شرح ديوان المتنبي
قافية الفاء
وقال وقد سأله سيف الدولة عن وصف فرس يهديه إليه:
مَوْقِعُ الْخَيْلِ مِنْ نَدَاكَ طَفِيفُ وَلوَ انَّ الْجِيَادَ فِيهَا أُلُوفُ١
وَمِنَ اللَّفْظِ لَفْظَةٌ تَجْمَعُ الْوَصـْ ـفَ وَذَاكَ الْمُطَهَّمُ الْمَعْرُوفُ٢
مَا لَنَا فِي النَّدَى عَلَيْكَ اخْتِيَارٌ كُلُّ مَا يَمْنَحُ الشَّرِيفُ شَرِيفُ٣
وأهدى إليه رجل يعرف بأبي دلف بن كنداج هدية وهو معتقل بحمص، وكان قد بلغه أنه ثلبه عند الوالي الذي اعتقله. فكتب إليه من السجن:٤
أَهْوِنْ بِطُولِ الثَّوَاءِ وَالتَّلَفِ وَالسِّجْنِ وَالْقَيْدِ يَا أَبَا دُلَفِ!٥
غَيْرَ اخْتِيَارٍ قَبِلْتُ بِرَّكَ بِي وَالْجُوعُ يُرْضِي الْأُسُودَ بِالْجِيَفِ٦
كُنْ أيُّهَا السِّجْنُ كَيْفَ شِئْتَ فَقَدْ وَطَّنْتُ لِلْمَوْتِ نَفْسَ مُعْتَرِفِ٧
لَوْ كَانَ سُكْنَايَ فِيكَ مَنْقَصَةً لَمْ يَكُنِ الدُّرُّ سَاكِنَ الصَّدَفِ٨
وقال يمدح أبا الفرج أحمد بن الحسين القاضي:
لِجِنِّيَّةٍ أَمْ غَادَةٍ رُفِعَ السَّجْفُ؟ لِوَحْشِيَّةٍ لَا مَا لِوَحْشِيَّةٍ شَنْفُ٩
نَفُورٌ عَرَتْهَا نَفْرَةٌ فَتَجَاذَبَتْ سَوَالِفُهَا وَالْحَلْيُ وَالْخَصْرُ وَالرِّدْفُ١٠
وَخُيِّلَ مِنْهَا مِرْطُهَا فَكَأَنَّمَا تَثَنَّى لَنَا خُوطٌ وَلَاحَظَنَا خِشْفُ١١
زِيَادَةُ شَيْبٍ وَهْيَ نَقْصُ زِيَادَتِي وَقُوَّةُ عِشْقٍ وَهْيَ مِنْ قُوَّتِي ضَعْفُ١٢
هَرَاقَتْ دَمِي مَنْ بِي مِنَ الْوَجْدِ مَا بِهَا مِنَ الْوَجْدِ بِي وَالشَّوْقُ لِي وَلَهَا حِلْفُ١٣
وَمَنْ كُلَّمَا جَرَّدْتَهَا مِنْ ثِيَابِهَا كَسَاهَا ثِيَابًا غَيْرَهَا الشَّعَرُ الْوَحْفُ١٤
وَقَابَلَنِي رُمَّانَتَا غُصْنِ بَانَةٍ يَمِيلُ بِهِ بَدْرٌ وَيُمْسِكُهُ حِقْفُ١٥
أَكَيْدًا لَنَا يَا بَيْنُ وَاصَلْتَ وَصْلَنَا فَلَا دَارُنَا تَدْنُو وَلَا عَيْشُنَا يَصْفُو؟١٦
أُرَدِّدُ: وَيْلِي! لَوْ قَضَى الْوَيْلُ حَاجَةً وَأُكْثِرُ: لَهْفِي! لَوْ شَفَى غُلَّةً لَهْفُ١٧
ضَنًى فِي الْهَوَى كَالسُّمِّ فِي الشَّهْدِ كَامِنًا لَذِذْتُ بِهِ جَهْلًا وَفِي اللَّذَّةِ الْحَتْفُ١٨
فَأَفْنَى وَمَا أَفْنَتْهُ نَفْسِي كَأَنَّمَا أَبُو الْفَرَجِ الْقَاضِي لَهُ دُونَهَا كَهْفُ١٩
قَلِيلُ الْكَرَى لَوْ كَانَتِ الْبِيضُ وَالْقَنَا كَآرَائِهِ مَا أَغْنَتِ الْبَيضُ وَالزَّعْفُ٢٠
يَقُومُ مَقَامَ الْجَيْشِ تَقْطِيبُ وَجْهِهِ وَيَسْتَغْرِقُ الْأَلْفَاظَ مِنْ لَفْظِهِ حَرْفُ٢١
وَإِنْ فَقَدَ الْإِعْطَاءَ حَنَّتْ يَمِينُهُ إِلَيْهِ حَنِينَ الْإِلْفِ فَارَقَهُ الْإِلْفُ٢٢
أَدِيبٌ رَسَتْ لِلْعِلْمِ فِي أَرْضِ صَدْرِهِ جِبَالٌ جِبَالُ الْأَرْضِ فِي جَنْبِهَا قُفُّ٢٣
جَوَادٌ سَمَتْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَفُّهُ سُمُوًّا أَوَدَّ الدَّهْرَ أَنَّ اسْمَهُ كَفُّ٢٤
وَأَضْحَى وَبَيْنَ النَّاسِ فِي كُلِّ سَيِّدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا فِي سِيَادَتِهِ خَلْفُ٢٥
يُفَدُّونَهُ حَتَّى كَأَنَّ دِمَاءَهُمْ لِجَارِي هَوَاهُ فِي عُرُوقِهِمْ تَقْفُو٢٦
وُقُوفَيْنِ فِي وَقْفَيْنِ؛ شُكْرٍ وَنَائِلٍ فَنَائِلُهُ وَقْفٌ وَشُكْرُهُمْ وَقْفُ٢٧
وَلَمَّا فَقَدْنَا مِثْلَهُ دَامَ كَشْفُنَا عَلَيْهِ فَدَامَ الْفَقْدُ وَانْكَشَفَ الْكَشْفُ٢٨
وَمَا حَارَتِ الْأَوْهَامُ فِي عُظْمِ شَأْنِهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا حَارَ فِي حُسْنِهِ الطَّرْفُ٢٩
وَلَا نَالَ مِنْ حُسَّادِهِ الْغَيْظُ وَالْأَذَى بِأَعْظَمَ مِمَّا نَالَ مِنْ وفْرِهِ الْعُرْفُ٣٠
تَفَكُّرُهُ عِلْمٌ وَمَنْطِقُهُ حُكْمٌ وَبَاطِنُهُ دِينٌ وَظَاهِرُهُ ظَرْفُ٣١
أَمَاتَ رِيَاحَ اللُّؤْمِ وَهْيَ عَوَاصِفٌ وَمَغْنَى الْعُلَا يُودِي وَرَسْمُ النَّدَى يَعْفُو٣٢
فَلَمْ نَرَ قَبْلَ ابْنِ الْحُسَيْنِ أَصَابِعًا إِذَا مَا هَطَلْنَ اسْتَحْيَتِ الدِّيَمُ الْوُطْفُ٣٣
