شرح ديوان المتنبي
قافية حرف العين
وخرج يماك مملوك سيف الدولة إلى الرقة؛ فخرج سيف الدولة يشيعه، وهبت ريح شديدة، فقال:
لَا عَدِمَ الْمُشَيِّعَ الْمُشَيَّعُ لَيْتَ الرِّيَاحَ صُنَّعٌ مَا تَصْنَعُ١
بَكَرْنَ ضَرًّا وَبَكَرْتَ تَنْفَعُ وَسَجْسَجٌ أَنْتَ وَهُنَّ زَعْزَعُ٢
وَوَاحِدٌ أَنْتَ وَهُنَّ أَرْبَعُ وَأَنْتَ نَبْعٌ وَالْمُلُوكُ خِرْوَعُ٣
•••
وقال يمدحه ويذكر الوقعة التي نكب فيها المسلمون بالقرب من بحيرة الحدث، وذلك في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة:٤
غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسِ يَنْخَدِعُ إِنْ قَاتَلُوا جَبُنُوا أَوْ حَدَّثُوا شَجُعُوا٥
أَهْلُ الْحَفِيظَةِ إِلَّا أَنْ تُجَرِّبَهُمْ وَفِي التَّجَارِبِ بَعْدَ الْغَيِّ مَا يَزَعُ٦
وَمَا الْحَيَاةُ وَنَفْسِي بَعْدَمَا عَلِمَتْ أَنَّ الْحَيَاةَ كَمَا لَا تَشْتَهي طَبَعُ؟٧
لَيْسَ الْجَمَالُ لِوَجْهٍ صَحَّ مَارِنُهُ أَنْفُ الْعَزِيزِ بِقَطْعِ الْعِزِّ يُجْتَدَعُ٨
أَأَطْرَحُ الْمَجْدَ عَنْ كِتْفِي وَأَطْلُبُهُ وَأَتْرُكُ الْغَيْثَ فِي غِمْدِي وَأَنْتَجِعُ٩
وَالْمَشْرَفِيَّةُ، لَا زَالَتْ مُشَرَّفَةً دَوَاءُ كُلِّ كَرِيمٍ أَوْ هِيَ الْوَجَعُ١٠
وَفَارِسُ الْخَيْلِ مَنْ خَفَّتْ فَوَقَّرَهَا فِي الدَّرْبِ وَالدَّمُ فِي أَعْطَافِهَا دُفَعُ١١
وَأَوْحَدَتْهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ قَلَقٌ وَأَغْضَبَتْهُ وَمَا فِي لَفْظِهِ قَذَعُ١٢
بِالْجَيْشِ تَمْتَنِعُ السَّادَاتُ كُلُّهُمُ وَالْجَيْشُ بِابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ يَمْتَنِعُ١٣
قَادَ الْمَقَانِبَ أَقْصَى شُرْبِهَا نَهَلٌ عَلَى الشَّكِيمِ وَأَدْنَى سَيْرِهَا سِرَعُ١٤
لَا يَعْتَقِي بَلَدٌ مَسْرَاهُ عَنْ بَلَدٍ كَالْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ رِيٌّ وَلَا شِبَعُ١٥
حَتَّى أَقَامَ عَلَى أَرْبَاضِ خَرْشَنَةٍ تَشْقَى بِهِ الرُّومُ وَالصُّلْبَانُ وَالْبِيَعُ١٦
لِلسَّبْيِ مَا نَكَحُوا وَالْقَتْلِ مَا وَلَدُوا وَالنَّهْبِ مَا جَمَعُوا وَالنَّارِ مَا زَرَعُوا١٧
مُخْلًى لَهُ الْمَرْجُ مَنْصُوبًا بِصَارِخَةٍ لَهُ الْمَنَابِرُ مَشْهُودًا بِهَا الْجُمَعُ١٨
يُطَمِّعُ الطَّيْرَ فِيهِمْ طُولُ أَكْلِهِمِ حَتَّى تَكَادَ عَلَى أَحْيَائِهِمْ تَقَعُ١٩
وَلَوْ رَآهُ حَوَارِيُّوهُمُ لَبَنَوْا عَلَى مَحَبَّتِهِ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعُوا٢٠
ذَمَّ الدُّمُسْتُقُ عَيْنَيْهِ وَقَدْ طَلَعَتْ سُودُ الْغَمَامِ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَزَعُ٢١
فِيهَا الْكُمَاةُ الَّتِي مَفْطُومُهَا رَجُلٌ عَلَى الْجِيَادِ الَّتِي حَوْلِيُّهَا جَذَعُ٢٢
تَذْرِي اللُّقَانُ غُبَارًا فِي مَنَاخِرِهَا وَفِي حَنَاجِرِهَا مِنْ آلِسٍ جُرَعُ٢٣
كَأَنَّهَا تَتَلَقَّاهُمْ لِتَسْلُكَهُمْ فَالطَّعْنُ يَفْتَحُ فِي الْأَجْوَافِ مَا تَسَعُ٢٤
تَهْدِي نَوَاظِرَهَا وَالْحَرْبُ مُظْلِمَةٌ مِنَ الْأَسِنَّةِ نَارٌ وَالْقَنَا شَمَعُ٢٥
دُونَ السَّهَامِ وَدُونَ الْقُرِّ طَافِحَةً عَلَى نُفُوسِهِمِ الْمُقْوَرَّةُ الْمُزُعُ٢٦
إِذَا دَعَا الْعِلْجُ عِلْجًا حَالَ بَيْنَهُمَا أَظْمَى تُفَارِقُ مِنْهُ أُخْتَهَا الضِّلَعُ٢٧
أَجَلُّ مِنْ وَلَدِ الْفُقَّاسِ مُنْكَتِفٌ إِذَا فَاتَهُنَّ وَأَمْضَى مِنْهُ مُنْصَرِعُ٢٨
وَمَا نَجَا مِنْ شِفَارِ الْبِيضِ مُنْفَلِتٌ نَجَا وَمِنْهُنَّ فِي أَحْشَائِهِ فَزَعُ٢٩
يُبَاشِرُ الْأَمْنَ دَهْرًا وَهْوَ مُخْتَبَلٌ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ حَوْلًا وَهْوَ مُمْتَقَعُ٣٠
كَمْ مِنْ حُشَاشَةِ بِطْرِيقٍ تَضَمَّنَهَا لِلْبَاتِرَاتِ أَمِينٌ مَا لَهُ وَرَعُ٣١
يُقَاتِلُ الْخَطْوَ عَنْهُ حِينَ يَطْلُبُهُ وَيَطْرُدُ النَّوْمَ عَنْهُ حِينَ يَضْطَجِعُ٣٢
تَغْدُو الْمَنَايَا فَلَا تَنْفَكُّ وَاقِفَةً حَتَّى يَقُولَ لَهَا: عُودِي فَتَنْدَفِعُ٣٣
قُلْ لِلدُّمُسْتُقِ: إِنَّ الْمُسْلَمِينَ لَكُمْ خَانُوا الْأَمِيرَ فَجَازَاهُمْ بِمَا صَنَعُوا٣٤
وَجَدْتُمُوهُمْ نِيَامًا فِي دِمَائِكُمُ كَأَنَّ قَتْلَاكُمُ إِيَّاهُمُ فَجَعُوا٣٥
ضَعْفَى تَعِفُّ الْأَيَادِي عَنْ مِثَالِهِمِ مِنَ الْأَعَادِي وَإِنْ هَمُّوا بِهِمْ نَزَعُوا٣٦
لَا تَحْسَبُوا مَنْ أَسَرْتُمْ كَانَ ذَا رَمَقٍ فَلَيْسَ يَأْكُلُ إِلَّا الْمَيِّتَ الضَّبُعُ٣٧
هَلَّا عَلَى عَقَبِ الْوَادِي وَقَدْ صَعِدَتْ أُسْدٌ تَمُرُّ فُرَادَى لَيْسَ تَجْتَمِعُ٣٨
تَشُقُّكُمْ بِفَتَاهَا كُلُّ سَلْهَبَةٍ وَالضَّرْبُ يَأْخُذُ مِنْكُمْ فَوْقَ مَا يَدَعُ٣٩
وَإِنَّمَا عَرَّضَ اللهُ الْجُنُودَ بِكُمْ لِكَيْ يَكُونُوا بِلَا فَسْلٍ إِذَا رَجَعُوا٤٠
فَكُلُّ غَزْوٍ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ذَا فَلَهُ وَكُلُّ غَازٍ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ التَّبَعُ٤١
يَمْشِي الْكِرَامُ عَلَى آثَارِ غَيْرِهِمِ وَأَنْتَ تَخْلُقُ مَا تَأْتِي وَتَبْتَدِعُ٤٢
وَهَلْ يَشِينُكَ وَقْتٌ كُنْتَ فَارِسَهُ وَكَانَ غَيْرَكَ فِيهِ الْعَاجِزُ الضَّرَعُ٤٣
مَنْ كَانَ فَوْقَ مَحَلِّ الشَّمْسِ مَوْضِعُهُ فَلَيْسَ يَرْفَعُهُ شَيْءٌ وَلَا يَضَعُ٤٤
لَمْ يُسْلِمِ الْكَرُّ فِي الْأَعْقَابِ مُهْجَتَهُ إِنْ كَانَ أَسْلَمَهَا الأَصْحَابُ وَالشِّيَعُ٤٥
لَيْتَ الْمُلُوكَ عَلَى الْأَقْدَارِ مُعْطِيَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لِدَنِيٍّ عِنْدَهَا طَمَعُ٤٦
رَضِيتَ مِنْهُمْ بِأَنْ زُرْتَ الْوَغَى فَرَأَوْا وَأَنْ قَرَعْتَ حَبِيكَ الْبِيضِ فَاسْتَمَعُوا٤٧
لَقَدْ أَبَاحَكَ غِشًّا فِي مُعَامَلَةٍ مَنْ كُنْتَ مِنْهُ بِغَيْرِ الصِّدْقِ تَنْتَفِعُ٤٨
الدَّهْرُ مُعْتَذِرٌ وَالسَّيْفُ مُنْتَظِرٌ وَأَرْضُهُمْ لَكَ مُصْطَافٌ وَمُرْتَبَعُ٤٩
وَمَا الْجِبَالُ لِنَصْرَانٍ بِحَامِيَةٍ وَلَوْ تَنَصَّر فِيهَا الْأَعْصَمُ الصَّدَعُ٥٠
وَمَا حَمِدْتُكَ فِي هَوْلٍ ثَبَتَّ لَهُ حَتَّى بَلَوْتُكَ وَالْأَبْطَالُ تَمْتَصِعُ٥١
فَقَدْ يُظَنُّ شُجَاعًا مَنْ بِهِ خَرَقٌ وَقَدْ يُظَنُّ جَبَانًا مَنْ بِهِ زَمَعُ٥٢
إِنَّ السِّلَاحَ جَمِيعُ النَّاسِ تَحْمِلُهُ وَلَيْسَ كُلُّ ذَوَاتِ الْمِخْلَبِ السَّبُعُ٥٣
وقال في صباه يمدح علي بن أحمد الطائي:
حُشَاشَةُ نَفْسٍ وَدَّعَتْ يَوْمَ وَدَّعُوا فَلَمْ أَدْرِ أَيَّ الظَّاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ٥٤
أَشَارُوا بِتَسْلِيمٍ فَجُدْنَا بِأَنْفُسٍ تَسِيلُ مِنَ الْآمَاقِ وَالسَّمُ أَدْمُعُ٥٥
حَشَايَ عَلَى جَمْرٍ ذَكِيٍّ مِنَ الْهَوَى وَعَيْنَايَ فِي رَوْضٍ مِنَ الْحُسْنِ تَرْتَعُ٥٦
وَلَوْ حُمِّلَتْ صُمُّ الْجِبَالِ الَّذِي بِنَا غَدَاةَ افْتَرَقْنَا أَوْشَكَتْ تَتَصَدَّعُ٥٧
بِمَا بَيْنَ جَنْبَيَّ الَّتِي خَاضَ طَيْفُهَا إِلَيَّ الدَّيَاجِي وَالْخَلِيُّونَ هُجَّعُ٥٨
أَتَتْ زَائِرًا مَا خَامَرَ الطِّيبُ ثَوْبَهَا وَكَالْمِسْكِ مِنْ أَرْدَانِهَا يَتَضَوَّعُ٥٩
فَمَا جَلَسَتْ حَتَّى انْثَنَتْ تُوسِعُ الْخُطَا كَفَاطِمَةٍ عَنْ دَرِّهَا قَبْلَ تُرْضِعُ٦٠
فَشَرَّدَ إِعْظَامِي لَهَا مَا أَتَى بِهَا مِنَ النَّوْمِ وَالْتَاعَ الْفُؤَادُ الْمُفَجَّعُ٦١
فَيَا لَيْلَةً مَا كَانَ أَطْوَلَ بِتُّهَا وَسُمُّ الْأَفَاعِي عَذْبُ مَا أَتَجَرَّعُ٦٢
تَذَلَّلْ لَهَا وَاخْضَعْ عَلَى الْقُرْبِ وَالنَّوَى فَمَا عَاشِقٌ مَنْ لَا يَذِلُّ وَيَخْضَعُ٦٣
وَلَا ثَوْبُ مَجْدٍ غَيْرَ ثَوْبِ ابْنِ أَحْمَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِلُؤْمٍ مُرَقَّعُ٦٤
وَإِنَّ الَّذِي حَابَى جَدِيلَةَ طَيِّئٍ بِهِ اللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ٦٥
بِذِي كَرَمٍ مَا مَرَّ يَوْمٌ وَشَمْسُهُ عَلَى رَأْسِ أَوْفَى ذِمَّةً مِنْهُ تَطْلُعُ٦٦
فَأَرْحَامُ شِعْرٍ يَتَّصِلْنَ لَدُنَّهُ وَأَرْحَامُ مَالٍ لَا تَنِي تَتَقَطَّعُ٦٧
فَتًى أَلْفُ جُزْءٍ رَأْيُهُ فِي زَمَانِهِ أَقَلُّ جُزَيْءٍ بَعْضُهُ الرَّأْيُ أَجْمَعُ٦٨
غَمَامٌ عَلَيْنَا مُمْطِرٌ لَيْسَ يُقْشِعُ وَلَا الْبَرْقُ فِيهِ خُلَّبًا حِينَ يَلْمَعُ٦٩
إِذَا عَرَضَتْ حَاجٌ إِلَيْهِ فَنَفْسُهُ إِلَى نَفْسِهِ فِيهَا شَفِيعٌ مُشَفَّعُ٧٠
خَبَتْ نَارُ حَرْبٍ لَمْ تَهِجْهَا بَنَانُهُ وَأَسْمَرُ عُرْيَانٌ مِنَ الْقِشْرِ أَصْلَعُ٧١
نَحِيفُ الشَّوَى يَعْدُو عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ وَيَحْفَى فَيَقْوَى عَدْوُهُ حِينَ يُقْطَعُ٧٢
يَمُجُّ ظَلَامًا فِي نَهَارٍ لِسَانُهُ وَيُفْهَمُ عَمَّنْ قَالَ مَا لَيْسَ يَسْمَعُ٧٣
ذُبَابُ حُسَامٍ مِنْهُ أَنْجَى ضَرِيبَةً وَأَعْصَى لِمَوْلَاهُ وَذَا مِنْهُ أَطْوَعُ٧٤
فَصِيحٌ مَتَى يَنْطِقْ تَجِدْ كُلَّ لَفْظَةٍ أُصُولَ الْبَرَاعَاتِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ٧٥
بِكَفِّ جَوَادٍ لَوْ حَكَتْهَا سَحَابَةٌ لَمَا فَاتَهَا فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ مَوْضِعُ٧٦
وَلَيْسَ كَبَحْرِ الْمَاءِ يَشْتَقُّ قَعْرَهُ إِلَى حَيْثُ يَفْنَى الْمَاءُ حُوتٌ وَضِفْدَعُ٧٧
أَبَحْرٌ يَضُرُّ الْمُعْتَفِينَ وَطَعْمُهُ زُعَاقٌ كَبَحْرٍ لَا يَضُرُّ وَيَنْفَعُ؟!٧٨
يَتِيهُ الدَّقِيقُ الْفِكْرِ فِي بُعْدِ غَوْرِهِ وَيَغْرَقُ فِي تَيَّارِهِ وَهْوَ مِصْقَعُ٧٩
أَلَا أَيُّهَا الْقَيْلُ الْمُقِيمُ بِمَنْبِجٍ وَهِمَّتُهُ فَوْقَ السِّمَاكَيْنِ تُوضِعُ٨٠
أَلَيْسَ عَجِيبًا أَنَّ وَصْفَكَ مُعْجِزٌ وَأَنَّ ظُنُونِي فِي مَعَالِيكَ تَظْلَعُ٨١
وَأَنَّكَ فِي ثَوْبٍ وَصَدْرُكَ فِيكُمَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ سَاحَةِ الْأَرْضِ أَوْسَعُ٨٢
وَقَلْبُكَ فِي الدُّنْيَا وَلَوْ دَخَلَتْ بِنَا وَبِالْجِنِّ فِيهِ مَا دَرَتْ كَيْفَ تَرْجِعُ٨٣
أَلَا كُلُّ سَمْحٍ غَيْرَكَ الْيَوْمَ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَدِيحٍ فِيَ سِوَاك مُضَيَّعُ٨٤
وقال في صباه على لسان من سأله ذلك:
شَوْقِي إِلَيْكَ نَفَى لَذِيذَ هُجُوعِي فَارَقْتَنِي فَأَقَامَ بَيْنَ ضُلُوعِي٨٥
أَوَمَا وَجَدْتُمْ فِي الصَّرَاةِ مُلُوحَةً مِمَّا أُرَقْرِقُ فِي الْفُرَاتِ دُمُوعِي٨٦
مَا زِلْتُ أَحْذَرُ مِنْ وَدَاعِكَ جَاهِدًا حَتَّى اغْتَدَى أَسَفِي عَلَى التَّوْدِيعِ٨٧
رَحَلَ الْعَزَاءُ بِرِحْلَتِي فَكَأَنَّمَا أَتْبَعْتُهُ الْأَنْفَاسَ لِلتَّشْيِيعِ٨٨
وقال يمدح علي بن إبراهيم التنوخي:
مُلِثَّ الْقَطْرِ أَعْطِشْهَا رُبُوعَا وَإِلَّا فَاسْقِهَا السَّمَّ النَّقِيعَا٨٩
أُسَائِلُهَا عَنِ الْمُتَدَيِّرِيهَا فَلَا تَدْرِي وَلَا تُذْرِي دُمُوعَا٩٠
لَحَاهَا اللهُ إِلَّا مَاضِيَيْهَا: زَمَانَ اللَّهْوِ وَالْخَودَ الشَّمُوعَا٩١
مُنَعَّمَةٌ مُمَنَّعَةٌ رَدَاحٌ يُكَلِّفُ لَفْظُهَا الطَّيْرَ الْوُقُوعَا٩٢
تُرَفِّعُ ثَوْبَهَا الْأَرْدَافُ عَنْهَا فَيَبْقَى مِنْ وِشَاحَيْهَا شَسُوعَا٩٣
إِذَا مَاسَتْ رَأَيْتَ لَهَا ارْتِجَاجًا لَهُ لَوْلَا سَوَاعِدُهَا نَزُوعَا٩٤
تَأَلَّمُ دَرْزَهُ وَالدَّرْزُ لَيْنٌ كَمَا تَتَأَلَّمُ الْعَضْبَ الصَّنِيعَا٩٥
ذِرَاعَاهَا عَدُوَّا دُمْلُجَيْهَا يَظُنُّ ضَجِيعُهَا الزَّنْدَ الضَّجِيعَا٩٦
كَأَنَّ نِقَابَهَا غَيْمٌ رَقِيقٌ يُضِيءُ بِمَنْعِهِ الْبَدْرَ الطُّلُوعَا٩٧
أَقُولُ لَهَا: اكْشِفِي ضُرِّي وَقُولِي بِأَكْثَرَ مِنْ تَدَلُّلِهَا خُضُوعَا٩٨
أَخِفْتِ اللهَ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ مَتَى عُصِيَ الْإِلَهُ بِأَنْ أُطِيعَا٩٩
غَدَا بِكِ كُلُّ خِلْوٍ مُسْتَهَامًا وَأَصْبَحَ كُلُّ مَسْتُورٍ خَلِيعَا١٠٠
أُحِبُّكِ أَوْ يَقُولُوا: جَرَّ نَمْلٌ ثَبِيرًا وَابْنُ إِبْرَاهِيمَ رِيعَا١٠١
بَعِيدُ الصِّيتِ مُنْبَثُّ السَّرَايَا يُشِيِّبُ ذِكْرُهُ الطِّفْلَ الرَّضِيعَا١٠٢
يَغُضُّ الطَّرْفَ مِنْ مَكْرٍ وَدَهْيٍ كَأَنَّ بِهِ وَلَيْسَ بِهِ خُشُوعَا١٠٣
إِذَا اسْتَعْطَيْتَهُ مَا فِي يَدَيْهِ فَقَدْكَ سَأَلْتَ عَنْ سِرٍّ مُذِيعَا١٠٤
قَبُولُكَ مِنْهُ مَنٌّ عَلَيْهِ وَإِلَّا يَبْتَدِئْ يَرَهُ فَظِيعَا١٠٥
لِهُونِ الْمَالِ أَفْرَشَهُ أَدِيمًا وَلِلتَّفْرِيقِ يَكْرَهُ أَنْ يَضِيعَا١٠٦
إِذَا ضَرَبَ الْأَمِيرُ رِقَابَ قَوْمٍ فَمَا لِكَرَامَةٍ مَدَّ النُّطُوعَا١٠٧
فَلَيْسَ بِوَاهِبٍ إِلَّا كَثِيرَا وَلَيْسَ بِقَاتِلٍ إِلَّا قَرِيعَا١٠٨
وَلَيْسَ مُؤَدِّبًا إِلَّا بِنَصْلٍ كَفَى الصَّمْصَامَةُ التَّعَبَ الْقَطِيعَا١٠٩
عَلِيٌّ لَيْسَ يَمْنَعُ مِنْ مَجِيءٍ مُبَارِزَهُ وَيَمْنَعُهُ الرُّجُوعَا١١٠
عَلِيٌّ قَاتِلُ الْبَطَلِ الْمُفَدَّى وَمُبْدِلُهُ مِنَ الزَّرَدِ النَّجِيعَا١١١
إِذَا اعْوَجَّ الْقَنَا فِي حَامِلِيهِ وَجَازَ إِلَى ضُلُوعِهِمِ الضُّلُوعَا١١٢
وَنَالَتْ ثَأْرَهَا الْأَكْبَادُ مِنْهُ فَأَوْلَتْهُ انْدِقَاقًا أَوْ صُدُوعَا١١٣
فَحِدْ فِي مُلْتَقَى الْخَيْلَيْنِ عَنْهُ وَإِنْ كُنْتَ الْخُبَعْثِنَةَ الشَّجِيعَا١١٤
