فاعل، وجنح الليل: إقباله بظلامه يجنح على النهار؛ أي يميل عليه فيذهب ضوءه. وجابها: قطعها — أي السمالق — والأيانق: النياق، جمع ناقة. يقول: لولا نور وجهك لما زال الظلام، ولولا النياق لما قطعنا السمالق.
(١٦٥) وهز: عطف على الأيانق. والمراد بالسكر: النعاس. والغرز: ركاب للإبل من جلد مخروز، ويقال: ثوب شبارق؛ خلق ممزق. ويقال: شبرق شبرقة وشبراقا: مزقه، قال امرؤ القيس:
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنَّسَا كَمَا شبرقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِي
(المقدسي: الراهب ينزل من صومعته إلى بيت المقدس فيمزق الصبيان ثيابه تبركًا. والنَّسا قال الأصمعي: بوزن العصا؛ عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابة انفلقت فخذاها بلحمتين عظيمتين وجرى النَّسا بينهما واستبان، وإذا هزلت الدابة اضطربت الفخذان وماجت الربلتان وخفي النسا، ولا يقال: عرق النَّسا.)
والهز: التحريك، يعني تحريك الإبل ركبانها في سرعة سيرها، وذلك يمنع النوم حتى يصير الإنسان من غلبة النوم مائدًا بين الغرزين كالثوب الخلق لكثرة تمايله. يقول: لولا هذا الهز الذي وصفه والذي سببه الإسراع لما قطعنا السمالق إليه.
(١٦٦) شدوا بابن إسحاق: أي غنوا بمدح ابن إسحاق. وصافحت: أي ماست مأخوذ من مصافحة الأكف. والذفاري: جمع الذفرى؛ الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذنين. والكيران: جمع الكور، وهو الرحل. والنمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة تحت الراكب. والمراد هنا: التي تكون قدام الرحل يجعل الراكب عليها ساقة للاستراحة إذا أخرجها من الغرز. يقول: غنوا بمدح ابن إسحاق فنشطت الإبل ورفعت رءوسها حتى صافحت أقفاؤها الرحال والوسائد التي عليها — وذلك لطيب مدحه وأن الإبل طربت مع حداتها لمدحه. وفي مثل هذا المعنى يقول ابن الرومي:
لا تَضْرِبُ الرَّكْبُ الطَّلائحَ نَحْوَهُ بَلْ بِاسْمِهِ يَزْجُرْنَ كُلَّ طَلِيحِ
ويقول إسحاق بن خلف:
إِذَا مَا حُدِينَ بِمَدْحِ الْأَمِيرِ سَبَقْنَ لِحَاظَ الْحَثِيثِ الْعَجِل
(١٦٧) بمن: بدل من ابن إسحاق، إلا أنه أعاد العامل. والاقشعرار: أن ينتفش شعر الرجل على بدنه إذا أصابه خوف. وترتج: تضطرب وتتحرك. والشواهق: جمع شاهق، وهو العالي. يقول: تهابه الأرض إذا مشى عليها، وتتحرك الجبال خوفًا منه.
(١٦٨) الجُون: جمع جَون — بفتح الجيم — وهو الأسود. والسحاب: من الجموع التي بينها وبين مفردها الهاء؛ ولذلك وصفها بالجون الذي هو جمع. والحيا: المطر. يقول: إنه مرجو مهيب يرجى نفعه ويهاب ضره كالسحاب يرجى مطرها وتخشى صواعقها. وفي مثل هذا يقول أبو تمام:
سَمَاحًا وَبَأْسًا كَالصَّوَاعِقِ وَالْحَيا إِذَا اجْتَمَعَا فِي الْعَارِضِ الْمُتَأَلِّقِ
ويقول الآخر:
هُوَ عَارِضٌ زَجِلٌ فَمَنْ شَاءَ الْحَيَا أَرْضَى وَمَنْ شَاءَ الصَّوَاعِقَ أَغْضَبَا
(١٦٩) شبهه بالسحاب ثم فضله عليها بأن السحاب تمضي، وهذا مقيم في كل وقت، والسحاب قد تكذب في الرعد والبرق — بأن لا يكون فيها مطر — والممدوح صادق فيما يعد ويقول. وهذا من قول ابن الرومي:
فَضلْتَ أَخَاكَ الْغَيْثَ بِالْعِلْمِ وَالْحِجَا وَحَاصَصْتَهُ فِي الْجُودِ أَيَّ حِصَاصِ
عَلَى أَنَّهُ يَمْضِي وَأَنْتَ مُخيِّمٌ سَمَاؤُكَ مِدْرَارٌ وَرَوْضُكَ وَاصِ
(حصاص: يقال: حاصه محاصة وحصاصًا: قاسمه فأخذ كل واحد منهما حصته. وروض واص: متصل النبات.)
ومثله للبحتري:
أَنَّى يَكُونُ لَهُ احْتِفَالُكَ فِي النَّدَى وَوُقُوعُهُ فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ
(١٧٠) يقول: زهد في الدنيا وانقطع عن أهلها لينسى إعراضًا عن الخلق فلم يزده ذلك إلا جلالة قدر وبعد صيت، إذ لم تخل الدنيا من ذكره؛ لأن صنائعه عامة ومعروفه شامل. ولعله ينظر إلى قول البحتري:
وَشُهرتُ فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا فَكَأَنَّنِي فِي كُلِّ نَادٍ جَالِسُ
(١٧١) الهندوانيات: السيوف الهندية؛ أي التي عملت ببلاد الهند. والهام: الرءوس. والطلا: الأعناق. والمداري: جمع مدرى، وهو ما يفرق به الشعر. والمخانق: جمع مخنقة، وهي القلادة. يقول: غذى سيوفه بلحوم رءوس الأعداء وأعناقهم فقد طالت صحبتها للرءوس والأعناق كما تصاحبها المداري والمخانق. يعني إذا علت سيوفه الرءوس صارت بمنزلة المداري، وإذا علت الأعناق صارت بمنزله المخانق.
(١٧٢) تشقق — بحذف إحدى التاءين — أي تتشقق. ويروى: تشقق — بضم التاء على البناء للمجهول — والجيوب: نائب فاعل. وضمير منهن: للسيوف. والجيوب: جمع جيب؛ ما ينفتح على النحر من أعلى الثوب. والمفارق: جمع مفرق؛ وسط الرأس. يقول: إذا غزا شققت الثاكلات جيوبهن من جراء ما يفعله سيوفه من القتل، وخضبت لحى الفرسان ومفارقهم بما يسيله من الدماء.
(١٧٣) جنبته الشيء: إذا باعدته عنه. وصلى بالأمر يصلى: إذا قاسى حره وشدته، وأصله من صلى بالنار: إذا قاسى حرها. يقول: من غفل عنه حتفه — موته وهلاكه — ولم ينقضِ أجله يبعد من سيوفه فلا يصير مقتولًا بها، وإنما الذي يقاسي بلاءها هو من نفسه طالق منه؛ أي مفارقته، كالمرأة الطالق من زوجها تفارقه، إذ هي لا محالة قاتلته.
(١٧٤) يحاجي به: أي يغالط — من الأحجية، وهي الكلمة المخالفة اللفظ للمعنى، كالشيء الملغز به يلقى على الإنسان ليستنبط معناه، كما قال أبو ثروان: ما ذو ثلاث آذان، يسبق الخيل بالرديان؟ يعني السهم وآذانه: قذذه. وأصل الكلمة من قولهم: حجا يحجو: إذا أقام وثبت، فقيل لها: أحجية؛ لأن الملقى عليه يحتاج إلى التثبت والتفكر. يقول: إن الناس يحاجي بعضهم بعضًا بهذا الممدوح، يقولون: ما ناطق وهو ساكت؟ ثم فسر هذا بالصراع الثاني فقال: يرى ساكتًا — يعني الممدوح — لا يفتخر ولا يذكر شجاعته والسيف عن فيه ناطق بما يبدو من آثاره، يعني أن الناس إذا سأل بعضهم بعضًا عمن بهذه الصفة فالجواب: الحسين بن إسحاق.