وَلَا سَاعِيًا فِي قُلَّةِ الْمَجْدِ مُدْرِكًا بِأَفْعَالِهِ مَا لَيْسَ يُدْرِكُهُ الْوَصْفُ٣٤
وَلَمْ نَرَ شَيْئًا يَحْمِلُ الْعِبْءَ حَمْلَهُ وَيَسْتَصْغِرُ الدُّنْيَا وَيَحْمِلُهُ طِرْفُ٣٥
وَلَا جَلَسَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ لِقَاصِدٍ وَمِنْ تَحْتِهِ فَرْشٌ وَمِنْ فَوْقِهِ سَقْفُ٣٦
فَوَا عَجَبًا مِنِّي أُحَاوِلُ نَعْتَهُ وَقَدْ فَنِيَتْ فِيهِ الْقَرَاطِيسُ وَالصُّحْفُ!٣٧
وَمِنْ كَثْرَةِ الْأَخْبَارِ عَنْ مَكْرُمَاتِهِ يَمُرُّ لَهُ صِنْفٌ وَيَأْتِي لَهُ صِنْفُ٣٨
وَتَفْتَرُّ مِنْهُ عَنْ خِصَالٍ كَأَنَّهَا ثَنَايَا حَبِيبٍ لَا يُمَلُّ لَهَا رَشْفُ٣٩
قَصَدْتُكَ وَالرَّاجُونَ قَصْدِي إِلَيْهِمْ كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ كَالذَّنَبِ الْأَنْفُ٤٠
وَلَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالتِّبْرُ وَاحِدٌ نَفُوعَانِ لِلْمُكْدِي وَبَيْنَهُمَا صَرْفُ٤١
وَلَسْتَ بِدُونٍ يُرْتَجَى الْغَيْثُ دُونَهُ وَلَا مُنْتَهَى الْجُودِ الَّذِي خَلْفَهُ خَلْفُ٤٢
وَلَا وَاحِدًا فِي ذَا الْوَرَى مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَا الْبَعْضُ مِنْ كُلٍّ وَلَكِنَّكَ الضِّعْفُ٤٣
وَلَا الضِّعْفَ حَتَّى يَتْبَعَ الضِّعْفَ ضِعْفُهُ وَلا ضِعْفَ ضِعْفِ الضِّعْفِ بَلْ مِثلَهُ أَلْفُ٤٤
أَقَاضِيَنَا هَذَا الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ غَلِطْتُ وَلَا الثُّلْثَانِ هَذَا وَلَا النِّصْفُ٤٥
وَذَنْبِي تَقْصِيرِي وَمَا جِئْتُ مَادِحًا بِذَنْبِي وَلَكِنْ جِئْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَعْفُو٤٦
وأخرج له أبو العشائر جوشنًا حسنًا٤٧ فقال كيف تراه فقال مرتجلًا:
بِهِ وَبِمِثْلِهِ شُقَّ الصُّفُوفُ وَزَلَّتْ عَنْ مُبَاشِرِهِ الْحُتُوفُ٤٨
فَدَعْهُ لَقًى فَإِنَّكَ مِنْ كِرَامٍ جَوَاشِنُهَا الْأَسِنَّةُ وَالسُّيُوفُ٤٩
وكان أبو العشائر قد غضب على أبي الطيب فأرسل غلمانًا له ليوقعوا به فلحقوه بظاهر حلب ليلًا فرماه أحدهم بسهم، وقال: خذه وأنا غلام أبي العشائر، فقال أبو الطيب:٥٠
وَمُنْتَسِبٍ عِنْدِي إِلَى مَنْ أُحِبُّهُ وَلِلنَّبْلِ حَوْلِي مِنْ يَدَيْهِ حَفِيفُ٥١
فَهَيَّجَ مِنْ شَوْقِي وَمَا مِنْ مَذَلَّةٍ حَنَنْتُ وَلَكِنَّ الْكَرِيمَ أَلُوفُ٥٢
وَكُلُّ وِدَادٍ لَا يَدُومُ عَلَى الْأَذَى دَوَامَ وِدَادِي لِلْحُسَيْنِ ضَعِيفُ٥٣
فَإِنْ يَكُنِ الْفِعْلُ الَّذِي سَاءَ وَاحِدًا فَأَفْعَالُهُ اللَّائِي سَرَرْنَ أُلُوفُ٥٤
وَنَفْسِي لَهُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِنَفْسِهِ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِينَ عَنِيفُ٥٥
وقال في عبده إذ أخذ فرسه وأراد قتله:
أَعْدَدْتُ لِلْغَادِرِينَ أَسْيَافًا أَجْدَعُ مِنْهُمْ بِهِنَّ آنَافَا٥٦
لَا يَرْحَمُ اللهُ أَرْؤُسًا لَهُمْ أَطَرْنَ عَنْ هَامِهِنَّ أَقْحَافَا٥٧
مَا يَنْقِمُ السَّيْفُ غَيْرَ قِلَّتِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ الْمِئُونَ آلَافَا٥٨
يَا شَرَّ لَحْمٍ فَجَعْتُهُ بِدَمٍ وَزَارَ لِلْخَامِعَاتِ أَجْوَافَا٥٩
قَدْ كُنْتَ أُغْنِيتَ عَنْ سُؤَالِكَ بِي مَنْ زَجَرَ الطَّيْرَ لِي وَمَنْ عَافَا٦٠
وَعَدْتُ ذَا النَّصْلَ مَنْ تَعَرَّضَهُ وَخِفْتُ لَمَّا اعْتَرَضْتَ إِخْلَافَا٦١
لَا يُذْكَرُ الْخَيْرُ إِنْ ذُكِرْتَ وَلا تُتْبِعُكَ الْمُقْلَتَانِ تَوْكَافَا٦٢
إِذَا امْرُؤٌ رَاعَنِي بِغَدْرَتِهِ أَوْرَدْتُهُ الْغَايَةَ الَّتِي خَافَا٦٣
هوامش
(١) الطفيف: القليل الحقير، من قولهم: طف له الشيء، وأطف، واستطف: إذا أمكن، فالطفيف: الممكن غير المتعذر. يقول: إن عطاياك من الكثرة بحيث يعد ما أهديته من الخيل بالقياس إليها نزرًا قليلًا، ولو كان في الخيل التي تهبها ألوف من الجياد.