إِنِ اسْتَجْرَأْتَ تَرْمُقُهُ بَعِيدًا فَأَنْتَ اسْطَعْتَ شَيْئًا مَا اسْتُطِيعَا١١٥
وَإِنْ مَارَيْتَنِي فَارْكَبْ حِصَانًا وَمَثِّلْهُ تَخِرَّ لَهُ صَرِيعَا١١٦
غَمَامٌ رُبَّمَا مَطَرَ انْتِقَامًا فَأَقْحَطَ وَدْقُهُ الْبَلَدَ الْمُرِيعَا١١٧
رَآنِي بَعْدَمَا قَطَعَ الْمَطَايَا تَيَمُّمُهُ وَقَطَّعَتِ الْقُطُوعَا١١٨
فَصَيَّرَ سَيْلُهُ بَلَدِي غَدِيرًا وَصَيَّرَ خَيْرُهُ سَنَتِي رَبِيعَا١١٩
وَجَاوَدَنِي بِأَنْ يُعْطِي وَأَحْوِي فَأَغْرَقَ نَيْلُهُ أَخْذِي سَرِيعَا١٢٠
أَمُنْسِيَّ السُّكُونَ وَحَضْرَمَوْتَا وَوَالِدَتِي وَكِنْدَةَ وَالسَّبِيعَا١٢١
قَدِ اسْتَقْصَيْتَ فِي سَلْبِ الْأَعَادِي فَرُدَّ لَهُمْ مِنَ السَّلَبِ الْهُجُوعَا١٢٢
إِذَا مَا لَمْ تُسِرْ جَيْشًا إِلَيْهِمْ أَسَرْتَ إِلَى قُلُوبِهِمِ الْهُلُوعَا١٢٣
رَضُوا بِكَ كَالرِّضَا بِالشَّيْبِ قَسْرًا وَقَدْ وَخَطَ النَّوَاصِيَ وَالْفُرُوعَا١٢٤
فَلَا عَزَلٌ وَأَنْتَ بِلَا سِلَاحٍ لِحَاظُكَ مَا تَكُونُ بِهِ مَنِيعَا١٢٥
لَوِ اسْتَبْدَلْتَ ذِهْنَكَ مِنْ حُسَامٍ قَدَدْتَ بِهِ الْمَغَافِرَ وَالدُّرُوعَا١٢٦
لَوِ اسْتَفْرَغْتَ جُهْدَكَ فِي قِتَالٍ أَتَيْتَ بِهِ عَلَى الدُّنْيَا جَمِيعَا١٢٧
سَمَوْتَ بِهِمَّةٍ تَسْمُو فَتَسْمُو فَمَا تُلْفَى بِمَرْتَبَةٍ قَنُوعَا١٢٨
وَهَبْكَ سَمَحْتَ حَتَّى لَا جَوَادٌ فَكَيْفَ عَلَوْتَ حَتَّى لَا رَفِيعَا١٢٩
وقال يمدح عبد الواحد بن العباس بن أبي الأصبع الكاتب:
أَرَكَائِبَ الْأَحْبَابِ إِنَّ الْأَدْمُعَا تَطِسُ الْخُدُودَ كَمَا تَطِسْنَ الْيَرْمَعَا١٣٠
فَاعْرِفْنَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَيْكُنَّ النَّوَى وَامْشِينَ هَوْنًا فِي الْأَزِمَّةِ خُضَّعَا١٣١
قَدْ كَانَ يَمْنَعُنِي الْحَيَاءُ مِنَ الْبُكَا فَالْيَوْمَ يَمْنَعُهُ الْبُكَا أَنْ يَمْنَعَا١٣٢
حَتَّى كَأَنَّ لِكُلِّ عَظْمٍ رَنَّةً فِي جِلْدِهِ وَلِكُلِّ عِرْقٍ مَدْمَعَا١٣٣
وَكَفَى بِمَنْ فَضَحَ الْجَدَايَةَ فَاضِحًا لِمُحِبِّهِ وَبِمَصْرَعِي ذَا مَصْرَعَا١٣٤
سَفَرَتْ وَبَرْقَعَهَا الْفِرَاقُ بِصُفْرَةٍ سَتَرَتْ مَحَاجِرَهَا وَلَمْ تَكُ بُرْقُعَا١٣٥
فَكَأَنَّهَا وَالدَّمْعُ يَقْطُرُ فَوْقَهَا ذَهَبٌ بِسِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ قَدْ رُصِّعَا١٣٦
كَشَفَتْ ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِيَ أَرْبَعَا١٣٧
وَاسْتَقْبَلَتْ قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَيْنِ فِي وَقْتٍ مَعَا١٣٨
رُدِّي الْوِصَالَ سَقَى طُلُولَكِ عَارِضٌ لَوْ كَانَ وَصْلُكِ مِثْلَهُ مَا أَقْشَعَا١٣٩
زَجَلٌ يُرِيكَ الْجَوَّ نَارًا وَالْمَلَا كَالْبَحْرِ وَالتَّلَعَاتِ رَوْضًا مُمْرِعَا١٤٠
كَبَنَانِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْغَدَقِ الَّذِي أَرْوَى وَآمَنَ مَنْ يَشَاءُ وَأَفْزَعَا١٤١
أَلِفَ الْمُرُوءَةَ مُذْ نَشَا فَكَأَنَّهُ سُقِيَ اللِّبَانَ بِهَا صَبِيًّا مُرْضَعَا١٤٢
نُظِمَتْ مَوَاهِبُهُ عَلَيْهِ تَمَائِمًا فَاعْتَادَهَا فَإِذَا سَقَطْنَ تَفَزَّعَا١٤٣
تَرَكَ الصَّنَائِعَ كَالْقَوَاطِعِ بَارِقَا تٍ وَالْمَعَالِيَ كَالْعَوَالِيَ شُرَّعَا١٤٤
مُتَبَسِّمًا لِعُفَاتِهِ عَنْ وَاضِحٍ تَغْشَى لَوَامِعُهُ الْبُرُوقَ اللُّمَّعَا١٤٥
مُتَكَشِّفًا لِعُدَاتِهِ عَنْ سَطْوَةٍ لَوْ حَكَّ مَنْكِبُهَا السَّمَاءَ لَزَعْزَعَا١٤٦
الْحَازِمَ الْيَقِظَ الْأَغَرَّ الْعَالِمَ الـْ ـفَطِنَ الْأَلَدَّ الْأريحيَّ الْأَرْوَعَا
الْكَاتِبَ اللَّبِقَ الْخَطِيبَ الْوَاهِبَ النـْ ـنَدُسَ اللَّبِيبَ الْهِبْرِزِيَّ الْمِصْقَعَا١٤٧
نَفْسٌ لَهَا خُلُقُ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ مُفْنِي النُّفُوسِ مُفَرِّقٌ مَا جَمَّعَا١٤٨
وَيَدٌ لَهَا كَرَمٌ الْغَمَامِ لِأَنَّهُ يَسْقِي الْعِمَارَةَ وَالْمَكَانَ الْبَلْقَعَا١٤٩
أَبَدًا يُصَدِّعُ شَعْبَ وَفْرٍ وَافِرِ وَيَلُمُّ شَعْبَ مَكَارِمٍ مُتَصَدِّعَا١٥٠
يَهْتَزُّ لِلْجَدْوَى اهْتِزَازَ مُهَنَّدٍ يَوْمَ الرَّجَاءِ هَزَزْتَهُ يَوْمَ الْوَعَى١٥١
يَا مُغْنِيًا أَمَلَ الْفَقِيرِ لِقَاؤُهُ وَدُعَاؤُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ إِذَا دَعَا١٥٢
أَقْصِرْ وَلَسْتَ بِمُقْصِرٍ جُزْتَ الْمَدَى وَبَلَغْتَ حَيْثُ النَّجْمُ تَحْتَكَ فَارْبَعَا١٥٣
وَحَلَلْتَ مِنْ شَرَفِ الْفَعَالِ مَوَاضِعًا لَمْ يَحْلُلِ الثَّقَلَانِ مِنْهَا مَوْضِعَا١٥٤
وَحَوَيْتَ فَضْلَهُمَا وَمَا طَمِعَ امْرُؤٌ فِيهِ وَلَا طَمِعَ امْرُؤٌ أَنْ يَطْمَعَا١٥٥
نَفَذَ الْقَضَاءُ بِمَا أَرَدْتَ كَأَنَّهُ لَكَ كُلَّمَا أَزْمَعْتَ شَيْئًا أَزْمَعَا١٥٦
وَأَطَاعَكَ الدَّهْرُ الْعَصِيُّ كَأَنَّهُ عَبْدٌ إِذَا نَادَيْتَ لَبَّى مُسْرِعَا١٥٧
أَكَلَتْ مَفَاخِرُكَ الْمَفَاخِرَ وَانْثَنَتْ عَنْ شَأْوِهِنَّ مَطِيُّ وَصْفِي ظُلَّعَا١٥٨
وَجَرَيْنَ مَجْرَى الشَّمْسِ فِي أَفْلَاكِهَا فَقَطَعْنَ مَغْرِبَهَا وَجُزْنَ الْمَطْلَعَا١٥٩
لَوْ نِيطَتِ الدُّنْيَا بِأُخْرَى مِثْلِهَا لَعَمَمْنَهَا وَخَشِينَ أَنْ لَا تَقْنَعَا١٦٠
فَمَتَى يُكَذَّبُ مُدَّعٍ لَكَ فَوْقَ ذَا وَاللهُ يَشْهَدُ أَنَّ حَقًّا مَا ادَّعَى١٦١
وَمَتَى يُؤَدِّي شَرْحَ حَالِكَ نَاطِقٌ حَفِظَ الْقَلِيلَ النَّزْرَ مِمَّا ضَيَّعَا١٦٢
إِنْ كَانَ لَا يُدْعَى الْفَتَى إِلَّا كَذَا رَجُلًا فَسَمِّ النَّاسَ طُرًّا إِصْبَعَا١٦٣
إِنْ كَانَ لَا يَسْعَى لِجُودٍ مَاجِدٌ إِلَّا كَذَا فَالْغَيْثُ أَبْخَلُ مَنْ سَعَى١٦٤
قَدْ خَلَّفَ الْعَبَّاسُ غُرَّتَكَ ابْنَهُ مَرْأًى لَنَا وَإِلَى الْقِيَامَةِ مَسْمَعَا١٦٥
وقال يرثي أبا شجاع فاتكًا، وقد توفي بمصر سنة خمسين وثلاثمائة، وكانت هذه المرثية بعد خروجه من مصر:
الْحُزْنُ يُقْلِقُ وَالتَّجَمُّلُ يَرْدَعُ وَالدَّمْعُ بَيْنَهُمَا عَصِيٌّ طَيِّعُ١٦٦
يَتَنَازَعَانِ دُمُوعَ عَيْنِ مُسَهَّدٍ هَذَا يَجِيءُ بِهَا وَهَذَا يَرْجِعُ١٦٧
النَّوْمُ بَعْدَ أَبِي شُجَاعٍ نَافِرٌ وَاللَّيْلُ مُعْيٍ وَالْكَوَاكِبُ ظُلَّعُ١٦٨
إِنِّي لَأَجْبُنُ مِنْ فِرَاقِ أَحِبَّتِي وَتُحِسُّ نَفْسِي بِالْحِمَامِ فَأَشْجُعُ١٦٩
وَيَزِيدُنِي غَضَبُ الْأَعَادِي قَسْوَةً وَيُلِمُّ بِي عَتْبُ الصَّدِيقِ فَأَجْزَعُ١٧٠
تَصْفُو الْحَيَاةُ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ عَمَّا مَضَى فِيهَا وَمَا يُتَوَقَّعُ١٧١
وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ نَفْسَهُ وَيَسُومُهَا طَلَبَ الْمُحَالِ فَتَطْمَعُ١٧٢
أَيْنَ الَّذِي الْهَرَمَانِ مِنْ بُنْيَانِهِ؟ مَا قَوْمُهُ مَا يَوْمُهُ مَا الْمَصْرَعُ؟١٧٣
تَتَخَلَّفُ الْآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا حِينًا وَيُدْرِكُهَا الْفَنَاءُ فَتَتْبَعُ١٧٤
لَمْ يُرْضِ قَلْبَ أَبِي شُجَاعٍ مَبْلَغٌ قَبْلَ الْمَمَاتِ وَلَمْ يَسَعْهُ مَوْضِعُ١٧٥
كُنَّا نَظُنُّ دِيَارَهُ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا فَمَاتَ وَكُلُّ دَارٍ بَلْقَعُ١٧٦
وَإِذَا الْمَكَارِمُ وَالصَّوَارِمُ وَالْقَنَا وَبَنَاتُ أَعْوَجَ كُلُّ شَيْءٍ يَجْمَعُ١٧٧
الْمَجْدُ أَخْسَرُ وَالْمَكَارِمُ صَفْقَةً مِنْ أَنْ يَعِيشَ لَهَا الْكَرِيمُ الْأَرْوَعُ١٧٨
وَالنَّاسُ أَنْزَلُ فِي زَمَانِكَ مَنْزِلًا مِنْ أن تُعَايِشَهُمْ وَقَدْرُكَ أَرْفَعُ١٧٩
بَرِّدْ حَشَايَ إِنِ اسْتَطَعْتَ بِلَفْظَةٍ فَلَقَدْ تَضُرُّ إِذَا تَشَاءُ وَتَنْفَعُ١٨٠
مَا كَانَ مِنْكَ إِلَى خَلِيلٍ قَبْلَهَا مَا يُسْتَرَابُ بِهِ وَلَا مَا يُوجِعُ١٨١
وَلَقَدْ أَرَاكَ وَمَا تُلِمُّ مُلِمَّةٌ إِلَّا نَفَاهَا عَنْكَ قَلْبٌ أَصْمَعُ١٨٢
وَيَدٌ كَأَنَّ قِتَالَهَا وَنَوَالَهَا فَرْضٌ يَحِقُّ عَلَيْكَ وَهْوَ تَبَرُّعُ١٨٣
يَا مَنْ يُبَدِّلُ كُلَّ يَوْمٍ حُلَّةً أَنَّى رَضِيتَ بِحُلَّةٍ لَا تُنْزَعُ١٨٤
مَا زِلْتَ تَخْلَعُهَا عَلَى مَنْ شَاءَهَا حَتَّى لَبِسْتَ الْيَوْمَ مَا لَا تَخْلَعُ
مَا زِلْتَ تَدْفَعُ كُلَّ أَمْرٍ فَادِحٍ حَتَّى أَتَى الْأَمْرُ الَّذِي لَا يُدْفَعُ١٨٥
فَظَلِلْتَ تَنْظُرُ لَا رِمَاحُكَ شُرَّعٌ فِيمَا عَرَاكَ وَلَا سُيُوفُكَ قُطَّعُ١٨٦
بِأَبِي الْوَحِيدُ وَجَيْشُهُ مُتَكَاثِرٌ يَبْكِي وَمِنْ شَرِّ السِّلَاحِ الْأَدْمُعُ١٨٧
وَإِذَا حَصَلْتَ مِنَ السِّلَاحِ عَلَى الْبُكَا فَحَشَاكَ رُعْتَ بِهِ وَخَدَّكَ تَقْرَعُ١٨٨
وَصَلَتْ إِلَيْكَ يَدٌ سَوَاءٌ عِنْدَهَا الـْ ـبَازِي الْأُشَيْهِبُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ١٨٩
مَنْ لِلْمَحَافِلِ وَالْجَحَافِلِ وَالسُّرَى فَقَدَتْ بِفَقْدِكَ نَيِّرًا لَا يَطْلُعُ١٩٠
وَمَنِ اتَّخَذْتَ عَلَى الضُّيُوفِ خَلِيفَةً؟ ضَاعُوا وَمِثْلُكَ لَا يَكَادُ يُضَيِّعُ١٩١
قُبْحًا لِوَجْهِكَ يَا زَمَانُ فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَهُ مِنْ كُلِّ قُبْحٍ بُرْقُعُ١٩٢
أَيَمُوتُ مِثْلُ أَبِي شُجَاعٍ فَاتِكٌ وَيَعِيشُ حَاسِدُهُ الْخَصِيُّ الْأَوْكَعُ؟!١٩٣
أَيْدٍ مُقَطَّعَةٌ حَوَالَيْ رَأْسِهِ وَقَفًا يَصِيحُ بِهَا أَلَا مَنْ يَصْفَعُ؟١٩٤
أَبْقَيْتَ أَكْذَبَ كَاذِبٍ أَبْقَيْتَهُ وَأَخَذْتَ أَصْدَقَ مَنْ يَقُولُ وَيَسْمَعُ١٩٥
وَتَرَكْتَ أَنْتَنَ رِيحَةٍ مَذْمُومَةٍ وَسَلَبْتَ أَطْيَبَ رِيحَةٍ تَتَضَوَّعُ١٩٦
فَالْيَوْمَ قَرَّ لِكُلِّ وَحْشٍ نَافِرٍ دَمُهُ وَكَانَ كَأَنَّهُ يَتَطَلَّعُ١٩٧
وَتَصَالَحَتْ ثَمَرُ السِّيَاطِ وَخَيْلُهُ وَأَوَتْ إِلَيْهَا سُوقُهَا وَالْأَذْرُعُ١٩٨
وَعَفَا الطِّرَادُ فَلَا سِنَانٌ رَاعِفٌ فَوْقَ الْقَنَاةِ وَلَا حُسَامٌ يَلْمَعُ١٩٩
وَلَّى وَكُلُّ مُخَالِمٍ وَمُنَادِمٍ بَعْدَ اللُّزُومِ مُشَيِّعٌ وَمُوَدِّعُ
مَنْ كَانَ فِيهِ لِكُلِّ قَوْمٍ مَلْجَأٌ وَلِسَيْفِهِ فِي كُلِّ قَوْمٍ مَرْتَعُ٢٠٠
إِنْ حَلَّ فِي فُرْسٍ فَفِيهَا رَبُّهَا كِسْرَى تَذِلُّ لهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ
أَوْ حَلَّ فِي رُومٍ فَفِيهَا قَيْصَرٌ أَوْ حَلَّ فِي عُرْبٍ فَفِيهَا تُبَّعُ٢٠١
قَدْ كَانَ أَسْرَعَ فَارِسٍ فِي طَعْنَةٍ فَرَسًا وَلَكِنَّ الْمَنِيَّةَ أَسْرَعُ٢٠٢
لَا قَلَّبَتْ أَيْدِي الْفَوَارِسِ بَعْدَهُ رُمْحًا وَلَا حَمَلَتْ جَوَادًا أَرْبَعُ٢٠٣
وقال في صباه:
بِأَبِي مَنْ وَدِدْتُهُ فَافْتَرَقْنَا وَقَضَى اللهُ بَعْدَ ذَاكَ اجْتِمَاعَا٢٠٤
فَافْتَرَقْنَا حَوْلًا فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَ تَسْلِيمُهُ عَلَيَّ وَدَاعَا٢٠٥
هوامش
(١) المشيِّع — بصيغة اسم الفاعل — سيف الدولة، والمشيَّع — بصيغة اسم المفعول — غلامه يماك. يدعو له يقول: لا عدمه غلامه. ثم قال: ليت الرياح تصنع ما تصنع أنت من نفع الناس.
(٢) بكرن ضرًّا: أراد بكرن — أي الرياح — يضررن ضررًا، أو بكرن ذوات ضر. والسجسج: السهل اللين الذي لا حر فيه ولا برد. والزعزع: الريح الشديدة المؤذية. يقول: إن الرياح تضر الناس وأنت سهل تنفع الناس فليتها مثلك!
(٣) عنى بالأربع: الجنوب، والشمال. والصبا، والدبور. والنبع: شجر صلب تتخذ منه القسي، وهو عندهم من جيد الشجر. والخروع: نبت ضعيف متثن، وكل شيء لين فهو خروع وخريع.
(٤) مر سيف الدولة في هذه الغزوة بمندو وعبر آلس — وهو نهر عظيم على يوم من طرسوس — ونزل على صارخة، وهي مدينة هناك، فأحرق ربضها وكنائسها وربض خرشنة وما حولها وأقام بمكانه أيامًا، ثم عبر آلس راجعًا. فلما أمسى ترك السواد وأكثر الجيش، وسرى حتى جاز خرشنة، وانتهى إلى بطن لقان ظهر الغد، فلقي الدمستق في ألوف من الخيل. فلما رأى الدمستق أوائل خيل المسلمين ظنها سرية لها، فانتشب القتال بين الفريقين. فانهزم الدمستق، وقتل من فرسانه خلق كثير، وأسر من بطارقته وزرازرته نيف وثمانون. وأفلت الدمستق وعاد سيف الدولة إلى عسكره وسواده حتى وصل إلى عقبة — تعرف بمقطعة الأثغار — فصادفه العدو على رأسها، فأخذ ساقة الناس يحميهم. ولما انحدر بعد عبور الناس ركبه العدو، فجرح من الفرسان جماعة، ونزل سيف الدولة على بردى — وهو نهر بطرسوس — وأخذ العدو عليه عقبة المسير — وهي عقبة طويلة — فلم يقدر على صعودها لضيقها وكثرة العدو بها، فعدل متياسرًا في طريق وصفه بعض الأدلة. وجاء العدو آخر النهار من خلفه، فقاتل إلى العشاء، وأظلم الليل، وتساند أصحاب سيف الدولة؛ أي أخذوا في سند الجبل يطلبون سوادهم. فلما خفت عنه أصحابه سار حتى لحق بالسواد تحت عقبة — قريبة من بحيرة الحدث — فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانبين، وجعل سيف الدولة يستنفر الناس فلم ينفر أحد، ومن نجا من العقبة نهارًا لم يرجع، ومن بقي تحتها لم تكن فيه نصرة. وتخاذل الناس وكانوا قد ملوا السفر، فأمر سيف الدولة بقتل البطارقة وبقية الأسرى، فكانوا مئات، وانصرف. واجتاز أبو الطيب آخر الليل بجماعة من المسلمين بعضهم نيام بين القتلى من التعب، وبعضهم يحركونهم فيجهزون على من تحرك منهم، فقال يصف ذلك.
