جميع قصائد المتنبى المنتهية بحرف اللام مع الشرح الكامل

 شرح ديوان المتنبي



قافية اللام

وقال يمدح سيف الدولة وقد عزم على الرحيل عن إنطاكية وكثر المطر:


رُوَيْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ الْجَلِيلُ تَأَنَّ وَعُدَّهُ مِمَّا تُنِيلُ١

وَجُودَكَ بِالْمُقَامِ وَلَوْ قَلِيلًا فَمَا فِيمَا تَجُودُ بِهِ قَلِيلُ٢

لِأَكْبِتَ حَاسِدًا وَأَرِي عَدُوًّا كَأَنَّهُمَا وَدَاعُكَ وَالرَّحِيلُ٣

وَيَهْدَأُ ذَا السَّحَابُ فَقَدْ شَكَكْنَا: أَتَغْلِبُ أَمْ حَيَاهُ لَكُمْ قَبِيلُ؟٤

وَكُنْتُ أَعِيبُ عَذْلًا فِي سَمَاحٍ فَهَا أَنَا فِي السَّمَاحِ لَهُ عَذُولُ٥

وَمَا أَخْشَى نُبُوَّكَ عَنْ طَرِيقٍ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ الْمَاضِي الصَّقِيلُ٦

وَكُلُّ شَوَاةِ غِطْرِيفٍ تَمَنَّى لِسَيْرِكَ أَنَّ مَفْرِقَهَا السَّبِيلُ٧

وَمِثْلِ الْعَمْقِ مَمْلُوءٍ دِمَاءً جَرَتْ بِكَ فِي مَجَارِيهِ الْخُيُولُ٨

إِذَا اعْتَادَ الْفَتَى خَوْضَ الْمَنَايَا فَأَهْوَنُ مَا يَمُرُّ بِهِ الْوُحُولُ٩

وَمَنْ أَمَرَ الْحُصُونَ فَمَا عَصَتْهُ أَطَاعَتْهُ الْحُزُونَةُ وَالسُّهُولُ١٠

أَتَخْفِرُ كُلَّ مَنْ رَمَتِ اللَّيَالِي وَتُنْشِرُ كُلَّ مَنْ دَفَنَ الْخُمُولُ؟!١١

وَنَدْعُوكَ الْحُسَامَ وَهَلْ حُسَامٌ يَعِيشُ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ الْقَتِيلُ؟!١٢

وَمَا لِلسَّيْفِ إِلَّا الْقَطْعَ فِعْلٌ وَأَنْتَ الْقَاطِعُ الْبَرُّ الْوَصُولُ١٣

وَأَنْتَ الْفَارِسُ الْقَوَّالُ صَبْرًا وَقَدْ فَنِيَ التَّكَلُّمُ وَالصَّهِيلُ١٤

يَحِيدُ الرُّمْحُ عَنْكَ وَفِيهِ قَصْدٌ وَيَقْصُرُ أَنْ يَنَالَ وَفِيهِ طُولُ١٥

فَلَوْ قَدَرَ السِّنَانُ عَلَى لِسَانٍ لَقَالَ لَكَ السِّنَانُ كَمَا أَقُولُ١٦

وَلَوْ جَازَ الْخُلُودُ خَلَدْتَ فَرْدًا وَلَكِنْ لَيْسَ لِلدُّنْيَا خَلِيلُ١٧

وقال يرثي والدة سيف الدولة، وقد توفيت بميا فارقين وجاءه الخبر بموتها إلى حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وأنشده إياها في جمادى الآخرة من السنة:


نُعِدُّ الْمَشْرَفِيَّةَ وَالْعَوَالِي وَتَقْتُلُنَا الْمَنُونُ بِلَا قِتَالِ١٨

وَنَرْتَبِطُ السَّوَابِقَ مُقْرَبَاتٍ وَمَا يُنْجِينَ مِنْ خَبَبِ اللَّيَالِي١٩

وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا؟! وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوِصَالِ٢٠

نَصِيبُكَ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَبِيبٍ نَصِيبُكَ فِي مَنَامِكَ مِنْ خَيَالِ٢١

رَمَانِي الدَّهْرُ بِالْأَرْزَاءِ حَتَّى فُؤَادِي فِي غِشَاءٍ مِنْ نِبَالِ٢٢

فَصِرْتُ إِذَا أَصَابَتْنِي سِهَامٌ تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ٢٣

وَهَانَ فَمَا أُبَالِي بِالرَّزَايَا لِأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي٢٤

وَهَذَا أَوَّلُ النَّاعِينَ طُرًّا لِأَوَّلِ مَيْتَةٍ فِي ذَا الْجَلَالِ٢٥

كَأَنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَفْجَعْ بِنَفْسٍ وَلَمْ يَخْطُرْ لِمَخْلُوقٍ بِبَالِ٢٦

صَلَاةُ اللهِ خَالِقِنَا حَنُوطٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمُكَفَّنِ بِالْجَمَالِ٢٧

عَلَى الْمَدْفُونِ قَبْلَ التُّرْبِ صَوْنًا وَقَبْلَ اللَّحْدِ فِي كَرَمِ الْخِلَالِ٢٨

فَإِنَّ لَهُ بِبَطْنِ الْأَرْضِ شَخْصًا جَدِيدًا ذِكْرُنَاهُ وَهْوَ بَالِي٢٩

وَمَا أَحَدٌ يُخَلَّدُ فِي الْبَرَايَا بَلِ الدُّنْيَا تَئُولُ إِلَى زَوَالِ

أَطَابَ النَّفْسَ أَنَّكَ مُتَّ مَوْتًا تَمَنَّتْهُ الْبَوَاقِي وَالْخَوَالِي٣٠

وَزُلْتِ وَلَمْ تَرَيْ يَوْمًا كَرِيهًا يُسَرُّ الرُّوحُ فِيهِ بِالزَّوَالِ٣١

رِوَاقُ الْعِزِّ حَوْلَكِ مُسْبَطِرٌّ وَمُلْكُ عَلِيٍّ ابْنِكِ فِي كِمَالِ٣٢

سَقَى مَثْوَاكِ غَادٍ فِي الْغَوَادِي نَظِيرُ نَوَالِ كَفِّكِ فِي النَّوَالِ٣٣

لِسَاحِيهِ عَلَى الْأَجْدَاثِ حَفْشٌ كَأَيْدِي الْخَيْلِ أَبْصَرَتِ الْمَخَالِي٣٤

أُسَائِلُ عَنْكِ بَعْدَكِ كُلَّ مَجْدٍ وَمَا عَهْدِي بِمَجْدٍ عَنْكِ خَالِي٣٥

يَمُرُّ بِقَبْرِكَ الْعَافِي فَيَبْكِي وَيَشْغَلُهُ الْبُكَاءُ عَنِ السُّؤَالِ٣٦

وَمَا أَهْدَاكِ لِلْجَدْوَى عَلَيْهِ لَوَ انَّكِ تَقْدِرِينَ عَلَى فِعَالِ!٣٧

بِعَيْشِكِ هَلْ سَلَوْتِ؟ فَإِنَّ قَلْبِي وَإِنْ جَانَبْتُ أَرْضَكِ، غَيْرُ سَالِي٣٨

نَزَلْتِ عَلَى الْكَرَاهَةِ فِي مَكَانٍ بَعُدْتِ عَنِ النُّعَامَى وَالشَّمَالِ٣٩

تُحَجَّبُ عَنْكِ رَائِحَةُ الْخُزَامَى وَتُمْنَعُ مِنْكِ أَنْدَاءُ الطِّلَالِ٤٠

بِدَارٍ كُلُّ سَاكِنِهَا غَرِيبٌ طَوِيلُ الْهَجْرِ مُنْبَتُّ الْحِبَالِ٤١

حَصَانٌ مِثْلُ مَاءِ الْمُزْنِ فِيهِ كَتُومُ السِّرِّ صَادِقَةُ الْمَقَالِ٤٢

يُعَلِّلُهَا نِطَاسِيُّ الشَّكَايَا وَوَاحِدُهَا نِطَاسِيُّ الْمَعَالِي٤٣

إِذَا وَصَفُوا لَهُ دَاءً بِثَغْرٍ سَقَاهُ أَسِنَّةَ الْأَسَلِ الطِّوَالِ٤٤

وَلَيْسَتْ كَالْإِنَاثِ وَلَا اللَّوَاتِي تُعَدُّ لَهَا الْقُبُورُ مِنَ الْحِجَالِ٤٥

وَلَا مَنْ فِي جَنَازَتِهَا تِجَارٌ يَكُونُ وَدَاعُهَا نَفْضَ النِّعَالِ٤٦

مَشَى الْأُمَرَاءُ حَوْلَيْهَا حُفَاةً كَأَنَّ الْمَرْوَ مِنْ زَفِّ الرِّئَالِ٤٧

وَأَبْرَزَتِ الْخُدُورُ مُخَبَّآتٍ يَضَعْنَ النِّقْسَ أَمْكِنَةَ الْغَوَالِي٤٨

أَتَتْهُنَّ الْمُصِيبَةُ غَافِلَاتٍ فَدَمْعُ الْحُزْنِ فِي دَمْعِ الدَّلَالِ٤٩

وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ٥٠

وَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلَالِ٥١

وَأَفْجَعُ مَنْ فَقَدْنَا مَنْ وَجَدْنَا قُبَيْلَ الْفَقْدِ مَفْقُودَ الْمِثَالِ٥٢

يُدَفِّنُ بَعْضُنَا بَعْضًا وَتَمْشِي أَوَاخِرُنَا عَلَى هَامِ الْأَوَالِي٥٣

وَكَمْ عَيْنٍ مُقَبَّلَةِ النَّوَاحِي كَحِيلٌ بِالْجَنَادِلِ وَالرِّمَالِ!٥٤

وَمُغْضٍ كَانَ لَا يُغْضِي لِخَطْبٍ وَبَالٍ كَانَ يُفْكِرُ فِي الْهُزَالِ!٥٥

أَسَيْفَ الدَّوْلَةِ اسْتَنْجِدْ بِصَبْرٍ وَكَيْفَ بِمِثْلِ صَبْرِكَ لِلْجِبَالِ؟!٥٦

فَأَنْتَ تُعَلِّمُ النَّاسَ التَّعَزِّي وَخَوْضَ الْمَوْتِ فِي الْحَرْبِ السِّجَالِ٥٧

وَحَالَاتُ الزَّمَانِ عَلَيْكَ شَتَّى وَحَالُكَ وَاحِدٌ فِي كُلِّ حَالِ٥٨

فَلَا غِيضَتْ بِحَارُكَ يَا جَمُومًا عَلَى عَلَلِ الْغَرَائِبِ وَالدِّخَالِ٥٩

رَأَيْتُكَ فِي الَّذِينَ أَرَى مُلُوكًا كَأَنَّكَ مُسْتَقِيمٌ فِي مُحَالِ٦٠

فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ٦١

وقال يمدحه ويذكر استنقاذه أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة:


إِلَامَ طَمَاعِيَةُ الْعَاذِلِ؟ وَلَا رَأْيَ فِي الْحُبِّ لِلْعَاقِلِ٦٢

يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ٦٣

وَإِنِّي لَأَعْشَقُ مِنْ عِشْقِكُمْ نُحُولِي وَكُلَّ امْرِئٍ نَاحِلِ٦٤

وَلَوْ زُلْتُمُ ثُمَّ لَمْ أَبْكِكُمْ بَكَيْتُ عَلَى حُبِّيَ الزَّائِلِ٦٥

أَيُنْكِرُ خَدِّي دُمُوعِي وَقَدْ جَرَتْ مِنْهُ فِي مَسْلَكٍ سَابِلِ؟!٦٦

أَأَوَّلُ دَمْعٍ جَرَى فَوْقَهُ وَأَوَّلُ حُزْنٍ عَلَى رَاحِلِ٦٧

وَهَبْتُ السُّلُوَّ لِمَنْ لَامَنِي وَبِتُّ مِنَ الشَّوْقِ فِي شَاغِلِ٦٨

كَأَنَّ الْجُفُونَ عَلَى مُقْلَتِي ثِيَابٌ شُقِقْنَ عَلَى ثَاكِلِ٦٩

وَلَوْ كُنْتُ فِي أَسْرِ غَيْرِ الْهَوَى ضَمِنْتُ ضَمَانَ أَبِي وَائِلِ٧٠

فَدَى نَفْسَهُ بِضَمَانِ النُّضَارِ وَأَعْطَى صُدُورَ الْقَنَا الذَّابِلِ٧١

وَمَنَّاهُمُ الْخَيْلَ مَجْنُوبَةً فَجِئْنَ بِكُلِّ فَتًى بَاسِلِ٧٢

كَأَنَّ خَلَاصَ أَبِي وَائِلٍ مُعَاوَدَةُ الْقَمَرِ الْآفِلِ٧٣

دَعَا فَسَمِعْتَ وَكَمْ سَاكِتٍ عَلَى الْبُعْدِ عِنْدَكَ كَالْقَائِلِ!٧٤

فَلَبَّيْتَهُ بِكَ فِي جَحْفَلٍ لَهُ ضَامِنٍ وَبِهِ كَافِلِ٧٥

خَرَجْنَ مِنَ النَّقْعِ فِي عَارِضٍ وَمِنْ عَرَقِ الرَّكْضِ فِي وَابِلِ٧٦

فَلَمَّا نَشِفْنَ لَقِينَ السِّيَاطَ بِمِثْلِ صَفَا الْبَلَدِ الْمَاحِلِ٧٧

شَفَنَّ لِخَمْسٍ إِلَى مَنْ طَلَبْنَ قُبَيْلَ الشُّفُونِ إِلَى نَازِلِ٧٨

فَدَانَتْ مَرَافِقُهُنَّ الثَّرَى عَلَى ثِقَةٍ بِالدَّمِ الْغَاسِلِ٧٩

وَمَا بَيْنَ كَاذَتَيِ الْمُسْتَغِيرِ كَمَا بَيْنَ كَاذَتَيِ الْبَائِلِ٨٠

فَلُقِّينَ كُلَّ رُدَيْنِيَّةٍ وَمَصْبُوجَةٍ لَبَنَ الشَّائِلِ٨١

وَجَيْشَ إِمَامٍ عَلَى نَاقَةٍ صَحِيحِ الْإِمَامَةِ فِي الْبَاطِلِ٨٢

فَأَقْبَلْنَ يَنْحَزْنَ قُدَّامَهُ نَوَافِرَ كَالنَّحْلِ وَالْعَاسِلِ٨٣

فَلَمَّا بَدَوْتَ لِأَصْحَابِهِ رَأَتْ أُسْدُهَا آكِلَ الْآكِلِ٨٤

بِضَرْبٍ يَعُمُّهُمُ جَائِرٍ لَهُ فِيهِم قِسْمَةُ الْعَادِلِ٨٥

وَطَعْنٍ يُجَمِّعُ شُذَّانَهُمْ كَمَا اجْتَمَعَتْ دِرَّةُ الْحَافِلِ٨٦

إِذَا مَا نَظَرْتَ إِلَى فَارِسٍ تَحَيَّرَ عَنْ مَذْهَبِ الرَّاجِلِ٨٧

فَظَلَّ يُخَضِّبُ مِنْهَا اللِّحَى فَتًى لَا يُعِيدُ عَلَى النَّاصِلِ٨٨

وَلا يَسْتَغِيثُ إِلَى نَاصِرٍ وَلَا يَتَضَعْضَعُ مِنْ خَاذِلِ٨٩

وَلَا يَزَعُ الطَّرْفَ عَنْ مُقْدَمٍ وَلَا يَرْجِعُ الطَّرْفَ عَنْ هَائِلِ٩٠

إِذَا طَلَبَ التَّبْلَ لَمْ يَشْأَهُ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا عَلَى مَاطِلِ٩١

خُذُوا مَا أَتَاكُمْ بِه وَاعْذِرُوا فَإِنَّ الْغَنِيمَةَ فِي الْعَاجِلِ٩٢

وَإِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ عَامُكُمْ فَعُودُوا إِلَى حِمْصَ مِنْ قَابِلِ٩٣

فَإِنَّ الْحُسَامَ الْخَضِيبَ الَّذِي قُتِلْتُمْ بِهِ فِي يَدِ الْقَاتِلِ٩٤

يَجُودُ بِمِثْلِ الَّذِي رُمْتُمُ فَلَمْ تُدْرِكُوهُ عَلَى السَّائِلِ٩٥

أَمَامَ الْكَتِيبَةِ تُزْهَى بِهِ مَكَانَ السِّنَانِ مِنَ الْعَامِلِ٩٦

وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ آمِلٍ قِتَالًا بِكُمُ عَلَى بَازِلِ!٩٧

أَقَالَ لَهُ اللهُ: لَا تَلْقَهُمْ بِمَاضٍ عَلَى فَرَسٍ حَائِلِ٩٨

إِذَا مَا ضَرَبْتَ بِهِ هَامَةً بَرَاهَا وَغَنَّاكَ فِي الْكَاهِلِ٩٩

وَلَيْسَ بِأَوَّلِ ذِي هِمَّةٍ دَعَتْهُ لِمَا لَيْسَ بِالنَّائِلِ١٠٠

يُشَمِّرُ لِلُّجِّ عَنْ سَاقِهِ وَيَغْمُرُهُ الْمَوْجُ فِي السَّاحِلِ١٠١

أَمَا لِلْخِلَافَةِ مِنْ مُشْفِقٍ عَلَى سَيْفِ دَوْلَتِهَا الْفَاصِلِ؟١٠٢

يَقُدُّ عِدَاهَا بِلَا ضَارِبٍ وَيَسْرِي إِلَيْهِمْ بِلَا حَامِلِ١٠٣

تَرَكْتَ جَمَاجِمَهُمْ فِي النَّقَا وَمَا يَتَخَلَّصْنَ لِلنَّاخِلِ١٠٤

فَأَنْبَتَّ مِنْهُمْ رَبِيعَ السِّبَاعِ فَأَثْنَتْ بِإِحْسَانِكَ الشَّامِلِ١٠٥

وَعُدْتَ إِلَى حَلَبٍ ظَافِرًا كَعَوْدِ الْحُلِيِّ إِلَى الْعَاطِلِ١٠٦

وَمِثْلُ الَّذِي دُسْتَهُ حَافِيًا يُؤَثِّرُ فِي قَدَمِ النَّاعِلِ١٠٧

وَكَمْ لَكَ مِنْ خَبَرٍ شَائِعٍ لَهُ شِيَةُ الْأَبْلَقِ الْجَائِلِ!١٠٨

وَيَوْمٍ شَرَابُ بَنِيهِ الرَّدَى بَغِيضُ الْحُضُورِ إِلَى الْوَاغِلِ١٠٩

تَفُكُّ الْعُنَاةَ وَتُغْنِي الْعُفَاةَ وَتَغْفِرُ لِلْمُذْنِبِ الْجَاهِلِ١١٠

فَهَنَّأَكَ النَّصْرَ مُعْطِيكَهُ وَأَرْضَاهُ سَعْيُكَ فِي الْآجِلِ١١١

فَذِي الدَّارِ أَخْوَنُ مِنْ مُومِسٍ وَأَخْدَعُ مِنْ كِفَّةِ الْحَابِلِ١١٢

تَفَانَى الرِّجَالُ عَلَى حُبِّهَا وَمَا يَحْصُلُونَ عَلَى طَائِلِ١١٣

وسار سيف الدولة إلى الموصل لنصرة أخيه ناصر الدولة، لما قصده معز الدولة الديلمي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فقال أبو الطيب:


أَعَلَى الْمَمَالِكِ مَا يُبْنَى عَلَى الْأَسَلِ وَالطَّعْنُ عِنْدَ مُحِبِّيهِنَّ كَالْقُبَلِ١١٤

وَمَا تَقِرُّ سُيُوفٌ فِي مَمَالِكِهَا حَتَّى تُقَلْقَلَ دَهْرًا قَبْلُ فِي الْقلَلِ١١٥

مِثْلُ الْأَمِيرِ بَغَى أَمْرًا فَقَرَّبَهُ طُولُ الرِّمَاحِ وَأَيْدِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ١١٦

وَعَزْمَةٌ بَعَثَتْهَا هِمَّةٌ زُحَلٌ مِنْ تَحْتِهَا بِمَكَانِ التُّرْبِ مِنْ زُحَلِ١١٧

عَلَى الْفُرَاتِ أَعَاصِيرٌ وَفِي حَلَبٍ تَوَحُّشٌ لِمُلْقِي النَّصْرِ مُقْتَبَلِ١١٨

تَتْلُو أَسِنَّتُهُ الْكُتْبَ الَّتِي نَفَذَتْ وَيَجْعَلُ الْخَيْلَ أَبْدَالًا مِنَ الرُّسُلِ١١٩

يَلْقَى الْمُلُوكَ فَلَا يَلْقَى سِوَى جَزَرٍ وَمَا أَعَدُّوا فَلَا يَلْقَى سِوَى نَفَلِ١٢٠

صَانَ الْخَلِيفَةَ بِالْأَبْطَالِ مُهْجَتَهُ صِيَانَةَ الذَّكَرِ الْهِنْدِيِّ بِالْخِلَلِ١٢١

الْفَاعِلُ الْفِعْلَ لَمْ يُفْعَلْ لِشِدَّتِهِ وَالْقَائِلُ الْقَوْلَ لَمْ يُتْرَكْ وَلَمْ يُقَلِ١٢٢

وَالْبَاعِثُ الْجَيْشَ قَدْ غَالَتْ عَجَاجَتُهُ ضَوْءَ النَّهَارِ فَصَارَ الظُّهْرُ كَالطَّفَلِ١٢٣

الْجَوُّ أَضْيَقُ مَا لَاقَاهُ سَاطِعُهَا وَمُقْلَةُ الشَّمْسِ فِيهِ أَحْيَرُ الْمُقَلِ١٢٤

يَنَالُ أَبْعَدَ مِنْهَا وَهْيَ نَاظِرَةٌ فَمَا تُقَابِلُهُ إِلَّا عَلَى وَجَلِ١٢٥

قَدْ عَرَّضَ السَّيْفَ دُونَ النَّازِلَاتِ بِهِ وَظَاهَرَ الْحَزْمَ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْغِيَلِ١٢٦

وَوَكَّلَ الظَّنَّ بِالْأَسْرَارِ فَانْكَشَفَتْ لَهُ ضَمَائِرُ أَهْلِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ١٢٧

هُوَ الشُّجَاعُ يَعُدُّ الْبُخْلَ مِنْ جُبُنٍ وَهْوَ الْجَوَادُ يَعُدُّ الْجُبْنَ مِنْ بَخَلِ١٢٨

يَعُودُ مِنْ كُلِّ فَتْحٍ غَيْرَ مُفْتَخِرٍ وَقَدْ أَغَذَّ إِلَيْهِ غَيْرَ مُحْتَفِلِ١٢٩

وَلَا يُجِيرُ عَلَيْهِ الدَّهْرُ بُغْيَتَهُ وَلَا تُحَصِّنُ دِرْعٌ مُهْجَةَ الْبَطَلِ١٣٠

إِذَا خَلَعْتُ عَلَى عِرْضٍ لَهُ حُلَلًا وَجَدْتُهَا مِنْهُ فِي أَبْهَى مِنَ الْحُلَلِ١٣١

بِذِي الْغَبَاوَةِ مِنْ إِنْشَادِهَا ضَرَرٌ كَمَا تُضِرُّ رِيَاحُ الْوَرْدِ بِالْجُعَلِ١٣٢

لَقَدْ رَأَتْ كُلُّ عَيْنٍ مِنْكَ مَالِئَهَا وَجَرَّبَتْ خَيْرَ سَيْفٍ خَيْرَةُ الدُّوَلِ١٣٣

فَمَا تُكَشِّفُكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ مَلَلٍ مِنَ الْحُرُوبِ وَلَا الْآرَاءُ عَنْ زَلَلِ١٣٤

وَكَمْ رِجَالٍ بِلَا أَرْضٍ لِكَثْرَتِهِمْ تَرَكْتَ جَمْعَهُمْ أَرْضًا بِلَا رَجُلِ!١٣٥

مَا زَالَ طِرْفُكَ يَجْرِي فِي دِمَائِهِم حَتَّى مَشَى بِكَ مَشْيَ الشَّارِبِ الثَّمِلِ١٣٦

يَا مَنْ يَسِيرُ وَحُكْمُ النَّاظِرَيْنِ لَهُ فِيمَا يَرَاهُ وحُكْمُ الْقَلْبِ فِي الْجَذَلِ١٣٧

إِنَّ السَّعَادَةَ فِيمَا أَنْتَ فَاعِلُهُ وُفِّقْتَ مُرْتَحِلًا أَوْ غَيْرَ مُرْتَحِلِ١٣٨

أَجْرِ الْجِيَادَ عَلَى مَا كُنْتَ مُجْرِيهَا وَخُذْ بِنَفْسِكَ فِي أَخْلَاقِكَ الْأُوَلِ١٣٩

يَنْظُرْنَ مِنْ مُقَلٍ أَدْمَى أَحِجَّتَهَا قَرْعُ الْفَوَارِسِ بِالْعَسَّالَةِ الذُّبُلِ١٤٠

فَلَا هَجَمْتَ بِهَا إِلَّا عَلَى ظَفَرٍ وَلَا وَصَلْتَ بِهَا إِلَّا عَلَى أَمَلِ١٤١

وقال يرثي أبا الهيجاء عبد الله بن سيف الدولة بحلب، وقد توفي بميافارقين في صفر سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة:


بِنَا مِنْكَ فَوْقَ الرَّمْلِ مَا بِكَ فِي الرَّمْلِ وَهَذَا الَّذِي يُضْنِي كَذَاكَ الَّذِي يُبْلِي١٤٢

كَأَنَّكَ أَبْصَرْتَ الَّذِي بِي وَخِفْتَهُ إِذَا عِشْتَ فَاخْتَرْتَ الْحِمَامَ عَلَى الثُّكْلِ١٤٣

تَرَكْتَ خُدُودَ الْغَانِيَاتِ وَفَوْقَهَا دُمُوعٌ تُذِيبُ الْحُسْنَ فِي الْأَعْيُنِ النُّجْلِ١٤٤

تَبُلُّ الثَّرَى سُودًا مِنَ الْمِسْكِ وَحْدَهُ وَقَدْ قَطَرَتْ حُمْرًا عَلَى الشَّعَرِ الْجَثْلِ١٤٥

فَإِنْ تَكُ فِي قَبْرٍ فَإِنَّكَ فِي الْحَشَا وَإِنْ تَكُ طِفْلًا فَالْأَسَى لَيْسَ بِالطِّفْلِ١٤٦

وَمِثْلُكَ لَا يُبْكَى عَلَى قَدْرِ سِنِّهِ وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ الْمَخِيلَةِ وَالْأَصْلِ١٤٧

أَلَسْتَ مِنَ الْقَوْمِ الْأُلَى مِنْ رِمَاحِهِمْ نَدَاهُمْ وَمِنْ قَتْلَاهُمُ مُهْجَةُ الْبُخْلِ؟١٤٨

بِمَوْلُودِهِمْ صَمْتُ اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ وَلَكِنَّ فِي أَعْطَافِهِ مَنْطِقَ الْفَضْلِ١٤٩

تُسَلِّيهِمِ عَلْيَاؤُهُمْ عَنْ مُصَابِهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ كَسْبُ الثَّنَاءِ عَنِ الشُّغْلِ١٥٠

أَقَلُّ بِلَاءً بِالرَّزَايَا مِنَ الْقَنَا وَأَقْدَمُ بَيْنَ الْجَحْفَلَيْنِ مِنَ النَّبْلِ١٥١

عَزَاءَكَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ الْمُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّكَ نَصْلٌ وَالشَّدَائِدُ لِلنَّصْلِ١٥٢

مُقِيمٌ مِنَ الْهَيْجَاءِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ كَأَنَّكَ مِنْ كُلِّ الصَّوَارِمِ فِي أَهْلِ١٥٣

وَلَمْ أَرَ أَعْصَى مِنْكَ لِلْحُزْنِ عَبْرَةً وَأَثْبَتَ عَقْلًا وَالْقُلُوبُ بِلَا عَقْلِ١٥٤

تَخُونُ الْمَنَايَا عَهْدَهُ فِي سَلِيلِهِ وَتَنْصُرُهُ بَيْنَ الْفَوَارِسِ وَالرَّجْلِ١٥٥

وَيَبْقَى عَلَى مَرِّ الْحَوَادِثِ صَبْرُهُ وَيَبْدُو كَمَا يَبْدُو الْفِرِنْدُ عَلَى الصَّقْلِ١٥٦

وَمَنْ كَانَ ذَا نَفْسٍ كَنَفْسِكَ حُرَّةٍ فَفِيهِ لَهَا مُغْنٍ وَفِيهَا لَهُ مُسْلِي١٥٧

وَمَا الْمَوْتُ إِلَّا سَارِقٌ دَقَّ شَخْصُهُ يَصُولُ بِلَا كَفٍّ وَيَسْعَى بِلَا رِجْلِ١٥٨

يَرُدُّ أَبُو الشِّبْلِ الْخَمِيسَ عَنِ ابْنِهِ وَيُسْلِمُهُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ لِلنَّمْلِ١٥٩

بِنَفْسِي وَلِيدٌ عَادَ مِنْ بَعْدِ حَمْلِهِ إِلَى بَطْنِ أُمٍّ لَا تُطَرِّقُ بِالْحَمْلِ١٦٠

بَدَا وَلَهُ وَعْدُ السَّحَابَةِ بِالرِّوَى وَصَدَّ وَفِينَا غُلَّةُ الْبَلَدِ الْمَحْلِ١٦١

وَقَدْ مَدَّتِ الْخَيْلُ الْعِتَاقُ عُيُونَهَا إِلَى وَقْتِ تَبْدِيلِ الرِّكَابِ مِنَ النَّعْلِ١٦٢

وَرِيعَ لَهُ جَيْشُ الْعَدُوِّ وَمَا مَشَى وَجَاشَتْ لَهُ الْحَرْبُ الضَّرُوسُ وَمَا تَغْلِي١٦٣

أَيَفْطِمُهُ التَّوْرَابُ قَبْلَ فِطَامِهِ وَيَأْكُلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِلَى الْأَكْلِ؟!١٦٤

وَقَبْلَ يَرَى مِنْ جُودِهِ مَا رَأَيْتَهُ وَيَسْمَعَ فِيهِ مَا سَمِعْتَ مِنَ الْعَذْلِ١٦٥

وَيَلْقَى كَمَا تَلْقَى مِنَ السِّلْمِ وَالْوَغَى وَيُمْسِي كَمَا تُمْسِي مَلِيكًا بِلَا مِثْلِ١٦٦

تُوَلِّيهِ أَوْسَاطَ الْبِلَادِ رِمَاحُهُ وَتَمَنْعُهُ أَطْرَافُهُنَّ مِنَ الْعَزْلِ١٦٧

نُبَكِّي لِمَوْتَانَا عَلَى غَيْرِ رَغْبَةٍ تَفُوتُ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا مَوْهِبٍ جَزْلِ١٦٨

إِذَا مَا تَأَمَّلْتَ الزَّمَانَ وَصَرْفَهُ تَيَقَّنْتَ أَنَّ الْمَوْتَ ضَرْبٌ مِنَ الْقَتْلِ١٦٩

هَلِ الْوَلَدُ الْمَحْبُوبُ إِلَّا تَعِلَّةٌ؟ وَهَلْ خَلْوَةُ الْحَسْنَاءِ إِلَّا أَذَى الْبَعْلِ؟١٧٠

وَقَدْ ذُقْتُ حَلْوَاءَ الْبَنِينِ عَلَى الصِّبَا فَلَا تَحْسَبَنِّي قُلْتُ مَا قُلْتُ عَنْ جَهْلِ١٧١

وَمَا تَسَعُ الْأَزْمَانُ عِلْمِي بِأَمْرِهَا وَلَا تُحْسِنُ الْأَيَّامُ تَكْتُبُ مَا أُمْلِي١٧٢

وَمَا الدَّهْرُ أَهْلٌ أَنْ تُؤَمَّلَ عِنْدَهُ حَيَاةٌ، وَأَنْ يُشْتَاقَ فِيهِ إِلَى النَّسْلِ١٧٣

وقال يمدحه:


لَا الْحِلْمُ جَادَ بِهِ وَلا بِمِثَالِهِ لَوْلَا ادِّكَارُ وَدَاعِهِ وَزِيَالِهِ١٧٤

إِنَّ الْمُعِيدَ لَنَا الْمَنَامُ خَيَالَهُ كَانَتْ إِعَادَتُهُ خَيَالَ خَيَالِهِ١٧٥

بِتْنَا يُنَاوِلُنَا الْمُدَامَ بِكَفِّهِ مَنْ لَيْسَ يَخْطُرُ أَنْ نَرَاهُ بِبَالِهِ١٧٦

نَجْنِي الْكَوَاكِبَ مِنْ قَلَائِدِ جِيدِهِ وَنَنَالُ عَيْنَ الشَّمْسِ مِنْ خَلْخَالِهِ١٧٧

بِنْتُمْ عَنِ الْعَيْنِ الْقَرِيحَةِ فِيكُمُ وَسَكَنْتُمُ ظَنَّ الْفُؤَادِ الْوَالِهِ١٧٨

فَدَنَوْتُمُ وَدُنُوُّكُمْ مِنْ عِنْدِهِ وَسَمَحْتُمُ وَسَمَاحُكُمْ مِنْ مَالِهِ١٧٩

إِنِّي لَأُبْغِضُ طَيْفَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ إِذْ كَانَ يَهْجُرُنَا زَمَانَ وِصَالِهِ١٨٠

مِثْلُ الصَّبَابَةِ وَالْكَآبَةِ وَالْأَسَى فَارَقْتُهُ فَحَدَثْنَ مِنْ تَرْحَالِهِ١٨١

وَقَدِ اسْتَقَدْتُ مِنَ الْهَوَى وَأَذَقْتُهُ مِنْ عِفَّتِي مَا ذُقْتُ مِنْ بَلْبَالِهِ١٨٢

وَلَقَدْ ذَخَرْتُ لِكُلِّ أَرْضٍ سَاعَةً تَسْتَجْفِلُ الضِّرْغَامَ عَنْ أَشْبَالِهِ١٨٣

تَلْقَى الْوُجُوهُ بِهَا الْوُجُوهَ وَبَيْنَهَا ضَرْبٌ يَجُولُ الْمَوْتُ فِي أَجْوَالِهِ١٨٤

وَلَقَدْ خَبَأْتُ مِنَ الْكَلَامِ سُلَافَهُ وَسَقَيْتُ مَنْ نَادَمْتُ مِنْ جِرْيَالِهِ١٨٥

وَإِذَا تَعَثَّرَتِ الْجِيَادُ بِسَهْلِهِ بَرَّزْتُ غَيْرَ مُعَثَّرٍ بِجِبَالِهِ١٨٦

وَحَكَمْتُ فِي الْبَلَدِ الْعَرَاءِ بِنَاعِجٍ مُعْتَادِهِ مُجْتَابِهِ مُغْتَالِهِ١٨٧

يَمْشِي كَمَا عَدَتِ الْمَطِيُّ وَرَاءَهُ وَيَزِيدُ وَقْتَ جَمَامِهَا وَكَلَالِهِ١٨٨

وَتُرَاعُ غَيْرَ مُعَقَّلَاتٍ حَوْلَهُ فَيَفُوتُهَا مُتَجَفِّلًا بِعِقَالِهِ١٨٩

فَغَدَا النَّجَاحُ وَرَاحَ فِي أَخْفَافِهِ وَغَدَا الْمِرَاحُ وَرَاحَ فِي إِرْقَالِهِ١٩٠

وَشَرِكْتُ دَوْلَةَ هَاشِمٍ فِي سَيْفِهَا وَشَقَقْتُ خِيسَ الْمُلْكِ عَنْ رِئْبَالِهِ١٩١

عَنْ ذَا الَّذِي حُرِمَ اللُّيُوثُ كَمَالَهُ يُنْسِي الْفَرِيسَةَ خَوْفَهُ بِجَمَالِهِ١٩٢

وَتَوَاضَعَ الْأُمَرَاءُ حَوْلَ سَرِيرِهِ وَتَرَى الْمَحَبَّةَ وَهْيَ مِنْ آكَالِهِ١٩٣

وَيُمِيتُ قَبْلَ قِتَالِهِ وَيبَشُّ قَبـْ ـلَ نَوَالِهِ وَيُنِيلُ قَبْلَ سُؤَالِهِ١٩٤

إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا عَمَدْنَ لِنَاظِرٍ أَغْنَاهُ مُقْبِلُهَا عَنِ اسْتِعْجَالِهِ١٩٥

أَعْطَى وَمَنَّ عَلَى الْمُلُوكِ بِعَفْوِهِ حَتَّى تَسَاوَى النَّاسُ فِي إِفْضَالِهِ١٩٦

وَإِذَا غَنُوا بِعَطَائِهِ عَنْ هَزِّهِ وَالَى فَأَغْنَى أَنْ يَقُولُوا: وَالِهِ١٩٧

وَكَأَنَّمَا جَدْوَاهُ مِنْ إِكْثَارِهِ حَسَدٌ لِسَائِلِهِ عَلَى إِقْلَالِهِ١٩٨

غَرَبَ النُّجُومُ فَغُرْنَ دُونَ هُمُومِهِ وَطَلَعْنَ حِينَ طَلَعْنَ دُونَ مَنَالِهِ١٩٩

وَاللهُ يُسْعِدُ كُلَّ يَوْمٍ جَدَّهُ وَيَزِيدُ مِنْ أَعْدَائِهِ فِي آلِهِ٢٠٠

لَوْ لَمْ تَكُنْ تَجْرِي عَلَى أَسْيَافِهِ مُهَجَاتُهُمْ لَجَرَتْ عَلَى إِقْبَالِهِ٢٠١

لَمْ يَتْرُكُوا أَثَرًا عَلَيْهِ مِنَ الْوَغَى إِلَّا دِمَاءَهُمُ عَلَى سِرْبَالِهِ٢٠٢

فَلِمِثْلِهِ جَمَعَ الْعَرَمْرَمُ نَفْسَهُ وَبِمِثْلِهِ انْفَصَمَتْ عُرَى أَقْتَالِهِ٢٠٣

يَا أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُبَاهِي وَجْهَهُ لَا تُكْذَبَنَّ فَلَسْتَ مِنْ أَشْكَالِهِ٢٠٤

وَإِذَا طَمَا الْبَحْرُ الْمُحِيطُ فَقُلْ لَهُ: دَعْ ذَا فَإِنَّكَ عَاجِزٌ عَنْ حَالِهِ٢٠٥

وَهَبَ الَّذِي وَرِثَ الْجُدُودَ وَمَا رَأَى أَفْعَالَهُمْ لِابْنٍ بِلَا أَفْعَالِهِ٢٠٦

حَتَّى إِذَا فَنِيَ التُّرَاثُ سِوَى الْعُلَا قَصَدَ الْعُدَاةَ مِنَ الْقَنَا بِطِوَالِهِ٢٠٧

وَبِأَرْعَنٍ لَبِسَ الْعَجَاجَ إِلَيْهِمِ فَوْقَ الْحَدِيدِ وَجَرَّ مِنْ أَذْيَالِهِ٢٠٨

فَكَأَنَّمَا قَذِيَ النَّهَارُ بِنَقْعِهِ أَوْ غَضَّ عَنْهُ الطَّرْفَ مِنْ إِجْلَالِهِ٢٠٩

الْجَيْشُ جَيْشُكَ غَيْرَ أَنَّكَ جَيْشُهُ فِي قَلْبِهِ وَيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ٢١٠

تَرِدُ الطِّعَانَ الْمُرَّ عَنْ فُرْسَانِهِ وَتُنَازِلُ الْأَبْطَالَ عَنْ أَبْطَالِهِ٢١١

كُلٌّ يُرِيدُ رِجَالَهُ لِحَيَاتِهِ يَا مَنْ يُرِيدُ حَيَاتَهُ لِرِجَالِهِ٢١٢

دُونَ الْحَلَاوَةِ فِي الزَّمَانِ مَرَارَةٌ لَا تُخْتَطَى إِلَّا عَلَى أَهْوَالِهِ٢١٣

فَلِذَاكَ جَاوَزَهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ وَسَعَى بِمُنْصُلِهِ إِلَى آمَالِهِ٢١٤

وقال وقد توسط سيف الدولة جبالًا بطريق آمد:


يُؤَمِّمُ ذَا السَّيْفُ آمَالَهُ وَلا يَفْعَلُ السَّيْفُ أَفْعَالَهُ٢١٥

إِذَا سَارَ فِي مَهْمَهٍ عَمَّهُ وَإِنْ سَارَ فِي جَبَلٍ طَالَهُ٢١٦

وَأَنْتَ بِمَا نُلْتَنَا مَالِكٌ يُثَمِّرُ مِنْ مَالِهِ مَالَهُ٢١٧

كَأَنَّكَ مَا بَيْنَنَا ضَيْغَمٌ يُرَشِّحُ لِلْفَرْسِ أَشْبَالَهُ٢١٨

وقال يمدحه ويذكر الخيمة التي رمتها الريح، وكان قد ضرب سيف الدولة خيمة عظيمة بميافارقين، وأشاع الناس أن مقامه يتصل بها فهبت ريح شديدة فوقعت الخيمة، فتكلم الناس في ذلك، فقال:


أَيَقْدَحُ فِي الْخَيْمَةِ الْعُذَّلُ وَتَشْمَلُ مَنْ دَهْرَهَا يَشْمَلُ؟!٢١٩

وَتَعْلُو الَّذِي زُحَلٌ تَحْتَهُ مُحَالٌ لَعَمْرُكَ مَا تُسْأَلُ٢٢٠

فَلِمْ لَا تَلُومُ الَّذِي لَامَهَا وَمَا فَصُّ خَاتَمِهِ يَذْبُلُ؟٢٢١

تَضِيقُ بِشَخْصِكَ أَرْجَاؤُهَا وَيَرْكُضُ فِي الْوَاحِدِ الْجَحْفَلُ٢٢٢

وَتَقْصُرُ مَا كُنْتَ فِي جَوْفِهَا وَتُرْكَزُ فِيهَا الْقَنَا الذُّبَّلُ٢٢٣

وَكَيْفَ تَقُومُ عَلَى رَاحَةٍ كَأَنَّ الْبِحَارَ لَهَا أُنْمُلُ؟!٢٢٤

فَلَيْتَ وَقَارَكَ فَرَّقْتَهُ وَحَمَّلْتَ أَرْضَكَ مَا تَحْمِلُ!٢٢٥

فَصَارَ الْأَنَامُ بِهِ سَادَةً وَسُدْتَهُمُ بِالَّذِي يَفْضُلُ٢٢٦

رَأَتْ لَوْنَ نُورِكَ فِي لَوْنِهَا كَلَوْنِ الْغَزَالَةِ لَا يُغْسَلُ٢٢٧

وَأَنَّ لَهَا شَرَفًا بَاذِخًا وَأَنَّ الْخِيَامَ بِهَا تَخْجَلُ٢٢٨

فَلَا تُنْكِرَنَّ لَهَا صَرْعَةً فَمِنْ فَرَحِ النَّفْسِ مَا يَقْتُلُ٢٢٩

وَلَوْ بُلِّغَ النَّاسُ مَا بُلِّغَتْ لَخَانَتْهُمُ حَوْلَكَ الْأَرْجُلُ٢٣٠

وَلَمَّا أَمَرْتَ بِتَطْنِيبِهَا أُشِيعَ بِأَنَّكَ لَا تَرْحَلُ٢٣١

فَمَا اعْتَمَدَ اللهُ تَقْوِيضَهَا وَلَكِنْ أَشَارَ بِمَا تَفْعَلُ٢٣٢

وَعَرَّفَ أَنَّكَ مِنْ هَمِّهِ وَأَنَّكَ فِي نَصْرِهِ تَرْفُلُ٢٣٣

فَمَا الْعَانِدُونَ وَمَا أَثَّلُوا وَمَا الْحَاسِدُونَ وَمَا قَوَّلُوا؟!٢٣٤

هُمُ يَطْلُبُونَ فَمَنْ أَدْرَكُوا وَهُمْ يَكْذِبُونَ فَمَنْ يَقْبَلُ؟!٢٣٥

وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَشْتَهُونَ وَمِنْ دُونِهِ جَدُّكَ الْمُقْبِلُ٢٣٦

وَمَلْمُومَةٌ زَرَدٌ ثَوْبُهَا وَلَكِنَّهُ بِالْقَنَا مُخْمَلُ٢٣٧

يُفَاجِئُ جَيْشًا بِهَا حَيْنُهُ وَيُنْذِرُ جَيْشًا بِهَا الْقَسْطَلُ٢٣٨

جَعَلْتُكَ بِالْقَلْبِ لِي عُدَّةً لِأَنَّكَ بِالْيَدِ لَا تُجْعَلُ٢٣٩

لَقَدْ رَفَعَ اللهُ مِنْ دَوْلَةٍ لَهَا مِنْكَ يَا سَيْفَهَا مُنْصُلُ٢٤٠

فَإِنْ طُبِعَتْ قَبْلَكَ الْمُرْهَفَاتُ فَإِنَّكَ مِنْ قَبْلِهَا الْمِقْصَلُ٢٤١

وَإِنْ جَادَ قَبْلَكَ قَوْمٌ مَضَوْا فَإِنَّكَ فِي الْكَرَمِ الْأَوَّلُ٢٤٢

وَكَيْفَ تُقَصِّرُ عَنْ غَايَةٍ وَأُمُّكَ مِنْ لَيْثِهَا مُشْبِلُ؟!٢٤٣

وَقَدْ وَلَدَتْكَ فَقَالَ الْوَرَى: أَلَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ لَا تُنْجَلُ؟!٢٤٤

فَتَبًّا لِدِينِ عَبِيدِ النُّجُومِ وَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهَا تَعْقِلُ٢٤٥

وَقَدْ عَرَفَتْكَ فَمَا بَالُهَا تَرَاكَ تَرَاهَا وَلَا تَنْزِلُ؟!٢٤٦

وَلَوْ بِتُّمَا عِنْدَ قَدْرَيْكُمَا لَبِتَّ وَأَعْلَاكُمَا الْأَسْفَلُ٢٤٧

أَنَلْتَ عِبَادَكَ مَا أَمَّلُوا أَنَالَكَ رَبُّكَ مَا تَأْمُلُ٢٤٨

وقال يمدحه ويعتذر إليه وذلك في شعبان سنة إحدى وأربعين:٢٤٩

أَجَابَ دَمْعِي وَمَا الدَّاعِي سِوَى طَلَلٍ دَعَا فَلَبَّاهُ قَبْلَ الرَّكْبِ وَالْإِبِلِ٢٥٠

ظَلِلْتُ بَيْنَ أُصَيْحَابِي أُكَفْكِفُهُ وَظَلَّ يَسْفَحُ بَيْنَ الْعُذْرِ وَالْعَذَلِ٢٥١

أَشْكُو النَّوَى وَلَهُمْ مِنْ عَبْرَتِي عَجَبٌ كَذَاكَ كُنْتُ وَمَا أَشْكُو سِوَى الْكَلَلِ٢٥٢

وَمَا صَبَابَةُ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمَلٍ مِنَ اللِّقَاءِ كَمُشْتَاقٍ بِلَا أَمَلِ٢٥٣

مَتَى تَزُرْ قَوْمَ مَنْ تَهْوَى زِيَارَتَهَا لَا يُتْحِفُوكَ بِغَيْرِ الْبِيضِ وَالْأَسَلِ٢٥٤

وَالْهَجْرُ أَقْتَلُ لِي مِمَّا أُرَاقِبُهُ أَنَا الْغَرِيقُ فَمَا خَوْفِي مِنَ الْبَلَلِ!٢٥٥

مَا بَالُ كُلِّ فُؤَادٍ فِي عَشِيرَتِهَا بِهِ الَّذِي بِي وَمَا بِي غَيْرُ مُنْتَقِلِ؟!٢٥٦

مُطَاعَةُ اللَّحْظِ فِي الْأَلْحَاظِ مَالِكَةٌ لِمُقْلَتَيْهَا عَظِيمُ الْمُلْكِ فِي الْمُقَلِ٢٥٧

تَشَبَّهُ الْخَفِرَاتُ الآنِسَاتُ بِهَا فِي مَشْيِهَا فَيَنَلْنَ الْحُسْنَ بِالْحِيَلِ٢٥٨

قَدْ ذُقْتُ شِدَّةَ أَيَّامِي وَلَذَّتَهَا فَمَا حَصَلْتُ عَلَى صَابٍ وَلَا عَسَلِ٢٥٩

وَقَدْ أَرَانِي الشَّبَابُ الرُّوحَ فِي بَدَنِي وَقَدْ أَرَانِي الْمَشِيبُ الرُّوحَ فِي بَدَلِي٢٦٠

وَقَدْ طَرَقْتُ فَتَاةَ الْحَيِّ مُرْتَدِيًا بِصَاحِبٍ غَيْرِ عِزْهَاةٍ وَلَا غَزِلِ٢٦١

فَبَاتَ بَيْنَ تَرَاقِينَا نُدَفِّعُهُ وَلَيْسَ يَعْلَمُ بِالشَّكْوَى وَلَا الْقُبَلِ٢٦٢

ثُمَّ اغْتَدَى وَبِهِ مِنْ رَدْعِهَا أَثَرٌ عَلَى ذُؤَابَتِهِ وَالْجَفْنِ وَالْخَلَلِ٢٦٣

لَا أَكْسِبُ الذِّكْرَ إِلَّا مِنْ مَضَارِبِهِ أَوْ مِنْ سِنَانٍ أَصَمِّ الْكَعْبِ مُعْتَدِلِ٢٦٤

جَادَ الْأَمِيرُ بِهِ لِي فِي مَوَاهِبِهِ فَزَانَهَا وَكَسَانِي الدِّرْعَ فِي الْحُلَلِ٢٦٥

وَمِنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ مَعْرِفَتِي بِحَمْلِهِ مَنْ كَعَبْدِ اللهِ أَوْ كَعَلِي٢٦٦

مُعْطِي الْكَوَاعِبِ وَالْجُرْدِ السَّلَاهِبِ وَالـْ ـبِيضِ الْقَوَاضِبِ وَالْعَسَّالَةِ الذُّبُلِ٢٦٧

ضَاقَ الزَّمَانُ وَوَجْهُ الْأَرْضِ عَنْ مَلِكٍ مِلْءِ الزَّمَانِ وَمِلْءِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ٢٦٨

فَنَحْنُ فِي جَذَلٍ وَالرُّومُ فِي وَجَلٍ وَالْبَرُّ فِي شُغُلٍ وَالْبَحْرُ فِي خَجَلِ٢٦٩

مِنْ تَغْلِبَ الْغَالِبِينَ النَّاسَ مَنْصِبُهُ وَمِنْ عَدِيٍّ أَعَادِي الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ٢٧٠

وَالْمَدْحُ لِابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ تُنْجِدُهُ بِالْجَاهِلِيَّةِ عَيْنُ الْعِيِّ وَالْخَطَلِ٢٧١

لَيْتَ الْمَدَائِحَ تَسْتَوْفِي مَنَاقِبَهُ فَمَا كُلَيْبٌ وَأَهْلُ الْأَعْصُرِ الْأُوَلِ٢٧٢

خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ٢٧٣

وَقَدْ وَجَدْتَ مَجَالَ الْقَوْلِ ذَا سَعَةٍ فَإِنْ وَجَدْتَ لِسَانًا قَائِلًا فَقُلِ٢٧٤

إِنَّ الْهُمَامَ الَّذِي فَخْرُ الْأَنَامِ بِهِ خَيْرُ السُّيُوفِ بِكَفَّيْ خَيْرَةِ الدُّوَلِ٢٧٥

تُمْسِي الْأَمَانِيُّ صَرْعَى دُونَ مَبْلَغِهِ فَمَا يَقُولُ لِشَيْءٍ لَيْتَ ذَلِكَ لِي٢٧٦

انْظُرْ إِذَا اجْتَمَعَ السَّيْفَانِ فِي رَهَجٍ إِلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْخَلْقِ وَالْعَمَلِ

هَذَا الْمُعَدُّ لِرَيْبِ الدَّهْرِ مُنْصَلِتًا أَعَدَّ هَذَا لِرَأْسِ الْفَارِسِ الْبَطَلِ٢٧٧

فَالْعُرْبُ مِنْهُ مَعَ الْكُدْرِيِّ طَائِرَةٌ وَالرُّومُ طَائِرَةٌ مِنْهُ مَعَ الْحَجَلِ٢٧٨

وَمَا الْفِرَارُ إِلَى الْأَجْبَالِ مِنْ أَسَدٍ تَمْشِي النَّعَامُ بِهِ فِي مَعْقِلِ الْوَعَلِ؟!٢٧٩

جَازَ الدُّرُوبَ إِلَى مَا خَلْفَ خَرْشَنَةٍ وَزَالَ عَنْهَا وَذَاكَ الرَّوْعُ لَمْ يَزُلِ٢٨٠

فَكُلَّمَا حَلَمَتْ عَذْرَاءُ عِنْدَهُمُ فَإِنَّمَا حَلَمَتْ بِالسَّبْيِ وَالْجَمَلِ٢٨١

إِنْ كُنْتَ تَرْضَى بِأَنْ يُعْطُوا الْجِزَى بَذَلُوا مِنْهَا رِضَاكَ وَمَنْ لِلْعُورِ بِالْحَوَلِ٢٨٢

نَادَيْتُ مَجْدَكَ فِي شِعْرِي وَقَدْ صَدَرَا يَا غَيْرَ مُنْتَحِلٍ فِي غَيْرِ مُنْتَحِلِ٢٨٣

بِالشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَقْوَامٌ نُحِبُّهُمُ فَطَالِعَاهُمْ وَكُونَا أَبْلَغَ الرُّسُلِ٢٨٤

وَعَرِّفَاهُمْ بِأَنِّي فِي مَكَارِمِهِ أُقَلِّبُ الطَّرْفَ بَيْنَ الْخَيْلِ وَالْخَوَلِ٢٨٥

يَا أَيُّهَا الْمُحْسِنُ الْمَشْكُورُ مِنْ جِهَتِي وَالشُّكْرُ مِنْ قِبَلِ الْإِحْسَانِ لَا قِبَلِي٢٨٦

مَا كَانَ نَوْمِي إِلَّا فَوْقَ مَعْرِفَتِي بِأَنَّ رَأْيَكَ لَا يُؤْتَى مِنَ الزَّلَلِ٢٨٧

أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِعِ احْمِلْ عَلِّ سَلِّ أَعِدْ زِدْ هَشَّ بَشَّ تَفَضَّلْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ٢٨٨

لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ فَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ٢٨٩

وَمَا سَمِعْتُ، وَلَا غَيْرِي بِمُقْتَدِرٍ أَذَبَّ مِنْكَ لِزُورِ الْقَوْلِ عَنْ رَجُلِ٢٩٠

لِأَنَّ حِلْمَكَ حِلْمٌ لَا تَكَلَّفُهُ لَيْسَ التَّكَحُّلُ فِي الْعَيْنَيْنِ كَالْكَحَلِ٢٩١

وَمَا ثَنَاكَ كَلَامُ النَّاسِ عَنْ كَرَمٍ وَمَنْ يَسُدُّ طَرِيقَ الْعَارِضِ الْهَطِلِ؟!٢٩٢

أَنْتَ الْجَوَادُ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرٍ وَلَا مِطَالٍ وَلَا وَعْدٍ وَلَا مَذَلِ٢٩٣

أَنْتَ الشُّجَاعُ إِذَا مَا لَمْ يَطَأْ فَرَسٌ غَيْرَ السَّنَوَّرِ وَالْأَشْلَاءِ وَالْقُلَلِ٢٩٤

وَرَدَّ بَعْضُ الْقَنَا بَعْضًا مُقَارَعَةً كَأَنَّهُ مِنْ نُفُوسِ الْقَوْمِ فِي جَدَلِ٢٩٥

لَا زِلْتَ تَضْرِبُ مَنْ عَادَاكَ عَنْ عُرُضٍ بِعَاجِلِ النَّصْرِ فِي مُسْتَأْخِرِ الْأَجَلِ٢٩٦

ولما أنشد أقل أنل رآهم يعدون ألفاظه، فقال وزاد فيه:


أَقِلْ أَنِلْ أُنْ صُنِ احْمِلْ عَلِّ سَلِّ أَعِدْ زِدْ هَشَّ بَشَّ هَبِ اغْفِرْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ٢٩٧

فرآهم يستكثرون الحروف، فقال:


عِشِ ابْقَ اسْمُ سُدْ قُدْ جُدْ مُرِ انْهَ رِ فِ اسْرِ نَلْ غِظِ ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِلِ اثْنِ نُلْ٢٩٨

وَهَذَا دُعَاءٌ لَوْ سَكَتُّ كُفِيتَهُ لِأَنِّي سَأَلْتُ اللهَ فِيكَ وَقَدْ فَعَلْ٢٩٩

وقال وقد حضر مجلس سيف الدولة وبين يديه أتْرُجٌّ وطَلْعٌ وهو يمتحن الفرسان، فقال ابن حبيش شيخ المصيصة: لا تتوهم هذا للشرب، فقال أبو الطيب:


شَدِيدُ الْبُعْدِ مِنْ شُرْبِ الشَّمُولِ تُرُنْجُ الْهِنْدِ أَوْ طَلْعُ النَّخِيلِ٣٠٠

وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ طِيبٌ لَدَيْكَ مِنَ الدَّقِيقِ إِلَى الْجَلِيلِ٣٠١

وَمَيْدَانُ الْفَصَاحَةِ وَالْقَوَافِي وَمُمْتَحَنُ الْفَوَارِسِ وَالْخُيُولِ٣٠٢

وأنكر عليه بعض الحاضرين قوله: شديد … إلخ، فقال:


أَتَيْتُ بِمَنْطِقِ الْعَرَبِ الْأَصِيلِ وَكَانَ بِقَدْرِ مَا عَايَنْتُ قِيلِي٣٠٣

فَعَارَضَهُ كَلَامٌ كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ مِنَ الْبُعُولِ٣٠٤

وَهَذَا الدُّرُّ مَأْمُونُ التَّشَظِّي وَأَنْتَ السَّيْفُ مَأْمُونُ الْفُلُولِ٣٠٥

وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الْأَفْهَامِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ٣٠٦

ودخل عليه في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وعنده رسول ملك الروم وقد جاء يلتمس الفداء، وركب الغلمان بالتجافيف وأحضروا لبؤة مقتولة ومعها ثلاثة أشبال بالحياة وألقوها بين يديه. فقال أبو الطيب مرتجلًا:


لَقِيتَ الْعُفَاةَ بِآمَالِهَا وَزُرْتَ الْعُدَاةَ بِآجَالِهَا٣٠٧

وَأَقْبَلَتِ الرُّومُ تَمْشِي إِلَيْكَ بَيْنَ اللُّيُوثِ وَأَشْبَالِهَا٣٠٨

إِذَا رَأَتِ الْأُسْدَ مَسْبِيَّةً فَأَيْنَ تَفِرُّ بِأَطْفَالِهَا؟!٣٠٩

ودخل عليه ليلًا وهو يصف سلاحًا كان بين يديه ورُفع، فقال ارتجالًا:


وَصَفْتَ لَنَا — وَلَمْ نَرَهُ — سِلَاحًا كَأَنَّكَ وَاصِفٌ وَقْتَ النِّزَالِ٣١٠

وَأَنَّ الْبَيْضَ صُفَّ عَلَى دُرُوعٍ فَشَوَّقَ مَنْ رَآهُ إِلَى الْقِتَالِ٣١١

فَلَوْ أَطْفَأْتَ نَارَكَ تَا لَدَيْهِ قَرَأْتَ الْخَطَّ فِي سُودِ اللَّيَالِي٣١٢

إِنِ اسْتَحْسَنْتَ وَهْوَ عَلَى بِسَاطٍ فَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ عَلَى الرِّجَالِ٣١٣

وَإِنَّ بِهَا، وَإِنَّ بِهِ لَنَقْصًا وَأَنْتَ لَهَا النِّهَايَةُ فِي الْكَمَالِ٣١٤

وَلَوْ لَحَظَ الدُّمُسْتُقُ جَانِبَيْهِ لَقَلَّبَ رَأْيَهُ حَالًا لِحَالِ٣١٥

وقال يمدحه، وأنشدها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة:٣١٦

لَيَالِيَّ بَعْدَ الظَّاعِنِينَ شُكُولُ طِوَالٌ وَلَيْلُ الْعَاشِقِينَ طَوِيلُ٣١٧

يُبِنَّ لِيَ الْبَدْرَ الَّذِي لَا أُرِيدُهُ وَيُخْفِينَ بَدْرًا مَا إِلَيْهِ سَبِيلُ٣١٨

وَمَا عِشْتُ مِنْ بَعْدِ الْأَحِبَّةِ سَلْوَةً وَلَكِنَّنِي لِلنَّائِبَاتِ حَمُولُ٣١٩

وَإِنَّ رَحِيلًا وَاحِدًا حَالَ بَيْنَنَا وَفِي الْمَوْتِ مِنْ بَعْدِ الرَّحِيلِ رَحِيلُ٣٢٠

إِذَا كَانَ شَمُّ الرَّوْحِ أَدْنَى إِلَيْكُمُ فَلَا بَرِحَتْنِي رَوْضَةٌ وَقَبُولُ٣٢١

وَمَا شَرَقِي بِالْمَاءِ إِلَّا تَذَكُّرًا لِمَاءٍ بِهِ أَهْلُ الْحَبِيبِ نُزُولُ٣٢٢

يُحَرِّمُهُ لَمْعُ الْأَسِنَّةِ فَوْقَهُ فَلَيْسَ لِظَمْآنٍ إِلَيْهِ وُصُولُ٣٢٣

أَمَا فِي النُّجُومِ السَّائِرَاتِ وَغَيْرِهَا لِعَيْنِي عَلَى ضَوْءِ الصَّبَاحِ دَلِيلُ؟٣٢٤

أَلَمْ يَرَ هَذَا اللَّيْلُ عَيْنَيْكِ رُؤْيَتِي فَتَظْهَرَ فِيهِ رِقَّةٌ وَنُحُولُ؟!٣٢٥

لَقِيتُ بِدَرْبِ الْقُلَّةِ الْفَجْرَ لَقْيَةً شَفَتْ كَمَدِي وَاللَّيْلُ فِيهِ قَتِيلُ٣٢٦

وَيَوْمًا كَأَنَّ الْحُسْنَ فِيهِ عَلَامَةٌ بَعَثْتِ بِهَا وَالشَّمْسُ مِنْكِ رَسُولُ٣٢٧

وَمَا قَبْلَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ اثَّارَ عَاشِقٌ وَلَا طُلِبَتْ عِنْدَ الظَّلَامِ ذُحُولُ٣٢٨

وَلَكِنَّهُ يَأْتِي بِكُلِّ غَرِيبَةٍ تَرُوقُ عَلَى اسْتِغْرَابِهَا وَتَهُولُ٣٢٩

رَمَى الدَّرْبَ بِالْجُرْدِ الْجِيَادِ إِلَى الْعِدَا وَمَا عَلِمُوا أَنَّ السِّهَامَ خُيُولُ٣٣٠

شَوَائِلَ تَشْوَالَ الْعَقَارِبِ بِالْقَنَا لَهَا مَرَحٌ مِنْ تَحْتِهِ وَصَهِيلُ٣٣١

وَمَا هِيَ إِلَّا خَطْرَةٌ عَرَضَتْ لَهُ بِحَرَّانَ لَبَّتْهَا قَنًا وَنُصُولُ٣٣٢

هُمَامٌ إِذَا مَا هَمَّ أَمْضَى هُمُومَهُ بِأَرْعَنَ وَطْءُ الْمَوْتِ فِيهِ ثَقِيلُ٣٣٣

وَخَيْلٍ بَرَاهَا الرَّكْضُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ إِذَا عَرَّسَتْ فِيَها فَلَيْسَ تَقِيلُ٣٣٤

فَلَمَّا تَجَلَّى مِنْ دَلُوكٍ وَصَنْجَةٍ عَلَتْ كُلَّ طَوْدٍ رَايَةٌ وَرَعِيلُ٣٣٥

عَلَى طُرُقٍ فِيهَا عَلَى الطُّرْقِ رِفْعَةٌ وَفِي ذِكْرِهَا عِنْدَ الْأَنِيسِ خُمُولُ٣٣٦

فَمَا شَعَرُوا حَتَّى رَأَوْهَا مُغِيرَةً قِبَاحًا وَأَمَّا خَلْقُهَا فَجَمِيلُ٣٣٧

سَحَائِبُ يُمْطِرْنَ الْحَدِيدَ عَلَيْهِم فَكُلُّ مَكَانٍ بِالسُّيُوفِ غَسِيلُ٣٣٨

وَأَمْسَى السَّبَايَا يَنْتَحِبْنَ بِعَرْقَةٍ كَأَنَّ جُيُوبَ الثَّاكِلَاتِ ذُيُولُ٣٣٩

وَعَادَتْ فَظَنُّوهَا بِمَوْزَارَ قُفَّلًا وَلَيْسَ لَهَا إِلَّا الدُّخُولَ قُفُولُ٣٤٠

فَخَاضَتْ نَجِيعَ الْجَمْعِ خَوْضًا كَأَنَّهُ بِكُلِّ نَجِيعٍ لَمْ تَخُضْهُ كَفِيلُ٣٤١

تُسَايِرُهَا النِّيرَانُ فِي كُلِّ مَسْلَكٍ بِهِ الْقَوْمُ صَرْعَى وَالدِّيَارُ طُلُولُ٣٤٢

وَكَرَّتْ فَمَرَّتْ فِي دِمَاءِ مَلَطْيَةٍ مَلَطْيَةُ أُمٌّ لِلْبَنِينِ ثَكُولُ٣٤٣

وَأَضْعَفْنَ مَا كُلِّفْنَهُ مِنْ قُبَاقِبٍ فَأَضْحَى كَأَنَّ الْمَاءَ فِيهِ عَلِيلُ٣٤٤

وَرُعْنَ بِنَا قَلْبَ الْفُرَاتِ كَأَنَّمَا تَخِرُّ عَلَيْهِ بِالرِّجَالِ سُيُولُ٣٤٥

يُطَارِدُ فِيهِ مَوْجَهُ كُلُّ سَابِحٍ سَوَاءٌ عَلَيْهِ غَمْرَةٌ وَمَسِيلُ٣٤٦

تَرَاهُ كَأَنَّ الْمَاءَ مَرَّ بِجِسْمِهِ وَأَقْبَلَ رَأْسٌ وَحْدَهُ وَتَلِيلُ٣٤٧

وَفِي بَطْنِ هِنْزِيطٍ وَسِمْنِينَ لِلظُّبَا وَصُمَّ الْقَنَا مِمَّنْ أَبْدَنَ بَدِيلُ٣٤٨

طَلَعْنَ عَلَيْهِمْ طَلْعَةً يَعْرِفُونَهَا لَهَا غُرَرٌ مَا تَنْقَضِي وَحُجُولُ٣٤٩

تَمَلُّ الْحُصُونُ الشُّمُّ طُولَ نِزَالِنَا فَتُلْقِي إِلَيْنَا أَهْلَهَا وَتَزُولُ٣٥٠

وَبِتْنَ بِحِصْنِ الرَّانِ رَزْحَى مِنَ الْوَجَى وَكُلُّ عَزِيزٍ لِلْأَمِيرِ ذَلِيلُ٣٥١

وَفِي كُلِّ نَفْسٍ مَا خَلَاهُ مَلَالَةٌ وَفِي كُلِّ سَيْفٍ مَا خَلَاهُ فُلُولُ٣٥٢

وَدُونَ سُمَيْسَاطَ الْمَطَامِيرُ وَالْمَلَا وَأَوْدِيَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهُجُولُ٣٥٣

لَبِسْنَ الدُّجَى فِيهَا إِلَى أَرْضِ مَرْعَشٍ وَلِلرُّومِ خَطْبٌ فِي الْبِلَادِ جَلِيلُ٣٥٤

فَلَمَّا رَأَوْهُ وَحْدَهُ قَبْلَ جَيْشِهِ دَرَوْا أَنَّ كُلَّ الْعَالَمِينَ فُضُولُ٣٥٥

وَأَنَّ رِمَاحَ الْخَطِّ عَنْهُ قَصِيرَةٌ وَأَنَّ حَدِيدَ الْهِنْدِ عَنْهُ كَلِيلُ٣٥٦

فَأَوْرَدَهُمْ صَدْرَ الْحِصَانِ وَسَيْفَهُ فَتًى بَأْسُهُ مِثْلُ الْعَطَاءِ جَزِيلُ٣٥٧

جَوَادٌ عَلَى الْعِلَّاتِ بِالْمَالِ كُلِّهِ وَلَكِنَّهُ بِالدَّارِعِينَ بَخِيلُ٣٥٨

فَوَدَّعَ قَتْلَاهُمْ وَشَيَّعَ فَلَّهُمْ بِضَرْبٍ حُزُونُ الْبَيْضِ فِيهِ سُهُولُ٣٥٩

عَلَى قَلْبِ قُسْطَنْطِينَ مِنْهُ تَعَجُّبٌ وَإِنْ كَانَ فِي سَاقَيْهِ مِنْهُ كُبُولُ٣٦٠

لَعَلَّكَ يَومًا يَا دُمُسْتُقُ عَائِدٌ فَكَمْ هَارِبٍ مِمَّا إِلَيْهِ يَئُولُ٣٦١

نَجَوْتَ بِإِحْدَى مُهْجَتَيْكَ جَرِيحَةً وَخَلَّفْتَ إِحْدَى مُهْجَتَيْكَ تَسِيلُ٣٦٢

أَتُسْلِمُ لِلْخَطِّيَّةِ ابْنَكَ هَارِبًا وَيَسْكُنَ فِي الدُّنْيَا إِلَيْكَ خَلِيلُ؟!٣٦٣

بِوَجْهِكَ مَا أَنْسَاكَهُ مِنْ مُرِشَّةٍ نَصِيرُكَ مِنْهَا رَنَّةٌ وَعَوِيلُ٣٦٤

أَغَرَّكُمُ طُولُ الْجُيُوشِ وَعَرْضُهَا؟! عَلِيٌّ شَرُوبٌ لِلْجُيُوشِ أَكُولُ٣٦٥

إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلَّيْثِ إِلَّا فَرِيسَةً غَذَاهُ وَلَمْ يَنْفَعْكَ أَنَّكَ فِيلُ٣٦٦

إِذَا الطَّعْنُ لَمْ تُدْخِلْكَ فِيهِ شَجَاعَةٌ هِيَ الطَّعْنُ لَمْ يُدْخِلْكَ فِيهِ عَذُولُ٣٦٧

فَإِنْ تَكُنِ الْأَيَّامُ أَبْصَرْنَ صَوْلَهُ فَقَدْ عَلَّمَ الْأَيَّامَ كَيْفَ تَصُولُ٣٦٨

فَدَتْكَ مُلُوكٌ لَمْ تُسَمَّ مَوَاضِيًا فَإِنَّكَ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلُ٣٦٩

إِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ٣٧٠

أَنَا السَّابِقُ الْهَادِي إِلَى مَا أَقُولُهُ إِذِ الْقَوْلُ قَبْلَ الْقَائِلِينَ مَقُولُ٣٧١