(١٧٥) نكرت الشيء وأنكرته: إذا لم تعرفه، ولم يستعمل من نكر إلا هذا اللفظ لفظ — الماضي — ومنه قول الأعشى:
وَأَنْكَرْتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ مِنَ الْحَوَادِثِ إِلَّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا
يقول: أنكرت أن يكون أحد مثلك في فضلك، واستغربتك لكثرة ما رأيت فيك من المحاسن التي لا أراها في غيرك حتى طال تعجبي، ثم علمت أن الله قادر على أن يخلق ما يريد؛ وإذن لا عجب.
(١٧٦) من قول البحتري:
تَسَرَّع حَتَّى قَالَ مَن لَقِيَ الْوَغَى: لِقَاءُ أَعَادٍ أَمْ لِقَاءُ حَبَائِبِ؟
(١٧٧) ألا أداة: استفتاح. وعلى: بمعنى مع. وبدا: ظهر وعرض. والقنا: أي الرماح — فاعل تبقى — والسوابق: الخيل. يقول: إن الرماح والخيل لا تبقى على ما نزل بها منك من كثرة استعمالها في الحروب والغارات.
(١٧٨) السمار: جمع سامر؛ الذين يسمرون ليلًا. والسفار: جمع سفر وسافر، وهم الذي يلازمون الأسفار. وذر: طلع. والشارق: الكوكب. وقوله: ما لاح وما ذر: فما مصدرية زمانية؛ أي مدة ظهور الكواكب، وهذا كناية عن الدوام والتأبيد. يعني: أنت أبدًا يُحيي السمارُ الليلَ بذكرك وحديثك، ويغني المسافرون بمدائحك فيحدون الإبل بها.
(١٧٩) العواتق: جمع عاتق؛ الشابة من النساء. والخدور: جمع خدر. يقول: استر جمالك ببرقع ترسله على وجهك، فإنك إن ظهرت ذابت الشواب في خدورهن شوقًا إليك وهيامًا بك. ويروى: حاضت؛ وذلك أن المرأة إذا اشتدت شهوتها وأفرطت سال — زعموا — دم حيضها. والمعنى: استر جمالك عنهن وإلا ذبن وهلكن عشقًا وهيامًا.
(١٨٠) الرتق: ضد الفتق. يقول: إن الأقدار والأيام لا تخالفه فيما يصنع من حرمان ورزق ورتق وفتق، بل هي موافقة له مؤاتية، كما قال أشجع:
فَلَا يَرْفَعُ النَّاسُ مَنْ حَطَّهُ وَلَا يَضَعُ النَّاسُ مَا يَرْفَعُ
وقال آخر:
كُنَّا مُلُوكًا وَكَانَ أَوَّلُنَا لِلْحِلْمِ وَالْبَأسِ وَالنَّدَى خُلقُوا
لَا يَرْتُقُ الرَّاتِقُونَ مَا فَتَقُوا يَوْمًا وَلَا يَفْتُقُونَ مَا رَتَقُوا
والأصل في هذا كله قول العباس بن مرداس للنبي صلوات الله وسلامه عليه:
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
(١٨١) لك الخير: دعاء للممدوح بأن يرزق الخير؛ فهو يقول: الخير لك لا لغيرك. ورام: قصد. واللاذقية: بلد الممدوح. يقول: غيري يطلب الغنى من غيرك؛ أي أنا لا أطلبه إلا منك، وغيري يلحق بغير بلدك؛ أي أنا لا أقصد إلا البلد الذي أنت فيه.
(١٨٢) يقول: إن بلدك — اللاذقية — هي المطلوب الأبعد؛ أي هي غاية ما يطلبه الإنسان، فإذا بلغها لم يطلب بعدها شيئًا، والدنيا كلها منزلك؛ أي في منزلك، وأنت جميع الناس.
(١٨٣) المدامة: الخمر. وغلابة: تغلب العقل فلا يستطيع مقاومتها. ثم قال: وتحرك الشوق، كما قال البحتري:
من قهوة تنسي الهموم وتبعث الشـْ ـشَوقَ الذي قد ضل في الأحشاء
(١٨٤) أراد بسوء الأدب: ما يكون من الشارب من قول الخنا والعربدة والحركات المفرطة، وبتحسين الأخلاق ما تحدثه فيه من السماحة والبذل. وفي الخمر يقول القائل:
رَأيْتُ أَقَلَّ الناسِ عَقْلًا إِذَا انْتَشَى أَقَلَّهُمُ عَقْلًا إِذَا كَانَ صَاحِيَا
تَزِيدُ حُميَّاها السفيهَ سَفَاهَةً وَتَتْرُك أخلاق الكريم كما هِيَا
(١٨٥) يقول: أعزو أثمن ما للإنسان: عقله، والعاقل يكره ضياع عقله.
(١٨٦) جعل غلبة السكر على عقله كالموت، ثم قال: ومن مات مرة لا يشتهي العود إليه. وقد تجنى ابن وكيع — شنشنته مع المتنبي — فزعم أن هذا مأخوذ من قول بعضهم في معنى السكر:
يُسِيءُ ويعذِرهُ حُسْنُهُ لَدَى عاشِقِيهِ بِغَيْرِ اعْتِذَارِ
مَحَاسِنُ تغفرُ ذَنْبَ الصُّدُودِ كَمَا غَفَرَ السُّكْرُ ذَنْبَ الْخُمَارِ
وأين هذين من بيت المتنبي؟ على أن قوله: كما غفر السكر ذنب الخمار غير صحيح.
(١٨٧) الغدائر: جمع غديرة؛ الذؤابة من الشعر. يقول: هذه لعبة ذات شعر ولكنها لا تصلح للعناق؛ لأنها غير آدمية. هذا، وقوله: أن ليس: قال العكبري: «أن» هي مخففة من الثقيلة، والتقدير: أنها، ولا يدخل عليها الفعل إلا بفاصل يفصل بينها: نحو سوف والسين ولا نحو: أن سيقوم، وإنما دخلت على ليس لضعفها عن الفعلية، فإنها فعل لا تصرف فيه، ومثله قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ.
(١٨٨) تشال: ترفع.
(١٨٩) المذق: المزج. وشابه: خلطه. يقول: إنما شربت الخمر؛ لأنك أقسمت بحياتك فشربتها؛ ولأني أحبك حبًّا خالصًا غير مشوب.
(١٩٠) يقول: سقانيها إقسامُك عليَّ بذلك قسمًا لو أقسمته تريد به قتلي لفعلت ذلك.
(١٩١) أي فرس أنثى، والذي في كتب اللغة أنها الحجر، قالوا: والحجر الفرس الأنثى، لم يدخلوا فيه الهاء؛ لأنه اسم لا يشركها فيه المذكر، والجمع: أحجار وحجورة وحجور، قالوا: وأحجار الخيل ما يتخذ منها للنسل. وسميت كذلك؛ لأنهم جعلوها كالمحرمة الرحم إلا على حصان كريم.
(١٩٢) المروج: جمع مرج؛ الموضع تمرج فيه الدواب، أي ترسل لترعى. والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان المسور، وتطلق على كل روضة ذات شجر. والخلا: الكلأ الرطب. والعوائق: جمع عائق؛ ما يعوق عن النفاذ في الشيء. يقول: نبتها يشكو كثرة الموانع من الطلوع. وأراد بالعوائق: البرد والثلج التي تمنع من الظهور.
(١٩٣) يقول: أقام الثلج في هذه المروج كالمرافق لها فلا يفارقها، ومن شدته أن الرجل إذا بصق جمد ريقه فوق أسنانه، وهذا من قول عبد الصمد بن المعذل:
وَنَسَجَ الثَّلْجَ عَلَى الطُّيُورِ وَأَجْمَدَ الرِّيقَ عَلَى الثُّغُورِ
(١٩٤) ثم مضى: أي الثلج بإذابة الحر إياه، وجعل أوائل ما ذاب من الثلج قائدًا له وأواخره سائقًا، يعني أن الثلج قد انحسر بذوبه، فكأن الذوب قاده وساقه حتى ذهب. ويروى: من دونه؛ أي من قدامه، وذلك أن قائد الشيء يكون أمامه، وسائقه يكون خلفه.