(٥) يقول: لا أنخذع بالناس فأتأول فيهم الخير وأظن فيهم الجميل؛ لأنهم يجبنون عند القتال، ويشجعون عند الحديث، فشجاعتهم بالقول لا بالفعل، فلا أغتر بقولهم. وإنما قال: هذا الناس، ولم يقل هؤلاء: لأنه ذهب إلى لفظ الناس، لا إلى معناه. هذا، ويقال: خدعه يخدعه خدعًا بالكسر، مثل: سحره يسحره سحرًا، وخدعًا — بالفتح أيضًا — وخديعة وخدعة: أي أراد به المكر وختله من حيث لا يعلم. وتخادع وانخدع: أرى أنه قد خدع. وخدعته فانخدع ورجل خدعة بالتسكين: إذا كان يخدع كثيرًا، وخدعة: يخدع الناس كثيرًا، وأصله من خدع الضب يخدع خدعًا، وانخدع: إذا استروح ريح الإنسان، فدخل في جحره لئلا يحترش؛ ومن ذلك خدع الدهر: إذا تلون، وخدعت العين: لم تنم؛ وما خدعت بعينه نعسه: أي ما مرت بها. قال الممزق العبدي:
أَرِقْتَ فَلَمْ تَخْدَعْ بِعَيْنَيَّ نَعْسَةٌ وَمَنْ يَلْقَ مَا لَاقَيْتَ لَا بُدَّ يَأْرَقُ
(أي: لم تدخل بعيني نعسة، ثم قال: ومن يلقَ ما لاقيت يأرق لا بد؛ أي لا بد له من الأرق.)
(٦) الحفيظة: الحمية والأنفة. والغي: الانهماك في الجهل — خلاف الرشد. ويزع: يكف ويردع. يقول: هم أهل الحمية ما لم تجربهم، فإذا جربتهم لم تجدهم كذلك، وفي تجربتهم بعد ظهور غيهم ما يمنعك عن مخالطتهم. قال العكبري: يشير إلى ما ظهر من عجز أصحاب سيف الدولة في الغزة التي جبنوا فيها، وقال: هم يظهرون الحمية والجلد والإقدام ويتزينون بذلك ما لم تقع التجربة، فإذا جربوا تركوا. وقال بعض الشراح: يريد بالغي الاغترار؛ أي وفي تجربة الشيء بعد الاغترار به ما يكشف عن دخلته ويكف عن الاغترار به.
(٧) الطبع: الدنس. وقوله: ونفسي: في موضع رفع عطفًا على الحياة؛ أي مع الحياة، كما تقول: ما أنت وزيد: أي مع زيد. وما: استفهامية. يقول: ما لنفسي والحياة؟ أي: لا أريدها بعدما علمت أن الحياة غير المشتهاة دنس، وشين لها، فعلام الحرص إذن على هذه الحياة والركون إليها؟ أي لا أريد حياة ولا أشتهيها إذا كانت كذلك. وفيه نظر إلى قول قطري بن الفجاءة:
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
هذا، وأصل الطبع — الذي هو الدنس والشين — من قولهم: طبع السيف طبعًا فهو طبع؛ أي صدئ. قال الفقعسي: وتروى لحكيم بن معية الربعي، وأنشدها الأصمعي:
إِنَّا إِذَا قَلَّتْ طَخَارِيرُ الْقَزَعْ وَصَدَرَ الشَّارِبُ مِنْهَا عَنْ جُرَعْ
نُفْحِلُهَا الْبِيضَ الْقَلِيلَاتِ الطَّبَعْ مِنْ كُلِّ عَرَّاضٍ إِذَا هُزَّ اهْتَزَعْ
مِثْلِ قُدَامَى النَّسْرِ مَا مَسَّ بَضَعْ يَئُولُهَا تَرْعِيَةٌ غَيْرُ وَرَعْ
لَيْسَ بِفَانٍ كِبَرًا وَلَا ضَرَعْ تَرَى بِرِجْلَيْهِ شُقُوقًا فِي كَلَعْ
مِنْ بَارِئٍ حِيصَ وَدَامٍ مُنْسَلِعْ
(القزع: جمع قزعة؛ السحابة أو القطعة من الغيم. والطخارير: سحابات متفرقة. ويقال: أفحلت إبلي: إذا أرسلت فيها فحلًا. والبيض: السيوف. ونفحلها … إلخ: يريد نعرقبها بالسيوف، وهو مثل، وأراد بالعراض: السيف البراق المضطرب. واهتزع: اضطرب. وكلعت رجله تكلع كلعًا وكلاعًا تشققت واتسخت. وترعية: راع، ويؤلها: يجمعها، من آل يئول فهو موئلها. ومنسلع: متشقق.)
(٨) المارن: ما لان من الأنف. واجتدع أنفه: قطعه. يقول: ليس كل وجه صحيح المارن بجميل، فإن العزيز متى قطع عزه ذل، فصار كمن جدع أنفه وإن كان صحيح الأنف. وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:
لَيْسَ جَدْعُ الْأُنُوفِ عِنْدِيَ جَدْعًا إِنَّ ذُلَّ النُّفُوسِ قَتْلٌ وَجَدَعْ
واختص الأنف؛ لأن العرب تقصد الأنف من بين سائر الأعضاء، فيقولون: أرغم الله أنفه: أي ألزقه بالرغام؛ وهو التراب. هذا هو الأصل، ولكنهم يريدون الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره.
(٩) الانتجاع في الأصل: طلب الكلأ، ثم صار كل طلب انتجاعًا، والمراد بالغيث: لازمه من الخصب وسعة العيش. يقول: إن المجد وسعة الرزق إنما يطلبان بالسيف، فلمَ أطلبهما بشيء آخر؟ يقول: أأترك أن أجوز المجد بالسيف وأكسب المال من طريق الطعن والنزال، وأحاول ذلك بالطلب والسؤال، فأكون بذلك كمن طرح عن كتفه ما يطلبه وترك في غمده ما ينتجعه؟
(١٠) المشرفية: السيوف، والمشرفية: مبتدأ، والخبر: دواء، وجملة لا زالت مشرفة: دعائية. ومن روى: مشرِّفة بكسر الراء، فمعناه: لا كانت داء، بل كانت دواء، يقول: إن السيوف دواء الكريم أو داؤه؛ لأنه: إما أن يدرك بها طلبته فيملك فتكون دواء، وإما أن يقتل بها دون غايته فيهلك فتكون داء. وهذا ينظر إلى قول البحتري:
وَعِنْدَ بُقْرَاطَ دَاءٌ لَوْ تَأَمَّلَهُ قَالَ: الشِّفَاءُ بِحَدِّ الْبِيضِ وَالْأَسلِ
(١١) يريد بفارس الخيل: سيف الدولة؛ لأن خيله أرادت الهزيمة، فثبتها في مضيق من مضايق الروم. فقوله: خفت؛ أي أسرعت في الهزيمة فزعًا. ووقرها: ثبتها. والدرب: المضيق والمدخل إلى بلاد العدو. والأعطاف: الجوانب. والدم في أعطافها دفع: يعني أن الدم منصب عليها دفعة بعد دفعة. وقال ابن جني تعليقًا على قوله: وفارس الخيل: يريد إذا اجتمعت الخيل موصوفة بالفروسية كان أفرسهم، كقولك: شاعر القوم؛ فيحتمل أن يكونوا كلهم شعراء، ويجوز أن يكون وحده شاعرًا. وإذا قلت: هذا شاعر الرجلين لم يختص به الوصف دون الآخر، بل تعمهما الصفة؛ لأنه يجري مجرى أشعر الرجلين، فلا بد من أن يكون شاعرين. ولا تقول: هذا غلام الرجلين وأحدهما الغلام والآخر صاحبه، كما لا تقول: شاعر الرجلين، وأحدهما شاعر دون صاحبه.
(١٢) أوحدته: أي الخيل؛ أي: تركته وحيدًا. والقذع: الفحش. يقول: فتركته وحيدًا وتفرقت عنه فلم يقلق لشجاعته، وأغضبته بانحيازها عنه فلم يك في لفظه فحش ولا خَنًا؛ أي إنه شجاع وإن كان وحده، وحليم عند الغضب.
(١٣) ابن أبي الهيجاء: هو سيف الدولة. يقول: إن عز الملوك ومنعتهم بجيوشهم؛ لأنهم بهم يقوون ويمتنعون على أعدائهم، وعز جيشك بك؛ لأنهم لا يمتنعون على عدوهم إذا لم تكن فيهم، فأنت عزهم وبك منعتهم.
(١٤) المقانب: جمع مقنب، جماعة الخيل زهاء الثلاثمائة. والنهل: الشرب الأول. والشكيم: جمع شكيمة؛ الحديدة المعترضة في فم الفرس من اللجام. والسرع: السرعة مصدر سرع. يقول: قاد الجيوش مسرعًا بها حتى كان أقصى شرب خيلهم مرة واحدة وهي ملجمة ولم يتفرغوا — لشدة السير — أن يخلعوا اللجم، وأقل سيرها إسراع. يصف ما كان عليه سيف الدولة من الإشاحة والجد في لقاء العدو.
(١٥) لا يعتقي: أي لا يعتاق، يقال: عاقه واعتاقه، ثم يقلب، ويقال: عقاه واعتقاه. يقول: إن سيره إلى بلد لفتحه لا يعوقه عن سيره إلى غيره، كالموت الذي يعم فلا يرتوي ولا يشبع؛ أي لا يقنعه كثرة من يفنيه، كذلك هو لا يقنع بفتح بلد من بلاد الأعداء أو يفتحَ غيره.
(١٦) خرشنة: بلد بالروم. والأرباض: جمع ربض؛ ما حول المدينة من العمارة — الضواحي — يقول: ما زال يسرع بجيوشه حتى نزل بأرباض خرشنة وقد شقيت به الروم؛ لأنه يقتلهم ويحرق صلبانهم ويخرب بيعهم.
(١٧) يقول: لما أقام على أرباض خرشنة نكل بالروم فسبى نساءهم وأطفالهم وقتل أولادهم الكبار ونهب أموالهم وأحرق زرعهم. هذا، وقد أقام ما مقام من في المصراع الأول ليوافق «ما» في المصراع الثاني، على حد قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. ويجوز أن يكون حمل ما على المصدر؛ يريد: للسبي نكاحهم والقتل ولادتهم. قال العكبري: واللام في قوله: للسبي: لام العاقبة. كقوله:
لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
(هذا المصراع من أبيات نسبت إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي:
عَجِبْتُ لِجَازِعٍ بَاكٍ مُصَابْ بِأَهْل أَوْ حَبيب ذي اكْتئَابْ
شَقيقِ الْجَيْبِ دَاعِي الوَيْلِ جَهلًا كَأَنَّ المَوْتَ كَالْشَيء العُجابْ
وَسَوَّى اللهُ فِيه الْخَلْقَ حَتَّى نَبيَّ الله عَنْهُ لَمْ يُحَابْ
لَهُ مَلَكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْم لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا للْخَرابْ
ويحاب أي يحابي. يقال: حاباه: أي خصه. قال البغدادي: ورأيت أيضًا في «جمهرة أشعار العرب» لمحمد بن أبي الخطاب: قد روي أن بعض الملائكة قال:
لِدُوا للْمَوْتِ وَابْنُوا للْخَرَابْ فَكُلُّكُمُ يَصِيرُ إلى ذَهَابِ)
أي: عاقبتهما. هذا، وقد زاد المتنبي على أبي تمام في قوله:
لَمْ تَبْقَ مُشْرِكَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَتْ إِنْ لَمْ تَتُبْ أَنَّهُ لِلسَّبْيِ مَا تَلِدُ
(١٨) المرج: موضع ببلاد الروم. وصارخة: مدينة من مدائنهم. ومخلًى ومنصوبًا: حالان من ضمير أقام — أي سيف الدولة — ومشهودًا: حال من صارخة، وكان الوجه أن يقول: منصوبة ومشهودة. إلا أن التذكير جائز على حد قولك: نصب المنابر وشهد الجمع. يقول: إنه بلغ النهاية في النكاية بهم حتى أُخلي له المرج ونُصبت المنابر التي هي شعار الإسلام بصارخة وشهدت صلوات الجمع، والجمع: جمع جمعة، كجمعات.
(١٩) يقول: إن طول أكل الطير من لحوم قتلاهم أغرى الطير بهم، فقد ألفت لحومهم حتى تكاد تقع على لحوم الأحياء، وتختطفهم في غدواتهم وروحاتهم.
(٢٠) الحواريون: أصحاب السيد المسيح، وأضافهم إلى ضمير الروم؛ لأنهم من أهل دعوتهم، يقول: لو رأى الحواريون سيف الدولة وشاهدوا عدله وإنصافه وكرمه لأوجبوا محبته وطاعته فيما يشرعون للمسيحيين من الشرع. هذا، وإنما سمي أصحاب السيد المسيح — صلوات الله عليه — بالحواريين، قيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب، وقيل: الحواريون صفوة الأنبياء الذين قد خلصوا لهم، ومن ذلك قول النبي ﷺ: «الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي.» أي خاصتي من أصحابي وناصري. وتأويل الحواريين في اللغة: الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب، وكذلك الحواري من الدقيق سمي به؛ لأنه ينقى من لباب البر. وتأويله في الناس: الذي قد روجع في اختياره مرة بعد مرة، فوجد نقيًّا من العيوب. والحواريات من النساء: النقيات الألوان والجلود لبياضهن. ومنه الحور العين: لبياض عيونهن، والعرب نساء الأمصار حواريات لبياضهن وبعدهن عن قشف الأعراب بنظافتهن. قال أبو جلدة:
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا وَلَا تَبْكِنَا إِلَّا الْكِلَابُ النَّوَابِحُ
بَكَيْنَ إِلَيْنَا خِيفَةً أَنْ تُبِيحَهَا رِمَاحُ النَّصَارَى وَالسُّيُوفُ الْجَوَارِحُ
[جعل أهل الشام نصارى؛ لأنها تلي الروم، وهي بلادها.]
(٢١) الدمستق: صاحب جيش الروم. والقزع: المتفرق من السحاب واحدها قزعة. يقول: رأى الدمستق كتائب سيف الدولة فظنها شرازم قليلة ورأى سحابًا متراكمة، فظنها قطعًا متفرقة فلما وجد الأمر على خلاف ما أدركته عيناه ذم نظر عينيه. وعبارة ابن جني: تحير حتى أنكر حاسة بصره. وهذا يشبه قول البحتري:
فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ لَمْ تَجْتَمِعْ لَهُ يَدَاهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْبِيضِ نَاظِرُهْ
(٢٢) فيها: أي في سود الغمام؛ وهي عساكر سيف الدولة. والكماة: جمع كمي؛ وهو الشجاع المتسلح. والحولي: الذي الذي أتى عليه حول. والجذع: الذي أتى عليه حولان. يقول: فيها أبطال صبيهم رجل لدى الوغى وحولي خيلهم جذع؛ يعني الصغير في جيشه، كبير يعظم أمره.
(٢٣) اللقان: موضع ببلاد الروم. وآلس: نهر هناك. يصف سرعة جري خيله ومواصلتها السير؛ يقول: شربت الماء من آلس وبلغت اللقان قبل أن تزدرد — تبتلع — ما شربته، فماء هذا النهر في حلوقها، وقد وصل إلى مناخرها تراب اللقان وبينهما مسافة بعيدة. وعبارة ابن الإفليلي: وصلت اللقان وحناجرها لم تجف من ماء النهر. يشير إلى ركض الخيل وشدة إسراعها، وهذا مبالغة. وقال ابن جني: لا تستقر فتشرب، إنما تختلس الماء اختلاسًا بمواصلة السير. قال: ويجوز أن يكون شربت الماء قليلًا لعلمها بما يعقب في الركض، وكذا يفعل كرام الخيل.
(٢٤) يقول: كأن خيله تتلقى الروم لتدخل فيهم؛ لأن طعن فوارسها يفتح في أجوافهم جراحات تسع الخيل. يصف سعة الطعن، وهذا ينظر إلى قول قيس بن الخطيم:
طَعَنْتُ ابْنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَةَ ثَائِرٍ لَهَا نَفَذٌ لَوْلَا الشُّعَاعُ أَضَاءَهَا
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَزْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
(النفذ: الثقب. والشعاع: حمرة الدم؛ أي: لولا الدم لأضاءها النفذ حتى تستبين.)
(ملكت: شددت وضبطت، وأنهرت: أوسعت.)
وعبارة ابن الإفليلي: لتسلك أجسادهم وتتخذها طرقًا، وطعن فوارسها يفتح ما يسعهم ويخرق ما لا يضيق بهم. وليس هذا الإفراط بأعجب من قول النابغة يصف السيوف:
تَقُدُّ السُّلُوقِيٌّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ وَتُوقِدُ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ
[السلوقي: الدرع المسنوبة إلى سلوق — قرية باليمن — والصفاح: الحجر العريض. ونار الحباحب: ما اقتدح من شرر النار في الهواء من تصادم الحجارة، وقيل: الحباحب: ذباب يطير بالليل — كأنه نار، له شعاع كالسراج.]
(٢٥) نار: فاعل تهدى. والقنا: الرماح، وهو مبتدأ، خبره: شمع. والجملة: حالية. يقول: إذا أظلمت الحرب بالنقع — الغبار — هدت عيون الخيل فيها نار الأسنة، ولما استعار للأسنة نارًا جعل القنا شمعًا، والأسنة في رءوس القنا — كما هو معروف — قال ابن وكيع: ينظر فيه إلى قول النمري:
لَيْلٌ مِنَ النَّقْعِ لَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا جَبِينُكَ وَالْمَذْرُوبَةُ الشُّرُعُ
(المذروبة الشرع: أسنة الرماح الحادة المشرعة.)
ولقد أحسن البحتري فيه بقوله:
مَدَّ لَيْلًا مِنَ الْعَجَاجِ فَمَا يَمْـ ـشُونَ إِلَّا بِضَوْءِ السُّيُوفِ
(٢٦) يقال لوهج الصيف وغبراته: سهام — بفتح السين — والسهام: حر السموم. وقد سهم الرجل، على ما لم يسم فاعله: إذا أصابته السموم. والقر: البرد. وطافحة: حال؛ أي مسرعة، يقال: طفح يطفح: إذا ذهب يعدو. والمقورة: الضامرة. والمزع: السريعة، يقال: مزع الفرس والظبي يمزع: إذا مر مسرعًا خفيفًا. يقول: قبل حمارَّة الصيف وصبارَّة البرد تأتيهم خيل سيف الدولة وتعدو على نفوسهم فتطؤهم بحوافرها. وكان لسيف الدولة غزوتان في كل سنة: غزوة في الربيع، وغزوة في الخريف. وروى ابن جني: «دون السِّهام» بكسر السين، ودون الفر: أي قبل أن تصل إليهم سهام الرماة، وقبل أن يفروا تهجم عليهم هذه الخيل المسرعة الضامرة. قال ابن جني: سألته — أي المتنبي — فقال: هذه الخيل طفحت عليهم، وقد صارت أقرب إلى نفوسهم من السهام ومن أن يفروا. يصف سرعة الخيل وأنها قد ركبتهم وغشيتهم.
(٢٧) العلج: الرجل الغليظ من كفار العجم. وأظمى: يعني رمحًا أسمر، ومنه: تعليل. يقول: إذا استعان العلج بعلج آخر حال بينهما رمح أظمى يفرق بين الضلعين، فكيف بين العلجين؟
(٢٨) الفقاس: جد الدمستق. وقال ابن جني: هو الدمستق كأنه لقبه. وأجل وأمضى: مبتدآن، خبرهما: المرفوع بعدهما. يقول: إن هرب الدمستق وسبق الخيل بالفرار فلم تدركه، فأجل منه وأعظم قدرًا أسير منكتف — مشدود الكتفين — لأنه قاتل حتى أسر — وكان قد أُسر من أصحابه نيف وخمسون رجلًا — وأشجع منه قتيل مصروع؛ لأنه قاتل حتى قتل ولم ينهزم.
(٢٩) شفار: جمع شفرة، حد السيف. يقول: لم ينجُ من السيوف من نجا إلا وفي قلبه منها فزع؛ لأن ذلك يقتله ولو بعد حين. ولله أبو تمام إذ يقول:
إِنْ يَنْجُ مِنْكَ أَبُو نَصْرٍ فَعَنْ قَدَرٍ تَنْجُو الرِّجَالُ وَلَكِنْ سَلْهُ كَيْفَ نَجَا؟
(٣٠) المختبل: الذاهل المضطرب. والممتقع: المتغير اللون. يقول: يصير إلى مأمنه، فيعيش في الأمن حينًا من الدهر وهو ذاهل مختبل العقل، لشدة ما لحقه من الفزع، ويحتسي الخمر وهو ممتقع اللون لاستيلاء الصفرة عليه، فلا تحيل الخمر لونه إلى الحمرة مع إدمانه عليها.
(٣١) الحشاشة: بقية الروح. والبطريق: الفارس من الروم أو القائد. وتضمنها: كفلها. والباترات: السيوف. والورع: التقى والكف عن المحارم، والمراد بالأمين الذي لا ورع له: القيد. يقول: كم من بطريق أسر ليقتل إذا دعت الحاجة إلى قتله، فأرواحهم في ضمان القيد للسيوف. قال العكبري: وقوله: أمين ما له ورع من أحسن الكلام؛ لأن الأمين هو الذي يؤتمن على الأشياء فلا بد له من ورع.
(٣٢) يقاتل ويطرد: أي الأمين، وهو القيد. وعنه: أي عن المقيد. يقول: إن القيد يمنعه الخطو إن أراد السير ويمنعه النوم عند الاضطجاع، فإذا أراد المشي قاتله بتضييقه؛ يريد أوجعه بالضيق على ساقيه، فكأنه يقاتله. وإذا أراد النوم منعه؛ فكأنه يطرده عنه. ولعله ينظر إلى قول أبي نواس:
إِذَا قَامَ أَعْيَتْهُ عَلَى السَّاقِ حِلْيَةٌ لَهَا خَطْوُهُ وَسْطَ الْفِنَاءِ قَصِيرُ
(٣٣) يقول: إن المنايا تنتظر أمر سيف الدولة؛ فهي إن كفها ولت وإن أمرها بأن تعود إليهم تدفقت عليهم، ومثله قول بكر بن النطاح:
كَأَنَّ الْمَنَايَا لَيْسَ يَجْرِينَ فِي الْوَغَى إِذَا الْتَقَتِ الْأَبْطَالُ إِلَّا بِرَأْيِهِ
ويقول صريع الغواني:
كَأَنَّ الْمَنَايَا عَالِمَاتٌ بِأَمْرِهِ إِذَا خَطَرَتْ أَرْمَاحُهُ وَمَنَاصِلُهْ
(٣٤) المسلمين — بفتح اللام — الذين أسلمهم سيف الدولة للعدو لتخاذلهم عنه؛ وذلك أن سيف الدولة لما قتل من قتل وأسر من أسر، غادر ذلك الموضع وبقي فيه جماعة من جيشه يجهزون على من بقي فيه رمق من القتلى، ومنهم من أخذه النوم فجاءهم العدو وأخذوهم وقتلوهم. يقول: إن هؤلاء الذين تركهم سيف الدولة وأسلمهم هم لكم فاصنعوا بهم ما شئتم، خانوا الأمير بالانحياز عنه فجازاهم بأن أسلمهم إليكم، ثم بين ما صنعوا في البيت التالي.