وَمَا لِكَلَامِ النَّاسِ فِيمَا يُرِيبُنِي أُصُولٌ وَلَا لِلْقَائِلِيهِ أُصُولُ٣٧٢

أُعَادَى عَلَى مَا يُوجِبُ الْحُبَّ لِلْفَتَى وَأَهْدَأُ وَالْأَفْكَارُ فِيَّ تَجُولُ٣٧٣

سِوَى وَجَعِ الْحُسَّادِ دَاوِ فَإِنَّهُ إِذَا حَلَّ فِي قَلْبٍ فَلَيْسَ يَحُولُ٣٧٤

وَلَا تَطْمَعَنْ مِنْ حَاسِدٍ فِي مَوَدَّةٍ وَإِنْ كُنْتَ تُبْدِيهَا لَهُ وَتُنِيلُ٣٧٥

وَإِنَّا لَنَلْقَى الْحَادِثَاتِ بِأَنْفُسٍ كَثِيرُ الرَّزَايَا عِنْدَهُنَّ قَلِيلُ٣٧٦

يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا وَتَسْلَمَ أَعْرَاضٌ لَنَا وَعُقُولُ٣٧٧

فَتِيهًا وفَخْرًا تَغْلِبَ ابْنَةَ وَائِلٍ فَأَنْتَ لِخَيْرِ الْفَاخِرِينَ قَبِيلُ٣٧٨

يَغُمُّ عَلِيًّا أَنْ يَمُوتَ عَدُوُّهُ إِذَا لَمْ تَغُلْهُ بِالْأَسِنَّةِ غُولُ٣٧٩

شَرِيكُ الْمَنَايَا وَالنُّفُوسِ غَنِيمَةٌ فَكُلُّ مَمَاتٍ لَمْ يُمِتْهُ غُلُولُ٣٨٠

فَإِنْ تَكُنِ الدَّوْلَاتُ قِسْمًا فَإِنَّهَا لِمَنْ وَرَدَ الْمَوْتَ الزُّؤَامَ تَدُولُ٣٨١

لِمَنْ هَوَّنَ الدُّنْيَا عَلَى النَّفْسِ سَاعَةً وَلِلْبِيضِ فِي هَامِ الْكُمَاةِ صَلِيلُ٣٨٢

وقد جرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فقال له سيف الدولة: ما تقول في هذا وما تحكم يا أبا الطيب؟ فقال:


إِنْ كُنْتَ عَنْ خَيْرِ الْأَنَامِ سَائِلَا فَخَيْرُهُمْ أَكْثَرُهُمْ فَضَائِلَا

مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ يَا هُمَامَ وَائِلَا الطَّاعِنِينَ فِي الْوَغَى أَوَائِلَا٣٨٣

وَالْعَاذِلِينَ فِي النَّدَى الْعَوَاذِلَا قَدْ فَضَلُوا بِفَضْلِكَ الْقَبَائِلَا٣٨٤

وقال يمدحه عند دخول رسول الروم عليه في صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة:


دُرُوعٌ لِمَلْكِ الرُّومِ هَذِي الرَّسَائِلُ يَرُدُّ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيُشَاغِلُ٣٨٥

هِيَ الزَّرَدُ الضَّافِي عَلَيْهِ وَلَفْظُهَا عَلَيْكَ ثَنَاءٌ سَابِغٌ وَفَضَائِلُ٣٨٦

وَأَنَّى اهْتَدَى هَذَا الرَّسُولُ بِأَرْضِهِ وَمَا سَكَنَتْ مُذْ سِرْتَ فِيهَا الْقَسَاطِلُ؟!٣٨٧

وَمِنْ أَيِّ مَاءٍ كَانَ يَسْقِي جِيَادَهُ وَلَمْ تَصْفُ مِنْ مَزْجِ الدِّمَاءِ الْمَنَاهِلُ؟!٣٨٨

أَتَاكَ يَكَادُ الرَّأْسُ يَجْحَدُ عُنْقَهُ وَتَنْقَدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْهُ الْمَفَاصِلُ٣٨٩

يُقَوِّمُ تَقْوِيمُ السَّمَاطَيْنِ مَشْيَهُ إِلَيْكَ إِذَا مَا عَوَّجَتْهُ الْأَفَاكِلُ٣٩٠

فَقَاسَمَكَ الْعَيْنَيْنِ مِنْهُ وَلَحْظَهُ سَمِيُّكَ وَالْخِلُّ الَّذِي لَا يُزَايِلُ٣٩١

وَأَبْصَرَ مِنْكَ الرِّزْقَ وَالرِّزْقُ مُطْمِعٌ وَأَبْصَرَ مِنْهُ الْمَوْتَ وَالْمَوْتُ هَائِلُ٣٩٢

وَقَبَّلَ كُمًّا قَبَّلَ التُّرْبَ قَبْلَهُ وَكُلُّ كَمِيٍّ وَاقِفٌ مُتَضَائِلُ٣٩٣

وَأَسْعَدُ مُشْتَاقٍ وَأَظْفَرُ طَالِبٍ هُمَامٌ إِلَى تَقْبِيلِ كُمِّكَ وَاصِلُ٣٩٤

مَكَانٌ تَمَنَّاهُ الشِّفَاهُ وَدُونَهُ صُدُورُ الْمَذَاكِي وَالرِّمَاحُ الذَّوَابِلُ٣٩٥

فَمَا بَلَّغَتْهُ مَا أَرَادَ كَرَامَةٌ عَلَيْكَ وَلَكِنْ لَمْ يَخِبْ لَكَ سَائِلُ٣٩٦

وَأَكْبَرَ مِنْهُ هِمَّةً بَعَثَتْ بِهِ إِلَيْكَ الْعِدَا وَاسْتَنْظَرَتْهُ الْجَحَافِلُ٣٩٧

فَأَقْبَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهْوَ مُرْسَلٌ وَعَادَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهْوَ عَاذِلُ٣٩٨

تَحَيَّرَ فِي سَيْفٍ رَبِيعَةُ أَصْلُهُ وَطَابِعُهُ الرَّحْمَنُ وَالْمَجْدُ صَاقِلُ٣٩٩

وَمَا لَوْنُهُ مِمَّا تُحَصِّلُ مُقْلَةٌ وَلَا حَدُّهُ مِمَّا تَجُسُّ الْأَنَامِلُ٤٠٠

إِذَا عايَنَتْكَ الرُّسْلُ هَانَتْ نُفُوسُهَا عَلَيْهَا وَمَا جَاءَتْ بِهِ وَالْمُرَاسِلُ٤٠١

رَجَا الرُّومُ مَنْ تُرْجَى النَّوَافِلُ كُلُّهَا لَدَيْهِ وَلَا تُرْجَى لَدَيْهِ الطَّوَائِلُ٤٠٢

فَإِنْ كَانَ خَوْفُ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ سَاقَهُمْ فَقَدْ فَعَلُوا مَا الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ فَاعِلُ٤٠٣

فَخَافُوكَ حَتَّى مَا لِقَتْلٍ زِيَادَةٌ وَجَاءُوكَ حَتَّى مَا تُرَادُ السَّلَاسِلُ٤٠٤

أَرَى كُلَّ ذِي مُلْكٍ إِلَيْكَ مَصِيرُهُ كَأَنَّكَ بَحْرٌ وَالْمُلُوكُ جَدَاوِلُ٤٠٥

إِذَا مَطَرَتْ مِنْهُمْ وَمِنْكَ سَحَائِبٌ فَوَابِلُهُمْ طَلٌّ وَطَلُّكَ وَابِلُ٤٠٦

كَرِيمٌ مَتَى اسْتَوْهَبْتَ مَا أَنْتَ رَاكِبٌ وَقَدْ لَقِحَتْ حَرْبٌ فَإِنَّكَ بَاذِلُ٤٠٧

أَذَا الْجُودِ أَعْطِ النَّاسِ مَا أَنْتَ مَالِكٌ وَلَا تُعْطِيَنَّ النَّاسَ مَا أَنَا قَائِلُ٤٠٨

أَفِي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْنِي شُوَيْعِرٌ ضَعِيفٌ يُقَاوِينِي قَصِيرٌ يُطَاوِلُ؟!٤٠٩

لِسَانِي بِنُطْقِي صَامِتٌ عَنْهُ عَادِلُ وَقَلْبِي بِصَمْتِي ضَاحِكٌ مِنْهُ هَازِلُ٤١٠

وَأَتْعَبُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لَا تُجِيبُهُ وَأَغْيَظُ مَنْ عَادَاكَ مَنْ لَا تُشَاكِلُ٤١١

وَمَا التِّيهُ طِبِّي فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِي بَغِيضٌ إِلَيَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ٤١٢

وَأَكْبَرُ تِيهِي أَنَّنِي بِكَ وَاثِقٌ وَأَكْثَرُ مَا لِي أَنَّنِي لَكَ آمِلُ٤١٣

لَعَلَّ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الْقَرْمِ هَبَّةً يَعِيشُ بِهَا حَقٌّ وَيَهْلِكُ بَاطِلُ٤١٤

رَمَيْتُ عِدَاهُ بِالْقَوَافِي وَفَضْلِهِ وَهُنَّ الْغَوَازِي السَّالِمَاتُ الْقَوَاتِلُ٤١٥

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ النُّجُومَ خَوَالِدٌ وَلَوَ حَارَبَتْهُ نَاحَ فِيهَا الثَّوَاكِلُ٤١٦

وَمَا كَانَ أَدْنَاهَا لَهُ لَوْ أَرَادَهَا وَأَلْطَفَهَا لَوْ أَنَّهُ الْمُتَنَاوِلُ٤١٧

قَرِيبٌ عَلَيْهِ كُلُّ نَاءٍ عَلَى الْوَرَى إِذَا لَثَّمَتْهُ بِالْغُبَارِ الْقَنَابِلُ٤١٨

تُدَبِّرُ شَرْقَ الْأَرْضِ وَالْغَرْبِ كَفُّهُ وَلَيْسَ لَهَا وَقْتًا عَنِ الْجُودِ شَاغِلُ٤١٩

يُتَبِّعُ هُرَّابَ الرِّجَالِ مُرَادُهُ فَمَنْ فَرَّ حَرْبًا عَارَضَتْهُ الْغَوَائِلُ٤٢٠

وَمَنْ فَرَّ مِنْ إِحْسَانِهِ حَسَدًا لَهُ تَلَقَّاهُ مِنْهُ حَيْثُمَا سَارَ نَائِلُ٤٢١

فَتًى لَا يَرَى إِحْسَانَهُ وَهْوَ كَامِلٌ لَهُ كَامِلًا حَتَّى يُرَى وَهْوَ شَامِلُ٤٢٢

إِذَا الْعَرَبُ الْعَرْبَاءُ رَازَتْ نُفُوسَهَا فَأَنْتَ فَتَاهَا وَالْمَلِيكُ الْحُلَاحِلُ٤٢٣

أَطَاعَتْكَ فِي أَرْوَاحِهَا وَتَصَرَّفَتْ بِأَمْرِكَ وَالْتَفَّتْ عَلَيْكَ الْقَبَائِلُ٤٢٤

وَكُلُّ أَنَابِيبِ الْقَنَا مَدَدٌ لَهُ وَمَا يَنْكُتُ الْفُرْسَانَ إِلَّا الْعَوَامِلُ٤٢٥

رَأَيْتُكَ لَوْ لَمْ يَقْتَضِ الطَّعْنُ فِي الْوَغَى إِلَيْكَ انْقِيَادًا لَاقْتَضَتْهُ الشَّمَائِلُ٤٢٦

وَمَنْ لَمْ تُعَلِّمْهُ لَكَ الذُّلَّ نَفْسُهُ مِنَ النَّاسِ طُرًّا عَلَّمَتْهُ الْمَنَاصِلُ٤٢٧

وقال يعزيه بأخته الصغرى، ويسليه بالكبرى، وأنشدها في رمضان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة:


إِنْ يَكُنْ صَبْرُ ذِي الرَّزِيَّةِ فَضْلًا تَكُنِ الْأَفْضَلَ الْأَعَزَّ الْأَجَلَّا٤٢٨

أَنْتَ يَا فَوْقَ أَنْ تُعْزَّى عَنِ الْأَحـْ ـبَابِ فَوْقَ الَّذِي يُعَزِّيكَ عَقْلَا٤٢٩

وَبِأَلْفَاظِكَ اهْتَدَى فَإِذَا عَزْ زَاكَ قَالَ الَّذِي لَهُ قُلْتَ قَبْلَا٤٣٠

قَدْ بَلَوْتَ الْخُطُوبَ مُرًّا وَحُلْوًا وَسَلَكْتَ الْأَيَّامَ حَزْنًا وَسَهْلَا٤٣١

وَقَتَلْتَ الزَّمَانَ عِلْمًا فَمَا يُغـْ ـرِبُ قَوْلًا وَلَا يُجَدِّدُ فِعْلَا٤٣٢

أَجِدُ الْحُزْنَ فِيكَ حِفْظًا وَعَقْلَا وَأَرَاهُ فِي الْخَلْقِ ذُعْرًا وَجَهْلَا٤٣٣

لَكَ إِلْفٌ يَجُرُّهُ وَإِذَا مَا كَرُمَ الْأَصْلُ كَانَ لِلْإِلْفِ أَصْلَا٤٣٤

وَوَفَاءٌ نَبَتَّ فِيهِ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ لِلْوَفَاءِ أَهْلُكَ أَهْلَا٤٣٥

إِنَّ خَيْرَ الدُّمُوعِ عَوْنًا لَدَمْعٌ بَعَثَتْهُ رِعَايَةٌ فَاسْتَهَلَّا٤٣٦

أَيْنَ ذِي الرِّقَّةِ الَّتِي لَكَ فِي الْحَرْ بِ إِذَا اسْتُكْرِهَ الْحَدِيدُ وَصَلَّا؟!٤٣٧

أَيْنَ خَلَّفْتَهَا غَدَاةَ لَقِيتَ الرُّ ومَ وَالْهَامُ بِالصَّوَارِمِ تُفْلَى؟!٤٣٨

قَاسَمَتْكَ الْمَنُونُ شَخْصَيْنِ جَوْرًا جَعَلَ الْقِسْمُ نَفْسَهُ فِيكَ عَدْلا٤٣٩

فَإِذَا قِسْتَ مَا أَخَذْنَ بِمَا أَغـْ ـدَرْنَ سَرَّى عَنِ الْفُؤَادِ وَسَلَّى٤٤٠

وَتَيَقَّنْتَ أَنَّ حَظَّكَ أَوْفَى وَتَبَيَّنْتَ أَنَّ جَدَّكَ أَعْلَى٤٤١

وَلَعَمْرِي لَقَدْ شَغَلْتَ الْمَنَايَا بِالْأَعَادِي فَكَيْفَ يَطْلُبْنَ شُغْلَا؟!٤٤٢

وَكَمِ انْتَشتَ بِالسُّيُوفِ مِنَ الدَّهـْ ـرِ أَسِيرًا وَبِالنَّوَالِ مُقِلَّا!٤٤٣

عَدَّهَا نُصْرَةً عَلَيْهِ فَلَمَّا صَالَ خَتْلا رَآهُ أَدْرَكَ تَبْلَا٤٤٤

كَذَبَتْهُ ظُنُونُهُ أَنْتَ تُبْلِيـ ـهِ وَتَبْقَى فِي نِعْمَةٍ لَيْسَ تَبْلَى٤٤٥

وَلَقَدْ رَامَكَ الْعُدَاةُ كَمَا رَا مَ فَلَمْ يَجْرَحُوا لِشَخْصِكَ ظِلَّا٤٤٦

وَلَقَدْ رُمْتَ بِالسَّعَادَةِ بَعْضًا مِنْ نُفُوسِ الْعِدَا فَأَدْرَكْتَ كُلَّا٤٤٧

قَارَعَتْ رُمْحَكَ الرِّمَاحُ وَلَكِنْ تَرَكَ الرَّامِحِينَ رُمْحَكَ عُزْلَا٤٤٨

لَوْ يَكُونُ الَّذِي وَرَدْتَ مِنَ الْفَجـْ ـعَةِ طَعْنًا أَوْرَدْتَهُ الْخَيْلَ قُبْلَا٤٤٩

وَلَكَشَفْتَ ذَا الْحَنِينَ بِضَرْبٍ طَالَمَا كَشَّفَ الْكُرُوبَ وَجَلَّى٤٥٠

خِطْبَةٌ لِلْحِمَامِ لَيْسَ لَهَا رَدٌّ وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَمَّاةَ ثُكْلَا٤٥١

وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنَ النَّاسِ كُفْوًا ذَاتُ خِدْرٍ أَرَادَتِ الْمَوْتَ بَعْلَا٤٥٢

وَلَذِيذُ الْحَيَاةِ أَنْفَسُ فِي النَّفـْ ـسِ وَأَشْهَى مِنْ أَنْ يُمَلَّ وَأَحْلَى٤٥٣

وَإِذَا الشَّيْخُ قَالَ: أُفٍّ، فَمَا مَلـْ ـلَ حَيَاةً وَإِنَّمَا الضَّعْفَ مَلَّا٤٥٤

آلَةُ الْعَيْشِ صِحَّةٌ وَشَبَابٌ فَإِذَا وَلَّيَا عَنِ الْمَرْءِ وَلَّى٤٥٥

أَبَدًا تَسْتَرِدُّ مَا تَهَبُ الدُّنـْ ـيَا فَيَا لَيْتَ جُودَهَا كَانَ بُخْلَا!٤٥٦

فَكَفَتْ كَوْنَ فَرْحَةٍ تُورِثُ الْغَمـْ ـمَ وَخِلٍّ يُغَادِرُ الْوَجْدَ خَلَّا٤٥٧

وَهْيَ مَعْشُوقَةٌ عَلَى الْغَدْرِ لَا تَحـْ ـفَظُ عَهْدًا وَلَا تُتَمِّمُ وَصْلَا٤٥٨

كُلُّ دَمْعٍ يَسِيلُ مِنْهَا عَلَيْهَا وَبِفَكِّ الْيَدَيْنِ عَنْهَا تُخَلَّى٤٥٩

شِيَمُ الْغَانِيَاتِ فِيهَا فَلَا أَدْ رِي لِذَا أَنَّثَ اسْمَهَا النَّاسُ أَمْ لَا؟٤٦٠

يَا مَلِيكَ الْوَرَى الْمُفَرِّقَ مَحْيًا وَمَمَاتًا فِيهِمِ وَعِزًّا وَذُلَّا٤٦١

قَلَّدَ اللَّهُ دَوْلَةً سَيْفُهَا أَنـْ ـتَ حُسَامًا بِالْمَكْرُمَاتِ مُحَلَّى٤٦٢

فَبِهِ أَغْنَتِ الْمَوَالِيَ بَذْلًا وَبِهِ أَفْنَتِ الْأَعَادِيَ قَتْلَا٤٦٣

وَإِذَا اهْتَزَّ لِلنَّدَى كَانَ بَحْرًا وَإِذَا اهْتَزَّ لِلْوَغَى كَانَ نَصْلَا٤٦٤

وَإِذَا الْأَرْضُ أَظْلَمَتْ كَانَ شَمْسًا وَإِذَا الْأَرْضُ أَمْحَلَتْ كَانَ وَبْلَا٤٦٥

وَهُوَ الضَّارِبُ الْكَتِيبَةِ وَالطَّعـْ ـنَةُ تَغْلُو وَالضَّرْبُ أَغْلَى وَأَغْلَى٤٦٦

أَيُّهَا الْبَاهِرُ الْعُقُولَ فَمَا تُدْ رَكُ وَصْفًا أَتْعَبْتَ فِكْرِي فَمَهْلَا٤٦٧

مَنْ تَعَاطَى تَشَبُّهًا بِكَ أَعْيَا هُ وَمَنْ دَلَّ فِي طَرِيقِكَ ضَلَّا٤٦٨

فَإِذَا مَا اشْتَهَى خُلُودَكَ دَاعٍ قَالَ: لَا زُلْتَ أَوْ تَرَى لَكَ مِثْلَا٤٦٩

وقال يمدحه ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لما بلغه أن الروم أحاطت به، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة:٤٧٠

ذِي الْمَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى هَكَذَا هَكَذَا وَإِلَّا فَلَا لَا٤٧١

شَرَفٌ يَنْطِحُ النُّجُومَ بِرَوْقَيـْ ـهِ وَعِزٌّ يُقَلْقِلُ الْأَجْبَالَا٤٧٢

حَالُ أَعْدَائِنَا عَظِيمٌ وَسَيْفُ الدْ دَوْلَةِ ابْنُ السُّيُوفِ أَعْظَمُ حَالَا٤٧٣

كُلَّمَا أَعْجَلُوا النَّذِيرَ مَسِيرًا أَعْجَلَتْهُ جِيَادُهُ الْإِعْجَالَا٤٧٤

فَأَتَتْهُمْ خَوَارِقَ الْأَرْضِ مَا تَحـْ ـمِلُ إِلَّا الْحَدِيدَ وَالْأَبْطَالَا٤٧٥

خَافِيَاتِ الْأَلْوَانِ قَدْ نَسَجَ النَّقـْ ـعُ عَلَيْهَا بَرَاقِعًا وَجِلَالَا٤٧٦

حَالَفَتْهُ صُدُورُهَا وَالْعَوَالِي لَتَخُوضَنَّ دُونَهُ الْأَهْوَالَا٤٧٧

وَلَتَمْضِنَّ حَيْثُ لَا يَجِدُ الرُّمـْ ـحُ مَدَارًا وَلَا الْحِصَانُ مَجَالَا٤٧٨

لَا أَلُومُ ابْنَ لَاوُنٍ مَلِكَ الرُّو مِ وَإِنْ كَانَ مَا تَمَنَّى مُحَالَا٤٧٩

أَقْلَقَتْهُ بَنِيَّةٌ بَيْنَ أُذْنَيـْ ـهِ وَبَانٍ بَغَي السَّمَاءَ فَنَالَا٤٨٠

كُلَّمَا رَامَ حَطَّهَا اتَّسَعَ الْبَنـْ ـيُ فَغَطَّى جَبِينَهُ وَالْقَذَالَا٤٨١

يَجْمَعُ الرُّومَ وَالصَّقَالِبَ وَالْبُلـْ ـغَرَ فِيهَا وَتَجْمَعُ الْآجَالَا٤٨٢

وَتُوَافِيهِمْ بِهَا فِي الْقَنَا السُّمـْ ـرِ كَمَا وَافَتِ الْعِطَاشُ الصِّلَالَا٤٨٣

قَصَدُوا هَدْمَ سُورِهَا فَبَنَوْهُ وَأَتَوْا كَيْ يُقَصِّرُوهُ فَطَالَا٤٨٤

وَاسْتَجَرُّوا مَكَايِدَ الْحَرْبِ حَتَّى تَرَكُوهَا لَهَا عَلَيْهِمْ وَبَالَا٤٨٥

رُبَّ أَمْرٍ أَتَاكَ لَا تَحْمَدُ الْفُعـْ ـعَالَ فِيهِ وَتَحْمَدُ الْأَفْعَالَا٤٨٦

وَقِسِيٍّ رُمِيَتْ عَنْهَا فَرَدَّتْ فِي قُلُوِب الرُّمَاةِ عَنْكَ النِّصَالَا٤٨٧

أَخَذُوا الطُّرْقَ يَقْطَعُونَ بِهَا الرُّسـْ ـلَ فَكَانَ انْقِطَاعُهَا إِرْسَالَا٤٨٨

وَهُمُ الْبَحْرُ ذُو الْغَوَارِبِ إِلَّا أَنَّهُ صَارَ عِنْدَ بَحْرِكَ آلَا٤٨٩

مَا مَضَوْا لَمْ يُقَاتِلُوكَ وَلَكِنَّ الْقِتَالَ الَّذِي كَفَاكَ الْقِتَالَا٤٩٠

وَالَّذِي قَطَّعَ الرِّقَابَ مِنَ الضَّرْ بِ بِكَفَّيْكَ قَطَّعَ الْآمَالَا٤٩١

وَالثَّبَاتُ الَّذِي أَجَادُوا قَدِيمًا عَلَّمَ الثَّابِتِينَ ذَا الْإِجْفَالَا٤٩٢

نَزَلُوا فِي مَصَارِعٍ عَرَفُوهَا يَنْدُبُونَ الْأَعْمَامَ وَالْأَخْوَالَا٤٩٣

تَحْمِلُ الرِّيحُ بَيْنَهُمْ شَعَرَ الْهَا مِ وَتُذْرِي عَلَيْهِمِ الْأَوْصَالَا٤٩٤

تُنْذِرُ الْجِسْمَ أَنْ يُقِيمَ لَدَيْهَا وَتُرِيهِ لِكُلِّ عُضْوٍ مِثَالَا٤٩٥

أَبْصَرُوا الطَّعْنَ فِي الْقُلُوبِ دِرَاكًا قَبْلَ أَنْ يُبْصِرُوا الرِّمَاحَ خَيَالَا٤٩٦

وَإِذَا حَاوَلَتْ طِعَانَكَ خَيْلٌ أَبْصَرَتْ أَذْرُعَ الْقَنَا أَمْيَالَا٤٩٧

بَسَطَ الرُّعْبُ فِي الْيَمِينِ يَمِينًا فَتَوَلَّوْا، وَفِي الشِّمَالِ شِمَالَا٤٩٨

يَنْفُضُ الرَّوْعَ أَيْدِيًا لَيْسَ تَدْرِي أَسُيُوفًا حَمَلْنَ أَمْ أَغْلَالَا؟!٤٩٩

وَوُجُوهًا أَخَافَهَا مِنْكَ وَجْهٌ تَرَكَتْ حُسْنَهَا لَهُ وَالْجَمَالَا٥٠٠

وَالْعِيَانُ الْجَلِيُّ يُحْدِثُ لِلظَّنِّ زَوَالًا وَلِلْمُرَادِ انْتِقَالَا٥٠١

وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالَا٥٠٢

أَقْسَمُوا لَا رَأَوْكَ إِلَّا بِقَلْبٍ طَالَمَا غَرَّتِ الْعُيُونُ الرِّجَالَا٥٠٣

أَيُّ عَيْنٍ تَأَمَّلَتْكَ فَلَاقَتْكَ وَطَرْفٍ رَنَا إِلَيْكَ فَآلَا٥٠٤

وَمَا يَشُكُّ اللَّعِين فِي أَخْذِكَ الْجَيـْ ـشَ فَهَلْ يَبْعَثُ الْجُيُوشَ نَوَالَا؟!٥٠٥

مَا لِمَنْ يَنْصِبُ الْحَبَائِلَ فِي الْأَرْ ضِ وَمَرْجَاهُ أَنْ يَصِيدَ الْهِلَالَا؟!٥٠٦

إِنَّ دُونَ الَّتِي عَلَى الدَّرْبِ وَالْأَحـْ ـدَبِ وَالنَّهْرِ مِخْلَطًا مِزْيَالَا٥٠٧

غَصَبَ الدَّهْرَ وَالْمُلُوكَ عَلَيْهَا فَبَنَاهَا فِي وَجْنَةِ الدَّهْرِ خَالَا٥٠٨

فَهْيَ تَمْشِي مَشْيَ الْعَرُوسِ اخْتِيَالَا وَتَثَنَّى عَلَى الزَّمَانِ دَلَالَا٥٠٩

وَحَمَاهَا بِكُلِّ مُطَّرِدِ الْأَكـْ ـعُبِ جَوْرَ الزَّمَانِ وَالْأَوْجَالَا٥١٠

وَظُبًا تَعْرِفُ الْحَرَامَ مِنَ الْحِلِّ فَقَدْ أَفْنَتِ الدِّمَاءَ حَلَالَا٥١١

فِي خَمِيسٍ مِنَ الْأُسُودِ بَئِيسٍ يَفْتَرِسْنَ النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَا٥١٢

إِنَّمَا أَنْفُسُ الْأَنِيسِ سِبَاعٌ يَتَفَارَسْنَ جَهْرَةً وَاغْتِيَالَا٥١٣

مَنْ أَطَاقَ الْتِمَاسَ شَيْءٍ غِلَابًا وَاغْتِصَابًا لَمْ يَلْتَمِسْهُ سُؤَالَا٥١٤

كُلُّ غَادٍ لِحَاجَةٍ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ الْغَضَنْفَرَ الرِّئْبَالَا٥١٥

وأنفذ إليه سيف الدولة ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هدية، وكان ذلك بعد خروجه من مصر ومفارقته كافورًا، فقال يمدحه، وكتب بها إليه من الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة:


مَا لَنَا كُلُّنَا جَوٍ يَا رَسُولُ أَنَا أَهْوَى وَقَلْبُكَ الْمَتْبُولُ؟!٥١٦

كُلَّمَا عَادَ مَنْ بَعَثْتُ إِلَيْهَا غَارَ مِنِّي وَخَانَ فِيمَا يَقُولُ٥١٧

أَفْسَدَتْ بَيْنَنَا الْأَمَانَاتِ عَيْنَا هَا، وَخَانَتْ قُلُوبَهُنَّ الْعُقُولُ٥١٨

تَشْتَكِي مَا اشْتَكَيْتُ مِنْ أَلَمِ الشَّوْ قِ إِلَيْهَا وَالشَّوْقُ حَيْثُ النُّحُولُ٥١٩

وَإِذَا خَامَرَ الْهَوَى قَلْبَ صَبٍّ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ عَيْنٍ دَلِيلُ٥٢٠

زَوِّدِينَا مِنْ حُسْنِ وَجْهِكِ مَا دَا مَ فَحُسْنُ الْوُجُوهِ حَالٌ تَحُولُ٥٢١

وَصِلِينَا نَصِلْكِ فِي هَذِهِ الدُّنـْ ـيَا فَإِنَّ الْمُقَامَ فِيهَا قَلِيلُ٥٢٢

مَنْ رَآهَا بِعَيْنِهَا شَاقَهُ الْقُطَّا نُ فِيهَا كَمَا تَشُوقُ الْحُمُولُ٥٢٣

إِنْ تَرَيْنِي أَدِمْتُ بَعْدَ بَيَاضٍ فَحَمِيدٌ مِنَ الْقَنَاةِ الذُّبُولُ٥٢٤

صَحِبَتْنِي عَلَى الْفَلَاةِ فَتَاةٌ عَادَةُ اللَّوْنِ عِنْدَهَا التَّبْدِيلُ٥٢٥

سَتَرَتْكِ الْحِجَالُ عَنْهَا وَلَكِنْ بِكِ مِنْهَا مِنَ اللَّمَى تَقْبِيلُ٥٢٦

مِثْلُهَا أَنْتِ لَوَّحَتْنِي وَأَسْقَمـْ ـتِ وَزَادَتْ أَبْهَاكمَا الْعُطْبُولُ٥٢٧

نَحْنُ أَدْرَى وَقَدْ سَأَلْنَا بِنَجْدٍ أَقَصِيرٌ طَرِيقُنَا أَمْ يَطُولُ؟٥٢٨

وَكَثِيرٌ مِنَ السُّؤَالِ اشْتِيَاقٌ وَكَثِيرٌ مِنْ رَدِّهِ تَعْلِيلُ٥٢٩

لَا أَقَمْنَا عَلَى مَكَانٍ وَإِنْ طَا بَ وَلَا يُمْكِنُ الْمَكَانَ الرَّحِيلُ٥٣٠

كُلَّمَا رَحَّبَتْ بِنَا الرَّوْضُ قُلْنَا: حَلَبٌ قَصْدُنَا وَأَنْتِ السَّبِيلُ٥٣١

فِيكِ مَرْعَى جِيَادِنَا وَالْمَطَايَا وَإِلَيْهَا وَجِيفُنَا وَالذَّمِيلُ٥٣٢

وَالْمُسَمَّوْنَ بِالْأَمِيرِ كَثِيرٌ وَالْأَمِيرُ الَّذِي بِهَا الْمَأْمُولُ

الَّذِي زُلْتُ عَنْهُ شَرْقًا وَغَرْبًا وَنَدَاهُ مُقَابِلِي مَا يَزُولُ٥٣٣

وَمَعِي أَيْنَمَا سَلَكْتُ كَأَنِّي كُلُّ وَجْهٍ لَهُ بِوَجْهِي كَفِيلُ٥٣٤

وَإِذَا الْعَذْلُ فِي النَّدَى زَارَ سَمْعًا فَفِدَاهُ الْعَذُولُ وَالْمَعْذُولُ٥٣٥

وَمَوَالٍ تُحْيِيهِمِ مِنْ يَدَيْهِ نِعَمٌ غَيْرُهُمْ بِهَا مَقْتُولُ٥٣٦

فَرَسٌ سَابِقٌ وَرُمْحٌ طَوِيلٌ وَدِلَاصٌ زُغْفٌ وَسَيْفٌ صَقِيلُ٥٣٧

كُلَّمَا صَبَّحَتْ دِيَارَ عَدُوٍّ قَالَ تِلْكَ الْغُيُوثُ: هَذِي السُّيُولُ٥٣٨

دَهِمَتْهُ تُطَايِرُ الزَّرَدَ الْمُحـْ ـكَمَ عَنْهُ كَمَا يَطِيرُ النَّسِيلُ٥٣٩

تَقْنِصُ الْخَيْلَ خَيْلُهُ قَنَصَ الْوَحـْ ـشِ وَيَسْتَأْسِرُ الْخَمِيسَ الرَّعِيلُ٥٤٠

وَإِذَا الْحَرْبُ أَعْرَضَتْ زَعَمَ الْهَوْ لُ لِعَيْنَيْهِ أَنَّهُ تَهْوِيلُ٥٤١

وَإِذَا صَحَّ فَالزَّمَانُ صَحِيحٌ وَإِذَا اعْتَلَّ فَالزَّمَانُ عَلِيلُ٥٤٢

وَإِذَا غَابَ وَجْهُهُ عَنْ مَكَانٍ فَبِهِ مِنْ ثَنَاهُ وَجْهٌ جَمِيلُ٥٤٣

لَيْسَ إِلَّاكَ يَا عَلِيُّ هُمَامٌ سَيْفُهُ دُونَ عِرْضِهِ مَسْلُولُ٥٤٤

كَيْفَ لَا يَأْمَنُ الْعِرَاقُ وَمِصْرٌ وَسَرَايَاكَ دُوْنَهَا وَالْخُيُولُ؟!٥٤٥

لَوْ تَحَرَّفْتَ عَنْ طَرِيقِ الْأَعَادِي رَبَطَ السِّدْرَ خَيْلَهُمْ وَالنَّخِيلُ٥٤٦

وَدَرَى مَن أَعَزَّهُ الدَّفْعُ عَنْهُ فِيهِمَا أَنَّهُ الْحَقِيرُ الذَّلِيلُ٥٤٧

أَنْتَ طُولَ الْحَيَاةِ لِلرُّومِ غَازٍ فَمَتَى الْوَعْدُ أَنْ يَكُونَ الْقُفُولُ؟!٥٤٨

وَسِوَى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُومٌ فَعَلَى أَيِّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ؟٥٤٩

قَعَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَنْ مَسَاعِيـ ـكَ وَقَامَتْ بِهَا الْقَنَا وَالنُّصُولُ٥٥٠

مَا الَّذِي عِنْدَهُ تُدَارُ الْمَنَايَا كَالَّذِي عِنْدَهُ تُدَارُ الشَّمُولُ٥٥١

لَسْتُ أَرْضَى بِأَنْ تَكُونَ جَوَادًا وَزَمَانِي بِأَنْ أَرَاكَ بَخِيلُ٥٥٢

نَغَّصَ الْبُعْدُ عَنْكَ قُرْبَ الْعَطَايَا مَرْتَعِي مُخْصِبٌ وَجِسْمِي هَزِيلُ٥٥٣

إِنْ تَبَوَّأْتُ غَيْرَ دُنْيَايَ دَارًا وَأَتَانِي نَيْلٌ فَأَنْتَ الْمُنِيلُ٥٥٤

مِنْ عَبِيدِي إِنْ عِشْتَ لِي أَلْفُ كَافُو رٍ وَلِي مِنْ نَدَاكَ رِيفٌ وَنِيلُ٥٥٥

مَا أُبَالِي إِذَا اتَّقَتْكَ الرَّزَايَا مَنْ دَهَتْهُ حُبُولُهَا وَالْخُبُولُ٥٥٦

وقال في صباه، وقد قيل له وهو في المكتب ما أحسن هذه الوفرة:


لَا تَحْسُنُ الْوَفْرَةُ حَتَّى تُرَى مَنْشُورَةَ الضَّفْرَيْنِ يَوْمَ الْقِتَالْ٥٥٧

عَلَى فَتًى مُعْتَقِلٍ صَعْدَةً يَعُلُّهَا مِنْ كُلِّ وَافِي السِّبَالْ٥٥٨

وقال في صباه:


مُحِبِّي قِيَامِيَ مَا لِذَالِكُمُ النَّصْلِ بَرِيئًا مِنَ الْجَرْحَى سَلِيمًا مِنَ الْقَتْلِ؟٥٥٩

أَرَى مِنْ فِرِنْدِي قِطْعَةً فِي فِرِنْدِهِ وَجَوْدَةُ ضَرْبِ الْهَامِ فِي جَوْدَةِ الصَّقْلِ٥٦٠

وَخُضْرَةُ ثَوْبِ الْعَيْشِ فِي الْخُضْرَةِ الَّتِي أَرَتْكَ احْمِرَارَ الْمَوْتِ فِي مَدْرَجِ النَّمْلِ٥٦١

أَمِطْ عَنْكَ تَشْبِيهِي بِمَا وَكَأَنَّهُ فَمَا أَحَدٌ فَوْقِي وَلَا أَحَدٌ مِثْلِي٥٦٢

وَذَرْنِي وَإِيَّاهُ وَطِرْفِي وَذَابِلِي نَكُنْ وَاحِدًا يَلْقَى الْوَرَى وَانْظُرَنْ فِعْلِي٥٦٣

وقال في صباه يمدح سعيد بن عبد الله بن الحسن الكلابي المنبجي:


أَحْيَا وَأَيْسَرُ مَا قَاسَيْتُ مَا قَتَلَا وَالْبَيْنُ جَارَ عَلَى ضَعْفِي وَمَا عَدَلَا٥٦٤

وَالْوَجْدُ يَقْوَى كَمَا تَقْوَى النَّوَى أَبَدًا وَالصَّبْرُ يَنْحَلُ فِي جِسْمِي كَمَا نَحِلَا٥٦٥

لَوْلَا مُفَارَقَةُ الْأَحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إِلَى أَرْوَاحِنَا سُبُلَا٥٦٦

بِمَا بِجَفْنَيْكِ مِنْ سِحْرٍ صِلِي دَنِفًا يَهْوَى الْحَيَاةَ وَأَمَّا إِنْ صَدَدْتِ فَلَا٥٦٧

إِلَّا يَشِبْ فَلَقَدْ شَابَتْ لَهُ كَبِدٌ شَيْبًا إِذَا خَضَّبَتْهُ سَلْوَةٌ نَصلَا٥٦٨

يُجَنُّ شَوْقًا فَلَوْلَا أَنَّ رَائِحَةً تَزُورُهُ فِي رِيَاحِ الشَّرْقِ مَا عَقَلَا٥٦٩

هَا فَانْظُرِي أَوْ فَظُنِّي بِي تَرَيْ حُرَقًا مَنْ لَمْ يَذُقْ طَرَفًا مِنْهَا فَقَدْ وَأَلَا٥٧٠

عَلَّ الْأَمِيرَ يَرَى ذُلِّي فَيَشْفَعَ لِي إِلَى الَّتِي تَرَكَتْنِي فِي الْهَوَى مَثَلَا٥٧١

أَيْقَنْتُ أَنَّ سَعِيدًا طَالِبٌ بِدَمِي لَمَّا بَصُرْتُ بِهِ بِالرُّمْحِ مُعْتَقِلَا٥٧٢

وَأَنَّنِي غَيْرُ مُحْصٍ فَضْلَ وَالِدِهِ وَنَائِلٌ دُونَ نَيْلِي وَصْفَهُ زُحَلَا٥٧٣

قَيْلٌ بِمَنْبِجَ مَثْوَاهُ وَنَائِلُهُ فِي الْأُفْقِ يَسْأَلُ عَمَّنْ غَيْرَهُ سَأَلَا٥٧٤

يَلُوحُ بَدْرُ الدُّجَى فِي صَحْنِ غُرَّتِهِ وَيَحْمِلُ الْمَوْتَ فِي الْهَيْجَاءِ إِنْ حَمَلَا٥٧٥

تُرَابُهُ فِي كِلَابٍ كُحْلُ أَعْيُنِهَا وَسَيْفُهُ فِي جَنَابٍ يَسْبِقُ الْعَذَلَا٥٧٦

لِنُورِهِ فِي سَمَاءِ الْفَخْرِ مُخْتَرَقٌ لَوْ صَاعَدَ الْفِكْرُ فِيهِ الدَّهْرَ مَا نَزَلَا٥٧٧

هُوَ الْأَمِيرُ الَّذِي بَادَتْ تَمِيمُ بِهِ قِدْمًا وَسَاقَ إِلَيْهَا حَيْنُهَا الْأَجَلَا٥٧٨

لَمَّا رَأَتْهُ وَخَيْلُ النَّصْرِ مُقْبِلَةٌ وَالْحَرْبُ غَيْرُ عَوَانٍ أَسْلَمُوا الْحِلَلَا٥٧٩

وَضَاقَتِ الْأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ إِذَا رَأَى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلَا٥٨٠

فَبَعْدَهُ وَإِلَى ذَا الْيَوْمِ لَوْ رَكَضَتْ بِالْخَيْلِ فِي لَهَوَاتِ الطِّفْلِ مَا سَعَلَا٥٨١

فَقَدْ تَرَكْتَ الْأُلَى لَاقَيْتُهُمْ جَزَرًا وَقَدْ قَتَلْتَ الْأُلَى لَمْ تَلْقَهُمْ وَجَلَا٥٨٢

كَمْ مَهْمَهٍ قَذَفٍ قَلْبُ الدَّلِيلِ بِهِ قَلْبُ الْمُحِبِّ قَضَانِي بَعْدَمَا مَطَلَا٥٨٣

عَقَدْتُ بِالنَّجْمِ طَرْفِي فِي مَفَاوِزِهِ وَحُرَّ وَجْهِي بِحَرِّ الشَّمْسِ إِذْ أَفَلَا٥٨٤

أَنْكَحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلَةٍ تَغَشْمَرَتْ بِي إِلَيْكَ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا٥٨٥

لَوْ كُنْتَ حَشْوَ قَمِيصِي فَوْقَ نُمْرُقِهَا سَمِعْتَ لِلْجِنِّ فِي غِيطَانِهَا زَجَلَا٥٨٦

حَتَّى وَصَلْتُ بِنَفْسٍ مَاتَ أَكْثَرُهَا وَلَيْتَنِي عِشْتُ مِنْهَا بِالَّذِي فَضَلَا٥٨٧

أَرْجُو نَدَاكَ وَلَا أَخْشَى الْمِطَالَ بِهِ يَا مَنْ إِذَا وَهَبَ الدُّنْيَا فَقَدْ بَخِلَا٥٨٨

وقال في صباه، وقد أهدى له عبيد الله بن خلكان من خراسان هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل:


قَدْ شَغَلَ النَّاسَ كَثْرَةُ الْأَمَلِ وَأَنْتَ بِالْمَكْرُمَاتِ فِي شُغُلِ٥٨٩

تَمَثَّلُوا حَاتِمًا وَلَوْ عَقَلُوا لَكُنْتَ فِي الْجُودِ غَايَةَ الْمَثَلِ٥٩٠

أَهْلًا وَسَهْلًا بِمَا بَعَثْتَ بِهِ إِيهًا أَبَا قَاسِمٍ وَبِالرُّسُلِ٥٩١

هَدِيَّةٌ مَا رَأَيْتُ مُهْدِيهَا إِلَّا رَأَيْتُ الْعِبَادَ فِي رَجُلِ٥٩٢

أَقَلُّ مَا فِي أَقَلِّهَا سَمَكٌ يَلْعَبُ فِي بِرْكَةٍ مِنَ الْعَسَلِ٥٩٣

كَيْفَ أُكَافِي عَلَى أَجَلِّ يَدٍ مَنْ لَا يَرَى أَنَّهَا يَدٌ قِبَلِي٥٩٤

وقال أيضًا في صباه:


قِفَا تَرَيَا وَدْقِي فَهَاتَا الْمَخَايِلُ وَلَا تَخْشَيَا خُلْفًا لِمَا أَنَا قَائِلُ٥٩٥

رَمَانِي خِسَاسُ النَّاسِ مِنْ صَائِبِ اسْتِهِ وَآخَرُ قُطْنٌ مِنْ يَدَيْهِ الْجَنَادِلُ٥٩٦

وَمِنْ جَاهِلٍ بِي وَهْوَ يَجْهَلُ جَهْلَهُ وَيَجْهَلُ عِلْمِي أَنَّهُ بِي جَاهِلُ٥٩٧

وَيَجْهَلُ أَنِّي مَالِكَ الْأَرْضِ مُعْسِرٌ وَأَنِّي عَلَى ظَهْرِ السِّمَاكَيْنِ رَاجِلُ٥٩٨

تُحَقِّرُ عِنْدِي هِمَّتِي كُلَّ مَطْلَبٍ وَيَقْصُرُ فِي عَيْنِي الْمَدَى الْمُتَطَاوِلُ٥٩٩

وَمَا زِلْتُ طَوْدًا لَا تَزُولُ مَنَاكِبِي إِلَى أَنْ بَدَتْ لِلضَّيْمِ فِيَّ زَلَازِلُ٦٠٠

فَقَلْقَلْتُ بِالْهَمِّ الَّذِي قَلْقَلَ الْحَشَا قَلَاقِلَ عِيسٍ كُلُّهُنَّ قَلَاقِلُ٦٠١

إِذَا اللَّيْلُ وَارَانَا أَرَتْنَا خِفَافَهَا بِقَدْحِ الْحَصَى مَا لَا تُرِينَا الْمَشَاعِلُ٦٠٢

كَأَنِّي مِنَ الْوَجْنَاءِ فِي ظَهْرِ مَوْجَةٍ رَمَتْ بِي بِحَارًا مَا لَهُنَّ سَوَاحِلُ٦٠٣

يُخَيَّلُ لِي أَنَّ الْبِلَادَ مَسَامِعِي وَأَنِّيَ فِيهَا مَا تَقُولُ الْعَوَاذِلُ٦٠٤

وَمَنْ يَبْغِ مَا أَبْغِي مِنَ الْمَجْدِ وَالْعُلَا تَسَاوَى الْمَحَايِي عِنْدَهُ وَالْمَقَاتِلُ٦٠٥

أَلَا لَيْسَتِ الْحَاجَاتُ إِلَّا نُفُوسَكُمْ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا السُّيُوفَ وَسَائِلُ٦٠٦

فَمَا وَرَدَتْ رُوحَ امْرِئٍ رُوحُهُ لَهُ وَلَا صَدَرَتْ عَنْ بَاخِلٍ وَهْوَ بَاخِلُ٦٠٧

غَثَاثَةُ عَيْشِي أَنْ تَغِثَّ كَرَامَتِي وَلَيْسَ بِغَثٍّ أَنْ تَغِثَّ الْمَآكِلُ٦٠٨

وقال لصديق له في صباه:


أَحْبَبْتُ بِرَّكَ إِذْ أَرَدْتَ رَحِيلَا فَوَجَدْتُ أَكْثَرَ مَا وَجَدْتُ قَلِيلَا٦٠٩

وَعَلِمْتُ أَنَّكَ فِي الْمَكَارِمِ رَاغِبٌ صَبٌّ إِلَيْهَا بُكْرَةً وَأَصِيلَا٦١٠

فَجَعَلْتُ مَا تُهْدِي إِلَيَّ هَدِيَّةً مِنِّي إِلَيْكَ وَظَرْفَهَا التَّأْمِيلَا٦١١

بِرٌّ يَخِفُّ عَلَى يَدَيْكَ قُبُولُهُ وَيَكُونُ مَحْمِلُهُ عَلَيَّ ثَقِيلَا٦١٢

وقال يمدح شجاع بن محمد الطائي المنبجي:


عَزِيزُ أَسًى مَنْ دَاؤُهُ الْحَدَقُ النُّجْلُ عَيَاءٌ بِهِ مَاتَ الْمُحِبُّونَ مِنْ قَبْلُ٦١٣

فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْ إِلَيَّ فَمَنْظَرِي نَذِيرٌ إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْهَوَى سَهْلُ٦١٤

وَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ بَعْدَ لَحْظَةٍ إِذَا نَزَلَتْ فِي قَلْبِهِ رَحَلَ الْعَقْلُ٦١٥

جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي مَفَاصِلِي فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا شُغْلُ٦١٦

وَمِنْ جَسَدِي لَمْ يَتْرُكِ السُّقْمُ شَعْرَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا وَفِيهَا لَهُ فِعْلُ٦١٧

إِذَا عَذَلُوا فِيهَا أَجَبْتُ بِأَنَّةٍ حُبَيِّبَتَا قَلْبًا فُؤَادًا هَيَا جُمْلُ٦١٨

كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكِ سَدَّ مَسَامِعِي عَنِ الْعَذْلِ حَتَّى لَيْسَ يَدْخُلُهَا الْعَذْلُ٦١٩

كَأَنَّ سُهَادَ اللَّيْلِ يَعْشَقُ مُقْلَتِي فَبَيْنَهُمَا فِي كُلِّ هَجْرٍ لَنَا وَصْلُ٦٢٠

أُحِبُّ الَّتِي فِي الْبَدْرِ مِنْهَا مَشَابِهٌ وَأَشْكُو إِلَى مَنْ لَا يُصَابُ لَهُ شَكْلُ٦٢١

إِلَى وَاحِدِ الدُّنْيَا إِلَى ابْنِ مُحَمَّدٍ شُجَاعِ الذَّيِ للهِ ثُمَّ لَهُ الْفَضْلُ٦٢٢

إِلَى الثَّمَرِ الْحُلْوِ الَّذِي طَيِّءٌ لَهُ فُرُوعٌ وَقَحْطَانُ بْنُ هُودٍ لَهُ أَصْلُ٦٢٣

إِلَى سَيِّدٍ لَوْ بَشَّرَ اللَّهُ أُمَّةً بِغَيْرِ نَبِيٍّ بَشَّرَتْنَا بِهِ الرُّسْلُ٦٢٤

إِلَى الْقَابِضِ الْأَرْوَاحِ وَالضَّيْغَمِ الَّذِي تُحَدِّثُ عَنْ وَقْفَاتِهِ الْخَيْلُ وَالرَّجْلُ٦٢٥

إِلَى رَبِّ مَالٍ كُلَّمَا شَتَّ شَمْلُهُ تَجَمَّعَ فِي تَشْتِيتِهِ لِلْعُلَا شَمْلُ٦٢٦

هُمَامٌ إِذَا مَا فَارَقَ الْغِمْدَ سَيْفُهُ وَعَايَنْتَهُ لَمْ تَدْرِ أَيُّهُمَا النَّصْلُ٦٢٧

رَأَيْتُ ابْنَ أُمِّ الْمَوْتِ لَوْ أَنَّ بَأْسَهُ فَشَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَانْقَطَعَ النَّسْلُ٦٢٨

عَلَى سَابِحٍ مَوْجَ الْمَنَايَا بِنَحْرِهِ غَدَاةَ كَأَنَّ النَّبْلَ فِي صَدْرِهِ وَبْلُ٦٢٩

وَكَمْ عَيْنِ قِرْنٍ حَدَّقَتْ لِنِزَالِهِ فَلَمْ تُغْضِ إِلَّا وَالسِّنَانُ لَهَا كُحْلُ!٦٣٠

إِذَا قِيلَ: رِفْقًا قَالَ: لِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ٦٣١

وَلَوْلَا تَوَلِّي نَفْسِهِ حَمْلَ حِلْمِهِ عَنِ الْأَرْضِ لَانْهَدَّتْ وَنَاءَ بِهَا الْحِمْلُ٦٣٢

تَبَاعَدَتِ الْآمَالُ عَنْ كُلِّ مَقْصِدٍ وَضَاقَ بِهَا إِلَّا إِلَى بَابِكَ السُّبْلُ٦٣٣

وَنَادَى النَّدَى بِالنَّائِمِينَ عَنِ السُّرَى فَأَسْمَعَهُمْ: هُبُّوا فَقَدْ هَلَكَ الْبُخْلُ٦٣٤

وَحَالَتْ عَطَايَا كَفِّهِ دُونَ وَعْدِهِ فَلَيْسَ لَهُ إِنْجَازُ وَعْدٍ وَلَا مَطْلُ٦٣٥

فَأَقْرَبُ مِنْ تَحْدِيدِهَا رَدُّ فَائِتٍ وَأَيْسَرُ مِنْ إِحْصَائِهَا الْقَطْرُ وَالرَّمْلُ٦٣٦

وَمَا تَنْقِمُ الْأَيَّامُ مِمَّنْ وُجُوهُهَا لِأَخْمَصِهِ فِي كُلِّ نَائِبَةٍ نَعْلُ؟!٦٣٧

وَمَا عَزَّهُ فِيهَا مُرَادٌ أَرَادَهُ وَإِنْ عَزَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ٦٣٨

كَفَى ثُعَلًا فَخْرًا بِأَنَّكَ مِنْهُمُ وَدَهْرٌ لِأَنْ أَمْسَيْتَ مِنْ أَهْلِهِ أَهْلُ٦٣٩

وَوَيْلٌ لِنَفْسٍ حَاوَلَتْ مِنْكَ غِرَّةً وَطُوبَى لِعَيْنٍ سَاعَةً مِنْكَ لَا تَخْلُو٦٤٠

فَمَا بِفَقِيرٍ شَامَ بَرْقَكَ فَاقَةٌ وَلَا فِي بِلَادٍ أَنْتَ صَيِّبُهَا مَحْلُ٦٤١

وقال يمدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي:


صِلَةُ الْهَجْرِ لِي وَهَجْرُ الْوِصَالِ نَكَسَانِي في السُّقْمِ نُكْسَ الْهِلاَلِ٦٤٢

فَغَدَا اَلْجِسْمُ نَاقِصًا، وَالَّذِي يَنـْ ـقُصُ مِنْهُ يَزِيدُ في بَلْبَالِي٦٤٣

قِفْ عَلَى الدِّمْنَتَيْنِ بِالَّدوِّ مِنْ رَيـْ ـيَا كَخَالٍ فِي وَجْنَةٍ جَنْبَ خَالِ٦٤٤

بِطُلُولٍ كَأَنَّهُنَّ نُجُومٌ فِي عِرَاصٍ كَأَنَّهُنَّ لَيَالِي٦٤٥

وَنُؤِيٍّ كَأَنَّهُنَّ عَلَيْهِنَّ خِدَامٌ خُرْسٌ بِسُوقٍ خِدَالِ٦٤٦

لاَ تَلُمْنِي فَإِنَّنِي أَعْشَقُ العُشـْ ـشَاقِ فِيهَا يَا أَعْذَلَ الْعُذَّالِ٦٤٧

مَا تُرِيدُ النَّوَى مِنَ الْحَيَّةِ الذَّوَّا قِ حَرَّ الْفَلَا، وَبَرْدَ الظِّلَالِ٦٤٨

فَهُوَ أَمْضَى فِي الرَّوْعِ مِنْ مَلَكِ الْمَوْ تِ، وَأَسْرَى فِي ظُلْمَةٍ مِنْ خَيَالِ٦٤٩

وَلِحَتْفٍ فِي الْعِزِّ يَدْنُو مُحِبٌّ وَلِعُمْرٍ يَطُولُ فِي الذُّلِّ قَالِي٦٥٠

نَحْنُ رَكْبٌ مِلْجِنِّ فِي زَيِّ نَاسٍ فَوْقَ طَيْرٍ لَهَا شُخُوصُ الْجِمَالِ٦٥١

مِنْ بَنَاتِ الْجَدِيلِ تَمْشِي بِنَا فِي الْبِيـ ـدِ مَشْيَ الْأَيَّامِ فِي الْآجَالِ٦٥٢

كُلُّ هَوْجَاءَ لِلدَّيَامِيمِ فِيهَا أَثَرُ النَّارِ فِي سَلِيطِ الذُّبَالِ٦٥٣

عَامِدَاتٍ لِلْبَدْرِ وَالْبَحْرِ وَالضِّرْ غَامَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ الْمِفْضَالِ٦٥٤

مَنْ يَزُرْهُ يَزُرْ سُلَيْمَانَ فِي الْمُلـْ ـكِ جَلَالًا وَيُوسُفًا فِي الْجَمَالِ

وَرَبِيعًا يُضَاحِكُ الْغَيْثُ فِيهِ زَهَرَ الشُّكْرِ مِنْ رِيَاضِ الْمَعَالِي٦٥٥

نَفَحَتْنَا مِنْهُ الصَّبَا بِنَسِيمٍ رَدَّ رُوحًا فِي مَيِّتِ الْآمَالِ٦٥٦

هَمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ نَفْعُ الْمَوَالِي وَبَوَارُ الْأَعْدَاءِ وَالْأَمْوَالِ٦٥٧

أَكْبَرُ الْعَيْبِ عِنْدَهُ الْبُخْلُ وَالطَّعـْ ـنُ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ بِالرِّئْبَالِ٦٥٨

وَالْجِرَاحَاتُ عِنْدَهُ نَغَمَاتٌ سَبَقَتْ قَبْلَ سَيْبِهِ بِسُؤَالِ٦٥٩

ذَا السِّرَاجُ الْمُنِيرُ هَذَا النَّقِيُّ الـْ ـجَيْبِ هَذَا بَقِيَّةُ الْأَبْدَالِ٦٦٠

فَخُذَا مَاءَ رِجْلِهِ وَانْضَحَا فِي الـْ ـمُدْنِ تَأْمَنْ بَوَائِقَ الزَّلْزَالِ٦٦١

وَامْسَحَا ثَوْبَهُ الْبَقِيرَ عَلَى دَا ئِكُمَا تُشْفَيَا مِنَ الْإِعْلَالِ٦٦٢

مَالِئًا مِنْ نَوَالِهِ الشَّرْقَ وَالْغَرْ بَ وَمِنْ خَوْفِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ٦٦٣

قَابِضًا كَفَّهُ الْيَمِينَ عَلَى الدُّنـْ ـيَا، وَلَوْ شَاءَ حَازَهَا بِالشِّمَالِ٦٦٤

نَفْسُهُ جَيْشُهُ وَتَدْبِيرُهُ النَّصـْ ـرُ، وَأَلْحَاظُهُ الظُّبَا وَالْعَوَالِي٦٦٥

وَلَهُ فِي جَمَاجِمِ الْمَالِ ضَرْبٌ وَقْعُهُ فِي جَمَاجِمِ الْأَبْطَالِ٦٦٦

فَهُمُوا لِاتِّقَائِهِ الدَّهْرَ فِي يَوْ مِ نِزَالٍ وَلَيْسَ يَوْمَ نِزَالِ٦٦٧

رَجُلٌ طِينُهُ مِنَ الْعَنْبَرِ الْوَرْ دِ وَطِينُ الْعِبَادِ مِنْ صَلْصَالِ٦٦٨

فَبَقِيَّاتُ طِينِهِ لَاقَتِ الْمَا ءَ فَصَارَتْ عُذُوبَةٌ فِي الزُّلَالِ٦٦٩

وَبَقَايَا وَقَارِهِ عَافَتِ النَّا سَ فَصَارَتْ رَكَانَةً فِي الْجِبَالِ٦٧٠

لَسْتُ مِمَّنْ يَغُرُّهُ حُبُّكَ السِّلـْ ـمَ وَأَنْ لَا تَرَى شُهُودَ الْقِتَالِ٦٧١

ذَاكَ شَيْءٌ كَفَاكَهُ عَيْشُ شَانِيـ ـكَ ذَلِيلًا وَقِلَّةُ الْأَشْكَالِ٦٧٢

وَاغْتِفَارٌ لَوْ غَيَّرَ السُّخْطُ مِنْهُ جُعِلَتْ هَامُهُمْ نِعَالَ النِّعَالِ٦٧٣

لِجِيَادٍ يَدْخُلْنَ فِي الْحَرْبِ أَعْرَا ءً وَيَخْرُجْنَ مِنْ دَمٍ فِي جِلَالِ٦٧٤

وَاسْتَعَارَ الْحَدِيدُ لَوْنًا وَأَلْقَى لَوْنَهُ فِي ذَوَائِبِ الْأَطْفَالِ٦٧٥

أَنْتَ طَوْرًا أَمَرُّ مِنْ نَاقِعِ السُّمِّ وَطَوْرًا أَحْلَى مِنَ السَّلْسَالِ٦٧٦

إِنَّمَا النَّاسُ حَيْثُ أَنْتَ وَمَا النَّا سُ بِنَاسٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْكَ خَالِي٦٧٧

وقال وقد دخل على أبي علي الأوراجي يومًا فقال له: وددنا يا أبا الطيب لو كنت اليوم معنا، فقد ركبنا ومعنا كلب لابن ملك، فطردنا به ظبيًا، ولم يكن لنا صقر. فاستحسنت صيده، فقال: أنا قليل الرغبة في مثل هذا، فقال أبو علي: إنما اشتهيت أن تراه فتستحسنه، فتقول فيه شيئًا من الشعر، قال: أنا أفعل، أفتحب أن يكون الآن؟ قال: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكمتك في الوزن والقافية. قال: لا، بل الأمر فيهما إليك. فأخذ أبو الطيب درجًا، وأخذ أبو علي درجًا آخر يكتب فيه كتابًا، فقطع عليه أبو الطيب الكتاب وقال:


وَمَنْزِلٍ لَيْسَ لَنَا بِمَنْزِلِ وَلَا لِغَيْرِ الْغَادِيَاتِ الْهُطَّلِ٦٧٨

نَدِي الْخُزَامَى ذَفِرِ الْقَرَنْفُلِ مُحَلَّلٍ مِلْوَحْشِ لَمْ يُحَلَّلِ٦٧٩

عَنَّ لَنَا فِيهِ مُرَاعِي مُغْزِلِ مُحَيَّنُ النَّفْسِ بَعِيدُ الْمَوْئِلِ٦٨٠

أَغْنَاهُ حُسْنُ الْجِيدِ عَنْ لُبْسِ الْحُلِي وَعَادَةُ الْعُرْيِ عَنِ التَّفَضُّلِ٦٨١

كَأَنَّهُ مُضَمَّخٌ بِصَنْدَلِ مُعْتَرِضًا بِمِثْلِ قَرْنِ الْأَيِّلِ٦٨٢

يَحُولُ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ فَحَلَّ كلَّابِي وَثَاقَ الْأَحْبُلِ٦٨٣

عَنْ أَشْدَقٍ مُسَوْجَرٍ مُسَلْسَلِ أقَبَّ سَاطٍ شَرِسٍ شَمَرْدَلِ٦٨٤

مِنْهَا إِذَا يُثْغَ لَهُ لا يَغْزَلِ مُوَجَّدِ الْفِقْرَةِ رِخْوِ الْمَفْصِلِ٦٨٥

لَهُ إِذَا أَدْبَرَ لَحْظُ الْمُقْبِلِ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ مِنْ سَجَنْجَلِ٦٨٦

يَعْدُو إِذَا أَحْزَنَ عَدْوَ الْمُسْهِلِ إِذَا تَلَا جَاءَ الْمَدَى وَقَدْ تُلِي٦٨٧

يُقْعِي جُلُوسَ الْبَدَوِيِّ الْمُصْطَلِي بِأَرْبَعٍ مَجْدُولَةٍ لَمْ تُجْدَلِ٦٨٨

فُتْلِ الْأَيَادِي رَبِذَاتِ الْأَرْجُلِ آثَارُهَا أَمْثَالُهَا فِي الْجَنْدَلِ٦٨٩

يَكَادُ فِي الْوَثْبِ مِنَ التَّفَتُّلِ يَجْمَعُ بَيْنَ مَتْنِهِ وَالْكَلْكَلِ٦٩٠

وَبَيْنَ أَعْلَاهُ وَبَيْنَ الْأَسْفَلِ شَبِيهُ وَسْمِيِّ الْحِضَارِ بِالْوَلِي٦٩١

كَأَنَّهُ مُضَبَّرٌ مِنْ جَرْوَلِ مُوَثَّقٌ عَلَى رِمَاحٍ ذُبَّلِ٦٩٢

ذِي ذَنَبٍ أَجْرَدَ غَيْرَ أَعْزَلِ يَخُطُّ فِي الْأَرْضِ حِسَابَ الْجُمَّلِ٦٩٣

كَأَنَّهُ مِنْ جِسْمِهِ بِمَعْزِلِ لَوْ كَانَ يُبْلِي السَّوْطَ تَحْرِيكٌ بَلِي٦٩٤

نَيْلُ الْمُنَى وَحُكْمُ نَفْسِ الْمُرْسِلِ وَعُقْلَةُ الظَّبْيِ وَحَتْفُ التَّتْفُلِ٦٩٥

فَانْبَرَيَا فَذَّيْنِ تَحْتَ الْقَسْطَلِ قَدْ ضَمِنَ الْآخَرُ قَتْلَ الْأَوَّلِ٦٩٦

فِي هَبْوَةٍ كِلَاهُمَا لَمْ يَذْهَلِ لَا يَأْتَلِي فِي تَرْكِ أَنْ لَا يَأْتَلِي٦٩٧

مُقْتَحِمًا عَلَى الْمَكَانِ الْأَهْوَلِ يَخَالُ طُولَ الْبَحْرِ عَرْضَ الْجَدْوَلِ٦٩٨

حَتَّى إِذَا قِيلَ لَهُ: نِلْتَ افْعَلِ افْتَرَّ عَنْ مَذْرُوبَةٍ كَالْأَنْصُلِ٦٩٩

لَا تَعْرِفُ الْعَهْدَ بِصَقْلِ الصَّيْقَلِ مُرَكَّبَاتٍ فِي الْعَذَابِ الْمُنْزَلِ٧٠٠

كَأَنَّهَا مِنْ سُرْعَةٍ فِي الشَّمْأَلِ كَأَنَّهَا مِنْ ثِقَلٍ فِي يَذْبُلِ٧٠١

كَأَنَّهَا مِنْ سَعَةٍ فِي هَوْجَلِ كَأَنَّهُ مِنْ عِلْمِهِ بِالْمَقْتَلِ

عَلَّمَ بُقْرَاطَ فِصَادَ الْأَكْحَلِ٧٠٢

فَحَالَ مَا لِلْقَفْزِ لِلتَّجَدُّلِ وَصَارَ مَا فِي جِلْدِهِ فِي الْمِرْجَلِ٧٠٣

فَلَمْ يَضِرْنَا مَعْهُ فَقْدُ الْأَجْدَلِ إِذَا بَقِيتَ سَالِمًا أَبَا عَلِي

فَالْمُلْكُ لِلَّهِ الْعَزِيزِ ثُمَّ لِي٧٠٤

وقال يمدح بدر بن عمار، وقد فصد لعلة، فغاص المبضع فوق حقه، فأضر به ذلك:


أَبْعَدُ نَأْيِ الْمَلِيحَةِ الْبَخَلُ فِي الْبُعْدِ مَا لَا تُكَلَّفُ الْإِبِلُ٧٠٥

مَلُولَةٌ مَا يَدُومُ لَيْسَ لَهَا مِنْ مَلَلٍ دَائِمٍ بِهَا مَلَلُ٧٠٦

كَأَنَّمَا قَدُّهَا إِذَا انْفَتَلَتْ سَكْرَانُ مِنْ خَمْرِ طَرْفِهَا ثَمِلُ٧٠٧

يَجْذِبُهَا تَحْتَ خَصْرِهَا عَجُزٌ كَأَنَّهُ مِنْ فِرَاقِهَا وَجِلُ٧٠٨

بِي حَرُّ شَوْقٍ إِلَى تَرَشُّفِهَا يَنْفَصِلُ الصَّبْرُ حِينَ يَتَّصِلُ٧٠٩

الثَّغْرُ وَالنَّحْرُ وَالْمُخَلْخَلُ وَالـْ ـمِعْصَمُ دَائِي وَالْفَاحِمُ الرَّجِلُ٧١٠

وَمَهْمَهٍ جُبْتُهُ عَلَى قَدَمِي تَعْجِزُ عَنْهُ الْعَرَامِسُ الذُّلُلُ٧١١

بِصَارِمِي مُرْتَدٍ بِمَخْبَرَتِي مُجْتَزِئٌ، بِالظَّلَامِ مُشْتَمِلُ٧١٢

إِذَا صَدِيقٌ نَكِرْتُ جَانِبَهُ لَمْ تُعْيِنِي فِي فِرَاقِهِ الْحِيَلُ٧١٣

فِي سَعَةِ الْخَافِقَيْنِ مُضْطَرَبٌ وَفِي بِلَادٍ مِنْ أُخْتِهَا بَدَلُ٧١٤

وَفِي اعْتِمَارِ الْأَمِيرِ بَدْرِ بْنِ عَمَّا رٍ عَنِ الشُّغْلِ بِالْوَرَى شُغُلُ٧١٥

أَصْبَحَ مَالٌ كَمَالهِ لِذَوِي الـْ ـحَاجَةِ لَا يُبْتَدَى وَلَا يُسَلُ٧١٦

هَانَ عَلَى قَلْبِهِ الزَّمَانُ فَمَا يَبِينُ فِيهِ غَمٌّ وَلَا جَذَلُ٧١٧

يَكَادُ مِنْ طَاعَةِ الْحِمَامِ لَهُ يَقْتُلُ مَنْ مَا دَنَا لَهُ أَجَلُ٧١٨

يَكَادُ مِنْ صِحَّةِ الْعَزِيمَةِ مَا يَفْعَلُ قَبْلَ الْفِعَالِ يَنْفَعِلُ٧١٩

تُعْرَفُ فِي عَيْنِهِ حَقَائِقُهُ كَأَنَّهُ بِالذَّكَاءِ مُكْتَحِلُ٧٢٠

أُشْفِقُ عِنْدَ اتِّقَادِ فِكْرَتِهِ عَلَيْهِ مِنْهَا أَخَافُ يَشْتَعِلُ٧٢١

أَغَرُّ أَعْدَاؤُهُ إِذَا سَلِمُوا بِالْهَرَبِ اسْتَكْبَرُوا الَّذِي فَعَلُوا٧٢٢

يُقْبِلُهُمْ وَجْهَ كُلِّ سَابِحَةٍ أَرْبَعُهَا قَبْلَ طَرْفِهَا تَصِلُ٧٢٣

جَرْدَاءَ مِلْءِ الْحِزَامِ مُجْفَرَةٍ تَكُونُ مِثْلَيْ عَسِيبِهَا الْخُصَلُ٧٢٤

إِنْ أَدْبَرَتْ قُلْتَ لَا تَلِيلَ لَهَا أَوْ أَقْبَلَتْ قُلْتَ مَا لَهَا كَفَلُ٧٢٥

وَالطَّعْنُ شَزْرٌ وَالْأَرْضُ وَاجِفَةٌ كَأَنَّمَا فِي فُؤَادِهَا وَهَلُ٧٢٦

قَدْ صَبَغَتْ خَدَّهَا الدِّمَاءُ كَمَا يَصْبُغُ خَدَّ الْخَرِيدَةِ الْخَجَلُ٧٢٧

وَالْخَيْلُ تَبْكِي جُلُودُهَا عَرَقًا بِأَدْمُعٍ مَا تَسُحُّهَا مُقَلُ٧٢٨

سَارَ وَلَا قَفْرَ مِنْ مَوَاكِبِهِ كَأَنَّمَا كُلُّ سَبْسَبٍ جَبَلُ٧٢٩

يَمْنَعُهَا أَنْ يُصِيبَهَا مَطَرٌ شِدَّةُ مَا قَدْ تَضَايَقَ الْأَسَلُ٧٣٠

يَا بَدْرُ يَا بَحْرُ يَا عَمَامَةُ يَا لَيْثُ الشَّرَى يَا حِمَامُ يَا رَجُلُ٧٣١