(١٩٥) الطخرور: اسم المهر، وهو في اللغة القطع القليلة من السحاب، جمعها طخارير. وباغي: طالب. والآبق: الهارب. ولاصق: أي بالأرض لا يرتفع عنها. يقول: إنه — لإعواز المرعى — كان يلتمس العشب من ها هنا وها هنا فلا يثبت في مكان واحد كأنه يطلب آبقًا لتردده في طلب المرعى.
(١٩٦) المهارق: جمع المهرق، وهو الصحيفة يكتب فيها، معرب؛ وذلك أنهم كانوا يأخذون الخرق ويطلونها بشيء ثم يصقلونها ويكتبون عليها، شبه رعي مهره النبات اللاصق بالأرض بقشر الكاتب الحبر عن الصحيفة، وأروده: أي أطلبه. والضمير: للنبت. وضمير منه: للمهر. والظرف: حال مقدمة من الشوذانق. وقوله: بكالشوذانق: الباء متعلقة بأروده، والكاف: اسم بمنزلة مثل؛ أي بمهر مثل الشوذانق، والشوذانق: الشاهين — الصقر — معرب سه دانك؛ أي نصف درهم. يراد أنه كنصف البازي. يقول: أطلب الكلأ والنبات من هذا المهر بمهر كالشوذانق لخفته، يريد مهره على سبيل التجريد.
(١٩٧) بمطلق اليمنى: بدل من بكالشوذانق. والمراد بكونه مطلق اليمنى: أنه لا تحجيل فيها، بناء على تشبيه التحجيل في القوائم الثلاث بالقيد. والفائق: مغرز الرأس في العنق، وإذا طال الفائق طال العنق فهو محمود. وعبل الشوى: ضخم الأطراف. والمرافق: جمع مرفق؛ موصل الذراع في العضد. وإذا تدانت مرافقه كان أمدح له.
(١٩٨) رحب اللبان: واسع الصدر، ويستحب من الفرس أن يكون جلد صدره واسعًا يجيء ويذهب ليكون خطوه أبعد؛ فإنه إنما يقدر على توسيع الخطو بسعة جلد صدره. وقوله: نائه الطرائق، فالطرائق: طرائق اللحم، ونائه: من ناه الشيء ينوه: إذا علا، ونهت به ونوهته: إذا أشدت به. والمعنى أن طرائق اللحم على كفله ومتنه عالية. وقال ابن جني: الطرائق: الأخلاق، أي مرتفع الأخلاق شريفها لعتقه وكرمه. وقال ابن جني: الرواية: نابه، يقال: امرؤ نابه: إذا كان عظيمًا جليلًا. وقوله: ذي منخر رحب؛ فإنه يستحب سعة المنخر، لئلا يحبس نفسه. والإطل: الخاصرة. ولحوقها: ضمورها.
(١٩٩) التحجيل: بياض القوائم. والنهد: الجسيم العالي المشرف. والكميت: الأحمر إلى السواد. والزاهق: الذي بين السمين والمهزول. والغرة: البياض في وجه الفرس، والغرة الشادخة: التي تملأ الوجه وتمتد سفلا. والشارق: الشمس عند شروقها. شبه بياض وجهه بالشمس لانتشار أشعتها في نواحي الأفق.
(٢٠٠) البارق: السحاب ذو البرق، شبه لونه بالسحاب الذي انتشر عليه ضوء البرق لما فيه من الحمرة المشوبة بالسواد.
(٢٠١) باقٍ: أي ثابت؛ خبر عن محذوف يعود إلى المهر. والكلام مستأنف. والبوغاء التربة الرخوة. والشقائق: جمع الشقيقة، وهي أرض يكون فيها رمل وحصًى. والأبردان: الغداة والعشى. والهجير: شدة الحر وقت الهاجرة — نصف النهار — والماحق: الذي يمحق كل شيء بحرارته. يقول: إن مهره ثابت على السير في السهل والحزن والحر والبرد؛ أي صبور على الشدة.
(٢٠٢) للفارس: خبر مقدم، وخوف: مبتدأ مؤخر. وركض الفرس: ضربه برجله ليعدو. ومنه: صلة الخوف. يقول: لنشاطه وشدة قوته إذا عدا بالفارس الواثق بفروسيته أخذه منه خوف شديد كأنه خوف الجبان إذا حل في فؤاد ضعيف كفؤاد العاشق.
(٢٠٣) في ريد: أي على ريد، والريد: الحرف الشاخص من الجبل. والطود: الجبل. والشاهق: العالي. يقول: لعظم هذا المهر كأن فارسه منه على جبل عالٍ.
(٢٠٤) يشأى: يسبق. يقول: لسرعته وحدته في جريانه يسبق إلى الأذن صوت الصارخ فيصل إليها قبل وصول الصوت؛ يعني أنه يسبق مسير الصوت.
(٢٠٥) الأبارق: جمع الأبرق، وهو آكام فيها حجارة وطين. وآثار: مفعول يترك. والمناطق: جمع منطقة؛ ما يشد بها الوسط. يقول: لشدة عدوه وقوة وطئه إذا وطئ الأبرق بحوافره ترك فيه آثارًا كآثار الحلي إذا قلع من المناطق.
(٢٠٦) مشيًا: حال على تأويله بالوصف. يقول: إن هذا التأثير الذي ذكره إنما يكون إذا مشى فإن عدا — جرى — ترك آثارًا كالخنادق.
(٢٠٧) الضمير في أوردت: للآثار المشبهة بالخنادق. وغب سحاب: أي بعده. وأحسبت: كفت، ومنه: حسبنا الله؛ أي كفانا. والخوامس: الإبل التي ترد الخمس — بكسر الخاء — وهو أن ترعى ثلاثة أيام وترد في اليوم الرابع. والأيانق: جمع أينق؛ جمع ناقة. يقول: لو أوردت هذه الآثار التي هي كالخنادق بعد إقلاع سحاب صادق المطر لكان فيها من الماء ما يكفي نياقًا عطاشًا ترد الخمس؛ يعني إذا أقلع السحاب وامتلأت آثار حوافره كفت الإبل العطاش. يريد المبالغة في وصف عظم آثاره في الأرض إذا عدا.
(٢٠٨) شحا: فتح فاه. والناغق — بالغين والعين — الصائح. يقول: إذا ألجم لحادث طرق ليلًا فتح فاه كما يفتح الغراب فاه للنعيق، يريد أنه — مع شدته وعتقه — لا يمنع من اللجام. ولعله يريد أيضًا أنه واسع الفم.
(٢٠٩) الناهق: عظم ناتئ في مجرى الدمع من الفرس، وهما ناهقان، ويستحب عريهما من اللحم. قال أهل اللغة: الناهقان عظمان شاخصان يندران — يبرزان — من ذي الحافر في مجرى الدمع يخرج منهما النهاق — أي الصوت — ويقال لهما أيضًا: النواهق. قال النابغة الجعدي يصف فرسًا:
بِعَارِي النواهِق صَلْتِ الْجبِيـ ـنِ يَسْتَنُّ كَالتَّيْسِ ذِي الْحُلَّبِ
(الحلب: نبات ينبت في القيظ بالقيعان وشطآن الأودية ويلزق بالأرض حتى يكاد يسوخ، ولا تأكله الإبل، إنما تأكله الشاء والظباء، وهي مغزرة مسمنة وتحتبل عليها الظباء، قال الأصمعي: أسرع الظباء تيس الحلب أو ذو الحلب؛ لأنه قد رعى هذا النبت.)
وفي التهذيب: النواهق من الخيل والحمر حيث يخرج النهاق من حلقه. وأنشد للنمر بن تولب:
فَأَرْسَلَ سَهْمًا لَهُ أَهْزَعا فَشَكَّ نواهِقَهُ وَالْفَمَا
(الأهزع: قيل: هو خير السهام وأفضلها، تدخره لشديدة، وقيل: هو آخر ما يبقى من السهام في الكنانة؛ جيدًا كان أو رديئًا.)
وسيتا القوس: جانباه. والجلاهق: البندق الذي يرمى به. يقول: إن هذين العظمين منه عاريان من اللحم باديان تحت الجلد كأن جلدهما مشدود على سيتي قوس البندق.