(٣٥) في دمائكم: أي في دماء قتلاكم؛ وذلك أنهم تخللوا القتلى فتلطخوا بدمائهم، وألقوا أنفسهم بينهم تشبهًا بهم خوفًا من الروم. يقول: كأنهم كانوا مفجوعين بقتلاكم فهم فيما بينهم يتوجعون لهم.
(٣٦) ضعفى: جمع ضعيف؛ ونزع عن الشيء: رغب عنه وأعرض. يقول: إن هؤلاء الذين فعلوا ذلك هم خساس عسكر سيف الدولة إن هموا بعدوهم أعرض عنهم أنفة من ضعفهم وخستهم. وقد حقق هذا فيما يلي.
(٣٧) يقول: ليس لكم أن تفخروا بهؤلاء الذين أسرتم ولا تظنوهم كان فيهم رمق — بقية حياة — وإنما هم أموات من الجبن والخوف؛ وأنتم لخستكم ودناءة نفوسكم لا تقدرون إلا على أمثالهم، كما أن الضبع لا تفترس إلا الجثث الميتة. وقد عاب ابن وكيع هذا البيت وقال: كيف أطلق على الضبع هذا وأنها تأكل الميتة؟ كأنه لم يقرأ كتاب الوحوش، ولم يسمع وصفها في أشعار العرب؛ لأن الضبع تخنق عشرًا من الغنم حتى تأخذ واحدة؛ وهي من أخبث السباع على الغنم. قال: ولو هو قال: «ما كل من قد أسرتم كان ذا رمق» لكان أوضح وأحسن.
(٣٨) العقب: جمع عقبة. وفرادى: جمع فردان؛ أي: فرد. يقول: هلا وقفتم أو قاتلتم هناك وقد صعدت إليكم رجال أبطال يسرعون إلى الحرب أفرادًا لا يتوقف بعضهم على بعض لشجاعتهم وثقتهم بقوتهم. كما قال الحماسي:
قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
قال العكبري: قوله: هلا يريد: هلا صرتم، أو هلا وقفتم مثلًا؛ لأن هلا للتحضيض ولا بد لها من الفعل — مظهرًا أو مضمرًا — ومنه قول جرير:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلَا الْكَمِيُّ الْمُقَنَّعَا
(تعدون هنا بمعنى تجعلون وتحسبون؛ ولهذا عداه إلى مفعولين. ويجوز أن يكون من العد، ويكون على إسقاط «من» الجارة، تقديره: تعدون عقر النيب من أفضل مجدكم؛ فلما أسقط الخافض: تعدى الفعل فنصب. وبنو ضوطرى: حي معروف. وقال ابن سيده: يقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء: بنو ضوطرى، ومنه قول جرير يخاطب الفرزدق: … إلخ. ومعنى البيت: إنكم تعدون عقر الإبل المسنة التي لا ينتفع بها ولا يرجى نسلها أفضل مجدكم، هلا تعدون قتل الشجعان أفضل مجدكم؟ وهذا تعريض بجبنهم عن مقارعة الشجعان ومنازلة الأقران.)
أي: هلا عددتم الكمي المقنع.
(٣٩) السلهبة: الطويلة من الخيل. يقول: يشق صفوفكم كل فرس من خيل هؤلاء الرجال بفارسها، ويمكن سيفه منكم حتى يكون من يأتي عليه الضرب أكثر ممن يدعه. وروى بقناها: أي برماحها؛ أي تشقكم كل سلهبة برمحها، والمراد كل صاحب سلهبة؛ لأن أصحاب السلاهب — الخيل — وفرسانها هم الذين يشقون بالطعن. هذا، ويدع: مضارع فعل ترك استعماله.
(٤٠) الفسل: الرذل الدنيء العاجز. يقول: إنما عرض الله لكم الجنود — الذين انقطعوا عن عسكر سيف الدولة … وهم الأوباش الذين قتلتموهم — ليجرد الله عسكر الإسلام من أمثالهم فيعود إليكم سيف الدولة في الأبطال المنتخبين ليس فيهم فسل ولا دنيء. قال الواحدي: كل الناس رووا «بكم» والصحيح في المعنى لكم باللام؛ لأنه يقال: عرضت فلانًا لكذا فتعرض له. ويجوز أن تكون بكم: من صلة معنى التعرض، لا من لفظه، ومعناه: إنما ابتلى الله الجنود بكم؛ أي إنما خذلهم الله وجعلهم لكم عرضة.
(٤١) يقول: فكل غزوة إليكم بعد اليوم تكون عاقبتها له لا عليه؛ لأن الأوباش والضعفاء من جنوده قد قتلوا، ولم يبقَ إلا الأبطال المصطفين الأخيار وكل غازٍ تبع له؛ لأنه أمير الغزاة وسيدهم.
(٤٢) يقول: إن أفعالك أبكار لم يسبق إليها، فأنت مبتدع في كل مأثرة لا متبع أحدًا فيها، أما غيرك من الكرام فإنهم يقتفون آثار غيرهم.
(٤٣) الضرع: الضعيف. يقول: إذا كنت الفارس الشجاع وغيرك الضعيف العاجز فلا يعيبك عجز العاجز. يريد أن قتلهم وأسرهم ضعاف أصحابك لا يشينك. قال الشراح: وفي نظم هذا البيت عيب عند الحذاق بصناعة الشعر؛ لأنه كان ينبغي أن يقول في صدر البيت الأول: «كنت حازمه» لما قال في العجز: العاجز الضرع؛ لأن ضد الحازم العاجز. أو يقول: فارسه وجبانه.
(٤٤) ولا يضع: أي ولا يضعه شيء. يقول: من بلغ الغاية في الرفعة فليس وراء الغاية موضع. وإذن لا يرفع بنصرة أحد ولا يتضع بخذلان أحد.
(٤٥) أسلمه: خذله. والكر: الرجوع إلى الحرب مرة بعد أخرى. والأعقاب: جمع عقب؛ وهو مؤخر كل شيء. واسم كان: ضمير الشأن، والجملة بعدها خبرها. والشيع: الأتباع. يقول: إذا كان أصحابه قد خذلوه وأسلموه للأعداء بهذا التخاذل، فإن كرَّه على الأعداء في الأعقاب — أي أواخر الخيل — لم يخذله؛ يعني أنه من شجاعة نفسه في منعة، وبذلك دافعت نفسه عن نفسه. ومثله لأبي تمام:
مَا غَابَ عَنْهُ مِنَ الْإِقْدَامِ أَشْرَفُهُ فِي الرَّوْعِ إِنْ غَابَتِ الْأَنْصَارُ وَالشِّيَعُ
(٤٦) الدنيء مهموز، وقال ابن جني: قلت له — للمتنبي: عند القراءة عليه أأهمزه؟ قال: لا تهمزه، فقلت له: هو من باب المهموز. فقال: لا: ألا ترى الإجماع على قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ بترك الهمزة؟ أقول: والذي يؤخذ من كلام أهل اللغة أن الدنيَّ بمعنى: الخسيس، لا يهمز — كما هنا — أما الدنيء بمعنى: الخبيث الماجن، فإنهم يهمزونه. قال أبو زيد في النوادر: رجل دنيء: هو الخبيث البطن والفرج، دنؤ دناءة، ورجل دني، وقد دني يدني، ودنو يدنو دنوًّا؛ وهو الضعيف الخسيس الذي لا غناء عنده، المقصر في كل ما أخذ فيه، وأنشد:
فَلَا وَأَبِيكَ مَا خُلُقِي بِوَعْرٍ وَلَا أَنَا بِالدَّنِيِّ وَلَا الْمُدَنِّي
(المُدني: المقصر عما ينبغي أن يفعله.)
يقول: ليت الملوك يعطون الشعراء على أقدارهم في الاستحقاق بفضلهم، ولو هم فعلوا لما طمع في نوالهم خسيس. وهذا تعريض بأنه يسويه مع غيره ممن لم يبلغ درجته في الفضل.
(٤٧) الحبيك: جمع حبيكة — كسفين وسفينة — وهي الطرائق تكون في السماء، وفي الماء الساكن أو الرمل إذا هبت عليهما الريح فيتجعدان ويصيران طرائق. والبيض: إما قراءتها بفتح الباء — جمع بيضة؛ وهي الخوذة من حديد تجعل على الرأس للوقاية في الحرب — وحبيكها: طرائقها. وإما بكسر الباء: أي السيوف، وحبيكها: تلك الطرائق التي في السيوف. يقول: رضيت من الشعراء بالنظر إلى قتالك والاستماع إلى قراعك في الوغى — الحرب — دون أن يباشروا القتال؛ يعني أنا الذي أباشر القتال معك دون غيري من الشعراء.
(٤٨) لعله يريد أن يقول: لقد غشك مَن انتفاعك منه بغير الصدق؛ يعني شعر هؤلاء الشعراء. أي إن هؤلاء الشعراء إنما يتقربون إليك ويأخذون أموالك بذلك الشعر الكاذب الذي لا يصحبه فعل؛ إذ لا يباشرون معك القتال، فكأنهم يغشونك. أما أنا: فإني أصدقك إذ أمدحك وأباشر معك القتال. وعبارة العكبري: من لم يصدقك بقوله فقد غشك، فإنه يظهر لك الشجاعة، والجبن عنده، ويظهر لك الجلد، والضعف حقيقته، فهو يتعاطى ما ليس عنده. قال ابن وكيع: لو قال: «من كان منك بغير الصدق» لسلم من الاعتراض. وقال الواحدي: معنى البيت: من لم يصدقك فقد غشك يعني أني قد صدقتك فيما ذكرت؛ لأني لو لم أصدقك كنت قد غششتك. قال: ويجوز أن يكون المعنى: إن من غشك بتخلفه عنك فقد أباحك أن تغشه في معاملتك إياه. وجعل ما يفعله سيف الدولة غشًّا؛ لأنه جزاء الغش. وقوله على هذا: «بغير الصدق» أي: بغير صدق اللقاء. يعني بالنظر والسماع.
(٤٩) المصطاف والمرتبع: المنزل في الصيف والربيع. يقول: إن الدهر معتذر إليك مما فعل؛ يعني من قتل الروم ضعفاء أصحابك. والسيف ينتظر كرتك عليهم فيشفيك منهم. وأرضهم لك منزل صيفًا وربيعًا تنزلها متى شئت، إذ هي ملك لك. وصدر البيت من قول أبي تمام:
عَضْبًا إِذَا سَلَّهُ فِي وَجْهِ نَائِبَةٍ جَاءَتْ إِلَيْهِ صُرُوفُ الدَّهْرِ تَعْتَذِرُ
وعجزه من قوله أيضًا:
وَأَقَمْتَ فِيهَا وَادِعًا مُتَمَهِّلًا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا لَكَ دَارُ
(٥٠) نصران ونصراني واحد. والأعصم: الوعل الذي في إحدى يديه بياض. والصدع: الوعل لا بالمسن ولا بالصغير؛ أي الفتى. يقول: إن اعتصامهم بجبالهم لا ينفعهم؛ لأنها لا تحميهم؛ ولو أن أوعالها تنصرت لم تحمها الجبال.
(٥١) الامتصاع والمماصعة: التقاتل والتجالد بالسيوف، وامتصع في الأرض: ذهب فيها هاربًا. يقول: لم أحمدك على شجاعتك وثباتك في الحرب إلا بعد أن بلوتك — خبرتك وجربتك — لدى قتال الأبطال، أو والأبطال تهرب فارة منك.
(٥٢) الخرق: الخفة والطيش، والزمع: الرعدة. يقول: الظن قد يخطئ، فالأخرق قد يظن شجاعًا، والشجاع الذي تعتريه الرعدة من الغضب قد يظن جبانًا، وإنما يتحقق الأمر عند التجربة؛ يعني إني قد مدحتك بعد الخبرة ولم أخطئ ولم أكذب.
(٥٣) كل: مبتدأ، والسبع: خبر، والجملة: خبر ليس، واسمها: ضمير الشأن. والمخلب: للطير والسباع، بمنزلة الظفر للإنسان. وهذا مثل ضربه. يقول: ليس كل من يحمل السلاح شجاعًا، كما أنه ليس كل ذي مخلب أسدًا يفترس.
(٥٤) الحشاشة: بقية الروح في المريض. والظاعنين: المرتحلين. يقول: لي بقية نفس ودعتني وفارقتني يوم ودعني الأحباب، فذهبت البقية والحبيب فبقيت حائرًا لا أدري أيَّ المرتحلين أودع؟ يعني الحشاشة والحبيب المودع في جملة من ودعوا. فقوله: الظاعنيْن بلفظ التثنية، وروى بلفظ الجمع على إرادة الحشاشة، والأحبة الذين ذكرهم في قوله: ودعوا. وهذا المعنى ينظر إلى قول بشار:
حَدَا بَعْضُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَبَعْضُهُمْ شِمَالًا وَقَلْبِي بَيْنَهُمْ مُتَوَزَّعُ
(٥٥) المؤق: طرف العين مما يلي الأنف، والجمع: آماق، وهو مهموز العين، ويقلب فيقدم الهمز، فيقال: آماق؛ مثل: بئر وآبار، والسم: لغة في الاسم — بكسر السين، وضمها، وفتحها — يقول: أشاروا إلينا بالسلام علينا فجدنا عليهم بأرواح سالت من الآماق تسمى دموعًا؛ أي إنها كانت أرواحنا سالت من عيوننا في صورة دموع. ومثله:
خَلِيلَيَّ لَا دَمْعًا بَكَيْتُ وَإِنَّمَا هِيَ الرُّوحُ مِنْ عَيْنِي تَسِيلُ عَلَى خَدِّي
ويقول بشار:
وَلَيْسَ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْعَيْنِ مَاءَهَا وَلَكِنَّهَا رُوحِي تَذُوبُ فَتَقْطُرُ
ويقول ديك الجن:
لَيْسَ ذَا الدَّمْعُ دَمْعَ عَيْنِي وَلَكِنْ هِيَ نَفْسِي تُذِيبُهَا أَنْفَاسِي
ولابن دريد:
لَا تَحْسَبُوا دَمْعِي تَحَدَّرَ إِنَّهَا رُوحِي جَرَتْ فِي دَمْعِيَ الْمُتَحَدِّرِ
(٥٦) الحشا: ما في داخل الجوف؛ والمراد به هنا: القلب. يقول: قلبي على جمر شديد التوقد من الهوى لأجل توديعهم وفراقهم، وعيناي ترتعان من وجه الحبيب في روض من الحسن، ولله أبو تمام حين يقول:
أَفِي الْحَقِّ أَنْ يُضْحِي بِقَلْبِيَ مَأْتَمٌ مِنَ الشَّوْقِ وَالْبَلْوَى وَعَيْنَاي فِي عُرْسِ
والأصل في هذا المعنى قول ابن الدمينة:
غَدَتْ مُقْلَتِي فِي جَنَّةٍ مِنْ جَمَالِهَا وَقَلْبِي غَدَا مِنْ هَجْرِهَا فِي جَهَنَّمِ
هذا، وإنما لم يقل: ترتعان؛ لأن حكم العينين حكم حاسة واحدة، فلا تكاد تنفرد إحداهما برؤية دون الأخرى، فاكتفى بضمير الواحد. قال العكبري: وأفرد الخبر؛ لأن العينين — وهما عضوان مشتركان في فعل واحد مع اتفاقهما في التسمية — يجري عليهما ما يجري على أحدهما؛ ألا ترى أن كل واحدة من العينين لا تكاد تنفرد بالرؤية دون الأخرى باشتراكهما في النظر كاشتراك الأذنين في السمع، والقدمين في المشي؟ وقد استعمل هذا الباب على أربعة أوجه: أحدها على الحقيقة في الخبر والمخبر عنه، فتقول: عيناي رأتاه، وأذناي سمعتاه. والثاني: أن تخبر عن اثنين وتفرد الخبر — كبيت أبي الطيب — فتقول: عيناي رأته. والثالث: أن تعبر عن اثنين بواحد وتفرد الخبر، فتقول: عيني رأته، وأذني سمعته. والرابع أن تعبر عن اثنين بواحد، وتثني الخبر حملًا على المعنى، فتقول: عيني رأتاه وأذني سمعتاه، كقول الشاعر:
إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الَّذِي مَضَى بِصَحْرَاءِ فَلْجٍ ظَلَّتَا تَكِفَانِ
(٥٧) الصم: الصلاب. وتتصدع: تتشقق. وهذا من قول البحتري:
وَلَوْ أَنَّ الْجِبَالَ فَقَدْنَ إِلْفًا لَأَوْشَكَ جَامِدٌ مِنْهَا يَذُوبُ
(٥٨) بما بين جنبي: أي أفديها بما بين جنبي؛ يعني قلبه أو روحه. فالباء للتفدية. وقال ابن القطاع: يريد هي مطالبة بتلاف روحي التي بين جنبي. والدياجي: جمع ديجوج، وكان القياس دياجيج، ولكنهم خففوا الكلمة بحذف الجيم الأخيرة، كما قالوا: مكوك ومكاكي. والخلي: الذي يخلو قلبه من الهوى والهم. والهجع: النيام. يقول: أفدي بقلبي المرأة التي أتاني خيالها في ظلام الليل فقطع الظلمة إلي والذين خلوا من الحب كانوا نيامًا، قال الواحدي: وهذا كالمتضارب؛ لأنه أيضًا كان نائمًا حين رأى خيالها، لكن يجوز أن يكون نومه نعسة خفيفة، فرأى خيالها في تلك النعسة، وغيره من الخليين نام جميع ليلته.
(٥٩) زائرًا: حال من فاعل أتت؛ أي أتت خيالًا زائرًا. وخامر: خالط. والكاف — في «كالمسك»: اسم، بمنزلة مثل، مبتدأ، والخبر: الجملة بعدها. والأردان: جمع رُدْن؛ أصل الكم. ويتضوع: يفوح. يقول: أتت زائرة ما خالط الطيب ثوبها؛ أي لم تتعطر، ومثل المسك يفوح من ثيابها؛ لأنها طيبة الرائحة طبعًا — لا تطبعًا — كما قال امرؤ القيس:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ؟
أي إن طيبها خلقة فيها لا تتكلفه.
(٦٠) قبل ترضع: أي قبل أن ترضع.
(٦١) أعظمه إعظامًا: استعظمه. وما: موصولة، وهي مفعول شرد. ومن — في قوله: من النوم — بيانية. والتاع: احترق. واللوعة: الحرقة. والمفجع: الموجع. يقول: لما رأيت خيالها استعظمت رؤيتها، فنفى ذلك نومي الذي أتى بها، واحترق قلبي لفقد رؤيتها.
(٦٢) تجرعه: شربه على تكلف واستكراه. يقول: ما كان أطول تلك الليلة التي فارقني فيها خيالها فتجرعت من حرارة فراقها ما كان السم بالقياس إليه عذبًا؟ فقوله: ما كان أطول؛ أي: ما كان أطولها، فحذف الضمير للوزن.
(٦٣) يقول: ارض بما تحكم منقادًا مطيعًا لها، والخضوع في القرب: الطاعة والانقياد، وفي البعد: الرضا والتسليم لفعلها، وذلك آية المحب، كما قال أبو نواس:
أَيَا كَثِيرَ النَّوْحِ فِي الدِّمَنِ لَا عَلَيْهَا بَلْ عَلَى السَّكَنِ
سُنَّةُ الْعُشَّاقُ وَاحِدَةٌ فَإِذَا أَحْبَبْتَ فَاسْتَكِنِ
ويقول:
كُنْ إِذَا أَحْبَبْتَ عَبْدًا لِلَّذِي تَهْوَى مُطِيعَا
لَنْ تَنَالَ الْوَصْلَ حَتَّى تُلْزِمَ النَّفْسَ الْخُضُوعَا
ويقول العباس بن الأحنف:
تَحَمَّلْ عَظِيمَ الذَّنْبِ مِمَّنْ تُحِبُّهُ وَإِنْ كُنْتَ مَظْلُومًا فَقُلْ: أَنَا ظَالِمُ
فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَحْمِلِ الذَّنْبَ فِي الْهَوَى يُفَارِقْكَ مَنْ تَهْوَى وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
(٦٤) يقول: إنه لم يسلم المجد لأحد خالصًا غير مشوب باللؤم إلا للممدوح. ولا ثوب: روي بالرفع عطفًا على عاشق — في البيت السابق — وبالنصب على جعل لا نافية للجنس. وغير: منصوب على الاستثناء. وابن أحمد: الممدوح. وعلى أحد: صلة ثوب الأول. واللؤم: الخسة، ضد الكرم. ومرقع: خبر، ورواها ابن جني: يرقع.
(٦٥) جديلة: رهط الممدوح من طيئ. قال ابن جني: حابى بمعنى حبا؛ أي أعطى، وعلى هذا يكون المعنى: إن الذي أعطى بني جديلة هذا الممدوح فجعله منهم هو الله تعالى يعطي من يشاء ويمنع من يشاء. ونص عبارة ابن جني: حابى: بمعنى حبا، مأخوذ من الحباء؛ وهو العطية. واسم الله مرفوع به، والجملة — التي هي: يعطي وفاعله — خبر إن. واسم إن: الذي قال العكبري: وخولف في هذا فقيل: معنى حابى: بارى، تقول: حابيت زيدًا: إذا باريته — مثل باهيته — في العطاء. وليس بمعروف أن المعنى حابيته بكذا: حبوته به. قال الشريف هبة الله بن محمد بن علي بن محمد الشجري: فعلى هذا يكون فاعل حابى: مضمرًا فيه، يعود على الذي. واسم الله: مرتفع بالابتداء، وخبره: الجملة، تقديره: إن الذي حابى به جديلة في الحباء الله يعطي من يشاء، ومفعول يمنع: محذوف دل عليه مفعول يعطي، وكذلك مفعول يشاء المذكور، والمحذوفان تقديرهما: يعطي الله به من يشاء أن يعطيه، ويمنع من يشاء أن يمنعه، والضميران يعودان للممدوح. وقال العكبري: أصل حابى: فاعَل، ولا يكون إلا بين اثنين إلا في أحرف يسيرة: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاه الله، وقاتلهم الله. وأبو الفتح ذهب بها مذهب هذه الأحرف، وقال: حابى: بمعنى حبا، كما في قول أشجع يمدح جعفر بن يحيى حين ولاه الرشيد خراسان:
إِنَّ خُرَاسَانَ وَقَدْ أَصْبَحَتْ تَرْفَعُ مِنْ ذِي الْهِمَّةِ الشَّانَا
لَمْ يَحْبُ هَارُونُ بِهَا جَعْفَرًا وَإِنَّمَا حَابَى خُرَاسَانَا
وقد جاء حابى بمعنى: بارى، في قول سبرة بن عمرو الفقعسي:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
وقد جاء حابى بمعنى: اختص، قال:
اصْبِرْ يَزِيدُ فَقَدْ فَارَقْتَ ذَا ثِقَةٍ وَاشْكُرْ حِبَاءَ الَّذِي بِالْمُلْكِ حَابَاكَا
وقال الواحدي: وحابى لا يكون بمعنى حبا، وإنما المعنى: إن الذي بنى جديلة؛ أي غالبهم وباهاهم في العطاء — يعني الممدوح — به الله يعطي من يشاء ويمنع؛ لأنه ملك قد فوض الله تعالى إليه أمر الخلق في النفع والضر، فقوله: به الله، خبر «إن».