إِنَّ الْبَنَانَ الَّذِي تُقَلِّبُهُ عِنْدَكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَثَلُ٧٣٢

إِنَّكَ مِنْ مَعْشَرٍ إِذَا وَهَبُوا مَا دُونَ أَعْمَارِهِمْ فَقَدْ بَخِلُوا٧٣٣

قُلُوبُهُمْ فِي مَضَاءِ مَا امْتَشَقُوا قَامَاتُهُمْ فِي تَمَامِ مَا اعْتَقَلُوا٧٣٤

أَنْتَ نَقِيضُ اسْمِهِ إِذَا اخْتَلَفَتْ قَوَاضِبُ الْهِنْدِ وَالْقَنَا الذُّبُلُ

أَنْتَ لَعَمْرِي الْبَدْرُ الْمُنِيرُ وَلـَ ـكِنَّكَ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى زُحَلُ٧٣٥

كَتِيبَةٌ لَسْتَ رَبَّهَا نَفَلٌ وَبَلْدَةٌ لَسْتَ حَلْيَهَا عُطُلُ٧٣٦

قُصِدْتَ مِنْ شَرْقِهَا وَمَغْرِبِهَا حَتَّى اشْتَكَتْكَ الرِّكَابُ وَالسُّبُلُ٧٣٧

لَمْ تُبْقِ إِلَّا قَلِيلَ عَافِيَةٍ قَدْ وَفَدَتْ تَجْتَدِيكَهَا الْعِلَلُ٧٣٨

عُذْرُ الْمَلُوْمَيْنِ فِيكَ أَنَّهُمَا آسٍ جَبَانٌ وَمِبْضَعٌ بَطَلُ٧٣٩

مَدَدْتَ فِي رَاحَةِ الطَّبِيبِ يَدًا وَمَا دَرَى كَيْفَ يُقْطَعُ الْأَمَلُ٧٤٠

إِنْ يَكُنِ الْبَضْعُ ضَرَّ بَاطِنَهَا فَرُبَّمَا ضَرَّ ظَهْرَهَا الْقُبَلُ٧٤١

يَشُقُّ فِي عِرْقِهَا الْفِصَادُ وَلَا يَشُقُّ فِي عِرْقِ جُودِهَا الْعَذَلُ٧٤٢

خَامَرَهُ إِذْ مَدَدْتَهَا جَزَعٌ كَأَنَّهُ مِنْ حَذَافَةٍ عَجِلُ٧٤٣

جَازَ حُدُودَ اجْتِهَادِهِ فَأَتَى غَيْرَ اجْتِهَادٍ لِأُمِّهِ الْهَبَلُ٧٤٤

أَبْلَغُ مَا يُطْلَبُ النَّجَاحُ بِهِ الطَّبْعُ وَعِنْدَ التَّعَمُّقِ الزَّلَلُ٧٤٥

ارْثِ لَهَا إِنَّهَا بِمَا مَلَكَتْ وَبِالَّذِي قَدْ أَسَلْتَ تَنْهَمِلُ٧٤٦

مِثْلُكَ يَا بَدْرُ لَا يَكُونُ وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا لِمِثْلِكَ الدُّوَلُ٧٤٧

وقال أيضًا يمدحه:


بَقَائِي شَاءَ لَيْسَ هُمُ ارْتِحَالَا وَحُسْنَ الصَّبْرِ زَمُّوا لَا الْجِمَالَا٧٤٨

تَوَلَّوْا بَغْتَةً فَكَأَنَّ بَيْنًا تَهَيَّبَنِي فَفَاجَأَنِي اغْتِيَالَا٧٤٩

فَكَانَ مَسِيرُ عِيسِهِمِ ذَمِيلَا وَسَيْرُ الدَّمْعِ إِثْرَهُمُ انْهِمَالَا٧٥٠

كَأَنَّ الْعِيسَ كَانَتْ فَوْقَ جَفْنِي مُنَاخَاةٍ فَلَمَّا ثُرْنَ سَالَا٧٥١

وَحَجَّبَتِ النَّوَى الظَّبْيَاتِ عَنِّي فَسَاعَدَتِ الْبَرَاقِعَ وَالْحِجَالَا٧٥٢

لَبِسْنَ الْوَشَى لَا مُتَجَمِّلَاتٍ وَلَكِنْ كَيْ يَصُنَّ بِهِ الْجَمَالَا٧٥٣

وَضَفَّرْنَ الْغَدَائِرَ لَا لِحُسْنٍ وَلَكِنْ خِفْنَ فِي الشَّعَرِ الضَّلَالَا٧٥٤

بِجِسْمِي مَنْ بَرَتْهُ فَلَوْ أَصَارَتْ وِشَاحِي ثَقْبَ لُؤْلُؤَةٍ لَجَالَا٧٥٥

وَلَوْلَا أَنَّنِي فِي غَيْرِ نَوْمٍ لَكُنْتُ أَظُنُّنِي مِنِّي خَيَالَا٧٥٦

بَدَتْ قَمَرًا وَمَالَتْ خُوطَ بَانٍ وَفَاحَتْ عَنْبَرًا وَرَنَتْ غَزَالَا٧٥٧

وَجَارَتْ فِي الْحُكُومَةِ ثُمَّ أَبْدَتْ لَنَا مِنْ حُسْنِ قَامَتِهَا اعْتِدَالَا٧٥٨

كَأَنَّ الْحُزْنَ مَشْغُوفٌ بِقَلْبِي فَسَاعَةَ هَجْرِهَا يَجِدُ الْوِصَالَا٧٥٩

كَذَا الدُّنْيَا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلِي صُرُوفٌ لَمْ يُدِمْنَ عَلَيْهِ حَالَا٧٦٠

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا٧٦١

أَلِفْتُ تَرَحُّلِي وَجَعَلْتُ أَرْضِي قُتُودِي وَالْغُرَيْرِيَّ الْجُلَالَا٧٦٢

فَمَا حَاوَلْتُ فِي أَرْضٍ مُقَامًا وَلَا أَزْمَعْتُ عَنْ أَرْضٍ زَوَالَا٧٦٣

عَلَى قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحْتِي أُوَجِّهُهَا جَنُوبًا أَوْ شَمَالًا٧٦٤

إِلَى الْبَدْرِ بْنِ عَمَّارِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ الْهِلَالَا٧٦٥

وَلَمْ يَعْظُمْ لِنَقْصٍ كَانَ فِيهِ وَلَمْ يَزَلِ الْأَمِيرَ وَلَنْ يَزَالَا

بِلَا مِثْلٍ وَإِنْ أَبْصَرْتَ فِيهِ لِكُلِّ مُغَيَّبٍ حَسَنٍ مِثَالَا٧٦٦

حُسَامٌ لِابْنِ رائِقٍ الْمُرَجَّى حُسَامِ الْمُتَّقِي أَيَّامَ صَالَا٧٦٧

سِنَانٌ فِي قَنَاةِ بَنِي مَعَدٍّ بَنِي أَسَدٍ إِذَا دَعَوُا النِّزَالَا٧٦٨

أَعَزُّ مَغَالِبٍ كَفًّا وَسَيْفًا وَمَقْدِرَةً وَمَحْمِيَةً وَآلَا٧٦٩

وَأَشْرَفُ فَاخِرٍ نَفْسًا وَقَوْمًا وَأَكْرَمُ مُنْتَمٍ عَمًّا وَخَالَا٧٧٠

يَكُونُ أَحَقُّ إِثْنَاءٍ عَلَيْهِ عَلَى الدُّنْيَا وَأَهْلِيهَا مُحَالَا٧٧١

وَيَبْقَى ضِعْفُ مَا قَدْ قِيلَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَّرِكْ أَحَدٌ مَقَالَا٧٧٢

فَيَا ابْنَ الطَّاعِنِينَ بِكُلِّ لَدْنٍ مَوَاضِعَ يَشْتَكِي الْبَطَلُ السُّمَالَا٧٧٣

وَيَا ابْنَ الضَّارِبينَ بِكُلِّ عَضْبٍ مِنَ الْعَرَبِ الْأَسَافِلِ وَالْقِلَالَا٧٧٤

أَرَى الْمُتَشَاعِرِينَ غَرُوا بِذَمِّي وَمَنْ ذَا يَحْمَدُ الدَّاءَ الْعُضَالَا٧٧٥

وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءَ الزُّلَالَا٧٧٦

وَقَالُوا: هَلْ يُبَلِّغُكَ الثُّرَيَّا؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ إِذَا شِئْتُ اسْتِفَالَا٧٧٧

هُوَ الْمُفْنِي الْمَذَاكِيَ وَالْأَعَادِي وَبِيضَ الْهِنْدِ وَالسُّمْرَ الطِّوَالَا٧٧٨

وَقائِدُهَا مُسَوَّمَةً خِفَافًا عَلَى حَيٍّ تُصَبِّحُهُ ثِقَالَا٧٧٩

جَوَائِلَ بِالْقُنِيِّ مُثَقَّفَاتٍ كَأَنَّ عَلَى عَوَامِلِهَا الذُّبَالَا٧٨٠

إِذَا وَطِئَتْ بِأَيْدِيهَا صُخُورًا يَفِئْنَ لِوَطْءِ أَرْجُلِهَا رِمَالَا٧٨١

جَوَابُ مُسَائِلِي: أَلَهُ نَظِيرٌ؟ وَلا لَكَ فِي سُؤَالِكَ لَا أَلَا لَا٧٨٢

لَقَدْ أَمِنْتَ بِكَ الْإِعْدَامَ نَفْسٌ تَعُدُّ رَجَاءَهَا إِيَّاكَ مَالَا٧٨٣

وَقَدْ وَجِلَتْ قُلُوبٌ مِنْكَ حَتَّى غَدَتْ أَوْجَالُهَا فِيهَا وِجَالَا٧٨٤

سُرُورُكَ أَنْ تَسُرُّ النَّاسَ طُرًّا تُعَلِّمُهُمْ عَلَيْكَ بِهِ الدَّلَالَا٧٨٥

إِذَا سَأَلُوا شَكَرْتَهُمُ عَلَيْهِ وَإِنْ سَكَتُوا سَأَلْتَهُمُ السُّؤَالَا٧٨٦

وَأَسْعَدُ مَنْ رَأَيْنَا مُسْتَمِيحٌ يُنِيلُ الْمُسْتَمَاحَ بِأَنْ يَنَالَا٧٨٧

يُفَارِقُ سَهْمُكَ الرَّجُلَ الْمُلَاقَى فِرَاقَ الْقَوْسِ مَا لَاقَى الرِّجَالَا٧٨٨

فَمَا تَقِفُ السِّهَامُ عَلَى قَرَارٍ كَأَنَّ الرِّيشَ يَطَّلِبُ النِّصَالَا٧٨٩

سَبَقْتَ السَّابِقِينَ فَمَا تُجَارَى وَجَاوَزْتَ الْعُلُوَّ فَمَا تُعَالَى٧٩٠

وَأُقْسِمُ لَوْ صَلَحْتَ يَمِينَ شَيْءٍ لَمَا صَلَحَ الْعِبَادُ لَهُ شِمَالَا٧٩١

أُقَلِّبُ مِنْكَ طَرْفِي فِي سَمَاءٍ وَإِنْ طَلَعَتْ كَوَاكِبُهَا خِصَالَا٧٩٢

وَأَعْجَبُ مِنْكَ كَيْفَ قَدَرْتَ تَنْشَا وَقَدْ أُعْطِيتَ فِي الْمَهْدِ الْكَمَالَا؟!٧٩٣

وخرج بدر بن عمار إلى أسد، فهرب الأسد منه، وكان قد خرج قبله إلى أسد آخر، فهاجه عن بقرة افترسها بعد أن شبع وثقل، فوثب إلى كفل فرسه، فأعجله عن استلال سيفه، فضربه بالسوط، ودار به الجيش، فقال أبو الطيب:


فِي الْخَدِّ أَنْ عَزَمَ الْخَلِيطُ رَحِيلَا مَطَرٌ تَزِيدُ بِهِ الْخُدُودُ مُحُولَا٧٩٤

يَا نَظْرَةً نَفَتِ الرُّقَادَ وَغَادَرَتْ فِي حَدِّ قَلْبِي مَا حَيِيتُ فُلُولَا٧٩٥

كَانَتْ مِنَ الْكَحْلَاءِ سُؤْلِي إِنَّمَا أَجَلِي تَمَثَّلَ فِي فُؤَادِيَ سُولَا٧٩٦

أَجِدُ الْجَفَاءَ عَلَى سِوَاكِ مُرُوءَةً وَالصَّبْرَ إِلَّا فِي نَوَاكِ جَمِيلَا٧٩٧

وَأَرَى تَدَلُّلَكِ الْكَثِيرَ مُحَبَّبًا وَأَرَى قَلِيلَ تَدَلُّلٍ مَمْلُولَا٧٩٨

تَشْكُو رَوَادِفَكِ الْمَطِيَّةُ فَوْقَهَا شَكْوَى الَّتِي وَجَدَتْ هَوَاكِ دَخِيلَا٧٩٩

وَيُغِيرُنِي جَذْبُ الزِّمَامِ لِقَلْبِهَا فَمَهَا إِلَيْكِ كَطَالِبٍ تَقْبِيلَا٨٠٠

حَدَقُ الْحِسَانِ مِنَ الْغَوَانِي هِجْنَ لِي يَوْمَ الْفِرَاقِ صَبَابَةً وَغَلِيلَا٨٠١

حَدَقٌ يُذِمُّ مِنَ الْقَوَاتِلِ غَيْرَهَا بَدْرُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ إِسْمَاعِيلَا٨٠٢

الْفَارِجُ الْكُرَبَ الْعِظَامَ بِمِثْلِهَا وَالتَّارِكُ الْمَلِكَ الْعَزِيزَ ذَلِيلَا٨٠٣

مَحِكٌ إِذَا مَطَلَ الْغَرِيمُ بِدَيْنِهِ جَعَلَ الْحُسَامَ بِمَا أَرَادَ كَفِيلَا٨٠٤

نَطِقٌ إِذَا حَطَّ الْكَلَامُ لِثَامَهُ أَعْطَى بِمَنْطِقِهِ الْقُلُوبَ عُقُولَا٨٠٥

أَعْدَى الزَّمَانَ سَخَاؤُهُ فَسَخَا بِهِ وَلَقَدْ يَكُونُ بِهِ الزَّمَانُ بَخِيلَا٨٠٦

وَكَأَنَّ بَرْقًا فِي مُتُونِ غَمَامَةٍ هِنْدِيُّهُ فِي كَفِّهِ مَسْلُولَا٨٠٧

وَمَحَلُّ قَائِمِهِ يَسِيلُ مَوَاهِبًا لَوْ كُنَّ سَيْلًا مَا وَجَدْنَ مَسِيلَا٨٠٨

رَقَّتْ مَضَارِبُهُ فَهُنَّ كَأَنَّمَا يُبْدِينَ مِنْ عِشْقِ الرِّقَابِ نُحُولَا٨٠٩

أَمُعَفِّرَ اللَّيْثِ الْهِزَبْرِ بِسَوْطِهِ لِمَنِ ادَّخَرْتَ الصَّارِمَ الْمَصْقُولَا؟!٨١٠

وَقَعَتْ عَلَى الْأُرْدُنِّ مِنْهُ بَلِيَّةٌ نُضِدَتْ بِهَا هَامُ الرِّفَاقِ تَلُولَا٨١١

وَرْدٌ إِذَا وَرَدَ الْبُحَيْرَةَ شَارِبًا وَرَدَ الْفُرَاتَ زَئِيرُهُ وَالنِّيلَا٨١٢

مُتَخَضِّبٌ بِدَمِ الْفَوَارِسِ لَابِسٌ فِي غِيلِهِ مِنْ لِبْدَتَيْهِ غِيلَا٨١٣

مَا قُوبِلَتْ عَيْنَاهُ إِلَّا ظَنَّتَا تَحْتَ الدُّجَى نَارَ الْفَرِيقِ حُلُولَا٨١٤

فِي وَحْدَةِ الرُّهْبَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَا٨١٥

يَطَأُ الثَّرَى مُتَرَفِّقًا مِنْ تِيهِهِ فَكَأَنَّهُ آسٍ يَجُسُّ عَلِيلَا٨١٦

وَيَرُدُّ عُفْرَتَهُ إِلَى يَافُوخِهِ حَتَّى تَصِيرَ لِرَأْسِهِ إِكْلِيلَا٨١٧

وَتَظُنُّهُ مِمَّا يُزَمْجِرُ نَفْسُهُ عَنْهَا لِشِدَّةِ غَيْظِهِ مَشْغُولَا٨١٨

قَصَرَتْ مَخَافَتُهُ الْخُطَا فَكَأَنَّمَا رَكِبَ الْكَمِيُّ جَوَادَهُ مَشْكُولَا٨١٩

أَلْقَى فَرِيسَتَهُ وَبَرْبَرَ دُونَهَا وَقَرُبْتَ قُرْبًا خَالَهُ تَطْفِيلَا٨٢٠

فَتَشَابَهَ الْخُلُقَانِ فِي إِقْدَامِهِ وَتَخَالَفَا فِي بَذْلِكَ الْمَأْكُولَا٨٢١

أَسَدٌ يَرَى عُضْوَيْهِ فِيكَ كِلَيْهِمَا مَتْنًا أَزَلَّ وَسَاعِدًا مَفْتُولَا٨٢٢

فِي سَرْجِ ظَامِئَةِ الْفُصُوصِ طِمِرَّةٍ يَأْبَى تَفَرُّدُهَا لَهَا التَّمْثِيلَا٨٢٣

نَيَّالَةِ الطَّلِبَاتِ لَوْلَا أَنَّهَا تُعْطِي مَكَانَ لِجَامِهَا مَا نِيلَا٨٢٤

تَنْدَى سَوَالِفُهَا إِذَا اسْتَحْضَرْتَهَا وَيُظَنُّ عَقْدُ عِنَانِهَا مَحْلُولَا٨٢٥

مَا زَالَ يَجْمَعُ نَفْسَهُ فِي زَوْرِهِ حَتَّى حَسِبْتَ الْعَرْضَ مِنْهُ الطُّولَا٨٢٦

وَيَدُقُّ بِالصَّدْرِ الْحِجَارَ كَأَنَّهُ يَبْغِي إِلَى مَا فِي الْحَضِيضِ سَبِيلَا٨٢٧

وَكَأَنَّهُ غَرَّتْهُ عَيْنٌ فَادَّنَى لَا يُبْصِرُ الْخَطْبَ الْجَلِيلَ جَلِيلَا٨٢٨

أَنَفُ الْكَرِيمِ مِنَ الدَّنِيَّةِ تَارِكٌ فِي عَيْنِهِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ قَلِيلَا٨٢٩

وَالْعَارُ مَضَّاضٌ وَلَيْسَ بِخَائِفٍ مِنْ حَتْفِهِ مَنْ خَافَ مِمَّا قِيلَا٨٣٠

سَبَقَ الْتِقَاءَكَهُ بِوَثْبَةِ هَاجِمٍ لَوْ لَمْ تُصَادِمْهُ لَجَازَكَ مِيلَا٨٣١

خَذَلَتْهُ قُوَّتُهُ وَقَدْ كَافَحْتَهُ فَاسْتَنْصَرَ التَّسْلِيمَ وَالتَّجْدِيلَا٨٣٢

قَبَضَتْ مَنِيَّتُهُ يَدَيْهِ وَعُنْقَهُ فَكَأَنَّمَا صَادَفَتْهُ مَغْلُولَا٨٣٣

سَمِعَ ابْنَ عَمَّتِهِ بِهِ وَبِحَالِهِ فَنَجَا يُهَرْوِلُ مِنْكَ أَمْسِ مَهُولَا٨٣٤

وَأَمَرُّ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ فِرَارُهُ وَكَقَتْلِهِ أَنْ لَا يَمُوتَ قَتِيلَا٨٣٥

تَلَفُ الَّذِي اتَّخَذَ الْجَرَاءَةَ خُلَّةً وَعَظَ الَّذِي اتَّخَذَ الْفِرَارَ خَلِيلَا٨٣٦

لَوْ كَانَ عِلْمُكَ بِالْإِلَهِ مُقَسَّمًا فِي النَّاسِ مَا بَعَثَ الْإِلَهُ رَسُولَا٨٣٧

لَوْ كَانَ لَفْظُكَ فِيهِمِ مَا أَنْزَلَ الـْ ـقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَا

لَوْ كَانَ مَا تُعْطِيهِمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُعْطِيهِمِ لَمْ يَعْرِفُوا التَّأْمِيلَا٨٣٨

فَلَقَدْ عُرِفْتَ، وَمَا عُرِفْتَ حَقِيقَةً وَلَقَدْ جُهِلْتَ وَمَا جُهِلْتَ خُمُولَا٨٣٩

نَطَقَتْ بِسُؤْدُدِكَ الْحَمَامُ تَغَنِّيًا وَبِمَا تُجَشِّمُهَا الْجِيَادُ صَهِيلَا٨٤٠

مَا كُلُّ مَنْ طَلَبَ الْمَعَالِيَ نَافِذًا فِيهَا وَلَا كُلُّ الرِّجَالِ فُحُولَا٨٤١

وقال وقد نظر إلى جانبه خلعة مطوية فسأل عنها فقيل: هي خلع الولاية، وكان أبو الطيب عند وصولها عليلًا:


أَرَى حُلَلًا مَطَوَّاةً حِسَانًا عَدَانِي أَنْ أَرَاكَ بِهَا اعْتِلَالِي٨٤٢

وَهَبْكَ طَوَيْتَهَا وَخَرَجَتْ عَنْهَا أَتَطْوِي مَا عَلَيْكَ مِنَ الْجَمَالِ؟!٨٤٣

لَقَدْ ظَلَّتْ أَوَاخِرُهَا الْأَعَالِي مَعَ الْأُولَى بِجِسْمِكَ فِي قِتَالِ٨٤٤

تُلَاحِظُكَ الْعُيُونُ وَأَنْتَ فِيهَا كَأَنَّ عَلَيْكَ أَفْئِدَةَ الرِّجَالِ٨٤٥

مَتَى أَحْصَيْتُ فَضْلَكَ فِي كَلَامٍ فَقَدْ أَحْصَيْتُ حَبَّاتِ الرِّمَالِ٨٤٦

وَإِنَّ بِهَا، وَإِنَّ بِهِ لَنَقْصًا وَأَنْتَ لَهَا النِّهَايَةُ فِي الْكَمَالِ٨٤٧

وقال فيه أيضًا:


عَذَلَتْ مُنَادَمَةُ الْأَمِيرِ عَوَاذِلِي فِي شُرْبِهَا وَكَفَتْ جَوابَ السَّائِلِ٨٤٨

مَطَرَتْ سَحَابُ يَدَيْكَ رِيَّ جَوَانِحِي وَحَمَلْتُ شُكْرَكَ وَاصْطِنَاعُكَ حَامِلِي٨٤٩

فَمَتَى أَقُومُ بِشُكْرِ مَا أَوْلَيْتَنِي وَالْقَوْلُ فِيكَ عُلُوُّ قَدْرِ الْقَائِلِ؟!٨٥٠

وقال يمدحه:


بَدْرٌ فَتًى لَوْ كَانَ مِنْ سُؤَّالِهِ يَوْمًا تَوَفَّرَ حَظُّهُ مِنْ مَالِهِ٨٥١

تَتَحَيَّرُ الْأَفْعَالُ فِي أَفْعَالِهِ وَيَقِلُّ مَا يَأْتِيهِ فِي إِقْبَالِهِ٨٥٢

قَمَرًا نَرَى وَسَحَابَتَيْنِ بِمَوْضِعٍ مِنْ وَجْهِهِ وَيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ٨٥٣

سَفَكَ الدِّمَاءَ بِجُودِهِ لَا بَأْسِهِ كَرَمًا لِأَنَّ الطَّيْرَ بَعْضُ عِيَالِهِ٨٥٤

إِنْ يُفْنِ مَا يَحْوِي فَقَدْ أَبْقَى بِهِ ذِكْرًا يَزُولُ الدَّهْرُ قَبْلَ زَوَالِهِ٨٥٥

وسأله حاجة فقضاها له، فنهض فقال:


قَدْ أُبْتُ بِالْحَاجَةِ مَقْضِيَّةً وَعِفْتُ فِي الْجَلْسَةِ تَطْوِيلَهَا٨٥٦

أَنْتَ الَّذِي طُولُ بَقَاءٍ لَهُ خَيْرٌ لِنَفْسِي مِنْ بَقَائِي لَهَا

وقال يمدح القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله الأنطاكي:


لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي الْقُلُوبِ مَنَازِلُ أَقْفَرْتِ أَنْتِ وَهُنَّ مِنْكِ أَوَاهِلُ٨٥٧

يَعْلَمْنَ ذَاكَ وَمَا عَلِمْتِ وَإِنَّمَا أَوْلَاكُمَا بِبُكًى عَلَيْهِ الْعَاقِلُ٨٥٨

وَأَنَا الَّذِي اجْتَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُهُ فَمَنِ الْمُطَالَبُ وَالْقَتِيلُ الْقَاتِلُ؟!٨٥٩

تَخْلُو الدِّيَارُ مِنَ الظِّبَاءِ وَعِنْدَهُ مِنْ كُلِّ تَابِعَةٍ خَيَالٌ خَاذِلُ٨٦٠

اللَّاءِ أَفْتَكُهَا الْجَبَانُ بِمُهْجَتِي وَأَحَبُّهَا قُرْبًا إِلَيَّ الْبَاخِلُ٨٦١

الرَّامِيَاتُ لَنَا وَهُنَّ نَوَافِرٌ وَالْخَاتِلَاتُ لَنَا وَهُنَّ غَوَافِلُ٨٦٢

كَافَأْنَنَا عَنْ شِبْهِهِنَّ مِنَ الْمَهَا فَلَهُنَّ فِي غَيْرِ التُّرَابِ حَبَائِلُ٨٦٣

مِنْ طَاعِنِي ثُغْرِ الرِّجَالِ جَآذِرٌ وَمِنَ الرِّمَاحِ دَمَالِجٌ وَخَلَاخِلُ٨٦٤

وَلِذَا اسْمُ أَغْطِيَةِ الْعُيُونِ جُفُونُهَا مِنْ أَنَّهَا عَمَلَ السُّيُوفِ عَوَامِلُ٨٦٥

كَمْ وَقْفَةٍ سَجَرَتْكَ شَوْقًا بَعْدَمَا غَرِيَ الرَّقِيبُ بِنَا وَلَجَّ الْعَاذِلُ!٨٦٦

دُونَ التَّعَانُقِ نَاحِلَيْنِ كَشَكْلَتَيْ نَصْبٍ أَدَقَّهُمَا وَصَمَّ الشَّاكِلُ٨٦٧

انْعَمْ وَلَذَّ فَلِلْأُمُورِ أَوَاخِرٌ أَبَدًا إِذَا كَانَتْ لَهُنَّ أَوَائِلُ٨٦٨

مَا دُمْتَ مِنْ أَرَبِ الْحِسَانِ فَإِنَّمَا رَوْقُ الشَّبَابِ عَلَيْكَ ظِلٌّ زَائِلُ٨٦٩

لِلَّهْوِ آوِنَةٌ تَمُرُّ كَأَنَّهَا قُبَلٌ يُزَوِّدُهَا حَبِيبٌ رَاحِلُ٨٧٠

جَمَحَ الزَّمَانُ فَمَا لَذِيذٌ خَالِصٌ مِمَّا يَشُوبُ وَلَا سُرُورٌ كَامِلُ

حَتَّى أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدِ اللهِ رُؤْ يَتُهُ الْمُنَى وَهْيَ الْمَقَامُ الْهَائِلُ٨٧١

مَمْطُورَةٌ طُرُقِي إِلَيْهَا دُونَهَا مِنْ جُودِهِ فِي كُلِّ فَجٍّ وَابِلُ٨٧٢

مَحْجُوبَةٌ بِسُرَادِقٍ مِنْ هَيْبَةٍ تُثْنِي الْأَزِمَّةَ وَالْمَطِيُّ ذَوَامِلُ٨٧٣

لِلشَّمْسِ فِيهِ وَلِلرِّيَاحِ وَلِلسَّحَا بِ وَلِلْبِحَارِ وَلِلْأُسُودِ شَمَائِلُ٨٧٤

وَلَدَيْهِ مِلْعِقْيَانِ وَالْأَدَبِ الْمُفَا دِ وَمِلْحَيَاةِ وَمِلْمَمَاتِ مَنَاهِلُ٨٧٥

لَوْ لَمْ يُهَبْ لَجَبُ الْوُفُودِ حَوَالَهُ لَسَرَى إِلَيْهِ قَطَا الْفَلَاةِ النَّاهِلُ٨٧٦

يَدْرِي بِمَا بِكَ قَبْلَ تُظْهِرُهُ لَهُ مِنْ ذِهْنِهِ وَيُجِيبُ قَبْلَ تُسَائِلُ٨٧٧

وَتَرَاهُ مُعْتَرِضًا لَهَا وَمُوَلِّيًا أَحْدَاقُنَا وَتَحَارُ حِينَ يُقَابِلُ٨٧٨

كَلِمَاتُهُ قُضُبٌ وَهُنَّ فَوَاصِلٌ كُلُّ الضَّرَائِبِ تَحْتَهُنَّ مَفَاصِلُ٨٧٩

هَزَمَتْ مَكَارِمُهُ الْمَكَارِمَ كُلَّهَا حَتَّى كَأَنَّ الْمَكْرُمَاتِ قَنَابِلُ٨٨٠

وَقَتَلْنَ دَفْرًا وَالدُّهَيْمَ فَمَا تُرَى أُمُّ الدُّهَيْمِ وَأُمُّ دَفْرٍ هَابِلُ٨٨١

عَلَّامَةُ الْعُلَمَاءِ وَاللُّجُّ الَّذِي لَا يَنْتَهِي وَلِكُلِّ لُجٍّ سَاحِلُ٨٨٢

لَوْ طَابَ مَوْلِدُ كُلِّ حَيٍّ مِثْلَهُ وَلَد النِّسَاءُ وَمَا لَهُنَّ قَوَابِلُ٨٨٣

لَوْ بَانَ بِالْكَرَمِ الْجَنِينُ بَيَانَهُ لَدَرَتْ بِهِ ذَكَرٌ أَمُ انْثَى الْحَامِلُ٨٨٤

لِيَزِدْ بَنُو الْحَسَنِ الشِّرَافُ تَوَاضُعًا هَيْهَاتَ تُكْتَمُ فِي الظَّلَامِ مَشَاعِلُ٨٨٥

سَتَرُوا النَّدَى سَتْرَ الْغُرَابِ سِفَادَهُ فَبَدَا وَهَلْ يَخْفَى الرَّبَابُ الْهَاطِلُ٨٨٦

جَفَخَتْ وَهُمْ لَا يَجْفُخُونَ بِهَابِهِمْ شِيَمٌ عَلَى الْحَسَبِ الْأَغَرِّ دَلَائِلُ٨٨٧

مُتَشَابِهِي وَرَعِ النُّفُوسِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ عَفُّ الْإِزَارِ حُلَاحِلُ٨٨٨

يَا افْخَرْ فَإِنَّ النَّاسَ فِيكَ ثَلَاثَةٌ مُسْتَعْظِمٌ أَوْ حَاسِدٌ أَوْ جَاهِلُ٨٨٩

وَلَقَدْ عَلَوْتَ فَمَا تُبَالِي بَعْدَمَا عَرَفُوا، أَيَحْمَدُ أَمْ يَذُمُّ الْقَائِلُ؟٨٩٠

أُثْنِي عَلَيْكَ وَلَوْ تَشَاءُ لَقُلْتَ لِي: قَصَّرْتَ فَالْإِمْسَاكُ عَنِّي نَائِلُ٨٩١

لَا تَجْسُرُ الْفُصَحَاءُ تُنْشِدُ هَا هُنَا بَيْتًا وَلَكِنِّي الْهِزْبَرُ الْبَاسِلُ٨٩٢

مَا نَالَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي وَلَا سَمِعَتْ بِسِحْرِيَ بَابِلُ٨٩٣

وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهْيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ كَامِلُ٨٩٤

مَنْ لِي بِفَهْمِ أُهَيْلِ عَصْرٍ يَدَّعِي أَنْ يَحْسُبَ الْهِنْدِيَّ فِيهِمْ بَاقِلُ؟!٨٩٥

وَأَمَا وَحَقِّكَ وَهْوَ غَايَةُ مُقْسِمٍ لَلْحَقُّ أَنْتَ وَمَا سِوَاكَ الْبَاطِلُ٨٩٦

الطِّيبُ أَنْتَ إِذَا أَصَابَكَ طِيبُهُ وَالْمَاءُ أَنْتَ إِذَا اغْتَسَلْتَ الْغَاسِلُ٨٩٧

مَا دَارَ فِي الْحَنَكِ اللِّسَانُ وَقلَّبَتْ قَلَمًا بِأَحْسَنَ مِنْ نَثَاكَ أَنَامِلُ٨٩٨

وقال يهجو قومًا توعدوه:


أَمَاتَكُمُ مِنْ قَبْلِ مَوْتِكُمُ الْجَهْلُ وَجَرَّكُمُ مِنْ خِفَّةٍ بِكُمُ النَّمْلُ٨٩٩

وُلَيْدَ أُبَيِّ الطَّيِّبِ الْكَلْبِ مَا لَكُمُ فَطِنْتُمْ إِلَى الدَّعْوَى وَمَا لَكُمُ عَقْلُ؟!٩٠٠

وَلَوْ ضَرَبَتْكُمْ مَنْجَنِيقِي وَأَصْلُكُمْ قَوِيٌّ لَهَدَّتْكُمُ فَكَيْفَ وَلَا أَصْلُ؟!٩٠١

وَلَوْ كُنْتُمُ مِمَّنْ يُدَبِّرُ أَمْرَهُ لَمَا كُنْتُمُ نَسْلَ الَّذِي مَا لَهُ نَسْلُ٩٠٢

وقال: وقد جعل أبو محمد بن طغج يضرب بكمه البخور، ويقول: سَوْقًا إلى أبي الطيب:


يَا أَكْرَمَ النَّاسِ فِي الْفَعَالِ وَأَفْصَحَ النَّاسِ فِي الْمَقَالِ!٩٠٣

إِنْ قُلْتَ فِي ذَا الْبَخُورِ: سَوْقًا فَهَكَذَا قُلْتَ فِي النَّوَالِ٩٠٤

وقال، وقد بلغه أن إسحاق بن كيغلغ يتهدده وهو ببلاد الروم، وكان أبو الطيب بدمشق:٩٠٥

أَتَانِي كَلَامُ الْجَاهِلِ ابْنِ كَيَغْلَغٍ يَجُوبُ حُزُونًا بَيْنَنَا وَسُهُولَا٩٠٦

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ ابْنِ صَفْرَاءَ حَائِلٌ وَبَيْنِي سِوَى رُمْحِي لَكَانَ طَوِيلَا٩٠٧

وَإِسِحَقُ مَأْمُونٌ عَلَى مَنْ أَهَانَهُ وَلَكِنْ تَسَلَّى بِالْبُكَاءِ قَلِيلَا٩٠٨

وَلَيْسَ جَمِيلًا عِرْضُهُ فَيَصُونَهُ وَلَيْسَ جَمِيلًا أَنْ يَكُونَ جَمِيلَا٩٠٩

وَيَكْذِبُ مَا أَذْلَلْتُهُ بِهِجَائِهِ لَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِ الْهِجَاءِ ذَلِيلَا٩١٠

وقال يمدح أبا العشائر:


لَا تَحْسَبُوا رَبْعَكُمْ وَلَا طَلَلَهْ أَوَّلَ حَيٍّ فِرَاقُكُمْ قَتَلَهْ٩١١

قَدْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ النُّفُوسُ بِكُمْ وَأَكْثَرَتْ فِي هَوَاكُمُ الْعَذَلَهْ٩١٢

خَلَا وَفِيهِ أَهْلٌ وَأَوْحَشَنَا وَفِيهِ صِرْمٌ مُرَوِّحٌ إِبِلَهْ٩١٣

لَوْ سَارَ ذَاكَ الْحَبِيبُ عَنْ فَلَكٍ مَا رَضِيَ الشَّمْسَ بُرْجُهُ بَدَلَهْ٩١٤

أُحِبُّهُ وَالْهَوَى وَأَدْؤُرَهُ وَكُلُّ حُبٍّ صَبَابَةٌ وَوَلَهْ٩١٥

يَنْصُرُهَا الْغَيْثُ وَهْيَ ظَامِئَةٌ إِلَى سِوَاهُ وَسُحْبُهَا هَطِلَهْ٩١٦

وَاحَرَبَا مِنْكِ يَا جَدَايَتَهَا مُقِيمَةً فَاعْلَمِي وَمُرْتَحِلَهْ٩١٧

لَوْ خُلِطَ الْمِسْكُ وَالْعَبِيرُ بِهَا وَلَسْتِ فِيهَا لَخِلْتُهَا تَفِلَهْ٩١٨

أَنَا ابْنُ مَنْ بَعْضُهُ يَفُوقُ أَبَا الْبَا حِثِ وَالنَّجْلُ بَعْضُ مَنْ نَجَلَهْ٩١٩

وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الْجُدُودَ لَهُمْ مَنْ نَفَرُوهُ وَأَنْفَدُوا حِيَلَهْ٩٢٠

فَخْرًا لِعَضْبٍ أَرُوحُ مُشْتَمِلَهْ وَسَمْهَرِيٍّ أَرُوحُ مُعْتَقِلَهْ٩٢١

وَلْيَفْخَرِ الْفَخْرُ إِذْ غَدَوْتُ بِهِ مُرْتَدِيًا خَيْرَهُ وَمُنْتَعِلَهْ٩٢٢

أَنَا الَّذِي بَيَّنَ الْإِلَهُ بِهِ الـْ أَقْدَارَ وَالْمَرْءُ حَيْثُمَا جَعَلَهْ٩٢٣

جَوْهَرَةٌ يَفْرَحُ الْكِرَامُ بِهَا وَغُصَّةٌ لَا تُسِيغُهَا السَّفِلَهْ٩٢٤

إِنَّ الْكِذَابَ الَّذِي أُكَادُ بِهِ أَهْوَنُ عِنْدِي مِنَ الَّذِي نَقَلَهْ٩٢٥

فَلَا مُبَالٍ وَلَا مُدَاجٍ وَلَا وَانٍ وَلَا عَاجِزٌ وَلَا تُكَلَهْ٩٢٦

وَدَارِعٍ سِفْتُهُ فَخَرَّ لَقًى فِي الْمُلْتَقَى وَالْعَجَاجِ وَالْعَجَلَهْ٩٢٧

وَسَامِعٍ رُعْتُهُ بِقَافِيَةٍ يَحَارُ فِيهَا الْمُنَقِّحُ الْقُوَلَهْ٩٢٨

وَرُبَّمَا أُشْهِدُ الطَّعَامَ مَعِي مَنْ لَا يُسَاوِي الْخُبْزَ الَّذِي أَكَلَهْ٩٢٩

وَيُظْهِرُ الْجَهْلَ بِي وَأَعْرِفُهُ وَالدُّرُّ دُرٌّ بِرَغْمِ مَنْ جَهِلَهْ٩٣٠

مُسْتَحْيِيًا مِنْ أَبِي الْعَشَائِرِ أَنْ أَسْحَبَ فِي غَيْرِ أَرْضِهِ حُلَلَهْ٩٣١

أَسْحَبُهَا عِنْدَهُ لَدَى مَلِكٍ ثِيَابُهُ مِنْ جَلِيسِهِ وَجِلَهْ٩٣٢

وَبِيضُ غِلْمَانِهِ كَنَائِلِهِ أَوَّلُ مَحْمُولِ سَيْبِهِ الْحَمَلَهْ٩٣٣

مَا لِي لَا أَمْدَحُ الْحُسَيْنَ وَلا أَبْذُلُ مِثْلَ الْوُدِّ الَّذِي بَذَلَهْ٩٣٤

أَأَخْفَتِ الْعَيْنُ عِنْدَهُ خَبَرًا أَمْ بَلَغَ الْكَيْذُبَانُ مَا أَمَلَهْ؟!٩٣٥

أَمْ لَيْسَ ضَرَّابَ كُلِّ جُمْجُمَةٍ مَنْخُوَّةٍ سَاعَةَ الْوَغَى زَعِلَهْ؟!٩٣٦

وَصَاحِبَ الْجُودِ مَا يُفَارِقُهُ لَوْ كَانَ لِلْجُودِ مَنْطِقٌ عَذَلَهْ٩٣٧

وَرَاكِبَ الْهَوْلِ لَا يُفَتِّرُهُ لَوْ كَانَ لِلْهَوْلِ مَحْزِمٌ هَزَلَهْ٩٣٨

وَفَارِسَ الْأَحْمَرِ الْمُكَلِّلَ فِي طَيِّئِ الْمُشْرَعَ الْقَنَا قِبَلَهْ٩٣٩

لَمَّا رَأَتْ وَجْهَهُ خُيُولُهُمُ أَقْسَمَ بِاللهِ لَا رَأَتْ كَفَلَهْ٩٤٠

فَأَكْبَرُوا فِعْلَهُ وَأَصْغَرَهُ أَكْبَرُ مِنْ فِعْلِهِ الَّذِي فَعَلَهْ٩٤١

الْقَاطِعُ الْوَاصِلُ الْكَمِيلُ فَلَا بَعْضُ جَمِيلٍ عَنْ بَعْضِهِ شَغَلَهْ٩٤٢

فَوَاهِبٌ وَالرِّمَاحُ تَشْجُرُهُ وَطَاعِنٌ وَالْهِبَاتُ مُتَّصِلَهْ٩٤٣

وَكُلَّمَا آمَنَ الْبِلادَ سَرَى وَكُلَّمَا خِيفَ مَنْزِلٌ نَزَلَهْ٩٤٤

وَكُلَّمَا جَاهَرَ الْعَدُوَّ ضُحًى أَمْكَنَ حَتَّى كَأَنَّهُ خَتَلَهْ٩٤٥

يَحْتَقِرُ الْبِيضَ وَاللِّدَانَ إِذَا سَنَّ عَلَيْهِ الدِّلَاصَ أَوْ نَثَلَهْ٩٤٦

قَدْ هَذَّبَتْ فَهْمَهُ الْفَقاهَةُ لِي وَهَذَّبَتْ شِعْرِيَ الْفَصَاحَةَ لَهْ٩٤٧

فَصِرْتُ كَالسَّيْفِ حَامِدًا يَدَهُ لَا يَحْمَدُ السَّيْفُ كُلَّ مَنْ حَمَلَهْ٩٤٨

واستأذن كافورًا في المسير إلى الرملة ليخلص مالًا كتب له به، وإنما أراد أن يعرف ما عند كافور في مسيره. فقال: لا والله لا نكلفك المسير، نحن نبعث في خلاصه ونكفيك، فقال أبو الطيب:


أَتَحْلِفُ لَا تُكَلِّفُنِي مَسِيرًا إِلَى بَلَدٍ أُحَاوِلُ فِيهِ مَالَا

وَأَنْتَ مُكَلِّفِي أَنْبَى مَكَانًا وَأَبْعَدَ شُقَّةً وَأَشَدَّ حَالَا٩٤٩

إِذَا سِرْنَا عَلَى الْفُسْطَاطِ يَوْمًا فَلَقِّنِيَ الْفَوَارِسَ وَالرِّجَالَا٩٥٠

لِتَعْلَمَ قَدْرَ مَنْ فَارَقْتَ مِنِّي وَأَنَّكَ رُمْتَ مِنْ ضَيْمِي مُحَالَا٩٥١

وقال يمدح أبا شجاع فاتكًا٩٥٢ وكان قد قدم من الفيوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار:

لَا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلَا مَالُ فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ٩٥٣

وَاجْزِ الْأَمِيرَ الَّذِي نُعْمَاهُ فَاجِئَةٌ بِغَيْرِ قَوْلٍ وَنُعْمَى النَّاسِ أَقْوَالُ٩٥٤

فَرُبَّمَا جَزِيَ الْإِحْسَانَ مُولِيَهُ خَرِيدَةٌ مِنْ عَذَارَى الْحَيِّ مِكْسَالُ٩٥٥

وَإِنْ تَكُنْ مُحْكَماتُ الشُّكْلِ تَمْنَعُنِي ظُهُورَ جَرْيٍ فَلِي فِيهِنَّ تَصْهَالُ٩٥٦

وَمَا شَكَرْتُ لِأَنَّ الْمَالَ فَرَّحَنِي سِيَّانِ عِنْدِيَ إِكْثَارٌ وَإِقْلَالُ٩٥٧

لَكِنْ رَأَيْتُ قَبِيحًا أَنْ يُجَادَ لَنَا وَأَنَّنَا بِقَضَاءِ الْحَقِّ بُخَّالُ٩٥٨

فَكُنْتُ مَنْبِتَ رَوْضِ الْحَزْنِ بَاكَرَهُ غَيْثٌ بِغَيْرِ سِبَاخِ الْأَرْضِ هَطَّالُ٩٥٩

غَيْثٌ يُبَيِّنُ لِلنُّظَّارِ مَوْقِعُهُ أَنَّ الْغُيُوثَ بِمَا تَأْتِيهِ جُهَّالُ٩٦٠

لَا يُدْرِكُ الْمَجْدَ إِلَّا سَيِّدٌ فَطِنٌ لِمَا يَشُقُّ عَلَى السَّادَاتِ فَعَّالُ٩٦١

لَا وَارِثٌ جَهِلَتْ يُمْنَاهُ مَا وَهَبَتْ وَلَا كَسُوبٌ بِغَيْرِ السَّيْفِ سَئَّالُ٩٦٢

قَالَ الزَّمَانُ لَهُ قَوْلًا فَأَفْهَمَهُ إِنَّ الزَّمَانَ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَذَّالُ٩٦٣

تَدْرِي الْقَنَاةُ إِذَا اهْتَزَّتْ بِرَاحَتِهِ أَنَّ الشَّقِيَّ بِهَا خَيْلٌ وَأَبْطَالُ٩٦٤

كَفَاتِكٍ وَدُخُولُ الْكَافِ مَنْقَصَةٌ كَالشَّمْسِ قُلْتُ وَمَا للشَّمْسِ أَمْثَالُ٩٦٥

أَلْقَائِدِ الْأُسْدَ غَذَّتْهَا بَرَاثِنُهُ بِمِثْلِهَا مِنْ عِدَاهُ وَهْيَ أَشْبَالُ٩٦٦

أَلْقَاتِلِ السَّيْفَ فِي جِسْمِ الْقَتِيلِ بِهِ وَلِلسُّيُوفِ كَمَا لِلنَّاسِ آجَالُ٩٦٧

تُغِيرُ عَنْهُ عَلَى الْغَارَاتِ هَيْبَتُهُ وَمَالُهُ بِأَقَاصِي الْأَرْضِ أَهْمَالُ٩٦٨

لَهُ مِنَ الْوَحْشِ مَا اخْتَارَتْ أَسِنَّتُهُ عَيْرٌ وَهَيْقٌ وَخَنْسَاءٌ وَذَيَّالُ٩٦٩

تُمْسِي الضُّيُوفُ مُشَهَّاةً بِعَقْوَتِهِ كَأَنَّ أَوْقَاتَهَا فِي الطِّيبِ آصَالُ٩٧٠

لَوِ اشْتَهَتْ لَحْمَ قَارِيهَا لَبَادَرَهَا خَرَادِلٌ مِنْهُ فِي الشِّيزَى وَأَوْصَالُ٩٧١

لَا يَعْرِفُ الرُّزْءَ فِي مَالٍ وَلَا وَلَدٍ إِلَّا إِذَا حَفَزَ الْأَضْيَافَ تَرْحَالُ٩٧٢

يُرْوِي صَدَى الْأَرْضِ مِنْ فَضْلَاتِ مَا شَرِبُوا مَحْضُ اللِّقَاحِ وَصَافِي اللَّوْنِ سَلْسَالُ٩٧٣

تَقْرِي صَوَارِمُهُ السَّاعَاتِ عَبْطَ دَمٍ كَأَنَّمَا السَّاعُ نُزَّالٌ وَقُفَّالُ٩٧٤

تَجْرِي النُّفُوسُ حَوَالَيْهِ مُخَلَّطَةً مِنْهَا عُدَاةٌ وَأَغْنَامٌ وَآبَالُ٩٧٥

لَا يَحْرِمُ الْبُعْدُ أَهْلَ الْبُعْدِ نَائِلَهُ وَغَيْرُ عَاجِزَةٍ عَنْهُ الْأُطَيْفَالُ٩٧٦

أَمْضَى الْفَرِيقَيْنِ فِي أَقْرَانِهِ ظُبَةً وَالْبِيضُ هَادِيَةٌ وَالسُّمْرُ ضُلَّالُ٩٧٧

يُرِيكَ مَخْبَرُهُ أَضْعَافَ مَنْظَرِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَفِيهَا الْمَاءُ وَالْآلُ٩٧٨

وَقَدْ يُلَقِّبُهُ الْمَجْنُونَ حَاسِدُهُ إِذَا اخْتَلَطْنَ وَبَعْضُ الْعَقْلِ عُقَّالُ٩٧٩

يَرْمِي بِهَا الْجَيْشَ لَا بُدٌّ لَهُ وَلَها مِنْ شَقِّهِ وَلَوَ انَّ الْجَيْشَ أَجْبَالُ٩٨٠

إِذَا الْعِدَى نَشِبَتْ فِيهِمْ مَخَالِبُهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُمُ حِلْمٌ وَرِئْبَالِ٩٨١

يَرُوعُهُمْ مِنْهُ دَهْرٌ صَرْفُهُ أَبَدًا مُجَاهِرٌ وَصُرُوفُ الدَّهْرِ تَغْتَالُ٩٨٢

أَنَالَهُ الشَّرَفَ الْأَعْلَى تَقَدُّمُهُ فَمَا الَّذِي بِتَوَقِّي مَا أَتَى نَالُوا؟!٩٨٣

إِذَا الْمُلُوكُ تَحَلَّتْ كَانَ حِلْيَتَهُ مُهَنَّدٌ وَأضَمُّ الْكَعْبِ عَسَّالُ٩٨٤

أَبُو شُجَاعٍ أَبُو الشُّجْعَانِ قَاطِبَةً هَوْلٌ نَمَتْهُ مِنَ الْهَيْجَاءِ أَهْوَالُ٩٨٥

تَمَلَّكَ الْحَمْدَ حَتَّى مَا لِمُفْتَخِرٍ فِي الْحَمْدِ حَاءٌ وَلا مِيمٌ وَلَا دَالُ٩٨٦

عَلَيْهِ مِنْهُ سَرَابِيلٌ مُضَاعَفَةٌ وَقَدْ كَفَاهُ مِنَ الْمَاذِيِّ سِرْبَالُ٩٨٧

وَكَيْفَ أَسْتُرُ مَاْ أَوْلَيْتَ مِنْ حَسَنٍ وَقَدْ غَمَرْتَ نَوَالًا أَيُّهَا النَّالُ٩٨٨

لَطَّفْتَ رَأْيَكَ فِي بِرِّي وَتَكْرِمَتِي إِنَّ الْكَرِيمَ عَلَى الْعَلْيَاءِ يَحْتَالُ٩٨٩

حَتَّى غَدَوْتَ وَلِلْأَخْبَارِ تَجْوَالُ وَلِلْكَوَاكِبِ فِي كَفَّيْكَ آمَالُ٩٩٠

وَقَدْ أَطَالَ ثَنَائِي طُولُ لَابِسِهِ إِنَّ الثَّنَاءَ عَلَى التِّنْبَالِ تِنْبَالُ٩٩١

إِنْ كُنْتَ تَكْبُرُ أَنْ تَخْتَالَ فِي بَشَرٍ فَإِنَّ قَدْرَكَ فِي الْأَقْدَارِ يَخْتَالُ٩٩٢

كَأَنَّ نَفْسَكَ لَا تَرْضَاكَ صَاحِبَهَا إِلَّا وَأَنْتَ عَلَى الْمِفْضَالِ مِفْضَالُ٩٩٣

وَلا تَعُدُّكَ صَوَّانًا لِمُهْجَتِهَا إِلَّا وَأَنْتَ لَهَا فِي الرَّوْعِ بَذَّالُ٩٩٤

لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ٩٩٥

وَإِنَّمَا يَبْلُغُ الْإِنْسَانُ طَاقَتَهُ مَا كُلُّ مَاشِيَةٍ بِالرَّحْلِ شِمْلَالُ٩٩٦

إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ به مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ إِحْسَانٌ وَإِجْمَالُ٩٩٧

ذِكْرُ الْفَتَى عُمْرُهُ الثَّانِي وَحَاجَتُهُ مَا قَاتَهُ وَفُضُولُ الْعَيْشِ أَشْغَالُ٩٩٨

وقال يمدح أبا الفوارس دلير بن لشكروز سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وكان قد جاء إلى الكوفة لقتال الخارجي الذي نجم بها من بني كلاب، وانصرف الخارجي عن الكوفة قبل وصول دلير إليها:


كَدَعْوَاكِ كُلٌّ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْلِ وَمَنْ ذا الَّذِي يَدْرِي بمَا فِيهِ مِنْ جَهْلِ؟٩٩٩

لِهَنَّكِ أَوْلَى لَائِمٍ بِمَلَامَةٍ وَأَحْوَجُ مِمَّنْ تَعْذُلِينَ إلى الْعَذْلِ١٠٠٠

تَقُولِينَ: مَا في النَّاسِ مِثْلَكَ عَاشِقٌ جِدِي مِثْلَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ تَجِدِي مِثْلِي١٠٠١

مُحِبٌّ كَنَى بِالْبِيضِ عَنْ مُرْهَفَاتِهِ وَبِالْحُسْنِ في أَجْسَامِهِنَّ عَنِ الصَّقْلِ١٠٠٢

وَبِالسُّمْرِ عَنْ سُمْرِ الْقَنَا غَيْرَ أَنَّنِي جَنَاهَا أَحِبَّائِي وَأَطْرَافُهَا رُسْلِي١٠٠٣

عَدِمْتُ فُؤَادًا لَمْ تَبِتْ فيهِ فَضْلَةٌ لِغَيْرِ الثَّنَايَا الْغُرِّ وَالْحَدَقِ النُّجْلِ١٠٠٤

فَمَا حَرَمَتْ حَسْنَاءُ بِالْهَجْرِ غِبْطَةً وَلَا بَلَغَتْهَا مَنْ شَكَى الْهَجْرَ بالْوَصْلِ١٠٠٥

ذَرِينِي أَنَلْ مَا لَا يُنَالُ مِنَ الْعُلَا فَصَعْبَ الْعُلَا في الصَّعْبِ وَالسَّهْلُ في السَّهْلِ١٠٠٦

تُرِيدِينَ لُقْيَانَ الْمَعَالِي رَخِيصَةً وَلَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ١٠٠٧

حَذِرْتِ عَلَيْنَا الْمَوْتَ وَالْخَيْلُ تَلْتَقِي وَلَمْ تَعْلَمِي عَنْ أَيِّ عَاقِبَةٍ تُجْلَى١٠٠٨

فَلَسْتُ غَبِينًا لَوْ شَرَيْتُ مَنِيَّتِي بِإِكْرَامِ دِلَّيْرَ بْنِ لَشْكَرَوَزٍّ لِي١٠٠٩

تُمِرُّ الْأنَابِيبُ الْخَوَاطِرُ بَيْنَنَا وَنَذْكُرُ إقْبَالَ الأمِيرِ فَتَحْلَوْ لِي١٠١٠

وَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَنَّهَا سَببٌ لَهُ لَزَادَ سُرُورِي بِالزِّيَادَةِ في الْقَتْلِ١٠١١

فَلَا عَدِمَتْ أَرْضُ الْعِرَاقَيْنِ فِتْنَةً دَعَتْكَ إليْهَا كَاشِفَ الْخَوْفِ وَالمَحْلِ١٠١٢

ظَلِلْنَا إذَا أَنْبَى الْحَدِيدُ نُصُولَنَا نُجَرِّدُ ذِكْرًا مِنْكَ أَمْضَى مِنَ النَّصْلِ١٠١٣

وَنَرْمِي نَوَاصِيهَا مِنِ اسْمِكَ في الْوَغَى بِأَنْفذَ مِنْ نُشَّابِنَا وَمِنَ النَّبْلِ١٠١٤

فَإِنْ تَكُ مِنْ بَعْدِ الْقِتَالِ أَتَيْتَنَا فَقَدْ هَزَمَ الْأَعْدَاءَ ذِكْرُكَ مِنْ قَبْلِ١٠١٥

وَمَا زِلْتُ أَطْوِي الْقَلْبَ قَبْلَ اجْتِمَاعِنَا عَلَى حَاجَةٍ بَيْنَ السَّنَابِكِ وَالسُّبْلِ١٠١٦

وَلوْ لَمْ تَسِرْ سِرْنَا إِلَيْكَ بِأَنْفُسٍ غَرَائِبَ يُؤْثِرْنَ الْجِيَادَ عَلَى الْأَهْلِ١٠١٧

وَخَيْلٍ إذَا مَرَّتْ بِوَحْشٍ وَرَوْضَةٍ أَبَتْ رَعْيَهَا إلَّا وَمِرْجَلُنَا يَغْلِي١٠١٨

وَلكِنْ رَأَيْتَ الْقَصْدَ فِي الْفَضْلِ شِرْكَةً فَكَانَ لَكَ الْفَضْلَانِ بِالْقَصْدِ وَالْفَضْلِ١٠١٩

وَلَيْسَ الَّذِي يَتَّبِّعُ الْوَبْلَ رَائِدًا كَمَنْ جَاءَهُ فِي دَارِهِ رَائِدُ الْوَبْلِ١٠٢٠

وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَدَّعِي الشَّوْقَ قَلْبُهُ وَيَحْتَجُّ فِي تَرْكِ الزِّيَارَةِ بالشُّغْلِ١٠٢١

أَرَادَتْ كِلَابٌ أَنْ تَفُوزَ بِدَوْلَةٍ لِمَنْ تَرَكَتْ رَعْيَ الشُّوَيْهَاتِ وَالِإبْلِ١٠٢٢

أبى رَبُّهَا أَنْ يَتْرُكَ الوحْشَ وَحْدَهَا وَأَنْ يُؤْمِنَ الضَّبَّ الْخَبِيثَ مِنَ الْأَكْلِ١٠٢٣

وَقَادَ لَهَا دِلَّيْرُ كُلَّ طِمِرَّةٍ تُنِيفُ بِخَدَّيْهَا سَحُوقٌ مِنَ النَّخْلِ١٠٢٤

وَكُلَّ جَوَادٍ تَلْطِمُ الأرْضَ كَفُّهُ بِأَغْنَى عَنِ النَّعْلِ الْحَدِيدِ مِنَ النَّعْلِ١٠٢٥

فَوَلَّتْ تُرِيغُ الْغَيْثَ وَالْغَيْثَ خَلَّفتْ وَتَطْلُبُ مَا قَدْ كَانَ فِي الْيَدِ بِالرِّجْل١٠٢٦

تُحاذِرُ هَزْلَ المَالِ وَهْيَ ذَلِيلَةٌ وَأَشْهَدُ أنَّ الذُّلَّ شَرٌّ مِنَ الْهَزْلِ١٠٢٧

وَأَهْدَتْ إلَيْنَا غَيْرَ قَاصِدَةٍ بِهِ كَرِيمَ السَّجَايَا يَسْبِقُ الْقَوْلَ بِالْفِعْلِ١٠٢٨

تَتَبَّعَ آثَارَ الرَّزَايا بِجودِهِ تَتَبُّعَ آثَارِ الأسِنَّةِ بِالْفُتْلِ١٠٢٩

شَفَى كُلَّ شَاكٍ سَيْفُهُ وَنَوَالُهُ مِنَ الدَّاءِ حَتَّى الثَّاكِلَاتِ مِنَ الثُّكْلِ١٠٣٠

عَفِيفٌ تَرُوقُ الشَّمْسَ صُورَةُ وَجْهِهِ وَلَوْ نَزَلت شَوْقًا لَحَادَ إلَى الظِّلِّ١٠٣١

شُجَاعٌ كَأَنَّ الْحَرْبَ عَاشِقَةٌ لَهُ إذَا زَارَهَا فَدَّتْهُ بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ١٠٣٢

وَرَيَّانُ لَا تَصْدَى إلَى الْخَمْرِ نَفْسُهُ وَعَطْشَانُ لَا تَرْوَى يَدَاهُ مِنَ الْبَذْلِ١٠٣٣

فَتَمْلِيكُ دِلَّيْرٍ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ شَهِيدٌ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَالْعَدْلِ١٠٣٤

وَمَا دَامَ دِلَّيْرٌ يَهُزُّ حُسَامَهُ فَلَا نَابَ فِي الدُّنْيا لِلَيْثٍ وَلَا شِبْلِ١٠٣٥

وَمَا دَامَ دِلَّيْرٌ يُقَلِّبُ كَفَّهُ فَلَا خَلْقَ مِنْ دَعْوَى الْمَكَارِمِ فِي حِلِّ١٠٣٦

فَتًى لَا يُرَجِّي أَنْ تَتِمَّ طَهَارَةٌ لِمَنْ لَمْ يُطَهِّرْ رَاحَتَيْهِ مِنَ الْبُخْلِ١٠٣٧

فَلَا قَطَعَ الرَّحْمنُ أَصْلًا أَتَى بِهِ فَإِنِّي رَأَيتُ الطَّيِّبَ الطَّيِّبَ الْأَصْلِ١٠٣٨

وقال يمدح عضد الدولة، ويذكر وقعة وَهْشُوذَان بن محمد الكردي بالطرم، وكان والده ركن الدولة أنفذ إليه جيشًا من الري فهزمه وأخذ بلده:


اثْلِثْ فَإنَّا أَيُّها الطَّلَلُ نَبْكِي وَتُرْزِمُ تَحْتَنَا الْإِبِلُ١٠٣٩

أوْلَا فَلَا عَتْبٌ عَلَى طَلَلٍ إنَّ الطُّلُولَ لِمِثْلِهَا فُعُلُ١٠٤٠

لَوْ كُنْتَ تَنْطِقُ قُلْتَ مُعْتَذِرًا: بِي غَيْرُ مَا بِكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ١٠٤١

أَبْكَاكَ أنَّكَ بَعْضُ مَنْ شَغَفُوا لَمْ أَبْكِ أَنِّي بَعْضُ مَنْ قَتَلُوا١٠٤٢

إنَّ الَّذِينَ أقَمْتَ وَاحْتَمَلُوا أيَّامُهُمْ لِدِيَارِهِمْ دُوَلُ١٠٤٣

الْحُسْنُ يَرْحَلُ كُلَّمَا رَحَلُوا مَعَهُمْ وَيَنْزِلُ حَيْثُمَا نَزَلُوا١٠٤٤

فِي مُقْلَتَي رَشَأٍ تُدِيرُهُمَا بَدَوِيَّةٌ فُتِنَتْ بِهَا الْحِلَلُ١٠٤٥

تَشْكُو الْمَطَاعِمُ طُولَ هِجْرَتِهَا وَصُدُودِهَا وَمَنِ الَّذِي تَصِلُ١٠٤٦

مَا أَسْأَرَتْ فِي الْقَعْبِ مِنْ لَبَنٍ تَرَكَتْهُ وَهْوَ المِسْكُ وَالْعَسَلُ١٠٤٧

قَالَتْ: ألَا تَصْحُو فَقُلتُ لَهَا: أعْلَمْتِنِي أَنَّ الْهَوَى ثَمَلُ١٠٤٨

لَوْ أنَّ فَنَّاخُسْرَ صَبَّحَكُمْ وَبَرَزْتِ وَحْدَكِ عَاقَهُ الْغَزَلُ١٠٤٩

وَتَفَرَّقَتْ عَنْكُمْ كَتَائِبُهُ إنَّ المِلَاحَ خَوَادِعٌ قُتُلُ١٠٥٠

مَا كُنْتِ فَاعِلَةً وَضَيْفُكُمُ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَشَأْنُكِ الْبَخَلُ١٠٥١

أتُمَنِّعِينَ قِرًى فَتَفْتَضِحِي أمْ تَبْذُلِينَ لَهُ الَّذِي يَسَلُ؟١٠٥٢

بَلْ لا يَحُلُّ بِحَيْثُ حَلَّ بِهِ بُخْلٌ وَلَا جَوْرٌ وَلَا وَجَلُ١٠٥٣

مَلِكٌ إذَا مَا الرُّمْحُ أدْرَكَهُ طَنَبٌ ذَكَرْنَاهُ فَيَعْتَدِلُ١٠٥٤

إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ قَبْلَهُ عَجَزُوا عَمَّا يَسُوسُ بِهِ فَقَدْ غَفَلُوا١٠٥٥

حتَّى أتَى الدُّنْيَا ابْنُ بَجْدَتِهَا فَشَكَا إلَيْهِ السَّهْلُ وَالْجَبَلُ١٠٥٦

شَكْوَى الْعَليلِ إلَى الْكَفِيلِ لَهُ أنْ لَا تَمُرَّ بِجِسْمِهِ الْعِلَلُ١٠٥٧

قَالَتْ — فَلَا كَذَبَتْ — شَجَاعَتُهُ: أَقْدِمْ فنَفْسُكَ مَا لَهَا أَجَلُ١٠٥٨

فَهْوَ النِّهَايَةُ إنْ جَرَى مَثَلٌ أَوْ قِيلَ يَوْمَ وَغًى مَنِ الْبَطَلُ١٠٥٩

عُدَدُ الْوُفُودِ الْعَامِدِينَ لَهُ دُونَ السِّلَاحِ الشُّكْلُ وَالْعقُلُ١٠٦٠

فَلِشُكْلِهِمْ في خَيْلِهِ عَمَلٌ وَلِعُقْلِهِمْ في بُخْتِهِ شُغُلُ١٠٦١

تُمْسِي عَلَى أَيْدِي مَوَاهِبِهِ هِيَ أَوْ بَقِيَّتُهَا أوِ الْبَدَلُ١٠٦٢

يَشْتَاقُ مِنْ يَدِهِ إلَى سَبَلٍ شَوْقًا إلَيْهِ يَنْبُتُ الْأَسَلُ١٠٦٣

سَبَلٌ تَطُولُ الْمَكْرُمَاتُ بِهِ وَالْمَجْدُ لَا الْحَوْذَانُ وَالنَّفَلُ١٠٦٤

وَإلَى حَصَى أَرْضٍ أقَامَ بِهَا بِالنَّاسِ مِنْ تَقْبِيلِهَا يَلَلُ١٠٦٥

إنْ لَمْ تُخَالِطْهُ ضَوَاحِكُهُمْ فَلِمَنْ تُصَانُ وَتُذخَرُ القُبَلُ؟١٠٦٦

في وَجْهِهِ مِنْ نُورِ خَالِقِهِ قُدَرٌ هِيَ الآيَاتُ وَالرُّسُلُ١٠٦٧

وَإذَا القُلُوبُ أبَتْ حُكُومَتَهُ رَضِيَتْ بِحُكْمِ سُيُوفِهِ الْقُلَلُ١٠٦٨

وَإذَا الْخَمِيسُ أَبَى السُّجُودَ لَهُ سَجَدَتْ لَهُ فِيهِ الْقَنَا الذُّبُلُ١٠٦٩

أرَضِيتَ وَهْشُوَذَانُ مَا حَكَمَتْ أَمْ تَسْتَزِيدَ لِأُمِّكَ الْهَبَلُ؟١٠٧٠

وَرَدَتْ بِلَادَكَ غَيْرَ مُعْمَدَةٍ وَكَأنَّهَا بَيْنَ الْقَنَا شُعَلُ١٠٧١

وَالْقَوْمُ في أَعْيَانِهِمْ خَزَرٌ وَالْخَيْلُ في أَعْيَانِهَا قَبَلُ١٠٧٢

فَأتَوْكَ لَيْسَ بِمَنْ أتَوْا قِبَلٌ بِهِمُ وَلَيْسَ بِمَنْ نَأَوْا خَلَلُ١٠٧٣

لَمْ يَدْرِ مَنْ بالرَّيِّ أَنَّهُمُ فَصَلُوا وَلَا يَدْرِي إذَا قَفَلوا١٠٧٤

فَأتَيْتَ مُعْتَزِمًا وَلَا أسَدٌ وَمَضَيْتَ مُنْهَزِمًا وَلَا وَعِلُ١٠٧٥

تُعْطِي سِلَاحَهُمُ وَرَاحَهُمُ مَا لَمْ تَكُنْ لِتَنَالَهُ المُقَلُ١٠٧٦

أَسْخَى الْمُلوكِ بِنَقْلِ مَمْلَكَةٍ مَنْ كَادَ عَنْهُ الرَّأْسُ يَنْتَقِلُ١٠٧٧

لَوْلَا الْجَهَالَةُ مَا دَلَفْتَ إلَى قَوْمٍ غَرِقْتَ وَإنَّمَا تَفَلُوا١٠٧٨

لَا أقْبَلُوا سِرًّا وَلَا ظَفِرُوا غَدْرًا وَلَا نَصَرَتْهُمُ الْغِيَلُ١٠٧٩

لَا تَلْقَ أَفْرَسَ مِنْكَ تَعْرِفُهُ إلَّا إذَا ضَاقَتْ بِكَ الْحِيَلُ١٠٨٠

لَا يَسْتَحِي أَحَدٌ يُقَالُ لَهُ نَضَلُوكَ آلُ بُوَيْهِ أوْ فَضَلُوا١٠٨١

قَدَرُوا عَفَوْا وَعَدُوا وَفَوْا سُئِلُوا أَغْنَوْا عَلَوْا أَعْلَوْا وَلَوْا عَدَلُوا١٠٨٢

فَوْقَ السَّمَاءِ وَفَوْقَ مَا طَلَبُوا فَإِذَا أَرَادُوا غَايَةً نَزَلُوا١٠٨٣

قَطَعَتْ مَكَارِمُهُمْ صَوَارِمَهُمْ فَإذَا تَعَذَّرَ كَاذِبٌ قَبِلُوا١٠٨٤

لَا يَشْهَرُونَ عَلَى مُخَالِفِهِمْ سَيْفًا يَقُومُ مَقَامَهُ الْعَذَلُ١٠٨٥

فَأَبُو عَلِيٍّ مَنْ بِهِ قَهَرُوا وَأَبُو شُجَاعٍ مَنْ بِهِ كَمَلوا١٠٨٦

حَلَفَتْ لِذَا بَرَكَاتُ غُرَّةِ ذَا فِي الْمَهْدِ أَنْ لَا فَاتَهُمْ أَمَلُ١٠٨٧

وخرج أبو شجاع يتصيد ومعه آلة الصيد، وكان يسير قدام الجيش يَمنة ويَسرة، فلا يرى صيدًا إلا صاده، حتى وصل إلى دشت الأرزن؛ وهو موضع حسن على عشرة فراسخ من شيراز، تحف به الجبال، وفيه غاب ومياه ومروج، فكانت الوحوش تصاد، وإذا اعتصمت بالجبال أخذت الرجال عليها المضايق، فإذا أثخنها النشاب هربت من رءوس الجبال إلى الدشت فتسقط بين يديه؛ فأقام بذلك المكان أيامًا على عين ماء حسنة ومعه أبو الطيب، فوصف الحال وأنشده في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وفي هذه السنة قتل أبو الطيب، قال:


مَا أَجْدَرَ الأيَّامَ وَاللَّيَالِي بِأَنْ تَقُولَ: مَا لَهُ وَمَا لِي؟١٠٨٨

لَا أَنْ يَكُونَ هَكَذَا مَقَالِي فَتًى بِنِيرَانِ الْحُرُوبِ صَالِ١٠٨٩

مِنْهَا شَرَابي وَبِهَا اغْتِسَالِي لَا تَخْطُرُ الْفَحْشَاءُ لِي بِبَالِ١٠٩٠

لَوْ جَذَبَ الزَّرَّادُ مِنْ أَذْيَالِي مُخَيَّرًا لِي صَنْعَتَيْ سِرْبَالِ١٠٩١

مَا سُمْتُهُ سَرْدَ سِوَى سِرْوَالِ وَكَيْفَ لَا وَإنَّمَا إدْلَالِي١٠٩٢

بِفَارِسِ الْمَجْرُوحِ وَالشَّمَالِ أَبي شُجَاعٍ قَاتِلِ الأبْطَالِ١٠٩٣

سَاقِي كُئُوسِ الْمَوْتِ وَالْجِرْيَالِ١٠٩٤ لَمَّا أَصَارَ الْقُفْصَ أَمْسِ الْخَالِي١٠٩٥

وَقَتَّلَ الْكُرْدَ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى اتَّقَتْ بِالْفَرِّ وَالْإجْفَالِ١٠٩٦

فَهَالِكٌ وَطَائِعٌ وَجَالِي وَاقْتَنَصَ الْفُرْسَانَ بالْعَوَالِي١٠٩٧

وَالْعُتُقِ المُحْدَثَةِ الصِّقَالِ سَارَ لِصَيْدِ الْوَحْشِ فِي الْجِبَالِ١٠٩٨

وَفِي رِقَاقِ الْأَرْضِ وَالرِّمَالِ عَلَى دِمَاءِ الإنْسِ وَالأوْصَالِ١٠٩٩

مُنْفَرِدَ الْمُهْرِ عَنِ الرِّعَالِ مِنْ عِظَمِ الهِمَّةِ لَا المَلَالِ١١٠٠

وَشِدَّةِ الضَّنِّ لَا الِاسْتِبْدَالِ مَا يَتَحَرَّكْنَ سِوَى انْسِلَالِ١١٠١

فَهُنَّ يُضْرَبْنَ عَلَى التَّصْهَالِ كُلُّ عَلِيلٍ فَوْقَهَا مُخْتَالِ١١٠٢

يُمْسِكُ فَاهُ خَشْيَةَ السُّعَالِ مِنْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ١١٠٣

فَلَمْ يَئِلْ مَا طَارَ غَيْرَ آلِ وَمَا عَدَا فَانْغَلَّ فِي الْأَدْغَالِ١١٠٤

وَمَا احْتَمَى بِالْمَاءِ وَالدِّحَالِ مِنَ الْحَرَامِ اللَّحْمِ وَالْحَلَالِ١١٠٥

إِنَّ النُّفُوسَ عَدَدُ الآجَالِ سَقْيًا لِدَشْتِ الأرْزُنِ الطُّوَالِ١١٠٦

بَيْنَ المُرُوجِ الْفِيحِ وَالْأَغْيَالِ مُجَاوِرِ الخِنْزِيرِ لِلرِّئْبَالِ١١٠٧

دَانِي الْخَنَانِيصِ مِنَ الأشْبَالِ مُشْتَرِفِ الدُّبِّ عَلَى الْغَزَالِ١١٠٨

مُجْتَمِعِ الأضْدَادِ وَالْأَشْكَالِ١١٠٩

كَأنَّ فَنَّاخُسْرَ ذَا الإفْضَالِ خَافَ عَلَيْهَا عَوَزَ الكَمَالِ

فَجَاءَهَا بِالْفِيلِ وَالفَيَّالِ١١١٠

فَقِيدَتِ الأُيَّلُ فِي الْحِبَالِ طَوْعَ وُهُوقِ الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ١١١١

تَسِيرُ سَيْرَ النَّعَمِ الأرْسَالِ مُعْتَمَّةً بيَبِسِ الأَجْذَالِ١١١٢

وُلِدْنَ تَحْتَ أثْقَلِ الأَحْمَالِ قَدْ مَنَعَتْهُنَّ مِنَ التَّفَالِي١١١٣

لا تَشْرَكُ الأجْسَامَ فِي الْهُزالِ١١١٤ إذا تَلَفَّتْنَ إلى الأظْلَالِ١١١٥

أَرَيْنَهُنَّ أشْنَعَ الأمْثَالِ كَأنَّمَا خُلِقْنَ لِلإذْلَالِ١١١٦

زِيادَةً فِي سُبَّةَ الْجُهَّالِ١١١٧ وَالعُضْوُ لَيْسَ نَافِعًا فِي حَالِ

لِسَائِرِ الْجِسْمِ مِنَ الخَبَالِ١١١٨

وَأوْفَتِ الْفُدْرُ مِنَ الأوْعَالِ مُرْتَدِيَاتٍ بِقِسِيِّ الضَّالِ١١١٩

نَوَاخِسَ الْأطْرَافِ لِلَاكْفَالِ يَكَدْنَ يَنْفُذْنَ مِنَ الآطَالِ١١٢٠

لَهَا لِحًى سُودٌ بِلَا سِبَالِ يَصْلُحْنَ لِلْإضْحَاكِ لَا الإجْلَالِ١١٢١

كُلُّ أَثِيثٍ نَبْتُهَا مُتْفَالِ لَمْ تُغْذَ بالْمِسْكِ وَلَا الْغَوَالِي

تَرْضَى مِنَ الأدْهَانِ بِالْأبْوَالِ وَمِنْ ذَكِيِّ المِسْكِ بِالدِّمَالِ١١٢٢

لَوْ سُرِّحَتْ فِي عَارِضَيْ مُحْتَالِ لَعَدَّهَا مِنْ شَبَكَاتِ المَالِ١١٢٣

بَيْنَ قُضَاةِ السَّوْءِ وَالأطْفَالِ١١٢٤ شَبِيهَةِ الْإدْبَارِ بِالإقْبَالِ

لا تُؤْثِرُ الْوَجْهَ عَلَى الْقَذَالِ١١٢٥ فاخْتَلَفَتْ في وَابِلَيْ نِبَالِ

مِنْ أسْفَلِ الطَّوْدِ وَمِنْ مُعَالِ١١٢٦

قَدْ أوْدَعَتْهَا عَتَلُ الرِّجَالِ في كُلِّ كِبْدٍ كَبِدَيْ نِصَالِ١١٢٧

فَهُنَّ يَهْوِينَ مِنَ الْقِلَالِ مَقْلُوبَةَ الْأَظْلَافِ وَالْإِرْقَالِ١١٢٨

يُرْقِلْنَ في الْجَوِّ عَلَى المَحَالِ فِي طُرُقٍ سَرِيعَةِ الْإِيصَالِ١١٢٩

يَنَمْنَ فِيهَا نِيمَةَ المِكْسَالِ عَلَى الْقُفِيِّ أَعْجَلَ الْعِجَالِ١١٣٠

لَا يَتَشَكَّيْنَ مِنَ الْكَلَالِ وَلَا يُحَاذِرْنَ مِنَ الضَّلَالِ١١٣١

فكَانَ عَنْهَا سَبَبَ التَّرْحَالِ تَشْوِيقُ إِكْثَارٍ إِلَى إِقْلَالِ١١٣٢

فَوَحْشُ نَجْدٍ مِنْهُ في بَلْبَالِ يَخَفْنَ فِي سَلْمَى وَفِي قِيَالِ١١٣٣

نَوَافِرَ الضِّبَابِ وَالْأَوْرَالِ وَالْخَاضِبَاتِ الرُّبْدِ وَالرِّئَالِ١١٣٤

وَالظَّبْيِ وَالْخَنْسَاءِ وَالذَّيَّالِ يَسْمَعْنَ مِنْ أَخْبَارِهِ الْأَزْوَالِ

مَا يَبْعَثُ الْخُرْسَ عَلَى السُّؤَالِ١١٣٥

فُحُولُهَا وَالْعُوذُ وَالْمَتَالِي تَوَدُّ لَوْ يُتْحِفُهَا بِوَالِي١١٣٦

يَرْكَبُهَا بالْخُطْمِ وَالرِّحَالِ يُؤْمِنُهَا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ١١٣٧

وَيَخْمُسُ الْعُشْبَ وَلَا تُبَالِي وَمَاءَ كُلِّ مُسْبِلٍ هَطَّالِ١١٣٨

يَا أقْدَرَ السُّفَّارِ وَالقُفَّالِ لَوْ شِئْتَ صِدْتَ الْأُسْدَ بالثَّعَالِي١١٣٩

أَوْ شِئْتَ غَرَّقْتَ الْعِدَا بِالْآلِ وَلَوْ جَعَلْتَ مَوْضِعَ الْإِلَالِ

لَآلِئًا قَتَلْتَ بِاللَّآلِي١١٤٠

لَمْ يَبْقَ إِلا طَرَدُ السَّعَالِي في الظُّلَمِ الْغَائِبَةِ الْهِلَالِ

عَلَى ظُهُورِ الْإِبِلِ الْأُبَّالِ فَقَدْ بَلَغْتَ غَايَةَ الْآمَالِ١١٤١

فَلَمْ تَدَعْ مِنْهَا سِوَى الْمُحَالِ فِي لَا مَكَانٍ عِنْدَ لَا مَنَالِ١١٤٢

يَا عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَالْمَعَالِي النَّسَبُ الْحَلْيُ وَأَنْتَ الْحَالِي

بِالْأَبِ لَا بِالشَّنْفِ وَالْخَلْخَالِ حَلْيًا تَحَلَّى مِنْكَ بِالْجَمَالِ١١٤٣

وَرُبَّ قُبْحٍ وَحُلًى ثِقَالِ أَحْسَنُ مِنْهَا الْحُسْنُ فِي المِعْطَالِ١١٤٤

فَخْرُ الْفَتَى بِالنَّفْسِ وَالْأفْعَالِ مِنْ قَبْلِهِ بِالْعَمِّ وَالْأَخْوَالِ١١٤٥

هوامش

(١) تأنَّ: تمهل، ويروى: تأيَّ: توقف. والضمير في عده يعود إلى المصدر المفهوم من تأنَّ. وتنيل: تعطي. يقول: أمهل سيرك وترفق في رحيلك واحسب هذا التمهل من جملة ما تعطيه، يعني أنا نعده منك نوالًا وعطاء لو أقمت ساعة. وهو ما ذكر في البيت التالي.

(٢) وجودك: أي وَجُدْ جُودَكَ: مصدر نائب عن عامله منصوب به. والمقام: الإقامة. وقليلًا: خبر كان محذوفة بعد «لو»، واسمها ضمير المقام. يقول جد بالإقامة عندنا ولو كانت قليلة، فإن الذي تجود به لا يعد قليلًا؛ لأن كل ما كان من جهتك فهو كثير وإن قل، كما قال ابن الطثرية:

وَلَيْسَ قَلِيلًا نَظْرَةٌ إِنْ نَظَرْتُهَا إِلَيْكِ وَقُلٌّ مِنْكِ غَيْرُ قَلِيلِ

وكما قال إسحاق الموصلي:

إِنَّ مَا قَلَّ مِنْكِ يَكْثُرُ عِنْدِي وَكَثِيرٌ مِمَّنْ تُحِبُّ الْقَلِيلُ

(٣) الكبت: الإغاظة والإذلال. وأصل الكبت: الكبد فقلبت الدال تاء، أخذ من الكبد، وهو معدن الغيظ والأحقاد، فكأن الغيظ لما بلغ بصاحبه مبلغه أصاب كبده فأحرقه؛ لهذا يقال للأعداء: هم سود الأكباد. وأري: من الوري، وهو إصابة الرئة. وقال أهل اللغة: الوري — على مثال الرمي — قرح شديد يقاء منه القيح والدم، والعرب تقول للبغيض إذا سعل: وريا وقحابا، وللحبيب إذا عطس: رعيًا وشبابا. وفي الحديث: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا.» يقول المتنبي: جد بالإقامة لأكبت من يحسدني على قربك وأوجع رئة عدوي. ثم شبه الحاسد والعدو بوداعه وارتحاله؛ لأنهما يلذعان قلبه ويوجعانه. وقال أبو تمام في قبح الوداع:

قَبُحْتَ وَزِدْتَ فَوْقَ الْقُبْحِ حَتَّى كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ مِنَ الْوَدَاعِ

(٤) ويهدأ: عطف على أكبت. وتغلب: قبيلة الممدوح. والحيا: المطر. والقبيل: العشيرة. يقول: أقم بنا حتى يسكن هذا السحاب ويمسك عن المطر خجلًا من أياديك الغزار فقد أفرط حتى شككنا: أبنو تغلب قبيلكم أم مطر هذا السحاب؟ شبههم بالمطر في الكثرة. وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:

فقلت: نَدَى السماءِ أم ابنُ وَهْبٍ تَجَلَّى نُورُهُ أَمْ عَاشَ وَهْبُ؟

(٥) يقول: كنت فيما مضى أعيب من يلوم على الجود، فلما رأيت إفراط سيف الدولة في الجود صرت ألومه. قال أبو تمام:

عَطَاءٌ لَوِ اسْطَاعَ الَّذِي يَسْتَمِيحُهُ لأَصْبَحَ مِنْ بَيْنَ الْوَرَى وَهْوَ عَاذِلُ

وقال البحتري:

إِلَى مُسْرِفٍ فِي الْجُودِ لَوْ أَنَّ حَاتِمًا لَدَيْهِ لَأَضْحَى حَاتِمٌ وَهْوَ عَاذِلُهُ

وقال ابن القطاع: الضمير في «له» للسحاب؛ يعني صرت الآن ألوم السحاب لإفراطه في السماح مخافة أن يكدر عليه الطريق.

(٦) النبو: الكلال. وسيف الدولة: مبتدأ، خبره: ما بعده، والجملة حال. يقول: لا أخشى أن تعجز عن قطع الطريق وأنت سيف الدولة الماضي الصقيل، والسيف إذا كان ماضيًا لا يخاف عليه الكلال. يريد: إني لم أطلب إليك عدم الرحيل في المطر خشية أن تعجز عن التغلب على الطريق.

(٧) الشواة: جلدة الرأس، وجمعها شوى. والغطريف: السيد الكريم في قومه وتمنى — بحذف إحدى التاءين — أي تتمنى. والمفرق: وسط الرأس. يقول: إن كل سيد شريف يتمنى أن يكون مفرق رأسه طريقًا لسيرك، يعني لشرفك لا يستنكف السيد من وطئك رأسه، بل يتمنى ذلك تشرفًا بك. وفي هذا نظر إلى قول أبي تمام:

مَضَى طَاهِرَ الْأَثْوَابِ لَمْ تَبْقَ بُقْعَةٌ غَدَاةَ ثَوَى إِلَّا اشْتَهَتْ أَنَّهَا قَبْرُ

(٨) ومثل العمق: أي ورب مكان مثل العمق. والعمق: الموضع العميق. وقيل: وادٍ بعينه. يقول: ورب مكان عميق مثل هذا المكان قد حمي فيه الوطيس حتى امتلأ من دماء القتلى جرت بك الخيل في مجاريه ولم تكترث لذلك، فكيف أخشى عليك قطع الطريق؟ وقد زاد ذلك إيضاحًا بالبيت التالي.

(٩) المنايا: جمع منية؛ الموت. والوحول: جمع وحل؛ ما يبقى في الأرض من آثار المطر. يقول: إذا تعود الإنسان خوض المهالك التي هي أسباب المنايا لم يبالِ بالوحول. يريد أن الوحل لا يمنعه من السفر؛ لأنه تعود أن يخوض ما هو أشد من الوحل.

(١٠) الحزونة: جمع حزن؛ ما خشن من الأرض. وصعب: ضد السهل. يقول: من تطيعه حصون الأعداء وتنفتح له لم يعصه مكان من الحزن والسهل؛ أي لم يمتنع عليه ولم يصعب سلوكه.

(١١) نشر الله الميت وأنشره: بعثه وأحياه. والخمول: سقوط الذكر. والخامل: الساقط الذي لا نباهة له. والاستفهام: للتعجب. يقول: كل من نكبته الليالي وأصابته بالمحن تخفره وتجيره منها بإحسانك، وكل من أماته الخمول تحييه فتشهره وترفع ذكره بإنعامك عليه. قال ابن وكيع: وهذا البيت منقول من قول ابن الرومي:

نَشَرْتُكَ مِنْ مَوْتِ الْخمولِ بِقُدْرَةٍ لِمَا هُوَ أَدْهَى لَوْ عَلِمْتَ وَأَنْكَرُ

(من أبيات يهجو بها ابن الرومي خالدًا القحطبي، وقبله:

أَخَالِد أَعْيَيْتَ الْهِجَاءَ وَفَنَّهُ فَقَوْلِي وَإِنْ أَبْلَغْتُ فِيكَ مُقَصِّرُ

وبعده:

وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ لِامْرِئٍ مِنْ نُشُورِهِ إِذَا كَانَ لِلتَّخْلِيدِ فِي النَّاسِ يُنْشَرُ)

هذا: ويقال خفر الرجل يخفر خفرًا: أجاره ومنعه وأمنه، وكان له خفيرًا يمنعه، وكذلك خفره تخفيرًا، قال أبو جندب الهذلي:

وَلَكِنَّنِي جَمْرُ الْغَضى مِنْ وَرَائِهِ يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إِذَا لَمْ أُخَفَّر

والاسم من ذلك: الخفرة والخَفارة والخُفارة — بالفتح والضم — ويقال: أخفرته إذا بعثت معه خفيرا، وأخفرت الرجل: إذا نقضت عهده وغدرت به، وأخفر الذمة: لم يف بها.

(١٢) الحسام: السيف القاطع. يقول: نسميك الحسام وعادة الحسام أن يقطع الآجال، وأنت حسام يعيش به القتيل؛ أي أنك تحيي من قتله الفقر وأماته الذل بجودك — كما بين ذلك في البيت التالي.

(١٣) يقول: إن فعل السيف هو القطع فقط، أما أنت فقد اجتمع فيك الوصل والقطع؛ لأنك تصل الأولياء وتقطع الأعداء. والقطع: منصوب؛ لأنه استثناء مقدم. ومثله قول الكميت:

وَمَالِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ وَمَالِيَ إِلَّا مَذْهَبَ الْحَقِّ مَذْهَبُ

والبر: المحسن. والوصول. الذي يصل الناس؛ أي يجيزهم بالعطاء.

(١٤) يقول: أنت الفارس الرابط الجأش الذي يصبر الجيوش ويقول لهم: اصبروا صبرًا على عض الحرب، وقد عظم الخطب واشتد القتال، فلا يقدر الرجل على الكلام ولا الفرس على الصهيل. فقوله صبرًا: مفعول مطلق، نائب عن عامله، وهو مقول القول.

(١٥) وفيه قصد: أي استقامة. يقول: قد بلغت من المهابة والشرف أن الجماد يعرفك؛ فالرمح يخافك فيحيد عنك ويميل، مع أن فيه قصدًا إذا طعن به غيرك ويقصر عن أن ينالك مع طوله هيبةً لك. والمعنى أن الأبطال تتحاماه في الحروب فلا تجترئ على مطاعنته.

(١٦) يقول: لو كان الرمح يقدر على الكلام لقال: أنا أحيد عنك وأقصر — مع طولي — عن طعنك لهيبتك وشرفك. وهذا من قول الآخر:

إِنَّ السِّنَانَ وَصَدْرَ السَّيْفِ لَوْ نَطَقَا لَخَبَّرَا عَنْكَ يَوْمَ الرَّوْعِ بِالْعجبِ

وللحصني:

يُثْنِى عَلَيْكَ إِذَا النُّفُوسُ تَطَايَرَتْ حَدُّ الْمُهَنَّدِ وَالسِّنَانُ اللَّهْذَمُ

وأصله قول عنترة:

لَوْ كَانَ يَعْلَمُ مَا الْمُحَاوَرَةُ اشْتَكَى وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الْكَلَامَ مُكَلِّمِي

(١٧) يقول: لو جاز أن يخلد إنسان لخلدت وحدك لما جمع الله فيك من الفضائل، ولكن الدنيا لا تخلد أحدًا وشنشنتها إفناء خلانها، فهي مطبوعة على الغدر، وإلا لخلدتك. وهذا من قول عدي بن زيد:

فَلَوْ كَانَ حَيٌّ فِي الْحَيَاةِ مُخَلَّدًا لَخلدتَ، لَكِنْ لَيْسَ حَيُّ بِخَالِدِ

ومثله لمحمد بن يزيد المهلبي:

لَوْ خَلَّدَ اللهُ مَخْلُوقًا لِنَجْدَتِهِ لَكَانَ رَبُّكَ فِي الدُّنْيَا مُخَلِّدَهُ

(١٨) المشرفية: السيوف. والمراد بالعوالي: الرماح. والمنون: المنية، وقيل: الدهر، ومن ثم يؤنث ويذكر، ويكون واحدًا وجمعًا. يقول: نعد السيوف والرماح لمنازلة الأعداء ومدافعة الأقران، ولكن المنية تخترم نفوسنا وتقتل من تقتله منا من غير قتال، فلا تغني عنا تلك الأسلحة شيئًا.

(١٩) السوابق: الخيل. والمقربات: المدناة من البيوت، إما لفرط الحاجة أو للضن بها، فلا ترسل إلى الرعي. والخبب: ضرب من العدو — الجري — لا يستفرغ الجهد. يقول: ونرتبط الخيول الكريمة لتنجو بنا إذا ألم بنا حادث، ومع هذا لا تنجينا من سعي الليالي، وخببها في آثارنا؛ فإنها تقتلنا وتدركنا حيثما كنا. وبديع قول عبد الله بن طاهر في الدهر:

كَأَنَّنَا فِي حُرُوبٍ مِنْ حَوَادِثِهِ فَنَحْنُ مِنْ بَيْن مَجْرُوحٍ وَمَطْعُونِ

(٢٠) من: استفهام إنكاري. وقوله إلى الوصال: يُروى إلى وصال؛ أي مواصلة. يقول: من الذي لم يعشق الدنيا من قديم الدهر؟ أي أن كل أحد يهواها، ولكن لا سبيل إلى دوام وصالها، فقوله إلى الوصال: أي إلى دوام الوصال، فكثير من عشاقها واصلها وواصلته، ولكنها لا تدوم على الوصال.

(٢١) نصيبك — الأول — مبتدأ، خبره: نصيبك — الثاني — يقول: إن حظ الإنسان من وصال حبيبه في حياته كحظه من وصال خياله في منامه؛ فإن ذلك الوصال ينقطع عن قريب بالموت، كما ينقطع التمتع بخيال الحبيب بالانتباه. جعل العمر كالمنام والموت كالانتباه من المنام، كما قال أبو تمام:

ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونُ وَأَهْلُهَا فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُمْ أَحْلَامُ

وقال التهامي:

فَالْعَيْشُ نَوْمٌ وَالْمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا خَيَالٌ سَارِي

(٢٢) الأرزاء: جمع رزء؛ المصيبة. وحتى: ابتدائية. والغشاء: ما يغطي الشيء. يقول: كثرت عليَّ أرزاء الدهر وترادفت على قلبي فجائعه حتى لم يبقَ منه موضع إلا أصابه سهم منها فصار في غلاف من سهام الدهر.

(٢٣) النصال: جمع نصل؛ الحديدة التي في السهم. يقول: فصرت الآن إذا رماني الدهر بسهامه لم تصل إلى قلبي؛ إذ لا تجد لها موضعًا للإصابة، وإنما تتكسر نصالها على النصال التي قبلها؛ لأنها تصطك بعضها ببعض. قال الواحدي: وهذا تمثيل معناه أن الأرزاء توالت عليَّ حتى هانت عندي، والشيء إذا كثر اعتاده الإنسان كما صرح بذلك في البيت التالي. وإليك إحدى مماحكات ابن وكيع — وما أكثر ما يتجنى على المتنبي — قال: لا يصح معنى البيت إلا أن يكون يرمى من جنبيه فيبلغ نصل الجانب الأيمن نصل الجانب الأيسر، وأما أن يكون الرمي من ناحية واحدة فلا يصح ذلك، ولو قال كما قال عمر بن المبارك لصح:

لَمْ يَنْتَظِرْنَ فتستبيك قُلُوبٌ حَتَّى رَمَيْنَ فَرَشْقُهنَّ مُصِيبُ

نَجْلٌ يُتَبِّعْنَ السِّهَامَ بِمِثْلِهَا فَلَهُنَّ مِنْ تَحْتِ النُّدُوبِ نُدُوبُ

فهذا كلام يصح مثله؛ لأن الندوب القديمة يتبعن ندوبًا حديثة. ومثله لأخي ذي الرمة:

وَلَمْ يُنْسِنِي أَوْفَى الْمُصِيبَاتُ بَعْدَهُ وَلَكِنَّ نَكْأَ الْقَرْحِ بِالْقَرْحِ أَوْجَعُ

(قيل: إن إخوة ذي الرمة هم: مسعود وهشام وجرفاس، وأن مسعودًا رثى بشعره هذا أخاه غيلان وأوفى بن دلهم ابن عمهما، وقيل: كانوا أربعة؛ غيلان ومسعود وهشام وأوفى وكلهم شعراء، كان أحدهم يقول الأبيات فيزيد فيها ذو الرمة ويغلب عليها، وقبل هذا البيت:

تَعَزَّيْتُ عَنْ أَوْفَى بِغَيلَانَ بَعْدَهُ عَزَاءً وَجَفْنُ الْعَيْنِ مَلْآنُ مُتْرَعُ

نَعَى الرَّكْبُ أَوْفَى حِينَ وَافَتْ رِكَابُهُمْ لَعَمْرِي لَقَدْ جَاءُوا بِشَرٍّ وَأَوْجَعُوا

نَعَوْا بَاسِقَ الْأَخْلَاقِ لَا يُخْلِفُونَهُ تَكَادُ الْجِبَالُ الصُّمُّ مِنْهُ تَصَدَّعُ

خَوَى الْمَسْجِدُ الْمَعْمُورُ بَعْدَ ابْنِ دَلْهَمٍ وَأَمْسَى بِأَوْفَى قَوْمُهُ قَدْ تَضَعْضَعُوا)

(٢٤) ضمير هان للدهر أو لرميه لدلالة قوله: رماني الدهر. يقول: وهان الدهر عليَّ فلا أحفل بمصائبه علمًا بأنه لا ينفع الحذر ولا المبالاة. وهذا من قول الحماسي:

وَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي عَلَى الْبَيْنِ تَنْطَوِي وَعَيْنِي عَلَى فَقْدِ الْحَبِيبِ تَنَامُ

وَفَارَقْتُ حَتَّى مَا أُبَالِي مِنَ النَّوَى وَإِن بَانَ جِيرَان عَلَيَّ كِرَامُ

ومثله قول الخريمي:

صَبَرْتُ فَكَانَ الصَّبْرُ خَيْرَ مَغَبَّةٍ وَهَلْ جزعٌ أَجْدَى عَلَيَّ فَأَجْزَعُ؟!

ويروى بدل هان فما أبالي: وها أنا ما أبالي.

(٢٥) يقول: هذا الناعي — وكان نعيها ورد إلى أنطاكية — أول الناعين جميعًا لأول امرأة ماتت في هذا الجلال؛ يعني لم تمت امرأة قبلها أجلُّ منها، وميتة — بفتح الميم — أي ميتة، فخففت. ورويت: مِيتة — بكسر الميم — يعني الحال التي ماتت عليها، قال الواحدي والرواية الأولى أوجه؛ لأنه أراد أول الأموات ولم يرد أول الأحوال. هذا، وقولهم: جاءني القوم طرًّا؛ أي جميعًا منصوب على المصدر أو الحال، قالوا: ولا تستعمل إلا حالًا، واستعملها خصيب النصراني المتطبب في غير الحال. وقيل له: كيف أنت؟ فقال: أحمد الله إلى طرِّ خلقه، قال ابن سيده: أنبأني بذلك أبو العلاء. وفي نوادر الأعراب: رأيت بني فلان بطرٍّ؛ إذا رأيتهم بأجمعهم. والناعون: جمع ناعٍ، وهو الذي يأتي بخبر الميت. والنعي والنعي: خبر الموت أو الدعاء بموت الميت، والإشعار به، نعاه ينعاه نعيًا ونعيانًا، وقال الجوهري: كانت العرب إذا مات منهم ميت له قدر وشرف ركب راكب فرسًا وجعل يسير في الناس ويقول: نعاءِ فلانًا؛ أي انعه وأظهر خبر وفاته، وقال ابن الأثير: أي هلك فلان أو هلكت العرب بموت فلان، وهي مبنية على الكسر مثل قطام ودراك ونزال، بمعنى أدرك وانزل، وأنشدوا للكميت:

نعاءِ جُذَامًا غَيْرَ مَوْتٍ وَلَا قَتْلِ وَلَكِنْ فِرَاقًا لِلدَّعَائِمِ وَالْأَصْلِ

(٢٦) يستعظم موت هذه المرأة حتى كأن الناس لم يروا موتًا ولم يخطر على قلب أحد منهم قبلها، وموت العظيم يعظم عند الناس مع فشو الموت وعمومه. ومن بديع ما قيل في الموت — وليس من قبيل بيت المتنبي، ولكنه ينظر إليه من بعيد — قول الحسن البصري: ما رأيت حقًّا أشبه بباطل من الموت. وقال البحتري:

ولَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ

وقال زين العابدين أو جرير:

نُرَاعُ إِذَا الْجَنَائِزُ وَاجَهَتْنَا وَنَلْهُو حِينَ تَغْدُو رَائِحَاتِ

كَرَوْعَةِ ثُلَّةٍ لِمَغَارِ ذِئْبٍ فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ

(الثلة: القطيع من الغنم.)

وأخذه محمد بن وهب فقال:

نُرَاعُ لِذِكْرِ الْمَوْتِ سَاعَةَ ذِكْرِهِ وَتَعْتَرِضُ الدُّنْيَا فَنَلْهُو وَنَلْعَبُ

يَقِينٌ كَأَنَّ الشَّكَّ أَغْلَبُ أَمْرِهِ عَلَيْهِ وَعِرْفَانٌ إِلَى الْجَهْلِ يُنْسَبُ

(٢٧) صلاة الله: مغفرته ورحمته. والحنوط: طيب يخلط لغسل الميت؛ يدعو لها بأن تكون رحمة الله لها بمنزلة الحنوط للميت، وجمال وجهها مكفنًا بالجمال، كأن الجمال كفن لوجهها، وفي ذلك إشارة إلى أن الموت لم يغير محاسنها، وكأنه يقول: رحم الله وجهها الجميل. قال ابن وكيع: وصفه أم الملك بالوجه الجميل غير مختار، وهو من قول النمري:

تَحِيَّاتٌ وَمَغْفِرَةٌ وَرَوْحٌ عَلَى تِلْكَ الْمَحلَّةِ وَالْحُلُولِ

وعبارة ابن الإفليلي: رحمة الله ورضوانه حنوط هذه المرأة التي غيبها الجمال كما غيبها الكفن وسترها كما سترها القبر فكانت مستورة من أعين الناس.

(٢٨) على المدفون: بدل من قوله: على الوجه — في البيت السابق — وذكر على إرادة الشخص. وصونًا: مفعول له. واللحد: الشق في جانب القبر. والخلال: الخصال يقول: إنها كانت مدفونة بالصون قبل أن تدفن في الترب، وقبل أن تدفن في اللحد كانت مدفونة في كرم الخلال؛ أي إنها كانت محجبة مستورة قبل أن تستر بالتراب، وكان كرم خصالها يمنعها ويعفها عن كل ما لا يليق قبل أن تحمل إلى اللحد.

(٢٩) ذكرناه: أي ذكرنا إياه، فاعل جديدًا. ووضع الضمير المتصل موضع الضمير المنفصل جائز، ومثله قوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوهَا، وأنشد سيبويه:

وَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ لِضَغْمِهِمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا

(الضغم: العض ما كان، وقيل أن يملأ فمه مما أهوى إليه، ومنه سمي الأسد ضيغمًا — بزيادة الياء — قال الشنتمري: وصف هذا الشاعر عضة أصابه بها رجلان فيقول: قد جعلت نفسي تطيب لإصابتهما بمثل الشدة التي أصاباني بها، وضرب الضغمة مثلًا ثم وصف الضغمة فقال: يقرع العظم نابها فجعل لها نابًا على السعة، والمعنى يصل الناب فيها إلى العظم فيقرعه. قال: واسم هذا الشاعر مغلس بن لقيط الأسدي والرجلان من قومه وهما مدرك ومرة، وقبله:

سَقَيْتُكُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ شَرْبَةً يَمُرُّ عَلَى بَاغِي الظَّلَامِ شَرَابُهَا

«والظلام: جمع ظلامة».)

يقول: إن شخصه وإن كان يبلى في القبر إلا أن ذكرنا إياه جديد باقٍ أبدًا لا يبلى، قال الخريمي:

وَإِنْ تَكُ لِلْبِلَى أَمْسَيْتَ رَهْنًا فَقَدْ أَبْقَيْتَ مْجدًا غَيْرَ بَالِي

(٣٠) الخوالي: المواضي. يقول: مت في العز والعفاف، فموتك كان موتًا يتمنى مثله من بقي من النساء ومن مضى منهن. وهذا يسلي النفس عنك إذ فزت بخيري الدنيا والآخرة.

(٣١) يقول: ومما يسلي النفس عنك أنك فارقتنا دون أن تري يومًا كريهًا يبغض لك عيشك ويحبب الموت إليك حتى يسر الروح بفراق البدن في مثل هذه الحال، وهذا من قول بعضهم:

وَهَوَّنَ مِنْ وَجْدِي وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ سَلَامَتُهَا بِالْمَوْتِ مِنْ جَرْعَةِ الثُّكْلِ

(٣٢) مسبطر: ممتد. ويروى: مستظل ومستطيل، وقد أنكر الصاحب بن عباد لفظة مسبطر، قال: إن ذكرها في مرثية النساء من الخذلان المبين … والصاحب مولع بنقد المتنبي وذمه بالحق وبالباطل، وإلا فالكلمة لا غبار عليها. وقال العروضي: سمعت أبا بكر الشعراني خادم المتنبي يقول: قدم علينا المتنبي وقرأنا عليه شعره فأنكر هذه اللفظة، وقال مستظل، قال العروضي: وإنما غيرها الصاحب وأنكرها عليه. يقول: مت وأنت في هذه الحال من العز المتطاول والملك الكامل من ملك ابنك.

(٣٣) المثوى: المنزل؛ يريد قبرها الذي أقامت به. والغادي: السحاب يغدو بالمطر. والنوال: العطاء. يدعو لها بأن يسقي قبرها سحاب يفضل السحاب فيضًا كما كان عطاء كفها يفضل عطاء الأكف سخاء. وفيه إشارة إلى أنها كانت كثيرة العطاء.

(٣٤) الساحي: الذي يقشر الأرض بشدة انصبابه. والأجداث: القبور. والحفش: شدة الوقع، ويقال حفشت السماء حفشًا: إذا جادت بالمطر. وحفشت الأودية: سالت. والمخالي: جمع مخلاة؛ الوعاء الذي يجعل فيه التبن والشعير للدابة. بالغ في وصف المطر حيث جعله في إلحاحه على القبر بالقشر كأيدي الخيل إذا رأت مخالي الشعير فإنها تنشط وتحفر الأرض بقوائمها. قال الواحدي: وليس هذا من مختار الكلام ولا من المستحسن أن يسأل السقيا لقبر بمطر يحفر حفر أيدي الخيل. وقال ابن جني: الغرض من الدعاء للقبور بالغيث؛ الإنبات وما يدعو الناس إلى الحلول والإقامة، وهو مذهب العرب، ألا ترى إلى قول النابغة:

وَلَا زَالَ قَبْرٌ بَيْنَ بُصْرَى وَجَاسِمٍ عَلَيْهِ مِنَ الْوَسْمِيِّ سَحٌّ وَوَابِلُ

فَيُنْبِتُ حَوْذَانًا وَعَوْفًا مُنَوِّرًا سَأُتْبِعُهُ مِنْ خَيْرِ مَا قَالَ قَائِلُ

(الحوذان: نبت يرتفع قدر الذراع، له زهرة حمراء في أصلها صفرة، وورقته مدورة. والحافر يسمن عليه، وهو من نبات السهل، حلو طيب الطعم. والعوف: نبت طيب الريح.)

وكلما اشتد المطر كان أجم لنباته وأمرع له.

(٣٥) يقول: لم أرَ مجدًا خاليًا منك أيام حياتك فأنا بعد وفاتك أسأل عنك كل مجد؛ لأنك كنت صاحبته الملازمة له، فأنا أطلبك منه كما يطلب الإنسان ممن طالت صحبته معه. وقوله: خالي؛ إما جعلته نعتًا لمجد — أي ليس لي عهد بمجد خالٍ عنك — وإما جعلته حالًا سادة مسد الخبر، كما تقول: عهدي بك شجاعًا. وأسكنه للضرورة، أو على لغة من يقول: رأيت قاضي.

(٣٦) العافي: السائل وطالب المعروف. يقول: إذا مر بقبرها السائل ذكر ما كان يشمله منها فبكى وشغله البكاء عن أن يسألها كعادته. قال البحتري:

فَلَمْ يَدْرِ رَسْمُ الدَّارِ كَيْفَ يُجِيبُنَا! وَلا نَحْنُ مِنْ فَرْطِ الْبُكَا كَيْفَ نَسْأَلُ!

(٣٧) ما — في ما أهداك — تعجبية. والجدوى: العطاء والإفضال. والفعال: الفعل الحسن. يقول: ما أعرفك بالإفضال على العافي! ولكن الموت حال بينك وبين العطاء، ولولا ذلك لكنت تعطينه وإن لم يسأل كعادتك في الحياة.

(٣٨) قال الواحدي: يقسم عليها بحياتها، يقول لها: هل سلوت عن حب النوال فإن قلبي وإن بعدت عنك غير سالٍ عن نوالك؟ وقال ابن جني وآخرون: هذا مما وضعه في غير موضعه، ولا يجوز أن يُرثى بمثل هذا، قالوا: والمعنى هل سلوت عن الحياة فإني غير سال عن الحزن عليك، أذكرك وإن كنت بعيدًا عن أرضك، وأندبك وإن كنت منتزحًا عن موضعك.

(٣٩) على: بمعنى مع، وجملة بعدت … إلخ: نعت لمكان، والعائد محذوف: أي بعدت فيه. والنعامى: ريح الجنوب، سميت بذلك؛ لأنها أبل الرياح وأرطبها وأنعمها. والشمال: الريح التي تهب من ناحية القطب. يقول: نزلت — على كراهتنا لنزولك — في مكان لا يصيبك فيه نسيم الرياح.

(٤٠) الخزامى: نبت طيب الريح. والطلال: جمع طل؛ المطر الخفيف. يقول: وحجبت عنك روائح الأزهار لا تصل إليك وكذلك ندى الأمطار. يشير إلى ما كان يحيط بها في حياتها من الرياض والبساتين، وإنما حرمت ذلك بعد وفاتها.

(٤١) أراد بالدار: القبر. ومنبت: منقطع. ومن سكن القبر بعد عن أهله وعشيرته وطال هجره إياهم، وانقطع وصاله عنهم. فالمراد بالحبال: الشمل. وهذا ينظر إلى قول إبراهيم بن المهدي:

تَبَدَّلَ دارًا غَيْرَ دَارِي وَجِيرَة سِوَايَ وَأَحْدَاثُ الزَّمَانِ تَنُوبُ

أَقَامَ بِهَا مُسْتَوْطِنًا غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى طُولِ أَيَّامِ الْمُقَامِ غَرِيبُ

(٤٢) الحصان: العفيفة. وحصان: مبتدأ، وفيه: خبر. والمزن: السحاب. يقول في هذا المكان امرأة عفيفة مثل ماء المزن في النقاء والطهارة، كاتمة للسر، صادقة في القول.

(٤٣) يعللها: أي يعالجها من علتها. والنطاسي: الطبيب الحاذق. والشكايا: واحد شكوى؛ يريد الأمراض التي تشكى، وأراد بواحدها: ابنها سيف الدولة الذي هو واحد الناس. والواو: للحال. يقول يعالجها قبل موتها ليزيل علتها طبيب الأمراض، والحال أن ابنها طبيب المعالي؛ أي العالم بأدواء المعالي فيزيلها عنها حتى تصح معاليه فلا يدركها نقص أو عاب.

(٤٤) الثغر: موضع المخافة من فروج البلدان. والأسل: الرماح. جعل انتقاض الثغر عليه بمنزلة الداء، ولما استعار لذلك اسم الداء استعار السقي لنفي ذلك الداء عنه بالرماح لتجانس الكلام؛ إذ يلاحظ أن الثغر يكون بمعنى الفم أيضًا، فزاد الاستعارة بذلك حسنًا. يقول: إذا ذكروا له انتقاض ثغر من ثغور المسلمين لغلبة الكفار نفاهم عنه بأسنة الرماح فعاد إلى الطاعة. يعني: ولكنه مع ذلك لم يدفع عنك الموت؛ لأنه لا دافع له، والأصل في هذا المعنى قول ليلى الأخيلية:

إِذَا هَبَطَ الْحَجَّاجُ أَرْضًا مَرِيضَةً تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا

شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا

وقال أبو تمام:

وَقَدْ نُكِسَ الثَّغْرُ فَابْعث لَهُ صُدُورَ الْقَنَا فِي ابْتِغَاءِ الدَّوَاءِ

(٤٥) الحجال: جمع حجلة؛ بيت صغير في جوف البيت يستر النساء. يقول: ليست كغيرها من النساء اللواتي يعد لها القبر سترًا؛ لأنها كانت مصونة مستورة قبل أن تستر بالقبر.

(٤٦) الجنازة — بالفتح والكسر — واحد، وقيل: بالفتح، النعش إذا كان الميت فيه، وبالكسر: النعش وحده. والتجار: جمع تَجر — بالفتح — جمع تاجر، مثل: صحاب وصحب. يقول: ولم تكن من نساء السوقة يتبع جنازتها تجار وباعة ينفضون النعال من التراب إذا انصرفوا عن القبر؛ أي أنها كانت ملكة.

(٤٧) حوليها: كحولها، تقول: حولك وحوليك وحواليك وحوالك: الجميع بمعنى واحد. والمرو: حجارة بيض براقة. والزف: صغار الريش. والرئال: جمع رأل، وهو ولد النعام. يقول: لشرفها وشرف ابنها شيعها الأمراء ومشوا حواليها حفاة يطئون الحجارة فلا يحسون غلظها لشدة الحزن كأنهم يطئون ريش النعام.

(٤٨) النقس: المداد. والغوالي: جمع الغالية؛ أخلاط من الطيب يتضمخ بها. يقول: خرجت لموتها نساء كن مخبآت في الخدور غير مباليات بالتستر وهن يسودن وجوههن بالمداد مكان الغالية التي كن يتطيبن بها حزنًا للمصيبة بموتها. ولعله يريد جواري المرثية، وهذا منقول من قول بعضهم:

قَدْ كَانَتِ الْأَبْكَارُ بِيضًا فَاغْتَدَتْ سُودًا لِفَقْدِكَ أَوْجُهُ الْأَبْكَارِ

وَهَتَكْنَ أَسْتَارَ الْحَيَاءِ وَطَالَمَا سُتِرَتْ مَحَاسِنُهُنَّ بِالْأَسْتَارِ

وَظَهَرْنَ لِلْأَبْصَارِ بَعْدَ تَسَتُّرٍ بِالْحُجُبِ دُونَ لَوَاحِظِ الْأَبْصَارِ

ومثله:

قَدْ كُنَّ يخبأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّرًا فَالْآنَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ

(٤٩) يقول: فجعن بفقدها على حين غفلة. فبينا هن يبكين دلالًا على سبيل الدعاية إذ بكين حزنًا، فاختلط الدمعان، فهن يبدين الدلال مع الحزن والذلة مع الحسن.

(٥٠) يقول: لو كان نساء العالم كهذه المرثية في الكمال لفضلن على الرجال. يعني أن هذه المرثية كانت أفضل من الرجال، فلو أشبهها غيرها من النساء لكن مثلها في الفضل — أي فضلهن على الرجال — قال ابن وكيع: وهذا ينظر إلى قول علي بن الجهم:

إِذَا مَا عُدَّ مِثْلُكُمُ رِجَالًا فَمَا فَضْلُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ

(٥١) ما — هنا — تميمية، ولك أن تجعلها حجازية فتنصب «عيب» و«فخر». يقول: لم تزرِ بها الأنوثة، كما لا يزري بالشمس تأنيث اسمها، والذكورة لا تُعَدُّ فضيلةً في أَحَدٍ كما لا يحصل للقمر فخر بتذكير اسمه:

وَالشَّمْسُ لَيْسَ بِضَائِرٍ تَأْنِيثُهَا وَتَزِيدُ بِالنُّورِ الْمُنِيرِ عَلَى الْقَمَرْ

(٥٢) أفجع: مبتدأ، خبره: من وجدنا. ومفقود المثال: مفعول ثانٍ لوجدنا. يقول: أشد المفقودين فجعةً على الفاقدين من كان مفقودَ النظير في حال حياته، فإن من وجد له نظير يتسلى عنه بوجود نظيره، وبمَن يتسلى عمَّن لا نظير له؟

(٥٣) الهام. الرءوس. ويريد بالأوالي: الأوائل، فقلب، وهو كثير في كلامهم. يقول: ندفن أمواتنا ونمشي على رءوسهم بعد الموت. يعني لا نخلو من فقدٍ ودفن ثم لا نعتبر بمن ندفن، بل ندوس عليهم غير معتبرين بهم، والأصل في هذا المعنى قول النابغة:

حَسْبُ الْخَلِيلَيْنِ أَنَّ الْأَرْضَ بَيْنَهُمَا هَذَا عَلَيْهَا وَهَذَا تَحْتَهَا بَالِي

(٥٤) النواحي: الجوانب. وكحيل: بمعنى مكحولة، خبر «كم». يقول: كم عينٍ كانت تقبَّل إعزازًا وإكرامًا فصارت تحت الأرض مكحولة بالرمل والحجارة!

(٥٥) أغضى الرجل عينه: قارب بين جفنيها، هذا أصل الإغضاء، ثم استعمل في الحِلم، فقيل: أغضى على القذى؛ إذا أمسك عفوًا عنه. والخطب: الأمر العظيم. والهزال: النحول. يقول: وكم من إنسان أغضى للموت وكان لا يغضي لنزول خطب به، وكم من بالٍ تحت التراب وكان إذا رأى في جسمه هُزالًا يشتغل قلبه به ويفكر في علاجه! وهذا ينظر إلى قول البحتري يرثي غلامه قيصر:

وَأَصْفَحُ لِلْبِلَى عَنْ ضَوْءِ وَجْهٍ غَنِيتُ يَرُوعُنِي فِيهِ الشُّحُوبُ

(٥٦) يقول: استعن بالصبر على هذا الرزء الذي فجعت به، فأنت أهل الصبر الثابت على الأرزاء حتى لفقت الجبال في هذا وبودها أن تكون مثلك في ثباتك.

(٥٧) الحرب السجال: التي تكون مرة لك ومرة عليك. يقول: مثلك في غنًى عن أن يصبر ويعزى، فقد ألفت الخطوب وتمرست بشدائد الدهر وغمرات الحروب حتى تعودت الصبر وصرت تصبر الناس فصرت في غنًى عن أن تصبر.

(٥٨) شتى: جمع شتيت، بمعنى متفرق. يقول: يتلون الزمان وتختلف حالاته عليك من الصفو والكدر، ومع ذلك لا تتحول حالك من الصبر والكرم والحلم والرزانة، فحالك لا تختلف وإن اختلفت أحوال الزمان، كما قال الآخر:

لَا أُمْسِكُ الْمَالَ إِلَّا رَيْثَ أُتْلِفُهُ وَلَا يُغَيِّرُنِي حَالٌ إِلَى حَالِ

(٥٩) غاض الماء: قل ونضب، وغيض الماء: فعل به ذلك. والجموم: الذي يزداد ماؤه وقتًا بعد وقت. و«على»: بمعنى مع. والظرف: في موضع الحال من فاعل جموما. والعلل: الشرب الثاني بعد النهل. والغرائب: الإبل الغريبة التي تردد على الحوض وليست لأهل الحوض. والدخال: أن يدخل بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا ليزداد شربًا. يقول — على طريق الدعاء: لا نقصت بحارك يا بحرًا كثير الماء وإن وردت عليه الإبل الغريبة وعلت منه. وهذا تمثيل؛ يريد: لا ينقص عطاؤك وإن كثر العفاة والسائلون كما لا ينقص البحر الكثير الماء وإن كثر وراده. أو تقول: لا ينقطع صبره على توالي المحن وشدتها؛ يدعو له بذلك.

(٦٠) المحال: المعوج، من قولهم: حالت القوس والعصا ونحوهما؛ إذا اعوجت بعد استواء. يقول: أنت بين الملوك كالمستقيم بين المعوج؛ أي أنك تفضلهم فضل المستقيم على المعوج. وقوله: في الذين أرى ملوكًا؛ أي في الذين أراهم ملوكًا، فملوكًا: مفعول ثانٍ لأرى، والمفعول الأول: الضمير المحذوف.

(٦١) يقول: إن فضلت الناس وأنت واحد منهم فلا عجب، فقد يفضل بعض الشيء جملته، كالمسك — وهو بعض دم الغزال — وقد فضله فضلًا كثيرًا. قال الواحدي: قال أبو الحسن محمد بن أحمد المعروف بالشاعر المغربي: كان سيف الدولة يسر بمن يحفظ شعر المتنبي، فأنشدته يومًا:

رَأَيْتُكَ فِي الَّذِينَ أَرَى مُلُوكًا

وكان أبو الطيب حاضرًا فقلت: هذا البيت والذي يتلوه لم يسبق إليه. فقال سيف الدولة: كذا حدثني الثقة أن أبا الفضل محمد بن الحسين قال كما قلت، فأعجب المتنبي واهتز، فأردت أن أحركه، فقلت: إلا أن في أحدهما عيبًا في الصنعة، فالتفت المتنبي التفات حنق فقال: ما هو؟ فقلت: قولك: مستقيم في محال، والمحال ليس ضد الاستقامة، وإنما ضدها الاعوجاج. فقال الأمير: هب القصيدة جيمية، فكيف تعمل في تغيير قافية البيت الثاني؟ فقلت عجلًا كرد الطرف:

فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامُ وَأَنْتَ مِنْهُمْ فَإِنَّ الْبَيْضَ بَعْضُ دَمِ الدَّجَاجِ

فضحك، وضرب بيده الأرض، وقال: حسن مع هذه السرعة، إلا أنه يصلح أن يباع في سوق الطير؛ لأنه مما لا يمدح به أمثالنا يا أبا الحسن.

(٦٢) إلام: هي «إلى» الجارة، و«ما» الاستفهامية، وسقطت الألف من «ما» طلبًا للخفة وإعدادًا بإلى الجارة، وكذلك يفعلون في: «مم» و«فيم» و«عم» و«علام» و«حتام». والعاذل: اللائم. والواو — في «ولا أرى» حالية. و«الطماعية» مصدر بمعنى الطمع، كالكراهية والعلانية. يقول إلى متى يطمع العاذل في أن أستمع كلامه والحب يقع اضطرارًا لا اختيارًا، والعاقل لا يقع في شرك الحب برأيه واختياره فلا معنى للوم فيه؛ لأن المحب مغلوب على أمره. وهذا منقول من قول بعضهم:

وَمَا مِنْ فَتًى فِي النَّاسِ يُحْمَدُ عَقْلُهُ فَيُوجَدُ إِلَّا وَهْوَ فِي الْحُبِّ أَحْمَقُ

قال العكبري: وهذا البيت ظاهره أن معنى عجزه غير متعلق بمعنى صدره، وأين قوله في ظاهره: ولا رأي في الحب، من قوله: إلام طماعية؟ قال: وفي تعلقه به وجوه أحدها يريد إلام يطمع عاذلي في إصغائي إلى قوله، والعاقل إذا أحب، لم يبقَ له مع الحب رأي يصغي به إلى قول ناصح فعذله غير مجدٍ نفعًا؟ والثاني أن العاقل لا يرتئي في الحب فيقع فيه اختيارًا، وإنما يقع اضطرارًا، فلا معنى لعذله، والثالث أن العاقل ليس من رأيه أن يورط نفسه في الحب وإنما ذلك من فعل الجاهل. وعذل الجاهل أضيع من سراج في الشمس، وكيف يطمع في نزوعه؟

(٦٣) يقول: يريد العاذل من قلبي أن ينساكم ويسلو عنكم وأنا مطبوع على حبكم، فكيف أنتقل عن شيء طبعت عليه والطبع لا يقبل النقل؟ وهذا كقول العباس بن الأحنف:

لَا تَحْسَبَنِّي عَنْكُمُ مُقْصِرًا إِنِّي عَلَى حُبِّكُمْ مَطْبُوعُ

ويروى: ويأبى الطباع، على أن الطباع مفرد، بمعنى الطبع، لا جمع طبع، وجمع طبع: ككتاب وكتب.

(٦٤) يقول: بلغ من عشقي لكم وحبي إياكم أني أحب نحولي فيكم؛ لأن سببه حبكم، وأحب كل ناحل من الناس في الحب، لأنه يشبهني في أثر حبكم. قال ابن جني، وفيه معنى قول أبي الشيص:

أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ

وهو معنى قول الآخر:

أُحِبُّ لِحُبِّهَا السُّودَانَ حَتَّى أُحِبُّ لِأَجْلِهَا سُودَ الْكِلَابِ

(٦٥) زلتم: بعدتم. يقول، ولو فارقتموني ولم أبكِ على فراقكم سلوا عنكم لبكيت على ما زال من حبي إياكم، يعني: أحبكم وأحب حبكم حتى لو ذهب عني الحب لبكيت على فراقه لاغتباطي بما ألاقيه في هذا الحب. قال العكبري: وقوله: ولو زلتم وتعقيبه في آخر البيت بالزائل، من أبواب البديع في الشعر.

(٦٦) المسلك السابل: الطريق الكثير المارة. يقول: كيف ينكر خدي ما يسيل عليه من الدموع وهو مسلك لها وهي تجري منه في طريق مذلل قد جرت فيه كثيرًا فهو يسكن من ذلك إلى حال قد عرفها وألفها؟

(٦٧) يقول: ليس دمعي الآن بأول دمع جرى فوق خدي، وليس حزني على هذا الفراق بأول حزن على مفارق. يعني أنه قديم العشق قد بكى كثيرًا وحزن على فراق الأحبة.

(٦٨) يقول: تركت السلو لمن يلومني على الوجد، فهو حظه — لا حظي — إذ لي من الشوق شغل شاغل عن السلو واستماع لوم اللائم.

(٦٩) الثاكل: التي فقدت ولدها. يقول: تباعد ما بين جفوني سهرًا فليست تلتقي النوم، فكأنها ثياب ثاكل شقت. يعني: إني فقدتهم وفقدت النوم بعدهم، فكأن جفوني شقت لفقدهم كما تشق الثاكل ثوبها من الحزن، وهذا كقوله الآتي:

قَدْ عَلَّمَ الْبَيْنُ مِنَّا الْبَيْنَ أَجْفَانَا

قال العكبري: شبه مقلتيه في حزنهما بتلك الثاكل في وجدها، وتبعيد السهر لما بين جفونهما بتشقيق الثاكل الثياب حدادًا، وهذا مما شبه فيه شيئان بشيئين، وهو من أرفع وجوه البديع. وأخذ المهلبي الوزير هذا المعنى فقال:

تَصَارَمَتِ الْأَجْفَانُ لَمَّا صَرَمْنَنِي فَمَا تَلْتَقِي إِلَّا عَلَى عَبْرَةٍ تَجْرِي

(٧٠) أبو وائل: هو ابن عم سيف الدولة، وقد خرج إلى وصفه أحسن خروج. يقول: لو كان الذي أسرني شيئًا غير الحب لخرجت من أسره بحيلة وضمان كما فعل أبو وائل؛ إذ ضمن للخارجي الذي أسره مالًا حتى خرج من أساره، وقد بين ذلك فيما يلي.

(٧١) النضار: الذهب. والقنا الذابل: الرماح، والرمح يوصف بالذبول للينه. يقول: ضمن لهم الذهب ثم أعطى بدل الذهب صدور الرماح، وذلك أن سيف الدولة استنقذه من أيديهم بغير فداء؛ إذ أتى الخارجي بجيشه وقتله وأنقذ أبا وائل.

(٧٢) مناه الشيء: جعله أمنية له. والأمنية: ما يتمنى. والمجنوبة: الخيل التي لا تركب وإنما تجنب للحاجة إليها. والباسل: الشجاع. يقول: أعطاهم مناهم فوعدهم أن تقاد إليهم الخيل في فدائه، فجاءت الخيل، ولكن تحمل الفرسان لمحاربتهم.

(٧٣) أفل القمر: غاب. يقول: كنا بعد أسره كأننا في ظلمة، فلما عاد إلينا كان كمعاودة القمر بعد أفوله.

(٧٤) يخاطب سيف الدولة. يقول: دعاك لاستنقاذه فأجبته، ولو سكت لما قعدت عنه ولما غفلت، فكم ساكت وهو بعيد عنك لم تغفل عنه حتى كأنه قائل يسألك حاجة! وبعبارة أخرى: دعاك على بعد محله فأجبته على انتزاح مستقره، ورب ساكت لبعده عنك، كالمخاطب لك، لما يوجبه كرمك من اهتمامك بشأنه، واعتنائك بأمره.

(٧٥) بك: أي بنفسك. والجحفل: الجيش. يقول: فجعلت إجابته أن أتيته بنفسك في جيش عظيم ضمن له استنقاذه وكفل برده إلى مكانه.

(٧٦) النقع: الغبار. والعارض: السحاب. والوابل. المطر الكثير. وخرجن: أي الخيل. يقول. خرجت الخيل للحرب فكانت من الغبار في سحاب ومن العراق في مطر.

(٧٧) الصفا. الصخر. والماحل. الذي لم يمطر. يقول: لما نشفت الخيل من العرق تلقت السياط من أعجازها بمثل الصخر الذي لا ندوة به، يعني أنها لم تسترخِ ولم تضعف لما لحقها من التعب، وإنما كانت صلبة تضرب بالسياط فتقع من جلودها على مثل صخر البلد الماحل.

(٧٨) يقال: شفنت الرجل؛ إذا نظرت إليه بمؤخر عينك، أو نظرًا في إعراض، وأنشد الجوهري للقطامي:

يُسَارِقْنَ الْكَلَامَ إِلَيَّ لَمَّا حَسِسْنَ حِذَارَ مُرْتَقِبٍ شَفُونِ

قال: وهو الغيور … والمراد هنا: النظر. يقول: نظرت الخيل إلى أبي وائل — الذي كانت جادة في طلبه — قبل النظر إلى نازل عن ظهورها، يعني أن فرسان هذه الخيل لم ينزلوا عن ظهورها خمس ليالٍ حتى بلغوا أبا وائل في ركضة واحدة، وأوقعوا بالقوم الذين أسروه.

(٧٩) دانت: فاعلت، من الدنو: أي قاربت. والثرى: التراب. يقول: فساخت قوائمها في التراب إلى مرافقها ثقة بأن الدم الذي سيسفكه فرسانها سيغسلها ويزيل عنها ذلك التراب، ويروى بدل الثرى: البرى، وهو التراب. قال مدرك بن حصن الأسدي:

مَاذَا ابْتَغَتْ حُبِّي إِلَى حَلِّ الْعُرَى؟ حَسِبتنِي قَدْ جِئْتُ مِنْ وَادِي الْقُرَى

بِفِيكَ مِنْ سَارٍ إِلَى الْقَوْمِ الْبَرَى

(يقال في الدعاء على الإنسان: بفيه البرى، كما يقال: بفيه التراب. ومن دعائهم: بفيه البرى، وحمى خيبرا، وشر ما يرى، فإنه خيسرا.)

والبرية منه؛ لأنهم من التراب، فهو على هذا غير مهموز، تقول: براه الله يبروه بروًا أي خلقه. وقيل: البرية الخلق، وأصله الهمز، يقال: برأه الله.

(٨٠) الكاذة: لحم الفخذ. والمستغير: الذي يطلب الغارة. والبائل: الذي يتفحج — يباعد ما بين رجليه — ليبول. يقول: إن هذه الخيل المستغيرة على هؤلاء الخوارج كانت لشدة العدو — الجري — تتفحج كما يتفحج البائل لئلا يصيبه البول. ويجوز أن يريد — كما قال الواحدي — أنها تعرق في عدوها حتى يسيل العرق بين أرجلها كأنها تبول.

(٨١) الردينية: الرماح، تنسب إلى ردينة؛ امرأة كانت تقوِّم الرماح. والمصبوحة: الفرس التي تسقى اللبن صباحًا لكرامتها على أهلها. والشائل: يريد بها الشائلة، فحذف الهاء، وهي الناقة التي قل لبنها وخف ومرؤ ونجع في شاربه، ولا يسقاه إلا كرائم الخيل. قال ابن القطاع: حذف الهاء لإقامة الوزن، والشائلة: التي مر عليها من وقت نتاجها سبعة أشهر فخف لبنها، وجمعها شول، والشائل — بلا هاء — التي تشول بذنبها ولا لبن لها، وجمعها شول، كراكع وركع … قال ابن جني: سألت المتنبي عن قوله: الشائل، وقلت له: الشائل لا لبن لها، وإنما التي لها بقية من لبن يقال لها: الشائلة بالهاء، فقال: أردت الهاء وحذفتها، كقول كثير:

لَعَمْرِي لَئِنْ أُمُّ الْحَكِيمِ تَرَحَّلَتْ وَأَخْلَتْ لِخَيمَاتِ الْعُذَيْبِ ظِلَالَهَا

أراد العذيبة، فحذف الهاء. يقول المتنبي: إن خيل سيف الدولة استقبلت من الخارجي بالرماح الردينية وبالخيل التي تُسقى لبن النياق صباحًا لكرمها.

(٨٢) وجيش: عطف على كل — في البيت السابق — والمراد بالإمام: الخارجي. يقول: ولقيت هذه الخيل جيش إمام في قومه صحيح الإمامة عليهم، إذ سلموا له الإمامة ولكنه إمام المبطلين … وإنها لكلمة بارعة قوله: صحيح الإمامة في الباطل. وقال ابن جني: معناها قد صح أن إمامته باطلة لا شك في ذلك. والتفسير الأول أوجه.

(٨٣) ينحزن: من الانحياز، وهو كالانهزام؛ الانضمام إلى جانب. والعاسل: الذي يجني العسل من خلايا النحل. قال شارحو الديوان جميعًا: أي أقبلت خيل الخارجي تنفر وتهرب من جيش سيف الدولة نفور النحل من العاسل. وقال اليازجي: أي إن خيل الممدوح انحازت أمام هذا الجيش ونفرت منه كما ينفر النحل من العاسل؛ يشير إلى كثرة هذا الجيش وما ألقاه من الهول على جيش سيف الدولة، وهو الأظهر والأوجه.

(٨٤) يقول: فلما ظهرت لأصحاب الخارجي رأى شجعانهم منك شجاعًا يأكلهم ويفنيهم، يعني كنت أشجع منهم وإن كانوا شجعانًا.

(٨٥) يقول: إن أكلك إياهم كان بضرب أتى عليهم جميعًا، وأنت وإن بالغت في الضرب وأسرفت إسراف الجائر — الظالم — إلا أنك قسمت الضرب بينهم قسمة العادل؛ إذ لم ينفلت منهم أحد، وهو معنى بديع. وقال ابن جني: هذا الضرب وإن كان لإفراطه جورًا فهو في الحقيقة عدل؛ لأن قتل مثلهم عدل وقربة إلى الله. وفي معناه لحبيب:

أَنْ لَسْتَ نِعْمَ الْجَارُ لِلسُّنَنِ الْأُلَىُ إِلَّا إِذَا مَا كُنْتَ بِئْسَ الْجَارِ

(بئس الجار: يريد للكفار.)

(٨٦) الشذان: المتفرقون. والدرة: اللبن إذا كثر وسال. والحافل: التي حفل ضرعها؛ أي امتلأ باللبن. يقول: إن هذا الضرب لم يتخلص منه شاذ ولا نافر، بل اجتمعوا فيه اجتماع اللبن في الضرع، وبعبارة: جمع متفرقهم بشدته وحصرهم بمخافته، كجمع الضرع لدرته.

(٨٧) يقول: إذا نظرت إلى الفارس — وهو أقدر على الفرار من الراجل — تحير فزعًا منك وهيبة فلم يقدر على الهرب منك، وأن يذهب ولو ذهاب الواحد من الرجالة.

(٨٨) الناصل: الذي ذهب خضابه. يقول: فظل سيف الدولة يخضب من الأعداء لحاهم بدمائهم، غير أنه لا يعيد الخضاب على من نصل خضابه فذهب يعني أنه إذا ضرب إنسانًا بسيفه لم يبقَ فيه ما يحتاج إلى إعادة الضربة.

(٨٩) يقول: إنه مستغنٍ بقوته عمن ينصره فلا يستنصر أحدًا مستغيثًا إليه ولا يجزع ولا يستكين من خذلان من يخذله؛ لأنه من نفسه الكبيرة في جيش.

(٩٠) يزع: يكف. والطرف: الفرس الكريم. والمقدم: مصدر، أو اسم مكان؛ أي عن إقدام أو عن محل إقدام. والطرف: النظر. والهائل: الأمر العظيم المخيف. يقول: ولا يكبح فرسه عن إقدام أو عن شيء يقدم عليه؛ أي لا يخاف شيئًا ولا يخشى أحدًا فيرتد ويرجع، ولا يهوله شيء فيرد طرفه — نظره — عنه.

(٩١) التبل: الثأر. و«لم يشأه»: لم يسبقه. يقول: إذا طلب ترة — ثأرًا — لم تفته وإن كانت ممتنعة صعبة الحصول كالدين عند المماطل، وإن طال العهد.

(٩٢) يستهزئ بهم، يقول: اعذروه فيما أتاكم به من ضمان أبي وائل وخذوه فإن الغنم فيما عجل لكم، وما تأجل وتأخر لعله لا يصل إليكم … والذي أتاهم به هو الوقيعة بهم.

(٩٣) حمص: كانت موضع الواقعة. ومن قابل: أي العام القابل. يقول: إن كان قد حصل لكم مرادكم في عامكم هذا من قصة حمص فعودوا في السنة التالية ليعود إليكم القتال!

(٩٤) الحسام: السيف القاطع. والخضيب: المخضوب. يقول: فإن السيف الذي خضب بدمائكم وقتلتم به لا يزال في يد من قتلكم به، فمتى عدتم لقيتم في المرة الثانية كما لقيتم في الأولى.

(٩٥) على السائل: متعلق ﺑ «يجود». يقول: هو جواد يجود على سائله بمثل الذي طلبتموه من الضمان فلم تدركوه؛ لأنكم طلبتموه لا عن طريق السؤال فكان منه لكم ما كان.

(٩٦) الكتيبة: الجماعة من الجيش. والظرف: حال عن الضمير المستكن في الخبر بعد، وهو قوله: مكان السنان، فإنه خبر عن محذوف، هو ضمير الممدوح. وتزهى: تفتخر. والجملة: حال من الكتيبة. والعامل: صدر الرمح. يقول: هو من عساكره الذين يفتخرون به بمكان السنان من عامل الرمح، فهو يتقدمهم كما يتقدم السنان الرمح، وهو الطاعن، وهم بدونه لا يغنون شيئًا.

(٩٧) البازل من الإبل: الذي قد فطر نابه وظهر في السنة التاسعة، وجمل بازل وناقة بازل، بلفظ واحد. وكان الخارجي قد ركب ناقة، وهو يشير بكمه يحث أصحابه على القتال، فهو يقول: إني لأعجب ممن يؤمل ظفرًا بتحريك كم وركوب ناقة!

(٩٨) بماضٍ: أي بسيف ماضٍ؛ أي قاطع. والحائل من الخيل: التي لم تحمل، وإذ حالت الفرس فهو أشد لها. يقول: هل أوحى الله سبحانه إليه أن لا تلقى جيش سيف الدولة بسيف على فرس؟ وقد كان هذا الخارجي يدعي النبوة ويقول: لا آتي إلا ما أمرني الله به، فقال المتنبي: آلله أمره أن لا يأخذ للحرب عدتها؟

(٩٩) الهامة: الرأس. وبراها: قطعها. والكاهل: أعلى مجتمع الكتفين. يقول: هل قال الله له: لا تلقهم بسيف إذا ضربت به رأسًا قطعه ووصل إلى عظيم الكاهل حتى يسمع صوته من قطعه؟ وجعل ذلك الصوت كالغناء منه، كما قال أبو نواس:

إِذَا قَامَ غَنَّتْهُ عَلَى السَّاقِ حِلْيَةٌ لَهَا خَطوهُ وَسْطَ الْغِنَاءِ قَصِير

«يعني بالحلية: القيد.» فنقل المتنبي وصف القيد إلى السيف.

(١٠٠) يقول: ليس الخارجي بأول من دعته همته إلى ما لا يناله. وكان هذا الخارجي يطمع في الخلافة والملك.

(١٠١) اللج: معظم الماء. والبيت مَثَلٌ، يقول: إن هذا الخارجي فيما يعالجه من مقاومة جيوش سيف الدولة وعجزه عن أقلها — أو إنه في ادعائه النبوة وطمعه بها في الخلافة ثم عجزه عن سيف الدولة؛ وهو أحد أمراء الإسلام — كمن يريد أن يقتحم لجة البحر والموج يغمره في ساحله. يعني أنه يتعرض للصعب الكبير وهو يعجز عن السهل الصغير.

(١٠٢) الفاصل: القاطع، ويروى: الفاضل. يقول: أما أحد يشفق على سيف دولة الخلافة ويُبقي عليه ويحول بينه وبين كثرة الحروب خشية أن يصيبه سوء فتبقى الخلافة ولا سيف لها؟

(١٠٣) هذا بيان لسبب وجوب الإشفاق عليه. يقول: هو سيف لهذه الدولة لكنه يقطع الأعداء من غير أن يضرب به ويسري إليهم غير محمول. يعني إذا افتقر السيف إلى من يضرب به كان هو منفردًا بفعله، وإذا التجأ إلى من يحمله كان مكتفيًا بنفسه. والمعنى أنه المستقل بالمحاماة عن الخلافة الناهض بنصرتها بنفسه.

(١٠٤) النقا: الكثيب من الرمل. يقول: دست رءوس أصحاب الخارجي بحوافر الخيل فطحنتها وامتزجت بالرمل حتى لو نخل الرمل لم يتخلص من رءوسهم شيء.

(١٠٥) يقول: تركتهم جزرًا للسباع فأخصبت بكثرة القتلى، فكأنك أنبت لها ربيعًا بما وسعت عليها من لحومهم. فلو قدرت السباع لأثنت عليك بما شملتها من إحسانك.