(٢١٠) بز: غلب وفاق. والمذاكي: جمع مذك: الفرس أتى عليه بعد قروحه سنة. قال أهل اللغة: المذاكي: الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. والذكاء: السن. قال الحجاج: فررت عن ذكاء، وبلغت الدابة الذكاء: أي السن، قالوا: والمذكى أيضًا من الخيل: الذي يذهب حضره — جريه — وينقطع. وفي المثل: جري المذكيات غلاب؛ أي جري المسان القرح من الخيل أن تغالب الجري غلابا. قالوا: وتأويل تمام السن النهاية في الشباب، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء. والعقائق: جمع عقيقة، وهي الشعر الذي يولد المولود وهو عليه. والنقانق: جمع نقنق، وهو ذكر النعام. يقول: إنه سبق الخيل المسنة وهو بعد فَلْوٌ — أي مهر — صغير لا يزال شعر الولادة عليه، وزاد على النعام في طول الساق وصلابته، وذلك محمود في الخيل كما قال امرؤ القيس:
لَهُ أَيْطَلَا ظَبْيٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ
(٢١١) الخرانق: جمع الخرنق، وهو ولد الأرنب. يقول: إن صوت وقع حوافره أشد من صوت الصواعق. قال الواحدي: ويجوز أن يريد أن نار وطء حوافره تزيد على صواعق السحاب. ثم قال المتنبي: وإن أذنه تزيد في الدقة والانتصاب على آذان الأرانب.
(٢١٢) العقاعق: جمع عقعق؛ ضرب من الغربان يضرب به المثل في الحذر، فيقال: أحذر من عقعق. وقوله: يميز الهزل من الحقائق؛ يريد أنه إذا أحضره صاحبه — أي ركضه — فطن إلى غرضه وعرف هل يريد صاحبه اللعب أو الجد. وبعبارة أخرى: هل يريد الميدان أو الغارة؛ فلعب أو جد حسب مراد صاحبه.
(٢١٣) الخرق في الأعمال: خلاف الرفق أو هو الحمق. والحاذق: الماهر. يقول: إنه لذكائه وحذقه إذا أحس سارقًا بليل صهل ليعلم مكانه، وكذلك خيل الأعراب؛ أي لشدة جريه وتناهيه في العدو — الجري — تظن به خرقًا وهو مع ذلك حاذق، وحذقه أنه لا يخرج ما عنده من الجري مرة واحدة، وإنما يعرف ما يراد منه فيستبقى جريه، كما قال القائل:
وَلَلْقَارِحُ الْيَعْبُوبُ خَيْرٌ عُلَالَةً مِنَ الْجذَعِ الْمُرْخَى وَأَبْعَدُ مَنزَعَا
وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
ذُو أَوْلَقٍ عِنْدَ الْجِرَاءِ وَإِنَّمَا مِنْ صِحَّةٍ إِفْرَاطُ ذَاكَ الْأَوْلَقِ
[الأولق: الخفة من النشاط كالجنون.]
(٢١٤) أنى: كيف. يصفه بلين المعاطف وأنه يحك بدنه كيف شاء وأين شاء كالباشق — طائر من أصغر الجوارح — الذي ينتهي رأسه ومنقاره إلى أي موضع أراد من جسده. ثم قال: إن العتق — الكرم — يكتنفه من قبل أبيه وأمه؛ فكرم الأم يقابل فيه كرم الأب. فالآفق من الخيل: الكريم الطرفين، وهي آفقة، ومن آفقة: حال؛ أي مولودًا من آفقة وآفق، أي إنه كريم الأم والأب وكل من أمه وأبيه كذلك.
(٢١٥) البيت تتمة لما في المصراع الأخير من البيت السابق. والعتاق من الخيل: الكرام، والإناث عتائق. والبواسق: جمع باسقة؛ النخلة العالية. يقول: إن أبويه آفقان بين كرام الخيل وكرائمها؛ أي إنه وسيط في العتق، ثم قال: وعنقه يزيد على النخل الطوال طولًا، والخيل توصف بطول الأعناق، كما قال القائل:
وهَادِيهَا كَأنَّ جذعٌ سَحُوقُ
(٢١٦) يقول: إن أعلى حلقه دقيق حتى لو أراد الخانق أن يطوقه بفتره — ما بين الإبهام والسبابة — لاستطاع وأمكنه ذلك. والفيالق: الكتائب من الجيش.
(٢١٧) والضرب: عطف على الطعن. والمفارق: أوساط الرءوس حيث يفترق الشعر. واللواء: الراية. وخفقه: اضطرابه في الهواء.
(٢١٨) النصل: حديدة السيف. وسفاسقه: طرائقه. والبنائق: جمع بنيقة؛ لبنة القميص. يقول: يحملني في الحرب وسيفي يقطر دمًا — دم القتلى — في كمي على بنائقي؛ أي يحملني والسيف هذه حاله. قال العكبري: الرواية التي قرأت بها الديوان على شيخيَّ أبي الحزم وعبد المنعم: والنصل ذو، بالرفع، ورفعه على الابتداء، والواو للحال، أي في هذه الحالة، ورواه الواحدي وغيره بنصب النصل وما بعده عطفًا على الضمير المنصوب في يحملني. ويجوز أن يكون على أنه مفعول معه؛ أي مع النصل.
(٢١٩) لحظه: نظر إليه بمؤخر عينه. والوامق: المحب. يقول: لا أنظر إلى الدنيا بعين عاشق محب لها فيذل لطلبها ولا أبالي أن لا أجد فيها من يوافقني على طلب معالي الأمور، بل أعمل على طلبها وحدي.
(٢٢٠) أي: حرف نداء. وكبت عدوه: أذله ورده بغيظه، وكبته الله لوجهه: صرعه. قال ابن جني: يخاطب ممدوحًا له. قال الواحدي: ليس في هذه القصيدة ذكر ممدوح ولم يمدح بها أحد، فكيف يخاطب ممدوحًا؟ إنما يخاطب المهر الذي وصفه، يقول: أنت تكبت حسادي؛ لأنهم يحسدونني عليك. ثم قال: أنت لنا ونحن وأنت لله.
(٢٢١) يقول: لا دواء للأحمق إلا الموت، كما قال البحتري:
مَا قَضَى اللهُ للجَهُولِ بِسَتْرٍ يَتَلَافَاهُ مِثْلُ حَتْفٍ قَاضِي
(٢٢٢) يقول: إن موته وحياته سواء، فهو إن مات مات وليس من يأسف على موته ولا يتبين بموته خلل فيكون مفقودًا، كما قال:
فَإِذَا مُتَّ مُتَّ غَيْرَ فَقِيدِ
وإن عاش عاش وليس من يحفل به أو يبالي؛ إذ ليس له خلق كريم أو خلقة جميلة. كما قال الخبز أرزي:
فَأَنْتَ فِي الْخَلْقِ لَا وَجْهٌ وَلَا بَدَنُ وَأَنْتَ فِي الْخلقِ لا عقلٌ ولا أدبٌ
(٢٢٣) هامته: رأسه. والخون: الخيانة. والملق: إظهار المحبة. يقول: إن العبد الذي قتله وغدر به منه تعلم خيانة الصديق والغدر به وإظهار الحب وفي قلبه دغل؛ فلا جناح عليه إذا سقاه بكأسه.