(٦٦) بذي كرم: بدل من قوله به — في البيت المتقدم — يقول: لم يمر يوم وشمس ذلك اليوم تطلع على رأس إنسان أوفى بالذمم من هذا الممدوح؛ يريد أنه أكثر الناس وفاءً وأكرمهم عهدًا. فالواو — في قوله: وشمسه — واو الحال، وشمسه: مبتدأ، وجملة تطلع: خبر، وعلى رأس: متعلق بتطلع، وذمة: تمييز، وأوفى: صفة لمحذوف أي: على رأس إنسان أوفى.
(٦٧) يريد أن الأشعار الكثيرة التي يمدح بها تتلاقى لديه فتتصل اتصال الأرحام، وأن أمواله التي يثيب بها الشعراء وكانت مجتمعة عنده تتفرق بالعطاء فكأنها تتقاطع أرحامها. فقوله: لا تني؛ أي لا تزال. وقال الواحدي: هو من الونى، وهو الضعف، فوضعه موضع لا تزال؛ لأنها إذا لم تفتر عن التقطع يكون المعنى لا تزال تتقطع. وشدد النون — في لدنه — للضرورة، ويروى: يتصلن ببابه. وقال ابن جني: قوله: لدنه، فيه قبح وشناعة، وليس هو معروفًا في كلام العرب، وليس يشدد إلا إذا كان فيه نون أخرى: نحو لدني ولدنا. هذا كلامه، وقد يحتج لأبي الطيب فيقال: شبه بعض النحويين بعضها ببعض فكما يقال: لدنه: يقال: لدنه، بحمل أحد الضميرين على الآخر، وإن لم يكن في الهاء ما يوجب الإدغام من زيادة نون قبلها، كما قالوا: يعد، فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ثم قالوا: أعد، ونعد، وتعد، فحذفوا الفاء أيضًا، وليس هناك ما يوجب حذفها، ويجوز أن يكون ثقل النون ضرورة، كما قالوا في القطن: القطن، وفي الجبن: الجبن. وأنشد أبو زيد يقول:
إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلَكِ شَتَّى فَالْزَمِي الْخُصَّ وَاخْفِضِي تَبْيَضِّضِي
فزاد ضادًا، وقال سحيم:
وَمَا قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مَيْسَنَا نَ مُعْجبَةٌ نَظَرًا وَاتِّصَافَا
(ميسان: بلد من كورة دجلة، أو كورة بسواد العراق.)
أراد: ميسان، فحذف وزاد نونًا. وقال الأسدي:
وَجَاشَتْ مِنْ جِبَالِ الصُّغْدِ نَفْسِي وَجَاشَتْ مِنْ جِبَالِ خُوَارَزِيمِ
أراد: خوارزم فغيرها. وقال الجرجاني: لما كانت الهاء خفيفة، والنون ساكنة، وكان من حقها أن تتبين عند حروف الحلق: حسن تشديدها لتظهر ظهورًا شافيًا، فهذه علة وقرينة محتمل للشاعر تغيير الكلام عندها، والنون أقرب الحروف إلى حرفي العلة — الواو والياء — لأنها تدغم فيهما، وتبدل منها الألف في الوقف إذا كانت خفيفة نحو: يا حرسي اضربا عنقه. وجعلت إعرابًا في الأفعال الخمسة، نحو: يفعلان وأخواتها كما جعلت إعرابًا في التثنية والجمع، وتحذف إذا كانت ساكنة لالتقاء الساكنين في نحو: اضرب الغلام — بفتح الباء — فلما حلت هذا المحل احتملت ما تحتمله من الزيادة. وحروف العلة أوسع الحروف تصرفًا؛ ولهذا أجازوا زيادة الياء في الصياريف في قوله:
تَنْفِي يَدَاهَا الْحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ نَفْيَ الدَّرَاهِمِ تَنْقَادِ الصَّيَارِيفِ
(الدراهم: روي الدراهيم، وروي: الدنانير. ونفي: مضاف إلى تنقاد — من إضافة المصدر إلى فاعله — والدراهم: مفعول، ففصل بالمفعول — وهو الدراهم — بين المتضايفين. وروي أيضًا: بإضافة نفي إلى الدراهم، ورفع تنقاد، فيكون من إضافة المصدر إلى مفعوله. قال الأعلم: وصف الفرزدق ناقته بسرعة السير في الهواجر. يقول: إن يديها لشدة وقعهما في الحصى ينفيانه فيقرع بعضه بعضًا، ويسمع له صليل كصليل الدنانير إذا انتقدها الصيرفي فينفي رديئها عن جيدها، وخص الهاجرة لتعذر السير فيها.)
وزيادة الواو في قوله:
مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أَدْنَوْ فَأَنْظُورُ
(عجز بيت ثانٍ أنشدهما الفراء، وهما:
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّا فِي تَلَفُّتِنَا يَوْمَ الْفِرَاقِ إِلَى أَحْبَابِنَا صُورُ
وَأَنَّنِي حَيْثُمَا يَثْنِي الْهَوَى بَصَرِي مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
والصور: جمع أصور، وهو المائل من الشوق. ويجوز أن يكون جمع صورة، أي: إذا تلفتنا إلى الأحباب عند رحليهم، فكأننا أشكال وأشباح ليس فيها أرواح وحيثما تروى حوث ما، وحوث: لغة في حيث، وهو خبر أن، وثناه: أماله: أي أنا في الجهة التي يُميل الهوى بصري إليها، ومن حيثما: متعلق بأدنو وبأنظر؛ أي أدنو فأنظر إليهم من الجهة التي سلكوا فيها. وقوله: أدنو فأنظور: روي: أثني فأنظور؛ أي أثني عنقي فأنظر نحوهم، من ثناه، بمعنى: لواه.)
يريد: فأنظر وزيادة الألف في منتزح من قول ابن هرمة:
فَأَنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى وَمِنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
يريد: بمنتزح. وقد ذكرنا لهذا التشديد كل وجه سديد، كما ذكرنا العلة في إدغام النون في الجيم، في قراءة عبد الله بن عامر وأبي بكر بن عباس في كتابنا الموسوم ﺑ «الروضة المزهرة في شرح كتاب التذكرة». وقال أبو الفتح: استعمل لدن بغير من، وهو قليل، ولا يستعمل إلا معها، كما جاء في القرآن: «من لدني، ومن لدنه، ومن لدن حكيم عليم.»
وقد غاب عن أبي الفتح قول الشاعر فيما أنشده يعقوب:
فَإِنَّ الْكُثْرَ أَعْيَانِي قَدِيمًا وَلَمْ أَقْتِرْ لَدُنْ أَنِّي غُلَامُ
(الكثر من المال: الكثير. وعيي بأمر: إذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هو. قال ابن السيرافي في قوله: فإن الكثر … إلخ؛ أي طلبت الغنى في أول أمري وحين شبابي فلم أبلغ ما في نفسي منه، ومع ذلك فلم أكن فقيرًا، فلا تأمرني بطلب المال وجمعه وترك بذله؛ فإني لا أبلغ نهاية الغنى بالمنع ولا أفتقر بالبذل.)
وقول كُثير:
وَمَا زِلْتُ مِنْ لَيْلَى لَدُنْ إِنْ عَرَفْتُهَا لَكَالْهَائِمِ الْمُقْصَى بِكُلِّ سَبِيلِ
(من قصيدة كُثير التي أولها:
أَلَا حَيِّيَا لَيْلَى أَجَدَّ رَحِيلِي وَآذَنَ أَصْحَابِي غَدًا بِقُفُولِ
ومنها:
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
وروي هذا البيت: بكل مزاد، وروي: بكل مراد، والصواب: بكل سبيل.)
وقول القطامي:
صَرِيعُ غَوَانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ
(الصريع: المصروع؛ وهو المطروح على الأرض غلبة. والغواني: جمع غانية؛ وهي التي غنيت بحسنها عن الزينة. وراقهن: أعجبهن. والذوائب: جمع ذؤابة؛ وهي الخصلة من الشعر. ولدن: تنازع فيه صريع وراقهن ورقنه، يقول: إنه صريع مغلوب على أمره من جراء الحسان اللائي تعلق بهن منذ نشأ وتعلقن به حتى شاب.)
(٦٨) ترتيب البيت هكذا: فتى رأيه في زمانه ألف جزء، أقل جزيء من هذه الأجزاء الألف بعضه — أي بعض جزيء من رأيه — الرأي الذي في أيدي الناس كله. فقوله فتى: خبر عن محذوف؛ أي هو فتى، وألف جزء: خبر مقدم، ورأيه: مبتدأ مؤخر، وأقل جزيء: مبتدأ، والجزيء: تصغير الجزء، وبعضه: مبدأ ثانٍ، وهو مضاف إلى ضمير المبتدأ الأول، والرأي: خبر المبتدأ الثاني — وهو بعضه — والجملة: خبر الأول — وهو أقل — وأجمع: توكيد للرأي. والمعنى أن هذا الممدوح فتًى رأيه في أحوال زمانه يقدر بألف جزء، وأقل جزء من هذه الأجزاء يعادل جزء منه كل ما لدى الناس من الرأي. قال العكبري: وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
لَوْ تَرَاهُ يَا أَبَا الْحَسَنِ قَمَرًا أَوْفَى عَلَى غُصُنِ
كُلُّ جُزْءٍ مِنْ مَحَاسِنِهِ فِيهِ أَجْزَاءٌ مِنَ الْفِتَنِ
(٦٩) الممطر: مثل الماطر، يقال: مطرت السحابة وأمطرت. وأقشع السحاب: أقلع وتفرق، يقال: أقشع وانقشع وتقشع. والبرق الخلَّب: المخلف الذي لا مطر فيه، وخلَّبًا: خبر لا، كأنه قال: وليس البرق فيه خلَّبًا. يقول: هو غمام يمطر علينا العطاء دائمًا، وليس هو كالغمام الذي يمطر مرة وينقشع أخرى، وإذا رجوناه بلغنا منه أوفى ما نرجو، وإذا وعد أنجز الوعد. وضرب الغمام والبرق مثلًا، ولما جعله غمامًا جعل له المطر، وبرقًا جعل برقه صادقًا بموعوده، وهذا عكس ما يقول البحتري:
رَأَيْتُكَ إِنْ مَنَّيْتَ مَنَّيْتَ مَوْعِدًا جَهَامًا وَإِنْ أَبْرَقْتَ أَبْرَقْتَ خُلَّبَا
(٧٠) الحاج: جمع حاجة، ويقال في جمعها أيضًا: حاجات، وحوج وحاج وحوائج — على غير قياس — كأنهم جمعوا حائجة، وكان الأصمعي ينكره، ويقول: هو مولد. قال الجوهري: وإنما أنكره لخروجه عن القياس، وإلا فهو كثير في كلام العرب، وأنشدوا:
نَهَارُ الْمَرْءِ أَمْثَلُ حِينَ تُقْضَى حَوَائِجُهُ مِنَ اللَّيْلِ الطَّوِيلِ
وأنشد ابن الأعرابي:
مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الْوُجُوهِ لِقَاؤُهُ وَأَخُو الْحَوَائِجِ وَجْهُهُ مَبْذُولُ
والحوجاء: الحاجة. يقال: ما لي فيه حوجاء ولا لوجاء. قال قيس بن رفاعة:
مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَوْجَاءُ يَطْلُبُهَا عِنْدِي فَإِنِّي لَهُ رَهْنٌ بِإِصْحَارِ
أُقِيمُ نَخْوَتَهُ إِنْ كَانَ ذَا عِوَجٍ كَمَا يُقَوِّمُ قِدْحَ النَّبْعَةِ الْبَارِي
(قوله: بإصحار: ففي حديث لعلي رضي الله عنه: «فأصحر لعدوك وامضِ على بصيرتك.» أي كن منه على أمر واضح منكشف، من أصحر الرجل إذا خرج إلى الصحراء، والقدح: السهم قبل أن ينصل ويراش.)
والمشفع: الذي تقضى الحاجة بشفاعته. يقول: إذا سئل حاجة شفعت نفسه إلى نفسه في قضائها، وإذا كان المسئول شفيعًا إلى نفسه فإن الحاجة مقضية ألبتة. ومثل هذا قول الخريمي:
شَفَعَتْ مَكَارِمُهُ لَهُمْ فَكَفَتْهُمُ جَهْدَ السُّؤَالِ وَلُطْفَ قَوْلِ الْمَادِحِ
وقول أبي تمام:
طَوَى شِيَمًا كَانَتْ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي وَسَائِلَ مَنْ أَعْيَتْ عَلَيْهِ وَسَائِلُهْ
وقال الحطيئة:
وَذَاكَ امْرُؤٌ إِنْ تَأْتِهِ فِي نَفِيسَةٍ إِلَى مَالِهِ لَا تَأْتِهِ بِشَفِيعِ
ولأبي العتاهية:
فَيَا جُودَ مُوسَى نَاجِ مُوسَى بِحَاجَتِي فَمَا لِي سِوَى مُوسَى إِلَيْهِ شَفِيعُ
ولابن الرومي:
أَبَا الصَّقْرِ مَنْ يَشْفَعْ إِلَيْكِ بِشَافِعٍ فَمَا لِي سِوَى شِعْرِي وَجُودِكَ شَافِعُ
(٧١) خبت النار: سكن لهبها. والبنان: الأصابع. وأسمر: عطف على بنان؛ أي وقلم أسمر … إلخ. وجعل القلم أصلع للينه وملاسته، كالرأس الأصلع. يقول: إن كل حرب تشب بغير قلمه وأنامله لا بد أن تنطفئ ولا تطول مدتها. أما الحرب التي يشبها هو فإنها لا تنطفئ لقوة عزمه وشدة نفسه.
(٧٢) الشوى: الأطراف؛ أي اليدان والرجلان والرأس. ونحيف: دقيق. ويعدو: يجري. وأم الرأس: أعلاه، وقيل: وسطه. ويحفى: يكل. يقول: إن هذا القلم دقيق الأطراف — يريد دقة خلقته — وهو يعدو على رأسه، فإذا حفي — أي كل عن المشي — قطع — أي قط — فيقوى عدوه؛ أي يمضي في الكتابة ويحسن به الخط. ومن قولهم: القلم أنف الضمير، إذا رعف كشف أسراره، وأبان آثاره.
(٧٣) يمج: يقذف، ويريد بالظلام: المداد، وبالنهار: القرطاس، وبلسانه طرفه المحدد. وقوله: ويفهم … إلخ: أي أنه يعبر عما يريده الكاتب دون أن يسمع منه لفظًا، وهو من قول أبي تمام:
أَحَدُّ اللَّفْظِ يَنْطِقُ عَنْ سِوَاهُ فَيُفْهَمُ وَهْوَ لَيْسَ بِذِي سَمَاعِ
(٧٤) ذباب السيف: طرفه المحدد، ومنه متعلق بأنجى. والضريبة: اسم للمضروب، كالرمية للمرمي، وضريبة: تمييز. يفضل القلم على السيف، يقول: إن المضروب بالسيف قد ينجو إذ ينبو عنه، وقد يعصي صاحبه الذي يضرب به؛ لأنه قد لا يقطع، أما المضروب بالقلم — وهو المكتوب بقتله — فإنه لا ينجو والقلم أطوع من السيف؛ لأنه لا يرجع عن مراد الكاتب به، وإذن: فالقلم أفضل من السيف. قال ابن الرومي:
لَعَمْرُكَ مَا السَّيْفُ سَيْفُ الْكَمِيـْ ـيِ بِأَنْفَذَ مِنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ
(٧٥) يقول: إن كل لفظة من ألفاظه أصل من أصول البراعة — وهي الكمال في الفصاحة — والناس يبنون كلامهم عليها، ويرجعون في استعمال الفصاحة إليها.
(٧٦) يقول: إن هذا القلم الموصوف يجري بكف جواد لو كانت السحابة مثل كفه في عموم النفع لعمت المشرق والمغرب بالمطر. وقال ابن الرومي:
خِرْقٌ يَعُمُّ وَلَا يَخُصُّ بِفَضْلِهِ كَالْغَيْثِ فِي الْإِطْبَاقِ كُلَّ مَكَانِ
[الخرق: السخي الكريم.]
(٧٧) اسم ليس: ضمير يعود إلى الجواد — في البيت السابق — ويشتق: يشق، وحوت: فاعل يشتق. يقول: ليس بحر جوده كبحر الماء الذي يغوص فيه الحوت والضفدع حتى ينتهيا إلى قعره، وإنما هو بحر لا يبلغ منتهاه؛ يعني أن جوده لا ينقطع. وقال ابن القطاع قوله: يفنى الماء، هي بنصب الماء لا برفعها: أي يتخذه فناء؛ يقال: فنيت المكان وبالمكان: إذا أقمت به. وإذن: فالفعلان — يشتق ويفنى — للحوت والضفدع.
(٧٨) المعتفي: السائل. عفاه واعتفاه: أتاه سائلًا. والزعاق: المر. يريد أن يفضل الممدوح على البحر. فالاستفهام إنكاري. يقول: ليس البحر الذي يضر من ورده بالغرق، وهو مع ذلك مر الطعم لا يمكن شربه، مثل بحر ينفع الواردين بالعطاء ولا يضرهم. فقوله: وينفع، معطوف على «لا يضر» وقد نقد ابن جني البيت قائلًا: إن المعروف عندهم أن ينسب الممدوح إلى النفع لأوليائه والضر لأعدائه، كما قالوا:
وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ رَاحَ وَاغْتَدَى لَضُرِّ عَدُوٍّ أَوْ لِنَفْعِ صَدِيقِ
وقالوا:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعُ فَضُرَّ فَإِنَّمَا يُرَجَّى الْفَتَى كَيْمَا يَضُرُّ وَيَنْفَعُ
ولكن فاته أن المتنبي أراد كبحر لا يضر المعتفين، فلا ينافي ذلك أنه يضر الأعداء.
(٧٩) الغور: المنتهى والقعر. وضميره: للبحر. والتيار: الموج. والمصقع: الفصيح البليغ؛ لأنه يأخذ في كل صقع من القول. والدقيق الفكر: الفَهِم الفَطِن الذي يدق فكره وخاطره حين يفكر. يقول: إن الممدوح بحر بعيد الغور لا يصل أحد إلى قعره فيتيه في صفاته الواصفون. ولا يبلغون نهايته ولا يستطيعون وصفه مهما علت منزلتهم من البلاغة. هذا، وقد قال العكبري: الرواية الصحيحة في الدقيق: بلام التعريف، وهو حسن في الإضافة: كالجميل الوجه، والطويل الذيل؛ لأن الدقيق نعت لمحذوف، تقديره: يتيه الرجل الدقيق الفكر. ألا تراه يقول: وهو مصقع، وهو: نعت للرجل. ومن رواه دقيق الفكر: جعله نعتًا للفكر، تقديره: يتيه الدقيق من الأفكار، والأفكار أبلغ في المعنى.
(٨٠) القيل — في الأصل — الملك من ملوك حمير. ومنبج: بلد بالشام. والسماكان: نجمان؛ وهما السماك الرامح والسماك الأعزل. والإيضاع: السير السريع، من أوضعت الناقة؛ إذا أسرعت. وهذا من قول العطوي:
إِنْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ لَابِسًا سَمَلًا فَهِمَّتِي فَوْقَ هَامَةِ الْمَلِكِ
وللتنوخي:
وَأَنْفُسٌ مَسْكَنُهَا مَا بَيْنَنَا وَهَمُّهَا فَوْقَ السِّمَاكِ وَالسُّهَا
(٨١) ظلعت الناقة: عرجت من يدها أو رجلها. يقول: أليس من العجب أني مع جودة خاطري وبلاغة كلامي أعجز عن وصفك، ولا تبلغ ظنوني معاليك فلا أدركها لوفرتها؟!
(٨٢) وصدرك بالرفع: استئناف. والضمير من فيكما: للمدوح والثوب. يقول: أليس عجيبًا أن صدرك — على أنه أوسع من الأرض — قد اشتمل عليك ثوب وهو — الصدر — فيك وفي الثوب قد اشتملتما عليه؟! ومثله لابن الرومي:
كَضَمِيرِ الْفُؤَادِ يَلْتَهِمُ الدُّنْـ ـيَا وَتَحْوِيهِ دِفَّتَا حَيْزُومِ
ولأبي تمام:
وَرُحْبَ صَدْرٍ لَوَ انَّ الْأَرْضَ وَاسِعَةٌ كَوُسْعِهِ لَمْ تَضِقْ عَنْ أَهْلِهَا بَلَدُ
(٨٣) يقول: أوليس عجيبًا أن قلبك قد أحاطت به الدنيا، وهو من السعة بحيث لو دخلت الدنيا بمن فيها من الإنس والجن فيه لضلت وما اهتدت للرجوع؟!
(٨٤) السمح: الذي يسمح بماله. يقول: كل جواد سواك باطل — أي بالإضافة إليك — وكل مدح مدح به غيرك مضيع؛ لأنه ليس فيمن يستحقه. وهو من قول ابن الرومي:
وَكُلُّ مَدِيحٍ لَمْ يَكُنْ فِي ابْنِ صَاعِدٍ وَلَا فِي أَبِيهِ صَاعِدٍ فَهْوَ هَابِطُ
وقوله: غيرك: هو منصوب؛ لأنه تقدم على المستثنى، كقول الكميت:
فَمَا لِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ وَمَا لِيَ إِلَّا مَذْهَبَ الْحَقِّ مَذْهَبُ
(٨٥) الهجوع: النوم. وأقام: أي الشوق.