(١٠٦) الحُلِي: جمع حَلْي؛ ما يتزين به. والعاطل: التي لا حلي عليها. يقول: وانصرفت إلى دار ملكك — حلب — بعد الظفر بأعدائك كما تعود الحلي إلى من لا حلي لها، أي أن زينة حلب بك.

(١٠٧) الناعل: ذو النعل، كما أن الدارع ذو الدرع، وفي المثل: أطري إنك ناعلة. (قال أهل اللغة: هذا المثل يقال في جلادة الرجل، ومعناه اركب الأمر الشديد فإنك قوي عليه. وأصل هذا: أن رجلًا قاله لراعية له وكانت ترعى في السهولة وتترك الحزونة، فقال لها: أطري — أي خذي في أطرار الوادي — وهي نواحيه — فإنك ذات نعلين. قال الجوهري: وأحسبه عنى بالنعلين: غلظ جلد قدميها.) يقول: إن ما فعلته وأنت غير متأهب له يعجز عنه المتأهب. جعل الحافي مثلًا لمن لم يتأهب والناعل مثلًا للمتأهب.

(١٠٨) الشية: لون يخالف بقية لون الجلد. والأبلق: الذي فيه سواد وبياض. والجائل: الذي يجول بين الصفين. يقول: كم لك من خبر انتصار وظفر شاع واشتهر اشتهار الشية في الفرس الأبلق حين يجول بين الخيل.

(١٠٩) الواغل: الداخل على القوم في شرابهم من غير أن يدعى، أما الذي يدخل على القوم في طعامهم فهو الوارش. يقول: وكم لك من يوم حمي فيه الوطيس وتعاطى بنوه كئوس المنية فأبغض الواغل حضور مثله، وتكره المشاركة في ذلك الشراب، وهذه استعارة جميلة.

(١١٠) العناة: جمع عانٍ؛ الأسير. والعفاة: جمع عافٍ؛ السائل. يقول: ديدنك فك الأسرى، وإغناء السائلين، والعفو عن المذنبين.

(١١١) معطيكه: معطيك إياه. والآجل: ما قابل العاجل. والآجل في غير هذا الموضع: من قولهم أجل عليهم شرًّا يأجله أجلًا: خبأه وهيجه. قال توبة ابن مضرس العبسي:

وَأَهْلِ خِبَاءٍ آمِنِينَ فَجَعْتُهُمْ بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِلٍ أَنَا آجِلُه

وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ: مَا لَهُمْ؟ سُؤَالكَ بِالشَّيْءِ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُه

«أنا آجله: أي جانيه. وقد كان مر بصبية يتضاربون، فاستغاثه بعضم على بعض، فضرب صبيًّا منهم فمات، ثم جاء إلى أهل المقتول يسألهم عن الخبر كأنه جاهل به.» يدعو المتنبي له بأن الله الذي أعطاه النصر على الأعداء يجعله هنيئًا له وأن يرضى عنه في الآخرة بسعيه.

(١١٢) المومس والمومسة: الفاجرة. والكفة: الحبالة؛ أي الشرك. والحابل: الصائد ذو الحبالة. يقول: إن هذه الدنيا خوانة لأصحابها كالمومس لا تقيم على خليل، وهي أخدع من حبالة الصائد التي تصرع من اطمأن إليها.

(١١٣) الطائل: كل شيء يرغب فيه أو ما فيه غناء. يقول: تفانى الناس في التشاح على الدنيا ولم يحصلوا على شيء؛ لأنها تأخذ ما تعطي، وتهدم ما تبني وتمر بعد حلاوتها، وتعوج بعد استقامتها، قبحها الله وقبح من تهالك عليها!

(١١٤) الأسل: الرماح. يقول: أعلى المماليك رتبة ما أخذ اقتسارًا وغلابًا، لا ما جاء عفوًا، ومن أحب الممالك كان الطعن عنده كالقبل؛ أي يستلذ الطعن استلذاذ القبل. وعجز البيت من قول أبي تمام:

يَسْتَعْذِبُونَ مَنَايَاهُمْ كَأَنَّهُمُ لَا يَيْأَسُونَ مِنَ الدُّنْيَا إِذَا قُتِلُوا

والذي يؤخذ من كلام العكبري أن الضمير في محبيهن للطعن، على أنه جمع طعنة، وإلا لقال: عند محبيه. والأظهر عوده إلى الممالك — جمع مملكة — سلطان الملك في رعيته.

(١١٥) تقلقل: تحرك حركة عنيفة. والقلل: جمع قلة؛ أعلى الرأس، من قلة الجبل يقول: لا تستقر السيوف في الممالك حتى تتحرك زمانا في رءوس الأعداء، يريد: لا يثبت لك الملك حتى تقطع رءوس المعادين لك. قال العكبري: وأشار بذلك إلى انصراف الديلمي عن الموصل بغير حرب هيبة لسيف الدولة. قال: وفيه نظر إلى قول حبيب:

سَأجْهدُ عَزْمِي وَالْمَطَايَا فَإِنَّنِي أَرَى الْعَفْوَ لَا يمتَاح إِلَّا مِنَ الْجَهْدِ

ونصب دهرًا على الظرفية، ورفع قبل لأنه لما قطع عن الإضافة بناه على الضم.

(١١٦) يقول: مثلك إذا حاول أمرًا بعيد المنال قربته عليه الرماح وأيدي الخيل والمطايا، يعني أنه لا يتعذر عليه أمر طلبه؛ لأنه يتمكن منه بما له من العدة والاعتزام الذي ذكره في البيت التالي.

(١١٧) عزمة: عطف على طول الرماح. وزحل: مبتدأ، خبره: بمكان الترب، والجملة: نعت همة. يقول: وقربها عليه عزمة حركتها همة تعلو على زحل — الكوكب المعروف — بقدر علو زحل عن التراب.

(١١٨) الأعاصير: جمع إعصار؛ الريح تلتف بالغبار وتعلو مستطيلة. والتوحش: بمعنى الوحشة. ويريد بملقي النصر: سيف الدولة؛ أي يلقى النصر حيثما قصد، أي يستقبل به. ومقتبل: قال الواحدي: أي حسن تقبله العيون، وقيل: من قولهم: رجل مقتبل الشباب؛ أي ليس عليه للكبر أثر. يقول: على الفرات — النهر المعروف — رياح تثير الغبار لمكان جيش أخيك ناصر الدولة، وفي حلب وحشة؛ لأنك بعدت عنها.

(١١٩) تتلو: تتبع. ونفذت: مضت. والأبدال: جمع بدل. يقول: إن رماحه تتبع كتبه إلى أعدائه فهو ينذرهم أولًا، فإن لم يطيعوه صمد إليهم بجيوشه، ويجعل الخيل بدلًا من الرسل؛ أي لا يستجلب طاعتهم إلا بالإكراه، فليست كتبه لاستصلاح أو استعتاب وإنما هي للإعلام بأنه قادم؛ لأنه لا يحب الظفر اغتيالًا ومواراة لثقته بنفسه. وهذا من قول الفرزدق:

شَدِيدُ الْحميَّا لَا يخاتِلُ قِرْنَهُ وَلَكِنَّهُ بِالصَّحْصَحَانِ يُنَازِلُه

وقول صريع الغواني:

مَنْ كَانَ يَخْتِلُ قِرْنًا عِنْدَ مَوْقِفِهِ فَإِنَّ قِرْنَ عَلِيٍّ غَيْرُ مختتلِ

(١٢٠) جزر السباع: اللحم الذي تأكله، ويقال تركوهم جزرًا؛ إذا قتلوهم. وما أعدوا: عطف على الملوك. والنفل: الغنيمة. يقول: إنه يلقى الملوك الذين يخالفونه فيوقع بهم وبجيوشهم، فلا يكونون إلا مأكلًا للسباع ولا تكون أسلابهم إلا غنيمة لأصحابه.

(١٢١) الضمير في مهجته: لسيف الدولة. والذكر: من أوصاف السيف. والهندي: السيف. والخلل: أغشية الأغماد. يقول: إن الخليفة أكرمه فصانه بما وجه إليه من الأبطال والرجال كما يصان السيف الهندي بالخلل. وعبارة العكبري: لما علم الخليفة أنه سيفه الذي يسطو به صانه وحفظه بالأبطال الذين أثبتهم في رسمه والحماة الذين اختارهم لحفظه، كما يصان السيف الكريم بالأغماد التي يتخلل فيها، والجفون التي يحفظ بها. وأشار بهذا إلى أن الخليفة شرفه بتلقيبه بسيف الدولة.

(١٢٢) يقول: إنه يفعل ما لم يفعله أحد لصعوبته على من يحاوله فهو قد أتى به بكرًا ويكون أبا عذرة ذلك الفعل، ويقول ما لم يقله أحد في بلاغته وجزالته ولم يترك أيضًا؛ لأن كل بليغ يريد أن يأتي بمثله فهو يقصده ويتكلفه ولا يقدر عليه. قال العكبري: من روى الفعل بالنصب أراد: يفعل الفعل ويقول القول؛ لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل. ومن روى بالجر جعله مضافًا: كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ.

(١٢٣) غاله يغوله: ذهب به. وأصله الإهلاك. والعجاجة: الغبرة. والطفل: وقت غروب الشمس. يقول: يبعث إلى أعدائه الجيش الكثيف الذي يستر ضوء الشمس بغباره حتى يصير الظهر كوقت الطفل. وهذا إشارة إلى كثرة جيشه.

(١٢٤) الساطع: المنتشر. والضمير المضاف إليه: للعجاجة. يقول: إن ما سطع من غبار هذا الجيش ملأ كل فضاء، فكان الجو أضيق شيء به؛ لأنه على سعته ملأه حتى ساوى أضيق ما فيه، وكانت عين الشمس فيه أحير العيون؛ لأنه بلغ إليها وأحاط بها. وكل هذا مبالغة. وعبارة العكبري: ما بعد من الهواء أضيق بساطع هذا الغبار مما قرب؛ لأنه فيه تجتمع جملته وتتراقى كثرته، وما قرب فإنما يرده الشيء بعد الشيء فينجلي منه ولا يجتمع، وعين الشمس أحير العيون بقربها من مستقره ودنوها من مجتمعه.

(١٢٥) يقول: إن سيف الدولة ينال أبعد من الشمس وهي ترى ذلك فما تقابله إلا على خوف أن ينالها أيضًا لو قصدها؛ لأنها ترى أنه مظفر يدرك ما يقصده. وقال بعض الشراح: يريد أن هذا الغبار بتتابعه واتصاله وترادفه يعلو على الشمس مع ارتفاع موضعها وهي ناظرة إليه غير مساوية في الارتفاع له فتقابله وجلة من ذهابه بنورها. وهذا كله إشارة إلى عظم الجيش وكثرته.

(١٢٦) عرضه: جعله معترضًا. والنازلات: النوائب. ويقال: ظاهر بين ثوبين؛ إذا لبس أحدهما فوق الآخر، وأصله المعاونة. والغيل: جمع غيلة؛ اسم من الاغتيال. يقال قتل فلان غيلة: أي اغتيالًا. يقول: جعل سيفه معترضًا بينه وبين نوائب الدهر فلا تصل إليه واستعان بالحزم في دفع الهلاك عن نفسه وأقامه حاجزًا بينهما؛ أي تحصن بحزمه كما يتحصن بالدرع، أي جعل حزمه كالدرع الواقية له وقد لبس الحزم فوق الدرع فجعله حائلًا بين نفسه وبين الهلاك.

(١٢٧) يقول: إنه وكل صادق ظنه بما ينطوي عليه الناس جميعًا ويخفونه دونه، فعلم ما أسروه وانكشف له ما أضمروه. يعني أنه ألمعي صادق الفراسة يدرك المغيبات بظنه حتى تنكشف له الضمائر.

(١٢٨) يقول: هو شجاع غير بخيل؛ لأن الشجاع يعد البخل جبنًا، لأن البخل معناه خوف الفقر، والخوف جبن، والشجاع لا يجبن، وهو جواد غير جبان؛ لأن الجواد يعد الجبن بخلًا، لأن معنى الجبن الجبن بالروح، والجواد لا يبخل، وإذن هو شجاع غير بخيل، وجواد غير جبان؛ أي إن الشجاعة والجود فيه وصفان متلازمان. وهذا من قول أبي تمام:

وَإِذَا رَأَيْتَ أَبَا يَزِيدٍ فِي وَغًى وَنَدًى وَمُبْدِي غَارَةٍ وَمُعِيدَا

يقْرِي مُرجِّيهِ مُشَاشَةَ مَالِهِ وَشَبَا الْأَسِنَّةِ ثُغْرَةً وَوَرِيدَا

أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ السَّمَاحِ شَجَاعَةً تُدْمِي وَأَنَّ مِنَ الشَّجَاعَةِ جُودَا

(يقري: يضيف. والمشاشة: رأس العظم يمكن مضغه. والثغرة: نقرة النحر.)

وعبارة ابن الإفليلي: يريد أنه الشجاع المتناهي الشجاعة. فالبخل عنده باب من الجبن؛ لأن من سمح بنفسه لم يبخل بكرام ماله. وهو الجواد المتناهي الجود، والجود بالنفس غاية الجود، ومن جاد بنفسه لم يجبن عن عدوه، ومن كان كذلك فالجبن عنده باب من البخل، فدل على أن الشجاعة والجود من طريق واحد. وهذا منقول من قول الآخر:

إِلَى جَوَادٍ يَعُدُّ الْجُبْنَ مِنْ بخلٍ وباسلٍ بُخْلُهُ يَعْتَدُّهُ جُبُنا

يَلْقَى الْعُفَاةَ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ أَمَلٍ قَبْلَ السُّؤَالِ وَلَا يَبْغِي بِهِ ثَمَنَا

وقد بين صريع الغواني أن الشجاعة جود بالنفس في قوله:

يَجُودُ بِالنَّفْسِ إِذْ ضَنَّ الْجَوَادُ بِهَا وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ

(١٢٩) أغذ: أسرع في السير. واحتفل بالأمر: اهتم. يقول: كثرت فتوحه وتوالت، ومن ثم لا يفتخر بها، إذا سار إلى بلد يفتحه سار غير مبالٍ لثقته بقوته وشجاعته. وعبارة العكبري: هو يفتح الفتوح العظيمة فلا يفخر بها ويسرع إليها، ولا يحتفل لها؛ استقلالًا لعظيم ما يفعله وارتفاعًا عن نهب من يقصده. قال ابن جني: فإن قيل: كيف يكون مغذًّا غير محتفل؟ فالمعنى أنه غير محتفل عند نفسه، وإن كان محتفلًا عند غيره؛ لأن كبير الأشياء عند غيره صغير عنده.

(١٣٠) أجار عليه: منعه مما يطلبه. قال تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ؛ أي لا يمنع مما يريده. يقول: إذا رام الممدوح شيئًا لا يجيره عليه الدهر ولا يحميه منه، ولا يحصن الدرع منه مهجة من خالفه، ولا يعصمه من الهلاك إذا أراده كان ما كان من البطولة. أو تقول: إذا تحصن قرنه بالدرع لم يمتنع بها.

(١٣١) خلعت: يروى: جعلت. يريد أن يقول: إذا مدحته تزين مدحي به أكثر مما يتزين هو بمدحي، فضرب لهذا المعنى مثلًا فقال: إذا ألبست عرضه حللًا وجدت تلك الحلل من عرض الممدوح في شيء أحسن من الحلل؛ أي أن عرضه أحسن من الحلل. وهذا من قول أبي تمام:

وَلَمْ أَمْدَحْكَ تَفْخِيمًا لِشِعْرِي وَلَكِنِّي مَدَحْتُ بِكَ الْمَدِيحَا

والعرض: ما يمدح ويذم من الإنسان. والحلل: جمع حلة؛ الثياب. قالوا: ولا تسمى حلة إلا إذا كانت ثوبين، أو إزارًا ورداء.

(١٣٢) الجعل: ضرب من الخنافس. شبه شعره بالورد، وحاسده بالجعل. يقول: إذا أنشد الجاهل شعري تضرر به؛ لأنه لا يعرفه ويغيظه ذلك، فيظهر عليه من أثر الجهل والغيظ ما يظهر على الجُعل إذا أصابه ريح الورد فإنه ينال منه كل النيل. وعبارة العكبري: إذا أنشد شعري بَعُدَ على فهم الجاهل، وأثر ذلك في نفسه، وانكشف له قدر تقصيره، واستضر بحسن قولي وبديع شعري كما يستضر الجعل برائحة الورد التي تؤذيه وتقتله لمضادته لها. يعني إنما يعرف شعري وجودته وجوهره من هو صحيح الفكر، وإن كان ضد ذلك نال منه كما ينال الورد من الجعل، وإن كان مستلذًا في الحقيقة. قال: وهذا من قول الحكيم: الألفاظ المنطقية مضرة بذوي الجهل لنبو إحساسهم عنها.

(١٣٣) يقال: زيد خير الرجال، وهند خيرة النساء، فخيرة: مؤنث خير، بمعنى أفضل، أنثوها بالتاء تشبيهًا لها بالوصف المحض لمفارقتها صيغة التفضيل. وجربت: يروى: وجردت. يقول: أنت ملء كل عين بهيبتك وبهائك وأنت خير سيف لخير دولة، يعني دولة الإسلام.

(١٣٤) كشفه عن كذا: أكرهه على إظهاره. يقول: لا تمل الحرب وإن طالت؛ لأنك ألفت التمرس بالحروب حتى لا تستطيع الأعداء والأيام أن تحملك على الملل من الحروب، ولا تزل في رأي، فقد أوتيت السداد في التدبير حتى لا يفضي بك رأي إلى زلل.

(١٣٥) يقول: كم جمع الأعداء لك جموعًا تغيب الأرض من كثرتهم وتخفى عن الأبصار حتى كأنهم رجال بلا أرض، فقتلتهم وأفنيتهم حتى خليت أرضهم فبقيت ولا رجل فيها. قال العكبري: وفيه نظر من ناحية كثرة الجيش إلى قول حبيب في صفة الجيش:

مَلَأ الْملَا عُصْبًا فَكَادَ بِأَنْ يُرَى لَا خَلْفَ فِيهِ وَلَا لَهُ قُدَّامُ

(١٣٦) الطرف: الفرس الكريم. والثمل: السكران. يقول: ما زلت تخوض دماءهم بفرسك حتى تعثر بالقتلى فمشى بك فرسك مشي السكران؛ أي أن الدماء لكثرتها أمالته عن سنن جريه وأزلقته حتى مشى مشي السكران.

(١٣٧) الناظران: العينان، والجذل: الفرح. يقول: إنه ملك لا يرد عن شيء، فما حكمت به عيناه استحسانًا فهو له؛ أي ما يريده مما يراه يأخذه ولا يعارضه أحد، ولقلبه ما يحكم به مما يسر؛ أي إذا تمنى قلبه شيئًا وصل إليه لا يحول دونه حائل. وقال ابن الإفليلي: وله حكم ناظريه أن لا يريهما إليه إلا ما يسره، وحكم نفسه أن لا يعرفه الله إلا ما يفرحها من نصر وظفر بالأعداء … قال الواحدي: الحكم — ها هنا — اسم للمفعول، لا للفعل؛ فإن الناس مستوون في أفعال نواظرهم، وإنما يختلفون في المحكوم به. يقول: ما حكم به ناظرك استحسانًا فهو لك لا يعارضك فيه مانع، وكذلك الحكم فما يسره.

(١٣٨) وفقت: دعاء. يقول: أنت مسعود فيما تفعله: أقمت أو ارتحلت. قال العكبري: يشير بهذا إلى ارتحال الديلمي عن الموصل. يقول: إن الذي فعله الله لك من الموادعة التي اختارها محاربك قد جعل لك فيه السعادة وقرن لك به الخيرة.

(١٣٩) يقول: عاود القتال ودع السلم وأجر خيلك على ما كنت تجريها من قصدك الأعداء والسير إليهم، وخذ نفسك بما عودتها من أخلاقك الأولى. قال العكبري: وذلك أن سيف الدولة كان قد ترك الحرب مدة، فقال له: أجرِ خيلك على ما كنت مجريها أولًا من غزو الروم وحماية الثغور، فقد كفاك الله ما كنت تحذره على أخيك من الديلمي، وخذ نفسك بما سلف من أخلاقك وعادتك، واعدل عن السلم إلى الحرب والجهاد.

(١٤٠) ينظرن: أي الجياد. والأحجة: جمع حجاج، وهو العظم فوق العين. والعسالة: الرماح تهتز وتضطرب. والذبل: جمع ذابل، وهو اليابس. يقول: إن خيلك تنظر من عيون قد أدمى حجاجها قرع الفوارس إياها بالرماح؛ أي إن الرماح لا تقع إلا في مقاديمها، لأنها لا تنثني حتى تصاب أعجازها لإقدام فرسانها. قال العكبري يشير بذلك إلى ما حضه عليه من غزو الروم وحماية الثغور، وأن خيله قد ألفت ذلك.

(١٤١) يدعو له يقول: لا هجمت بخيلك إلا على ظفر بعدوك، ولا وصلت بها إلا ما تؤمله من الغلبة والظفر.

(١٤٢) يقول: بنا منك ونحن فوق الأرض الذي بك وأنت فيها، يعني أننا أموات حزنًا عليك، كما أنت ميت في الأرض، فإن هذا الحزن يضني ويهزل مثل الموت الذي يبلي الإنسان. وهذا من قول يعقوب بن الربيع يرثي جارية له تسمى ملكًا:

يَا ملكُ إِنْ كُنْتِ تَحْتَ الْأَرْضِ بَالِيَةً فَإِنَّنِي فَوْقَهَا بَالٍ مِنَ الْحُزْنِ

(١٤٣) الحمام: الموت. والثكل: فقد الحبيب. يقول: كأنك أبصرت ما بي من الوجد بك والحزن عليك فخفت أن تُبتلى بمثله لو عشت وفقدت حبيبًا عزيزًا عليك، فاخترت الموت على فقد الأعزة والحزن عليهم.

(١٤٤) الغانيات: جمع غانية، وهي التي غنيت بحسنها عن التحسين، والأعين النجل: الواسعة الحسنة. يقول: تركت خدود الحسان من نوادبك وفوقها دموع مسفوحة عليك تذهب بحسن العيون. قال الواحدي: وجه إذابة الدمع الحسن أنه يفسد العين، ويزيل حسنها، كما قال:

أَلَيْسَ يَضُرُّ الْعَيْنَ أَنْ يَكْثُرَ الْبُكَا وَيُمْنَعَ عَنْهَا نَوْمُهَا وَهُجُودُهَا؟

وإنما قال: «تذيب» ولم يقل «تزيل»؛ لأن الدمع لما كان يذهب بالحسن شيئًا فشيئًا، كان استعارة الإذابة لمثله أحسن، وأيضًا لما كان الذوب في معنى السيلان والدمع سائل، كان كأن الحسن سال معه، وهناك قولان آخران؛ أحدهما: أن الحزن يحمي الدمع ويسخنه، وسخونة الدمع تذيب شحمة المقلة، فتذيب حسنها، والثاني: أن الحسن عرض لا يقبل الإذابة، يقول: هذه الدموع تذيب ما لا يقبل الإذابة، فكيف ما يقبلها؟

(١٤٥) الثرى: التراب. ومن المسك: تعليل. والجثل: الكثيف. يقول: إن هذه الدموع تصل إلى الأرض فتبلها وهي سود لامتزاجها بالمسك وحده؛ لأن الغانيات لا يكتحلن لأجل المصيبة، ولأن كحل أعينهن يغنيهن عن التكحل، وقد استعملن المسك قبل المصيبة فبقي في شعورهن، والكحل لا يبقى طويلًا، وهذه الدموع قطرت وهي حمر لامتزاجها بالدم ثم غلب عليها سواد المسك فعادت سودًا، وإنما قطرت على الشعر؛ لأنهن نشرن الشعور وهي كثيرة، وفيها مسك، فمر الدمع بها فاسودت من مسكها، وهذا من قول أبي نواس:

وَقَدْ غَلَبَتْهَا عَبْرَةٌ فَدُمُوعُهَا عَلَى خَدِّهَا حُمْرٌ وَفِي نَحْرِهَا صُفْرُ

فجعلها صفرًا على النحر؛ لأنها اختلطت بالطيب الذي فيه الزعفران.

(١٤٦) الأسى: الحزن. يقول: إن كنت قد تضمنك قبر فإنك لم تفارق القلب، وإن كنت طفلًا صغيرًا فإن الحزن عليك ليس بالصغير والرزء بك ليس باليسير. ومعنى المصراع الأول من قول أبي تمام:

لَهَا مَنْزِلٌ تَحْتَ الثَّرَى وَعَهِدْتُهَا لَهَا مَنْزِلٌ بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْقَلْبِ

والثاني من قول الآخر:

إِنْ تَكُنْ مُتَّ صَغِيرًا فَالْأَسَى غَيْرُ صَغِيرِ

(١٤٧) المخيلة — ها هنا — الفراسة، وهي في الأصل: السحابة التي يرجى مطرها. يقول: ليس البكاء عليك على قدر سنك؛ لأنك صغير لم تبلغ مبالغ الرجال فتوجب فرط البكاء عليك، وإنما تُبكى على قدر أصلك؛ إذ أنت من أصل كبير، وعلى قدر الفراسة فيك، إذ كنا نتفرس فيك الملك، فلهذا يكثر البكاء عليك.

(١٤٨) الاستفهام: للتقرير. والألى: بمعنى الذين. يقول مخاطبًا الميت: أنت من القوم الذين كرمهم من سلاحهم، ونداهم من رماحهم، والبخل من قتلاهم؛ أي أنت من القوم الذين أفنوا البخل بجودهم، فاستعار للبخل مهجة وجعل جودهم بمنزلة رماح تطعن بها مهجة البخل. وهذا من قول أبي تمام:

وَإِنْ أَزَمَاتُ الدَّهْرِ حَلَّتْ بِمَعْشَرٍ أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمَحْلِ فِيهَا فَطُلَّتِ

(المحل: الجدب، ويقال: طل دمه؛ أي أهدر.)

وقال ابن الرومي:

وَمَا فِي الْأَرْضِ أَسْمَحُ مِنْ شُجَاعٍ وَإِنْ أَعْطَى الْقَلِيلَ مِنَ النَّوَالِ

وَذَاكَ لِأَنَّهُ يُعْطِيكَ مِمَّا تَفِيءُ عَلَيْهِ أَطْرَافُ الْعَوَالِي

(١٤٩) الأعطاف: جمع العطف، وهو الجانب. يقول: إن صبي هؤلاء القوم كغيره من الأطفال لا ينطق، شأن كل طفل، ولكن من يتفرس فيه يجد الفضل في أعطافه ناطقًا، ومخايل الكرم والسيادة ظاهرة واضحة الدلالة.

(١٥٠) المصاب: مصدر، بمعنى الإصابة. يقول: إن معاليهم تعزيهم عما يصيبهم، فهم يترفعون عن الجزع الذي هو شنشنة النفوس الوضيعة، أما من نبل قدره، وارتقت في المعالي همته؛ فإنه يتسلى بالمعالي عن الجزع والهلع، واهتمامه بكسب الثناء والحمد يشغله عن الشغل بما عدا ذلك. والعلياء بفتح العين والمد، أما بضم العين فهي مقصورة.

(١٥١) أقل: خبر مبتدأ محذوف، أي هم أقل بِلاء. والبِلاء: فعال من المبالاة. والرزايا: جمع رزية؛ المصيبة. والقنا: الرماح. وأقدم: أي أشد إقدامًا، استعمل أفعل منه على حذف الزوائد لضرورة الوزن، أو تقول: إنها من قدم يقدم إذا تقدم. قال حسان بن ثابت:

كِلْتَاهُمَا حلبُ الْعَصِيرِ فَعَاطِنِي بِزُجَاجَةٍ أَرْخَاهُمَا لِلْمِفْصَل

قبله:

إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا قُتِلَتْ قُتِلْتَ فَهَاتِهَا لَمْ تُقْتَلِ

(فقوله كلتاهما: أي التي قتلت؛ أي مزجت بالماء، والتي لم تقتل؛ أي لم تمزج وأرخاهما للمفصل: أي التي لم تمزج — أي الصرف.)

أراد: أشد إرخاء والجحفل: الجيش العظيم يقول: هم لا يبالون بما يصيبهم من الرزايا كما لا يبالي بها من لا يعرفها — وهو معنى قوله من القنا، والقنا جماد، والجماد لا يوصف بالمبالاة — وهم أشد إقدامًا لدى الوغى من السهام المرسلة التي تأبى إلا التقدم. وبعبارة أخرى: إذا أصابتهم مصيبة لم يبالوا بها، كأنهم لشدة تجلدهم لا يشعرون بها، فهم في ذلك كالرماح تغشى الوغى ولا تبالي بما يصيبها، وإذا كانوا بين جيشهم وجيش العدو لم يرد وجوههم شيء، كالنبل إذا انطلق فإنه لا يقف دون غايته.

(١٥٢) النصل: حديدة السيف. يقول: الزم عزاءك أو تعزَّ عزاءك الذي يقتدي به الناس فيتعلمون منه التعزي؛ لأنك قد تعودت الشدائد، لأنك سيف والسيف شيمته التمرس بالحروب وعدم المبالاة بمقارعة الحديد. فقوله: عزاءك: منصوب على الإغراء؛ أي الزم عزاءك. أو بفعل مضمر تقديره: تعزَّ عزاءك. والمقتدى به في موضع نصب صفة ﻟ «عزاءك» والضمير في «به» للعزاء.

(١٥٣) مقيم: إما صفة لنصل — في البيت السابق — أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي أنت مقيم. والهيجاء: من أسماء الحرب. والصوارم: السيوف القواطع. يقول: أنت مقيم في كل منزل من منازل الحرب تأنس بها ولا تزايلها حتى لكأنك إذا كنت بين السيوف كنت في أهلك. وهذا من قول أبي تمام:

حَنَّ إِلَى الْمَوْتِ حَتَّى ظَنَّ جَاهِلُهُ بِأَنَّهُ حَنَّ مُشْتَاقًا إِلَى الْوَطَنِ

وقوله أيضًا:

لِتَعْلَمَ أَنَّ الْغُرَّ مِنْ آلِ مُصْعَبٍ غَدَاةَ الْوَغَى آلُ الْوَغَى وَأَقَارِبُهْ

(١٥٤) يقول: لم أرَ أحدًا غيرك لا يطيع دمعة الحزن، ولا أثبت عقلًا منك حين تخلو القلوب من العقول، يعني عند شدة الفزع وهول الحروب. يشير إلى أنه صبور عند الشدائد رابط الجأش في الحروب. وعبرة: أي دمعة، تمييز.

(١٥٥) السليل: الولد، والأنثى: سليلة، قال أبو عمرو بن العلاء: السليلة بنت الرجل من صلبه. وقالت هند بنت النعمان:

وَمَا هِنْدُ إِلَّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ سَلِيلَةُ أَفْرَاسٍ تجَلَّلَها بَغْلُ

(تجللها: علاها. وقوله: بغل، قال بعضهم: إنه تصحيف، والصواب: نغل — بالنون — وهو الخسيس من الناس والدواب؛ لأن البغل لا ينسل.)

والرجل: جمع راجل، وهم المشاة. يقول متعجبًا: إن المنايا تخونه في ولده فتخترمه فلا يستطيع لها دفعًا ولكنها تنصره في الحرب وتنفذ مراده في أعدائه، وفي هذا إشارة إلى أن الموت حتم على رقاب العباد لا يدفع بقوة ولا يعصم منه رفعة ولا سلطان. وفيه نظر إلى قول مسلم بن الوليد:

أَلَمْ تَعْجَبْ لَهُ أَنَّ الْمَنَايَا فَتَكْنَ بِهِ وَهُنَّ لَهُ جُنُودُ؟!

(١٥٦) الفرند: جوهر السيف وماؤه. ويبدو: أي الصبر. يقول: إن صبره باقٍ على حوادث الدهر ظاهرة آثاره ظهور فرند السيف إذا صقل. جعل مرور الحوادث به كالصقل للسيف. والسيف إذا صقل فزال ما عليه من الطبع — الصدأ — ظهر فرنده، كذلك هو، إذا امتحن بالحوادث والشدائد ظهر صبره.

(١٥٧) يقول: من كانت نفسه حرة كريمة كنفسك أغنته عن تعزية غيره وأسلته عن مصيبته؛ لأنه يعرف أن الإنسان لا يخلو في دهره من الحوادث، ومن عرف هذا وطن نفسه على فقد الأحبة.

(١٥٨) يقول: ليس الموت إلا سارقا، بيد أنه ليس كسائر السراق يصول مثلهم بكف يظهرها ويسعى برجل ينقلها حتى يمكن الاحتراس منه، وإنما هو سارق دق شخصه — أي لا شخص له — يصول دون كف يظهرها، ويسعى دون رجل ينقلها، فلا يُدرى كيف يأتي، وكيف يعصف بالأرواح ويسرقها من الأجساد، ومن ثم لا سبيل إلى الاحتراس منه.

(١٥٩) الشبل: ولد الأسد. والخميس: الجيش. يقال: إن النمل إذا اجتمع على ولد الأسد أكله وأهلكه. يقول: إن الأسد يقاوم الجيش الكثير دفاعًا عن ولده ولكنه لا يقدر على أن يذود النمل عن ولده مع ضعف النمل، وإنما يسلمه له، فهو يحمي ولده من الجليل الكثير ويسلمه إلى الحقير اليسير، وهذا مثل. يقول: إن سيف الدولة مع بطشه بالجيوش والممالك لم يستطع أن يدفع الموت عن ولده، مع كون الموت على ما وصفه لا جيش له ولا سلاح، فلو غير الموت قصد ابنه لدفعه عنه وإن كان عظيمًا، ولكن لا مدفع للموت.

(١٦٠) الوليد: المولود. وطرقت المرأة والناقة وكل حامل: نشب ولدها في بطنها ولم يسهل خروجه. قال أوس بن حجر:

لَهَا صَرْخَةٌ ثُمَّ إِسْكَاتَةٌ كَما طَرَّقت بِنِفَاسٍ بِكْرُ

يقول: أفدي بنفسي مولودًا صار بعد حمل الأم إياه إلى بطن أم — وهي الأرض — لا تطرق بالحمل. قال الواحدي: وإنما قال: لا تطرق؛ لأنها إما جماد لا تُوصف بالتطريق وإن كانت تسمى أمًّا، لكون الأموات في بطنها، وإما لأن الله تعالى قادر على إخراجها من بطونها بسهولة وسرعة، كما قال عز من قائل فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ. وفسر قوم هذا البيت على العكس، قالوا: معنى لا تطرق بالحمل: لا تخرج الولد من بطنها، والتطريق: إظهار الطريق — من قولهم: طرق طرق؛ أي خل الطريق — يقول: فالأرض أم للموتى لا يخرجون منها. ثم قال: إن المتنبي كان لا يقول بالبعث، وليس بوجيه.

(١٦١) الروى بكسر الراء: مصدر روى من الماء، يقال: ماء روى بالكسر والقصر، ورَواء بالفتح والمد؛ أي كثير مروٍ. والغلة: العطش. يقول: ظهر هذا الوليد وشمائله واعدة بالخير وعد السحاب بالري ثم غاب عنا بموته قبل أن يروينا فأبقى بأنفسنا مثل عطش البلد الجديب إذا أخطأه ري السحاب.

(١٦٢) الخيل العتاق: الكرام. والركاب: ما توضع فيه الرجل من السرج. يقول: صد وغاب عنا بموته وقد كانت كرام الخيل تنتظر ركوبه إياها وترتقب أن يصير من السن إلى حال يبدل فيها نعله بالركاب فيبلغ أن يركب الخيل.

(١٦٣) ريع: أخيف. وجاشت القدر: غلت وهاجت. والضروس: الشديدة العض. وما مشى، وما تغلي: حالان. يقول: إن الأعداء خافوه وارتاعوا له وهو صبي في المهد لم يمشِ بعد واشتد عليهم الخوف حتى كأن الحرب قامت عليهم. وقوله: وما تغلي — أي الحرب — تنبيه إلى أن الحرب قامت معنًى لا صورة، وذلك المعنى هو الخوف. ومن روى: «يغلي» أراد: جاشت الحرب، ولم يغلِ الطفل حنقًا عليهم. ومن روى: يفلي — بالفاء — فهو من فليت رأسه بالسيف: أي ضربته؛ أي قبل أن يضرب الطفل بالسيف. ويروى: يقلي: أي لم يبلغ حد القلي والبغض لأعدائه.

(١٦٤) التوراب: لغة في التراب. والفطام: منع الصبي من الرضاع. وهذا استفهام إنكار وتوبيخ. يقول: أيفطمه التراب عن أمه باشتماله عليه قبل أن تفطمه أمه، ويأكله التراب قبل أن يبلغ هو أن يأكل؟! قال أشجع السلمي:

فَطَمَتْكَ الْمَنُونُ قَبْلَ الْفِطَامِ وَاحْتَوَاكَ النُّقْصَانُ قَبْلَ التَّمَامِ

(١٦٥) وقبل يرى: أراد قبل أن يرى. يقول — مخاطبًا أباه: مات قبل أن يرى من جوده ما رأيته أنت من حمد السائلين وبلوغ الأمور العالية، وقبل أن يلام في الجود فيسمع ما سمعته ويعرض عن اللوم كما أعرضت.

(١٦٦) السلم: المسالمة والصلح يذكر ويؤنث، وبفتح السين وكسرها. والوغى: الحرب. يقول: وقبل أن يلقى ما تلقاه أنت من ارتفاع الشأن وعظم السلطان في السلم، ومن ثمرة الظفر في الحرب، وقبل أن يصير مثلك ملكًا لا نظير له.

(١٦٧) توليه: صفة مليكًا. يقول: وقبل أن يتملك البلاد قسرًا فيغتصبها برماحه وتمنعه رماحه من أن يعزل. يعني أنه يتولاها قوة واقتسارًا بنفسه، لا تولية من جهة غيره فيؤمر ثم يعزل.

(١٦٨) الموهب — كالموهبة — العطية. والجزل: الكثير. يقبح أمر البكاء على الميت ويذكر قلة غنائه من الباكي، يقول: نبكي على موتانا ونأسف لفراقهم ونحن نعلم أنه لم يفتهم من الدنيا شيء يرغب فيه أو عطاء وافر يُستغنَى بإحرازه، يعني أن من فارق الدنيا لم يفته بفراقها شيء له خطر.

(١٦٩) يقول: إذا ألقيت بالك إلى الزمان وتصاريفه وأثر ذلك في الإنسان ظهر لك أن فعل الزمان وتقلباته وتأثيره في الإنسان كفعل السيف، ومن ثم كان الموت الذي ينتهي إليه الإنسان ضربًا من القتل، ومن أجل ذلك لا يجمل بالمرء أن يغتر بالبقاء، ويطمئن إلى هذه الدنيا، كما قال في آخر القصيدة: «وما الدهر … إلخ». وعبارة الشراح: إذا ما تأملت تصاريف الزمان وتدبرت الدهر وخطوبه تيقنت أن ما حتم على الإنسان من الموت كالذي يتوقعه من القتل؛ لأن الأمرين متساويان في مكروههما، متماثلان فيما يشاهد من عدم الحياة لهما، فما ظنك بشيء يكون آخر مصيره إلى أكره ما يحذر من أموره؟ وهذا يوجب الزهد في الدنيا ويدعو إلى الإعراض عنها وقلة الأسف عليها. وبعبارة أخرى: إذا تأملت نوائب الدهر المهلكة لأهله علمت أن الموت بها ضرب من القتل؛ إذ المصير في الحالين واحد، وهو فوات الروح، كما قال الآخر:

إِذَا بَلَّ مِنْ دَاءٍ بِهِ خَالَ أَنَّهُ نَجَا وَبِهِ الدَّاءُ الَّذِي هُوَ قَاتِلُهْ

قال الواحدي: الداء الذي هو قاتله: الموت؛ لأنه محتوم على كل أحد، فجعل الموت قاتلًا. أقول: ولعل الأوجه أن يكون المراد بقول هذا الشاعر: «وبه الداء الذي هو قاتله» البقاء الذي ينتهي به إلى الشيخوخة، ثم الموت. وهو معنى ينظر إلى ما جاء في الحديث: «كفى بالسلامة داء.» وفي معنى هذا الحديث يقول حميد بن ثور:

أَرَى بَصْرِي قَدْ رَابَنِي بَعْدَ صِحَّةٍ وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وَتَسْلَمَا

ويقول الآخر:

كَانَتْ قَنَاتِي لَا تَلِينُ لِغَامِزٍ فَأَلَانَهَا الْإِصْبَاحُ وَالْإِمْسَاءُ

وَدَعَوْتُ رَبِّي بِالسَّلَامَةِ جَاهِدًا لِيُصِحَّنِي فَإِذَا السَّلَامَةُ دَاءُ!

(١٧٠) التعلة: التعلل، يقال: فلان يعلل نفسه بكذا تعللًا وتعلة؛ إذا كان يطيب به نفسه. يقول: إن السرور بالولد الذي تحبه لا يدوم، وإنما هو تعلة إلى وقت والحزن بسببه أكثر من السرور به. ثم قال: خلوتك بامرأتك أذًى لك في الحقيقة؛ لأنها تجلب لك ولدًا تغتم من أجله، وتتأذى بتربيته، ولعل العاقبة إلى الثكل. ينهى عن الخلوة بالمرأة لئلا تلد. وقال ابن جني: وكذلك إذا خلت الحسناء مع محبها أدى ذلك إلى تأذيه بها؛ إما لأنه يشغل قلبه عما سواها أو لغير ذلك من المضار التي تلحق مواصل الغواني … والأول أوجه. وهذا كله تسلية لسيف الدولة عن ولده.

(١٧١) الحلواء: الحلاوة. قال زهير:

تَبَدَّلْتُ مِنْ حَلْوَائِهَا طَعْمَ عَلْقَمِ

يقول: جربت حلاوة الأولاد وقت شبابي فوجدت الأمر على ما قلته ووصفته ولم أقل ما قلته عن جهل وغفلة. يعني قوله: «هل الولد المحبوب إلا تعلة؟» ويجوز أن يكون قوله: «على الصبا» على صبا البنين — أي في حال صباهم — وعبارة ابن جني: لست أسليك إلا عما قد فجعت به فرأيت الصبر عليه أحزم من الأسى عليه. قال الواحدي: وهذا — أي الذي قال ابن جني — بعيد.

(١٧٢) يقول: إن علمي بأمر الزمان أوسع منه فلا يسع علمي، وإن ما أمليه من الحكم ونوابغ الكلم لا تحسن الأيام أن تكتبه. يعني أنه يعلم ما تعجز الأيام عن مثله، فهي — مع أنها تأتي بالعجائب — لا تحسن أن تكتب ما أمليه. فكيف تعلمه؟ يريد توكيد ما قدمه من حنكته وطبه بالأمور وما حض عليه من عدم الاكتراث للولد وفقده. وعبارة العكبري: ما تسع الأزمان ما أعلمه من أمرها وأتيقنه من شدة نكدها، يريد أنها تضيق عن علمه وتعجز عن الاشتمال عليه، وأن الأيام لا تحسن أن تكتب ما أمليه وتضبط ما أعده. والمعنى أن الأيام التي تأتي بالحوادث لا تحسن أن تكتب ما أمليه من الحكمة والكلام النادر، فكيف تعلمه؟

(١٧٣) يقول: إن الدهر خوان ليس أهلًا أن ترجى عنده الحياة؛ لأنه لا يحقق الرجاء في الحياة ولا يفي بالأمل، وليس أهلًا لأن يشتاق فيه إلى الولد؛ لأن الولد إذا عاش بعدك لقي من مكاره الدهر ما ينغص عيشه ويسأم معه الحياة، ولأنه لا يبقي على الولد بل يفجع به الوالد.

(١٧٤) الحلم: النوم. والمثال: الصورة. والزيال: المزايلة والمفارقة. والضمائر في البيت: للحبيب — وإن لم يجرِ له ذكر، لدلالة المقام — يصف شدة هجر الحبيب وأنه لا يلم به في النوم أيضًا وهم إذا وصفوا الخيال بالامتناع من الزيارة في النوم أرادوا بذلك شدة هجر الحبيب، كما قال أبو تمام:

صَدَّتْ وَعَلَّمتِ الْصُدُودَ خَيَالهَا

ولا يتصور تعليم الخيال الصدود، ولكنهم لما يصفون الحبيب بشدة الهجر يجعلون هجر الخيال نوعًا من صدوده. يقول: لم يَجُدِ الحلم بالحبيب؛ أي لم أره في النوم ولا رأيت خياله لولا أني أطلت تذكر وداعه ومفارقته وواصلت الفكر فيه ليلًا ونهارًا. يعني: تذكري في اليقظة الوداع والفراق أراني في النوم خياله، ولو أنا غفلت عن ذكره لم أره في النوم؛ أي إن موجب رؤية الخيال هي استدامة ذكر الوداع والفراق. قال الواحدي ناقدًا: جود الحلم بالحبيب هو جوده بمثاله، وجعل أبو الطيب ذلك شيئين ظنًّا منه أنه يرى الحبيب في النوم ويرى خياله. ورؤية الحبيب في النوم هي رؤية خياله لا رؤية شخصه بعينه. وقال بعض الشراح: يريد أنه بعدما ودعه الحبيب بقي يتذكر وداعه ورحيله، فانقضت الرؤية وخلفها التصور حتى تجسمت صورته في وهمه، وصار إذا رأى خياله في الحلم انتقل إليه ذلك الخيال عن التصور، لا عن العيان، فهو يقول: لولا استدامة هذا التذكر ما جاد علي الحلم بمرأى خياله ولا خيال صورته. وهذا تفسير وجيه، وهو ينظر إلى قول القائل:

نَمْ فَمَا زَارَكَ الْخَيَالُ وَلَكِنـْ ـنَكَ بِالْفِكْرِ زُرْتَ طَيْفَ الْخَيَالِ

(١٧٥) يقول: إن الذي أعاد المنام لنا خياله فأراناه في النوم كان ذلك الذي أرانا خيال الخيال. يعني أنا كنا نصور لأنفسنا في اليقظة خياله، فالذي رأيناه في النوم كان خيال ذلك الذي كان يتصور لنا فهو خيال الخيال. وهذا البيت تأكيد لما قبله من أنه يدوم على ذكر الحبيب وذكر حال الوداع والفراق. والمنام — في البيت — فاعل المعيد، وخياله: مفعول به. وقوله: «كانت إعادته» لك أن تجعل «كانت» تامة، بمعنى حصلت، وخيال خياله: منصوبًا بالإعادة. ويجوز أن يكون أراد بالإعادة: الشيء المعاد — على تسمية المفعول بالمصدر — فيكون «خيال خياله»: خبر كانت.

(١٧٦) يصف الحال التي رأى خيال الخيال عليها في النوم؛ يقول: رأيناه يعاطينا الشراب بكفه وما كان يجري في خاطره أن نراه للبعد الذي بيننا. والشاعر يجعل ما يراه في النوم كأنما يراه في اليقظة، قال البحتري:

أُرَدُّ دُونَكِ يَقْظَانًا وَيَأْذَنُ لِي عَلَيْكِ سُكْرُ الْكَرَى إِنْ جِئْتِ وَسْنَانَا

ولأبي نواس:

إِذَا الْتَقَى فِي النَّوْمِ طَيْفَانَا عَادَا إِلَى الْوَصْلِ كَمَا كَانَا

يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ فَمَا بَالُنَا نَشْقَى وَيَلْتَذُّ خَيَالَانَا

لَوْ شِئْتِ إِذْ أَحْسَنْتِ لِي نَائِمًا أَتْمَمْتِ إِحْسَانَكِ يَقْظَانَا

(١٧٧) التشبيه في البعد، لا في الصورة. يقول: ما كنا نظن أن نراه فلما رأيناه صرنا كأنا نرى بقلائده الكواكب وبخلخاله الشمس، يعني رأينا في المنام ما لم نصل إليه في اليقظة. وقال العكبري: ما في قلادته من الدر بالكواكب وخلخاله بعين الشمس، يريد لمعان خلخاله، وذكر أنه يجني الكواكب من تلك القلائد بتناوله لها وينال عين الشمس من تلك الخلاخل بلمسه إياها. قال: فأحرز قصبات التشبيه فيما شبه به مما لا زيادة عليه في حسن النظر، وأشار إلى المعانقة والملامسة بأحسن إشارة فجعل مديده إلى تلك الفرائد جنيًا للكواكب وإلى الخلخال نيلًا لعين الشمس.

(١٧٨) القريحة: التي بها قروح من طول البكاء. والوله: التحير؛ أي ذهاب العقل من جراء الحب. وهذا البيت تأكيد لما ذكره قبل. يقول: بعدتم عن مرأى التي قرحت بالبكاء في سبيلكم وسكنتم في ظني وفكري — أي في قلبي — فليس يخلو القلب من ذكراكم. وظن الفؤاد يروى: طي الفؤاد، وهذا كقول القائل:

لَئِنْ بَعُدْتَ عَنِّي لَقَدْ سَكَنْتَ قَلْبِي فَسِيَّانِ عِنْدِي غَايَةُ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ

ومثله قول ابن المعتز المتقدم:

إِنَّا عَلَى الْبِعَادِ وَالتَّفَرُّقِ لَنَلْتَقِي بِالذِّكْرِ إِنْ لَمْ نَلْتَقِ

(١٧٩) يقول: استدناكم القلب بتفكره فالدنو من قبل القلب — لا من قبلكم — وسمحتم بالزيارة لكثرة فكره فيكم، والسماح — على الحقيقة — إنما هو منه لا منكم؛ إذ لو خلا القلب منكم لم يحصل هذا الدنو، وإذن: لا منة لكم في هذا. ولما ذكر السماح ذكر المال لتجانس الصنعة، فالضمير في «عنده» وفي «ماله» للفؤاد.

(١٨٠) الطيف: الخيال، وأصل الطيف: الجنون، ثم استعمل في مس الشيطان، قال تعالى: إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وقرئ: «طيف من الشيطان»، ومنه طيف الخيال الذي يراه النائم. يقال: طاف الخيال يطيف طيفًا ومطافًا: أي ألم في النوم. قال كعب بن زهير:

أَنَّى أَلَمَّ بِكَ الْخَيَالُ يَطِيفُ وَمَطَافُهُ لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ

(شعوف: يحتمل أن يكون جمع شعف. ويحتمل أن يكون مصدرًا وهو الظاهر. والشعف والشعوف: إحراق الحب القلب مع لذة يجدها.)

والضمير المستتر في «يهجرنا» للحبيب. وضمير «وصاله» للطيف. يقول: إنه يبغض طيف الحبيب؛ لأن رؤيته الطيف عنوان الهجر، إذ لا يراه إلا حال فراق الحبيب. وعبارة العكبري: هو يبغض طيف محبوبه مع كلفه به ويكرهه مع ارتياحه له؛ لأنه كان يهجره في زمن الوصل ولا يطرقه مع التئام الشمل، فيقول: رؤيتي الطيف عنوان الهجر. قال ابن جني: هذا يسمى الأكذاب؛ لأنه قال في الأول: لا الحلم جاد به، فزعم أن النوم لا يصل إلى أن يريه الخيال، ثم ذكر أنه يبغض طيفه. وقال الواحدي: كان من حقه أن يقول: إذ كان يوصلني زمان الهجر؛ لأن هجر الطيف زمان الوصل لا يوجب بغضًا له؛ إذ لا حاجة به إلى الطيف زمان الوصل، ولكنه قلب الكلام على معنى أن هجره زمان الوصل يوجب وصله زمان الهجر.

(١٨١) لك أن تقرأ «مثل» بالرفع على أنها خبر عن محذوف هو ضمير الطيف. وبالنصب: على تقدير: أبغضه بغضًا مثل. والصبابة: رقة الشوق. والأسى: الحزن، والضمير من «فارقته» للمحبوب. والجملة تفسير للمماثلة، أو حال من الصبابة وما يليها، والتي تعود إليها النون من قوله: «فحدثن» على حد قولك: جلس زيد تضحك الجماعة فيعبس. يقول: فارقت من أحبه فحدثت هذه الأشياء — الصبابة والكآبة والآسى — وكذلك الطيف إنما زار زمن الهجر.

(١٨٢) استقدت: اقتصصت، من القود، وهو قتل القاتل بالقتيل. والأصل فيه أن يقاد القاتل إلى أهل المقتول، فربما قتلوه به وربما عفوا عنه. والبلبال: الهم والحزن وهذا تمثيل. يريد: كان الهوى يؤذيني والحبيب غائب، فلما حضر جعلت إعراضي عن إجابة داعية الهوى وتعففي عما يجرني إليه جزاء له. وبعبارة أخرى: إني انتقمت من الهوى بتعففي وإعراضي عن إجابة داعيه، فأذقته بذلك من الغيظ مثل ما أذاقني من الحزن. قال ابن جني: قوله: من الهوى يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون العرض — أي الهوى نفسه — فيكون هذا من مبالغة الشعر التي ليست لها حقيقة. والآخر: أن يريد المرأة التي شبب بها فيكون على حذف مضاف؛ أي ذات الهوى.

(١٨٣) تستجفل الضرغام: تستدعي إسراعه في الهرب — من قولهم: جفل الظليم وأجفل إذا أسرع — والضرغام: الأسد. وأشباله: أولاده. وقوله: «لكل أرض»؛ أي لافتتاح أو غزو أو قتال كل أرض، وكنى بالساعة عن قصر المدة التي يستولي عليها وسرعة تمكنه منها. يقول: ادخرت لفتح كل أرض ساعة مهولة شديدة لو رآها الأسد لأخذه من الروع ما يضطره إلى الفرار عن أشباله لشدتها وهولها.

(١٨٤) الأجوال: النواحي، واحدها: جول، وجال. والضمير في «بها»: للساعة، ويجوز أن يكون للأرض. يقول: يتلاقى الأبطال في تلك الساعة وبينهم ضرب شديد يكثر الموت فيه، يجول في نواحيه. وفي البيت جناس بين «يجول» و«أجواله».

(١٨٥) السلاف: أجود الخمر، وهو أول ما يجري من ماء العنب من غير عصر. والجريَال: ما كان منه أحمر، وهو دون السلاف. يقول: إن الذي سمعه الناس من كلامي ورأوه إنما هو بمنزلة الجريَال من السلافة؛ أي لم أخرج لهم مختار شعري وجيد كلامي، وإنما خبأته لسيف الدولة.

(١٨٦) الجياد: الخيل الكريمة. وبرزت: سبقت. يقول: إذا تعثر الشعراء المجيدون بالكلام السهل سبقتهم غير متعثر بحزنه؛ يعني إذا لم يقدروا على السهل القريب كنت قادرًا على الصعب الممتنع، فجعل الجياد مثلًا لفحول البلاغة، والسهل والجبال مثلًا لسهل الكلام وصعبه.

(١٨٧) العراء: الأرض الواسعة الخالية. والناعج: الأبيض الكريم من الإبل. و«معتاده»: نعت لناعج. والضمير المجرور للبلد العراء. والمجتاب: القاطع، وهو الذي يقطع الأرض بالسير. والمغتال: المهلك؛ أي الذي يفنيه بالسير. يصف قوته على السير وقطع الفلوات، يقول: وحكمت في الفلوات أجوبها متى شئت بجمل قد اعتاد السفر وقطع الفلوات، ومعنى حكمت فيه قطعت به، على ما قدرت كما أردت، لاعتمادي على قوة مطيتي.

(١٨٨) عدت: ركضت. والمطي: الإبل. والجمام: الراحة. يقال: جم الفرس يجم ويجم جمًّا وجمامًا وأجم: ترك فلم يركب، فذهب إعياؤه. وفرس جموم: إذا ذهب منه إحضار — جري — جاءه إحضار. وكذلك الأنثى، قال النمر بن تولب:

جَمُومُ الشَّدِّ شَائِلَةُ الذُّنَابى يَخَالُ بَيَاضَ غُرَّتِهَا سِرَاجَا

(قوله: شائلة الذنابي: يعني أنها ترفع ذنبها في العدو — أي الجري.)

والكلال: الإعياء. يقول: إن هذا الناعج يمشي على مهله فيسبق الإبل الراكضة خلفه: أي إنه يسبق عدو الإبل ماشيًا ويزيد عليها سرعة إذا كان كالًّا من طول السير وهي مستريحة، فما ظنك به إذا تساوت به الحال وذهب عنه الكلال؟

(١٨٩) تراع: تخوف. ومعقلات: مشدودات بالعقال، يقال: عقل البعير وعقله واعتقله: إذا ثنى وظيفه مع ذراعه وشدهما جميعًا في وسط الذراع، وذلك الحبل هو العقال، والجمع: عقل. والمتجفل: المسرع. يقول: إذا طرأ على الإبل ما يروعها فنفرت فاشتد عدوها — جريها — وهي غير معقولة سبقها هذا الناعج وهو في العقال فتصير وراءه.

(١٩٠) الأخفاف: جمع خف؛ مجمع فرسن البعير. والمراح: النشاط. والإرقال: الإسراع. يقول: بسيره أدرك ما أطلب من النجاح، فالنجاح في قوائمه، وهو نشيط في عدوه لا نشاط إلا في إرقاله. وبعبارة أخرى: نجاحي كله منوط بقوائمه؛ لأني أبلغ مطالبي عليه، وهو نشيط لا نشاط إلا في إسراعه.

(١٩١) الخيس: أجمة الأسد. والرئبال: الأسد. يقول: صرت مشاركًا للخلافة في سيف الدولة؛ أي جعلته سيفًا لي، كما هو سيف دولة هاشم ووصلت إلى أسد الملك بشق الخيس إليه. يعني أن نظام أمري من عطاياه، كما أن نظام الدولة من رأيه.

(١٩٢) يقول: شققت خيس الملك عن الليث — الأسد — الذي أُعطي من الكمال ما لم تعطه الأسود؛ لأنه يشركها ببأسه ويفوتها بحسنه وجماله، فهو لحسنه إذا بطش بعدوه شغله النظر إلى جماله عن خوفه، وما يتوقعه من بأسه. والأسود إذا افترست فريسة أفزعتها لقبح منظرها. ومن روى: خوفه: فالخوف مضاف إلى المفعول؛ لأنه المخوف. ومن روى: خوفها: فالمصدر مضاف إلى الفاعل؛ لأن الفريسة هي الخائفة.

(١٩٣) تواضع — بحذف إحدى التائين — أي تتواضع. والآكال: الأرزاق والأقوات. يقول: إن الأمراء لرفعة شأنه يتواضعون له يقبلون الأرض حول سريره ويظهرون له المحبة وهي — المحبة — من جملة الأرزاق التي تجبى له من مملكته؛ يعني أنه محبوب إلى كل أحد.

(١٩٤) النوال: العطاء. يقول: إنه يقتل العدو بخوفه وهيبته قبل أن يقاتله، ويبش للسائل قبل أن يعطيه، ويعطيه قبل أن يسأله.

(١٩٥) عمدن: قصدن. والناظر: بمعنى المنتظر. ومقبلها — بكسر الباء — أي ما يستقبل؛ وهذا مثل لعجلته في العطاء وسبقه السائل. يقول: إن الرياح إذا قصدت من ينتظرها أغنته بسرعتها عن أن يستعجلها في وصولها إليه، كذلك هو لا يحتاج إلى محرك له في الكرم والفضل.

(١٩٦) يقول: لم يخل أحد من إفضاله عليه، فمن كان دون الملوك ممن هم أهل للعطاء أعطاهم، أما الملوك فقد مَنَّ عليهم بالعفو عنهم وترك ممالكهم لهم، فتساوى الجميع في إفضاله عليهم. قال البحتري:

عَمَّتْ صَنَائِعُهُ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا فَعَدَا الْمُقِلُّ عَلَى الْغَنِىِّ الْمُكْثِرِ

(١٩٧) هزه: أي تحريكه للعطاء بالسؤال. ووالى: تابع. وأن يقولوا: مجرور ﺑ «عن» محذوفة صلة أغنى. وواله: أمر من الموالاة، والضمير للعطاء. يقول: وإذا استغنى الناس بما يعطيهم عن أن يحركوه للعطاء تابع عطاءه، فأغناهم بذلك عن أن يكرروا السؤال.

(١٩٨) الجدوى: العطية. والإقلال: القلة والفقر. يقول: لإكثاره العطاء كأنما يحسد سائله على الفقر فيعطي عطاء كثيرًا ليصير مثله فقيرًا. وكذلك قال المتنبي نفسه حين سأله ابن جني عن معناه، قال المتنبي: أردت إفراطه في الجود، حتى كأنه يطلب أن يكون مقلًّا — كسائله — فهو يفرط في إعطائه طلبًا للإقلال، فكأنه — لكثرة إعطائه — يحسد على الفقر والقلة حتى يصير فقيرًا.

(١٩٩) فغرن: أي فغربن. والهموم: جمع هم، بمعنى همة. يقول: إن النجوم تغرب وتغور في مكان أدنى من هممه وتطلع من مكان أدنى من الغاية التي ينالها؛ أي إن همته تبلغ إلى ما هو وراء النجوم، وينال أبعد منها. وعبارة الشراح: إن همته بلغت أقصى من مغارب النجوم، وتطلع النجوم من مشارقها وهي دون ما ناله بهمته. يعني أن النجوم مع ارتفاع مواضعها وانتزاح مغاربها ومطالعها تغرب مقصرة عما تبلغه همته وتطلع متواضعة عما يدركه تناوله. قال الواحدي: ويجوز أن يكون المعنى أن منال الممدوح أبعد من مطلع النجوم؛ أي لا يصيبه أعداؤه ولا يبلغون مناله.

(٢٠٠) الجد: الحظ. وآل الرجل: أهله وأتباعه. يقول: يجدد الله له كل يوم سعادة ويجعل من أعدائه أولياء له ينضمون إليه ويوالونه رغبة أو رهبة، فيزيد بذلك عدد صحبه وأشياعه.

(٢٠١) يقول: لو لم يقتل أعداءه بسيفه ماتوا بقوة جده وإقبال سعده، فكأن سيف إقباله يقتلهم. جعل مهجهم تجري على إقباله تشبيهًا له بالسيف من طريق المشاكله. والمهجة: دم القلب والروح.

(٢٠٢) الوغى: الحرب. والسربال: الثوب. يقول: لما قاتل أعداءه لم يؤثروا فيه أثرًا غير تلطيخ ثوبه بدمائهم التي سفكتها منهم صوارمه.

(٢٠٣) العرمرم: الجيش الكثير. ويقال: فصمه يفصمه فصمًا فانفصم: كسره من غير أن يبين. أما القصم — بالقاف — فهو الكسر فيه بينونة، يقال: قصمه يقصمه قصمًا فانقصم وتقصم. قال ذو الرمة يذكر غزالًا شبهه بدملج فضة:

كَأَنَّهُ دُمْلجٌ مِنْ فِضَّةٍ نَبَهٌ فِي مَلْعَبٍ مِنْ جَوَارِي الْحَيِّ مَفْصُومُ

(شبه الغزال وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونسي، وكل شيء سقط من إنسان فنسيه ولم يهتد له فهو نبه، وقيل في نبه: إنه المشهور، وقيل: النفيس الضال الموجود عن غفلة لا عن طلب، وإنما جعله مفصومًا لتثنيه وانحنائه، ولم يقل: مقصوم — بالقاف — فيكون بائنًا بائنين.)

والعرى — هنا — القوى. والأقتال: الأعداء، جمع قِتل — بكسر القاف — أي المقاتل. قال عبد الله بن قيس الرقيات:

وَاغْتِرَابِي عَنْ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةِ الْأقْتَالِ

والضمير في «أقتاله» للممدوح، أو للجيش. يقول: لمثل سيف الدولة — أي له لا لغيره — يجمع الجيش الكثيف نفسه ويسلم طاعته فهو — لأنه يغنمه ويسلبه — كأنه جمع نفسه له. ثم قال: وبمثله من أولي الحزامة والتدبير انفصمت عرى أعدائه وانفرط عقدهم ولم يكونوا شيئًا مذكورًا. أو تقول: إن مثله من يجتمع الجيش الكثير لقتاله ودفع بأسه ولكن مثله من يقتل الجيش ويكسر قواه فلا يغني أمامه شيئًا.

(٢٠٤) المباهي: المفاخر. يقول للقمر: لا تسمعن الكذب ولا تكذبك نفسك لست من أمثاله في الحسن والنور. يعني أن من قال لك: إنك مثله فقد كذبك. وجعل القمر مباهيًا وجهه؛ لأنه بحسنه وزيادته كل ليلة كأنه يباهي وجهه.

(٢٠٥) طما البحر: ارتفع وزخر. يقول: قل للبحر — إذا امتلأ ماء — دع هذا الامتلاء والافتخار به، فإنك لن تبلغ مبلغه من الجود. فالإشارة بقوله: «إذا» إلى ما يفهم من قوله: «طما» من العظمة والافتخار. وفي مثل هذا يقول البحتري:

قَدْ قُلْتُ لِلْغَيْثِ الرُّكَامِ وَلج فِي إِبْرَاقِهِ وَأَلَحَّ فِي إِرْعَادِهِ

لَا تَعْرِضَنَّ لِجَعْفَرٍ مُتَشَبِّهًا بِنَدَى يَدَيْهِ فَلَسْتَ مِنْ أَنْدَادِهِ

(٢٠٦) ورث الجدود: أي ورثه من الجدود، تقول: ورثت زيدًا مالًا؛ أي من زيد. ولابن: مفعول ثانٍ لرأي. والضمير في «أفعاله» يعود إلى الابن، و«لا» في قوله: «بلا أفعاله» في معنى غير. يقول: وهب ما ورثه من جدوده من المال والمآثر كلها فوهب المال للعفاة وترك مفاخر آبائه لقومه غير مفتخر بها؛ لأنه لا يفتخر إلا إلا بفعل نفسه ولا يرى أفعال الجدود شرفًا دون أن يبني عليها. وبعبارة أخرى: وهب الذي ورثه من جدوده من المال ولم يفتخر بأفعالهم؛ لأنه يرى أن أفعال الجدود لا يثبت شرفها للابن ما لم يشفعها هو بأفعال تماثلها. والأصل في هذا المعنى قول المتوكل الليثي:

لَسْنَا وَإِنْ أَحْسَابُنَا كَرُمَتْ يَوْمًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ

نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا

وقال كشاجم:

وَإِذَا افْتَخَرْتَ بِأُعْظَمٍ مَقْبُورَةٍ فَالنَّاسُ بَيْنَ مُكَذِّبٍ وَمُصَدِّقِ

فَأَقِمْ لِنَفْسِكَ فِي انْتِسَابِكَ شَاهِدًا بِحَدِيثِ مَجْدٍ لِلْقَدِيمِ مُحَقِّقِ

وقال الشريف الرضي:

فَخَرْتُ بِنَفْسِي لَا بِقَوْمِي مُوَفِّرًا عَلَى نَاقِصِي قَوْمِي مَآثِرَ أُسْرَتِي

(٢٠٧) التراث: المال الموروث. وقوله: فني التراث سوى العلا: لأن المال يفنى بالهبة، والعلا لا تفنى، وإن ترك الافتخار بها. يقول: لما لم يبقَ من المال الموروث شيء قصد الأعداء بالرماح الطوال فامتلأت يده بغنائمهم. أو تقول: لما فني ما ورثه من الأموال لا من المعالي — لأنه لم يضع شيئًا من مجد آبائه — ركب إلى العدا فاتسعت يده بغنائمهم. وقوله: بطواله: أي طوال القنا.

(٢٠٨) الأرعن: الجيش العظيم المضطرب لكثرته. وقيل: سمي الجيش العظيم «أرعن»؛ لأن له فضولًا كرعان الجبال، شبه بالرعن من الجبل؛ وهو الأنف العظيم من الجبل تراه متقدمًا، ومن ذلك سميت البصرة رعناء: أي تشبيهًا برعن الجبل. قال الفردق:

لَوْلَا أَبُو مَالِكِ الْمَرْجُوُّ نَائِلُهُ مَا كَانَتِ الْبَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنَا

والعجاج: الغبار. يقول: قصد العدو بجيش عظيم قد لبس فوق ما عليه من الحديد دروعًا من العجاج وجر أذيال ذلك العجاج خلفه، والجيش كلما كثر كثر الغبار. ومن في قوله: من أذياله: زائدة، كما تقول: جاء يهز من عطفه.

(٢٠٩) القذى: ما يقع في العين من الغبار ونحوه. والنقع: الغبار. وغض الطرف: كسره وخفضه. والضمير في نقعه: للجيش. وفي عنه وإجلاله: للجيش، أو لسيف الدولة. يقول: أظلم النهار بشدة ذلك الغبار حتى كأنما وقع في ضوئه قذًى من الغبار، يعني أن الغبار غطى ضوء النهار فصار كالقذى في عينه، أو كأن النهار غض طرفه إجلالًا له. قال الواحدي: وطرف النهار هو الشمس، فالمعنى أن هذا الغبار نقص من ضوء الشمس وسترها بتكاثفه.

(٢١٠) قلب الجيش: وسطه. يقول: الجيش على الحقيقة جيشك، فكل جيش سوى جيشك ليس بجيش، لكنك جيش جيشك؛ لأنه بك يتقوى، وقلبه وجناحاه تتقوى بك. أو تقول: الجيش جيشك يذود عنك وينزل على حكمك، ولكنك أنت في الحقيقة جيشه الذي يقي قلبه وجناحه ويحتمي بك، وإذا احتمى الملوك بجيوشهم فأنت تحمي جيشك وتدافع عنه بشجاعتك وإقدامك. قال أبو تمام:

لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلًا يَوْمَ الْوَغَى لَغَدَا مِنْ نَفْسِهِ وَحْدَهَا فِي جَحْفَلٍ لَجِبِ

(٢١١) هذا تبيين لما ذكره في البيت السابق من أنه جيش جيشه. يقول: لأنك تقاتل عن فرسان جيشك فيقع عليك الطعان المر دونهم، وتقاتل أبطال أعدائك عن أبطال جيشك فتكفيهم القتال ومقاساة الطعان. وترد: من ورود الماء. يريد تشبيه الطعان بالمنهل؛ ولذلك وصفة بالمرارة.

(٢١٢) يقول: كل الملوك يريدون رجالهم ليدافعوا عنهم ويحموهم من أعدائهم ليبقوا ويسلموا، وأنت تريد أن يبقى رجالك ويسلموا فتدافع عنهم وتحامي دونهم، وهذا غاية الكرم والشجاعة. وقد بنى المتنبي هذا البيت على حكاية وقعت لسيف الدولة مع الإخشيد؛ وذلك أنه جمع جيشًا وزحف به على بلاد سيف الدولة، فبعث إليه سيف الدولة يقول: لا تقتل الناس بيني وبينك، ولكن ابرز إليَّ فأينا قتل صاحبه ملك البلاد. فامتنع الإخشيد ووجه إليه يقول: ما رأيت أعجب منك! أأجمع مثل هذا الجيش العظيم لأقي به نفسي ثم أبارزك؟! والله لا فعلت ذلك أبدًا.

(٢١٣) لا تختطى: لا تتجاوز. يقول: لا يوصل إلى حلاوة الزمان إلا بعد ذوق مرارته، ولا تتجاوز تلك المرارة إلا بارتكاب الأهوال، كما قال:

وَلَا بُدَّ دُونَ الشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ النَّحْلِ

(٢١٤) علي: اسم سيف الدولة. والمنصل: السيف. يقول لأن تلك المرارة على ما ذكر جاوزها — قطعها — الممدوح وحده؛ لأنه لا يركب الأهوال غيره ووصل بسيفه إلى ما كان يؤمله، فأدركه حين طلبه بالسيف.