(٢٢٤) وحلف: عطف على خون. يقول: وتعلم منه أن يحلف ألف يمين كاذبة مطرودة — مطردة متتابعة — كأنابيب الرمح. وفيه نظر إلى قول البحتري من جهة التشبيه:
شَرَفٌ تَتَابعَ كابرًا عَنْ كابر كالرُّمْحِ أنبُوبا عَلَى أنبوبِ
وقوله أيضًا:
نَسَبٌ كَمَا اطَّرَدَتْ كُعُوب مُثَقف لَدْنٍ يزيدُكَ بسطةً في الطُّولِ
(٢٢٥) يقول: ما زلت أعرفه قردًا إلا أنه لا ذنب له، وأعرفه فارغًا من الشجاعة إلا أنه قد امتلأ حماقة وطيشًا. ولله ابن الرومي حين يقول:
معشرٌ أشبهوا القرودَ ولكن خالفوها في خِفَّةِ الأرواحِ
(٢٢٦) يقول: هو من القلق كريشة بمهب — مجرى — الريح ساقطة لا تستقر من القلق على حال، يصفه بالطيش وأنه لا يثبت على حال، كما قال ابن الرومي:
فحِلْمكَ أطيَشُ من ريشةٍ ورُوحُكَ من هَضْبَةٍ أرجحُ
ولبعضهم:
يا ريشةً فوقَ مهبِّ الصبا يَهفو بها الريحُ على مَرْصَدِ
أطيشَ من قلب فتًى عاشِقٍ متيم بات على موْعدِ
(٢٢٧) الفودان: جانبا الرأس. والجورب: هو «الشراب» الذي توضع فيه الرجل من صوف أو قطن أو حرير. والعرق: الذي بله العرق. يقول: هو صغير الرأس قصير العنق، وهو أيضًا قميء حقير، فإذا صفع استغرقت أكف الصافعين هذه المواضع من بدنه فتكتسي أكفهم نتنًا منه لنتن رائحته. ولعل هذا ينظر إلى قول بعضهم:
قُلْ مَا بَدَا لَكَ أَنْ تَقُولَ فَإِنَّنِي أُثْنِي عَلَيْكَ بِمِثْلِ رِيحِ الْجَوْرَبِ
(٢٢٨) موتًا: مفعول مطلق؛ أي أمات لهم موتًا. والفَرَق: الخوف والفزع. يقول: هو جبان فسائلوا قاتِلِيه: هل مات خوفًا أو مات بالضرب؟ ولله أبو تمام حين يقول:
وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّكَ سَاخِطٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهْ
(٢٢٩) الشبح: الشخص. يصفه بأنه غير شيء لدمامته وصغر قدره فكأنه لا أعضاء له.
(٢٣٠) يريد باللئام: آباءه. يقول: لولا أنهم سبقوه في اللؤم وجاء مشابهًا لهم فيه لكان ألأم طفل، ولكنهم شركاؤه في ذلك فليس هو الألأم، وبهذا قد سوى بينه وبينهم. وفي هذا نظر إلى قول بعضهم:
إِذَا وَلَدَتْ حَلِيلَةُ بَاهِلِيٍّ غُلامًا زِيدَ فِي عَدَدِ اللِّئَامِ
(٢٣١) ومنظره: أي وجهه، أو النظر إليه. ويشق: يثقل. يقول: إن أكثر من تلقاه من الناس يشق كلامه على الآذان لما فيه من السقط والهذر، ومنظره على الأحداق — العيون — لما ينطوي عليه من الغل والخبث وإضمار غير الجميل وإن كان يلقاك بالبِشْرِ.
يَلْقَاكَ والعسلُ المُصَفَّى يُجْتَنَى مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ الْفِعَالِ الْعَلْقَمُ
يُبْدِي الْهَوَى وَيَثُورُ — إِنْ عَرَضَتْ لَهُ فرصٌ — عَلَيْكَ كَمَا يَثُورُ الْأَرْقَمُ
الأبيوردي
فَلَا تَغْرُرْكَ أَلْسِنَةٌ رِطَابٌ بَطَائِنهُنَّ أَكْبَادٌ صَوَادِي
الديلمي
فَيَا رُبَّ وَجْهٍ كَصَافِي النَّميرِ تَشَابَهَ حَامِلُهُ وَالنَّمِرْ
شوقي
إِنْ شِئْتَ أَنْ يسودَّ ظنك كلهُ فَأجله فِي هَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ
لَيْسَ الصَّدِيقُ بِمَنْ يُعِيرُكَ ظَاهِرًا مُتَبَسِّمًا عَنْ بَاطِنٍ مُتَجَهِّمِ
أبو تمام
(٢٣٢) حسب يحسب — بفتح السين في المضارع وكسرها لغتان — وأتراها: أتظنها. والمآقي: جمع مؤق؛ مؤخر العين مما يلي الأنف. يقول لصاحبه: أتظنها لكثرة ما ترى الدمع في مآقي عشاقها تتوهم أنه خلقة فيها فلا ترحم من يبكي ولا ترثى، كما قال في البيت التالي.
(٢٣٣) راءها: أصله رآها؛ قدم الألف وأخر الهمزة ضرورة. وغير الأولى: منصوبة على الاستثناء، والثانية على الحال. وراقي: أي منقطع الدمع، وأصله: راقئ، تقول: رقأ الدمع والدم يرقأ؛ إذا انقطع، فلينه. يقول: إن هذه المعشوقة لا ترحم باكيًا، وكيف ترحمه وهي ترى كل جفن من الناس إلا جفنها سائل الدمع لهجرها؟ فهي لا ترحم أحدًا؛ لأنها تظن الدموع في أجفان العشاق خِلقة.
(٢٣٤) منا: خبر أنت، والجملة بعده خبر ثانٍ، أو حال من الضمير المستتر في الخبر. يقول أنت أيضًا من معشر عشاقك؛ أي أنت عاشقة لنفسك حين منعتها منا إلا أنك عوفيت من الضنى — النحول — والاشتياق؛ لأنك واصلت محبوبك وهو نفسك. ومعنى فتنت نفسك: أي بالحب؛ أي فأنت مفتونة بعشق نفسك. والأصل في هذا المعنى قول جحظة:
لَوْ تَرَى مَا أَرَاهُ مِنْكَ إِذَا مَا جَالَ مَاءُ الشَّبَابِ فِي وَجْنَتَيْكَا
لَتَمَنَّيْتَ أَنْ تُقَبِّلَ خَدَّيْكَ وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إِلَى خَدَّيْكَا
(٢٣٥) يقال: حال دونه حائل، كما يقول: عاق دونه عائق. والمزار ها هنا: مصدر بمعنى الزيارة، يقول: منعتِني عن زيارتك حتى نحلتُ شوقًا إليك، فلو زرتني اليوم لم تقدري على معانقتي لشدة نحولي ودقة جسمي، فليس فيَّ بقية لعناقك.
(٢٣٦) يقول: إن النظر الذي كررته إلينا وكررناه إليك كان عن تعمد منا فاتفق لنا فيه الحتف — الهلاك — من غير قصد منا إليه؛ لأنه أوقعنا في حبائل الهوى.
(٢٣٧) عدا عنك: صرف عنك ومنع من لقائك. وغير: استثناء مقدم. وبعد: فاعل عدا، وقال العكبري: نصب غير على الحال، والتقدير: بعد غير هجرك، فلما قدم وصف النكرة نصبه على الحال. وأرار: بمعنى أذاب. والرسيم: ضرب من سير الإبل. والمناقي: جمع منقية، وهي الناقة السمينة التي في عظامها نقي — أي مخ — يقول: لو كان الحائل بيننا وبينك هو بعدك لا هجرك لواصلنا السير إليك حتى تنضى الإبل ويسيل مخها؛ أي لأتعبناها في طي البعد بيننا، ولكن الذي يحول بيننا هو الهجر، وهو ما لا سبيل إلى قطع مسافته بالسير. كما قال أيضًا:
أَبْعَدُ نَأْيِ الْمَلِيحَةِ الْبَخَلُ فِي الْبُعْدِ مَا لَا تُكَلَّفُ الْإِبِلُ
(٢٣٨) الضمير في عليها: للمناقي. والأرماق: جمع رمق؛ بقية الروح. يقول: ولسرنا ولو وصلنا وقد نحلنا وهزلنا من شدة الشوق حتى نصير من الخفة كأننا أنفاس على أرماق؛ أي على إبلنا التي نال منها الجهد حتى هزلت ولم يبقَ منها إلا الذماء فكأنها أرماق. كما قال الآخر:
أَنْضَاءُ شَوْقٍ عَلَى أَنْضَاءِ أَسْفَارِ
وكما قال هو أيضًا:
بَرَتْني السُّرَى بَرْيَ الْمُدَى فَرَدَدْنَنِي أخفُّ عَلَى الْمَرْكُوبِ مِنْ نَفْسِي جِرْمِي
وقال ابن جني: ولسرنا ولو وصلنا إليك وهي تحملنا على استكراه ومشقة كما تحمل أرماقنا أنفاسنا لشدة الجهد؛ لأنا قد بلغنا أواخر أنفسنا. قال الواحدي: هذا محال، كيف يحمل الرمق النفس؟ وكيف تكون الأنفاس على الأرماق بالمعنى الذي ذكره؟ ثم فسره الواحدي بما لا يخرج عما أسلفناه.