(٨٦) الصراة: نهر يأخذ من الفرات فينسكب في دجلة مارًّا بالموصل، وكان حبيبه على جانب الصراة. هذا، ورقرق الدمع: صبه. وما — من قوله: مما أرقرق — مصدرية. يقول: أوما وجدتم طعم ملوحة من دموعي في مائكم لبكائي في الفرات؟ وهم يقولون: إن دمع الحزن ملح، ودمع الفرح حلو.
(٨٧) يقول: كنت أحذر من وداعك خوف الفراق، أما الآن وقد فارقتني فإني أشتاق إلى الوداع وأتأسف عليه؛ لأني لقيتك عند الوداع، فبودي أن أودعك لألقاك. وقال ابن جني: كنت أكره الوداع، فلما تطاول البين أسفت على التوديع، لما يصحبه من النظر والشكوى والبث.
(٨٨) يقول: ارتحل العزاء — الصبر — عني بارتحالي عنكم، فكأن أنفاسي تبعت العزاء مشيعة له، فهي صاعدة متصلة دائمة. قال ابن جني: وقال: برحلتي؛ أي مع ارتحالي، كما تقول: سرت بمسيرك؛ أي معك، أي: فكما لا ترجع إلي أنفاسي لا يرجع إلي صبري. فمعناه: ارتحل الصبر عني بارتحالكم.
(٨٩) الملث: الدائم المقيم. والقطر: المطر. وربوعًا: تمييز؛ أي من ربوع. والنقيع والمنقع: المربي. يقول: يا أيها السحاب الدائم المطر أعطش هذه الربوع؛ أي لا تسقها، وإلا تعطشها فاسقها السم النقيع في الماء. وإنما دعا عليها؛ لأنه لما وقف بها وسألها لم تجبه، ولم تبكِ من رحل عنها. قال ابن وكيع: لم يسبق أبا الطيب أحد في الدعاء على الديار بالسم، ولو قال: حجارة أو صواعق لكان أشبه، إلا أن جريرًا قال بعدما استأنف لها ذنبًا:
سُقِيتِ دَمَ الْحَيَّاتِ مَا بَالُ زَائِرٍ يُلِمُّ فَيُعْطَى نَائِلًا أَنْ يُكَلَّمَا
والعرب من عادتها أن تدعو بالسقيا للديار، كقول القائل:
يَا مَنْزِلًا ضَنَّ بِالسَّلَامِ سُقِيتَ صَوْبًا مِنَ الْغَمَامِ
مَا تَرَك الْمُزْنُ مِنْكَ إِلَّا مَا تَرَكَ السُّقْمُ مِنْ عِظَامِي
(٩٠) المتديريها: أي المتخذيها دارًا. وتذري دموعًا: أي تلقيها — من إذراء الحب للزرع. يريد تعليل ما في البيت السابق؛ يقول: إنما طلبت إلى السحاب أن يعطشها أو يسقيها السم النقيع؛ لأني أسائلها عن أهلها: أين ذهبوا؟ فلا تدري ذلك ولا تجيب ولا تساعدني على البكاء.
(٩١) لحاه — في الأصل — قشره: من لحوت العود: إذا قشرته، ثم صار يستعمل في الدعاء على الشيء؛ أي لعنه وقبحه. وزمان: بدل تفصيل من قوله: ماضيها. والخود بفتح الخاء: الجارية الناعمة، وجمعها خود بضم الخاء. والشموع: اللعوب الضحوك. قال الواحدي: قوله: إلا ماضييها استثناء من غير الجنس، ويجوز أن يكون جنسًا؛ لأن زمان اللهو والخود رَبع الأنس، فاستثنى ربع الأنس من ربع الأنس لاشتماله عليه، فدعا على الدار إلا ما كان له بها من زمن الأنس ووصل الخود. قال ابن وكيع: ماضياها يوجبان لها الدعاء بالسقيا، كقول البحتري:
فَإِذَا مَا السَّحَابُ كَانَ رُكَامًا فَسَقَى بِالرَّبَابِ دَارَ الرَّبَابِ
(٩٢) امرأة رداح: ضخمة العجيزة ثقيلة الأوراك، وكذلك ناقة رداح وكبش رداح: ضخم الألية، ودوحة رداح: عظيمة، وجفنة رداح: عظيمة. قال أمية بن أبي الصلت:
إِلَى رَدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلَاءٍ لُبَابَ الْبُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
(يقال للجفان التي تسوى من شجرة الشيزى: شيزى. قال الجوهري: الشيزى خشب أسود تتخذ منه القصاع.)
وكتيبة رداح: ضخمة ململمة كثيرة الفرسان ثقيلة السير لكثرتها، ثم وصفها بحسن اللفظ وعذوبة الكلام. يقول: إذا سمعت الطير لفظها وقعت وسقطت لحسنه، ومثل هذا قول كُثير:
وَأَدْنَيْتَنِي حَتَّى إِذَا مَا مَلَكْتَنِي بِقَوْلٍ يُحِلُّ الْعُصْمَ سَهْلِ الْأَبَاطِحِ
(العصم: جمع الأعصم، وهو الوعل.)
وقال أيضًا:
بِعَيْنَيْنِ نَجْلَاوَيْنِ لَوْ رَقْرَقَتْهُمَا لِنَوْءِ الثُّرَيَّا لَاسْتَهَلَّ سَحَابُهَا
وقال ابن دريد في مقصورته:
لَوْ نَاجَتِ الْأَعْصَمَ لَانْحَلَّ لَهَا طَوْعَ الْقِيَادِ مِنْ شَمَارِيخِ الذُّرَا
(٩٣) أراد بالوشاحين: قلادتين تتوشح بهما المرأة ترسل إحداهما على جنبيها الأيمن والأخرى على الأيسر. والشسوع: البعيد. يقول: إن أردافها عظيمة شاخصة عن بدنها ترفع ثوبها وتمنعه عن أن يلاصق جسدها حتى يكون بعيدًا عما توشحت به من القلائد. وهذا من قول بعض الكلابيين:
أَبَتِ الْغَلَائِلُ أَنْ تُمَسَّ إِذَا مَشَتْ مِنْهَا الْبُطُونُ وَأَنْ تُمَسَّ ظُهُورُهَا
(٩٤) ماست: مشت متبخترة. والضمير في له: للثوب. ونزوعًا: صفة لارتجاجًا. يقول: إذا ماست رأيت لروادفها اضطرابًا وحركة يكادان ينزعان ثوبها عنها، لولا أن سواعدها تمسك عليها ثوبها لدخولها في الكمين. وفيه نظر إلى قول الآخر:
لَوْلَا التَّمَنْطُقُ وَالسِّوَارُ مَعًا وَالْحَجْلُ وَالدُّمْلُوجُ فِي الْعَضْدِ
لَتَزَايَلَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لَكِنْ جُعِلْنَ لَهَا عَلَى عَمْدِ
(٩٥) الدرز: موضع الخياطة من الثوب. والعضب: السيف. والصنيع: المحكم الصقال والصنعة. يصف نعومة بدنها وأنها تتوجع إذا أصابها موضع الخياطة من ثوبها مع لينه كما تتوجع من السيف. يقول: إن للدرز في بدنها تأثيرًا كتأثير السيف، فقوله: تألم بحذف إحدى التاءين: أي تتألم، والتألم كالتوجع لازم، يقال: تألم به أو له أو منه، وعدَّاه ها هنا ضرورة. ومما يستظرف في هذا الباب ما رووا أن سابور لما حضر صاحب الحصن بعثت بنت صاحب الحصن إليه — وكانت من أجمل النساء — إن عاهدتني أنك تتزوج بي أسلمت إليك المفاتيح، فعاهدها على ذلك، فسكر أبوها ليلة ونام، فدفعت المفاتيح إلى سابور. فأخذ المدينة وتزوج بها، فبينا هي معه ذات ليلة على فراش الحرير تألمت وتوجعت وقلقت، فدعا بالشمع ونظر إلى مضجعها، فرأى ورقة ورد على الفراش قد نالت جسمها، فأثرت فيه فقلقت لذلك، فقال لها: ما كان يغذيك به أبوك؟ فقالت له: لب البر بالعسل والخمر، فقال: وكان جزاؤه منك ما جازيته! فأخذها وشد ضفائرها إلى أذناب الخيل، ولم يزل يطرد الخيل حتى قطعتها أربًا أربًا.
(٩٦) يقول: إن دملجيها يضيقان عن ذراعيها، فهما ممتلئان بهما يكادان لذلك يفصمانهما ويكسرانهما، وإذا ضاجعها إنسان ظن أن زندها — لسمنه — هو ضجيعه، لا هي.
(٩٧) شبه النقاب على وجهها بالغيم الرقيق، ووجهها بالبدر. يقول: سترت وجهها بالنقاب فأضاء بضوء وجهها تحته كما يضيء الغيم الرقيق بضوء البدر. فقوله: يضيء: لازم، لا يتعدى؛ والبدر: مفعول أول لمنعه، والطلوع: مفعول ثان. وقد سبق إلى هذا المعنى عبد الله بن الدمينة، قال:
مُبَرْقَعَةٌ كَالشَّمْسِ تَحْتَ سَحَابَةٍ وَكَالْبَدْرِ فِي جُنْحٍ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمِ
وقال بشار:
بَدَا لَكَ ضَوْءُ مَا احْتَجَبْتَ عَلَيْهِ بُدُوَّ الشَّمْسِ مِنْ خَلَلِ الْغَمَامِ
(٩٨) قوله: وقولي … إلخ؛ أي إن خضوعي لها في قولي هذا أكثر من تدللها على كثرته، فقولي: مبتدأ، وبأكثر: خبر، وخضوعًا: تمييز.
(٩٩) يقول: إن إحياء النفس مما يتقرب به إلى الله، وليس مما يخاف منه؛ يعني أنك إذا واصلتني كنت كأنك قد أحييتني، وإحياء النفس طاعة لله، والله سبحانه لا يُعصى بالطاعة، ومثله قول القائل:
مَا حَرَامٌ إِحْيَاءُ نَفْسٍ وَلَكِنْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ حَرَامُ
(١٠٠) الخلو: الخالي من الهوى. والمستهام: الذي يصيره الهوى هائمًا ذاهب اللب. والخليع: الذي خلع العذار وترك الحياء وتهتَّك في الهوى، قال ابن وكيع: لو قال:
غَدَا بِكِ كُلُّ خِلْوٍ فِي اشْتِغَالٍ وَأَصْبَحَ كُلُّ ذِي نُسْكٍ خَلِيعَا
لكان أحسن.
(١٠١) أو يقولوا: أي إلى أن يقولوا، فحذف أن وأعملها. وثبير: جبل بالحجاز معروف. وريع: أخيف. وابن إبراهيم: هو الممدوح. علق زوال حبه بما لا يمكن وجوده. يقول: لا أزال أحبك؛ لأن الجبل لا يجره النمل، والممدوح لا يرتاع ولا يروعه شيء. وهذا من حسن التخلص.
(١٠٢) الصيت والصات: ذهاب الذكر الحسن بين الناس. والسرايا: جمع سرية؛ الطائفة من الجيش. يقول: إنه كثير الغارات، سراياه مبثوثة في الآفاق، فإذا ذكر اسمه للطفل الرضيع شاب خوفًا ورعبًا.
(١٠٣) الدهي والدهاء: النكر وجودة الرأي. والخشوع: الاستكانة والذل. وخشوعًا: اسم كان. واسم ليس: ضمير الخشوع. والجملة: اعتراض. يقول: يخفي مكره ودهاءه بغض الطرف كأن به خشوعًا، وليس به ذلك الخشوع، ولله قول ابن الرومي في هذا المعنى:
سَاهٍ وَمَا تُتَّقَى فِي الرَّأْيِ سَقْطَتُهُ دَاهٍ وَمَا يَنْطَوِي مِنْهُ عَلَى رِيَبِ
فَدَهْيُهُ لِلدَّوَاهِي الرُّبْدِ يَدْمَغُهَا وَسَهْوُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَالْغِيَبِ
(١٠٤) قدك: أي حسبك وكفاك، وقوله: مذيعًا — أي مفشيًّا — مفعول سألت، يقول: إذا سألته جميع ماله كفاك ذلك السؤال كالرجل المذياع للأسرار إذا سألته عن سر أفشاه ولم يكتمه. كذلك هو يعطيك ما يملكه ولا يضن به لأريحيته.
(١٠٥) المن: النعمة. يقول: لأريحيته واستلذاذه العطاء يعد قبولك عطاءه منة — نعمة — مننت بها عليه، وإن لم يبتدئ بالعطاء قبل السؤال رأى ذلك أمرًا منكرًا قبيحًا. ومثله لأبي تمام:
يُعْطِي وَيَشْكُرُ مَنْ يَأْتِيهِ يَسْأَلُهُ فَشُكْرُهُ عِوَضٌ وَمَالُهُ هَدَرُ
(١٠٦) قالوا: إن الممدوح كان قد حمل إليه مال مجبي، فأمر أن يفرش له أديم — جلد — ويطرح عليه فاعتذر له المتنبي، وقال: إنه لم يفعل ذلك لكرامة المال عليه وإنما لهونه — أي هوانه — لأنه يريد أن يفرقه على القصاد والشعراء، وهو لم يفعل هذا ليحفظه من الضياع ويدخره في خزائنه، ولكن ليفرقه على السؤَّال. وقد مثل لهذا بالبيت التالي، وهذا قريب من قول علي بن الجهم:
وَلَا يَجْمَعُ الْأَمْوَالَ إِلَّا لِبَذْلِهَا كَمَا لَا يُسَاقُ الْهَدْيُ إِلَّا إِلَى النَّحْرِ
(١٠٧) النطوع: كالأنطاع، جمع نطع؛ وهو الجلد الذي يبسط تحت من يراد قتله. يقول: ليس بسط النطوع لضرب الرقاب كرامة، وإنما ذلك ليصان المجلس عن تلطيخه بالدم؛ فكذلك بسطه النطع — الجلد — للمال ليس ذلك كرامة للمال وادخارًا له وإنما لتفريقه وإتلافه.
(١٠٨) القريع في الأصل: الفحل الكريم؛ سمى بذلك لأنه يقرع الإبل، والمراد به هنا: السيد الشريف. يصفه بأنه غاية في كرم النفس وعلو الهمة فهو لا يهب إلا المال الكثير، ولا يقتل إلا الشريف العظيم. ولعله من قول مسلم بن الوليد:
حَذَارِ مِنْ أَسَدٍ ضِرْغَامَةٍ شَرِسٍ لَا يُولِغُ السَّيْفَ إِلَّا هَامَةَ الْبَطَلِ
وبيت المتنبي أشمل؛ لأنه ذكر الكرم والهمة.
(١٠٩) النصل: شفرة السيف. والصمصامة: السيف الذي لا ينثني. والقطيع: السوط الذي يقطع من جلد البعير. يصف شدته على المذنبين وأهل الريب يقول: أقام سيفه مقام سوطه في التأديب، فأغنى السيف السوط عن التعب.
(١١٠) يقول: إن عليًّا — وهو اسم الممدوح — لا يمنع أحدًا يأتي لمبارزته في الحرب، ولكن يمنع من بارزه أن يرجع سالمًا؛ لأنه لا يكون إلا قتيلًا أو أسيرًا.
(١١١) المفدى: الذي يقول له الناس: فدتك نفوسنا؛ لما يرون من شجاعته وشدة بأسه. والزرد: حلق الدرع. والنجيع: الدم الطري. يقول: يسلب البطل المفدى درعه ويكسوه بدلها دمًا؛ أي إنه يخضبه بدمه حتى يصير عليه الدم درعًا مكان الدرع.
(١١٢) جواب إذا قوله الآتي: فحد. واعوج: يعني انحنى والتوى؛ لأن الرمح إذا طعن به اعوج والتوى. وقوله: في حامليه: يعني أهل الحرب الذين حملوا الرماح إلى الحرب. وقوله: وجاز إلى ضلوعهم الضلوعا: أي نفذ من هذه إلى هذه كأنه شق الضلع من الجانبين. قال الواحدي: قال المتنبي: كنت قلت:
وَأَشْبَهَ فِي ضُلُوعِهِمِ الضُّلُوعَا
ثم أُنشدت بيتًا لبعض المولدين يشبهه فرغبت عنه، يعني بيت البحتري:
فِي مَأْزِقٍ ضَنْكٍ تُخَالُ بِهِ الْقَنَا بَيْنَ الضُّلُوعِ إِذَا انْحَنَيْنَ ضُلُوعَا
(١١٣) منه: أي من القنا. وأولته: أنالته. والصدوع: الشقوق، جمع صدع. يقول: واندقت الرماح — انكسرت — وتصدعت في الأكباد لشدة الطعن فكأن الأكباد أدركت بذلك منها ثأرًا.
(١١٤) هذا جواب إذ اعوج القنا، والتقدير: إذا اعوج القنا وجاز الضلوع إلى ضلوعهم ونالت ثأرها الأكباد منه؛ فحد عنه. والخبعثنة: من أسماء الأسد، ويقال للنمر. والشجيع: الشجاع. يقول: إذا كان كذلك والْتقى الجمعان فحد — أي مل وتباعد عنه — وإن كنت شجاعًا قوي القلب كالأسد، وإلا هلكت.
(١١٥) قال ابن جني: استجرأ الرجل بمعنى جرؤ؛ أي صار جريئًا. وترمقه أي أن ترمقه، فحذف ورفع الفعل. يقول: إن قدرت على النظر إليه في الحرب من بعيد فقد قدرت على شيء عظيم لم يقدر عليه أحد. وهذا من قول أبي تمام:
أَمَّا إِذَا عِشْتَ يَوْمًا بَعْدَ رُؤْيَتِهِ فَاذْهَبْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْفَارِسُ النَّجِدُ
(١١٦) يقول: إن جادلتني ولاججتني في قولي هذا فاركب فرسًا وصوره في نفسك كأنك تحاربه، فإنك إذا فعلت ذلك سقطت على الأرض صريعًا قبل أن تلاقيه لهيبته وخوفك منه.
(١١٧) الودق: المطر. والمريع: الممرع؛ أي المخصب. يقول: هو غمام يمطر النعم فيحيي بها البلاد، ولكن الغمام قد يكون فيه صواعق مهلكة وبرد وأحجار، كذلك هو ربما أمطر نقمة على الأعداء، فصير مطره البلد المريع قحطًا مجدبًا لما يلم به من الدمار.
(١١٨) القطوع: جمع القطع؛ وهو الطنفسة تحت الرحل تغطي كتفي البعير. يقول: رآني بعدما طال سفري حتى قطع تيممه — أي قصدي إياه — مطاياي — إبلي — أي أنضاها وأعجزها عن السير، وقطعت الإبل ما عليها من الطنافس؛ أي أبلتها بكثرة السير وطول المسافة.
(١١٩) الغدير: القطعة من السيل يغادرها المطر. يقول: أعطاني حتى ملأني بالعطاء كما يملأ السيل الغدير، وأصلح دهري حتى صار كالربيع فصل الخصب والأمطار. وقد نحا في هذا منحنى ابن الرومي في قوله:
فَضَيْفُهُ فِي رَبِيعٍ طُولَ مُدَّتِهِ وَجَارُهُ كُلَّ حِينٍ مِنْهُ فِي رَجَبِ
وابن هفان في قوله:
لِرَبِيعِ الزَّمَانِ فِي الْحَوْلِ وَقْتٌ وَابْنُ يَحْيَى فِي كُلِّ وَقْتٍ رَبِيعُ
وكذلك البحتري:
فَكَمْ لَبِسْتُ الْخَفْضَ فِي ظِلِّهِ عُمْرِي شَبَابٌ وَزَمَانِي رَبِيعُ
(١٢٠) جعل الأخذ منه جودًا عليه كما في قوله:
قَبُولُكَ مِنْهُ مَنٌّ عَلَيْهِ
يقول: جاودني؛ أي: غالبني في الجود، فكان يجود علي بالعطاء، وأنا أجود عليه بالأخذ فغلبني، إذ لم أتمكن من استيعاب كل ما يعطينيه لتوافره حتى طفح عطاؤه على أخذي فأغرقه؛ أي كان في الإعطاء أسرع مني في الأخذ.
(١٢١) هذه أسماء أماكن بالكوفة سميت بأسماء قبائل كانوا يسكنونها. يقول: إن إحسانه ألهاه عن بلده وأهله، وهذا من قول البحتري:
جَفَوْتُ الشَّامَ مُرْتَبَعِي وَأُنْسِي وَعَلْوَةَ خَلْوَتِي وَهَوَى فُؤَادِي
وَمِثْلُ نَدَاكَ أَذْهَلَنِي حَبِيبِي وَأَكْسَبَنِي سُلُوًّا عَنْ بِلَادِي
ومثله للراعي:
رَجَاؤُكَ أَنْسَانِي تَذَكُّرَ إِخْوَتِي وَمَالُكَ أَنْسَانِي بِوَهْبَيْنِ مَالِيَا
(وهبين: اسم موضع، وجبل من جبال الدهناء.)
(١٢٢) استقصى في الأمر: بالغ. والسلب الأول بسكون اللام: مصدر، والثاني بفتحها: الشيء المسلوب. والهجوع: النوم. يقول: بالغت في سلب الأعداء فسلبتهم كل شيء حتى النوم، فرد ذلك النوم عليهم فإنهم لا يجدون النوم خوفًا منك.
(١٢٣) الهلوع: الجزع والخوف الشديد. يقول: إذا لم تغزهم بجيشك غزوتهم بالخوف، فهم لا يزالون خائفين منك جزعين. وهذا قريب من قول أبي تمام:
لَمْ يَغْزُ قَوْمًا وَلَمْ يَنْهَدْ إِلَى بَلَدٍ إِلَّا تَقَدَّمَهُ جَيْشٌ مِنَ الرُّعْبِ
(١٢٤) وخط الشيب الشعر: خالطه. والنواصي: جمع ناصية؛ مقدم الرأس. والفروع: جمع فرع؛ الشعر. يقول: إنهم صبروا على الذل لك كارهين كما يصبر المرء على الشيب إذا جلل رأسه.
(١٢٥) العزل: مصدر الأعزل؛ وهو الذي لا سلاح معه. واللحاظ بفتح اللام وبكسرها: مؤخر العين. ومنع الرجل يمنع مناعة؛ فهو منيع. والضمير في به: يعود إلى ما؛ أي لحاظك الشيء الذي تكون به منيعًا. يقول: إذا كنت بلا سلاح قام لحاظك مقام السلاح؛ لأنك إذا نظرت إلى عدوك قتلته هيبة لك، فقام لحاظك مقام سلاحك فصرت به منيعًا. وفي مثل هذا المعنى يقول الآخر:
لَحَظَاتُ طَرْفِكَ فِي الْوَغَى تُغْنِيكَ عَنْ سَلِّ السُّيُوفِ
وَعَزِيمُ رَأْيِكَ فِي النُّهَى يَكْفِيكَ عَاقِبَةَ الصُّرُوفِ
وَسُيُولُ كَفِّكَ فِي الْوَرَى بَحْرٌ يَفِيضُ عَلَى الضَّعِيفِ
(١٢٦) المغافر: جمع مغفر؛ زرد ينسج من الدرع يوضع على رأس الفارس. يصفه هنا بالذكاء وحدة الذهن، حتى لو أخذ ذهنه بدلًا من السيف لقطع به المغافر والدروع على الأعداء.