(٢١٥) يؤمم: يقصد. يقول: هو — سيف الدولة — سيف يقصد ويطلب ما يؤمله، ولكنه أمضى من السيف في بلوغ آماله.

(٢١٦) المهمه: المفازة البعيدة. وطاله — من قولهم: طاولته فطلته: أي غلبته في الطول، يقول: إذا سار في الفلوات والأرض السهلة عمها بجنوده، وإن سار في الجبل علاه فصار فوقه، وليس هذا من أعمال السيف.

(٢١٧) نال ينول: إذا أعطى. وثمر ماله: أحسن القيام عليه وأنماه. يقول: أنت بما تعطينا كالمالك الذي ينمي أمواله، ولكنك تنمي بعضها ببعض.

(٢١٨) الضيغم: الأسد. ورشحه للأمر: هيأه وأهله. والفرس بمعنى الافتراس. والشبل: ولد الأسد. يقول: أنت — لأنك تمرست بمقارعة الأبطال، وتفردت دوننا بمنازلة الأقران — أسد ينهج لأشباله ما يأتيه ويفعله ويضريها على ما يمتثله. يعني أنك تضرينا على الحرب وتعودنا القتال كما يرشح الأسد أشباله للافتراس فيعلمها ذلك.

(٢١٩) أيقدح: أيعيب؟ والاستفهام إنكاري. والواو من «وتشمل» حالية. والعذل: جمع عاذل؛ اللائم. يقول: هؤلاء الذين يلومون الخيمة على السقوط أيعيبونها وعذرها في هذا التقوض أنها اشتملت على من شمل الدهر فضاقت عنه فلم تثبت حوله؟ قال الواحدي: وإضافة الدهر إلى الخيمة غير مستحسن، ولو قال: من دهره يشمل لكان أحسن. ومعنى شمل الشيء: أحاط به؛ أي إن الخيمة تحيط بمن أحاط بالدهر. يعني علم كل شيء، فلا يحدث الدهر شيئًا لم يعلمه، ومن كان بهذا المحل لا يعلوه شيء ولا يحيط به شيء. هذا، وفي رواية:

أينفع في الخيمة العذل

أي أينفع عذل العاذلين في سقوط الخيمة؟ والرواية الأولى أوجه.

(٢٢٠) محال: خبر مقدم. و«ما» من «ما تسأل» بمعنى الذي؛ مبتدأ مؤخر، يقول: وهل تعلو الخيمة الذي زحل تحته في علو القدر والنباهة؟ فالذي تسأله الخيمة وتكلفه من الثبوت فوقه محال. ومن روى: «ما تسأل» بفتح التاء — للمعلوم. فالضمير للخيمة أو للمخاطب؛ أي أن ما تسأله هي أو ما تسألها أنت من ذلك محال.

(٢٢١) ما: بمعنى ليس. ويذبل: جبل معروف. يقول: لم لا تلوم الخيمة من لامها على سقوطها قائلة له: لم لا يكون فص خاتمك يذبل؟ أي فكما يستحيل لوم من لم يتخذ الجبل فصًّا، فكذلك لوم الخيمة. وعبارة ابن جني: إن جاز أن تلام هذه الخيمة على عجزها عن علوها الممدوح، وهو غير ممكن — لعلوه عنها — فلم لا تلوم من لامها على أنه ليس فص خاتمه يذبل؟ وهو مستحيل أن يكون فص خاتم إنسان يذبل؛ لأن هذا ليس في طاقته، فكذا هذه الخيمة لا تقدر أن تعلو الممدوح لقصورها عنه. وقال ابن الإفليلي: المعنى لم لا تلوم من لامها وتقول له: إنني تهيبت الرئيس وأعجزني الاشتمال عليه بقصر يذبل مع عظمته عن فص خاتمه وخفته بجانب رزانته وقلته بالقياس إلى جلالته فكيف أطيق الاشتمال على من هذه حاله؟ وقال ابن القطاع: ما — من قوله: وما فص خاتمه يذبل — بمعنى الذي. والضمير في خاتمه: لسيف الدولة. والتقدير: لم لا تلوم لائمها، وسيف الدولة الذي فص خاتمه يذبل تحتها؟ فحذف الخبر … وهذا — كما ترى — تعسف من ابن القطاع. وقد قال لنا ابن جني: سألت المتنبي عن هذا البيت فقال: «ما» بمعنى ليس، والتقدير كما قلنا: لم لا تلوم الخيمة من لامها، على أنه ليس فص خاتمه يذبل والضمير راجع إلى اللائم. هذا، والخاتم — بكسر التاء وفتحها — لغتان فصيحتان.

(٢٢٢) الأرجاء: النواحي. والجحفل: الجيش العظيم. يقول: إن هذه الخيمة واسعة كبيرة بحيث يركض الجيش الكثير في أحد نواحيها، ولكنها مع ذلك ضاقت جميعها بشخصك هيبة لك وإجلالًا أن تعلوك.

(٢٢٣) «ما» مصدرية زمانية. والقنا: الرماح. والذبل: جمع ذابل يوصف به الرماح للينها؛ لأنها طويلة. يقول: وتقصر عنك ما دمت في جوفها فلا تستطيع أن تعلوك إجلالًا لك وهيبة لعلو مرتبتك مع أنها هي في الحقيقة عالية حتى تركز فيها الرماح.

(٢٢٤) الراحة: راحة الكف. والأنامل: أطراف الأصابع. يقول: وكيف تبقى الخيمة قائمة وتحتها راحتك الواسعة الجود؟ فكأن البحار أنامل لها.

(٢٢٥) يقول: فليتك فرقت وقارك على الناس وحملت أرضك من باقي وقارك ما تطيق حمله، فإنك لو فعلت ذلك لخص الخيمة منه ما يوقرها ويثبتها فلا تسقط.

(٢٢٦) يقول: فصار الناس كلهم سادة بما أخذوا من الوقار وفضل لك منه ما تصير به سيد الناس. يصف رزانة حلمه وكثرة وقاره، وأنه لو فرق منه الكثير لبقي له ما يسود به الناس.

(٢٢٧) الغزالة: الشمس عند طلوعها، يقال: طلعت الغزالة، ولا يقال: غابت الغزالة، وإنما يقال: غربت الجونة، وغزالة الضحى وغزالاته بعدما تنبسط الشمس وتضحى، يقال: جاء فلان في غزالة الضحى. قال ذو الرمة:

فَأَشْرَفْتُ الْغَزَالَةَ رَأْسَ حُزْوَى أُرَاقِبُهُمْ وَمَا أَغْنَى قِبَالَا

(يريد بقوله أراقبهم: الأظعان. ونصب الغزالة على الظرف. ورأس حزوى: مفعول أشرفت على معنى علوت؛ أي علوت رأس حزوى في غزالة الضحى. ولك أن تقول: إن الغزالة — في البيت — الشمس، أي علوت رأس حزوى طلوع الغزالة؛ أي طلوع الشمس.)

يقول: صارت الخيمة بما اتصل بلونها من لون نورك كالغزالة التي لا يفارقها ذاتي نورها، وأراد بقوله: لا يغل، أن ذلك النور لا يزول عنها ولا يفارقها. والمعنى أن الخيمة اكتسبت من نورك ما صارت به موازية للشمس التي لا يزول نورها.

(٢٢٨) شرف باذخ: أي عالٍ. والباذخ والشامخ: الجبل الطويل. وبذخ البعير يبذخ بذخانًا فهو باذخ وبذاخ: اشتد هدره فلم يكن فوقه شيء. يقول: ورأت أن لها شرفًا عظيمًا إذ سكنتها، وإذا رأتها الخيام خجلت؛ إذ لم تبلغ ما بلغت من الاشتمال عليك.

(٢٢٩) أنكر الشيء: استغربه. والصرعة: السقطة. ومن فرح النفس: خبر مقدم، وما يقتل: مبتدأ مؤخر. يقول: فإذا سقطت الخيمة لم يكن ذلك نكرًا مستغربًا؛ لأنها فرحت بذلك غاية الفرح، والفرح قد يقتل إذا بلغ الغاية، فكيف لا تصرع؛ أي لا تسقط؟

(٢٣٠) يقول: لو بلغ الناس العقلاء مبلغ هذه الخيمة من القرب منك والاشتمال عليك لخانتهم أرجلهم فلم تحملهم هيبة لك، كما خانتها أطنابها وعمدها.

(٢٣١) التطنيب: مد الأطناب. يقول: لما أمرت بهذه الخيمة أن تنصب وتمد أطنابها أشيع الخبر في الناس أنك لست راحلًا للغزو، لأمر دعاك إلى الإقامة.

(٢٣٢) الاعتماد: معناه القصد. والتقويض: الهدم، يريد قلع الخيمة. يقول: لم يقصد الله سبحانه هدم الخيمة، وإنما أراد بإسقاطها أن يشير عليك بما ينبغي أن تفعل من معالجة النهوض والتوجه للغزو، وأن الأمر ليس على ما يقول الناس. وأشار: بمعنى أمر، من المشورة، لا من الإشارة — لأنه وصله بالباء. وقال العكبري: أشار من الإشارة، لا من المشورة في الرأي، فإن قيل: الإشارة إنما تكون بالإيماء بالجارحة، والله تعالى يرتفع عن الوصف بالجوارح، قيل: إنما أراد بالإشارة: التنبيه؛ أي فنبهك بوقوعها على الرحيل الذي أعرضت عنه. فالخيمة المشيرة إليه بالوقوع. وقال الآخرون: وجه جوازه أن يكون الله أشار إليه بجسم من الأجسام يحتمل الحركة إما حي وإما موات؛ إذ لا جارحة له تعالى.

(٢٣٣) من همه: مما يهتم به ويحتفل. ويقال: رفل يرفل؛ إذا تبختر وجر أذياله. يقول: وعرف الله الناس بتقويض الخيمة أنه لم يخذلك وإنما يُعنَى بك. يريد إرشادك إلى ما تفعل، وأنك تمشي في نصر دينه، فجعل قلع الخيمة سببًا لمسيرك وعلامة على أنه خار لك الارتحال.

(٢٣٤) هذا استفهام تحقير وتصغير، ولذلك استفهم بلفظ «ما». وعند يعند عنودًا فهو عاند: مال عن القصد ورد الحق وهو يعرفه، وأصل العاند: البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد. والجمع عُنَّد — مثل راكع وركع — وأنشد أبو عبيدة:

إِذَا رَحَلْتُ فَاجْعَلُونِي وَسَطًا إِنِّي كَبِيرٌ لَا أُطِيقُ الْعُنَّدَا

(جمع بين الطاء والدال وهو إكفاء، ويقال: هو يمشي وسطًا لا عندًا.)

يقول: هؤلاء الأعداء الذين يميلون عن الصدق إلى الكذب والحاسدون ما هم وما قولهم؟ أي لا تأثير لعداوتهم وحدهم فيك ولا لما يلفقونه من الأقوال أو يضربون لك من الفأل بالنحوس عند سقوط الخيمة، ومعنى ما أثلوا ما أصلوا من الكلام وجعلوه أصلًا لتكذابهم. ويروى: ما أملوا، ويقال: قولتني ما لم أقل: أي نسبته إليَّ. ومعناه. أنهم يحكون أقوالًا كاذبة ويفشونها فيما بين الناس. وقال ابن جني: قوَّلوا؛ أي كرروا القول وخاضوا فيه.

(٢٣٥) فمن أدركوا: يروى «فما أدركوا» يقول: هم يطلبون رتبتك، فمن الذين أدركوا منهم شأوك؟ ووجه آخر: هم يطلبون بكيدهم فمن الذين أدركوه حتى يطمعوا فيك؟ أو ماذا أدركوا من ذلك؟ وهم يكذبون في تلفيق الأحاديث عنك، ولكن من يقبل كذبهم ويصدقه؟

(٢٣٦) الجد: البخت والإقبال. يقول: هم يتمنون الظهور عليك وإهلاكك ولكن إقبالك وسعادة جدك تحول دونهم ودون ما يشتهون.

(٢٣٧) وملمومة: عطف على جدك — في البيت السابق — يريد كتيبة من الجيش مجموعة. وزرد: خبر مقدم، وثوبها: مبتدأ مؤخر — أي اتخذت هذه الكتيبة الدروع ثيابًا لها. والزرد حلق الدروع، وجعل رماحها كالخمل لتلك الثياب، وهو ما تدلى من الثياب المخملة. يعني: وحال بينهم وبين ما يشتهون جيشك الذي اتخذ فرسانه الدروع لباسًا لهم حتى كأنهم منها في ثوب سابغ إلا أن ذلك الثوب مخمل بالرماح. وروى ابن الإفليلي: وملمومة — خفضًا — قال ورب ملمومة … إلخ.

(٢٣٨) الحين: الهلاك. والقسطل: الغبار. يقول: يفاجئ بهذه الكتيبة جيشًا هلاكه بها، وينذر غبارها جيشًا آخر. يعني أنه تارة يسير بها ليلًا فيباكر جيشًا من الأعداء لا يشعر به فيهلكه، وتارة يسير بها نهارًا فتثير غبارًا فينذر جيشًا آخر يرى ذلك الغبار فيهرب. وقيل المعنى: تحزن؛ أي تسير في الحزن فلا تثير غبارًا، وتارة تسهل؛ أي تسير في السهل فتثير غبارًا.

(٢٣٩) العدة: ما أعددته لحوادث الدهر من مال وسلاح ونحوهما. يقول: اتخذتك عدة لي بقلبي وعزمي: أي اعتقدت فيك أنك عدة لي فيما أحتاج إليه؛ لأنك لست من العدد التي تعد باليد كالسيوف والأسلحة، ويجوز أن يريد لست من العدد التي تعمل باليد؛ أي لا تتصرف فيك الجوارح، وإنما تنال بالفكر والاعتقاد. وعبارة بعض الشراح: وقد روى البيت في القلب وفي اليد اتخذت عدة لي في القلب أتشجع بك في الملمات وأجعل رجاءك سلاحًا لي على دفع غوائل الدهر؛ لأنك أجل من أن تجعل في اليد كسائر العدد.

(٢٤٠) المنصل: السيف. ومن دولة: فمن زائدة. يقول: لقد رفع الله دولة جعلتك سيفها على سائر الدول. يعني دولة الخلافة.

(٢٤١) المرهفات: جمع مرهف؛ السيف الرقيق الحد. وطبع السيف: صنعه. والمقصل: القاطع. يقول: إذا كانت السيوف قد سبقتك بأن طبعت قبلك، فإنك قد سبقتها بالقطع؛ لأنك تقطع بعقلك ورأيك وحكمك ما لا تقطعه السيوف. وقال ابن جني: المعنى أنك لإفراط قطعك وظهوره على قطع جميع السيوف كأنك أول من قطع؛ إذ لم يُرَ قبلك مثلك. وقال غيره: يريد أن قطعها بسببك، ولولا قطعك ما قطعت.

(٢٤٢) يقول: إن كان الكرام الأولون جادوا قبلك، فإنك زدت عليهم وأبدعت في ذلك ما صرت به أولًا في الكرم.

(٢٤٣) الليث، الأسد. ولبؤة مشبل: ذات أشبال. والشبل: ولد الأسد: يقول: كيف تقصر عن إدراك الغايات البعيدة في الكرم والفضل والشجاعة وقد ولدك الأسد؟ فأمك أشبلت بك من أبيك الذي هو الأسد، وقد ضرب ذلك مثلًا لشجاعته ومضائه كأن أبويه أسدان، ومن روى: مَن ليثُها — بفتح ميم من — فمن عبارة: عن الأم، وهي خبر المبتدأ، وما بعدها مبتدأ وخبر صلة لها، والمشبل — على هذا — هو الليث، وهو الأب.

(٢٤٤) يقول: لما ولدتك أمك كنت شمسًا في رفعة المحل ونباهة الذكر، فقال الناس: ألم تكن الشمس لا تنجل — أي لا تولد — فكيف ولدت هذه المرأة شمسًا؟! وهذا ينظر إلى قول الأول:

لَأمٌّ لَكُمُ بخلت مَالِكًا مِنَ الشَّمْسِ لَوْ نجلَتْ أَكْرُم

ومن روى: لا تنجل — بالبناء للمعلوم — جعل أمه الشمس؛ أي فقال الناس: ولدت الشمس وهي لا تلد، جعل الممدوح — لعلو قدره — كأنه نجل الشمس. والرواية الأولى أجود وأمدح. هذا، والورى: الخلق، تقول العرب: ما أدرى أي الورى هو؟ أي الخلق هو؟ قال ذو الرمة:

وَكَائِنْ ذَعَرْنَا مِنْ مَهَاةٍ وَرَامِحٍ بِلَادُ الْوَرَى لَيْسَتْ لَهُ بِبِلَادِ

قال ابن جني: لا يستعمل الورى إلا في النفي، وإنما سوغ لذي الرمة استعماله واجبًا؛ لأنه في المعنى منفي كأنه قال: ليست بلاد الورى له ببلاد.

(٢٤٥) التب: الهلاك والخسار، وهو منصوب على المصدر. يقول: ضلالًا وخسارًا للذين يعبدون النجوم ويدعون أنها عاقلة. وقد بين العلة في البيت التالي.

(٢٤٦) يقول: النجوم على زعم من يدعي أنها تعقل قد عرفتك وعرفت أنك أجل منها قدرًا، فما بالها لا تنزل إليك لتخدمك، وهي تراك تنظر إليها؟ يعني أنها لا تعقل ولو عقلت لنزلت إليك.

(٢٤٧) يقول: لو بات كل منكما في الموضع الذي يستحقه قدره لبت في موضع النجوم وباتت هي في موضعك؛ لإربائك عليها في الشرف.

(٢٤٨) قال الواحدي: لو قال: عبيدك كان أحسن؛ لأن الأكثر في الاستعمال أن العباد تضاف لله سبحانه وتعالى، فأما المضاف إلى الناس فقلما يقال فيه العباد. يقول: أعطيت عبيدك؛ يعني الناس، جعلهم عبيدًا؛ لأنه ملك ما رجوه من عطائك، ثم دعا له أن يكافئه الله بمثل فعله فينيله ما يؤمله.

(٢٤٩) قال الواحدي: دخل أبو الطيب على سيف الدولة بعد تسعة عشر يومًا، فتلقاه الغلمان وأدخلوه إلى خزانة الأكسية، فخلع عليه ونضح بالطيب، ثم أدخل على سيف الدولة، فسأله عن حاله وهو مستحي، فقال أبو الطيب: رأيت الموت عندك أحب إليَّ من الحياة عند غيرك. فقال: بل يطيل الله عمرك، ودعا له، ثم ركب أبو الطيب وسار معه خلق كثير إلى منزله، وأتبعه سيف الدولة هدايا كثيرة، فقال أبو الطيب يمدحه بعد ذلك، وأنشده إياها في شعبان سنة إحدى وأربعين وثلاث منه.

(٢٥٠) الطلل: ما شخص من آثار الديار. والركب: القوم الراكبون يقول: استدعى الطلل دمعي بدثوره فأجابه الدمع وكنت أول من أجاب ببكائه قبل أصحابي وقبل الإبل. يريد أن الإبل تعرف أيضًا ذلك الطلل وتبكي عليه، كما قال التهامي:

بَكَيْتُ فَحَنَّتْ نَاقَتِي فَأَجَابَهَا صَهِيلُ جَوَادِي حِينَ لَاحَتْ دِيَارُهَا

والمعنى: أنه وقف على ديار محبوبه، فشجاه ما شاهد من دروس رسومها وتغير طلولها، فاستدعى ذلك بكاءه، فأجاب دمعه تلك الدعوة قبل أن يجيب ذلك سائر أصحابه بالتأسف والإبل بالحنين.

(٢٥١) أُصيحابي: تصغير تعظيم. وأكفكفه: أكفه مرة بعد أخرى. ويسفح: يجري ويسيل. يقول: ظللت أكف الدمع خوفًا من لوم الركب فظل الدمع يسيل وأصحابي من بين عاذر لي وعاذل — لائم — والدمع يسيل بين العذر والعذل في شاغل عنهما. هذا، ويقال: ظل نهاره يفعل كذا وكذا يظل ظلًا وظلولًا، وظللت أنا وظلت وظلت، لا يقال ذلك إلا في النهار لكنه سمع في بعض الشعر ظل ليله. وأصل ظلت: ظللت، إلا أنهم حذفوا فألقوا الحركة على الفاء. قال تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، ومثله: مست، في «مسست» قال الجوهري: وربما قالوا: مست الشيء، يحذفون منه السين الأولى ويحولون كسرتها إلى الميم، ومنهم من يترك الميم على حالها مفتوحة. وأنشد الأخفش لابن مغراء:

مسنا السَّمَاء فَنِلْنَاهَا وطَاء لَهُمْ حَتَّى رَأَوْا أُحدًا يَهْوِي وَثهلَانَا

والأصل: مسسنا السماء، وهذا من شواذ التخفيف.

(٢٥٢) النوى: البعد والفراق. والعَبرة: الدمع. والكلل: جمع كلة؛ الستر الرقيق. يقول: أشكو الفراق وهم يتعجبون من بكائي للفراق، ولا عجب في ذلك؛ فإني كنت على مثل ما يرون من البكاء حين كانت المحبوبة بقربي لا يحجبها عني غير الستر، فكيف الآن وقد حجبها عني الفراق؟ فالواو في قوله: «وما أشكو» للحال؛ أي حين لا أشكو سوى الستر: أي في حال دنو المسافة. ومن روى: «كذاك كانت» فمعناه: كانت العبرة حين كان الحاجب بيننا الكلة. والمصراع الثاني رد على أصحابه حين تعجبوا من بكائه؛ أي: لا تتعجبوا من بكائي على فراقها، فلقد كنت أبكي في هجرها وما أشكو مانعًا دون الستور التي تحجبها والمنازل متجاورة والدور متصاقبة.

(٢٥٣) الصبابة: رقة الشوق. وقوله: «كمشتاق» أراد كصبابة مشتاق، فحذف المضاف. يقول: إن المشتاق الذي لا يأمل لقاء حبيبه أشد حالًا ممن يأمل؛ لأنه إذا كان على أمل خفف التأميل برح اشتياقه. قال الواحدي: ويجوز أن يكون أخف حالًا لاسترواحه إلى اليأس. والأول أوجه.

(٢٥٤) الإتحاف: الإطراف بالهدية. والبيض: السيوف. والأسل: الرماح. يقول مخاطبًا نفسه: إن هذه الحبيبة منيعة في قومها بالسيوف والرماح، فإذا زار قومها لأجلها كانت تحفته من قبلهم السيوف والرماح؛ يعني أنه يخافهم على نفسه إن زار محبوبته. أي إن الوصول إليها متعذر لما يعترضه من شوكة قومها وعزتهم. وقد أرجع ضمير «من» على المعنى دون اللفظ، فقال: زيارتها، ولو رده على اللفظ لقال: زيارته.

(٢٥٥) ما يراقبه: يعني ما يتوقعه من بأس قومها. يقول: إن هجرها أقتل له من سلاحهم، فإذا كان مقتولًا بالهجر لم يُبَالِ بعده بالسلاح؛ لأن من غرق في الماء لم يخشَ البلل. وهذا من قول بشار:

كَمُزيلٍ رِجْلَيْهِ عَنْ بَلَلِ الْقطـْ ـرِ وَمَا حَوْلهُ مِنَ الْأَرْضِ بَحر

وقال ابن وكيع — وأنت تعلم مقدار تجنيه على المتنبي: هذا مأخوذ من قول عدي بن زيد:

لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ كُنْتُ كَالْغَصَّانِ بِالْمَاءِ اعْتِصَارِي

(الاعتصار: أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء، وهو أن يشربه قليلًا قليلًا. والغصَّان: الغاص. ويقال: غصصت بالماء أغص غصصًا: إذا وقف في حلقك فلم تكد تسيغه.)

قال العكبري: وليس كما قال، وإنما نقله من قول الحكيم: من علم أن الفناء مستولٍ على كونه هانت عليه المصائب.

(٢٥٦) قال الواحدي: كان حقه أن يقول: ما بالُ فؤادي لا ينتقل عن حبها وبكل فؤاد من عشيرتها — أهلها وقرابتها — ما بي؟ لأن التعجب إنما هو من فؤاده، لا من أفئدتهم. يعني لم لا ينتقل حبها عني ولا أسلوها إذا كان قومها وعشيرتها يحبونها كحبي؟ يشير إلى أنها محبوبة في قومها منيعة فيما بينهم، وأنه في يأس من الوصول إليها، واليأس من الشيء يوجب السُّلُوَّ عنه، كما قالوا: اليأس إحدى الراحتين، وأنه مع هذا اليأس لا ينتقل عنه حبها. وذهب بعضهم إلى أن المعنى أنه يدعي بلوغه في حبها مبلغًا لا يبلغه أحد ما لم ينتقل إليه منه، وهذا وجه التعجب في البيت. يقول: ما لي أرى كل قلب من قلوب عشيرتها فيه من حبها مثل ما في قلبي مع أن ما في قلبي باقٍ لم ينتقل عنه إلى غيره؟ يعني أنها قد بلغت مبلغًا من الجمال حببها إلى كل أحد، حتى بلغ فيه كل قلب أقصى مبلغ من الغرام. وعبارة ابن جني: أجود ما يتأول في هذا أن يجعل الذي يجده من الشوق كأنه شخص، والشخص إذا حصل في مكان لم يشغل غيره، فإذا صح ذلك صح إنكاره لثبات وجده؛ لأنه في أماكن كثيرة والشخص لا يشغل مكانين فأما العرض فلا يشغل مكانًا، فإذا كان في قلب واحد جاز أن يكون في قلوب كثيرة. والمعنى: يصفها بالحسن وأنها معشوقة الدَّلِّ، كل قلب في عشيرتها به الذي بأبي الطيب من حبها، فما بال حبها في قلبه ثابت لا ينتقل ومقيم لا يرتحل؟ يريد أن حب أهلها لها لبراعة حسنها غير حبه لها، وأن حبهم يتغير وينتقل، وحبه لا يتغير ولا ينتقل، بل هو ثابت.

(٢٥٧) يقول: هي مطاعة اللحظ من بين ألحاظ الحسان، إذا دعا لحظها إنسانًا إلى هواها لبى مطيعًا فهي مالكة القلوت فتانة. ولمقلتيها ملك عظيم في دولة المقل، لهما دونها الأمر النافذ. وقال ابن فورجه: أي إن العيون إذا نظرت إلى عينها لم تملك صرف ألحاظها عنها؛ لأنها تصير عقلة لها، فكأن عينيها مالكة العيون. وهو معنى قول أبي نواس:

كُلَّ يَوْمٍ يَسْتَرِقُّ لَهَا حُسْنُهَا عَبْدًا بِلَا ثَمَنِ

(٢٥٨) تشبه — بحذف إحدى التاءين — أي تتشبه. والخفرات: الحييات. والآنسات: جمع آنسة، ويقال جارية آنسة: إذا كانت طيبة النفس تحب قربك وحديثك. يقول: إن النساء الحييات ذوات الأنس يقصرن عن محاسنها فيتشبهن بها في حسن المشية ويرين مثل دَلِّها، فيكتسبن الحسن بالتشبه بها، ويحتلن حتى ينلن ذلك. وعبارة ابن جني والواحدي: إذا كان في حسن امرأة تقصير تشبهت بها في مشيها، فيجبر حسن المشي تقصير الحسن حتى تكون قد نالت الحسن بالحيلة.

(٢٥٩) الصاب: شجر مر. يقول: مرت بي من الدهر حلاوته ومرارته، فما حصلت من حلوه على عسل، ولا من مره على صاب، لانقضائهما وسرعة مرورهما، فكأني لم أذق شيئًا منهما. وهذا من قول البحتري:

وَمَنْ عَرَفَ الْأَيَّامَ لَا يَرَ خَفْضَهَا نَعِيمًا وَلَا يَعْدُدْ تَصَرُّفَهَا بَلْوَى

(٢٦٠) يقول: إنه إنما كان حيًّا حين كان شابًّا، فلما شاب صار كأنه قد مات وانتقل روحه إلى غيره. كما قال الآخر:

مَنْ شَابَ قَدْ مَاتَ وَهْوَ حَيٌّ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَشْيَ هَالِكْ

والمعنى: أنه تغير بعد المشيب حتى صار غير ما كان أولًا. وعبارة العكبري: قد صحبت الشباب مسرورًا وأراني الروح — يريد القوة والجلادة والنهضة — في بدني ثم صحبت المشيب مستكرهًا لصحبته فأراني الروح في بدلي بتغير أحوالي وعجزي عن النهوض والقيام بسرعة كما كنت أيام الشباب، وصرت أستعين بغيري يساعدني على أحوالي، وكأني بهذا قد أراني الروح في بدلي — يريد القوة والنشاط — والذي كنت أفعله وحدي صرت أحتاج فيه إلى مساعد. وتلخيص المعنى أن حقيقة أمور الإنسان أيام شبابه ثم تتبدل بالانتقال إلى مشيبه وكبره. وقال ابن فورجه: أحسن ما يحمل عليه البدل في هذا البيت الولد؛ لأنه بدل الإنسان إذ كان يشب أوان شيخوخة الأب، وإذا مات ورثه، فيكون كأنه بدله في ماله وبدنه.

(٢٦١) رجل عزهاة وعزهاءة وعزهى وعزه وعزه وعزهى وعزهاء وعنزهوة وعنزهو: كله عازف عن اللهو والنساء لا يطرب للهو ويبتعد عنه وعن مغازلة النساء والتحدث إليهن، والجمع: عزاهٍ مثل سعلاة وسعال وعزهون — بالضم — قال ابن بري: ويقال عزهاة: للرجل والمرأة. قال يزيد ابن الحكم:

فَحَقًّا أَيْقِنِي لَا صَبْرَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَأَنْتِ عِزْهَاة صَبُورِ

والغزل: الذي يهوى محادثة النساء. يقول: أتيت حبيبتي ليلًا ومعي سيفي وقد جعل السيف موضع الرداء، والسيف لا يوصف بالميل إلى النساء ولا بالميل عنهن.

(٢٦٢) التراقي: جمع الترقوة؛ العظم الذي بين المنكب وبين ثغرة النحر. يقول: فبات السيف بيننا ونحن متعانقان ولا علم له بما يجري بيننا من شكوى الاشتياق والقبل ولا غير ذلك مما يجري بين المحبين إذا هما تعانقا، ويشير بهذا إلى ما كان عليه من الحذر والمخافة، وأنه حين عانق محبوبه لم يخلع السيف.

(٢٦٣) الردع: التلطخ بالطيب، يقال: به ردع من زعفران؛ أي لطخ وأثر، وردعه بالشيء يردعه ردعًا فارتدع: لطخه به فتلطخ. قال ابن مقبل:

يَخْدِي بِهَا بَازِلٌ فُتْلٌ مَرَافِقُهُ يَجْرِي بِدِيبَاجَتَيْهِ الرَّشْحُ مُرْتَدِعُ

(خدى البعير والفرس يخدي خديا: أسرع وزج بقوائمه، مثل وخد، وجمل بازل بزل نابه: أي انشق، وذلك في السنة التاسعة، وذلك أقصى أسنان البعير. والفتل: شدة عصب الذراع، ومرفق أفتل بين الفتل. وقوله: يجري … إلخ، قال بعضهم معناه متصبغ بالعرق الأسود، كما يردع الثوب بالزعفران، وقال آخرون: قوله: مرتدع: أي قد انتهت سنه.)

ويروى: من درعها؛ أي ثوبها. وذؤابة السيف هنا: حمائله. وجفنه: غمده. والخلل: جمع خلة — بكسر الخاء — وهي ما يغشى به الغمد من الجلد المنقوش بالذهب وغيره. يقول: ثم غدا السيف وقد تأثر بما كان عليها من الطيب وظهرت آثاره على حمائله وغمده، والغلاف الذي فيه الغمد. يعني أنه لصق بمحبوبته حتى لصق به الطيب الذي طيبت به.

(٢٦٤) المضارب: جمع مضرب، وهو حد السيف. والسنان: نصل الرمح، والأصم: الصلب، وهو صفة لمحذوف؛ أي سنان رمح أصم الكعب، والكعب: العقدة بين الأنبوبتين. يقول: لا أطلب الشرف ولا أكسبه إلا من مضارب السيف أو من سنان الرمح، يعني أنه لا يكسب المجد إلا بإقدامه وبأسه. قال العكبري: الرواية التي قرأنا بها الديوان بإضافة سنان إلى أصم بغير تنوين. ورواه جماعة: سنان — بالتنوين — والأجود الإضافة، وإذا نوِّن يكون المعنى: ومن سنان أصم كعبه، والكعب للرمح لا للسنان، وإذا جوزناه على الاستعارة كان للرمح أشبه. وأيضًا فإن في السنان نونين، وإذا نون صار فيه ثلاث نونات، وثلاثة حروف بمعنى في كلمة ثقيل.

(٢٦٥) يقول: أعطاني الأمير هذا السيف في جملة ما وهبه لي فزان بحسنه الهبات التي وهبنيها وكساني في جملة ما أعطاني من الثياب الدرع. يعني أنه وهبه سيفًا ودرعًا في جملة ما وهبه.

(٢٦٦) علي: هو سيف الدولة، يقول: منه تعلمت حمل السيف، فهو واهبه لي ومعلمي حمله. ثم قال مستأنفًا: من مثله أو مثل أبيه، يعني لا مثل لهما. ومن علي: خبر مقدم، ومعرفتي: مبتدأ مؤخر.

(٢٦٧) الكواعب: الجواري الشابات؛ أي التي كعبت — نبتت — ثديهن. والجرد: الخيل القصار الشعر، وذلك آية عتقها وكرمها. والسلاهب: الخيل الطوال. والبيض القواضب: السيوف القواطع الماضية. والعسالة: الرماح التي تضطرب للينها. والذبل: الرماح الضامرة. يقول: إنه يعطي سائليه هذه الأشياء التي تدل على أنه يستصحب كماة الفرسان وأعلام الشجعان فيعتمدهم في هباته بما يوافقهم ويعضدهم بما يشاكلهم.

(٢٦٨) يقول: ضاق عنه الزمان والمكان، فإن همه وما يخلده من جليل المكارم ويتابعه من كثرة الوقائع كل أولئك يُحمِّل الزمان ما لا يطيقه ويجشمه ما لا يعهده، فيضيق عن فخامة قدره، ويقصر عن جلالة مجده؟ وكذلك تضيق الأرض عما يحملها من جيوشه. وإذن فهو قد ملأ الزمان بمكارمه ومجده، وملأ السهل والجبل بكتائبه وجمعه.

(٢٦٩) الجذل: الفرح. والوجل: الخوف. يقول: نحن المسلمين فرحون بانتصاره، والروم في خوف منه لغاراته وغزواته، والبر مشتغل بجيشه لا يتفرغ لغيره، والبحر في خجل من ندى يديه.

(٢٧٠) تغلب: قبيلة الممدوح. وعدي: رهطه. ومن تغلب: خبر مقدم، ومنصبه: مبتدأ مؤخر. والمنصب: الأصل. وأعادي الجبن: صفة لعدي. يقول: أصله من تغلب التي غلبت الناس نجدة وشجاعة، ومن عدي الذين هم أعداء الجبن والبخل.

(٢٧١) أبو الهيجاء: كنية والد سيف الدولة، وجملة تنجده — أي تعينه — حالية، والعي: العجز عن الكلام. والخطل: اضطراب القول وفساده. قال الواحدي: هذا تعريض بأبي العباس النامي الشاعر؛ فإنه مدح سيف الدولة بقصيدة ذكر فيها آباءه الذين كانوا في الجاهلية. يقول: إذا مدحته بذكر آبائه الجاهليين كان ذلك عين العي. ثم أكد هذا المعنى وتممه في الأبيات التالية.

(٢٧٢) قوله: فما كليب: أدخل ما على من يعقل؛ لأنه أراد السؤال عن صفته مع الاحتقار لشأنه. وكليب: هو كليب بن ربيعة رئيس بني تغلب في الجاهلية. يقول: ليت ما مدح به من الشعر يستوفي ذكر فضائله ومحامده، ومتى يتفرغ الشعر لذكر كليب وأهل الدهور السابقة وأين هم منه؟

(٢٧٣) يقول: امدحه بما تشاهد منه واترك ما سمعت به، فإن الشمس تغنيك عن زحل؛ جعله كالشمس، وآباءه كزحل وهو نجم بعيد خفي. يعني فيما قرب منك عوض عما بعد عنك، لا سيما إذا كان القريب أفضل من البعيد. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: العيان شاهد لنفسه، والإخبار يدخل عليه الزيادة والنقصان، فأولى ما أخذ ما كان دليلًا على نفسه.

(٢٧٤) يقول: وقد وجدت من مآثر الممدوح المتوافرة الشائعة مجالًا واسعًا للقول، فإن وجدت لسانًا يستطيع وصف تلك المآثر فافعل فإنك لن تعدم شيئًا تقوله. يعني أنه لا ينقصه شيء يمدح به، وإنما ينقصه لسان ينهض بمدح ما فيه.

(٢٧٥) الهمام: ذو الهمة العالية. وخيرة: تأنيث خير، بمعنى أفضل، لما ألقوا الهمزة من أوله استسهلوا تأنيثه بالتاء؛ لأنه قد أشبه الصفات: يقول: إن هذا الهمام الذي يفتخر الخلق كلهم به؛ لأنه فيهم، هو أفضل السيوف في كف أفضل الدول؛ يعني دولة الخلافة.

(٢٧٦) الأماني: جمع أمنية؛ الشيء الذي تتمناه. وصرعه: طرحه على الأرض، ويقال: تركته صريعًا؛ أي قتيلًا. يقول: إنه مسلط على العالم مالك للرقاب والأموال فلا ترتقي الأماني إليه؛ لأنه لا يحتاج إلى أن يتمنى شيئًا فلا يرى نفيسًا إلا وله خير منه، أو صار له ذلك الشيء. وعبارة بعض الشراح: شبه الأماني بالطرائد، يقول: إذا سنحت له أمنية فطلبها سقطت دون مبلغ همته؛ لأن همته أبعد شوطًا منها فلم يبقَ في الدنيا شيء يستحق أن يتمناه، لأن كل شيء في قبضة إمكانه. وقد فسر بهذا البيت ما أغلقه البحتري في قوله:

وَمُظَفَّرٌ بِالْمَجْدِ إِدْرَاكَاتُهُ فِي الْحَظِّ زَائِدَةٌ عَلَى أَوْطَارِهِ

وهو ضد قول عنترة:

أَلَا قَاتَلَ اللهُ الطلولَ الْبَوَالِيَا وَقَاتَلَ ذِكْراك السِّنِينَ الْخَوَالِيَا

وَقَوْلُك للشَّيْءِ الَّذِي لَا تَنَالُهُ إِذَا مَا حَلَا فِي الْعَيْنِ: يَا لَيْتَ ذَا لِيَا!

(٢٧٧) يريد بالسيفين: سيف الدولة وسيف الحديد. والرهج: الغبار. وريب الدهر: حدثانه. ومنصلتًا — أي مجردًا — حال من ضمير المعد. يقول: إذا اجتمع السيفان في رهج حرب اختلفا وبان تخلف أحدهما عن الآخر، فأحد السيفين — وهو الممدوح — معد لدفع نوب الدهر وشدائده، كما قال:

وتقطعُ لزْباتِ الزَّمَانِ مَكَارِمُه

وقد أعد السيف الآخر وهو سيف الحديد لضرب رءوس الأبطال فالأول موكل بدفع المكروه، والثاني موكل بإحلاله، وذاك عامل ذو إرادة يضرب بالثاني، وهذا لا عمل له من تلقاء نفسه. وإذن: كان الأول هو الكل في الكل، ومن هنا كان اختلافهما.

(٢٧٨) الكدري: ضرب من القطا. وهو من طير السهل. والحجل: طائر في حجم الحمام، أحمر المنقار والرجلين، وهو يعيش في الجبال، والعرب بلادها المفاوز والصحارى والروم بلادها الجبال. يقول: العرب تفر منه مع القطا في الفلوات والروم تفر منه مع الحجل في جبالها.

(٢٧٩) من أسد: يروى من ملك، والمراد سيف الدولة. والوعل: تيس الجبل، ومعقله: المكان الذي يعتصم به في رءوس الجبال: يقول: ما فائدة الفرار إلى الجبل من ملك تمشي به خيله في آثار الفارين؟ أي أنها لا تعجز عن جوب الجبال في آثار الروم، فالمراد بالنعام: خيله، شبهها بها في سرعة العدو — الجري وطول الساق. قال الواحدي: وفيه نكتة؛ لأن النعام لا توجد في الجبال فجعل خيله نعام الجبل. وقال ابن فورجه: يعني بالنعام خيله العراب؛ لأنها من نتائج البدو، وقد صارت تمشي بسيف الدولة في الجبال لطلب الروم وقتالهم واستنزال من اعتصم بالجبال منهم.

(٢٨٠) الدروب: جمع درب، وهو كل مدخل إلى بلاد الروم. وخرشنة بلد من بلاد الروم، والروع: الخوف والفزع. يقول: إنه تغلغل في بلاد الروم حتى خلف الدروب وخرشنة وراءه وفارقها بالانصراف عنها ولم يفارقها الروع الذي ألم بأهلها منه.

(٢٨١) يقول: لشدة ما لحقهم من الخوف منهم وكثرة ما رأوا من السبي والغارة صاروا إذا نامت المرأة منهم رأت في نومها السبي الذي تحذر وقوعه والجمل الذي تتوقع ركوبه؛ وذلك أن السبايا كن يحملن على الجمال، يعني أن ما استقر في قلوبهم من الخوف لا يفارقهم في النوم أيضًا. هذا، والحلم ما يراه النائم، وتقول: حلمت بكذا وحلمته أيضًا، قال الأخطل:

فَحَلَمْتُهَا وَبنور فَيْدَةَ دُونَهَا لَا يَبْعُدَنَّ خَيَالُهَا الْمَحْلُومُ!

قال الجوهري: يقال: قد حلم الرجل بالمرأة إذا حلم في نومه أنه يباشرها، وهذا البيت شاهد عليه.

أما الحِلم — بالكسر — فهو الأناة والعقل. تقول: حلم — بالضم — يحلم حلمًا: أي صار حليمًا، وتحلم: تكلف الحلم. قال حاتم الطائي:

تَحَلَّمْ عَلَى الْأَدْنينَ وَاسْتبقِ وُدَّهُمْ وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْحلمَ حَتَّى تَحَلَّمَا

أما قولهم: حلم الأديم، فالأديم: الجلد المدبوغ، وحلم: أي أفسده الحلم، وهو دود يقع في الجلد فيأكله. قال الوليد بن عقبة بن أبي عقبة من أبيات يحض فيها معاوية على قتال علي عليه السلام، ويقول له: أنت تسعى في إصلاح أمر قد تم فساده كهذه المرأة التي تدبغ الأديم الحلم — الذي وقعت فيه الحلمة فنقبته وأفسدته فلا ينتفع به:

فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الْأَدِيمُ

(٢٨٢) الجزى: جمع جزية، وهو ما يعطيه المعاهد ليدفع عن رقبته ويحفظ دمه. يقول — مخاطبًا سيف الدولة: إن كنت ترضى منهم بأن يؤدوا الجزية وتعفو عن رقابهم قبلوها وأرضوك بها، وذلك غاية أمنيتهم، كالأعور يتمنى الحول، والحول خير من العور يعني أن الجزية خير لهم من القتل.

(٢٨٣) المنتحل: المدعي على غير حقيقة. يقول: ناديت مجدك الموصوف في شعري وقد صدرا عني وعنك: أي سارا في الآفاق وبعد ذكرهما يا مجدًا غير منتحل في شعر غير منتحل. يعني أن كلا منهما حقيقة لا دعوى، وفيه إشارة إلى أن مجده خلد ذكره في شعره وأنهما يسيران معًا، ثم ذكر تمام المعنى فيما يلي.

(٢٨٤) أبلغ: من التبليغ. وأفعل لا يبنى من غير الثلاثي إلا شذوذًا. يقول لشعره ومجد الممدوح: أنتما سائران في الدنيا شرقًا وغربًا، ولنا فيهما أناس نحب مشاركتهم في أمرنا ومطالعتهم بأحوالنا فتحملا إليهم رسالتي وهي ما ذكره في البيت التالي.

(٢٨٥) الخول: الخدم. يقول: عرفاهم أني متقلب في نعماء في سيف الدولة، مغمور بمكارمه، متصرف في فواضله، أقلب الطرف — النظر — بين الخيل المسومة والخدم الحسنة القيام على الخدمة.

(٢٨٦) يقول: إنما أتاك الشكر من جهة إحسانك فإحسانك هو الذي شكرك، لا أنا كأنه ينفي المنة عليه بشكره ومدحه.

(٢٨٧) إلا فوق معرفتي: رواها ابن جني «إلا بعد معرفتي» وقال: ما لحقني السهو والتفريط إلا بعد سكون نفسي إلى فضلك وحلمك … وقال ابن فورجه: أقام النوم مقام السهو والغفلة، يقول: ما نمت عما وجب عليَّ من صيانة مدحك عن خلطه بالعتاب إلا لثقتي باحتمالك وسكوني إلى جزالة رأيك. قال الواحدي — بعد أن أورد كلامهما: وكلاهما قد بعد عن الصواب، والمعنى: إنما أخذني النوم؛ أي إنما سكنت نفسي واطمأنت مع عتبك لثقتي بحملك ولزوم التوفيق لرأيك، وعلمي أنك لا تعجل عليَّ ولا ترهقني عقوبة، وأن الحساد لا يستزلونك بوشاياتهم. قال: وأراد النوم الحقيقي لا السهو والتفريط، ألا ترى أنه قال: فوق معرفتي؟ فجعل المعرفة بمنزلة الحشية التي ينام فوقها. وقوله: لا يؤتى من الزلل: أي أنت موفق في كل ما تفعله لا تأتي الزلل.

(٢٨٨) أقل: من الإقالة من العثرة؛ أي: أقل من استنهضك من عثرته. وأنل: من الإنالة — الإعطاء — وأقطع: من قولهم أقطعه أرض كذا؛ أي جعل له غلتها رزقًا. واحمل: من قولهم حمله على فرس ونحوه؛ أي جعله ركوبة له. وعل: أي ارفع جاهي من التعلية. وسل: من التسلية، وهي إذهاب الغم. وأعد: أي أعدني إلى موضعي من حسن رأيك. وزد: أي زدني من إحسانك. وهش: أمر من قولهم: هش إلى كذا يهش. وبش: من قولهم بش بالرجل يبش: أي ابتسم إليه وآنسه. ويحكى أن سيف الدولة وقع تحت أقل: قد أقلنا، وتحت أنل: يحمل إليه كذا وكذا من الدراهم، وتحت أقطع: قد أعطيناك الضيعة الفلانية — وهي ضيعة بباب حلب — وتحت «عل»: قد رفعنا مقامك، وتحت سل: قد فعلنا فاسلُ، وتحت أعد: قد أعدناك إلى حالك من حسن رأينا. وتحت زد: يزاد كذا وكذا، وتحت تفضل — وهو من الأفضال — قد فعلنا، وتحت أدن: قد أدنيناك منا، وتحت «سر» قد سررناك، فقال المتنبي: إنما أردت من التسري، فأمر له بجارية، وتحت صل: قد وصلناك وسنصلك، وكان بحضرة سيف الدولة: حينئذٍ شيخ ظريف يقال له المعقلي، فحسد المتنبي على ما أمر له به فقال لسيف الدولة: قد أجبته إلى كل شيء سألك إياه فهلا وقعت تحت هش بش هئ هئ هئ؟ — يعني حكاية الضحك — فضحك سيف الدولة وقال له: ولك أيضًا ما تحب، وأمر له بصلة. وأصل هذا المنهج قول امرئ القيس:

أَفَادَ وَجَادَ وَسَادَ وَزَادَ وَذَادَ وَقَادَ وَعَادَ وَأَفْضَلْ

ومثله لأبي العميثل:

يَا مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْ تَكُونَ خِصَالُهُ كَخِصَالِ عَبْدِ اللهِ أَنْصِتْ وَاسْمع

اصْدُقْ وَعِفَّ وَبَرَّ وَاصْبِرْ وَاحْتَمِلْ وَاحْلُمْ وَدَارِ وَكَافِ وَابْذلْ وَاشْجع

(٢٨٩) يقول: لعلي أحمد عاقبة عتبك وذلك أن أرتدع بعد عفوك، فلا أعود إلى شيء أستوجب به العتب، كمن يعتل، فربما تكون علته أمانًا له من أدواء أخرى، فينجو جسمه بسبب هذه العلة مما هو أصعب منها. أو تقول: لعل عتبك يكون سببًا لتحقق وفائي وإخلاصي في خدمتك، ويقطع عني ألسنة الحساد فأحمد عواقبه، كما أن من العلل ما قد يكون سببًا لصحة الأجسام، وانتفاض الدخل منها فتأمن عود غيره إليها. وفي هذا نظر إلى قول الآخر:

لَعَلَّ سَبًّا يُفِيدُ حُبًّا فَالشَّرُّ لِلْخَيْرِ قَدْ يَجُرُّ

وقريب منه قول ابن الرومي:

احْمَدِ اللهَ إِذْ رُزِقْتَ هِجَاءً هُوَ بَعْدَ الْخُمُولِ نَوَّهَ بِاسْمِكْ

قَدْ تَذَكَّرْتُ مُوبِقَاتِ ذُنُوبِي فَرَجَوْتُ الْخلاصَ مِنْهَا بِشَتْمِكْ

(٢٩٠) غيري: معطوف على ضمير المتكلم، وهو جائز للفصل ﺑ «لا» كما في قوله تعالى: مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وبمقتدر متعلق بسمعت. يقول: ما سمعت ولا سمع غيري بملك قادر يقدر على كل ما يريد ثم يذب — يذود ويدافع — عمن يغتاب عنده زورًا وبهتانًا، ولا يحمله ما يسمعه من الوشايات والتحريش على من يحرش عليه أن يوقع به وينفذ فيه حكم الغضب. فقوله: أذب: أفعل تفضيل، من قولهم: ذب عنه، أي ذاد ودفع. وقوله: عن رجل — يعني المغتاب — وقد بين علة ما ذكره هنا في البيت التالي.

(٢٩١) تكلفه بحذف إحدى التاءين — أي تتكلفه. والكحل: سواد في أجفان العين خلقة:

كأن بها كحلًا وإن لم تكحل

يقال: رجل أكحل وامرأة كحلاء. يقول: إنما ذلك لأن لك حلمًا طبعت عليه لا يعوزك أن تتكلفه ومن ثم لا يستخفه الغضب، ولا يؤثر فيه كلام الواشين، ثم ضرب التكحل والكحل مثلًا للمتكلف والمطبوع.

(٢٩٢) ثناك: ردك وصرفك. والعارض: السحاب. والهطل: الكثير المطر. يقول: وما صرفك كلام الناس في إفساد ما بيننا عن استعمال ما يوجبه الكرم معي. ثم قال: ومن يقدر على أن يسد طريق السحاب الهاطل؟! أي كما أنه لا يستطاع هذا لا يستطاع صرفك عن مقتضيات الكرم.

(٢٩٣) الجواد: الكريم، ومننت على فلان: إذا كدرت صنيعتك بتعديدها له، كأن تقول له: أعطيتك كذا، وفعلت لك كذا، وعطف الكدر عليه للتأكيد. والمطال — بالكسر — المماطلة. والمذل: الضجر والقلق، وكل من قلق بسره حتى يذيعه، أو بمضجعه حتى يتحول عنه، أو بماله حتى ينفقه فهو مذل. قال الأسود بن يعفر:

وَلَقَدْ أَرُوحُ عَلَى التِّجارِ مُرَجَّلًا مَذِلًا بِمَالِي لَيِّنًا أَجْيَادِي

وقال قيس بن الخطيم:

فَلَا تَمْذُلْ بِسِرِّكَ كُلُّ سِرٍّ إِذَا مَا جَاوَزَ الْإثْنَيْنِ فَاشِي

يقول: لا تكدر عطاءك بالمن أو المماطلة أو الوعود أو الملل.

(٢٩٤) السنور: لباس من جلد كالدرع، وسميت به دروع الحديد. قال لبيد يرثي قتلى هوازن:

وَجَاءُوا بِهِ فِي هَوْدَجٍ وَوَرَاءهُ كَتَائِبُ خُضْرٌ فِي نَسِيجِ السَّنَوَّرِ

(قوله: وجاءوا به: يعني قتادة بن مسلمة الحنفي، وهو ابن الجعد، وجعد: اسم مسلمة؛ لأنه غزا هوازن وقتل فيها وسبى.)

والأشلاء: جمع شلو، وهو العضو. والقلل: جمع قلة، أعلى الرأس. يقول: أنت الشجاع عند اشتداد القتال وتهافت القتلى، فلا تطأ الخيل إذ ذاك إلا دروعهم وأجسامهم ورءوسهم؛ أي أنت الشجاع في مثل هذه الحال التي تنخلع فيها قلوب الأبطال.

(٢٩٥) ورد: عطف على «لم يطأ». ومقارعة: حال من القنا أو مفعول، والجدل: اللدد في الخصومة، أو مقابلة الحجة بالحجة، أو المناظرة والمخاصمة، وقد جادله مجادلة وجدالًا، والاسم الجدل، ويقال: جادلت الرجل فجدلته؛ أي غلبته، ولعله من قولهم: جدلت الرجل: أي ألقيته على الجدالة، وهي الأرض. قال الراجز:

قَدْ أَرْكَبُ الْآلَةَ بَعْدَ الْآلَهْ وَأَتْرُكُ الْعَاجِزَ بِالْجدَاله

يقول: وحين تتشاجر الرماح فيرد بعضها بعضًا كأنها تجادل عن نفوس أصحابها. وبعبارة أخرى: وأنت الشجاع حين يرد بعض القنا بعضًا بتخالف الطعان وتقارع الأقران حتى كأنه من شدة تلك المقارعة، واتصال تلك المقاومة في جدل لا يقلع، وخصام لا ينقطع.

(٢٩٦) عن عرض: يريد كيفما اتفق، يدعو له، يقول: لا زلت ضاربًا أعداءك كيفما وجدتهم مقبلين ومدبرين بنصر عاجل في أجل مستأخر؛ أي معصومًا بأجل يستأخرك. وهذا من قول بعضهم، وقد سئل: في أي شيء تحب أن تلقى عدوك؟ قال: في أجل مستأخر.

(٢٩٧) أُنْ: أي ارْفق.

(٢٩٨) عش: من العيش. وابق: من البقاء. واسم: من السمو، وهو الارتفاع. وسد: من السيادة. وقُدْ: من قود الجيش؛ أي قد الجيوش إلى أعدائك. وجد: من الجود. ومر: من الأمر. وَانْهِ: من النهي؛ أي كن صاحب أمر ونهي. وَرِ: من الوري، وهو داء في الجوف. يقال: وراه الله. يريد: أصب رئات أعدائك بأن توجعهم. وَفِ: من الوفاء؛ أي فِ لأوليائك بالإحسان إليهم. وسر: من سرى يسري؛ أي أسرِ إلى أعدائك بجيوشك لتستأصلهم. ونل: من النيل؛ أي نل ما تريد بسعدك وإقدامك وتأييدك. وغظ: من الغيظ؛ أي غظ حسادك. وَارْمِ: من الرمي، أي ارْمِ ببأسك من يكيدك ويبغضك. وصب: من صاب السهم الهدف يصيبه صيبًا: لغة في أصاب؛ أي أصب أعداءك برميك. واحْمِ: من الحماية؛ أي احْمِ حوذتك. واغْزُ: من الغزو؛ أي اغزُ أعداءك. واسْبِ: من السبي؛ أي اسبِ أعداءك. وَرُعْ: أي أفزع أعداءك. وزُعْ: من وزعه — أي كفه — أي كف بوقائعك مسلطهم. وَدِ: من الدية؛ أي تحمل الدية عمن تجب عليه. وَلِ: من الولاية؛ أي لِ الأمصار والبلدان محمودًا في ولايتك. واثنِ: من ثناه، بمعنى رده؛ أي اصرف أعداءك عن مرادهم. ونل: من ناله ينوله إذا أعطاه؛ أي أعطِ عفاتك وقصادك.

(٢٩٩) يقول: كل ما دعوت الله لك به لو لم أدع به كنت مكفيًّا ذلك؛ لأني سألت الله هذه الأمور، وهو قد فعلها فأغناك عن دعائي.

(٣٠٠) الشمول: من أسماء الخمر. والترنج: لغة في الأترج، وهو ثمر من جنس الليمون معروف. والطلع: نَور النخلة ما دام في الكافور، وهو أول ما يرى من عذق النخلة. يقول: إن الأترج أو الطلع بعيد من أن تشرب الخمر على رؤيته، يعني أن الأترج والطلع لم يحضرا لديك ليشرب عليهما وإن كان غيرك يتخذهما لذلك. قال ابن فورجه: تقدير البيت: شديد البعد من شرب الشمول ترنج الهند لديك، فحذف لديك وأتى به في البيت الثاني، دالًّا على حذفه، والظروف كثيرًا ما تضمر، وقوله: من شرب الشمول: أراد من شرب الناس الشمول عليه وعلى رؤيته، فهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. أي: إن ترنج الهند بعيد من شرب الناس الشمول عليه.

(٣٠١) يقول: وإنما أحضر الأترج والطلع لأنهما طيبان، ومجلسك مشتمل على كل شيء فيه طيب مما دق إلى ما جل، أي أكان صغيرًا أم كبيرًا. فقوله: لديك خبر كل.

(٣٠٢) وميدان: عطف على كل — في البيت السابق — وممتحن: إما مصدر بمعنى الامتحان، أو اسم مكان: أي المكان الذي يمتحن فيه الفوارس. يقول: ولديك يتبارى أهل الفصاحة والشعر وتمتحن الفوارس والخيل بالتسابق والتجاول والطراد، هذا هو الذي تنزع إليه همتك ويغمر به مجلسك، لا الشراب واللهو. قال الواحدي: عارض المتنبي بعضُ الحاضرين في هذه الأبيات، وقال: كان من حقه أن يقول:

بَعِيدٌ أَنْتَ مِنْ شُربِ الشَّمُولِ عَلَى الْأُتْرُجِّ أَوْ طَلْعِ النَّخِيلِ

لِشُغْلِكَ بِالْمَعَالِي وَالْعَوَالِي وَكَسْبِ الْمَجْدِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيلِ

وَقدحِ خَوَاطِرِ الْعُلَمَاءِ فَحْصًا وَمُمتَحَنِ الْفَوَارسِ وَالْخُيُولِ

فقال أبو الطيب هذه الأبيات مجيبًا له.

(٣٠٣) القيل والقول بمعنى واحد. يقول: إن الذي أتيت به هو كلام العرب الأصيل، وكان بياني فيه بقدر ما عاينته؛ لأنه أراد: الذي عندك من الأترج بعيد من شرب الشمول عليه أي لم تستحضره ليشرب على رؤيته، ولكنه بنى الكلام على ما عاين؛ أي إنما بنيت البيان على العيان فأغناني عن أن أقول: أنت شديد البعد وفي مجلسك ترنج الهند.

(٣٠٤) البعول: جمع بعل؛ الزوج. يقول: إن كلام المعارض منزلته من كلامه منزلة المرأة من الرجل؛ أي إنه ينحط عن درجة كلامي انحطاط المرأة عن درجة الرجل. وهذا ينظر إلى قول أبي النجم:

إِنِّي وَكُلُّ شَاعِرٍ مِنَ الْبَشر شَيْطَانُهُ أُنْثَى وَشَيْطَانِي ذَكَرْ

(٣٠٥) هذا الدر: مبتدأ، ومأمون التشظي: خبر. ومأمون الثانية: بدل من السيف. والتشظي: التكسر والتفرق. والفلول: جمع فل، وهو الثلمة التي تصيب السيف من الضرب به. يقول: إن شعره لا وهن فيه كالدر لا تتفتت أجزاؤه ولا يصير قطعًا لاكتنازه وصلابته. وكذلك أنت السيف الذي لا يتثلم حده ولا يخشى عليه الانفلال.

(٣٠٦) يقول: إن من لا يعرف النهار إلا بدليل يدله عليه لم يصح في فهمه شيء؛ لأنه لا فهم له، كذلك كلامي كان واضحًا، فمن لم يفهمه كان كمن لا يعلم النهار نهارًا إلا بدليل.

(٣٠٧) العفاة: جمع عافٍ؛ طالب المعروف. والعداة: جمع عادٍ؛ الأعداء. يقول: إنك تعطي سائليك ما أملوه وتزور أعداءك بما يحذرون من شدة بأسك. فتقرب بزيارتك لهم آجالهم إذ تقتلهم.

(٣٠٨) الليوث: الأسود، والأشبال: أولادها.

(٣٠٩) هو من قول الآخر:

وَمَنْ كَانَتِ الْأُسْدُ مِنْ صَيْدِهِ فَلَنْ يُفْلِتَ الدَّهْرَ مِنْهُ أَحَدْ

(٣١٠) يقول: وصفت لنا سلاحًا ولم نره — لأنه رفع من عنده قبل دخوله عليه — فكأنك تصف وقت النزال — الحرب — لأنه إذا وصف مضارب السيوف وبريقها كان ذلك كأنه وصف للقتال. هذا، والضمير في نره: عائد إلى السلاح؛ لأنه في نية التقديم. قال العكبري: ونصب سلاحًا على إعمال الفعل الأول — وهو وصفت — على مذهبه — أي مذهب المتنبي وهو كوفي مثل العكبري — في إعمال الفعل الأول، ومثله لذي الرمة:

وَلَمْ أَمْدَحْ لِأُرْضيَهُ بِشِعْرِي لَئِيمًا أَنْ يَكُونَ أَصَابَ مَالَا

(٣١١) البيض: جمع بيضة؛ المغفر من الحديد يكون على الرأس. يقول: وذكرت أن البيض صفت على دروع فشوق من سمعه إلى الحرب؛ فأن وصلتها عطف على «سلاحًا».

(٣١٢) تا: أي هذه؛ يعني نارًا أوقدت بين يديه، أو نار الشمع. أو السراج أو القناديل التي يستضيء بها. يقول: إن بريق هذه الأسلحة يغني عن النار في الإضاءة، حتى يقرأ ما خط في الصحف في الليالي الحالكة. قال العكبري: «تا»: نعت ﻟ «نارك» وهي في موضع نصب، كما تقول: ضربت زيدًا هذا، فهذا نعت لزيد: أي هذا المشار إليه، ولو جعل بدلًا لجاز و«تا» إشارة للمؤنث الحاضر. كما يشار ﺑ «ذا» إلى المذكر الحاضر.

(٣١٣) استحسنت: أراد استحسنته، فحذف الهاء للعلم به. وعلى الرجال: حال سدت مسد الخبر. يقول: إن استحسنت هذا السلاح وهو ملقًى على البساط فأحسن من ذلك إعماله في الوغى، وهو على الرجال.

(٣١٤) يقول: وإن بالرجال وبالسلاح نقصًا، وكمالها بك.

(٣١٥) الدمستق: قائد الروم. يقول: لو رأى الدمستق جانبي ذلك السلاح لأكثر من تقليب رأيه في التوقي منه. وقوله: «حالًا لحال» حال. واللام: بمعنى على، مثلها في قولهم:

قلب أمره ظهرًا لبطن

(٣١٦) كان سيف الدولة قد رحل من حلب إلى ديار مضر لاضطراب البادية بها، فنزل حران وأخذ رهائن بني عقيل وقشير وبلعجلان، ثم حدث له بها رأي في الغزو، فعبر الفرات إلى دلوك إلى قنطرة صنجة إلى درب القلة، فشن الغارة، فعطف عليه العدو فقتل كثيرًا من الأرمن ورجع إلى ملطية، وعبر قباقب حتى ورد المخاض على الفرات، ورحل إلى سميساط، فورد الخبر بأن العدو في بلد المسلمين، فأسرع إلى دلوك وعبرها، فأدركه راجعًا على جيحان، فهزمه وأسر قسطنطين بن الدمستق، وخرج الدمستق على وجهه. فقال أبو الطيب هذه الأبيات يمدحه ويذكر ذلك.

(٣١٧) الظاعنين: جمع ظاعن؛ المرتحل. وشكول: جمع شكل؛ أي شبيه. يقول: إن ليالي الناس تقصر وتطول حسب اختلاف الفصول، أما لياليه هو فهي متشابهة في الطول لبعد الحبيب وامتناع النوم. ولك أن تقول: إن مشاكلتها من جهة أنه لا يجد فيها روحًا ولا نومًا. يقول: لا يتغير حالي في ليالي بعد الأحبة ولا ينقضي غرامي ووجدي بهم؛ أي أنه لا يسلو برغم تقادم العهد على الضد من قول القائل:

إِذَا مَا شِئتَ أَنْ تَسْلُو خَلِيلًا فَأَكْثِرْ دُونَهُ عَدَدَ اللَّيَالِي

ثم أخبر عن طول لياليه فقال: هي طوال، وكذا ليالي العشاق.

(٣١٨) الضمير في «يبن» و«يخفين» لليالي. يقول: يظهرن لي بدر السماء الذي لا أريده ويخفين البدر الذي لا أجد إليه سبيلًا، وهو الحبيب.

(٣١٩) يقول: ليس بقائي بعدهم سلوًا عنهم، ولكن لأني صبور على النوائب والشدائد، حمول لها، كما قال أبو خراش الهذلي:

فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَنَاسَيْتُ عَهْدَكُمْ وَلَكِنَّ صَبْرِي يَا أميمَ جَمِيلُ

وسلوة: مفعول له.

(٣٢٠) جملة «حال بيننا» خبر «إن». يقول: إن ارتحال الأحبة عني حال بيني وبينهم؛ لأنا افترقنا، وفي الموت الذي يسببه الفراق ارتحال آخر؛ يعني أنه لا يعيش بعدهم. أو تقول: إنه يريد أن يتصبر على بعدهم خوفًا من أن يتبع فراقهم بفراق الحياة فيزداد بعدًا عنهم.

(٣٢١) الروح: نسيم الريح الشرقية. وبرحتني: فارقتني. والقبول: ريح الصبا. يقول: إذا كان شم الرائحة الطيبة والتنسم بها يدنيني إليكم — لأنها تذكرني روائحكم وطيب أيام وصالكم — فلا فارقتني روضة أتنشق روائحها وريح قبول أتنسم بها لأكون أبدًا على ذكر منكم. وفي هذا المعنى يقول البحتري:

يُذَكِّرنَا رَيَّا الْأَحِبَّةِ كُلَّمَا تَنَفَّسَ فِي جُنْحٍ مِنَ اللَّيْلِ بَارِدُ

والأصل فيه قول الأول:

إِذَا هَبَّ عُلْوِيُّ الرِّيَاحِ وَجَدْتُنِي كَأَنِّي لِعُلْوِيِّ الرِّيَاحِ نَسِيبُ

هذا، وقوله: أدنى: أي أشد إدناء، فبنى أفعل من المزيد. وقد ذهب ابن جني في تفسيره هذا البيت مذهبًا أثار عليه غبار الناقدين. قال: إذا كنتم تؤثرون شم الروح في الدنيا وملاقاة نسيمها، فلا زلت روضة وقبولًا انجذابًا إلى هواكم، ومصيرًا إلى ما تؤثرونه، ويكون سبب الدنو منكم. أراد: فلا برحت روضة وقبولًا، فجعل الاسم نكرة، والخبر معرفة للقافية. قال الواحدي: ومن فسر هذا التفسير فقد فضح نفسه وغر غيره: وقال ابن فورجه: الروح يؤثره من يأوي إلى هم وينطوي على شوق، فأما الأحبة — وإن كان إيثار الروح طبعًا في الناس — فإنهم لا يوصفون بطلب الروح وشم النسيم، والتعرض لبرد الريح والتشفي بنسيم الهواء، وأيضًا فما الحاجة إلى أن يكون الاسم نكرة والخبر معرفة؟ وليس هذا من أخوات كان، وإنما هي من برح فلان مكانه: أي فارقه. يقول: إذا لم يكن لي من فراقكم راحة إلا التعلل بالنسيم وطلب روح الهواء وتشممي لطيبه بروائحكم، وما كان ينالني أيام اللهو والفرح بقربكم فلا فارقتني روضة وقبول يسوق إلى روائح تلك الروضة. وقال ابن القطاع: برح — هنا — بمعنى زال. يقول: إذا بعدتم ولا أصل إليكم إلا بشم الروح الذي يشبه رائحة نسيمكم، فلا فارقتني روضة وقبول يأتيني برائحتكم. وقد دعا لنفسه بالحياة، فإنه ما دام حيًّا جاءته الرياح بروائح أحبته لأن قبله:

وَفِي الْمَوْتِ مِنْ بَعْدِ الرَّحِيلِ رَحِيلُ

(٣٢٢) الشرق: الغصص. وتذكرًا: مفعول لأجله، أو حال سدت مسد الخبر، بمعنى متذكرًا، فأقام المصدر مقام اسم الفاعل. ونزول: جمع نازل، يقول: إني كلما شربت الماء غصصت به؛ لأني لأتذكر الماء الذي نزل به أهل الحبيب فلا يسوغ لي الماء الذي أشربه.

(٣٢٣) يقول: إن ذلك الماء الذي نزل به الحبيب يحرم ورده لمع الرماح التي ركزها قومه حوله فلا يصل إليه عطشان، يريد بذلك عزة أهله ومناعتهم. وبالحري مناعة حبيبه فيما بينهم؛ أي فلا سبيل إلى زيارته، فحبيبه ممنوع منه على القرب والبعد.