(٢) المطهم: التام الجمال. يقول: إن من الألفاظ التي توصف بها الخيل لفظة واحدة تجمع أوصافها، وتلك اللفظة هي لفظة المطهم. يعني أنك أمرتني أن أختار وصف فرس تهبه إليَّ، والذي أختاره هو المطهم، وهو المعروف عند أهله؛ أي إنه متى أطلق عند أرباب الخيل عرف أن ما يوصف به هو التام المحاسن الخالي من العيوب. والإشارة بقوله: وذاك، إلى الوصف؛ لأن المطهم وصف.
(٣) يقول: إنك سألتني الوصف، فذكرت وصفًا واحدًا امتثالًا لأمرك، فأما الذي عندي فهو أنَّا لا اختيار لنا عليك فيما تهب؛ لأن ما تمنحه جليل شريف؛ لأنك جليل شريف.
(٤) كان أبو دلف هذا سجان الوالي الذي اعتقله وكان صديقًا له من قبل. قال صاحب «الصبح المنبي»: لما اشتهر أمر المتنبي، وشاع ذكره، وخرج بأرض سلمية — من عمل حمص في بني عدي — قبض عليه ابن علي الهاشمي في قرية يقال لها: «كوتكين» وجعل في رجله وعنقه خشبتين من خشب الصفصاف، فقال المتنبي:
زَعَمَ الْمُقِيمُ بِكُوتَكِينَ بِأَنَّهُ مِنْ آلِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
فَأَجَبْتُهُ مُذْ صِرْتَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ صَارَتْ قُيُودُهُمُ مِنَ الصَّفْصَافِ
ولما طال اعتقاله في الحبس كتب إلى الوالي:
بِيَدِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ الْأَرِيبُ لَا لِشَيْءٍ إِلَّا لِأَنِّي غَرِيبُ
أَوْ لِأُمٍّ لَهَا إِذَا ذَكَرَتْنِي دَمُ قَلْبٍ بِدَمْعِ عَيْنٍ يَذُوبُ
إِنْ أَكُنْ قَبْلَ أَنْ رَأَيْتُكَ أَخْطَأْ تُ فَإِنِّي عَلَى يَدَيْكَ أَتُوبُ
عَائِبٌ عَابَنِي لَدَيْكَ وَمِنْهُ خُلِقَتْ فِي ذَوِيِ الْعُيُوبِ الْعُيُوبُ
وهاتان القطعتان ليستا في الديوان وتجدهما في التذييل.
(٥) أهون بكذا: أي ما أهونه، صيغة تعجب. والثواء: الإقامة؛ يريد مقامه في السجن. يقول: ما أهون عليَّ هذه الأشياء! أي إني وطنت نفسي عليها، ومن وطن نفسه على شيء هان عليه — وإن اشتد — كما قال كُثَيِّر:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ
ولأنه شجاع قوي القلب صبور لا يهوله ذلك.
(٦) غير اختيار: حال. والمصدر: في تأويل اسم الفاعل. والبر: الإحسان؛ يعني به الهدية. وكان أبو دلف هذا قد بر المتنبي وهو في السجن وأهدى إليه هدية.
يقول: قبلت برك بي اضطرارًا — لا اختيارًا — لاحتياجي إليه، كالأسد يرضى بأكل الجيف إذا لم يجد غيرها لحمًا. وفي مثل هذا يقول المهلبي الوزير:
مَا كُنْتَ إِلَّا كَلَحْمِ مَيْتٍ دَعَا إِلَى أَكْلِهِ اضْطِرَارُ
ومثله لأبي على البصير:
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا انْتَسَبَ الْمُعَلَّى إِلَى كَرَمٍ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ
ومثله قول الآخر:
فَلَا تَحْمَدُونِي فِي الزِّيَارَةِ إِنَّنِي أَزُورُكُمُ إِذْ لَا أَرَى مُتَعَلَّلَا
ومثله:
خُذْ مَا أَتَاكَ مِنَ اللِّئَا مِ إِذَا نَأَى أَهْلُ الْكَرَمْ
فَالْأُسْدُ تَفْتَرِسُ الْكِلَا بَ إِذَا تَعَذَّرَتِ الْغَنَمْ
(٧) المعترف: الصابر على ما يصيبه. ووطن نفسه: مهدها وذللها. يقول — للسجن: كن كيف شئت من الشدة، فإني صابر عليك.
(٨) السكنى: اسم بمعنى السكون. يقول: لو كان نزولي فيك يلحق بي نقصًا لما كان الدر على شرف قدره ساكنًا في الصدف الذي لا قدر له؛ شبه نفسه في السجن بالدر في الصدف. قالوا: وهو من قول أبي هفان.