(١٢٧) الجهد: الطاقة. وأتيت على الدنيا: أي أهلكت من فيها جميعًا.
(١٢٨) تلفى: توجد. وقوله: فتسمو: يجوز أن تكون خطابًا للممدوح؛ أي كلما سمت همتك ازددت علوًّا، ويجوز أن تكون خبرًا عن الهمة. يقول: سموت بهمة، وتلك الهمة تسمو بك أبدًا فتسمو ولا تقنع بنيل مرتبة.
(١٢٩) يقول: أحسب أن جودك محا اسم الجواد عن الناس، فكيف محا علاؤك اسم الرفيع عن كل شيء؟ وجواد: مرفوع، على أن لا بمعنى ليس، والألف — في رفيعًا — ليس بدلًا عن التنوين؛ لأن لا تنصب النكرة بغير تنوين، وإنما هي للوصول والإطلاق.
(١٣٠) أركائب: أي يا ركائب، والركائب: جمع الركوب؛ وهي الإبل تركب. وتطس: تدق، والوطس: الدق. واليرمع: حجارة بيض صغار رخوة. يقول: إن الدموع تفعل بالخدود فعل أخفاف الإبل بالحجارة التي تطؤها. يعني أن تأثير الدموع في الخدود كتأثير الإبل في الحجارة.
(١٣١) النوى: البعد، فاعل حملت، وهي مؤنثة. والأزمة: جمع زمام؛ ما تقاد به الدابة. يقول للإبل: اعرفن قدر الحبيبة التي حملها البعد عليكن، واعرفن لينها ورقتها، وأنها لا تصبر على احتمال الأذى، فامشين بها رويدًا خضعًا حتى لا تتأذى بسيركن ومرحكن.
(١٣٢) البكا: يمد ويقصر، والأشهر المد. يقول: قد كان حيائي يغلب بكائي، واليوم غلب بكائي حيائي.
(١٣٣) الرنة: فعلة من الرنين؛ وهو صوت الباكي. والضمير في جلده: للعظم، ويحتمل أن يكون للعاشق على الالتفاف. والمدمع: مجرى الدمع. يقول: لكثرة بكائي صار كأن كل عظم من عظامي يرن رنينًا، وكل عرق لي يبكي؛ أي غلب البكاء حتى صارت حالتي بهذه الصفة. قال ابن وكيع: وفيه نظر إلى قول ابن المعتز:
وَمُتَيَّمٍ جَرَحَ الْفِرَاقُ فُؤَادَهُ فَالدَّمْعُ مِنْ أَجْفَانِهِ يَتَرَقْرَقُ
وإلى قول الآخر:
وَكَأَنَّ لِي فِي كُلِّ عُضْوٍ وَاحِدٍ قَلْبًا يَرِنُّ وَنَاظِرًا مَا يَطْرِفُ
(١٣٤) الجداية: الظبية. وفاضحًا: تمييز. والمصرع: المقتل، مصدر ميمي من صرعه؛ أي طرحه على الأرض. يقول: من فضح الجداية بحسنه كفى فاضحًا لمن يحبه وكفى بمصرعي في حبه مصرعًا. يعني: إنه غاية في الحسن وأنا غاية في الحب والعشق.
(١٣٥) يقول: سفرت: كشفت عن وجهها للوداع، وقد ألبسها وجل الفراق صفرة كأنها برقع يستر محاجرها — ما حول العين — ويخفى محاسنها، ولم تكن برقعا على الحقيقة. يعني أنها جزعت للفراق حتى اصفر لونها.
(١٣٦) السمط: خيط القلادة. والضمير من كأنها: للصفرة. يقول: كأن صفرتها والدمع فوقها ذهب مرصع بسمطين من اللؤلؤ من كل عين سمط. شبه صفرة وجهها بالذهب والدمع باللؤلؤ.
(١٣٧) يقول: صارت الليلة بذوائبها الثلاث أربع ليال؛ لأن كل ذؤابة منها كأنها ليلة لسوادها. والذوائب: جمع ذؤابة؛ وهي الخصلة من الشعر، والأصل ذآئب، فأبدل من الهمزة الأولى واوًا تخفيفًا.
(١٣٨) قال الواحدي: يجوز أن يريد بالقمرين: القمر والشمس، وهي وجهها، وجعل وجهها شمسًا في الحسن والضياء. ويجوز أن يشبه وجهها بالقمر، فهما قمران في وقت واحد. وهذا كقول الآخر:
وَإِذَا الْغَزَالَةُ فِي السَّمَاءِ تَرَفَّعَتْ وَبَدَا النَّهَارُ لِوَقْتِهِ يَتَرَحَّلُ
أَبْدَتْ لِوَجْهِ الشَّمْسِ وَجْهًا مِثْلَهُ يَلْقَى السَّمَاءَ بِمِثْلِ مَا تَسْتَقْبِلُ
ويقول صريع الغواني:
فَبِتُّ أُسِرُّ الْبَدْرَ طَوْرًا حَدِيثَهَا وَطَوْرًا أُنَاجِي الْبَدْرَ أَحْسِبُهَا الْبَدْرَا
إِلَى أَنْ رَأَيْتُ اللَّيْلَ مُنْكَشِفَ الدُّجَى يُوَدِّعُ فِي ظَلْمَائِهِ الْأَنْجُمَ الزُّهْرَا
وهذا المعنى كثير في كلامهم.
(١٣٩) الطلول: جمع طلل؛ وهي رسم الدار. والعارض: السحاب المعترض في الأفق. وأقشع: أقلع وتفرق. يقول: أعيدي لنا وصالك، ثم دعا للطلول بالسقيا وقال: لو كان وصالك مثل السحاب الذي أتمناه للطلول — أي دائمًا لا يتفرق — لكان دائمًا لا ينقطع.
(١٤٠) زجل: يسمع له زجل؛ وهو الصوت: يعني صوت الرعد. والملا: المتسع من الأرض أو الصحراء. والتلعات: جمع تلعة؛ التل يجري منه الماء إلى الوادي. والممرع: المخصب. يصف هذا السحاب يقول: إنه يملأ الجو ببرقه حتى يرى نارًا، ويملأ المتسع من الأرض ماء حتى يرى كالبحر، ويخصب التلال بمائه حتى تصير كالروض الخصيب. وقد جمع في هذا البيت ما فرقه غيره وأبدع فيه. قال أبو تمام:
آضَ لَنَا مَاءً وَكَانَ بَارِقَا
[أي رجع ماء بعد البرق.] وقال ابن دريد:
كَأَنَّمَا الْبَيْدَاءُ غِبَّ صَوْبِهِ بَحْرٌ طَمَا تَيَّارُهُ ثُمَّ سَجَا
(١٤١) الغدق: الكثير، قال تعالى: لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا؛ أي كثيرًا. شبه ذلك السحاب الذي وصفه ببنان — أصابع — الممدوح الكثير الجود، وهذا مخلص حسن. ومثله للبحتري:
كَأَنَّهَا حِينَ لَجَّتْ فِي تَدَفُّقِهَا أَيْدِي الْخَلِيفَةِ لَمَّا سَالَ وَادِيهَا
(١٤٢) المروءة: الكرم. واللبان: جمع اللبن. وصبيًّا: حال. يقول: ألف الكرم ناشئًا، فكأنه غذي به مع اللبن الذي شربه رضيعًا. وهذا من قول أبي تمام:
لَبِسَ الشَّجَاعَةَ إِنَّهَا كَانَتْ لَهُ قِدْمًا نَشُوغًا فِي الصِّبَا وَلَدُودَا
«النشوغ: الوجور والسعوط، يقال: نشغت الصبي وجورًا فانتشغه؛ جرعه جرعة بعد جرعة. واللدود: ما يصب بالمسعط في السقي والدواء في أحد شقي الفم، ولديد الفم: جانباه.» وإليك طرفة نحوية للعكبري النحوي الكوفي، قال: مذ ومنذ عندنا أنهما يرتفع الاسم بعدهما بإضمار فعل مقدر محذوف. وقال البصريون: هما اسمان يرتفع ما بعدهما لأنه خبر عنهما، ويكونان حرفين جارين فيكون ما بعدهما مجرورًا بهما، وحجتنا أنهما مركبان من «من» و «إذ» تغيرا عن حالهما في أفراد كل واحد منهما، فحذفت الهمزة ووصلت «من» بالذال وضمت الميم للفرق بين حالة الإفراد والتركيب. والدليل على أنها مركبة من «من» و«إذ» أن من العرب من يقول في «مُنذ»: مِنذ — بكسر الميم — فدل على أنها مركبة، وإذا ثبت أنها مركبة كان الرفع بعدهما بتقدير فعل؛ لأن الفعل يحسن بعد «إذ» والتقدير: ما رأيته مذ مضى يومان ومذ مضى شهران. وإذا كان الاسم بهما مخفوضًا كان الخفض بهما اعتبارًا ﺑ «من» ولهذا المعنى كان الخفض بمنذ أجود لظهور نون «من» فيها. والرفع ﺑ «مذ» أجود لحذف النون منها تغليبًا لإذ. ويدل على أن أصل «مذ» و«منذ» واحد: أنك لو سميت بهما قلت في تصغير مذ: منيذ وفي تكسيره: أمناذ؛ فترد النون المحذوفة، لأن التكسير والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها. وحجة البصريين أنهما معناهما الأمد، إذا قلت ما رأيته مذ يومان: فمعناه أمد انقطاع الرؤية يومان. والأمد في موضع رفع بالابتداء فكذلك ما قام مقامه وإذا ثبت أنهما مرفوعان بالابتداء وجب أن يكون ما بعدهما خبرًا.
(١٤٣) التمائم: جمع تميمة؛ العوذة تعلق على الصبي للوقاية من العين. قال الواحدي: من روى: نُظمت — بضم النون — فالمعنى أن هباته وما يفعل من الإعطاء جعلت له بمنزلة التمائم التي تعلق على من خاف شيئًا، فإذا سقطت عنه عاد الخوف؛ أي إنه ألف الإعطاء واعتاده، حتى لو ترك ذلك كان بمنزلة من سقطت تمائمه. ومن روى بفتح النون: فإنما يعني ما حصلت له المواهب من الحمد والثناء والمدح والأشعار وأدعية الفقراء، فهو إذا لم يسمع ما تعود أنكر ذلك، وكان كمن ألقى تميمته فيفزع. وهذا من قول أبي تمام:
تَكَادُ عَطَايَاهُ يُجَنُّ جُنُونُهَا إِذَا لَمْ يُعَوِّذْهَا بِنَغْمَةِ طَالِبِ
(١٤٤) الصنائع: الأيادي والنعم والمعروف. والقواطع: السيوف. وبارقات: مشرقات. والعوالي: الرماح. وشرعًا: منتصبة مرتفعة. يقول: جعل نعمه وأياديه مشرقة لامعة كالسيوف، ومعاليه مرتفعة كالرماح لاشتهارها بين الناس. وقال ابن جني: يحارب أعداءه وحساده بأياديه كما يحارب بالسيوف والرماح.
(١٤٥) متبسمًا: حال من فاعل ترك. والعفاة: جمع عافٍ؛ السائل. وعن واضح: أي عن ثغر واضح. وتغشى: تغطي. ولوامعه: ثناياه. يقول: يبتسم للسائلين عن ثغر واضح يذهب لمعانه بضوء البرق. ويروى: تعشى؛ أي تذهب نور أبصارها. وهو من قول العباس بن الأحنف:
مُتَسَرْبِلِينَ سَوَابِغًا مَاذِيَّة تُعْشِي الْقَوَانِسُ فَوْقَهَا الْأَبْصَارَا
(القوانس: جمع قونس، وقونس البيضة من السلاح؛ مقدمها أو أعلاها. والماذية: الدرع البيضاء أو السهلة اللينة.)
(١٤٦) حك: يروى صك؛ والمعنى: زاحم. يقول: إنه يظهر للأعداء سطوة لو زاحم منكبها السماء لزعزها؛ أي إنه يجاهر الأعداء بالقدرة عليهم ولا يكاتمهم العداوة. واستعار لسطوته منكبًا لما جعلها تزاحم السماء؛ لأن الزحام يكون بالمناكب.
(١٤٧) الحازم: ذو الحزم في أموره. واليقظ: الكثير التيقظ الذي لا يغفل عن أموره. والأغر: الشريف، ويروى: الأعز. والألد: الشديد الخصومة. والأريحي: الذي يرتاح للمعروف والكرم؛ أي يهتز لهما ويتحرك. والأروع: الذي يروعك بجماله أو الحاد الذكي. واللبق: الخفيف في الأمور. والندس: الفطن. والهبرزي: السيد الكريم. والمصقع: الخطيب البليغ.
(١٤٨) يقول: إن الزمان من خلقه إفناء الأشياء، وكذلك هذا الممدوح يفني أعداءه كما يفني ماله، فهو جواد كثير الغارات. وهذا قريب من قول أبي نواس:
وَمَا هُوَ إِلَّا الدَّهْرُ تَأْتِي صُرُوفُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَشْقَى بِهِ وَيُعَادِي
(١٤٩) العمارة بكسر العين: الأرض العامرة. والبلقع: المكان الخالي الذي لا عمارة فيه. يقول: إنه يعطي كل أحد أكان غنيًّا أم فقيرًا، كما أن الغمام يسقي كل موضع أعامرًا أم غامرًا. ومثله لابن المعتز:
وَيُصِيبُ بِالْجُودِ الْفَقِير وَذَا الْغِنَى كَالْغَيْثِ يَسْقِي مُجْدِبًا وَمَرِيعا
ولآخر يخاطب الغيث:
وَلَيْسَ يَخُصُّ أَرْضًا دُونَ أَرْضٍ وَكَفَّاهُ تَعُمَّانِ الْبِلَادَا
وروى الخوارزمي: العمارة — بفتح العين — وقال: يعني القبيلة، كأنه قال: يسقي المكان الذي به الناس والخالي.
(١٥٠) الشعب: الشمل. ويصدع: يفرق. والوفر: الغنى. ويلم: يجمع. يقول: إنه أبدًا يفرق شمل المال بالعطاء. ويجمع مفرق المكارم، وقد جمع في هذا البيت بين التطبيق والتجنيس. وقال أبو تمام:
لَهُ كُلَّ يَوْمٍ شَمْلُ مَجْدٍ مُؤَلَّفٍ وَشملُ نَدًى بَيْنَ الْعُفَاةِ مُشَتَّتِ
وقال البحتري:
وَمَعَالٍ أَصَارَهَا لِاجْتِمَاعٍ شَمْلُ مَالٍ أَصَارَهُ لِافْتِرَاقِ
(١٥١) الجدوى: العطاء. والمهند: السيف. ويوم الرجاء: متعلق بيهتز. والوعى بالعين والغين: جلبة الحرب وصوتها. والجملة قبله صفة لمهند. يقول: يهتز للجدوى يوم الرجاء اهتزاز المهند يوم الحرب. وهذا من قول الحطيئة:
كَسُوبٌ وَمِتْلَافٌ إِذَا مَا سَأَلْتَهُ تَهَلَّلَ وَاهْتَزَّ اهْتِزَازَ الْمُهَنَّدِ
ولمتمم بن نويرة:
تَرَاهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدَى إِذَا لَمْ تَجِدْ عِنْدَ امْرِئ السَّوْء مطْمَعَا
(١٥٢) لقاؤه: فاعل مغنيا. يقول: إن لقاء الفقير إياك ودعاءه لك حين يدعو بعد الصلاة يغنيان أمل الفقير لما عرف عنك من فرط السخاء وإغاثة البائسين.
(١٥٣) أقصر عن الشيء: تركه مع القدرة عليه. وقوله فاربعا: أراد فاربعن، فوقف بالألف. ومعناه: كف حسبك. وقوله: ولست بمقصر. جملة اعتراضية. قال الواحدي: يحتمل أمرين؛ أحدهما: أني أعلم أنك لا تقصر وإن أمرتك بالإقصار، والآخر: أنك وإن أقصرت لست بمقصر لتجاوزك المدى — الغاية. وهذا قريب من قول أبي تمام:
يَا لَيْتَ شِعْرِيَ مَنْ هَذِي مَنَاقِبُهُ مَاذَا الَّذِي بِبُلُوغِ النَّجْمِ يَنْتَظِرُ؟
(١٥٤) لك أن تقرأ الفعال بفتح الفاء: اسم للفعل الحسن، وبكسرها: جمع فعل. والثقلان: الجن والإنس.
(١٥٥) يقول: حويت فضل الثقلين — الجن والإنس — وهذا الفضل لم يطمع في نيله أحد ولا حدثته به نفسه لبعد مناله.
(١٥٦) أزمع الشيء: عزم عليه. يقول: كأن القضاء لك، فكلما أردت شيئًا وأزمعته أنفذه، فقوله: لك، خبر كأن: أي كأنه موافق لك. ولك أن تجعل لك: صلة أزمع: أي إن القضاء منفذ لما تريد، فكلما أزمعت أمرًا أزمع هو ذلك الأمر لأجلك. هذا، وقد قال الخليل: أزمعت على الأمر فأنا مزمع عليه: إذا مضيت فيه وثبت عزمك عليه. وقال الكسائي: يقال أزمعت الأمر، ولا يقال أزمعت عليه. قال الأعشى:
أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أَنْ تُزَارَا
وقال الفراء: أزمعته وأزمعت عليه بمعنًى، مثل أجمعته وأجمعت عليه.
(١٥٧) العصي: العاصي؛ فعيل بمعنى فاعل. يقول: والدهر الذي لا يطيع أحدًا قد أطاعك فيما أردت منه طاعة العبد السريع الإجابة.
(١٥٨) انثنت: رجعت. والشأو: الغاية. والمطي: جمع مطية: الركوبة. والظلع: جمع الظالع؛ الذي يغمز من يد أو رجل. يقول: غلبت مفاخرك مفاخر الناس حتى أفنتها فليس لأحد منهم فخر، وانصرفت مطايا وصفي قاصرة عن غايتها؛ أي لم يبلغ قولي وصف مفاخرك. وفي هذا يقول أبو تمام:
هَدَمَتْ مَسَاعِيهِ الْمَسَاعِيَ وَانْثَنَتْ خُطَطُ الْمَكَارِمِ فِي عِرَاصِ الْفَرْقَدِ
(١٥٩) يقول: وجرت مفاخرك في الأرض مجرى الشمس في الفلك حتى قطعت المشرق والمغرب. قال ابن وكيع: هذا مأخوذ من قول حبيب:
أَمَطْلَعَ الشَّمْسِ تَبْغِي أَنْ تَؤُمَّ بِنَا؟ فَقُلْتُ: كَلَّا وَلَكِنْ مَطْلَعَ الْجُودِ
وهذا تعسف من ابن وكيع، وقد كان من المولعين بنقد المتنبي وإصغاء إنائه، وإلا فأي تناسب بين البيتين؟ وإنما بيت أبي تمام فيه حسن التخلص وكان الأقرب أن يقول: إنه من قول علي بن الجهم:
وَسَارَتْ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَهَبَّتْ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
أو من قول أبي قيس بن أبي رفاعة — شاعر جاهلي — يصف قصيدة:
تَسِيرُ مَسِيرَ الشَّمْسِ شَرْقًا وَمَغْرِبًا وَيَحْلُو بِأَفْوَاهِ الرِّجَالِ نَشِيدُهَا
(١٦٠) يقول: لو قرنت الدنيا بدنيا أخرى مثلها وضمت إليها لعمتها مفاخرك أيضًا وخافت أن لا تقنع منها بذلك. ورُوي لعممتها — والضمير للممدوح — وخشيت — بضم التاء — والضمير للمتنبي؛ أي لعممتها بهمتك وسعة صدرك وخفت أنا أن لا تقنع بها؛ لأن همتك تقتضي فوقها.
(١٦١) يقول: لا يُكذَّب من ادعى لك فوق هذا؛ لأن الله يشهد بتصديقه، وذلك ما خلقه الله فيك من علو الهمة والفضائل المتوافرة، وكان الوجه أن يقول: إن ما ادعى حق، فجعل الخبر الذي هوى نكرة — وهو: حق — في موضع الاسم ونصبه بأن، وجعل الاسم الموصول — ما ادعى — في محل الخبر، وذلك جائز في ضرورة الشعر.
(١٦٢) النزر: هو القليل، فهو توكيد معنوي؛ يعني نفسه. يقول: إنما يحفظ القليل من أحوال مفاخره؛ لأنها أكثر من أن يمكنه حفظها، على حد قول أبي نواس:
حَفِظْتَ شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْكَ أَشْيَاءُ
وحفظ القليل مما ضيعا: أي من جنس ما ضيعه؛ لأن المحفوظ لا يكون من المضيع، ولكن يكون من جنسه.
(١٦٣) رجلًا: مفعول ثانٍ ليدعى. وطرا: أي جميعًا، حال. يقول: إن كان لا يدعى الفتى رجلًا إلا إذا كان كذا: أي كهذا الممدوح فسم الناس جميعًا إصبعا؛ لأنهم لو وزنوا بإصبعك ما وفوا. أو لأنهم بالقياس إليك كالإصبع من الرجل. قال الواحدي: وكان هذا الممدوح يلقب بذي الإصبع، وكان له إصبع زائدة. وروى الخوارزمي: أضبعا — جمع الضبع — يريد: كلهم بالإضافة إليك ضباع؛ لأنك حزت شرفًا وقدرًا لم ينله إلا أنت. قال ابن وكيع: وهو من قول أبي النجم:
لَوْ كَانَ خَلْقُ اللهِ جَنْبًا وَاحِدًا وَكُنْتَ فِي جَنْبٍ لَكُنْتَ زَائِدا
ومن قول عمر بن أبي ربيعة:
وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ فِي جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاعْتَزَلْتَ جَانِبا
لَيَمَّمْتُ جَانِبَهَا إِنَّنِي أَرَى قُرْبَهَا الْعَجَبَ الْعَاجِبَا
(١٦٤) يقول: إن كان لا يصح سعي ماجد لجود حتى يفعل مثل فعلك، فالغيث أبخل الساعين لبعد ما بينه وبينك ووقوعه دونك. وجعل الغيث أبخل الساعين مبالغة. قال ابن وكيع:
سَقَيْتَ فَكَانَ الْغَيْثُ أَدْنَى مَسَافَةً وَأَضْيَقَ بَاعًا مِنْ نَدَاكَ وَأَقْصَرَا
(١٦٥) ابنه — بحذف حرف النداء — أي يا ابنه. وغرة الشخص: طلعته. ومرأى ومسمعا: حالان. يقول: قد خلف أبوك العباس لنا طلعتك لنشاهد فضلك وكرمك وليبقى ذكرها إلى يوم القيامة.