(٢٣٩) ما بنا: استفهام، معناه التعجب. والأشفار: جمع شفر منبت الهدب. والحداق: جمع حدقة سواد المقلة. يقول: أي شيء أصابنا من هوى العيون الكحلاء الجفون السوداء الأحداق؟
(٢٤٠) يقول: قصرت الليالي الماضية بالوصال وأطالتها بالهجران، وأيام الوصال توصف بالقصر وأيام الهجر توصف بالطول. وقوله فأطالت بها: أي أطالت ليالي الهجر بليالي الوصال؛ أي بذكرها والتحسر عليها.
(٢٤١) قال الواحدي: الإيراق مصدر قولهم: أورق الصائد؛ إذا لم يصد شيئًا، وأورق الغازي: إذا لم يغنم، وأورق الطالب: إذا لم ينل شيئًا. قال: وكان الخوارزمي يقول في تفسير هذا البيت: هي تطلب بإسهادها إيانا الغاية طلب الأمير بإنالته النهاية، فكأنها تكاثره نوالًا، لكن نوالها الأرق ونواله الورق. قال الواحدي: فإن كان أبو الطيب أراد بالإيراق هذا — أي أنه من الأرق — فقد أخطأ لأنه لا يبنى الإيراق من الأرق، إنما يقال: أرق يأرق أرقا وأرَّقه تأريقًا، والأولى أن يحمل الإيراق على منع الوصل والتجنيب منه. يقول: هي في منعها وصلها في النهاية، كما أن الأمير في بذله نائله قد بلغ الغاية فكأنها تكاثر عطاءه بمنعها لينظر أيهما أكثر، ولا يخفى ما في البيت من حسن التخلص.
(٢٤٢) خلق: اسم ليس، وأبا العشائر: خبرها. أو تقول: خلق: اسم ليس، وخبرها الجملة بعده. وأبا العشائر: مستثنى. يقول: ليس أحد قد استحق السيادة فساد الخلائق بحق غير هذا الممدوح. ومما يتصل بمعنى البيت قول البحتري:
قَدْرُهُ مُرْتَفِعٌ عَنْ حَظِّهِ لَا يَرُعْكَ الْحَظُّ لَمْ يُوجَدْ بِحَقِّ
(٢٤٣) طاعن: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو طاعن. والفيلق: الجيش. والذعر: الفزع. والمهراق: المصبوب. يقول: إذا طعن واحدًا من الجيش فرأوا الطعنة وسِعَتَها وبُعدَ غورها جبنوا جميعهم وخافوا لذلك خوفًا شديدًا، فكأنه طعن الجيش كله. قال الشراح: والدم المهراق أحسن ما في البيت، يريد أنه يخرج منها دم ثائر يضرب صدور القوم، فكأنه قد طعنهم كلهم.
(٢٤٤) ذات: خبر مبتدأ محذوف: أي طعنته ذات فرغ، ومن نصب ذات: فهي حال من الطعنة بمعنى واسعة، كأنه قال: تطعن الفيلق طعنة واسعة. والفرغ: مخرج الماء من الدلو. ويقال: أطرق رأسه؛ إذا خفضه وطأطأه. والمخبر: يروى بفتح الباء وبكسرها. يقول: إن طعنته واسعة حتى كأن دمها يجري من فرغ دلو، وإذا جرى حديثها أطرق لها السامع أو المحدث خوفًا واستعظامًا حتى لكأنها في جوفه.
(٢٤٥) يقول: هو ضارب الهام — الرءوس — في الهيجاء ويسقي الأقران كئوس الموت ولا يبالي أن يشرب ما يسقيهم؛ شجاعة وولوعًا بالمجد والفخار ومن ثم لا يبالي بالموت.
(٢٤٦) فوق شقاء: أي هو ضارب الهام حال كونه فوق فرس شقاء، وشقاء: مؤنث أشق، ويقال: فرس أشق؛ إذا كان رحب الفروج طويل القوائم، قال جابر أخو بني معاوية بن بكر التغلبي:
وَيَوْمَ الْكُلَابِ اسْتَنْزَلَتْ أَسْلَاتُنَا شُرَحْبِيلَ إِذْ آلَى أليَّةَ مُقْسِمِ
لَيَنْتَزِعَنْ أَرْمَاحَنَا فَأَزَالَهُ أَبُو حَنَشٍ عَنْ ظَهْرِ شَقَّاءَ صِلْدِمِ
(عن ظهر: يروى عن سرج، والصلدم: القوية، يقول: حلف عدونا لينتزعن أرماحنا من أيدينا فقتلناه.)
والأرساغ: جمع رسغ، وهو مستدق ما بين الحافر ومفصل الوظيف. والصفاق: جلدة البطن. قال الأصمعي: الصفاق الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر، وأنشد للجعدي:
لَطَمْنَ بِتُرْسٍ شَدِيدِ الصِّفَا قِ مِنْ خَشَبِ الْجَوْزِ لَمْ يُثْقَبِ
(يقول: ذلك الموضع منه كأنه ترس وهو شديد الصفاق.)
يقول: هو ضارب فوق فرس أنثى طويلة واسعة الفروج حتى يجول الحصان — الذكر — الطويل بين قوائمها وبطنها.
(٢٤٧) البراق: هو ذلك الذي روي أن سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ركبه ليلة الإسراء وقطع به ما بين الأرض والسماء في ليلة، وقيل في وصفه أنه يضع يديه عند منتهى بصره، وأنه دون البغل وفوق الحمار. يقول: إن هذه الفرس تجري جري البراق، فإذا نظر مكذب الرسل إلى سرعتها صدق ما قيل في وصف البراق.
(٢٤٨) الضمير من فيها: للأسنة. والواو بعدها: للحال. والنطاق: ما يشد به الوسط. يقول: إذا أحاطت به الأبطال حتى صارت أسنتها — رماحها — حوله كالنطاق فإن همته حينئذٍ إنما هي في الأبطال وأخذ أرواحهم لا في اتقاء رماحهم، فهو لا يبالي بها ولا هي تثنيه عنهم.
(٢٤٩) ثقوب الرأي: نفاذه. وأصل الثاقب: المضيء. ويروى: ثاقب العقل. والحلم: الأناة والتعقل. يقول: لا يقلقه أمر من الأمور لثبات حلمه. وفيه نظر إلى قول ابن دريد:
يَعْتَصِمُ الْحِلْمُ بِجَنْبَيْ حُبْوَتِي إِذَا رِيَاحُ الطَّيْشِ طَارَتْ بِالْحِبَا
(٢٥٠) الحارث بن لقمان: جد أبي العشائر. والعتاق: الخيل الكريمة، يدعو لهم بألا يفارقوا ظهور الخيل فرسانا في الوغى — الحرب — قال ابن جني: قوله: في الوغى حشو إلا أن فيه نكتة، وهي أنهم ملوك إنما يركبون الخيل لحرب أو دفع ملم؛ لذلك خص حالة الحرب، إذ لو لم يقل في الوغى لاقتضى الدعاء أن لا يفارقوا ظهورها في وقت، وهذا من أفعال الرواض لا من أفعال الملوك؛ لأن الملوك يحتاجون إلى تدبير الملك بالرأي إلى الفراغ والاستقرار.
(٢٥١) يقول: بعثوا خوفهم في قلوب الأعداء قبل وصولهم إليهم، فكأنهم قاتلوهم قبل أن يلقوهم لشدة خوفهم قبل اللقاء. قال أبو تمام:
لَوْ لَمْ يُزَاحِفْهُمْ لَزَاحَفَهُمْ لَهُ مَا فِي قُلُوبِهِمِ مِنَ الْأَوْجَالِ
هذا: والأعادي — بالتشديد — جمع الأعداء، وأصله أعادئ بالهمز فأدغم.
(٢٥٢) الظبا: جمع ظبة، وهي حد السيف، والمراد هنا: السيوف نفسها. وتنتضي: تستل. يقول: إنهم عودوا السيوف أن تغمد في الأعناق، فهي لذلك تكاد تخرج من أغمادها إلى الأعناق قبل أن يستلها أحد. وهذا من قول أبي تمام:
وَنَبَّهْنَ مِثْلَ السَّيْفِ لَوْ لَمْ تَسُلَّهُ يَدَانِ لَسَلَّتْهُ ظُبَاهُ مِنَ الْغِمْدِ
(٢٥٣) الإشفاق: الخوف والفزع. يقول: إذا خاف الفرسان من وقع الرماح خافوا هم من الخوف ومن أن ينسبوا إلى الجبن والجزع فتجلدوا وصبروا.