تَعَجَّبَتْ دُرُّ مِنْ شَيْبِي فَقُلْتُ لَهَا: لَا تَعْجَبِي فَطُلُوعُ الْبَدْرِ فِي السُّدَفِ
وَزَادَهَا عَجَبًا أَنْ رُحْتُ فِي سَمَلٍ وَمَا دَرَتْ دُرُّ أَنَّ الدُّرَّ فِي الصَّدَفِ
(٩) لجنية: أراد ألجنية؟ فحذف همزة الاستفهام. وقد جاء مثله في الشعر، أنشد سيبويه للأسود بن يعفر:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا شُعَيْثُ ابْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ ابْنُ مِنْقَرِ؟
(يقول: ما أدري أشعيث من بني سهم أم هم من بني منقر؟ وشعيث حي من تميم ثم من بني منقر، فجعلهم أدعياء، وشك في كونهم منهم أو من بني سهم، وسهم هنا حي من قيس. قال الشنتمري: ويروى شعيب — بالباء — وهو تصحيف.)
ولعمر بن أبي ربيعة:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ؟
(يقول: ألهاني النظر إليهن واشتغال البال بهن عن تحصيل رميهن الجمار ﺑ «منى» وعلم عدد المرات: أهي سبع أم ثمانٍ؟)
والغادة والغيداء: المرأة الناعمة. والسجف: جانب الستر إذا كان بنصفين. وقوله: لوحشية: يجوز أن يكون استفهامًا — كالأول — ويجوز أن يكون جوابًا لنفسه، كأنه قال: ليس لجنية ولا لغادة، بل هو لوحشية؛ أي لظبية وحشية. ثم رجع منكرًا على نفسه فقال: ما لوحشية شنف، والشنف: ما يعلق في أعلى الأذن. يعني أن السجف الذي رفع إنما رفع لإنسية؛ لأن عليها شنوفًا، والوحشية لا شنف لها؛ يتعجب من محاسن المحبوبة يقول: هذه التي رفع لها السجف جنية أم امرأة حسناء؟ والعرب إذا بالغت في مدح شيء جعلته من الجن، كما قال قائلهم:
جِنِّيَّةٌ أَوْ لَهَا جِنٌّ يُعَلِّمُهَا رَمْيَ الْقُلُوبِ بِقَوْسٍ مَا لَهَا وَتَرُ
(١٠) السوالف: جمع سالفة؛ صفحة العنق. وعرتها: أصابتها. والمراد بالحلي هنا: عقدها. يقول: هي نفور طبعًا وأصابتها نفرة حادثة فاجتمعت نفرتان؛ نفرة أصلية، ونفرة من رؤية الرحال فتجاذبت سوالفها والحلي. يعني أن العقد الذي كانت تتحلى به جذب عنقها بثقله، والعنق أمسكه، فحصل التجاذب، وردفها يجذب خصرها لعظم الردف ودقة الخصر. هذا، والحَلْيُ: مفرد حِليٍّ وحُلِيٍّ.
(١١) المرط: كساء من صوف أو خز. وخيل منها مرطها: أي مُثِّلَها — من قوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ أي يرون ذلك كالخيال. فالجار من قوله «منها»: زائد، كما في قولهم: جاء يهز من عطفيه. والخوط: الغصن. والخشف: ولد الظبية. يقول. إن مرطها — ثوبها — أرانا ومثل لنا صورتها لدى تلك النفرة، فإذا هي كغصن بان يتثنى، وظبي يرنو — ينظر — وخص القامة واللحظ لأن المرط ستر محاسنها ولم يستر القد ولا اللحظ. وروى ابن جني: وخبل — بالباء الموحدة — والمخبل: الذي قطعت يداه، هذا أصله. والمراد أن مرطها ستر محاسنها، فكأن ذلك خبل منه لها. قالوا: وهو ينظر إلى قول ابن الرومي:
إِنْ أَقْبَلَتْ فَالْبَدْرُ لَاحَ وَإِنْ مَشَتْ فَالْغُصْنُ مَالَ وَإِنْ رَنَتْ فَالرِّيمُ
(١٢) يقول: حالي — أو شأني — زيادة شيب، وهذه الزيادة على الحقيقة نقص زيادتي؛ أي نقص ما ازددت من الشباب، وقوة عشق، وهذه القوة ضعف؛ أي كلما قوي العشق ضعفت قوة البدن، كما قال القائل:
وَأُسَرُّ فِي الدُّنْيَا بِكُلِّ زِيَادَةٍ وَزِيَادَتِي فِيهَا هُوَ النَّقْصُ
وكما قال المتنبي — وقد تقدم:
مَتَى مَا ازْدَدْتُ مِنْ بَعْدِ التَّنَاهِي فَقَدْ وَقَعَ انْتِقَاصِي فِي ازْدِيَادِي
(١٣) هراقت: أراقت، والهاء: بدل من الهمزة. والحلف: الملازم. يقول: أراقت دمي بحبها تلك التي أجد بها من الحب ما تجد بي والشوق لي ولها ملازم؛ أي إني أحبها كما تحبني، وأشتاق إليها كما تشتاق لي. قال ابن جني: لو أمكنه أن يقول: بي من الوجد بها ما بها من الوجد بي لكان أشد اعتدالًا، لكنه — للوزن — حذف بعضه للعلم. كما قال أبو تمام:
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْبِلَادَ رَأَيْتَهَا تُثْرِي كَمَا تُثْرِي الرِّجَالُ وَتَعْدِمُ
أراد كما يعدمون، فحذف.
(١٤) الوحف: الكثير الملتف. يقول: إن لها من الشعر الكثيف الملتف ما يقوم لها في سترها إذا عريت من الثوب مقام الثوب، وهذا ينظر إلى قول القائل:
رَأَتْ عَيْنَ الرَّقِيبِ عَلَى تَدَانٍ فَأَسْبَلَتِ الظَّلَامَ عَلَى الضِّيَاءِ
(١٥) الحقف: ما اعوج من الرمل. وأراد بالرمانتين: ثدييها، وبالغصن: قدها، وبالبدر: وجهها، وبالحقف: ردفها. يعني: إنها قامت عند الوداع بحذائي فقابلني من ثدييها رمانتان على قدٍّ كالغصن يميله وجه كالبدر. والمعنى أنها إذا قصدت شيئًا بوجهها مالت إليه نحو الوجه، فكأن وجهها يميل قامتها، ثم يمسك الردف بثقله قامتها الخفيفة، فلا تقدر على سرعة الحركة.