(٣٢٤) في النجوم: خبر مقدم، ودليل — في آخر البيت — مبتدأ مؤخر. استطال ليله فقال: أليس في هذه النجوم وغيرها مما يسترشد به دليل يدلني على ضوء الصبح فأستروح إليه من طول الليل وما أقاسيه فيه من الكمد واللوعة؟

(٣٢٥) رؤيتي: مفعول مطلق. وقوله: فتظهر: جواب الاستفهام. يقول: إن من رآها عشقها فينحل ويرق من عشقها، فهل لم ينظر هذا الليل إلى عينيها كما نظرت إليهما فيفتتن بهما افتتاني فيرق وينحل وتقل أجزاؤه فينكشف عني وينحسر؟

(٣٢٦) درب القلة: موضع وراء الفرات. والكمد: الحزن. ويروى: شفت كبدي. والليل فيه قتيل: جملة حالية. يقول: إنه بدا له الفجر عند هذا المكان، فاشتفت كبده بانصرام الليل كما يشتفي العدو بنكبة عدوه، وجعل الليل قتيلًا لظهور حمرة الشفق عند انقضائه فشبهها بالدم. قال ابن جني: سألته — المتنبي — عن معنى هذا البيت، فقال: وافينا القلة وقت السحر، فكأني لقيت بها الفجر، ثم سرنا صبيحة ذلك اليوم إلى العصر أربعين ميلًا وشننا الغارات وغنمنا، وشفيت كمدي لانحسار الليل عني، والليل قتيل في ذلك الموضع. فكأن النهار لما أشرق بضوئه على الليل قتله وظفر به. وقد أخذ هذا المعنى بعضهم وكشف عنه فقال:

وَلَمَّا رَأَيْتُ الصُّبْحَ قَدْ سَلَّ سَيْفَهُ وَوَلَّى انْهِزَامًا لَيْلُهُ وَكَوَاكِبُهْ

وَلَاحَ احْمِرَارٌ قلت: قَدْ ذُبِحَ الدُّجَى وَهَذَا دَمٌ قَدْ ضَمَّخَ الْأَرْضَ سَاكِبُهْ

(٣٢٧) ويومًا: عطف على الفجر — في البيت السابق — يقول: ولقيت بدرب القلة بعد ذلك الليل المستبشع الكريه يومًا حسنًا جميلًا، فذكرت به محاسنك فكأن حسنه علامة صدق بعثتِ بها، وكانت الشمس هي الرسول؛ لأنها لما طلعت حسن ذلك اليوم فكأنها جاءت بحسنه والحبيبة بعثت ذلك الحسن. وقال ابن جني: لما ثار الغبار ستر الشمس فكأنها رسول من محبوبته مستخفٍ. وهذا المعنى من أحسن الكلام، وفي معناه قول الآخر:

إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَسَلِّمِي

(٣٢٨) اثَّار: افتعل، من الثأر، وأصله الهمز. أثأر يثئر اثئارًا: إذا أدرك الثأر، فلينه. والذحول: جمع ذحل؛ الثأر والعداوة والحقد. يقول: إنما حسن نهاري بما ناله سيف الدولة من ظفره بأعدائه، وبه اشتفيت من ليلي وما قاسيته فيه، فكأني أدركت ثأري منه. وهي أول مرة أدرك عاشق ثأره وطولب الليل بما يحصل منه؛ لأن ذلك لم يعهد قبل سيف الدولة. ولابن فورجه هنا كلام حسن يزيد المقام إيضاحًا، قال: قد خلط أبو الطيب في هذه الأبيات تشبيبًا بتقريظ وهي من محاسن هذه القصيدة، وغرضه أن يصف يوم ظفر سيف الدولة بالحسن والطيب، ويذكر سوء صنيع الليل عنده فيما مضى، وأراد بقوله: والليل فيه قتيل: حمرة الشفق، وأنه كَدَمٍ على صدر نحير، ولما لقيه كذلك شمت به لطول ما قاسى من هموم وجعل حسن اليوم وهو ظفر سيف الدولة لسروره به كالعلامة التي جاءت من المحبوب، والشمس كرسوله لشدة الجذل بطلوعها، ثم ادعى أن سيف الدولة قتل الليل وأثأر لأبي الطيب على ما جرت به العادة من نسبة الغرائب إلى الممدوحين وإن كانت من المحال. يدل على هذا البيت التالي.

(٣٢٩) الغريبة: الأمر الغريب. وتروق: تعجب. وعلى استغرابها: أي مع استغراب الناس لها. وتهول: تفزع وتخيف. يقول: ولكنه يأتي بأمور غريبة لا عهد للناس بها من قبل، وهي مع استغراب الناس لها تعجب المتأمل فيها لحسنها وتوقع في لقدرها.

(٣٣٠) الدرب: المدخل إلى بلاد الروم. والجرد: الخيل القصيرة شعر الجلد، وهو آية كرمها. يقول: رمى الروم بخيل أسرع إليهم من السهام ولم يعلموا قبل ذلك أن السهام تكون خيلًا.

(٣٣١) شوائل: حال من الجرد — في البيت السابق — وشالت العقرب ذنبها: رفعته. وتشوال: مفعول مطلق. وبالقنا: متعلق بشوائل. وأراد شوائل بالقنا تشوال العقارب بأذنابها. والمرح: لعب يتبعه النشاط والضمير في تحته: للقنا، ويجوز أن يكون للمدوح. شبه الرماح على الخيل بأذناب العقارب إذا رفعتها، يشير إلى سرعة سيرها وكثرة جريها ورفعها الأذناب في ذلك الجري، وهو دليل كرمها وقوتها، والتشوال أكثر ما يكون عند الجري، ثم دل على نشاطها بمراحها وعلى عزة نفسها بصهيلها.

(٣٣٢) هي: ضمير الشأن أخبر عنه بمفرد. والخطرة: اسم مرة من خطر له كذا: مر بباله. وحران: بلد. ولبتها: أجابتها. والنصول: السيوف. يقول: لم تكن هذه الغزوة التي رمى بها أرض الروم إلا خاطرًا عرض له، فأجابت خاطره الرماح والسيوف، أي إنها كانت — مع عظمتها وجلالها — من غير استعداد ولا احتفال.

(٣٣٣) الهمام: الملك العظيم الهمة. وهم: أراد فعل الشيء. وأمضى: أنفذ. والهموم: الهمم. والأرعن: الجيش الكثير المضطرب لكثرته. يقول: هو همام إذا هم بأمر فعله وأنفذه بجيش حافل وطء الموت فيه ثقيل على من يحاول هلاكه من أعدائه، أي إن أخذه شديد.

(٣٣٤) وخيل: عطف على أرعن؛ أي وبخيل. وبراها: هزلها. والتعريس: نزول الركب آخر الليل للاستراحة. وتقيل: أي تنزل وقت الهاجرة أي نصف النهار للنوم. يقول: إن خيله التي تضمنها ذلك الجيش هزلها لما يجشمها من العدو فهي لا تزال دائبة التسيار في بلاد العدو، فإذا نزلت ليلًا في بلد لم تقم به نهارًا بل تقيل ببلد آخر.

(٣٣٥) دلوك: موضع وراء الفرات. وصنجة: نهر بين ديار مضر وديار بكر. والطود: الجبل العظيم. والرعيل: القطعة من الخيل. يقول: لما فصل من هذين الموضعين وبان منهما تفرقت فرسانه فعمت راياته وخيله الجبال.

(٣٣٦) على طرق: حال من فاعل علت — في البيت السابق — والرفعة: الاسم من الارتفاع. والخمول: خفاء الذكر: أي سارت إلى الروم على طرق في الجبال، ومن ثم فهي مرتفعة على الطرق، وهي خاملة الذكر عند الناس؛ لأنها لم تسلك من قبل.

(٣٣٧) ضمير «شعروا» للعدو، و«قباحا» حال، وجاء بها لازمة؛ لأنها على معنى مستقبحة وقال العكبري: إنها صفة لمغيرة. يقول: فجأت الأعداء هذه الخيل فلم يشعروا بها إلا مغيرة عليهم، فكانت قبيحة في أعينهم لسوء فعلها بهم، وهي مع ذلك جميلة الخلق، وهذا كقوله الآتي:

حَسَنٌ فِي عُيُونِ أَعَدَائِهِ أَقـْ ـبَحُ مِنْ ضَيْفِهِ رَأَتْهُ السُّوامُ

(٣٣٨) سحائب: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هي — الخيل — سحائب، ورواها ابن جني بالنصب على أنها بدل من قباحًا. قال العكبري: ويجوز أن تكون بدلًا من ضمير رأوها. وغسيل: بمعنى مغسول، جعل خيله كالسحائب لما فيها من بريق الأسلحة وصياح الأبطال وجعل مطرها الحديد؛ لأنها تنصب عليهم بالسيوف والأسنة، ولما جعل السيوف مطرًا جعل إفناءها لهم بمنزلة غسل الأرض منهم، وقال ابن جني: يجوز أن يعني بالسحائب الغبار الثائر. يصف خيله بالكثرة يقول: سحائب تمطر الحديد عليهم وتعمل السلاح فيهم فكل مكان تغسله السيوف بما تسفكه من الدماء.

(٣٣٩) عرقة: بلد بالشام. والانتحاب: البكاء. والجيب: ما انفتح من القميص على النحر. والثاكلات: جمع ثكلى، وهي التي فقدت ولدًا أو بعلًا أو أبا أو أخًا. يقول: وأمسى الجواري اللائي سبين من الروم يبكين بهذا الموضع مفجعات قد شققن جيوبهن على من فقدن من قتلاهن حتى انهدلت إلى الأرض فصارت كأنها ذيول.

(٣٤٠) موازر. حصن ببلاد الروم. والقفول: الرجوع. يقول: وعادت خيل سيف الدولة فظنها الروم راجعة إلى بلادها وليس لها رجوع إلا الدخول عليهم من درب موزار. يعني أن عودها الذي ظنوه رجوعًا كان دخولًا عليهم.

(٣٤١) النجيع: دم الجوف خاصة. والضمير في «كأنه» للخوض. ويروى «نجيع» القوم يقول: فخاضت الخيل الدم الذي سفكت من الروم خوضًا وافرًا تامًّا هائلًا حتى هان غيره بالإضافة إليه، فكأنه كفيل لمن رآه بأن خيله لا يتعذر عليها خوض كل دم لم تخضه بعد ذلك.

(٣٤٢) في كل مسلك: يروى: في كل منزل. وصرعى: جمع صريع؛ أي قتيل. والطلول: ما بقي من آثار الديار. يقول: تسير النيران مع الخيل أينما سلكت؛ أي إنهم كانوا يحرقون كل موضع وطئوه من بلادهم ويقتلون أهله فتخرب ديارهم وتبقى الآثار.

(٣٤٣) كرت: عطفت. وملطية: بلد بالروم معروف؛ ولأنه اسم أعجمي، والاسم الأعجمي إذا وقع إلى العرب تصرفت فيه، أسكن الطاء وخفف الياء. ويريد أهل ملطية. والثكول: التي تفقد أولادها. يقول: وعادت الخيل ومرت في دماء أهل ملطية؛ أي سفكت دماءهم حتى خاضت فيها، ثم جعل ملطية أمًّا لأهلها وجعلهم كالبنين لها، وقد فقدتهم حين قتلوا.

(٣٤٤) قباقب: اسم نهر عبرته خيل سيف الدولة. وكلفنه: أي كلفن قطعه. و«من» الداخلة على قباقب لبيان «ما». يقول: إن خيله أضعفت هذا النهر عند عبوره بكثرة قوائمها وشدة تزاحمها فأضحى ماؤه كالعليل الساقط القوة فجعلت جري مائه ضعيفًا.

(٣٤٥) يقول: لما عبرت الخيل بنا الفرات راعته — أفزعته — كثرة الخيل؛ أي كثرة الجيوش التي خاضته، فكأنما تنحدر عليه سيول بالرجال، ولما جعل الفرات مروعًا استعار له قلبًا؛ لأن الروع يكون في القلب.

(٣٤٦) السابح: الفرس الذي يمد يديه كأنه يسبح في جريه، ويحتمل هنا سباحة الماء. والغمرة: معظم الماء. والمسيل: مجرى الماء. يقول: إن الموج كان ينجفل عن قوائم الخيل ويجري أمامها وهي تتبعه، فجعل ذلك كالمطاردة، ثم قال: إن هذه الخيل — لقوتها كانت لا تكترث لغمرة الماء، بل سواء لديها الغمرة والمسيل، فتسبح في الغمرة كما تسير في المسيل الذي لا ماء فيه.

(٣٤٧) التليل: العنق. يقول: إذا سبح الفرس في النهر لم يظهر منه إلا الرأس والعنق لكثرة ماء النهر وتعذر خوضه، فكأن الماء ذهب بجسمه وبقي الرأس والعنق وحدهما يسبحان.

(٣٤٨) هنزيط وسمنين: موضعان ببلاد الروم. والظرف: خبر مقدم عن بديل. الظبا: جمع ظبة؛ حد السيف. وصم القنا: الرماح الصلبة. وممن أبدن: متعلق ببديل، يقول: كانت السيوف والرماح قد أفنت أهل هذين الموضعين، فلما عادوته بعد مدة وجدت قومًا آخرين قد أدركوا بدلًا ممن أفنتهم. يعني أن إغارة هذه الخيل على هذين الموضعين متتابعة متواصلة على الروم، فكلما أتتهما طائفة منهم أفنتها هذه الخيل.

(٣٤٩) الغرر: جمع غرة؛ البياض في وجه الفرس. والحجول: بياض يكون في قوائمها. يقول: طلعت الخيل على أهل هذين الموضعين طلعة، قد عرفوها لها شهرة كغرر الخيل وحجولها؛ لأنها طالما طلعت عليهم وأغارت.

(٣٥٠) الشم: الطوال المرتفعة في السماء. يقول: إن الحصون الشم تمل طول مقاتلتنا إياها فتزول هي عن أماكنها بالخراب وتمكننا من أهلها.

(٣٥١) حصن الران: من حصون الروم. ورزحى: ساقطة هزالًا من الإعياء. والوجى: الحَفَى. يقول: باتت الخيل معيية بهذا الموضع مما أصابها في حوافرها، ثم اعتذر لها فقال: لم يلحقها ذاك لضعفها ولكن الأمير كلفها من همته صعبًا فذلت له وإن كانت عزيزة قوية.

(٣٥٢) قوله: وفي كل نفس … إلخ: حال من ضمير الخيل — في صدر البيت السابق — والفلول: الثلوم. يقول وقد أدرك كل نفس من نفوس جيشه الملل لطول القتال وشدة ما لاقوا ما خلا سيف الدولة، فإنه لا يفتر ولا يمل، وكذلك كل سيف في ذلك الجيش قد فله — ثلمه — الضرب، أما هو فلم تكل عزائمه عن متابعة القتال؛ لأنه السيف لا ينبو عن ضريبته.

(٣٥٣) سميساط: بلد بشاطئ الفرات. والمطامير: جمع مطمورة؛ حفرة غائرة في الأرض يخبأ فيها الطعام والشراب. والملا: جمع ملاة، وهي الفلاة ذات الحر والسراب. الهجول: جمع هجل؛ المطمئن من الأرض، قال أبو زبيد:

تَحِنُّ لِلظِّمْءِ مِمَّا قَدْ أَلَمَّ بِهَا بِالْهَجْلِ مِنْهَا كَأَصْوَاتِ الزَّنَابِيرِ

(قوله: بالهجل: خبر مقدم. وكأصوات — أي مثل أصوات — مبتدأ مؤخر. قال ابن بري: والذي في شعره الزنانير — بالنون — وهي الحصى الصغار.)

يقول: قبل الوصول إلى سميساط هذه الأشياء.

(٣٥٤) مرعش: بلد بالثغر قرب إنطاكية؛ أي سارت الخيل في تلك الأودية إلى أرض مرعش ليلًا، فكأنها لبست الدجى حين سارت في الظلمة. وقوله: وللروم خطب بذلك أن سيف الدولة لما نزل بحصن الران ورد عليه الخبر أن الروم في بلاد المسلمين يعيثون ويقتلون، فرجع إليهم مسرعًا، فقتل منهم خلقًا كثيرًا وأسر قسطنطين بن الدمستق. ويجوز أن يكون المعنى: أن لأرض الروم خطبًا جليلًا؛ لأن الوصول إليها صعب لتعذر الطريق إليها ولشدة شوكة أهلها وقد داسها سيف الدولة بحوافر خيله وذلل أهلها.

(٣٥٥) فضول: أي زوائد لا حاجة إليها. يشير إلى أنه لشجاعته تقدم الخيل وحده حتى رآه الروم قبل أن يروا جيشه، ولما رأوه كذلك علموا أنه يغني غناء الناس جميعًا وأن من سواه من العالمين لا حاجة إليهم مع وجوده.

(٣٥٦) الخط: موضع باليمامة تنسب إليه الرماح الخطية. والكليل: الذي لا يقطع. يقول: وعلموا أن الرماح لا تصل إليه وأن السيوف تكل عنه فلا تقطعه؛ إما لأنها تندفع دونه لعزته ومنعته، وإما لما يلقيه على الطاعن والضارب من الهيبة فلا يقدم عليه.

(٣٥٧) الحصان: الذكر من الخيل. والجزيل: الكثير. يقول: إنهم قتلوا بحضرته وهو راكب، جعلهم واردين صدر حصانه حين أحضروا بين يديه وهو راكب، واردين سيفه حين قتلوا به. أو تقول: يشير إلى أنه لقيهم بنفسه وقتلهم بحد سيفه، فجعل صدر فرسه موردًا لأسلحتهم كناية عن استقباله لهم مكافحة، وجعل سيفه موردًا لأرواحهم يستقبلونه فيهلكون به، فهو فتًى بأسه شديد بالغ كما أن عطاءه جزل كثير.

(٣٥٨) على العلات: على كل حال. والدارع: الذي عليه الدرع. يقول: يجود بماله على اختلاف أحواله. كيفما دار به الأمر كان جوادًا، ولكنه بخيل برجاله، يعني أنه يبذل المال ويصون الأبطال، ولك أن تجعل الدارعين من الأعداء، فيكون المعنى أنه يقتلهم ولا يجود بهم عليهم. وعبارة ابن جني: بخله بالدارعين من أعدائه أنه يقتلهم بنفسه أو يسلبهم أو يحميهم اصطناعًا (من اصطناع المعروف).

(٣٥٩) الفل: المنهزمون. والحزون: جمع حزن؛ ما غلظ من الأرض، ضد السهل. والبيض: جمع بيضة؛ ما يلبس على الرأس من حديد. يقول: ترك الذين قتلهم وتبع الذين انهزموا بضرب يقطع الخوذ على رءوسهم فيصبح مكانها مستويًا بعد أن كانت ناتئة فوقه، وقد طابق بين التوديع والتشييع والحزن والسهل.

(٣٦٠) قسطنطين: هو ابن الدمستق، والكبول: جمع كبل؛ القيد الضخم. يقول: لم يشغله ما يعاني من القيد عن التعجب مما يرى من شجاعة سيف الدولة. وقال الخطيب التبريزي: لما أسر سيف الدولة قسطنطين أكرمه وأقام عنده بحلب مدة، فهو يشير إلى تعجبه من حلم سيف الدولة وكرم أخلاقه وإن كان مقيدًا عنده.

(٣٦١) يقول: لعلك يومًا تعود إلينا فيحيق بك الهلاك الذي استدفعته بفرارك، فقد يهرب الإنسان مما يعود إليه، فهذا تهديد له؛ أي أنك تعود فتؤسر أو تقتل. ولعله من قول ابن الرومي:

وَإِذَا خَشِيتَ مِنَ الْأُمُورِ مُقَدَّرًا وَهَرَبْتَ مِنْهُ فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ

(٣٦٢) المهجة: الروح، وأنث جريحة بالتاء ضرورة. وخلفت: تركت خلفك؛ أراد بمهجته الأولى — وهي الجريحة — نفس الدمستق، وبالثانية: التي تسيل — ابنه وجعل مهجته مجروحة وإن كانت الجراحة لبدنه؛ لأن جرح البدن يسري إلى الروح، وكنى بسيلان المهجة الأخرى — وهي ابنه — عن الهلاك؛ أي أنه يقتل فيسيل دمه، قال السموءل:

تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظبَاتِ تَسِيلُ

يقول: إنه هرب مجروحًا؛ لأن سيف الدولة جرح وجهه في هذه الوقعة، فنجا بنفسه وترك ابنه في يد الهلاك، فهو وإن نجا بسلامة إحدى مهجتيه إلا أنه يعد هالكًا بهلاك مهجته الأخرى — ابنه — لأن ما يدرك ابنه كأنما يدركه.

(٣٦٣) أسلمه: خذله وتركه. والاستفهام: استفهام إنكار وتوبيخ. والخطية: الرماح. ويسكن بمعنى يطمئن ويركن، وهو جواب الاستفهام. يقول: أتخذل ابنك وتتركه للرماح وتهرب ويثق بك أحد بعد ذلك من خلانك؟ أي لا يثق بك أحد بعد هذا.

(٣٦٤) المرشة: الطعنة ترش الدم. والرنة: الصياح. والعويل: البكاء. يقول: بوجهك جراحة أنستك ابنك وليس لك من ينصرك منها إلا الصياح والعويل، يعني أنك عاجز عن نصرة نفسك فكيف تنصر ابنك؟

(٣٦٥) يقول: أغركم كثرة رجالكم؟ لا تغرنكم الكثرة، فإن عليًّا — اسم سيف الدولة — يغلبكم وإن كثر عددكم، فالمراد بالشرب والأكل: الإفناء والإبادة حتى لا يبقى منهم أثر؛ لأن ما شرب أو أكل لا ترى له عين، وكأن هذا ينظر إلى قول أبي نواس:

فَإِنْ يَكُ بَاقِي إِفْكِ فِرْعَوْنَ فِيكُمْ فَإِنَّ عَصَى مُوسَى بِكَفِّ خَصِيبِ

(٣٦٦) غذاه: صار له غذاء. والضمير لليث. وأنك فيل: فاعل ينفعك أو غذاه على طريق التنازع، وهذا مثل ضربه. يقول: أنتم وإن كنتم أكثر عددًا فإن الظفر له دونكم، فلا تغنيكم هذه الكثرة شيئًا، كالفيل مع الأسد فإن الفيل لا ينفعه عظمه إذا صار فريسة للأسد. وبعبارة أخرى: إذا لم تكن إلا فريسة للأسد، فكونك فيلًا أي كونك ضخم الجثة، يتوفر به غذاء الأسد ولا ينفعك في النجاة منه، يعني أن كثرة الروم لا تنفعهم إذا وقعوا في يد سيف الدولة، ولكنها تكون سببًا في شفائه بكثرة ما يقتل منهم.

(٣٦٧) قوله: هي الطعن: نعت شجاعة. يقول: إذا لم يدخلك في الطعن شجاعة هي الطعن وبها يكون البطش والعمل لم يدخلك فيه اللوم. يعني أن التحريض لا يحرك الجبان.

(٣٦٨) صال عليه: وثب واستطال. يقول: إن كانت الأيام قد أبصرت بطشه بأهل الروم فقد علمها من ذلك ما لم تعلمه ونهج لها سبيل الصول والغلبة، يعني أن الأيام تتعلم منه البأس.

(٣٦٩) مواضيًا: سيوفًا. وشفرة السيف: حده. يقول: فدتك ملوك تروم مشابهتك ولم تسم سيوفًا؛ إذ ليست أهلًا لهذه التسمية لأنك أنت السيف اسمًا ومضاء.

(٣٧٠) البوقات: جمع بوق، وهو ذاك الذي ينفخ فيه ويزمر. وعنى ببعض الناس: سيف الدولة. يقول: إذا كنت سيف الدولة، فإن غيرك من الملوك بالإضافة إليك للدولة بمنزلة البوق والطبل؛ أي لا يغنون غناءك ولا يقومون مقامك. أو تقول: إذا كنت سيفًا للدولة يذود عنها ويقاتل بنفسه فغيرك من الملوك للدولة بمنزلة الأبواق والطبول لا غناء عندهم ولا منفعة لهم إلا جمع الجيوش لتقاتل عنهم كما تجمع بصوت البوق والطبل. وقال العروضي: أراد بالبوق والطبل: الشعراء الذين يشيعون ذكره ويذكرون في أشعارهم غزواته فينتشر بهم ذكره في الناس، كالبوق والطبل اللذين هما لإعلام الناس بما يحدث. قال ابن جني: وقد عاب على أبي الطيب من لا مخبرة له بكلام العرب جمع بوق والقياس يعضده، إذ له نظائر كثيرة، مثل: حمام وحمامات، وسرادق وسرادقات، وجواب وجوابات، وهو كثير في كلام العرب في جمع ما لا يعقل من المذكر؛ إذ لا يوجد له مثال القلة.

(٣٧١) الهادي: بمعنى المهتدي، وإذ: ظرف مضاف إلى الجملة بعده. يقول: أنا الذي أتقدم غيري، وأسبقه إلى ما أقول. يعني أنه يخترع المعاني الأبكار التي لم يسبق إليها إذا كان غيره من الشعراء يقول ما سبق إليه وقيل من قبله.

(٣٧٢) أرابه: جعل فيه ريبة. والريبة: الشك والتهمة. يقول: إن ما يتكلم به حسادي فيما يريبني لا أصل له؛ لأنه كذب وباطل، وكذلك هم لا أصل لهم. أي ليس لهم نسب يعرف به أصلهم.

(٣٧٣) يقول: أعادى على علمي وفضلي وتقدمي في الشعر؛ وذلك مما يوجب الحب، لا العداوة، وأسكن أنا والأفكار تجول فيَّ ولا تسكن؛ أي لا أتعرض لهم، أما هم فلا يفترون عن تلمس ما يشنعون به عليَّ.

(٣٧٤) يقول: لا تشتغل بمداواة حسد الحساد، فإن الحسد داء عياء إذا حل في قلب فلا أمل في زواله، فسوى: مفعول داوِ.

(٣٧٥) وتنيل: تعطي. يقول: لا تطمعن في مودة حاسد، فهو لا يود محسوده ولو أظهر له المودة وبذل له من نعمته وأعطاه.

(٣٧٦) يصف نفسه بالجلد وقلة الجزع لنوب الدهر. يقول: وإنا لنلقى الحادثات بأنفس جلدة تحتقر الخطوب الجليلة وتستقل الرزايا الكثيرة.

(٣٧٧) هذا من قول أبي تمام:

لَا يَأْسَفُونَ إِذَا هُمُ سَمِنَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ أَنْ تَهْزُلَ الْأَعْمَارُ

(٣٧٨) أنث «تغلب» لأنها قبيلة. ويجوز رفعها على النداء المفرد، وجعل ابنة وائل منصوبًا بالنداء المضاف ونصبها على جعلها مضافة إلى وائل. وابنة بدلًا منها. يقول لتغلب: افخري وتيهي، فإنك قبيلة خير من فخر، يعني سيف الدولة. وتيهًا وفخرًا: منصوبان على المصدر.

(٣٧٩) تغله: تهلكه وتذهب به، يقال: غاله يغوله؛ إذا أهلكه. والغول: المهلك. يقال: الغم غول النفس والغضب غول الحلم. يقول: إذا مات عدوه حتف أنفه ولم يقتل برماحه غمه ذلك، لأنه على يقين من الظفر به.

(٣٨٠) ممات: مصدر ميمي، والضمير في قوله لم يمته: مفعول مطلق مثله في قوله تعالى: عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. والغلول: الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة، وكل من خان في شيء خفية فقد غل. جعله شريك المنايا لكثرة من يقتله. يقول: بينه وبين المنايا شركة في النفوس، فكل منية لم تكن عن سيفه فقد خانته المنايا فيها. يشير إلى كثرة وقائعه واتصال ملاحمه.

(٣٨١) الدولات: جمع دولة — بضم الدال وفتحها — العقبة في المال والحرب سواء، وقيل: بالضم في المال، وبالفتح في الحرب. وقيل: بالضم اسم للشيء الذي يتدوال به بعينه، وبالفتح: الفعل، وهي في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى، يقال: كانت لنا عليهم الدولة، ويقال: صار الفيء دولة بينهم، يتداولونه مرة لهذا ومرة لهذا. والدولات هنا: بمعنى المصدر، والموت الزؤام: الوحي — العاجل — أو الكريه. يقول: إذا كانت الدولة قسمًا لبعض الناس فإنها قسمة من حضر الحرب وشهد مواقع القتال وورد الموت الزؤام غير متهيب ولا مكترث.

(٣٨٢) لمن: بدل من «لمن» في البيت السابق. والبيض: السيوف. والهام: الرءوس. والكماة: الأبطال المدججون بالسلاح. يقول: إن الدولة تدول لمن وطن نفسه على القتل ولم يمل إلى الدنيا بالنكوس عن الحرب وصبر على المكروه وهو يسمع صليل الحديد في رءوس الشجعان.

(٣٨٣) من: مبتدأ، خبره قد فضلوا — في البيت التالي — والهمام: الملك العظيم الهمة. ووائل، أبو قبيلة الممدوح، جعله اسمًا للقبيلة فلم يصرفه. والطاعنين: نعت وائلا. والوغى: الحرب. وقوله: أوائلًا: مفعول به، أي أوائل الأعداء، ويجوز أن تكون حالًا أي أنهم السابقون إلى الطعان. ومن روى الأوائلا: تعينت المفعولية. أراد الطاعنين وجوه الأعداء وصدورهم وسادتهم.

(٣٨٤) العاذلين: جمع عاذل؛ أي اللائم. والندى: الجود. والعواذل: جمع عاذلة، أي لائمة. يقول: إن قومك يلومون من يلومهم على جودهم. ومن كان هذا شأنهم فإنهم مع ذلك يفضلون القبائل بفضلك، ويتفردون بالمكارم بما زدتهم من مجدك.

(٣٨٥) هذي الرسائل: مبتدأ مؤخر. ودروع: خبر مقدم. وملك بسكون اللام: مخفف ملِك بكسرها. يقول — مخاطبًا سيف الدولة: إن هذه الرسائل التي أرسلها ملك الروم هي له بمنزلة الدروع يردك بها عن نفسه ويشغلك عن قتاله، وقد زاد ذلك بيانًا فيما يلي. وقوله يشاغل: قال ابن جني: لفظة غريبة، إلا أن العامة ابتذلتها فلو تجنبها كان أجود.

(٣٨٦) الزرد: الدرع المزرودة، يدخل بعضها في بعض. والضافي والسابغ بمعنى الطويل التام. يقول: هذه الرسائل عليه درع سابغة؛ أي تقوم في الرد عنه مقام الدرع، ولكن ألفاظها فضائل لك وثناء مخلد عليك؛ لأنها خضوع منه واستسلام إليك، فهو يخطب منك الصلح خوفًا ورهبة.

(٣٨٧) أنى: بمعنى كيف. والاستفهام: للتعجب، والقساطل: جمع قسطل، وهو الغبار الذي تثيره الخيل. يقول: كيف اهتدى هذا الرسول في أرض الروم إلى الطريق وغبار جيشك منذ سرت فيها لغزوهم لا يزال منتشرًا لم يسكن؟

(٣٨٨) الجياد: الخيل. والمناهل: الموارد. يقول: لكثرة من قتلت بأرض الروم لم يبقَ منهل إلا صار ممزوجًا بالدماء. فمن أي ماء كان يسقي خيله؟!

(٣٨٩) يجحد: ينكر. وجملة يكاد وما يليه: حال من فاعل أتاك. وتنقد: تنقطع. يقول: أتاك هذا الرسول وقد ساوره من خوف الإقدام عليك ما مثل له السيف واقعًا عليه حتى يكاد رأسه ينكر عنقه توهمًا منه أنه قد انفصل عنه، وتكاد مفاصله تنقطع هيبة لك وفرقًا منك. وقوله تحت الذعر: يروى: تحت الدرع.

(٣٩٠) السماطان: الصفان، يريد صفين من الجند كانا بين يدي سيف الدولة. والأفاكل: جمع أفكل؛ الرعدة تعرض عند الفزع. يقول: إذا عوجت الرعدة مشي الرسول إليك هيبة لك قومه تقويم السماطين عن جانبيه لضيق ما بينهما فمر مستقيمًا.

(٣٩١) سميُّك: فاعل قاسمك، ويعني بسميه: السيف، وهو خليله الذي لا يزايله — لا يفارقه — يقول: إن سيفك قاسمك عيني الرسول ولحظه، فكان ينظر بإحدى عينيه إليك وبالأخرى إلى السيف، يعني أن رسول ملك الروم ملكه من هيبة سيف الدولة ما ملكه من هيبة سيفه، فأجال لحظه متهيبًا لهما معًا. وقد ذكر علة هذه المقاسمة في البيت التالي.

(٣٩٢) الهائل: المفزع المخيف. والضمير في منه: للسيف. يقول: فأبصر منك بعموم جودك الرزق المحيي فأطمعه، وتمثل من سيفك الموت الهائل فتجاذبه طرفان من الطمع واليأس، وقسم عينيه بين شطرين: التأميل والخوف.

(٣٩٣) الكمي: الشجاع المدجج بالسلاح. والمتضائل: المتصاغر خوفًا. يقول: وقبَّل الرسول كمَّك بعد أن قبل الأرض، والأبطال من رجالك وقوف بين يديك متصاغرون هيبة لك.

(٣٩٤) الهمام: الملك العظيم الهمة. يقول: إن أسعد مشتاق بنيل ما أمله ملك رفيع الهمة وصل إلى تقبيل كمك، وإذن نال الرسول بذلك شرفًا عظيمًا؛ لأنه وصل إلى ما يتمنى مثله جلة الملوك.

(٣٩٥) المذاكي من الخيل: التي كملت أسنانها. والذوابل من الرماح: اللينة لطولها. يقول: كمك مكان تتمنى الشفاه أن تقبله، ولكن يتعذر الوصول إليه لكثرة ما يحول دونه من الخيل والرماح.

(٣٩٦) يقول: لم يصل به إلى تقبيل كمك كرامته عليك ومنزلته الرفيعة لديك، ولكنه سألك ذلك وأنت لا تخيب السائل.

(٣٩٧) أكبر: فعل ماض. وفاعله: العدا. ويقال أكبرته: أي استكبرته، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. وهمة: مفعول به، وقوله: بعثت به: نعت همة، وأراد بعثته، فأدخل عليه الباء، قالوا: كل شيء ينبعث بنفسه كالعبد، فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، فيقال: بعثته، وكل شيء لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية، فإن الفعل يتعدى إليه بالباء فيقال بعثت به، وهذا هو مراد قول أهل اللغة بعثه: أرسله وحده، وبعث به: أرسله مع غيره. والجحافل: الجيوش. يقول: إن أعداءك الروم استعظموا همة هذا الرسول؛ إذ حملته همته على أن يأتيك مع ما يعترضه من المهابة وقد لبثت جيوشهم — بعد أن طلبوا إليه أن يشغلك عن حربهم — تنتظر قدومه ليبلغهم جوابك.

(٣٩٨) يقول: أقبل من عند أصحابه وهو رسول لهم مبلغ لكلامهم، فلما عاد إليهم أزرى بهم ولامهم على محاربتهم إياك وعدم خضوعهم لك حين تبين عظيم شأنك، ورأى جنودك وكثرة عديدك، ووازن بين ذلك وبين ضعف أصحابه.

(٣٩٩) ربيعة: قبيلة سيف الدولة. وطبع السيف: عمله، يقول: رأى الرسول منك سيفًا ربيعة أصله والله عز وجل صانعه والمجد قد صقله فتحير إذ لم يرَ سيفًا قبلك بهذه الصفة.

(٤٠٠) المقلة: شحمة العين التي تجمع السواد والبياض. والأنامل: رءوس الأصابع. ولون السيف: فرنده وجوهره. والمراد به شرف سيف الدولة وكرم مناقبه، وأراد بحده: عزيمته، وكلا الأمرين لا يدرك بالحواس. وعبارة الواحدي: إن العيون لا تحصل لونه؛ لأنها لا تستوفيه بالنظر هيبة له، كما قال:

كَأَنَّ شُعَاعَ عَيْنِ الشَّمْسِ فِيهِ فَفِي أَبْصَارِنَا عَنْهُ انْكِسَارُ

ولا تجس الأنامل حده كما تجس حد السيف؛ لأنه ليس سيفًا على الحقيقة. وقال ابن وكيع: هذا من قول الأول:

إِذَا أَبْصَرْتَنِي أَعْرَضْتَ عَنِّي كَأَنَّ الشَّمْسَ مِنْ قِبَلِي تَدُورُ

(٤٠١) يقول: إذا عاينتك رسل الروم وشاهدوا ما أنت فيه من الفخامة والمهابة صاغرت عندهم أنفسهم وما أتوا به من الهدايا وتصاغرت لديهم الملوك الذين أرسلوهم إليك، كما قال البحتري:

لَحظوكَ أَوَّلَ لَحْظَةٍ فَاسْتَصْغَرُوا منْ كَانَ يُعْظَمُ عِنْدَهُمْ وَيُبَجَّل

(٤٠٢) النوافل: جمع نافلة، وهي العطية من حيث لا تجب. والطوائل: الأحقاد، واحدتها: طائلة؛ أي عداوة وترة. يقول: رجا الروم عفو من ترجى كل العطايا عنده ولا يرجى أن يدرك لديه ثأر؛ أي لا يؤمل عدوه أن يدال عليه فيظفر بإدراك ترته.

(٤٠٣) يقول: إن كان الذي ساقهم إليك هو خوفهم القتل والأسر من جهتك فقد فعلوا بأنفسهم بما أظهروه من الذلة والانقياد ما لا يفعل القتل أكثر منه، وقد فسر هذا في البيت التالي.

(٤٠٤) يقول: فخافوك خوفًا، لو قتلتهم لم يزد خوفهم على ذلك، وجاءوك طائعين حتى لا تحتاج في أسرهم إلى السلاسل. وفي المثل: الحذر أشد من الوقيعة.

(٤٠٥) الجداول: جمع جدول؛ النهر الصغير. وإليك مصيره: أي منتهاه إلى الخضوع لك ووصل حباله بحبالك والتصرف حسب أمرك

(٤٠٦) الطل: المطر الضعيف. والوابل: المطر الغزير، يقول: إذا ساجلك هؤلاء الملوك وحاولوا أن يحتذوا حذوك في جودك فأمطروا وأمطرت فطل عطائك يستغرق وابلهم. يعني أن كثيرهم قليل بالإضافة إليك وقليلك كثير بالإضافة إليهم.

(٤٠٧) كريم: خبر عن محذوف ضمير المخاطب؛ أي أنت كريم. ولقحت حرب: اشتدت أو وقعت. وحرب لاقح مثل بالأنثى الحامل. قال الأعشى:

إِذَا شَمَّرَتْ بِالنَّاسِ شَهْبَاءُ لَاقحٌ عَوَانٌ شَدِيدٌ هَمْزُهَا وأظلت

(حرب عوان: قوتل فيها [مرة بعد] مرة كأنهم جعلوا الأولى بكرًا، ويقال: همزته بناب: أي عضته.)

يقول: أنت كريم ما تسأل شيئًا إلا أعطيته حتى لو سئلت فرسك وقد اشتدت الحرب لوهبته مع شدة حاجتك إلى الفرس، يعني لو سئلت شيئًا في أحوج ما تكون إليه لوهبته.

(٤٠٨) يقول: أعطِ الناس أموالك ولا تعطهم شعري، أي لا تحوجني إلى مدح غيرك. وقال ابن جني: أي لا تعطِ الناس أشعاري فيسلخوا معانيها. قال الواحدي: وهذا — أي كلام ابن جني — ليس بشيء لأنه لا يمكنه ستر أشعاره وإخفاؤها عن الناس، وأجود الشعر ما سار في الناس. وقال المعري: يريد لا تعطِ الناس شعري فتجعلهم في طبقتي فتقول: أنت مثل فلان.

(٤٠٩) الضبن: ما بين الأبط والكشح. والشويعر: تصغير شاعر، والاستفهام: للتعجب والإنكار. يقول: أفي كل يوم يتمرس بي شويعر في صناعته قصير في معرفته فأراه يباريني في القوة وهو لا قوة له ويطاولني وهو قصير أحمله تحت ضبني؟! يريد حقارة ذلك الشاعر حتى لو أراد أن يحمله تحت ضبنه لقدر على ذلك، ثم هو مع حقارته يباهيه بمدح سيف الدولة.

(٤١٠) الباء — في الشطرين — بمعنى «في» أي إذا نطقت صمت لساني عنه وعدل عن مخاطبته، وقلبي يضحك منه ازدراء به. وبعبارة أخرى يقول: يعدل عنه لساني فلا أكلمه ولا أهاجيه؛ لأني لا أراه أهلًا لذلك، وقلبي يضحك منه ويسخر وإن كنت صامتًا لا أبدي الضحك والسخر، ثم بين لم يفعل ذلك فيما يلي. هذا، والهزل: ضد الجد، يقال: هزل يهزل. قال الكميت:

أَرَانَا عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا تَجِدُّ بِنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَنَهْزلُ

(٤١١) يقول: إنما لا أجيبهم لأتعبهم بترك الجواب كما أنهم يغيظونني بالمعاداة وهم غير أشكال لي. وتقدير البيت: أتعب منادٍ لك من ناداك فلم تجبه؛ لأنك لا تشفيه بالجواب فيجهد في النداء، كما أن أغيظ الأعداء لك من عاداك وهو دونك لأنك تترفع عن معارضته فلا تشفى منه.

(٤١٢) التيه: الكبر. والطب: العادة والديدن. قال فروة بن مسيك المرادي:

فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلَّابُونَ قِدْمًا وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلِّبِينَا

فَمَا إِنْ طبنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا

كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ تَكُرُّ صُرُوفهُ حِينًا فَحِينَا

(قوله: وإن نغلب فغير مغلبينا: يعني إن كانت همدان ظهرت علينا في يوم الردم فغلبتنا فغير مغلبين — والمغلب: الذي يغلب مرارًا — أي لم نغلب إلا هذه المرة. وقوله: فما إن طبنا … إلخ: أي ما عادتنا وشأننا. وقيل: الطب ها هنا: العلة والسبب؛ أي لم يكن سبب قتلنا الجبن، وإنما كان ما جرى به القدر من حضور المنية وانتقال الحال عنا والدولة، والسِّجال — بالكسر — مصدر ساجل يساجل بمعنى ناوب.)

وبغيض: خبر مقدم عن المرفوع بعده، والجملة خبر أن، وإلى: بمعنى عندي. يقول: ليس الكبر عادتي وديدني غير أنني أبغض الجاهل الذي يتكلف ويرى أنه عاقل، يعني أن الذي يمنعني من تكليمهم إنما هو بغضي إياهم لا التكبر عليهم. أقول: ولو عكس المعنى وقال: إني أعرض عنهم تكبرًا واحتقارًا لا بغضًا واجتواء — لأنهم أقل من أن يبغضوا — لكان أروع، وما أجمل قول الطرماح.

لَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِيَ أَنَّنِي بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئٍ غَيْرِ طَائِلِ

إِذَا مَا رَآنِي قطَّع الطَّرْفَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي كَفِعْلِ الْعَارِفِ الْمُتَجَاهِلِ

قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: إن الحكيم تريه الحكمة أن فوق علمه علمًا فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فيسقط بجهله وتمقته النفوس.

(٤١٣) يقول: أكبر ما أتيه به أنني واثق بجميل رأيك فِيَّ، كما أن أكثر ثرائي هو من ناحية تأميلي لك ورجائي فيك.

(٤١٤) القرم: السيد. وأصله: الفحل الكريم من الإبل. وهبة: أي انتباهة. يقول: لعل سيف الدولة ينتبه لما يقال له ويمدح به فلا يستجيز من الشعراء ما يأتونه به من القول الركيك، فيهلك باطلهم — يعني شعرهم — ويبقى الحق — يعني شعره.

(٤١٥) المراد بالقوافي: القصائد. والغوازي: من الغزو. يقول: مدحته بإذاعة فضائله — فكأني رميت بتلك القوافي التي ذكرت فيها فضائله أعداءه فقتلتهم غيظًا وحسدًا، وجعل القوافي غوازي قواتل؛ لأنها قتلت أعداءه بالغيظ والحسد، وجعلها سالمات؛ لأنها تُصيب ولا تُصاب.

(٤١٦) الثواكل: جمع ثاكل؛ الفاقدة ابنها أو أباها أو أخاها. يقول: لو كانت النجوم جيوشًا ثم حاربته لقامت عليها النوائح، يعني أنها وإن قيل: إنها خالدة لا تفنى، لو حاربته لأتى عليها وأفناها.

(٤١٧) يقول: ما كان أقربها له لو قصدها وألطفها — أخفها — لو حاول تناولها، يعني أن سعده يقرب له البعيد. وقال الواحدي: في جميع النسخ وألطفها برد الكناية — الضمير — إلى النجوم، ولا معنى له. والصحيح: وألطفه، برد الكناية إلى الممدوح: أي ما ألطفه لو تناول النجوم على معنى ما أحذقه وأرفقه بذلك التناول، من قولهم: فلان لطيف بهذا الأمر: أي رفيق، يعني أنه يحسنه وليس بأخرق، وبعد، فإن النجوم في البيتين مثل يريد البعيد من الأشياء الذي يستحيل على غيره بلوغه وقد بين ذلك في البيت التالي.

(٤١٨) النائي: البعيد. والورى: الخلق. والقنابل: الجماعات من الخيل. واحدتها قنبلة، قيل: القنبلة من الخيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه، والقنبلة من الناس: الطائفة منهم، وقدر قنبلانية: تجمع القنبلة من الناس: أي الجماعة. يقول: قريب عليه كل بعيد على غيره من المطالب إذا حاوله بجيشه فانعقد عليه الغبار من كثرة الخيل حتى يصير له كاللثام. وبعبارة أوضح: إذا قاد جيشه وأنفذ نحو العدو خيله ولثمت كتائبه بما تثيره من الغبار فكل ما يبعد على غيره فإن مرامه قريب منه وتناوله غير مستعصٍ عليه.

(٤١٩) وقتًا: ظرف، ولها: خبر ليس، وشاغل: اسمها. يقول: إن تدبير ممالك الشرق والغرب بكفه، فإنه بسيفه وقوة يده يدبرها، ومع كل هذا الشغل العظيم ليس لها شيء يشغلها وقتًا عن الجود، أي لا يغفل عن الجود وإن عظم شغله، كما قال البحتري:

تَبِيتُ عَلَى شُغْلٍ وَلَيْسَ بِضَائِرٍ لِمَجْدِكَ يَوْمًا أَنْ تَبِيتَ عَلَى شُغْلِ

وروى ابن فورجه: وقتٌ بالرفع، على أنه اسم ليس، وشاغل: نعت له. قال الواحدي: تهوس ابن فورجه في هذا البيت فروى وقت بالرفع، قال: وفيه معنًى لطيف ليس يؤديه اللفظ إذا نصب وقت، وذلك أنه يريد لهذه الكف الشرق والغرب وما يحويانه وليس لها وقت يشغلها عن المجد، وكف تملأ الشرق والغرب كان بأن تملأ ما هو أحقر منهما أولى، قال الواحدي: وهذا الذي قاله — ابن فورجه — باطل محال لا يقوله إلا غمر جاهل، والوجه: النصب؛ لأنه ظرف لشاغل.

(٤٢٠) هراب: جمع هارب. ومراده: فاعل يتبع، ولك أن تجعله مفعولًا ثانيًا ليتبع. وحربًا: نصب على الحال. أي محاربًا — يقال: فلان حرب لفلان إذا كان معاديًا له، ولك أن تجعل حربًا منصوبًا بنزع الخافض: أي من الحرب. والغوائل: جمع غائلة، وهي الداهية تغول: أي تهلك. يقول: إن جده يسعده وينفذ مراده في أعدائه، فمن فر منه محاربًا جرى مراده في أثره فهلك بسبب من الأسباب، واستقبلته غائلة تأتي عليه.

(٤٢١) النائل: العطاء، يقول: من فر من إحسانه وأزمع مجانبته حسدًا له استقبله حيثما توجد عطاء منه؛ وذلك لعموم نائلة الأرض. وبعبارة أخرى: إن جوده يشمل الولي والحاسد ويعم المحسن والمسيء. وفيه نظر إلى قول أبي تمام:

وَإِذَا سَرَحْتَ الطَّرْفَ حَوْلَ قِبَابِهِ لَمْ تَلْقَ إِلَّا نِعْمَةً وَحَسُودَا

(٤٢٢) وهو كامل: حال من إحسانه. وكاملًا مفعول ثانٍ ﻟ «يرى»، وقوله: له الضمير للممدوح، والظرف حال من الضمير في «كاملًا»: أي كاملًا في حقه وبالنسبة إليه. يقول: هو مع كون إحسانه كاملًا قد بلغ الغاية لا يراه كاملًا بالإضافة إليه وإلى علو همته حتى يكون عامًّا يشمل الناس جميعًا.

(٤٢٣) العرب العرباء: القديمة الخالصة التي لم تشبها هجنة. ورازت: جربت واختبرت. وفتاها: كريمها وسخيها. والحلاحل: السيد. يقول: إذا اختبروا نفوسهم عند الجود والشجاعة علموا أنك فتاهم وسيدهم؛ لأنك أجودهم وأشجعهم.

(٤٢٤) يقول: هم لك مطيعون حتى لو أمرتهم ببذل أرواحهم لبذلوها في طاعتك، وقد تصرفوا في إيرادهم وإصدارهم حسب أمرك واجتمعت قبائلهم على نصرتك ودانوا أجمعين بالخضوع لطاعتك، ويجوز أن يكون معنى التفت عليك القبائل: أحاطت أنسابها بنسبك فأنت وسيط بينهم.

(٤٢٥) الأنابيب: جمع أنبوب؛ العقدة الناشزة في القناة. والقنا: عيدان الرماح. والعوامل: جمع عامل، وهو ما يلي السنان من الرمح. والنكت: الوخز. ويقال: طعنه فنكته: أي ألقاه على رأسه. شبه قبائل العرب بأنابيب الرمح وسيف الدولة بالعامل. قال الواحدي: هذا مثل، يقول: إن الطعن إنما يتأتى بالرمح كله وما لم يعاون بعض الرمح بعضًا لم يحصل الطعن، ولكن العوامل هي التي تصيب الفرسان؛ لأن السنان فيها. كذلك القبائل: كلهم مدد لك والعمل منك، فأنت منهم كالعوامل من الرمح. وهذا من قول بشار.

خُلِقُوا سَادَةً فَكَانُوا سَوَاءً كَكُعُوبِ الْقَنَاةِ تَحْتَ السِّنَانِ

وقال البحتري:

كَالرُّمْحِ فِيهِ بضْعَ عَشْرَةَ فِقْرَةً مُنْقَادَةً تَحْتَ السِّنَانِ الْأَصْيَدِ

وبعبارة أخرى: يقول له — مؤكدًا لما ذكره من انقياد العرب لأمره: كل أنابيب الرمح مما تمده وتعينه، ولكن العامل منها هو الذي به يكون الطعن وصرع الفرسان. جعل موضع سيف الدولة من العرب — وإن كانوا مددًا له — موضع العامل من الرمح الذي به يكون الطعن، وإليه ينسب الفعل من دون سائر الأنابيب. وقال ابن جني: المعنى أن أصحابك وإن كانوا أعوانًا لك فأنت الذي تتولى الحرب بنفسك وتتقدم إليها كتقدم السنان.

(٤٢٦) الوغى: الحرب. وإليك: صلة انقيادًا. والشمائل: الأخلاق. والمفعول الثاني لرأيت: محذوف سد مسده شرط «لو» وجوابها. يقول: إن لم يطعك الناس خوفًا من طعنك أطاعوك حبًّا لشمائلك؛ أي إن كرمك وحسن أخلاقك أدعى إلى طاعتك من الطعان في القتال.

(٤٢٧) المناصل: جمع منصل، وهو السيف، يقول: من لم تعلمه نفسه الخضوع لك وترشده سعادته إلى الاعتلاق بك أجبرته على ذلك سيوفك؛ أي إن من لم يخضع لك طوعًا ورغبة خضع لك خوفًا ورهبة.

(٤٢٨) يقول: إن كان صبر صاحب المصيبة على ما أصيب به يعد فضلًا له فأنت الأفضل الأجل لإرباء صبرك على صبر غيرك. يعني أنت أصبر ذوي الرزايا وأفضلهم. والرزية والرزيئة — بالهمز وبتركه — المصيبة.

(٤٢٩) يقول: أنت أجل من أن تُعزى عمن ترزأ به من الأحباب؛ لأنك أعقل من الذي يعزيك وأهدى منه إلى معاني التعزية. قال ابن جني: فوق — الأولى — نداء مضاف إلى أن تعزى، والثانية: ظرف، وعلى هذا تكون «أنت» مبتدأ. و«فوق» الثانية: خبر. وقال التبريزي: يحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون حذف المنادى: أي أنت يا سيف الدولة وعلى هذا تكون فوق — الأولى والثانية — ظرفين، وتكون الأولى: خبرًا أول. والثانية: خبرًا آخر. والوجه الثاني أن تكون «فوق»: نعتًا له وقد أخرجها من باب الظرفية إلى الأسماء. وعقلا: نصب على التمييز.

(٤٣٠) اهتدى: أي الذي يعزيك. ونصب «قبلا» على الظرفية وجعله نكرة على حد قولك: جئتك أولًا وآخرًا، كما قال:

وَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا أَكَادُ أَغَصُّ بِالْمَاءِ الْفُرَاتِ

(رُوي عجز هذا البيت: أكاد أغص بالماء الحميم ورُوي أيضًا: بالماء المعين، ورُوي: أغص بنقطة الماء الحميم. قال البغدادي: وهو آخر أبيات خمسة ليزيد بن الصعق وهي:

أَلَا أَبْلِغْ لَدَيْكَ أَبَا حُرَيْثٍ وَعَاقِبَةَ الْملَامَةِ لِلْمُليمِ

فَكَيْفَ تَرَى مُعَاقَبَتِي وَتَسْعَى بِأَذْوَادِ الْقُصَيْبَةِ وَالْقَصِيمِ؟

وَمَا بَرِحَتْ قَلوصي كُلَّ يَوْمٍ تَكِرُّ عَلَى الْمُخَالِفِ وَالْمُقِيمِ

فَنِمْتُ اللَّيْلَ إِذْ أَوْقَعْت فِيكُمْ قَبَائِل عَامِرٍ وَبَنِي تَمِيمِ

وساغ لي الشراب … … … البيت

المليم: من ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه. والمعاقبة: المناوبة — من العقبة، وهي النوبة — والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر. والقصيبة والقصيم: موضعان. والمخالف من الخلوف، وهم المقيمون في الحي حينما يذهب الرجال للغزو. وقوله: ساغ: عطف على نمت. والحميم: الماء الحار، وليس بمراد، وقيل: هو من الأضداد يطلق على الماء البارد أيضًا. وأغص: مضارع غصصت بالطعام، والغصة: ما غص به الإنسان من طعام، وهو هنا مستعمل مكان الشرَق.)

يقول: إن الذي يعزيك، منك تعلم ألفاظ التعزية؛ فهو يقول لك في التعزية ما قلتَه قبل ذلك واستفاده منك. وعبارة العكبري الإنشائية الأنيقة: المعزي لك إنما يهتدي بألفاظك ويخاطبك بما تعلمه من قولك فقدرك مرتفع عن التعزية، فإن حقائق الأمور مستفادة منك، وجواهر الكلام مأثور عنك، إنما يقابلك بما أنت أعلم به ويذكرك بما أنت أحفظ له، فهو كمن جلب إلى هجر القطيعاء (هجر: بلد بالبحرين، مذكر مصروف، مشهور بتمره. والقطيعاء — ممدود، مثل الغبيراء — صنف من التمر)، وإلى الفرات الماء، وإلى البدر الضياء.

(٤٣١) بلوت: خبرت. والخطوب: حوادث الدهر. والحزن: ضد السهل، وهو ما خشن من الأرض وارتفع. والمنصوبات — في البيت — أبدال. يريد: حلوها ومرها وحزنها وسهلها. وتفسير العكبري الجميل: قد خبرت طوارق الدهر بمعرفتك، وعرفت حلوها ومرها بتجربتك، وسرت في الأيام مالكًا صعبها تسلك منها ما صعب وسهل، وتعاني ما بعد وقرب، ناهضًا بنفسك، مكتفيًا بعلمك.

(٤٣٢) يغرب: يجيء بشيء غريب. وعلمًا وقولًا: كلاهما تمييز. يقول: عرفت الزمان وألوانه وصروفه معرفة تامة، فلا يأتي بشيء غريب ولا فعل جديد لم تره ولم تعرفه، وقتلت الزمان علمًا: يعني علمت منه كل شيء حتى أذللته بعلمك ولينته لك، ومعنى القتل في اللغة إزالة الحركة، ومنه يقال: شراب مقتول؛ إذا كسرت سورته بالماء.

(٤٣٣) الذعر: الخوف. قال ابن فورجه: يقول: أنت إذا حزنت على هالك فإنما تحزن حفاظًا منك لوده وصحبته ووفاء له، والحفاظ والوفاء مما يدعو إليه العقل. وغيرك يحزن خوفًا من ألم الفراق وجبنًا منه وجهلًا من غير معرفة بالسبب الموجب للحزن. قال الواحدي: وتفسير الحفظ على ما ذكره. وأما تفسير العقل والذعر والجهل فلم يصب فيه. والوجه أن يقال: أراد بالعقل الاعتبار بمن مضى، فإن العاقل إنما يحزن على الميت اعتبارًا به وعلمًا أنه عن قريب يتبعه على أثره، وحزن غير العاقل يكون ذعرًا من الموت، وهو جهل؛ لأنه ميت لا محالة وإن حزن.

(٤٣٤) الإلف: السكون إلى الشيء والأنس به. يقول: لك إلف يجر هذا الحزن ويجلبه عليه، ثم ذكر أن الإلف من كرم الأصل وأن الكريم ألوف، وإذا كان ألوفًا حزن على فراق من ألفه. وعبارة العكبري: لك إلف لكرم صحبتك يجر الحزن إليك ممن تفقده من أحبتك، ويوجب الإشفاق منك على مواصلك، وكذلك الأصل إذا كان كريمًا كأصلك متمكنًا في مثل نصاب شرفك، كان أصلًا لكريم المواصلة والمؤالفة، وباعثًا على مشكور المعاملة، فمنزلتك من الشرف تضمن الفضل عنك، ومحلك من الكرم يوجب حسن المؤالفة. «ويجره»: رواها ابن جني: تجره — بالتاء — قال: أي تحسبه وتحمل ثقله.

(٤٣٥) ووفاء: عطف على إلف — في البيت السابق — يقول: ولك وفاء نبت فيه وسقيت ماءه صغيرًا ونشأت عليه، فلا تعرف غير الوفاء للأحباب، ولا بدع؛ فإنك من عشيرة هم أهل الوفاء فانحدر إليك منهم، وهذا الذي جر إليك الحزن على من فقدت. وقوله: ولكن: هو استثناء معروف في كلام العرب، يقولون: فلان شريف غير أنه سخي. وفي الحديث: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش»؛ أي فلا عجب في كوني أفصحهم. وقالوا:

فَتًى كَمُلَتْ أَخْلَاقُهُ غَيْرَ أَنَّهُ جَوادٌ فَمَا يُبْقِي مِنَ الْمَالِ بَاقِيَا

(٤٣٦) الرعاية: حسن المحافظة. والاستهلال: الانسكاب. يقول: إن الدمع الذي سببه رعاية العهد هو خير الدموع عونًا على الحزن والرزية، وذلك أن الدمع يخفف برح الوجد، كما قال ذو الرمة:

لَعَلَّ انْحِدَارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ رَاحَةً مِنَ الْوَجْدِ أَوْ يَشْفِي نَجِيَّ الْبَلَابِلِ

وقوله: عونًا، يروى: «عندي»، وروى ابن جني: عينًا، قال: وهو منصوب على التمييز كقولك: إن أحسن الناس وجهًا لزيد، والمعنى أن عينه خير الأعين؛ لأن موجب دمعه حتى استهل وفاض هو الرعاية والحفاظ.

(٤٣٧) استكره الحديد: أي أكره على الضرب، وهو بدل من قوله: في الحرب. وصل الحديد: صوت. يقول: هذه الرقة والرحمة التي نشاهدها منك الآن أين هي في وقت الحرب حين يكره الحديد على الضرب ويصلُّ بقرع بعضه البعض عند تجالد الأبطال؟! قال البحتري:

لَمْ يَكُنْ قَلْبُكَ الرَّقِيقُ رَقِيقًا لَا وَلَا وَجْهُكَ الْمَصُونُ مَصُونَا

وقوله: إذا استكره الحديد وصلَّا، قال العكبري: فيه نظر إلى قول لبيد:

أَحْكَم الْجِنْثِيَّ مِنْ عَوْرَاتِهَا كُلُّ حِرْبَاءٍ إِذَا أُكْرِهَ صَلَّ

(الجنثي: السيف بعينه. وأحكم: أي رد الحرباء — وهو مسمار الدرع — من عوراتها السيف.)

(٤٣٨) خلفتها: رواها ابن جني: غادرتها، وهما بمعنًى. والغداة: البكرة، وهي مضافة إلى الجملة التي بعدها. والهام: الرءوس. والصوارم: السيوف. وتفلى: من فليت رأسه إذا فصلت القمل منه، وأصله من فلوت الفلو عن أمه: إذا أنت فصلته عنها. يقول: أين تركت رقتك هذه ساعة لقيت الروم في الحرب والرءوس تطلب بالسيوف في جميع الجهات كالفالي يتبع كل موضع من الرأس. هذا هو تفسير الواحدي، وقد أبعد في تفسيره «تُفْلَى» بما قال. ولم هذا وقد جاء في كتب أهل اللغة أنه يقال: فلى رأسه بالسيف فليًا: ضربه وقطعه؟! قال الشاعر:

تُخَاطِبُهُمْ بِأَلْسِنَةِ الْمَنَايَا وَتَفْلى الْهَام بِالْبِيضِ الذُّكُورِ

فيجب أن يكون التفسير على هذا الوجه: أين تركت هذه الرقة ساعة لقيت الروم في الحرب والرءوس تضرب بالسيوف، والنفوس تخترم بالحتوف؟

(٤٣٩) المنون: المنية، ويجوز تذكيره وتأنيثه، وقد يراد به الجمع، وهو ما يقصده المتنبي — كما يدل على ذلك البيت التالي — وجورًا: حال. والقسم — بالكسر — الاسم من قسمه. يعزيه بأخته الكبرى الباقية، يقول: قاسمك الموت شخصين؛ يعني أختيه، فذهب بإحداهما — الصغرى — وترك الأخرى — الكبرى — وكانت هذه المقاسمة جورًا — ظلمًا — لأنه كان من حقك أن يتركهما، ولكن هذا الجور عدل فيك حيث تركك حيًّا وكانت المقاسمة معك في الأختين؛ يعني إذا كنت أنت البقية فالجور عدل، هذا إذا نصب القسم وجعل الفعل للجور، ورُوي: «جعل القسم نفسه فيه عدلًا» يعني أن القسم جعل نفسه عدلًا في الجور؛ لأنه وإن أخذ الصغرى فقد أبقى الكبرى فآثرك بأفضل النصيبين؛ لأنك أفضل المتقاسمين. ولنرجع إلى المنون فنقول: قال علماء اللغة: المنون الموت؛ لأنه يمن كل شيء أي يقطعه ويضعفه وينقصه، وقيل: المنون: الدهر، وجعله عدي بن زيد جمعًا فقال:

مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ مَنْ ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ خَفِيرُ؟!

وهو يذكر ويؤنث، فمن أنث حمل على المنية، ومن ذكر حمل على الموت، قال أبو ذؤيب الهذلي:

أمن المنون وريبه تتوجع؟! والدهر ليس بمعتب من يجزع

وقد روي: وريبها حملًا على المنية، وقيل: إنما أنث على معنى الدهور فرده على عموم الجنس، كقوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ لأن الألف واللام في الطفل بمعنى الأطفال. والسماء بمعنى السموات. وقال أبو العباس: المنون يحمل معناه على المنايا فيعبر بها عن الجمع، وأنشد بيت عدي بن زيد: من رأيت المنون … إلخ أراد المنايا؛ فلذلك جمع الفعل.

(٤٤٠) أغدرن كغادرن: تركن. وسرى عنه: فرج. وسلَّى: عزى. والضمير في سرى وسلى: للقياس، أو لما أغدرن. يقول: إذا قست الصغرى التي أخذتها المنية بالكبرى التي أبقتها لك وجدت في ذلك ما تتعزى به؛ لأنها أبقت لك أحبهما إليك.

(٤٤١) أي حين بقيت الكبرى. وأوفى: أتم. وجدك: أي سعدك.

(٤٤٢) يقول: لقد شغلت المنايا بما تواصله في أعدائك من القتل في الحرب فكيف تطلب المنايا شغلًا بغيرهم فتفرغ إلى ذي قرابتك؟!

(٤٤٣) انتاشه: تناوله وانتشله. ويقال: انتاشه من صرعه: إذا استنقذه. والنوال: العطاء. والمقل: الفقير. يقول: كم نصرت أسيرًا للدهر لا ناصر له استنقذته من أسر الدهر، وكم من فقير معدم نصرته بعطائك فأنقذته من أنياب الإقتار والفاقة.

(٤٤٤) فاعل عدها: ضمير الدهر. والهاء: ضمير النصرة: أي عد نصرتك لهذين نصرة عليه، ولك أن ترجع الهاء لأفعال سيف الدولة. وصال: وثب واستطال. والختل: الغدر. والتبل: الثأر. يقول: عد الدهر أفعالك — من انتياشك الأسير والمقل من يده — نصرة عليه ومراغمة له، فلما استطال عليك بأخذ أختك رأى نفسه قد أدرك ثأره منك؛ لأنه حقد عليك مما فعلته، فقوله: رآه: أي رأى الدهر نفسه، وهي من رؤية القلب؛ أي ظن نفسه واعتقد.

(٤٤٥) يقول: ليس الأمر كما ظن الدهر من أنه أدرك منك ثأرًا؛ لأنك تبلي الدهر بقطعك أيامه وطول سلامتك وتبقى في نعمة لا تفنى؛ إذ آتاك الله من السعد ما لا تقوى عليه غير الدهر وصروفه. ويقال: كذبه ظنه: إذا خدعه وزين له الباطل.

(٤٤٦) رامك: طلبك. يقول: ولقد حاول أعداؤك كما حاول الدهر أن ينالوا منك ويدركوا ثأرهم فلم يستطيعوا أن يصيبوا ظل شخصك فضلًا عن أن ينالوا خاصة نفسك، والمعنى: لم يقاربوك بسوء، وذلك أن ظله يقرب منه. وحاصل معنى البيتين أن الله قد صرف عنه كيد الزمان وأهله فلا يصلون إليه بسوء.

(٤٤٧) يقول: طلبت بعض أعدائك فأدركت الكل بما أعطيت من السعد والإقبال في الظفر بالأعداء، يعني أن سعده يقاتل أعداءه عنه ويؤتيه من الظفر بهم زيادة على ما يطلب. فقوله: بالسعادة، متعلق ﺑ «رمت».

(٤٤٨) الرامحين: أي حاملي الرماح. وعزلًا: جمع أعزل، وهو الذي لا سلاح معه. يقول: قارعت رمحك رماح الأعداء، ولكنك ظهرت عليهم وغلبتهم وسلبت أرواحهم فكأنك سلبت رماحهم وتركتهم عزلًا لا سلاح معهم. يشير إلى حذقه بالطعن والاقتدار على التصرف في الحرب.

(٤٤٩) وردت: استقبلت. والفجعة: المرة من فجعه؛ إذا أوجعه بعزيز لديه. والقبل جمع أقبل، وهو الذي يقبل بإحدى عينيه على الأخرى عزة وتشاوسًا. وقال بعض اللغويين: الأقبل الذي أقبلت حدقتاه على أنفه. والأحول: الذي حولت عيناه جميعًا. وقال آخرون: إذا أقبل سواد العين على الأنف فهو أقبل، وإذا أقبل على الصدغين فهو أخزر، وقد قبلت عينه وأقبلتها أنا، ورجل أقبل بين القبل، وهو الذي كأنه ينظر إلى طرف أنفه. قالت ليلى الأخيلية في فائض بن عقيل — وكان قد فر عن توبة يوم قتل:

وَلَمَّا أَنْ رَأَيْتَ الْخَيْلَ قُبْلًا تُبَارِي بِالْخُدُودِ شَبَا الْعَوَالِي

(بعده:

نَسِيتَ وِصَالَهُ وَصَدَدْتَ عَنْهُ كَمَا صُدَّ الْأَزَبُّ عَنِ الظِّلَالِ

«الأزب: الكثير الشعر في الأذنين والحاجبين، وفي المثل: كل أزب نفور؛ لأنه ينبت على حاجبيه شعيرات، فإذا ضربته الريح نفر».)

يقول: لو كان الذي أصابك من هذه الرزية طعنًا لدفعته عنك بالخيل والسلاح. أو تقول: لو يكون الذي ألم بك من الرزية طعنًا ومنازلة وقتالًا لأوردت ذلك الموطن خيلك قبلًا مقدمة ولأقحمتها على الموت كل الإقحام.

(٤٥٠) الحنين: ما يجده الإلف إذا فارق إلفه، وهو في معنى الشوق. يقول: ولكشفت عن نفسك هذا الحنين الذي تجده إلى المفقود بضرب طالما كشف الكروب وجلاها عن أوليائك أو تقول: لو كان هذا الحنين المتصل على رزيتك مما يستدفع بمغالبة ويستكشف بمكاثرة، لكشفته بضرب بالغ وإقدام على الموت صادق، فطالما كشفت الكروب الموجعة، ولكن الموت لا يدفع بشدة ولا يعتصم منه بقوة.

(٤٥١) خطبة: أي هذه خطبة، وأصل الخطبة: طلب المرأة للزواج. والحمام: الموت. والثكل: فقد من يعز من ولد أو حبيب أو قريب. جعل الثكل خطبة لها لأنها كانت بكرًا؛ أي لما استأثر بها الموت صار كأنه خاطب لها وإن كانت هذه الخطبة هي المسماة بالثكل. وعبارة الواحدي: إن هذه الوفاة جرت مجرى الخطبة من الحمام للميتة وإن كانت تلك الخطبة تسمى ثكلًا. هذا إذا نصبت المسماة على أنها خبر كان ونصب ثكلًا بالمسماة، كما تقول: ضربت المعطاة درهمًا. وإن رفعت المسماة فالمعنى: وإن كانت هذه التي سميتها أي ذكرتها ثكلًا، فتكون «ثكلًا» خبر كان. هذا، وقد وصف الخطبة بأنها لا ترد؛ لأنه إذا كان الخاطب الحمام لم يستطع رده كغيره من الخطاب.

(٤٥٢) الكفو والكفؤ: المثل، وبعلًا — أي زوجًا — حال. يقول: إذا لم تجد المرأة الشريفة كفوًا لها من الناس تتزوج منه اختارت الموت بعلًا لها. قال الواحدي: لأنها إذا عاشت وحدها لم تنتفع بالدنيا وبشبابها فاختارت الموت على الحياة … والأوجه أن يقال: لأنها تأبى أن تمس كرامتها وصيانتها إذا هي تزوجت من غير أكفائها، ومن ثم تؤثر الموت الذي يكمل صيانتها ويوفيها حق جلالتها.

(٤٥٣) يقول: إن الحياة للذاذتها أنفس في نفوس ناسها وأشهى إليهم من أن تمل وتستكره. لعله يريد أن يقول: إن ذات الخدر إنما تؤثر الموت خوفًا من أن تصير إلى غير كفو فتمتهن، لا بغضًا في الحياة.

(٤٥٤) أف: كلمة يقولها المتضجر الكاره للشيء، وهي بتثليت الفاء وبالتنوين وتركه. يقول: إذا ضجر الشيخ فقال: أف، فإن ذلك الضجر والملال إنما هو من ضعف الشيخوخة لا من طول الحياة؛ لأن الحياة حبيبة إلى النفوس في الشبيبة والكبر. هذا، وقوله: وإنما الضعف ملا: فالضعف مفعول مقدم، وهو في مثل هذا الموضع غير جائز التقديم لأنه مقصورﺑ «إنما» ولكن قدمه للضرورة.

(٤٥٥) يقول: إنما يحلو العيش ويطيب بالصحة والشباب، فإذا لم يكن هناك صحة وشباب فسد العيش وتَنَغَّصَ وذهب. أو تقول: آلة العيش وقوامه وحقيقته الشباب والصحة، فإذا هما وَلَّيَا وذَهَبَا ولَّى العيش وذهب.

(٤٥٦) يقول: إن الدنيا تعود على ما تهب فتأخذه. فليتها بخلت وما جادت، كما قال الحلاج:

وَللْمَنْعُ خَيْرٌ مِنْ عَطَاءٍ مُكَدَّرِ

وقال الأول:

الدَّهْرُ آخِذُ مَا أَعْطَى مُكدِّرُ مَا أَصْفَى وَمُفْسِدُ مَا أَهْوَى لَهُ بِيَدِ

فَلَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ دَهْرٍ عَطِيَّتُهُ فَلَيْسَ يَتْرُكُ مَا أَعْطَى عَلَى أَحَدِ

وقال حكيم: الدنيا تُطعم أولادها وتَأكل أولادها. هذا، وقد قال العلامة العكبري النحوي الكوفي: «الدنيا» مرفوعة ﺑ «تسترد» عندنا، وﺑ «تهب» عند البصريين؛ لأنهم يُعملون الثاني.