(٢٥٤) الذمر: الرجل الشجاع. وكل: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هم — الممدحون — كل ذمر … إلخ. والمحاق: آخر ليالي القمر. يقول: إنهم إذا قتلوا في طلب المجد والرفعة ازداد شرفهم فازداد حسن ذكرهم بموتهم كالبدور؛ فإنها تستفيد الكمال بالمحاق، وما لم تصر إلى المحاق لم تتم؛ لأنها في المحاق ترتفع إلى درجة الكمال، فمحاقها سبب كمالها. كذلك هؤلاء إذا قتلوا اكتسبوا ذكرًا وشرفًا. وقال ابن جني: تمامها في المحاق الكلام متناقض الظاهر؛ لأن المحاق غاية النقصان وهو ضد الكمال، وإنما سوغ له ذلك قوله: «يزيد في الموت حسنًا»؛ أي هو من قوم أحسن أحوالهم عندهم أن يقتلوا في طلب المجد، فشبههم ببدور تمامها في محاقها، فجاز له هذا اللفظ على طريق الاستطراف والتعجب منه، فشبه ما يجوز أن يكون بما لا يجوز أن يكون اتساعًا وتصرفًا. وقال ابن فورجه: أراد أن البدور يفضي أمرها إلى المحاق، فهو غايتها التي تجري إليها ومصيرها الذي تصير إليه، وهؤلاء القوم تمام أمرهم قتلهم، وليس التمام في هذا البيت الذي يعني به استكمال الضوء. والدليل على ذلك قوله: «كبدور»، والبدور لا تكون بدورًا إلا بعد استكمال ضوئها، ولو أراد استكمال الضوء لقال: كأهلة … قال الواحدي: وعلى هذا لا مدح في البيت؛ لأن كل حي يفضي أمره إلى الموت وآخره الهلاك، وإنما شبههم ببدور تمامها في المحاق بزيادتهم حسنًا بالموت لانتهاء آخر أمرهم إلى الموت، ثم أوضح ذلك بما لا يخرج عما ذكرناه أولًا.
(٢٥٥) جاعل: صفة لذمر. يقول: إنه يتقي العار ولو بموته، فإذا لم يجد واقيًا من العار غير منيته جعلها درعًا له، فاتقى بها العار كما يُتقى بالدرع الموت والهلاك. قال أبو تمام:
وَقَدْ كَانَ فَوْتُ الْمَوْتِ سَهْلًا فَرَدَّهُ إِلَيْهِ الْحِفَاظُ الْمُرُّ وَالْخُلُقُ الْوَعْرُ
وقال بعضهم:
وَمَوْتٌ لَا يَكُونُ عَلَيَّ عَارًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَيْشٍ رِمَاقِ
(الرماق: العيش اليسير الدون الذي يمسك الرمق. ومن كلامهم: موت لا يجر إلى عار خير من عيش في رماق، ومثله: العيش المرمق؛ أي الدون، قال الكميت:
أَرَانَا عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا يُجَدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَوْمِ وَنَهْزِلُ
نُعَالِجُ مُرْمَقًا مِنَ الْعَيْشِ فَانِيًا لَهُ حَارِكٌ لَا يَحْمِلُ الْعِبْءَ أَجْزَلُ
[الحارك: أعلى الكاهل].)
(٢٥٦) الكرم: ضد اللؤم. والشفار: جمع شفرة؛ حد السيف. والرقاق هنا: الحداد القاطعات. يقول: إن لهم كرمًا خشن جوانبهم على الأعداء؛ لأن هذا الكرم يأبى عليهم أن يساموا الخسف ويقبلوا الإهانة. ثم شبه ذلك الكرم بالماء، فهو مع لينه وعذوبته إذا سقيته السيوف شحذت شفارها واستفادت صلابة ومضاء ونفاذًا، كذلك كرمه فيه لين لأوليائه وخشونة على أعدائه. وهذا من قول بعضهم:
وَكَالسَّيْفِ إِنْ لَايَنْتَهُ لَانَ مَتْنُهُ وَحَدَّاهُ إِنْ خَاشَنْتَهُ خَشِنَانِ
وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
فَإِنَّ الْحُسَامَ الْهُنْدَوَانِيَّ إِنَّمَا خُشُونَتُهُ مَا لَمْ تُفَلَّلْ مَضَارِبُهُ
(٢٥٧) يقول: لكم معالٍ شريفة لم ينلها أحد سواكم، فإذا ادعاها سواكم نسب إلى الخيانة والسرقة.
(٢٥٨) يقول: أنت شديد الشبه بأبيك، فإذا ظهرت لي شاهدت فيك أخلاقه، وإن غاب شخصه. وقال ابن الرومي:
إِذَا سَلَفٌ أَوْدَى وَخَلَّفَ مِثْلَهُ فَمَا ضَرَّهُ أَنْ غَيَّبَتْهُ الرَّوَامِسُ
(٢٥٩) تنكرت: غيرت زيك حتى لا تعرف. والمكر: مكان الكر في الحرب. يقول: لو غيرت زيك في ساحة الحرب حتى لا يعرفك أهلها لعرفوك بأفعالك التي لم يكن يفعلها غير أبيك حتى يحلفون بالطلاق أنك ابنه، قال ابن جني: في المكر حشو وفيه نكتة، وهي أنه إنما شبهه في المكان الذي يتبين فيه الفضل والشجاعة فذكر أنفس المواضع، فجعله شبهه فيها لا في غيرها مما ليس له شهرتها. وقال التبريزي: حلفوا أنك ابنه: أي ابن المكر إذ يجدونك فيه سالمًا من الطعن والضرب، فكأن المكر أب يشفق عليك من أن يصل إليك جرح أو طعنة.
(٢٦٠) الاستفهام: تعجب. وقوى به: أطاقه. والآفاق: نواحي الدنيا وأقطارها. يقول: كيف يطيق زندك حمل كفك وهي قد اشتملت على نواحي الأرض؟! أي استولت على أطرافها حتى صارت الآفاق صغيرة بالقياس إليها كالكف بالقياس إلى الآفاق، يريد أنه اقتدر على الدنيا وصغرت في قبضته.
(٢٦١) يقول: إن أعداءك لا يقدرون عليك بسيوف الحديد لامتناعك على أسلحتهم ببأسك وشجاعتك وشدة شوكتك، فلا يلقونك إلا بسيف النفاق. يعني أن أعداءك يعدلون عن مجاهرتك بالحرب إلى مواراتك بالنفاق.
(٢٦٢) قال أبو العلاء المعري: إن هذا البيت والذي بعده يفضلان كتابًا من كتب الفلاسفة؛ لأنهما متناهيان في الصدق وحسن النظام، ولو لم يقل شاعرهما سواهما لكان له شرف منهما وجمال … يقول: إن نفوسنا ألفت هذا الهواء فظنت أن الموت كريه الذوق؛ وذلك لإلفها الهواء الرقيق الطيب، وهذا أوقع في الأنفس أن الموت مر الطعم. قال الواحدي: وفي هذا بيان عذر أعدائه حين جبنوا عنه ولم يجاهروه بالحرب؛ لأن حب الحياة زين لهم الجبن وأراهم طعم الحمام. قال: ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام لا يتصل بما قبله. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: النفوس البهيمية تألف مساكنة الأجساد الترابية، فلذلك تصعب عليها مفارقة أجسامها، والنفوس الصافية بضد ذلك.
(٢٦٣) يقول: إن خوف الموت من أكاذيب النفس ومن إلفتنا هذا الهواء وإلا فهو معلوم أن الجزع من الموت قبل وقوعه عجز ينشأ عن الجبن وضعف النفس، وأنه لا جزع بعد الموت؛ لعدم حس الميت بشيء مما هو فيه. وعبارة أبي الفضل العروضي: لا يحسن أن يحزن الإنسان للموت بعد تيقنه بوقوعه؛ فإنه قبل الوقوع لا ينفع الحذر وينغص العيش، وإذا وقع فلا حزن عليك ولا علم لك به، ثم قال: وقد نسب في هذا إلى الإلحاد. قال الواحدي: وهذا البيت والذي قبله حث على الشجاعة وتحذير من الجبن وتهوين للموت لئلا يخافه الإنسان فيترك الإقدام، قال: هذا ما أراده أبو الطيب ولم يرد الإلحاد، وإنما قال هذا من حيث الظاهر.