(١٦) أكيدًا: أي أتكيد كيدًا؟ فهو منصوب على المصدر. يقول: أتكيد لنا أيها البين — البعد — فتواصل وصلنا؛ أي تلازمه؟ أي كلما تواصلنا تعرض لنا فتفرقنا فلا تدنو لنا دار ولا يصفو لنا عيش؟ ومثله للبحتري:
فَوَا أَسَفَى لَوْ قَاتَلَ الْأَسَفُ الْجَوَى وَلَهْفِي لَوَ انَّ اللَّهْفَ مِنْ ظَالِمِي يُجْدِي!
(١٧) ويل: كلمة يقولها كل واقع في هلكة. واللهف: التحسر على ما فات. والغلة: العطش وحرارة الجوف. يقول: إني أكثر القول بهاتين الكلمتين لو نفع القول بهما وترديدي إياها، وهذا على حكاية ما كان يقول.
(١٨) ضنًى: مبتدأ محذوف الخبر؛ أي بي ضنى، وهو شبه الهزال من المرض. وكامنًا: حال من السم. وجهلًا: مفعول له. والحتف: الموت. يقول: بي ضنًى مستتر كما يكمن السم في الشهد — العسل — إذا مزج به، وقد استلذذت الهوى جهلًا بذلك الضنى وحتفي في تلك اللذة.
(١٩) فأفنى: أي الضنى. والكهف هنا: الملجأ، ففاعل أفنى: ضمير الضنى. وفي الكلام تنازع: لك أن تجعل نفسي فاعل أفنت، فيكون مفعول أفنى ضميرها محذوفًا لتأخر مرجعه لفظًا ونية؛ أي فأفناها، وما أفنته نفسي. ولك أن تجعلها مفعول أفنى، فيكون فاعل أفنت ضميرها مستترًا. وكهف: خبر عن «أبو الفرج». وله: حال مقدمة عن كهف. والضمير: للضنى. ودونها: صلة كهف. يقول: فأفنى الضنى نفسي وما أفنيته، كأن الممدوح كهف له دون نفسي فليست تقدر على إفنائه. وهذا من حسن التخلص.
(٢٠) الكرى: النوم. والبيض الأولى بكسر الباء: السيوف. والثانية بفتح الباء: جمع بيضة؛ الخوذة من حديد. والقنا: الرماح. والزعف: جمع زعفة، الدرع اللينة. يقول: هو قليل النوم لاشتغاله بتدبير الحكم وسياسة الدولة وبما يعمل على حصوله من المجد والعلاء، وهو نافذ الآراء حتى لو كانت السيوف والرماح كآرائه في النفاذ لما أغنت الدروع والخوذ عن أصحابها شيئًا. وفي مثل هذا المعنى يقول أبو تمام:
يَقْظَانُ أَحْصَدَتِ التَّجَارِبُ عَقْدَهُ شَزْرًا وَثُقِّفَ عَزْمُهُ تَثْقِيفَا
وَاسْتَلَّ مِنْ آرَائِهِ الشُّعَلَ الَّتِي لَوْ أَنَّهُنَّ طُبِعْنَ كُنَّ سُيُوفَا
(٢١) يقال: قطب وجهه: إذا جمع ما بين عينيه عبوسًا. يقول: هو مهيب إذا عبس رَوَّع الناس غضبه فلجئوا إلى الطاعة فقام ذلك مقام الجيش، وإذا قال قام القليل من كلامه مقام الخطب الطوال، فهو لبلاغته يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة. وفي مثل هذا يقول البحتري:
وَإِذَا خِطَابُ الْقَوْمِ فِي الْخَطْبِ اعْتَلَى فَصَلَ الْقَضِيَّةَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْرُفِ
(٢٢) يقول: ألفت يده الإعطاء حتى لو لم يعطِ لاشتاقت يده إلى الإعطاء كما يحن الإلف إلى الإلف إذا فارقه. وفي مثله يقول أبو تمام:
وَاجِدٌ بِالْعَطَاءِ مِنْ بُرَحَاءِ الشَّوْ قِ وِجْدَانَ غَيْرِهِ بِالْحَبِيبِ
ويقول غيره:
يَحِنُّ إِلَى الْمَعْرُوفِ حَتَّى يُنِيلَهُ كَمَا حَنَّ إِلْفٌ مُسْتَهَامٌ إِلَى إِلْفِ
(٢٣) رست: ثبتت. والقف: الغليظ من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلًا، واستعار لعلمه اسم الجبال؛ لكثرة علمه وزيادته على علم الناس وشدة رسوخه ومتانته، ولما استعار له اسم الجبال استعار لصدره الأرض؛ لأن الجبال تكون على الأرض ثم فضَّلها على جبال الأرض فضل الجبال على القفاف، يعني أن جبال الأرض تصغر في جنب جبال العلم التي في صدره.
(٢٤) الجواد: الكريم المعطاء. وسمت: علت وارتفعت. وأود الدهر: حمله على أن يود ويتمنى. والدهر: وعاء الخير والشر، والعرب تعزو إليه ما يوجد فيه. يقول: إن لكفه الذكر العالي في كل خير لأوليائه وشر لأعدائه؛ لأنهما يصدران منه، حتى إن الدهر يتمنى أن يسمى كفًّا ليشارك كفه — الذي هو مجمع الخير والشر — في الاسم، فيسمى الكف ولا يسمى الدهر؛ لأن كفه أغلب فيهما من الدهر.
(٢٥) أضحى هنا: تامة. والخلف: الاختلاف. وخلف: مبتدأ، خبره: بين الناس، والجملة: حال. يقول: أضحى والناس مجمعون على سيادته لا يدافع في ذلك اثنان، أما سيادة غيره ففيها اختلاف.