(١٦٦) يقول: الحزن لأجل المصيبة يقلقني، والتجمل — تكلف الصبر — يمنعني عن التهالك والجزع، والدمع بين الحالين عاصٍ لدى التجمل فيحتبس، مطيع للقلق فينسكب، وبذاك يعصي صاحبه تارة ويطيعه أخرى.
(١٦٧) عنى بالمسهد — أي الكثير السهاد، الممنوع عنه النوم — نفسه. يقول: الحزن والصبر يتنازعان دموع عيني فالحزن يجيء بها؛ أي يجريها، والتجمل يردها.
(١٦٨) يقول: النوم بعد أبي شجاع لا يألف العين؛ أي لا تنام العيون بعده حزنًا عليه، والليل يطول فلا ينقضي، كأنه قد أعيا عن المشي — كَلَّ من التعب — فانقطع. والكواكب ظلع — كالعرجى — لا تقدر أن تقطع الفلك فتغرب. يريد طول الليل لاستيلاء الحزن عليه والهم على قلبه. وعبارة ابن جني: لو كان الليل والكواكب مما يؤثر فيهما حزن لأثر فيهما موته. وقال الخطيب: إنما أراد أن الليل طويل لفقده فالليل مُعْيٍ والكواكب ظلع ما تسير؛ يريد طول الليل للحزن.
(١٦٩) الحمام: الموت. يقول: أنا جبان عند فراق الأحبة أخافه خوف الجبناء وأشجع عند الموت في ميدان الوغى فلا أهابه؛ يعني أن الفراق أعظم خطبًا عنده من الموت، كما قال أبو تمام:
جَلِيدٌ عَلَى عَتْبِ الْخُطُوبِ إِذَا عَرَتْ وَلَسْتُ عَلَى عَتْبِ الْأَخِلَّاءِ بِالْجَلْدِ
(١٧٠) يقول: إنه صعب على أعدائه لا يلين لهم، بل يزداد عليهم قسوة إذا غضبوا، ويجزع عند عتب الصديق فلا يطيق احتماله، كما قال أشجع السلمي:
يُعْطِي زِمَامَ الطَّوْعِ إِخْوَانَهُ وَيَلْتَوِي بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ
وبعد: فإن المتنبي يريد بهذين البيتين عطفه ورقة قلبه عند الموادة والملاينة، وشدته عند المباطشة والمقاومة.
(١٧١) قوله عما مضى: متعلق بغافل. ويتوقع: ينتظر. يقول: إنما تصفو الحياة لجاهل لا يدرك أحوالها ومصايرها، أو غافل عما مضى فيها من العبر وما ينتظر في العواقب من انقضائها أو أحداثها التي لا يطيق لها احتمالًا، أما العاقل الفطن الذي ينظر إلى الدنيا بعين المعرفة ويتأملها تأمل الدراية ويمثل صوارفها وتصاريفها فإنها لا تصفو له.
(١٧٢) يسومها: يكلفها. ويعني بالحقائق: ما لا شك فيه للعاقل، وهو أن الدنيا على الحقيقة دار غرور وأخطار، والإنسان فيها على خطر عظيم، وأن الحياة فانية، فمن غالط في هذا نفسه ومناها السلامة والبقاء صفا له العيش حين ألقى عن نفسه الفكر في العواقب وسام نفسه طلب المحال من البقاء في السلامة مع نيل المراد فطمعت في ذلك.
(١٧٣) الهرمان: هما الهرم الأكبر والهرم الأوسط — وهما معروفان، وكل ما يتعلق بهما وبمن بناهما والغاية التي بنيا لها معروف، فراجعه إن شئت. يقول: أين من بناهما؟ وأين قومه؟ ومتى كان يوم موته؟ وكيف كان مصرعه؟ يعني أنهما بقيا بعد من بناهما واندرس ذكره وذكر قومه، فما يعرفون ولا يعرف بأي ميتة هلك، ولا في أي وقت لطول ممر الدهر عليه. يريد أن الدنيا مفنية لأهلها منكرة على من اغتر بها، وأن الفناء حتم في رقاب العباد، وأن الجميع صائرون إلى الفناء. وعبارة العكبري: قوله أين الذي الهرمان من بنيانه: استدل ببنائهما على تمكنه وأقامهما شاهدين على قوته وقدرته؛ أي أين هو وقوته؟ وأين قومه وكثرتهم؟ وأين عددهم وعددهم؟ أما عفت الدنيا آثار ملكه وأفنته؟ أما فرقت شمله وشتته؟ أما في بطن الأرض غيبته؟ وكأنه في هذا ينظر إلى قول عدي بن زيد:
أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَنُو شَرْ وَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ؟
يريد أن الفناء حتم في رقاب العباد، وأن الجميع صائرون إلى الفناء.
(١٧٤) يقول: إن الآثار تبقى بعد أصحابها حينًا من الدهر تدل على تمكنهم وقوتهم وسطوتهم ثم ينالها بعدهم ما نالهم من الفناء فتذهب كما ذهب أصحابها، وهذه شنشنة الدنيا مع أهلها، والمعهود من تصاريفها.
(١٧٥) يقول: إنه — لبعد مرتقى همته — لم يكن يرضى بمبلغ يبلغه في العلا حتى يطلب ما فوقه، ولم يكن ليسعه موضع من الأرض؛ لأنه لا يشبع طموحه.
(١٧٦) البلقع: الخالي. يقول: كنا نظنه صاحب ذخائر من الأموال فلما مات لم يخلف مالًا؛ لأنه كان جوادًا معطاء.
(١٧٧) وإذا: عطف على «وكل دار بلقع» في البيت السابق. وكل: رُوي بالرفع وبالنصب والتقدير على الرفع: كل شيء يجمعه، وعلى النصب يجمع كل شيء من هذه الأشياء. يقول: وإنما كل ما كان يجمعه في حياته المكارم والأسلحة والخيل، أما الذهب فلا؛ لأنه كان يفرقه بالعطاء، فبنات أعوج: يعني الخيل، وأعوج: فحل مشهور من خيل العرب، تنسب إليه الخيل الأعوجية. قيل: سمي بذلك لأن غارة وقعت على أصحابه ليلًا وكان مهرًا، ولضنهم به حملوه في وعاء على الإبل حين هربوا من الغارة، فاعوج ظهره وبقي فيه العوج، فلقب بالأعوج. وقد جاء في معنى بيت المتنبي شعر كثير للجاهليين ومن بعدهم، وقد قال قائلهم:
إِذَا خَزَنَ الْمَالَ الْبَخِيلُ فَإِنَّمَا خَزَائِنُهُ خَطِّيَّةٌ وَدُرُوعُ
وقال مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة يرثيه:
وَلَمْ يَكُ كَنْزُهُ ذَهَبًا وَلَكِنْ حَدِيدَ الْهِنْدِ وَالْحَلَقَ الْمُذَالَا
(١٧٨) الأروع: الذكي الفؤاد. يقول: إن المجد والمكارم أخسر صفقة وأنقص حظًّا من أن يعيش لها هذا المرثي. يعني أنها شقيت لذهاب من كان يحفظها ويجمع شملها. وقال العكبري — عند إعراب قوله «المجد أخسر والمكارم صفقة»: إذا جعلت التقدير المجد والمكارم أخسر صفقة اختل؛ لأنك تفصل بالمكارم بين أخسر وبين صفقة، وهي منصوبة بأخسر — التي هي عطف على المجد — وهذا غير جائز؛ لأن صفقة تحل من أخسر محل الصلة من الموصول. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: زيد أحسن وعمرو وجهًا، ولكن لك أن تصرفه إلى وجه آخر، وهو أن تجعل المكارم عطفًا على الضمير في أخسر، فإن عطفته على الضمير الذي فيه لم يكن أجنبيًّا منه، فلا يعد فصلًا بينه وبين صفقة، فيصير نحو قولك: مررت برجل أكل وعمرو وخبزًا، بعطف عمرو على الضمير في أكل ونصب خبزًا بأكل. وفي نوادر أبي زيد:
فَخَيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ الْبَأْسِ مِنْكُمْ إِذَا الدَّاعِي الْمثَوِّبُ قَالَ: يَا لَا
(بعده:
وَلَمْ تَثِقِ الْعَوَاتِقُ مِنْ غَيُورٍ بِغَيْرَتِهِ وَخَلَّيْنَ الْحِجَالَا
وقد نسب أبو زيد في نوادره هذين البيتين لزهير بن مسعود الضبي ولأئمة النحاة في إعراب «فخير نحن» كلام كثير لا متسع لإيراده هنا. والبأس: الشدة والقوة: والمثوب: الذي يدعو الناس يستنصرهم. والأصل فيه أن المستغيث إذا كان بعيدًا يتعرى ويلوح بثوبه رافعًا صوته ليُرى فيغاث. ويا لا: أراد يا لفلان، أو يا لبني فلان. وجملة لم تثق: عطف على مدخول إذا. والعواتق: جمع عاتق، وهي التي خرجت عن خدمة أبويها وعن أن يملكها الزوج. والحجال: جمع حجلة؛ وهو بيت كالقبة. يريد أنهن في يوم فزع أو غارة لا يثقن بأن يحميهن الأزواج والآباء والإخوة، فنحن عندهن أوثق منكم.)
فلا يجوز أن يكون نحن: مرفوعًا بالابتداء، ومنكم: متعلق بخير — على أن يكون «خير» خبر المبتدأ — لئلا يفصل «نحن» بين «خير» ومنكم، ولكن يجوز أن يكون «نحن» توكيدًا للضمير في «خير» ويكون «خير» خبر مبتدأ محذوف، فكأنه قال: فنحن خير عند الناس منكم. وحسن حذف «نحن» الأولى التي هي مبتدأ لمجيء الثانية توكيدًا للضمير في «خير». ويجوز وجه آخر وهو أن تنصب «صفقة» بفعل مضمر يدل عليه «أخسر»، وتجعل «المكارم» عطفًا على «المجد» — لا على الضمير في «أخسر» فلا تكون على هذا قد فصلت بين ما يجري مجرى الصلة والموصول، فيصير التقدير: المجد أخسر والمكارم أيضًا كذلك. ثم قال: صفقة، وكأنه قال: خسرت صفقة فدل أخسر على خسرت كما دل أعلم في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ على يعلم أو علم، فيكون «من يضل»: منصوبًا بالفعل الذي دل عليه «أعلم»، وإنما حملناه على ذلك هربًا من أن يكون «من يضل» في موضع جر بالإضافة إلى «أعلم»؛ لأن الأعلم أفعل، وأفعل إذا أضيف إلى شيء كان بعضًا له. نحو قولك زيد أكرم الناس، فلا بد أن يكون من الناس. ولا تقل: زيد أفضل النعام؛ لأنه ليس من النعام، فكذلك لا يجوز أن تضيف «أعلم» إلى «من يضل» لأن الله تعالى لا يكون بعض الضالين.
(١٧٩) يقول: إن الناس في زمانك أقل قدرًا من أن تكون بينهم تخالطهم وتعاشرهم، وقدرك أجل من أن تعايش أهل هذا الزمان.
(١٨٠) يقول: كلمني كلمة وأسمعني منك لفظة إن قدرت عليها ليسكن ما في قلبي من لوعة الحزن، فلقد كنت في حياتك تضر — إذا تشاء — أعداءك، وتنفع أولياءك؛ أي فانفعني بكلامك.
(١٨١) يقال: استراب به؛ أي رأى منه ما يريبه، أي يقلقه. يقول: لم يكن منك إلى أخلائك قبل هذه المرة — أي قبل أن تفجعهم بنفسك — ما يريبهم منك أو يوجعهم، فلما فُقدت أوجعت قلوبهم وأبكيت عيونهم.
(١٨٢) الأصمع: الذكي الحاد. وقوله وما تلم: حال. يقول: كنت أراك في حال حياتك وما تنزل بك نازلة من نوازل الدهر إلا دفعها عنك قلب ذكي.
(١٨٣) يقول: ونفاها عنك يد شنشنتها إعطاء الأولياء وقتال الأعداء حتى لكأنَّ النوال والقتال واجبان عليها، وهما تبرع لا وجوب. وفي هذا يقول أبو تمام:
ثَوَى مَالُهُ نَهْبَ الْمَعَالِي فَأَوْجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْجُودِ مَا لَيْسَ وَاجَبَا
ويقول ابن الرومي:
مَلِكٌ لَا يَرَى اللُّهَا تَسْتَحِقُّ الْوَسَائِلَا
وَيَرَاهَا فَرَائِضًا وَتُسَمَّى نَوَافِلَا
ويقول آخر:
أَغَرُّ مَتَى تَسْأَلْهُ جَادَ فَرِيضَةً وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَسْأَلْهُ جَادَ تَبَرُّعَا
(١٨٤) يريد: يا من كان في حياته يلبس كل يوم لباسًا جديدًا؛ إذ يخلع الملبوس على من يقصده، كيف ترضى أن تلبس الآن حلة لا تخلع؟ يعني الكفن. والحلة: اللباس من ثوبين — إزار ورداء — ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين.
(١٨٥) الفادح: الذي يثقل حمله، وفي هذا المعنى يقول الحماسي:
دَفَعْنَا بِكَ الْأَيَّامَ حَتَّى إِذَا أَتَتْ تُرِيدُكَ لَمْ نَسْطِعْ لَهَا عَنْكَ مَدْفَعَا
(١٨٦) عراك: أصابك ونزل بك. وشرع الرمح: بسط اليد به وسدده. يقول: ظللت — أقمت — تنظر إلى الموت نظر العاجز لم تعمل رماحك ولا سيوفك في دفع ما نزل بك؛ إذ لا مدفع للموت.
(١٨٧) بأبي: تفدية. وقوله: وجيشه متكاثر: حال من ضمير الوحيد. ومتكاثر: خبر أول لجيشه. ويبكي: خبر ثانٍ. يقول: إنه — مع كثرة جيوشه — كان وحيدًا من الأنصار، فلم يكن لجيوشه غناء فيما نزل به غير البكاء، ولا عدة غير الدموع، مع أن الدموع من شر الأسلحة؛ لأنها تضر صاحبها ولا تغني شيئًا عند المصيبة. وقد فسر هذا في البيت التالي.
(١٨٨) رعت: أفزعت وأخفت. وتقرع: تضرب. يقول: إذا لم يكن لك سلاح غير البكاء فلا غناء في البكاء؛ إنما تروع به القلب وتقرع به الخد: أي إنه لا يجدي ولا يدفع شيئًا.
(١٨٩) الأشيهب: تصغير الأشهب؛ وهو الذي غلب عليه البياض. والأبقع: الذي في صدره بياض، وهو في الطير والكلاب كالأبلق في الدواب. يقول: وصلت إليك — يخاطب المرثي — يد — يريد يد المنية — سواء لديها الصغير والكبير والشريف والوضيع فالبازي مثل للشريف، والغراب مثل للوضيع. ويروى: ألباز الاشهب — بقطع همزة أل من الباز، ووصل همزة أشهب: بناء على أن همزة أل قد وقعت في أول الشطر الثاني، فكأنه أخذ في بيت ثانٍ، كما قال حسان:
لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكًا فِي دِيَارِكُمْ: أللهُ أَكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا
وقال الآخر:
حَتَّى أَتَيْنَ فَتًى تَأَبَّطَ خَائِفًا ألسيف فَهْوَ أَخُو لِقَاء أَرْوَع
(١٩٠) المحافل: جمع محفل؛ وهو المجتمع. والجحافل: جمع جحفل؛ العسكر العظيم. والسرى: يريد سير الجيوش ليلًا للغارة. والنير: الكوكب الكثير النور. والنيران: الشمس والقمر. يقول متفجعًا عليه: من للمحافل في إرشاد جماعتها، والجحافل في تصريف كتائبها، والسرى عند انتهاز فرص الحرب، وطلب الغرة من الأعداء في الغزو، ولقد فقدت بفقدك المرشد الذي كانت تستمد برأيه، والنير الذي كانت تهتدي بضوئه، فعدمت ما كانت تعهده عنده، وغرب غروبًا لا يطلع بعده، قاله العكبري.
(١٩١) يقول: ومن الذي اتخذته خليفة لك على ضيوفك الذين كنت تسر بقراهم؟ لقد ضاع قصادك بعدك ومثلك من لا يضيع في حياته قاصده.
(١٩٢) يقول: قبح الله وجهك يا زمان فإن وجهك وجه توافرت فيه القبائح، فكأنه اتخذ القبائح برقعًا. فقوله: قبحًا، مفعول مطلق نائب عن عامله — من قولهم: قبحه الله: أي أقصاه ونحاه عن الخير. واللام من قوله: لوجهك: لبيان المفعول، كما يقال: سقيًا له. والقبح — في المصراع الثاني — الحسن.
(١٩٣) الأوكع في الأصل: الذي أقبلت إبهام رجله على السبابة حتى يرى أصلها خارجًا كالعقدة، وأكثر ما يكون ذلك للإماء اللواتي يكددن في العمل، ويقولون: أمة وكعاء؛ أي حمقاء، وعبد أوكع؛ أي أحمق أو لئيم. والاستفهام هنا: للتعجب، يتعجب من موت أبي شجاع فاتك في جوده وفضله مع بقاء حاسده — يعني كافورًا — الأحمق أو اللئيم. وفاتك: يروى بالرفع، وبالجر؛ فالرفع على أنه بدل من مثل، والجر بدل من أبي شجاع.
(١٩٤) يقول: إن كافورًا لسقوطه أهل للإذلال، فكأن قفاه يصيح ألا من يصفع؟ ولكن الأيدي التي حوله مقطعة لا تقدر على صفعه؛ أي ليس عنده من فيه خير؛ إذ رضوا بأن يملك عليهم مثله، يهجو من حوله من أصحابه لرضاهم بمثله وتأخرهم عن الإيقاع به. وهذا استطراد من المتنبي؛ إذ خرج إلى هجاء كافور وأصحابه من رثاء فاتك.
(١٩٥) يخاطب الزمان يقول: أبقيت أكذب الكاذبين الذين أبقيتهم؛ أي هو — كافور — أكذب من بقي من الكاذبين. وأخذت أصدق القائلين والسامعين — أي أصدق الناس — يعني المرثي. فقوله أبقيته: صفة لكاذب، و«من»: نكرة موصوفة بالجملة بعدها.
(١٩٦) الريحة والريح: واحد. وتتضوع: تفوح.
(١٩٧) يقول: بعد موتك قرت دماء الوحوش، وكانت كأنها تتطلع للخروج من أبدانها خوفًا منك وجزعًا. يعني أنه كان صاحب طرد وصيد بمواصلته الغزوات وتبديه في الفلوات، فبموته قرت دماء الوحوش. فدمه: فاعل قر. وقوله: وكان: الضمير للدم. والواو: واو الحال. ويقال: دابة نافر، ولا يقال نافرة. والتطلع: الاستشراف.
(١٩٨) ثمر السياط: العقد التي تكون في عذباتها. وأوت: عادت إليها ورجعت. والسوق: جمع ساق. يقول: حصل بموته الصلح بين الخيل والسياط؛ لأنه أبدًا كان يضربها بسياطه لتركض في قصد عدو أو طرد أو إغاثة مستصرخ، وهي — في شدة جريها أو كثرته — كأن سوقها وأذرعها ليست منها، كأنها كانت ترميها عن أنفسها. والآن لما ترك ركضها صارت أيديها وأرجلها كأنها عادت إليها.
(١٩٩) يعني بالطراد: مطاردة الفرسان في الحرب. وعفا: درس وذهب. والراعف: الذي يسيل منه الدم — من رعاف الأنف — والقناة: الرمح. والحسام: السيف القاطع. يقول: ذهب ذلك واندرس بموته. قال ابن وكيع: ومعنى البيتين من قول التميمي:
تَرَكْتَ الْمَشْرَفِيَّةَ وَالْعَوَالِي مُخَلَّاةً وَقَدْ حَانَ الْوُرُودُ
وَغَادَرْتَ الْجِيَادَ بِكُلِّ مَرْجٍ عَوَاطِلَ بَعْدَ زِينَتِهَا تَرُودُ
(٢٠٠) المخالم: الصديق. وأصل الخلم: مربض الظبية أو كناسها تتخذه مألفًا وتأوي إليه، فهو من هذا. والمنادم: النديم. وشيع الرجل: خرج معه عند الوداع. و«من» — في البيت الثاني — فاعل ولى. والمرتع: المرعى. يقول: ولى وذهب من كان ملجأ أوليائه، وكان لسيفه مرتع في كل قوم من أعدائه، وكل من كان يؤمه ويعول عليه وينادمه مشيعون غير مؤانسين ومودعون غير ملازمين، وذلك عند تشييعه إلى القبر.
(٢٠١) يقول: إنه كان عظيمًا أينما كان حتى لو حل في العجم لكان ملكهم كسرى، وكذلك في كل قوم. فقوله ففيها: أي فهو فيها. ومثله في البيت الثاني. وكسرى: بيان لرب. والجملة بعده: حال.
(٢٠٢) فرسًا: نصب على التمييز. يقول: كان أسرع الفرسان في الطعان. أي كان إذا طعن لم يدرك، ولكن المنية كانت أسرع منه فأدركته.
(٢٠٣) يقول: إن الفرسان لا يحسنون الركض ولا الطعان بعده. فهو يقول — على طريق الدعاء: لا حمل الفرسان بعده رمحًا ولا حملت الخيل قوائمها.
(٢٠٤) بأبي: هذه الباء باء التفدية؛ أي أفدى بأبي من وددته: أي جعل فداء له.
(٢٠٥) يقول: كان تسليمه عليَّ عند اللقاء توديعًا لفراق ثانٍ. وفي هذا يقول على ابن جبلة العكوك:
رَكِبَ الْأَهْوَالَ فِي زَوْرَتِهِ ثُمَّ مَا سَلَّمَ حَتَّى وَدَّعَا
ويقول الآخر:
بِأَبِي وَأُمِّي زَائِرٌ مُتَقَنِّعٌ لَمْ يَخْفَ ضَوْءُ الْبَدْرِ تَحْتَ قِنَاعِهِ
لَمْ أَسْتَتِمَّ عِنَاقَهُ لِلِقَائِهِ حَتَّى ابْتَدَأْتُ عِنَاقَهِ لِوَدَاعِهِ
No comments:
Post a Comment