(٢٦٤) الثراء: كثرة المال. يقول: كم مال كان البخل قد أوثقه ومنعه عن طلابه قتلت أربابه فأطلقته من إساره وأبحته لطلابه!
(٢٦٥) الإملاق: الفقر والعدم. يقول: إن المال في يد اللئيم قبيح؛ لأنه يضن به عن حقوقه، كما يقبح الفقر في يد الكريم، فقوله: قدر قبح الكريم في الإملاق، يريد أن يقول: قدر قبح الإملاق في الكريم، فقلب للضرورة والقافية. والمصراع الأول من قول أبي تمام:
كَمْ نِعْمَةٍ للهِ كَانَتْ عِنْدَهُ فَكَأَنَّهَا فِي غُرْبَةٍ وَإِسَارِ!
وقول العطوي:
نِعْمَةُ اللهِ لَا تُعَابُ وَلَكِنْ رُبَّمَا اسْتُقْبِحَتْ عَلَى أَقْوَامِ
لَا يَلِيقُ الْغِنَى بِوَجْهِ أَبِي يَعـْ ـلَى وَلَا نُورُ بَهْجَةِ الْإِسْلَامِ
وسِخ الثَّوب وَالْقَلَانِس وَالْبِر ذَوْنِ وَالْوَجْهِ وَالْقَفَا وَالْغُلَامِ
(٢٦٦) يقول: إن قولي لا يبلغ فعل الممدوح في الشرف والرفعة، ولكنه يدل عليه، فهو بمنزلة الإشراق من الشمس. وتروى: ولكن كالشمس في الإشراق؛ أي أن قوله في فعل الممدوح الذي هو كالشمس ليس كالشمس كذلك، فيكون كفؤًا له، ولكنه بالقياس إليه كالشمس بالقياس إلى إشراقها؛ شبه قوله بالشمس وفعل الممدوح بأشعة الشمس التي تملأ الكائنات.
(٢٦٧) يقول: أنت شاعر المجد الناظم لمحاسنه العليم به وبدقائقه وأنا شاعر اللفظ، فكل واحد منا خليل الآخر، وكل واحد صاحب المعاني الدقيقة فهو يفتنن في صناعته. وأراد بالخدن نفسه؛ جعل نفسه خدنًا — صاحبًا وصديقًا — للممدوح ترفعًا وافتخارًا. ومثل هذا البيت قول أبي تمام:
غَرُبَتْ خَلائِقُهُ فَأَغْرَبَ شَاعِرٌ فِيهِ فَأَبْدَعَ مُغْرِبٌ فِي مُغْرِبِ
(٢٦٨) يقول: لم تزل تُمدح وتسمع الأشعار في مديحك؛ لأنك ملك همام كثير المداح، ولكن شعري يفضل ما سمعته كما يفضل صهيل الجياد نهيق الحمير. ولعله ينظر في هذا إلى قول خداش بن زهير:
وَلَنْ أَكُونَ كَمَنْ أَلْقَى رِحَالَتَهُ عَلَى الْحِمَارِ وَخَلَّى مَنْسِجَ الْفَرَسِ
وقول الآخر:
أَلِمِّي بِابْنِ عَمِّكِ لَا تَكُونِي كَمُخْتَارٍ عَلَى الْفَرَسِ الْحِمَارَا
(٢٦٩) يقول: إن دهرك مجدود — محظوظ — مرزوق بك، فليت لي مثل ما له من الحظ والرزق، ثم بين ذلك في البيت التالي.
(٢٧٠) يقول: كان كل عصر يشتهي بعض هذه السعادة؛ لأنه لا يطمع في كلها. ومثله لمسلم بن الوليد:
كَالدَّهْرِ يَحْسُدُ أُولَاهُ أَوَاخِرَهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ كان فِي أَعْصَارِهِ الْأُوَلِ
وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
مَضَى طَاهِرَ الْأَثْوَابِ لَمْ تَبْقَ بُقْعَةٌ غَدَاةَ ثَوَى إِلَّا اشْتَهَتْ أَنَّهَا قَبْرُ
(٢٧١) العين: الذهب. والورق: الفضة، وقيل: هي الدراهم المضروبة.
(٢٧٢) يقول: إن الذي يلومه على جوده كأنه يقول له: لم خلقت كريمًا؟ أي إنه طبع على الجود وليس ينفع اللوم على ما طبع عليه الإنسان؛ لأن المطبوع على الشيء لا يستطيع أن يحيد عنه إلى غيره، كما لا يستطيع أن يغير خلقته، والذي خَلَق خَلْقَه خلق خُلُقَه.
(٢٧٣) كان أبو العشائر بميافارقين، فضرب بيتًا على الطريق لينتابه الناس فلا يرون دونه حجابًا، فذكر ذلك أبو الطيب وقال: إن الناس قالوا: أما كفته سماحته ونداه في البلد حتى بنى بيته على الطريق للقصاد؟!
(٢٧٤) الشح: البخل. والفرق: الخوف والذعر. يقول: إن الشجاع لا يكون بخيلًا وإنما يتجنب البخل كما يتجنب الخوف؛ وذلك أن الشح خوف الفقر، والشجاع لا يفرق، كما قال الجاحظ: البخل والجبن غريزتان يجمعهما سوء الظن بالله. وهذا كما يقول أبو تمام:
وَإِذَا نَظَرْتَ أَبَا يَزِيدَ فِي وَغًى وَنَدًى وَمُبْدِيَ غَارَةٍ وَمُعِيدَا
يَقْرِي مُرَجِّيهِ مُشَاشَةَ مَالِهِ وَشبا الْأَسِنَّةِ ثُغْرَةً وَوَرِيدَا
أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ السَّمَاحِ شَجَاعَةً تُدْمِي وَأَنَّ مِنَ الشَّجَاعَةِ جُودَا
(يقري: يضيف. والمشاشة: رأس العظم الذي يمكن مضغة، والثغرة — بالضم — نقرة النحر.)
ويقول الآخر:
إِلَى جَوَادٍ يَعُدُّ الْبُخْلَ مِنْ جُبُنٍ وَبَاسِلٍ بُخْلُهُ يَعْتَدُّهُ جُبْنَا
يَلْقَى الْعُفَاةَ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ أَمَلٍ قَبْلَ السُّؤَالِ وَلَا يَبْغِي بِهِ ثَمَنَا
(٢٧٥) الهام: الرءوس. والكماة: جمع كمي؛ الشجاع المستتر في سلاحه. يقول: إن كل أحد يحبه لشجاعته كما يحب من يتملق الناس ويلين لهم ويتودد إليهم فتم له بضرب الهام ما يكسبه المتملق، كما قال:
وَمِنْ شَرَفِ الْإِقْدَامِ أَنَّكَ فِيهِمُ عَلَى الْقَتْلِ مَوْمُوقٌ كَأَنَّكَ شَاكِدُ
(شكده: أعطاه أو منحه.)
(٢٧٦) يقول: إنه لم يكن قبل ذلك مستتر الجود ولا محجبًا عن القصاد كالشمس مع بعدها يراها كل راءٍ.
(٢٧٧) يقول: كن أيها الجود بحرًا ذا لجة مهلكًا، فهو لا يخاف الفقر ولا يقدر على إغراقه بالفقر؛ لأن سيفه قد آمنه من ذلك، لأنه كلما أعطى سؤاله وقصاده مالًا أخذ له سيفه أضعاف ذلك. وهذا كقوله:
فَالسِّلْمُ يَكْسِرُ مِنْ جَنَاحَيْ مَالِهِ بِنَوَالِهِ مَا تَجْبُرُ الْهَيْجَاءُ
وقيل المعنى: كن أيها الجود بحرًا إن شئت فإنه لا يخاف أن يغرق؛ لأن سيفه أعطاه الأمان من كل تهلكة، يريد أنه مع سماحته شجاع حتى لو صار الجود تهلكة ما خافه.
No comments:
Post a Comment