(٢٦) تقفو: تتبع. يقول: من حب النفس إياه يقولون له: نفديك بأنفسنا، فكأن هواه جرى أولًا في عروقهم قبل الدم ثم تبعه الدم؛ أي إن حب الناس إياه أشد من حبهم أنفسهم. قالوا: إنه ينظر إلى قول أبي تمام:
لَوْ أَنَّ إِجْمَاعَنَا فِي فَضْلِ سُؤْدُدِهِ فِي الدِّينِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي الْمِلَّةِ اثْنَانِ
وقول البحتري:
وَأَرَى النَّاسَ مُجْمِعِينَ عَلَى فَضـْ ـلِكَ مَا بَيْنَ سَيِّدٍ وَمُسَوَّدِ
(٢٧) وقوفين: نصب على الحال منه ومن الناس، والعامل فيه يفدونه، كما تقول: رأيتك راكبين؛ أي أنا راكب وأنت راكب. وأراد بالوقوف: الواقف؛ مصدر يوصف به الواحد والجمع. والوقف: ما حبس على جهة مخصوصة. وشكر: بدل تفصيل من وقفين. ونائل: عطف عليه، والنائل: العطاء. يقول: إن الناس والممدوح فريقان واقفان في شيئين وقفين — محبوسين — أحدهما على الناس منه وهو العطاء، والثاني على الممدوح من الناس وهو الثناء. يعني أنه أبدًا يعطي والناس أبدًا يشكرونه، وفي مثل هذا يقول البحتري:
أَعِيَالٌ لَهُمْ بَنُو الْأَرْضِ أَمْ مَا لُهُمْ رَاتِبٌ عَلَى النَّاسِ وَقْفُ؟
ويقول ابن الرومي:
أَمْوَالُهُ وَقْفٌ عَلَى تَنْقِيلِنَا وَثَنَاؤُنَا وَقْفٌ عَلَى تَحْقِيقِهِ
[تنقيلنا: إصلاحنا، من نقل الخف أو النعل: رقعه وأصلحه.]
(٢٨) كشفنا: بحثنا. والضمير في عليه للمثل. يقول: لما لم نجد مثله في المجد والسخاء جعلنا نبحث عن أحد يشاكله، وحاولنا ذلك واستفرغنا الجهد فدام الفقد: أي لم نجد أحدًا، وانكشف: افتضح أو زال وبطل الكشف أي البحث؛ لأنا يئسنا من وجود مثله فهو منقطع النظير.
(٢٩) يقول: حارت الأوهام في عظم شأنه، والطرف — النظر — في حسنه وجماله، وليست حيرة الأوهام بأكثر من حيرة الطرف؛ أي إنه بلغ الغاية في العظمة والحسن.
(٣٠) الوفر: المال. والعرف: الجود واصطناع المعروف. يقول: إن الحسد قد نال من حساده وأثر فيهم نقصًا وهزالًا كما نال عطاؤه من ماله ونقصه، وليس ذلك النقصان بأكثر من هذا. ومثله لديك الجن:
فَعَلَتْ مُقْلَتَاك بِالصَّبِّ مَا تَفـْ ـعَلُ جَدْوَى الْأَمِيرِ بِالْأَمْوَالِ
(٣١) يقول: إذا فكر فإنما يفكر في العلم، وإذا نطق نطق بالحكمة، وباطنه ينطوي على الدين ويظهر للناس الظَّرْفَ والكِياسة ومحاسن الأخلاق. قال الخريمي:
فَتًى جَهْرُهُ ظَرْفٌ وَبَاطِنُهُ تُقًى تَزَيَّنَ مَا يُخْفِي بِصَالِحِ مَا يُبْدِي
قال ابن جني: هذه القصيدة من الضرب الأول من الطويل، وعروض الطويل أبدًا تجيء مقبوضة على مفاعلن، إلا أن يصرع البيت ويكون ضربه مفاعيلن أو فعولن فيتبع العروض الضرب، وليس هذا البيت مصرعًا، وقد جاء عروضه على مفاعيلن، وهو تخليط منه. وأقرب ما يصرف إليه أن يقال: إنه رد مفاعل إلى أصلها، وهي مفاعيلن لضرورة الشعر، كما أن للشاعر إظهار التضعيف وصرف ما لا ينصرف وإجراء المعتل مجرى الصحيح وقصر الممدود ونحو ذلك مما ترد فيه الأشياء إلى أصولها. قال الواحدي: ولو هو قال: ومنطقه هدى أو تقى، لصح الوزن.
(٣٢) اللؤم: ضد الكرم؛ أي الخسة. والمغنى: المنزل. ويودي: يهلك. والرسم: أثر الديار. ويعفو: ينمحي. والواو — في قوله: ومغنى العلا — واو الحال. ولما استعار للُّؤم رياحًا استعار للعلا مغنى وللندى رسمًا. إذ إن الرياح تعفو الرسوم وتمحو المغاني. يقول: سَكَّن الممدوحُ رياحَ اللؤم بعد شدة هبوبها عن مغنى العلا ورسم الندى وقد كادت تعفوهما وتذهب بهما. أي إن اللؤم كاد يغلب العلا والجود أذهب بكرمه قوة اللؤم.
(٣٣) هطلت السماء. اشتد انصباب مائها. والوطف: جمع الوطفاء؛ وهي السحابة المسترخية الجوانب لكثرة مائها. والديم: جمع الديمة؛ وهي المطر يدوم أيامًا. يقول: لم يُرَ قبل هذا الممدوح أحد إذا أعطى استحيت السحب وخجلت من عطائه.
وفي هذا يقول أبو نواس:
إِنَّ السَّحَابَ لَتَسْتَحْيِي إِذَا نَظَرَتْ إِلَى نَدَاكَ فَقَاسَتْهُ بِمَا فِيهَا
(٣٤) قلة المجد: أعلاه، يقول: إن الممدوح أدرك بمساعيه الجسام وأفعاله الضخام في قلة المجد ما لا يدركه الوصف، وقد انفرد بذلك دون غيره.
(٣٥) العبء: الحمل الثقيل، وحمله: مفعول مطلق. والطرف: الفرس الكريم. يقول: إنه يحمل من أثقال المهمات ما لا يستطيع غيره حمله ويرى الدنيا صغيرة، وهو مع ذلك يحمله طرف؛ وذلك لعظمة نفسه، وبعد مرتقى همته وقوة نجدته، إذ العبرة بذلك لا ببسطة الجسم.
(٣٦) جعله كالبحر المحيط بالدنيا في كثرة عطاياه وغزارة نداه. يقول: لم يجلس قبله البحر لمن يقصده ومن تحته فرش يقله ومن فوقه سقف يظله.
(٣٧) الضمير من «فيه» للنعت. والقراطيس: جمع قرطاس؛ الورق. والصحف: جمع الصحيفة؛ الكتاب. يقول: أعجب من نفسي كيف أحاول أن أبلغ وصفه وقد وصفه غيري حتى فنيت القراطيس والصحف ولم يستوفِ حقه؟ وفي مثل هذا المعنى يقول أبو تمام:
تَرَكْتَهُمْ سِيَرًا لَوْ أَنَّهَا كُتِبَتْ لَمْ تُبْقِ فِي الْأَرْضِ قِرْطَاسًا وَلَا قَلَمَا
(٣٨) يقول: إن أخبار مكرماته كثيرة متوافرة لا حد لها؛ ولذلك تتجدد، يمر صنف منها ويأتي غيره، وهكذا حتى لا آخر لها. ويجوز أن يكون الصنف من القصاد الذين يقصدونه: أي لكثرة ما يسمعون من تلك الأخبار يمر صنف قد صدروا عنه ويأتي صنف يقصدونه، وقوله: له؛ أي لأجله.
(٣٩) وتفتر: أي الأخبار؛ أي تسفر وتنجلي، وأصله الابتسام إذا بدت له الأسنان. والثنايا: الأسنان في مقدم الفم. والرشف: المص. شبه خصاله — في حسنها وحلاوتها — بثنايا حبيب لا يمل مص ريقها.
(٤٠) يقول: إني قصدتك والحال أن الذين يرجون أن أقصدهم وأمدحهم كثير، ولكني آثرتك عليهم؛ لأنك تفضلهم كما يفضل الأنف الذنب، وفيه نظر إلى قول الحطيئة:
قَوْمٌ هُمُ الْأَنْفُ وَالْأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
وقد كان الحطيئة مدح بهذا قومًا كانوا ينبزون بأنف الناقة وكانوا يكرهونه، فلما قال فيهم هذا فخروا بلقبهم.
(٤١) نفوعان: أي هما نفوعان. والبيضاء: من النعت المراد به التأكيد كما في أمس الدابر. والتبر: الذهب. والمكدي: الفقير الذي لا خير عنده. والصرف: الفضل. تقول: له عليَّ صرف؛ أي فضل. والمراد: بينهما تفاوت. يقول: ليس الذهب والفضة سواء وإن اجتمعا في المنفعة، وكذلك الفرق بينك وبينهم. ومثل هذا لابن الرومي:
وَجَدْتُكُمُ مِثْلَ الدَّنَانِيرِ فِيهِمُ وَسَائِرَ هَذَا الْخَلْقِ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ
(٤٢) الدون: الخسيس. وقوله: خلفه خلف، فخلفه: خبر مقدم، منصوب على الظرفية. وخلف: مرفوع بالابتداء. يقول: لست خسيسًا فيرتجى الغيث دونك ولا ترتجى أنت؛ أي أنت والغيث سواء في رجاء الخير، وليس وراءك للجود منتهى، يعني أن الجود مقصور عليك لا يرتجى الجود دونك ولا يتجاوز عنك، أي أنك الغاية القصوى للجود التي من بلغ إليها لم يبقَ له مذهب وراءها، كما قال بعضهم:
مَا قَصَّرَ الْجُودُ عَنْكُمْ يَا بَنِي مَطَرٍ وَلَا تَجَاوَزَكُمْ يَا آلَ مَسْعُودِ
يَحُلَّ حَيْثُ حَلَلْتُمْ لَا يُفَارِقُكُمْ مَا عَاقَبَ الدَّهْرُ بَيْنَ الْبِيضِ وَالسُّودِ
وقال أشجع السلمي:
فَمَا خَلْفَهُ لِامْرِئٍ مَطْمَعٌ وَلَا دُونَهُ لِامْرِئٍ مَقْنَعُ
وقال أبو تمام:
إِلَيْكَ تَنَاهَى الْمَجْدُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ يَصِيرُ فَمَا يَعْدُوكَ حَيْثُ تَصِيرُ
وقد زاد أبو الطيب على هذا المعنى فأساء العبارة، ورفع خلف لأنه جعله اسمًا لا ظرفًا.
(٤٣) ولا واحدًا: عطف على خبر ليس — في البيت السابق — يقول: ولست واحدًا من جماعة الناس ولا بعضًا من كلهم، ولكنك ضعف جميعهم؛ أي أنت تغني غناءهم وتزيد عليهم زيادة ضعف الشيء على الشيء.
(٤٤) يقول: ولست أيضًا ضعف الورى حتى يكون ذلك الضعف ضعفين، فتكون أنت ضعف ضعف الضعف، ثم تزيد على ذلك بأضعاف كثيرة حتى تبلغ ألفًا؛ أي تكون ألف ضعف من هذا الضعف. والمعنى أنك فوق الورى بكثير، ونصب مثله لأنه نعت نكرة — وهو ألف — قدم عليها، ونعت النكرة إذا قدم عليها انتصب على الحال، كما قال القائل:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
(عجزه:
يَلُوحُ كَأَنَّهُ خللُ
وهو لذي الرمة. والخلل — بالكسر — جمع خلة. قال الجوهري: الخلة: واحدة خلل السيوف؛ وهي بطائن يغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب.)
وألف: خبر مبتدأ محذوف؛ أي بل أنت ألف مثله. وفي هذا البيت من الغثاثة والتكلف والغلو ما ترى.
(٤٥) يقول: أنت أهل لما أثنيت به عليك، ثم قال: غلطت — ليس هذا ثلثي ما أنت أهله ولا نصفه، ولا الثلثان: عطف على محذوف، دل عليه ما تقدم؛ أي لا الذي أنت أهله هذا ولا الثلثان منه. والهمزة في أقاضينا: للنداء.
(٤٦) يقول: إن تقصيري في مدحك ذنب لي والذنب لا يمدح به، فأنا لم أجئ مادحًا، ولكن جئت سائلًا العفو عن هذا الذنب، قال:
وَعِنْدِي أَيَادٍ جَمَّةٌ لَمْ أَجِدْ لَهَا بِإِحْصَائِهَا عِنْدِي لِسَانًا مُعَبِّرَا
وَلَكِنَّ جُهْدِي أَنْ أَقُولَ وَمَا عَسَى لِذِي الْجُهْدِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فَيُعْذَرَا
ولأبي تمام:
وَمَا كُنْتُ إِلَّا مُذْنِبًا يَوْمَ أَنْتَحِي سِوَاكَ بِآمَالِي فَجِئْتُكَ تَائِبَا
(٤٧) الجوشن: الدرع.
(٤٨) يقول: إن لابس هذا الجوشن — الدرع — يشق صفوف الأعداء يوم القتال آمنًا على نفسه لحصانته، ولا تعمل الحتوف — المنايا — فيمن لبسه.
(٤٩) لقًي: أي ملقيًا. يقول: ألقه ولا تلبسه فإن مثلك يدفع عن نفسه بالرماح والسيوف لمكانه من الشجاعة ولا يحتاج إلى الدروع. وفي مثله يقول الآخر:
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لَا حُصُونَ بِأَرْضِنَا نَلُوذُ بِهَا إِلَّا الْقَنَا وَالْقَوَاضِبُ
(٥٠) وكان ذلك بعد أن فارق أبو الطيب أبا العشائر واتصل بسيف الدولة، وكان سيف الدولة قد رفع منزلته وأغدق عليه عطاياه، فأوغر ذلك صدور قوم من حساده، فسعوا به عند سيف الدولة حتى غيروه عليه، فأنشده أبو الطيب القصيدة الميمية التي مطلعها:
وَا حَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ وَمَنْ بِجِسْمِي وَحَالِي عِنْدَهُ سَقَمُ
وفيها يعرض ببني حمدان أبناء عم سيف الدولة، وكان ذلك بمحضر من أبي العشائر. فلما خرج أبو الطيب ألحق به أبو العشائر بعض غلمانه ليوقعوا به، وقد تقدم ذلك في موضعه.
(٥١) إلى من أحبه: يعني أبا العشائر. يقول: هو منتسب إلى من أحبه، ولكنه مع ذلك أراد قتلي، فللنبل حوالي من يديه صوت يحف بي.
(٥٢) «من» الأولى: زائدة. والثانية: للتعليل، متعلقة بحننت. يقول: لما ذكر اسم أبي العشائر هاج شوقي وحنيني إليه، وما كان شوقي إليه في هذه الحال ذلة ومهانة ولكن كرم طبع؛ لأن الكريم طبعه الألفة.
(٥٣) على: بمعنى مع. ودوام: نصب على المصدر. وللحسين: متعلق بودادي. وضعيف: خبر كل. يقول: إن كل وداد لا يدوم مع معاناة الأذى كما دام ودادي للحسين — أبي العشائر — هو وداد ضعيف.
(٥٤) واحدًا: خبر يكن. يريد أن إحسانه أكثر من إساءته والقليل لا يعفي الكثير ولا يغلبه؛ يقول: إن ساءني بفعل واحد فقد سرني بأفعال كثيرة. وفيه نظر إلى قول الآخر:
أَيَذْهَبُ يَوْمٌ وَاحِدٌ أَنْ أَسَأْتُهُ بِصَالِحِ أَيَّامِي وَحُسْنِ بَلَائِيَا
(٥٥) نفسي له: أي أنا مملوك له إذ أسرني بإحسانه، لكنه مالك عنيف لا يرفق بي، كما قال الآخر:
أُرِيدُ حبَاءَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي
وقوله: نفسي الفداء لنفسه: دعاء؛ أي أفديه بنفسي.
(٥٦) يعني بالغادرين عبيده الذين أرادوا أن يسرقوا خيله. يقول: أعددت لهم سيوفًا أجدع — أقطع — بها أنوفهم، يعني أذلهم بها وأنكل.
(٥٧) الهام: جمع هامة، أعلى الرأس. والأقحاف: جمع قحف — بكسر القاف — العظم الذي فوق الدماغ. يقول: لا رحم الله رءوسهم التي أطارت السيوف قحوفها عن هامها، فضمير «أطرن» للسيوف.
(٥٨) يقول: ما ينقم السيف — أي ما ينكر ويعيب ويكره — إلا قلة عددهم أي أن السيف يريد أن يكونوا أكثر حتى يأتي عليهم ويقتلهم جميعًا، وأن تكون المئون منهم آلافًا حتى يقتل كل غادر وكل عبد سوء في الدنيا. فقوله: وأن تكون أي وأن لا تكون، فحذف «لا» وهو يريدها.
(٥٩) فجعه: أوجعه بشيء يكرم عليه. والخامعات: الضباع؛ لأنها تخمع في مشيها — أي تمشي مشي الأعرج. يقول — لمن قتل من عبيده: يا شر لحم أسلمت دمه ففجعته بذهاب دمه وتركته ملقى للضباع حتى أكلته فدخل أجوافها.
(٦٠) كأن هذا العبد سأل عائفًا عن حال المتنبي فذكر له من حاله ما زين له الغدر به. وقوله: سؤالك بي أي عني، كما قال تعالى: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا. وزجر الطير وعيافتها ضرب من التكهن كانت العرب تذهب إليه، فكانت تنفر الطير، فإن نفر عن يمين تفاءلت، أو عن شمال تشاءمت. يقول — للعبد الذي قتله: لقد كنت في غنًى عن أعمال الزجر والعيافة في إقدامك عليَّ وتعرضك للغدر بي.
(٦١) يقول: وعدت هذا السيف — يعني سيفه — أن أضرب به من تعرض له وأحوج إلى ضربه، ولما اعترضت لسيفي بالغدر بي وأخذ خيلي خفت إن تركت قتلك إخلاف ما وعدت السيف؛ أي أن لا أفي بوعدي إياه. فذا: اسم إشارة. ومن: مفعول ثانٍ لوعدت. وتعرضه: أي تعرض له. والإخلاف: ترك الوفاء بالوعد، وهو مفعول خفت.
(٦٢) التوكاف: تفعال من الوكف، وهو قطران الماء — جريانه — يقول: لم يكن فيك خير تذكر به ولا تبكي عليك العين.
(٦٣) يقول: إذا راعني — خوفني — امرؤ بغدرته كافأته بالقتل وهو غاية ما يخافه المرء.
No comments:
Post a Comment