(٤٥٧) هذا جواب التمني في قوله: «فيا ليت». وكفيته الشيء: أغنيته عنه، والكون: بمعنى الحصول، والفرحة — بالضم والفتح — اسم بمعنى المَسَرَّة، ويغادر: يترك. والوجد بمعنى الحزن. والخل: الخليل. يقول: لو بخلت ولم تَجُدْ لأغنت عن حصول فرحة تعقب بزوالها الغم، وعن وجود صاحب يموت فيصير الحزن بعده صاحبًا لمن فقده. فالدنيا مثل رجل وهب لرجل شيئًا، فلما فرح به واغتبط أخذه منه. فكان أسفه عليه أكثر من اغتباطه به.

(٤٥٨) على الغدر: أي معه. والظرف حال من نائب معشوقة يقول: وهي — أي الدنيا — مع غدرها بالناس فلا تحفظ لأحد عهدًا ولا تدوم على العهد ورجوعها — على ما تهب — معشوقة محبوبة.

(٤٥٩) يسيل: صفة لدمع. ومنها: متعلقة ﺑ «يسيل» وعليها: خبر كل. والحرفان للتعليل. أي كل دمع يسيل من جرائها هو عليها؛ أي كل من أبكته الدنيا فإنما يبكي أسفًا على فوت شيء منها ولا يخلي الإنسان يديه منها إلا قسرًا حين تفك يداه عنها بالموت.

(٤٦٠) الشيم: الطبائع. والغانيات: الحسان اللاتي غنين بحسنهن وجمالهن. وقوله: لذا: أي ألذا؟ فحذف الاستفهام. يقول: شيمة الدنيا كشيمة النساء فالنساء لا يدمن على الوصل ولا يحفظن العهد، وكذلك الدنيا. ثم قال: ولست أدري ألهذه المشابهة جعل الناس اسمها مؤنثًا؟ وهذا من تجاهل العارف؛ لأنه يعلم أن الدنيا لم تؤنث لأنها تشبه الغواني، كما قال زهير:

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟

هو يدري أنهم رجال، ولكنه تجاهل هذا؛ لأن فيه ضربًا من الهزء بهم.

(٤٦١) الورى: الخلق. والمحيا: الحياة. يقول: إنه ملك عظيم الشأن يفرق الحياة والموت والعز والذل فيمن والاه وأطاعه وخالفه وعاداه.

(٤٦٢) سيفها أنت: نعت «دولة». وحسامًا: أي سيفًا قاطعًا، مفعول قلد. يقول: إن الله سبحانه قد قلد دولة جعلك سيفها الذائد عن بيضتها سيفًا قاطعًا حلاه بالمكارم، فهو حامي الدولة وزينتها وعزها.

(٤٦٣) أغنت وأفنت: أي الدولة. وبذلا وقتلا: تمييز. والموالي: الأصدقاء والحلفاء. والأعادي: جمع أعداء، جمع عدو، يشدد ويخفف؛ أي بذلك الحسام أغنت هذه الدولة أولياءها بذلًا، وبه أفنت أعاديها قتلا، فهو يحيي الموالي بماله، ويميت الأعادي بسيفه ورجاله.

(٤٦٤) اهتز: ارتاح. والوغى: الحرب. والنصل: السيف؛ أي إذا اهتز للعطاء كان كالبحر في كثرة مواهبه وعموم فواضله، وإذا اهتز للحرب كان كالسيف في نفاذ عزمه وقوته فيما يحاول من أمره.

(٤٦٥) المحل: الجدب وقلة النبات في الأرض لقلة المطر. والوبل: المطر الكثير. أي إذا أظلمت الأرض وأعتمت خطوبها كان كالشمس المشرقة، وإذا أجدبت كان جوده كالسحاب المغدقة، فهو ينير إذا استبهم الأمر ويجود إذا بخل الدهر.

(٤٦٦) الكتيبة: الطائفة من الجيش. وتغلو — من غلاء السعر — أي يعز وجودها، والجملة: حال. وقوله: أغلى وأغلى: كأنه يريد التوكيد، والعاطف زائد. يقول: هو الضارب الكتيبة من الجيش بسيفه حين يكون الطعن غاليًا عزيز المنال لصعوبة الموقف واشتداد الحال، وإذا كان الطعن غاليًا كان الضرب أغلى منه لحاجة الضارب إلى فضل إقدام؛ لأن الضارب أقرب من الطاعن. والمعنى أنه يقدم على الضرب حين لا يقدم غيره على الطعن، وقال ابن فورجه: يريد أنه إذا لم يقدر على الدنو من العدو قيد رمح — أي مقدار رمح — فالدنو إليه قيد سيف أصعب. والمعنى أنه يضرب بسيفه حين لا يقدم الطاعن والضارب. وقال ابن جني: يريد إن كان الطعن صعبًا على الطاعن فهو أيسر من الضرب؛ لأن بعد الطاعن عن عدوه أكثر من بعد الضارب، والرامي أبعد من الطاعن، وقد رتبه زهير فقال:

يَطْعَنُهُمْ مَا ارْتَمَوْا حَتَّى إِذَا اطَّعَنُوا ضَارَبَ حَتَّى إِذَا مَا ضَارَبُوا اعْتَنَقَا

وعبارة العكبري: هو الضارب الكتيبة من الجيش والحرب متوقدة ونيرانها مضطرمة، والطعن بين الفرسان يغلو ويشتد، والضرب أغلى وأشد فدل على أن سيف الدولة عند اشتداد الحرب يقتحم الكتائب بنفسه، ويستخف ذلك بشدة بأسه.

(٤٦٧) بهره: غلبه. ووصفًا: تمييز. وقوله: فما تدرك: يروى بالتاء على الخطاب للممدوح. وبالياء عودًا على لفظ المنادى. والعقول: قال العكبري: بالنصب هو الأصل، وبالخفض تشبيهًا بالحسن الوجه. يقول: يا من غلب العقول بما أظهر من بدائع الأفعال فما يدرك وصفك، أتعبت فكري إذ لم يبلغك. فمهلًا: أي ارفق. وعبارة العكبري: أيها الملك الذي بهر العقول بكثرة فضائله وأعجز الأوصاف بتتابع مكارمه: مهلًا على فكري فقد أتعبته، ورفقًا بما أنظم فيك فقد أعجزته.

(٤٦٨) التعاطي: التناول. ويقال: فلان يتعاطى كذا: إذا عني به وتفرغ له. وأعياه: أعجزه. يقول: وكيف لا يكون ذلك ومن حاول أن يتشبه بك في كرم أخلاقك أعجزه ذلك فلم يقدر على التشبه بك لأن كرمك لا ينال بالتكلف، ومن سلك طريقك ضل فيه، أي لم يقدر على مجاراتك فيما تسلكه لبعد مذهبك واتساعه.

(٤٦٩) زلت: من الزوال. وقوله: أو ترى: أي إلى أن ترى. يقول: إذا اشتهى أحد أن يدعو لك بالخلود فدعاؤه هو أن يقول لك. لا زلت — أي لا مت — كما في رواية — حتى ترى لك مثيلا، وإذا كان ذلك كذلك بقيت إلى الأبد؛ لأنه لن يكون لك مثيل.

(٤٧٠) قال الشراح: سبب عمل هذه القصيدة أن سيف الدولة ورد عليه أن الدمستق وجيوش الروم قد نزلوا على حصن الحدث ونصبوا عليه مكايد، وقدروا أنها فرصة فيه لما تداخل أهله من الانزعاج والقلق. وكان ملكهم قد ألزمهم قصده وأنجدهم بأصناف من البلغر والروس والصقالبة، وأنفذ معهم العدد الكثير والعدد. فركب سيف الدولة نافرًا، وانتقل إلى غير الموضع الذي كان فيه، ونظر فيما يجب أن ينظر فيه، وسار عن حلب في جمادى الأولى، فنزل رعبان وأخبار الحدث عليه مستعجمة؛ لأنهم ضبطوا الطرق ليخفى عليه خبرهم، فلما ضجر لبس سلاحه وأمر أصحابه بمثل ذلك، وسار زحفًا فلما قرب من الحدث عادت الجواسيس تعلمه أن العدو لما أشرفت عليه خيول المسلمين من عقبة يقال لها: العبري رحل ولم تستقر به دار، وامتنع أهل الحدث من البدار بالخبر خوفًا من كمين يعترض الرسل. فنزل سيف الدولة بظاهره وأتتهم طلائعهم تخبر سيف الدولة بانصرافهم إلى حصن رعبان ووقعت الضجة، وظهر الاضطراب، وولى كل فريق على وجهه، وخرج أهل الحدث فأوقعوا ببعضهم، وأخذوا آلة سلاحهم وأعدوه في حصنهم.

(٤٧١) ذي: أي هذه؛ اسم مبهم يشار به إلى المؤنث كما يشار ﺑ «ذا» إلى المذكر. وهكذا خبر عن محذوف: أي هكذا المعالي، والكلام استئناف، ويجوز أن تكون نائب مفعول مطلق، عامله فليعلون: أي فليعلون علوًّا هكذا، أو محذوف العامل: أي هكذا فليعلون. وإلا هي «إن» الشرطية و«لا» النافية، والشرط والمنفي محذوفان يقدران بحسب ما يقدر قبلهما، وكرر «لا» توكيدًا. يقول: هذه المعالي التي نراها لك هي المعالي حقيقة، ومن تعالى فليعلون كما علوت، وإلا فليدع التعالي. وبعبارة أخرى يقول مشيرًا إلى ما فعله سيف الدولة في بداره إلى جيوش الروم وانهزامهم من بين يديه ومنعه لهم مما كانوا عليه من حصار الحدث: هذه هي المعالي التي تؤثر والمكارم التي تخلد فمن حاول التعالي، فلينهض بمثلها فهذا سبيلها، وإلا فلا يتعرض الرؤساء لها.

(٤٧٢) شرف: مبتدأ محذوف الخبر: أي لك شرف. والروق: القرن. واستعار للشرف روقتين لما استعار له النطح على سبيل الترشيح، وهو معلوم أن القرنين في الحيوان من أسباب القوة ودواعي الإقدام والمنعة، يفسر معاليه أو ما أشار إليه بقوله: هكذا، بهذا البيت. يقول: لك شرف يزاحم النجوم في العلو وعز أثبت من الجبال وأرسى حتى صارت الجبال بالإضافة إليه قلقة. أو تقول: قد بلغت شرفًا باذخًا يمس أعلاه النجوم وعزا راسخًا لو صادم الجبال لأقلقها وبقي راسخًا لا يتزعزع. أو تقول: وبلغت عزًّا تتقلقل الجبال هيبة له وإجلالًا. قال الواحدي: ويجوز أن يريد أن سلطانه ينفذ في كل شيء حتى لو أراد أن يزيل الجبال لأقلقها.

(٤٧٣) قوله: ابن السيوف: ذهب إلى ما في السيف من معنى المضاء والقهر؛ أي كلهم ملوك قاهرون. يقول: حالهم عظيمة في كثرتهم ومنعتهم، ولكن سيف الدولة ابن الملوك القاهرة والسيوف الماضية على الأعداء أعظم وأنفذ وأمنع. والحال: تذكر وتؤنث.

(٤٧٤) قال ابن جني: أي كلما عاد إليهم نذيرهم سبقوه بالهرب قبل وصوله إليهم ثم تلتهم جياد سيف الدولة فسبقت سبقهم النذير؛ أي لحقتهم وجاوزتهم. قال ابن فورجه: يقال: أعجلته بمعنى استعجلته، فأما سبقته، فيقال فيه: عجلته. يقول: استعجلوا النذير بالمسير إليهم وإخبارهم بقدوم جيش سيف الدولة طلعت عليهم خيله قبل ورود النذير عليهم. أقول: وهذا كله تخبط من الشراح، وإنما النذير نذير سيف الدولة. يقول: كلما باغت الروم قلعة الحدث وأرادوا أن يسبقوا إليها قبل مسير النذير إلى سيف الدولة جاءهم سيف الدولة وسبقهم إليها وهزمهم عنها قبل أن يسبقوا الاستيلاء عليها. وهذا ما أشار إليه الواحدي، قال: ويجوز أن يريد أن العدو كلما أعجلوا النذير بهم وبادروا المتقلدين لأعمال سيف الدولة في الأطراف والمتصرفين في أقاصي بلاده ورجوا أن يصيبوا منهم غرة وينتهزوا فيهم فرصة بادرتهم خيوله ولحقتهم جيوشه وأعجلتهم عن ذلك الإعجال فصرفتهم على أسوأ الأحوال. هذا، ويقال: أعجله عن الأمر إذا بادره قبل أن يتمكن منه. ومسيرًا: منصوب بنزع الخافض؛ أي عن مسير. وكذا قوله: الإعجالا — في آخر البيت — والنذير: الذي ينذر أصحابه ويحذرهم.

(٤٧٥) فأتتهم: أي الجياد. وخوارق: حال. وما تحمل — ويروى: لا تحمل — حال أخرى. يقول: فأتتهم خيل سيف الدولة تقطع الأرض سرعة، وعليها الأبطال مدججين بالسلاح. ويقال: خرق الأرض يخرقها؛ أي قطعها حتى بلغ أقصاها. وفي التنزيل: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا. وقد روى العكبري: «خوارق» بالرفع على أنها فاعل أتتهم. وليس بوجيه، وزاد على ذلك أن قال: خوارق الأرض: الخيل، لشدة وطئها. وهذا — عمرك الله — تخليط أي تخليط، وإنما الخوارق التي تجوب الأرض وتقطعها مسرعة. هذا، والحصر في البيت — في قوله: ما تحمل إلا الحديد — لمجرد التأكيد، كما تقول ما أمامك إلا الأسد؛ أي المعروف بهوله وقوة بطشه.

(٤٧٦) خاقيات الألوان: حال أخرى. والنقع: الغبار. والجِلال: جمع جل، وهو ما كان على ظهر الدابة تحت السرج. يقول: أتتهم وقد خفي لونها فلا يعرف الأدهم من الكميت والأشهب والأشقر لما علاها من الغبار، فقد تكاثف ذلك الغبار عليها حتى صار على وجوهها كالبراقع وعلى متونها كالجلال. وكأن هذا المعنى من قول عدي بن زيد بن الرقاع العاملي:

يَتَعَاوَرَانِ مِنَ الْغُبَارِ مُلَاءَةً دَكْنَاء مُحَدثةً هُمَا نَسَجَاهَا

(يصف ثورين وما يثيران في عدوهما من الغبار. وبعده:

تُطْوَى إِذَا عَلَوا مَكَانًا جَاسِيًا وَإِذَا السَّنَابِكُ أَسْهَلَتْ نَشَرَاهَا)

قال العكبري: وفيه نظر إلى قول عوف بن الخرع:

كَأَنَّ الظِّبَاءَ بِهَا وَالنِّعَا جَ يُكْسَيْنَ مِنْ رَازِقِيٍّ شِعَارَا

(الرازقي هنا: الكتان نفسه. والرازقي أيضًا: ثياب بيض من الكتان.)

(٤٧٧) المحالفة: المعاهدة. والعوالي: الرماح. واللام — من قوله: لتخوضن — للقسم. يقول: إن صدور خيله وعوالي رماحه عاهدته على أن تخوض الأهوال والحروب دونه؛ أي تكفيه إياها، كما قال:

فَقَدْ ضَمِنَتْ لَهُ الْمُهَجَ الْعَوَالِي وَحَمَّلَ هَمَّهُ الْخَيْلَ الْعِتَاقَا

وقد روى ابن جني لتخوضن: ليخوضن، ثم قال: طال الكلام بيني وبينه — أي المتنبي — في قوله: ليخوضن، فقال — أي المتنبي: هو مثل قولي: وقلنا السيوف هلمن — بضم الميم — وذلك أنه لما وصفها بالمحالفة أجراها مجرى من يعقل مثل الجماعة المذكرين، ويؤيده قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، وقوله: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وقوله جل شأنه: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ كل هذا أجري مجرى من يعقل لما خوطب وأخبر عنه بالسجود والسباحة، والأفعال في الأكثر إنما تكون لذوي العقل؛ لأن كل ذي عقل يصح منه الفعل، وما ليس من ذوي العقول فإنما يصح الفعل من بعضه كالفرس ونحوه، ومنه ما لا يصح منه الفعل كالدار وشبهها مما ليس فيه روح، فإحراق النار لما وقع فيها ليس بفعل لها في الحقيقة، وإنما هو فعل الله تعالى، وهذا يعرفه أهل الكلام. انتهى كلام ابن جني مضافًا إليه العكبري.

(٤٧٨) يقول: وحالفته صدور الخيل والرماح على أن تفعل ما عجز منه غيرها. وقوله: حيث لا يجد الرمح … إلخ: أي في مضايق الحرب التي لا يجد فيها الرمح مدارًا لشدة المجالدة ولا الحصان مجالًا لكثرة المزاحمة. قالوا: وكان الوجه أن يقول: ولتمضين، كما تقول: حلفت هند لتقومن. وقد أجاز الكوفيون حذف الياء في مثل هذا، فيقال: حلفت هند لتمضن لسكونها وسكون النون بعدها، ولم تحرك الياء بالفتح، وكان ممكنًا أن يقول: وليمضين — بالياء دون توكيد. هذا، والحصان: الفحل من الخيل. والجمع: حصن. وسمي الفرس الذكر حصانًا؛ قيل: لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانًا، وقيل: مشتق من الحصانة؛ لأنه محرز لفارسه، والعرب تسمي الخيل حصونًا. وسئل بعض الحكام عن رجل جعل مالًا له في الحصون، فقال: اشتروا خيلًا واحملوا عليها في سبيل الله. ذهب إلى قول الجعفي:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ عَلى تَوَقِّيَّ الرَّدَى أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مَدَرُ الْقُرَى

(٤٧٩) يقول: لا ألوم ملك الروم على تمنيه محالًا من تخريب هذه القلعة، وذلك أن ملك الروم كان قد قصد حصن الحدث طلبًا لغرة سيف الدولة ثم بين سبب عدم اللوم فيما يلي.

(٤٨٠) البنية: بمعنى المبنية، يريد القلعة. وبين أذنيه، صفة لبنية. وبغى: طلب. يقول: أقلقت ملك الروم هذه القلعة التي بناها سيف الدولة وهي من ثقلها عليه كأنها على رأسه وقفاه، وأقلقه بانيها — يعني سيف الدولة — الذي بغى أن ينال السماء فنالها علوًّا وعزة، أي إن لملك الروم العذر في محاولته تخريبها لذلك.

(٤٨١) رام: طلب. وحطها: إنزالها. والبني: مصدر كالبناء. والجبين: ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، فتكون الجبهة بين جبينين. والقذال: مؤخر الرأس، وهو ما بين جنبتي القفا. يقول: كلما أراد ملك الروم إنزالها عن رأسه اتسع بناؤها فازداد ثقلًا فغشى الجبين والقذال، وهذا مثل، يريد أن سيف الدولة كلما زادها توثيقًا وسعة ازداد مضض ملك الروح وغيظه.

(٤٨٢) فيها: أي في نواحيها وجوانبها؛ أي يجمع هؤلاء ليهدمها بهم وتجمع أنت آجالهم إذ تأتيهم فتقتلهم.

(٤٨٣) توافيهم: تأتيهم. وبها: أي بالآجال. والصلال: جمع صلة، وهي الأرض التي أصابها مطر بين أرضين لم تمطرا. يقول: وتأتيهم بآجالهم ومناياهم في الرماح وهي ظامئة إلى دمائهم، أي تسرع إليهم إسراع العطاش إلى الأرض الممطورة.

(٤٨٤) يقول: لما قصد الروم هدمها بعثوا سيف الدولة على إتمام بنائها، فكان قصدهم إلى الهدم والتقصير سببًا لبنائها وإطالته.

(٤٨٥) الضمير في «لها» للقلعة. والمراد بمكايد الحرب: آلاتها. والوبال: الشدة. يقول: جروا آلات الحرب إلى القلعة ثم انهزموا عنها وتركوا هذه الآلات لها فكانت وبالًا عليهم؛ لأن أهل قلعة الحدث لما هرب الروم تعقبوهم وأخذوا معهم ما تركوه من السلاح وحاربوهم مستعينين على قتالهم به.

(٤٨٦) الفعال هنا: هم الروم الذين جلبوا آلات الحرب، وفِعْلُهُمْ حَمْلُهُمْ إلى القلعة المكايدَ والآلات، وهم — الروم — غير محمودين؛ لأنهم أعداء المسلمين، أما أفعالهم — وهي جلبهم آلات الحرب إلى القلعة — فهي محمودة في العاقبة؛ لأنهم لو لم يجلبوها لما ظفر بها المسلمون وكانت عونًا عليهم.

(٤٨٧) قسي: جمع قوس على القلب، وهي معطوف على أمر. يقول: ورب قسي ترمي عنها السهام فترتد على راميها. يريد السلاح الذي حمله الروم لقتال المسلمين، فلما هربوا وأخذ المسلمون سلاحهم قاتلوهم به ورموهم بالسهام عنك، فكان ذلك وبالًا على الروم قال ابن وكيع — وأنت تعلم تجني هذا ابن وكيع دائمًا على المتنبي: هذا البيت هو من قول القائل:

قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا — أُمَيْمَ — أَخِي فَإِذَا رَمَيْتُ يُصِيبُنِي سَهْمِي

(أخي: مفعول «قتلوا».)

فقوله: فردت … إلخ: تقديره فردت عنك النصال في قلوب الرماة الذين كانوا يرمونك.

(٤٨٨) يقول: أخذوا الطرق ليقطعوا الرسل عن النفاذ إلى سيف الدولة فلا يبلغه الخبر أنهم يقصدون قلعة الحدث، فلما أبطأت الأخبار وتأخرت عن عادتها تطلع سيف الدولة لما وراء ذلك فوقف على جلية الأمر فسار إليهم مسرعًا، فكان انقطاع الرسل عنه كأنه إرسال، وهذا كقوله السالف:

قَصَدُوا هَدْمَ سُورِهَا فَبَنَوْهُ

(٤٨٩) الغوارب: أعالي الأمواج، جمع غارب. والآل: ما تراه في أول النهار وآخره كالسراب. يقول: هم كالبحر المائج توافرًا وكثرة، إلا أنهم اضمحلوا أمام جيوشك فصاروا كالآل، يعني أن شأنهم يتلاشى عندك، وإن جل وعظم.

(٤٩٠) «ما» نافية. ولم يقاتلوك: حال. يقول: ما انهزموا عنك غير مقاتلين، ولكن القتال الذي قاتلتهم قبل هذا كفاك القتال الآن، يعني أنهم قد بلوك قبل هذا فأشعرت قلوبهم الرعب وخافوك الآن فانهزموا ومضوا. وعبارة العكبري: ما مضوا غير مقاتلين لجيشك ولا ولوا غير متيقنين لأمرك، ولكن القتال عند التأمل ما أسكنت وقائعك قلوبهم من الهيبة وأودعها من المخافة، حتى صار اسمك يهزم عساكرهم، وذكرك يثني عزائمهم.

(٤٩١) يقول: إن السيف الذي قطع رقاب إخوانهم من قبل قطع آمال هؤلاء من الظفر بك فتركوك وهربوا.

(٤٩٢) الإجفال: الإسراع في الهزيمة. يقول: إن الأولين منهم أجادوا الثبات في الحرب فلم يغنِ عنهم وأدى إلى هلاكهم، فعلم ذلك الثبات هؤلاء أن يفروا منك خشية أن يحل بهم ما حل بالذين سبقوهم. قال الواحدي: يريد بهذه الأبيات أن يبين أن أهل الروم شجعان أهل للحرب ولكنهم لا يقاومونك، ولك الفضل عليهم، فيكون هذا أمدح له.

(٤٩٣) يقول: نزلوا في الأماكن التي قتلت فيها أقرباءهم فلما نظروا إليها عرفوها فذكروهم فبكوا عليهم. وتمثلوا هذه الحال في أنفسهم وتوقعوا أن يحل بهم ما يشبهها. والمصارع: جمع مصرع، وهو اسم مكان من صرعه، إذا طرحه على الأرض.

(٤٩٤) الأوصال: جمع وصل — بالضم والكسر — وهو العضو. والهام: الرءوس. وتذري: تنثر وتفرق. تقول: ذرا يذرو، وذرا يذري، وأذرى يذري، يريد: لم يبعد عهد ذلك المكان بالقتل، فشعور القتلى وأعضاؤهم لا تزال باقية هناك تحملها الريح وتلقيها عليهم فيفزعهم ذلك فينزعجون ويهربون.

(٤٩٥) يقول: إن تلك المصارع تنذرهم الإقامة بها؛ إذ تريهم لكل عضو منهم عضوًا من المقتولين. قال العكبري: ويجوز أن يكون الضمير في تنذر للأوصال، قال: والمعنى تنذر الأوصالُ الجسمَ بأن يصير مثلها ويقيم لديها في مثال حالها وتريه لكل عضو من أعضائها مثالًا شاهدًا، ونظيرًا حاضرًا. قال: وأشار بذلك إلى وقعة سيف الدولة على الروم عند بنائه الحدث وقد وصفها في قوله:

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ

ولم تكن ببعيدة من هذه الوقعة، فلما أشرفوا على موضع تلك الوقعة وذكروا عظم تلك البلية أشفقوا من أن يعاودهم سيف الدولة بمثلها فولوا مدبرين.

(٤٩٦) في القلوب: صلة الطعن. ودراكًا: متتابعًا. وخيالًا: متخيلًا، وهما حالان من الطعن. وفي البيت تقديم وتأخير. والتقدير: أبصروا الطعن في القلوب دراكًا خيالًا قبل أن يبصروا الرماح، يعني لشدة خوفهم منك وتصورهم ما صنعت بهم قديمًا رأوا الطعن متداركًا متتابعًا في قلوبهم تخيلًا قبل أن يروا الرماح حقيقة. وقال الخطيب التبريزي: اعتبر المتأخرون — أي من الروم — بالمتقدمين — منهم — فكأنهم تخيلوا الطعن دراكًا وبينهم وبين من يطلبهم مسافة بعيدة ففروا قبل أن ينظروا إلى خيال الرماح.

(٤٩٧) القنا: عيدان الرماح. والخيل: يريد بها الفرسان، يقول: إذا أرادت جيوش الأعداء طعانك خيل إليهم الرعب وشدة الخوف أن الذراع من رماحك ميل فتوقعوا أن تدركهم رماحك ولو كانوا على أميال. ومن غريب التفاسير ما ذهب إليه بعضهم من أن المراد بالقنا قنا الأعداء الذين يحاولون الطعان، قال: والمعنى أنهم كلما حاولوا طعانك برماحهم استطالوا فرأوا أذرعها أميالًا؛ أي أنها تثقل عليهم جبنًا وخوفًا منك.

(٤٩٨) يعني أن الرعب — الخوف — شاع فيهم وعمهم حتى كأنه بسط يمينه في ميمنة جيشهم وشماله في ميسرته فتولوا هاربين. وقال ابن الإفليلي: المعنى: بسط الرعب في أيديهم أيديًا مثلها تمنعها من البطش فولوا مخذولين، وهذا ضد قول الآخر:

إِنَّا وَجَدْنَا بَنِي جُلَّانَ كُلَّهُمُ كَسَاعِدِ الضَّبِّ لَا طُولٌ وَلَا قِصَرُ

(٤٩٩) الروع: الخوف والفزع. والأغلال: جمع غل؛ القيد. يقول: أثر فيهم الخوف حتى ارتعدت أيديهم فلا تقدر على الضرب كأن السيوف التي في أيديهم أغلال لها. وعبارة بعض الشراح: يرعش الخوف أيديهم فصارت في قلة الغناء — وإن كان فيها سيف — بمنزلة الأيدي المغلولة. وعبارة العكبري: ينفض الفزع من أيديهم السلاح فيسقط، ويسلبهم إياه الذعر فيذهب، حتى كأن سيوفهم في أيديهم أغلال وموانع تمنعهم من التصرف بها، وهو من قول جرير في الفرزدق:

ضَرَبْتَ بِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ فَأُرْعِشَتْ يَدَاكَ فَقَالُوا: مُحْدَثٌ غَيْرُ صَارِمِ

(٥٠٠) وجوهًا: عطف على «أيديًا» — من جهة اللفظ، لا من جهة المعنى — لأنه لا يريد ينفض وجوهًا، والمعنى: يغير وجوهًا؛ أي يغير ألوانها بأن يورثها صفرة، فهو من باب:

وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا

يقول: ويغير الروع وجوهًا تمتقع وتصفر وتكلح ويذهب بجمالها الذعر قد أخافها منك وجه طلق نضير، أحرز غايات الحسن وغلبها على الجمال، فالحسن والجمال لوجهك لا لها؛ إذ سلبها الخوف حسنها فانحاز إلى حسنك فتضاعف جمالك ونضرتك.

(٥٠١) يقول: كانوا يظنون أنهم يقدرون على قتالك فلما قصدوا محاربتك انهزموا وعاينوا قصورهم عنك، فأزال العيان ما كان الظن يحدث لهم، وانتقل ذلك المراد الذي كانوا يريدونه من محاربتك.

(٥٠٢) هذا كما تقول العرب في أمثالها:

كُلُّ مُجْرٍ فِي الْخَلَاءِ يُسَر

أي إذا أجرى الإنسان فرسه وحده سر بجريه، فإذا قاربه مثله ذهب سروره. يقول المتنبي: إن الجبان — والجبان ضد الشجاع — إذا كان وحده منفردًا يحس من نفسه شجاعة، ويظن عنده غناء ويطلب الطعان والمنازلة، يريد أن الروم شجعاء ما لم يروك. وقوله: وحده: في موضع نصب على الحال؛ أي منفردًا. والنزال في الحرب: أن يتنازل الفريقان. وفي «المحكم»: أن ينزل الفريقان عن إبلهما إلى خيلهما فيتضاربوا، ونزال مثل قطام، بمعنى انزل، وهو معدول عن المنازلة، ولهذا أنثه زهير في قوله:

وَلَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أَنْتَ إِذَا دُعِيَتْ: نَزَالِ وَلُجَّ فِي الذُّعْرِ

(٥٠٣) إلا بقلب: أي إلا والقلب معهم. و«ما» من قوله: «طالما»: مصدرية، والجملة استئناف. يقول: حلفوا ليحضرن عقولهم وليعملن أفكارهم في قتالك. ثم قال: طالما غرت العيون الرجال؛ أي كذبهم عنك كثيرًا ما رأوه بعيونهم مما يوهمهم أن في مكنتهم محاربتك. أو تقول: لما امتحنوا بأسك وعاينوا أفاعيلك علموا أن عيونهم غرتهم قبل ذلك وأطمعتهم في مقاومتك، وحينئذٍ بطل اعتمادهم على رؤية العيون واعتمدوا على رؤية القلب: أي صاروا يرجعون في الرأي إلى ما علموه بقلوبهم وعقولهم من قوة بطشك، لا إلى ما يرون من كثرة عددهم وأحلافهم. قال الواحدي: ولا تناقض بين قوله: غرت العيون الرجال وبين قوله: والعيان الجلي؛ لأن قوله غرت العيون: أي قبل التجربة، وأما ذاك فإنما يعني بعد التجربة.

(٥٠٤) لاقتك: من اللقاء. والطرف: العين. ورنا إليه يرنو رنوًا: إذا أدام النظر. وسنعود إلى توفية مادة «رنا» حقها بعد شرح البيت. وآل: رجع. يقول: إن العين التي تأملتك لا يجترئ صاحبها على ملاقاتك ومواقعتك لما يرى من هيبتك وأفعالك، وإذا رنت إليك وأدامت النظر لم يجترئ صاحبها على العود إليك خوفًا ورهبًا. وهنا يقول الواحدي: هذا متناقض الظاهر؛ لأنه أنكر أن تديم عين النظر إليه في المصراع الأول، وأنكر في الثاني أن يعود طرف رنا إليه ولم يشخص، ثم قال: لعل هذا يحمل على عيون الأعداء والأولياء، فعين العدو لا تديم النظر إليه هيبة له، وعين الولي تتحير فيه وتبقى شاخصة، فلا ترجع إلى صاحبها. وقال في لاقتك: إنه من لاق الشيء وألاقه إذا أمسكه، ثم قال: وهذا مما لم يتكلم فيه أحد من الشراح. وما أظرف ما علق العكبري على كلام الواحدي هذا، قال العكبري: وصدق الواحدي في قوله؛ لأن أحدًا من الشراح لا يستحسن أن يقول مثل هذا. ولنعد بعد هذا إلى «رنا». قال الجوهري: يقال: أرناني حسن ما رأيت. أي حملني على الرنو، أي إدامة النظر، ومن هذا يقال: كأس رنوناة أي دائمة على الشرب ساكنة ووزنها فعلعلة. قال ابن أحمر:

مَدَّتْ عَلَيْهِ الْمُلْك أَطْنَابَهَا كَأْسٌ رَنَوْنَاةٌ وَطِرْفٌ طِمَرْ

(قبل البيت:

إِنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ عَلَى عَهْدِهِ فِي إِرْثِ مَا كَانَ أَبُوهُ حُجُرْ

وأول الشعر:

قَدْ بكَرت عَاذِلَتِي بَكْرَةً تَزْعُمُ أَنِّي بِالصبَا مُشْتَهِرْ

وَإِنَّمَا الْعَيْشُ بِرُبَّانِهِ وَأَنْتَ مِنْ أَفْنَانِهِ مُقْتَفِرْ

ومنها:

إِنَّ الْفَتَى يُقْتِرُ بَعْدَ الْغِنَى وَيَغْتَنِي مِنْ بَعْدِ مَا يَفْتَقِرْ

وَالْحَيُّ كَالْمَيتِ وَيَبْقَى التقى وَالْعَيْشُ فتنانِ: فَحُلْو وَمُرْ

قوله: وإنما العيش … إلخ: يريد أن عاذلته قالت له: قد شهرت بالصبا وأنت مسن به، وإنما الصبا والعيش بأوله وجدته أزمان أنت من أفنانه — أي من نواحيه واحدها فنن — مقتفر؛ أي واجد ما طلبت، يقال: خرج فلان في طلب إبله فاقتفر آثارها؛ أي وجد آثارها فاتبعها. وقوله: مدت عليه الملك … إلخ. أراد مدت كأس نوناة عليه أطناب الملك، فذكر الملك ثم ذكر أطنابها، وفي «اللسان» أبيات غير ما ذكرنا من هذا الشعر فانظره.)

(٥٠٥) اللعين: يعني ملك الروم. والنوال: العطاء، وهو حال. وقوله: فهل يبعث الجيوش نوالًا؟ هو استفهام تجاهل؛ لأنه علم أنه لا يبعث الجيوش نوالًا، لكن لما كانت الحالة توجب هذه الشبهة قال ذلك. يقول: إن كل جيش يبعثه إليك تغنمه وتأتي عليه لا محالة، فهل يبعث الجيوش إليك لتأخذها ولتكون عطاء لك؟ أي ليس لإرسالها معنى إلا هذا. وهذا مثل قوله:

وَهَادٍ إِلَيْهِ الْجَيْشُ أَهْدَى وَمَا هَدَى

(٥٠٦) ما: استفهام تعجب مبتدأ، والخبر: الظرف بعده. والحبائل: جمع حبالة، وهي الشرك. ومرجاه: مصدر ميمي؛ أي ورجاؤه. والواو: واو الحال. يقول: ما لهذا الذي ينصب في الأرض حبالة ورجاؤه أن يصيد الهلال؟ وهذا استفهام تعجب، يتعجب من حماقة من يفعل هذا، وهذا مثل يريد به امتناع سيف الدولة عليه وبعده من أن تناله يد، وأن من يبعث إليه الجيوش طمعًا في الظفر به كمن يروم صيد الهلال بحبالة ينصبها في الأرض.

(٥٠٧) الدرب: المدخل إلى بلاد الروم، ولكنه هنا موضع بعينه. والأحدب: جبل قرب حصن الحدث. والنهر: موضع قرب الحصن المذكور، ويقال: رجل مخلط مزيل ومخلاط مزيال: يخالط الأمور ثم يزايلها — أي يفارقها — إلى غيرها، يوصف به الشجاع الداهية، وقد وصفوا به الفرس إذا طلبت الخيل الغارة خالطها، وإذا طلبته وجدته مزيالًا لا تلحقه، قال أبو داود الإيادي:

مِخْلَطٌ مِزْيَلٌ مِكَرُّ مِفَرٌّ أَجْوَلِيٌّ ذُو مَيعَةِ إِضْرِيجُ

(أجولي: من الجولان في الحرب. والميعة: النشاط. والإضريج: الجواد الشديد العدو — الجري.)

ويريد بالتي على الدرب والأحدب والنهر: قلعة الحدث. يقول: إن دون الوصول إليها رجلًا هذه صفته، يعني سيف الدولة. وعبارة العكبري: هذه القلعة دونها ودون الوصول إليها رجل مخلط مزيال كثير المخالطة للأمور يخالطها ثم يزايلها يحمي حريمها ويقاتل الأعداء عنها، أو دونها ملك مقتدر مزيال عن أطراف بلاد، فهو يثق بما يحميها من هيبته، مخلط بالأعداء فيها عند قصدهم لها، سريع لا يتوانى في سطوته، فهو وإن بعد أدنته منهم قوته.

(٥٠٨) يقال: غصبه على كذا أي قهره عليه. وخالًا: حال؛ أي شبيهة بالخال. يقول: إنه استنقذها من أيدي الدهر والملوك وبناها، فكانت خالًا في وجنة الدهر، فكأن الدهر تزين بها كما يتزين الوجه بالخال. وقال الواحدي: يجوز أن يريد الشهرة كشهرة الخال في الوجه، ويجوز أن يريد ثبوتها ورسوخها، فيكون كقول مزرد بن ضرار أخي الشماخ:

فَمَنْ أَرْمِهِ مِنْهَا بِسَهْمٍ يَلُحْ بِهِ كَشَامَةِ وَجْهٍ لَيْسَ لِلشَّامِ غَاسِل

وعبارة العكبري يقول: إنه بناها في وجه الدهر كالخال الذي يتزين به الوجه مع مخالفته للونه ويحسنه مع ما ثبت فيه من حسنه. يعني أن هذه المدينة قد جل قدرها فكأن الدهر زين بها وجهه ووسم برفعتها نفسه، وهي استعارة حسنة.

(٥٠٩) اختيالًا ودلالًا: حالان أو مفعول لهما. والاختيال: الزهو، والتكبر وتثنى — بحذف إحدى التاءين — أي تتثنى. والدلال: الشكل والغنج من دلال المرأة؛ أي تدللها على زوجها، وذلك أن تريه جراءة عليه في تغنج وتشكل كأنها تخالفه، وليس بها خلاف. لما شبهها بالعروس — لحسنها — جعلها تمشي اختيالًا وتتثنى دلالًا. يقول: لو كانت هذه القلعة تمشي لاختالت في مشيها عزة وتكبرًا ولتدللت على الزمان؛ إذ لم يقدر الزمان على إصابتها بسوء والمراد أنا في عز ونعيم بسيف الدولة.

(٥١٠) المطرد: المتصل الذي لا عوج فيه. والأكعب: العقد التي تكون بين أنابيب الرمح. والأوجال: المخاوف، جمع وجل، وهو الخوف والفزع. يقول: ذاد العدو عنها بالرماح فحماها بذلك من ظلم الزمان ومخاوفه.

(٥١١) وظبا: عطف على كل — في البيت السابق — والظبا: جمع ظبة، طرف السيف وطرف السهم، قال بشامة النهشلي:

إِذَا الْكُمَاةُ تَنَحَّوْا أَنْ يَنَالَهُمْ حَدُّ الظُّبَاةِ وَصَلْنَاهَا بِأَيْدِينَا

وأصل الظبة: ظبو — بوزن صرد — فحذفت الواو وعوض منها الهاء، والجمع: ظباة وظبون. يقول: وحماها بسيوف لا يقتل بها إلا من حل دمه. يعني الروم وأشباههم من المعادين، ونسبة التمييز بين الحرام والحلال إلى السيوف مجاز؛ إذ الذي يميز بينهما في الحقيقة هم أصحاب السيوف. وقال ابن جني: هذا مثل ضربه؛ أي سيوفه معودة الضرب، فهي تعرف — بالدربة — الحلال من الحرام، وقد رد عليه ابن فورجه قال: العادة والدربة ليستا مما يعرف به الحلال والحرام من الناس، فكيف فيما لا يعقل؟ وإنما يعني المتنبي أن سيف الدولة غازٍ للروم فلا يقتل إلا كافرًا قد حل دمه فنسب ذلك إلى سيوفه.

(٥١٢) الخميس: الجيش العظيم؛ سمي بذلك قيل: لأنه خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساق، وقيل: لأنه يخمس ما يجد؛ أي يأخذه. والبئيس: الشديد ذو البأس. وقوله: والأموالا؛ أي وينتهبن الأموال، فهو من باب:

علفتها تبنًا وماءً باردَا

كما تقدم، ولما جعل الخميس من الأسود قال: يفترسن، دون يفترس.

(٥١٣) أراد بالأنيس — الذي معناه المؤانس — الأنس، خلاف الوحش، ويتفارسن: يتقاتلن. والاغتيال: القتل بالخديعة أو أخذ الإنسان من حيث لا يدري. جعل الناس كالسباع — وهي الحيوانات المفترسة — لوجود الافتراس منهم في الحالين، مجاهرين ومغتالين، والبيتان التاليان تأكيد لهذا.

(٥١٤) غلابًا: مغالبة. والاغتصاب: الأخذ بالقهر. يقول: من أمكنه أن ينال من الناس شيئًا غلبة وقهرًا لم يتكلف أن يناله بذل السؤال. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: الغلبة طبع الحياة، والمسألة طبع الموت، والنفس لا تحب الموت فلذلك تحب أخذ الشيء بالغلبة.

(٥١٥) غادٍ — في الأصل — ذاهب غدوة، والمراد هنا: مطلق الذهاب، أيَّ وقت كان. والغضنفر والرئبال: من أسماء الأسد، وجعل الرئبال وصفًا للغضنفر مبالغة كأنه قال: الأسد الشديد. يقول: كل غادٍ منهم لحاجته يود لو أنه أشد بأسًا وقوة ليتناول ما يريد ببأسه وأيده. قال العكبري: يشير بهذا على أن الروم لم يفروا من بين يدي سيف الدولة أنفًا ومكارهة، وإنما كان فرارهم فَرَقًا ومحاذرة؛ لأن طبائع البشر أن يستعملوا فيما يطلبونه غاية قوتهم، وأن يتناولوا ذلك بأبلغ قدرتهم.

(٥١٦) كلنا جوٍ: مبتدأ وخبر، والجملة حالية، والجوي: الذي أصابه الجوى، وهو الحرقة في القلب من حزن أو عشق. والمتبول: الذي هيمه الحب وأفسده وأسقمه. يتهم رسوله الذي أرسله إلى الحبيبة بمشاركته إياه في حبها، يقول: ما لنا أيها الرسول كلانا جو بحبها فأنا الوامق العاشق، وأنت الرسول قد ملك عليك الحب قلبك، فما لك تشبهني فيما ألقاه وأقاسيه؟

(٥١٧) يقول: كلما عاد إليَّ الرسول من عندها غار مني عليها؛ لأنه رأى حسنها وافتتن بحبها؛ فحمله ذلك على الغيرة وخان فيما يؤدي من الرسالة إليَّ منها وإليها مني.

(٥١٨) الضمير في قلوبهن: يعود إلى العقول، أي وخانت العقول قلوبهن، أضمر قبل الذكر، كما تقول لبس ثوبه زيد. يقول: أفسدت عليَّ عيناها بسحرهما أمانة الرسول حتى ترك الأمانة في الرسالة حبًّا لها وحتى خانت العقول قلوبها: أي فارقت العقول القلوب بسببها. قال الواحدي: ومعنى خيانة العقول أنها لا تصور للقلوب وجوب حفظ الأمانة؛ لأن الرسول إذا نظر إليها غلبه هواها على الأمانة وغلب عقله، وهذا كقوله:

وَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ بَعْدَ لَحْظَةٍ إِذَا نَزَلتْ فِي قَلْبِهِ رَحَلَ الْعَقْلُ

(٥١٩) قوله: من ألم الشوق: يروى: من طرب الشوق. والطرب: خفة تحدث عند الفرح والحزن، يقول: إن الحبيبة تشكو من الشوق إليَّ مثل ما أشكوا إليها، ثم كنى عن تكذيبها في تلك الشكوى، فقال: والشوق حيث النحول، يعني أن للشوق دليلًا من النحول، فمن لم يكن ناحلًا لم يكن مشتاقًا، يعني أن نحولي يدل على شوقي، أما أنت فلا نحول، وبالحرى لا شوق. وقال ابن الإفليلي: الضمير في «تشتكي» للرسول، يقول لرسوله — وهو يعاتبه: أنت تظهر من شكوى الحب ما أظهره، وليس كذلك، وإنما الشوق على حقيقته النحول. قال بعض الشراح: والأظهر على هذا التفسير أن الاشتكاء هنا بمعنى التألم والتوجع دون الإظهار؛ لأنه لا يتصور من الرسول أن يبوح له بهواها: أي أرى بك من الشوق إليها مثل ما بي؛ لأنك ناحل والنحول يدل على الشوق، وهذا كالإثبات لما يتهمه به من حبها. هذا، وقوله: «حيث النحول» فالنحول مبتدأ، خبره محذوف، تقديره موجود؛ لأن حيث لا تضاف إلا إلى الجمل.

(٥٢٠) خامر: خالط ولابس. والصب: العاشق. والبيت: تأكيد للبيت السابق؛ أي كل من يراه يستدل برؤيته على أنه عاشق. وعبارة العكبري: إذا خالط قلب محبٍّ هوى من يحبه فملكه واستولى عليه وغلبه فمما يظهر من تغير حاله، وتبين من تشتت باله، دليل لكل عين على ما يضمره، ومخبر على ما يجنه ويستره.

(٥٢١) ما دام ها هنا: تامة بمعنى ما ثبت. وتحول: تتغير وتتبدل؛ أي زودينا من حسن وجهك غير معرضة، ومتعينا بالنظر إليه غير مخيبة، فحسن الوجوه حال تذهب وتحول ويتبدل جمالها ويزول؛ لأن الشبيبة يتلوها الكبر، والاقتبال يعقبه التغير والهرم.

(٥٢٢) نصلك: جواب الأمر. والمقام: مصدر ميمي بمعنى الإقامة، وقالوا: المقام — بالضم والفتح — كل واحد منهما قد يكون بمعنى موضع القيام؛ لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، وإن جعلته من أقام يقيم فمضموم، فإن الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع مضموم الميم؛ لأنه مشبه ببنات الأربع نحو دحرج، وهذا مدحرجنا، وقوله تعالى: لَا مُقَامَ لَكُمْ أي لا موضع لكم. وقرئ: لَا مُقَامَ لَكُمْ — بالضم — أي لا إقامة لكم، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا؛ أي موضعًا، وقول لبيد:

عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَا

(محلها: أي ما حل فيه لأيام معدودة. ومقامها: ما طالت الإقامة به، و«منى» هنا: موضع غير «منى» الحرم. وتأبد: توحش. والغول والرجام: جبلان، والضمير فيهما: للديار.)

يعني الإقامة، وقوله عز وجل: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، قيل: المقام الكريم: هو المنبر، وقيل: المنزلة الحسنة.

(٥٢٣) بعينها: أي بعين الدنيا. والقطان: السكان المقيمون. والحمول: المرتحلون المتحملون. يقول: من نظر إلى الدنيا بالعين التي ينبغي أن ينظر بها إليها رق للباقين لقلة مقامهم ووشك فراقهم رقته للماضين الفانين، أي من عرف الدنيا حق معرفتها تيقن أن أهلها راحلون — لا محالة — فلم يجد بين المقيم والراحل فرقًا، فهذا يشوقه — أي يستدعي رقته — وهذا يشوقه؛ لأن الرحيل قد شملهما. وقد كنى عن الرقة بالشوق؛ لأن الشوق رقة القلب. وعبارة بعض الشراح: إن المقيم في الدنيا على وشك تخليتها والرحيل عنها، فمن رآها بعينها أي من صور نفسه مكانها ورأى أهلها على أهبة فراقها شاقه النظر إليهم، كما يشوقه النظر إلى حمول الراحلين. وقد فسرنا الحمول بالمتحملين الراحلين، ولكن الحمول في الأصل: الإبل عليها الهوادج والأثقال، وهي أيضًا الهوادج، كان فيها النساء أو لم تكن، وتطلق الحمول أيضًا على النساء المتحملات كقول معقر:

أَمِنْ آلِ شَعْثَاءَ الْحُمُولُ الْبَوَاكِرُ مَعَ الصُّبْحِ قَدْ زَالَتْ بِهِنَّ الْأَبَاعِرُ

وإذا أبقيت الحمول على معنى الإبل عليها الهوادج، أو الهوادج، كان الكلام على حذف مضاف؛ أي ذوو الحمول.

(٥٢٤) أدم: شحب لونه وتغير ونزع إلى السواد ظاهره، من الأدمة وهي السمرة، ويقال: أدِم وأدُم بكسر الدال وضمها. والقناة: عود الرمح. والذبول: اليبس والدقة. يقول: إن غيرت الأسفار وجهي حتى صرت آدم بعد بياض الوجه، فليس ذلك بعار فيَّ، كما أن الذبول وإن كان مذمومًا في غير القناة فإنه محمود فيها؛ لأنه آية صلابتها كما قال أبو تمام:

لَانَتْ مَهزَّتُهُ فَعَزَّ وَإِنَّمَا يَشْتَدُّ رَأْسُ الرُّمْحِ حِينَ يَلِينُ

وعبارة بعض الشراح: يمدح نفسه بقلة الفكرة في تغير لونه بعد بياضه ونضرته؛ أي تغيرت بعد حسن وشبيبة وذلك لما عاينته من الأسفار وتقلبت فيه من الأحوال، وأنا في ذلك مثل الرمح الذي تعرب سمرته عن عتقه، وتدل ذبولته على صلابته وصدقه.

(٥٢٥) أراد بالفتاة: الشمس، وجعل الشمس فتاة؛ لأن طلوعها يتجدد، فهي بكر كل يوم، أو لأن الدهر لا يؤثر فيها كبرًا، والشمس من عادتها أن تبدل بضوئها الألوان فتحيل البياض إلى سواد. يقول: صحبتني على الفلاة التي قطعتها في سيري والأسباب التي عاينتها وتجشمتها فتاة لا يهرم شخصها ولا ينتقص حسنها، عادتها في الألوان أن تبدلها وتنقلها إلى الأدمة — السمرة — وتغيرها. هذا، وجعلهم الشمس فتاة كما يقال للدهر: الأزلم الجذع، يريدون أن الدهر باقٍ على حاله لا يتغير على طول إناه فهو أبدًا جذع لا يسن.

(٥٢٦) الحجال: جمع حجلة، وهي الستر وبيت العروس. واللمى: سمرة في الشفة. يقول لمحبوبته: سترتك الحجال عن هذه الفتاة — الشمس — التي غيرت لوني؛ لأنك في كنٍّ عنها لا يصيبك حرها، ولكن بك منها تقبيل لما في شفتيك من الأدمة — السمرة — كأنها قبلتك فأورثتك هذا اللمى الذي في شفتيك. وبعبارة أخرى: أنت محجوبة عن الشمس بالستور فلا يصيبك شعاعها إلا أن في شفتيك سوادًا من قبيل السواد الذي تحدثه حتى لكأنها قبلت فاك فأثرت في موضع التقبيل.

(٥٢٧) مثلها: خبر مقدم، وأنت: مبتدأ مؤخر. ولوحتني: غيرت لوني. وأسقمت: أراد وأسقمتني. وأبهاكما: من البهاء وهو الحسن. والعطبول: الطويلة العنق التامة الجسم. والعطبول: بيان ﻟ «أبهاكما» يقول: أنت مثل الشمس في تغير جسمي فهي لوحتني وسفعتني وغيرت لوني وأنت أسقمت جسمي، وزادت تأثيرًا فيَّ أبهاكما التي هي العطبول، وهي أنت. وعبارة بعض الشراح: أنت مماثلة لها بحسنك وغير بعيدة منها في فعلك، وكلاكما له في جسمي فعل غيره وتأثير بدله. فالشمس لوحته وأنت أسقمته وأذهبت نضرته وأنحلته، وزدت أنت في قوة التأثير، وأفرطت فيما أوجبته من التغيير. وهذا إشارة إلى أن محبوبته بزيادتها على الشمس في حسنها زادت عليها في فعلها.

(٥٢٨) يقول: كنا أعلم بمقدار الطريق ولكنا سألنا تعللًا بذكر الطريق إليه — كما قال في البيت التالي — فإن الإنسان إذا أحب شيئًا أكثر السؤال عنه وإن كان يعرفه، كما قال بشر بن أبي خازم:

أُسَائِلُ صَاحِبِي وَلَقَدْ أَرَانِي بَصِيرًا بالظَّعَائِنِ حَيْثُ صَارُوا

وكما قال الآخر:

وَخَبَّرَنِي عَنْ مَجْلِسٍ كُنْتَ زَيْنَهُ بِحَضْرَةِ قَوْمٍ وَالْمَلاءُ شُهُودُ

فَقُلْتُ لَهُ: كُرَّ الْحَدِيثَ الَّذِي مَضَى وَذِكْرَكَ مِنْ كَرِّ الْحَدِيثِ أُرِيدُ

أُنَاشِدُهُ إِلَّا أَعَادَ حَدِيثَهُ كَأَنِّي بَطِيءُ الْفَهْمِ حِينَ يُعِيدُ

ورواية ابن جني:

أَطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أَمْ يَطُولُ؟

يعني: أطويل طريقنا في الحقيقة أم يطول من الشوق؟

(٥٢٩) علله بالشيء: ألهاه به، يقول: إن كثيرًا من السؤال يكون سببه الاشتياق، وكثيرًا من رد السؤال يكون تطييبًا للسائل، يريد أن الذي حملني على السؤال عن الطريق هو الاشتياق وترقب جواب أتعلل به عن طول الطرق.

(٥٣٠) لا أقمنا: معناه لم نقم، كقوله تعالى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ. يقول: لم نقم في الطريق إليه بمكان وإن طاب ذلك المكان لئلا يؤخرنا عن الوصول، ثم قال: ولا يمكن المكان أن يرحل معنا لنتمتع بطيبه. يريد لم نبالِ براحة ولا لذة حتى نصل إلى المكان الذي نقصده. وإليك بعد هذا تعليقات سائر الشراح على هذا البيت، قال ابن القطاع وقد دخل فيه كلام العكبري: المعنى لا نقيم على مكان وإن طاب ولا يمكن المكان الرحيل: أي لا نقيم البتة؛ لأن المكان لا يرحل معنا فلا نقيم على مكان أبدًا حتى نلقاه إلا أن يسير المكان معنا، فكذلك نحن لا نقيم في مكان وإن طاب. وقيل: نفي النفي إثبات في كلام العرب، فكأنه: قال: لا نقيم في مكان إلا أن يرحل معنا، وهذا مثل قول الفرزدق:

بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيمُوا سُيُوفَهُمْ وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

(لم يشيموا سيوفهم — هنا — لم يغمدوها. قال ابن بري: الواو في قوله: «ولم» واو الحال: أي لم يغمدوها، والقتلى بها لم تكثر، وإنما يغمدونها بعد أن تكثر القتلى بها.)

قيل: معناه لم يشيموا سيوفهم إلا بعد أن كثرت القتلى، وفي البيت معنًى آخر، وهو على التقرير بأن تقرر صفة الشيء، والمراد ضده، فكأنه قال: لم يشيموا ولم تكثر القتلى: أي كثرت جدًّا، ومنه قول الشنفرى:

صَلِيَتْ مِنِّي هُذَيْلٌ بِحَرْقٍ لَا يَمَلُّ الشَّرَّ حَتَّى يَمَلُّوا

(الحرق: النار، وصلي بالنار: قاسى حرها. والمراد: لاقت مني شدة.)

معناه على مذهب التقرير: لا يمل الشر وإن ملوه، وقد جاء في الحديث: «إن الله لا يمل حتى تملوا.» (الحديث هو: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا.» قيل معناه: إن الله لا يمل أبدًا: مللتم أو لم تملوا، فجرى مجرى قولهم: حتى يشيب الغراب ويبيض الفأر. وقيل معناه: إن الله لا يطرحكم حتى تتركوا العمل وتزهدوا في الرغبة إليه، فسمى الفعلين مللًا وكلاهما ليس بملل كعادة العرب في وضع الفعل موضع الفعل إذا وافق معناه، نحو قول عدي بن زيد:

ثُمَّ أَضْحَوْا لَعِبَ الدَّهْرُ بِهِمْ وَكَذَاكَ الدَّهْرُ يُودِي بِالرِّجَالِ

معناه: لا يجازيكم جزاء الملل وإن مللتم. وجاء في الحديث: «وإن صهيبًا لو لم يخف الله لم يعصه.» (هو صهيب بن سنان: مولى عبد الله بن جدعان التيمي، صحابي، من ولد النمر بن قاسط. فجعل إهلاكه إياهم لعبًا. وقيل معناه: إن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله، فسمى فعل الله مللًا على طريق الازدواج في الكلام، كقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا، وقوله: فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، وهو باب واسع في العربية كثير في القرآن.) معناه: لو لم يخف: أي أمن، فكأنه قيل: لو أمن الله ما عصاه، وفيه معنى آخر وهو أن نفي النفي إيجاب فيكون التقدير: إن صهيبًا لو أمن الله ما عصاه؛ أي لم يعصه. وعلى مذهب التقرير: لو لم يخف الله ما عصاه؛ أي لم يعصه أبدًا. وفيه معنى آخر، وهو أن «لو» في الكلام تدل على امتناع الشيء لامتناع غيره فيكون المعنى: العصيان امتنع لأجل الخوف؛ أي لما خاف لم يعصِ، والمعنى الأول وما بعده أبلغ من هذا؛ لأن معناه لو أمن الله ما عصاه. ومعنى هذا الآخير أن العصيان امتنع من أجل الخوف … وقال الواحدي: قوله: «أقمنا» يجوز أن يكون على الدعاء كما تقول: لا فض الله فاك، وقال ابن جني: يجوز أن يكون على القسم: أي والله لا أقمنا، وقالا تعليقًا على قوله: «ولا يمكن المكان الرحيل»: أي لو أمكنه لا ارتحل معنا شوقًا إليه: أي إلى سيف الدولة.

(٥٣١) يقول: كلما طلب لنا مكان كأنه يرحب بنا بما يبدي من حسنه وما يستميلنا به من وروده وأزهاره، فكأنه يدعونا للنزول به، اعتذرنا إليه وقلنا له: لا نقيم عندك؛ لأن قصدنا حلب — مقام سيف الدولة — وأنت الممر فلا نقدر أن نقيم عندك وإن كنت طيبًا. ورحب به: قل له مرحبًا. والروض: جمع روضة؛ المكان فيه خضر.

(٥٣٢) الجياد: الخيل. والمطايا: الإبل. والضمير في «إليها» لحلب. والوجيف: ضرب من سير الخيل سريع. والذميل: ضرب من سير الإبل. يقول — مخاطبًا الروض: فيك مرعى مطايانا وبك نستعين على ما نحاوله من سيرنا، وإلى حلب نوجف مسرعين، وإليها نبادر غير متوقفين.

(٥٣٣) زلت عنه: فارقته. يقول: الذي سافرت عنه شرقًا وغربًا ولم يفارقني عطاؤه فهو مقابلي حيثما كنت؛ وإنما قال هذا لأن سيف الدولة أنفذ إليه هدية عند وروده للعراق — كما تقدم — وهذا مثل قوله فيه:

وَمَنْ فَرَّ مِنْ إِحْسَانِهِ حَسَدًا لَهُ تَلَقَّاهُ مِنْهُ حَيْثُمَا سَارَ نَائِلُ

(٥٣٤) الوجه: ما توجهت إليه، والضمير في «له» للندى. والكفيل: الضامن. يقول: ونداه معي في أي طريق سلكته، فكأن كل جهة من الأرض ضامنة لنداه في وجهي: أي أمامي، وهذا فيمن يعدى «كفل» بنفسه، فتكون اللام من «له» «للتقوية» والباء بمعنى في. كذا يروى هذا البيت، ولعل الرواية الصحيحة: به لوجهي أي كأن كل جهة كافلة لوجهي بلقاء نداه. وقال الواحدي: يريد لزوم عطائه إياه وأنه لا يتوجه وجهًا إلا واجهه جوده، فكأن كل طريق يتوجه إليه كفيل لنداه بوجهه، وهذا محمول على القلب. أراد كفيل لي بوجه نداه يرينيه ويأتيني به، والقلب شائع في الكلام كثير في الشعر. يقول: كل وجه توجهته كفيل لي بوجه نداه، ويصح المعنى من غير حمل اللفظ على القلب، وذلك أن من واجهك فقد واجهته، ومن استقبلك فقد استقبلته، والأفعال المشترك فيها يستوي المعنى في إسنادها إلى الفاعل وإلى المفعول، كما تقول لقيت زيدًا، ولقيني زيد، وأصبت مالًا، وأصابني مال. وإذا كان للندى كفيل بوجهه كان لوجهه كفيل بالندى. وقال ابن الإفليلي: يقول: كل وجهة أقصدها تتكفل بي لسيف الدولة مزعجة لي إليه وتضمنني له بكثرة الحض عليه.

(٥٣٥) العذل: اللوم، يريد أنه لا يسمع العذل على الجود، أما غيره فإنه يسمع: يقول إذا عذل جواد على الجود فسمع ذلك ووعاه ففداء هذا الممدوح الأجواد والعاذلون. وقال ابن فورجه: يريد فداؤك كل من عذل في جوده فسمعه أو رده؛ لأنك فوقه جودًا. وعبارة بعض الشراح: أي فداه كل عاذل؛ لأنه مردود عنده، وكل معذول؛ لأنه فوقه في الجود.

(٥٣٦) وموالٍ: عطف على المعذول. والموالي: العبيد، والأولياء. يقول. وفدته موالٍ حياتهم من إنعامه عليهم، وغيرهم مقتول بذلك الإنعام؛ لأن مواليه يستخدمون نعمه في قتل أعدائه، وقد بين تلك النعم في البيت التالي. وعبارة العكبري: وفداه موالٍ شملتهم مكارمه وأحيتهم مواهبه، ومن جملة تلك المواهب ما غيرهم من أعاديه مقتول بها، يريد أنه يسلبها من الأعداء ويعطيها الأولياء. فالموالي: الأولياء. وقال ابن جني: الموالي ها هنا العبيد؛ أي ينعم على العبيد وغيرهم بتلك النعم مقتول حسدًا.

(٥٣٧) فرس سابق: بدل من نعم. ويروى: «سابح» بدل «سابق». والسابح: السريع الجري كأنه يسبح. والدلاص: الدرع البراقة الملساء. والزغف: اللينة المحكمة النسيج. يقول: إنه يعطي عبيده هذه الأشياء فتصير عونًا لهم على قتل أعدائه. قال العكبري: فهو معنى قوله: غيرهم بها مقتول، فبين ما يهبه بأنه من الخيل والسلاح مما يؤذن للذي يهبه له بمقارعة الأعداء. والتوطين على الصبر عند اللقاء.

(٥٣٨) صبحت: جاءت صباحًا. وفاعل قال: تلك. والغيوث: الأمطار. وهذي السيول: مبتدأ وخبر. والجملة: مقول القول. أي كلما صبحت مواليه ديار عدو فصبت عليهم الغارة قالت غيوث مواهبه: هذه سيولنا، شبه مواهبه المذكورة بالمطر، والغارة بها على العدو بالسيل الذي يكون عن المطر. وقال الواحدي: أي كلما أتت مواليه ديار عدو صباحًا للغارة، قال العدو تلك التي رأيناها قبل، كانت بالإضافة إلى هؤلاء غيوثًا بالإضافة إلى السيول؛ يريد كثرة مواليه. وقال ابن جني: هذا مثل، وعنى بالغيوث سيف الدولة، وبالسيول: مواليه، وذلك أن السيل يكون عن الغيث، وكذلك مواليه به قدروا وعزوا.

(٥٣٩) دهمته: فاجأته، والهاء: للعدو. والزرد: حلق الدرع. والمحكم: الموثق الصنعة. والنسيل ما يتساقط من ريش الطير ووبر البعير وغيره. يقول: فاجأت الموالي العدو بقوة من الضرب تهتك الدروع فيتطاير زردها كما يطير الريش إذا سقط من الطير.

(٥٤٠) قنص الوحش: مفعول مطلق. ويستأسر: يأسر. والخميس: الجيش العظيم من خمس فرق: القلب والجناحين والمقدمة والساقة. والرعيل: القطعة من الخيل بين العشرين والثلاثين. يقول: إن خيله تصيد خيل العدو كما تصيد الوحش، والقليل من جيشه يأسر الجيش الكثير. يشير إلى أنه سعيد موفق وأن توفيقه كفيل له بذلك.

(٥٤١) أعرضت: ظهرت وقامت. والحرب: فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. والهول: الفزع. والتهويل: التفزيع. والضمير في أنه: للهول. يقول: إذا قامت الحرب وظهرت لم تهله، وزعم الهول لعينيه أنه تهويل لا حقيقة له، يعني أنه لا يفزعه شيء يراه، فكأن الهول يقول له: لا يهولنك ما ترى، وذلك أن التهويل يكون بالكلام. وبعبارة أخرى: إذا قامت الحرب لم يبالِ بما يرى من أهوالها، فكأن الهول يظهر لعينيه في صورة التهويل. يعني أنه يستخف بالهول ويقدم عليه كأنه تهويل لا حقيقة له. ويروى بدل «أنه»: أنها، فيكون الضمير للحرب.

(٥٤٢) يقول: هو الزمان فصحته صحة الزمان وكذلك علته. يريد أن الزمان تابع لحاله، صائر إلى مثل مآله. وهذا كما يُروى عن معاوية أنه قال: نحن الزمان فمن رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع. ورُوي أنه سمع رجلًا يذم الزمان، فقال: لو يعلم ما يقول لضربت عنقه، إن الزمان هو السلطان.

(٥٤٣) ثناه: يروى: نثاه. والنثا: الخبر، وهو ما ينثى — أي ينثر — من حديث، وهو بمعنى الثناء. يقول: بكل مكان يسمع له خبر جميل. وعبارة العكبري: إذا غاب عن مكان وجهه وانتقل إلى غيره شخصه، ففي المكان الذي يفارقه من طيب خبره وكرم أثره وجه جميل لا يعدم، وذكر كريم لا يفقد.

(٥٤٤) الهمام: الملك العظيم. يقول: ليس أحد من الملوك يقي عرضه بسيفه غيرك؛ أي أنت الشجاع دونهم. هذا، وكان الأجود أن يقول: إلا إياك، ولكنه أتى بالضمير المتصل في موضع المنفصل وهو جائز في ضرورة الشعر.

(٥٤٥) السرايا: جمع سرية، وهي القطعة من الجيش ما بين خمس وتسعين إلى ثلاثمائة. وقوله: ودونها؛ أي دون بلاد العراق وبلاد مصر. يقول: كيف لا تأمن ديار المسلمين وأنت في وجه الروم تدفعهم عنها بجيوشك وخيولك، ولولاك لاستبيحت تلك الديار؟!

(٥٤٦) تحرفت: انحرفت وملت. والسدر: شجر النبق. يقول: لو ملت عن طريق الروم لساروا فأوغلوا في ديار العرب دون أن يقف في طريقهم أحد حتى يربطوا خيولهم بالسدر والنخيل التي بالعراق ومصر؛ يعني: لولا ذودك عن هذه الممالك لملكتها الأعداء، يريد بهذا الغض ممن بالعراق ومصر من الملوك والرفع من شأن سيف الدولة. هذا، وقد أسند الفعل للسدر والنخيل توسعًا؛ لأنها هي الممسكة إذا ربطت الخيل إليه، فكأنها ربطتها، وهذا كما تقول أحلني بلد كذا؛ أي حللت فيه. وعبارة ابن جني: هو من باب القلب، كقولك: ساءني أمر كذا أي وقع السوء فيه، وفيه معنى آخر وهو أنه وصف سيف الدولة بالسعادة حتى لو تحرف عن طرق من يعاديه لربط السدر والنخيل خيولهم، كقول الآخر:

تَرَكُوا جَارَهُمْ يَأْكُلُهُ ضَبُعُ الْوَادِي وَيَرْمِيهِ الشَّجَرْ

(٥٤٧) درى: عطف على ربط. وفيهما: أي في العراق ومصر. يقول: ولو تحرفت عن طريق الأعادي لعلم من أعزه دفعك عنه من ملوك العراق ومصر — يعني كافورًا وآل بويه — أنه حقير ذليل بغلبة العدو إياه، فلولاك لأتاه العدو فرأى نفسه حقيرًا ذليلًا.

(٥٤٨) أن يكون: أي بأن يكون — أي يحصل — القفول؛ أي الرجوع. فيكون تامة، يشير إلى أن غزواته لا تنقطع.

(٥٤٩) سوى: استثناء مقدم. وخلف ظهرك روم: مبتدأ وخبر، أي إن خلف ظهرك رومًا سوى الروم — يريد آل بويه — أي أن هناك أعداء لك كالروم، فليس أعداؤك الروم حسب، وإنما أعداؤك كثير فأيهم تقاتل؟

(٥٥٠) المساعي: جمع مسعاة؛ المكرمة والمعلاة في أنواع المجد والجود. والقنا: الرماح. والنصول: جمع نصل؛ حد السيف. يقول: لم يبلغ أحد من الملوك مساعيك التي قامت بها رماحك وسيوفك.

(٥٥١) المنايا: جمع منية، وهي الموت. والشمول: الخمر. يقول: إن غيره من الملوك يشتغلون باللهو وشرب الخمر، أما هو فشغله الشاغل الحرب.

(٥٥٢) وزماني … إلخ: حال. وبأن أراك: متعلق ﺑ «بخيل». يقول: لا أرضى بأن يصل إليَّ عطاؤك وأنا بعيد عنك لا أراك.

(٥٥٣) المرتع. المرعى. والتنغيض: التكدير. والهزيل: ضد السمين. يقول: أنا في قرب عطائك مني وبعدي عنك كمن يرتع في مكان مخصب وهو مع ذلك مهزول؛ أي لست أهنأ بعطائك مع البعد عن لقائك.

(٥٥٤) تبوأ المكان: نزل به. والنيل: العطاء. والمنيل: المعطي. يقول: إن عطاياه تتبعه حيثما سار، فلو هو اتخذ دارًا غير الدنيا ووصلت إليه عطية لكان سيف الدولة هو معطيها.

(٥٥٥) يقول: إذا عشت وبقيت حيًّا كان لي من العبيد الذين تهبهم لي ألف عبد مثل كافور الذي رغبت عنه واجتويت البقاء في جملته، وكان لي من نداك وجودك عوض من ريف مصر ونيلها الذين بهما شرف بلده وفيهما بسطت يده.

(٥٥٦) اتقتك: اجتنبتك. والرزايا، جمع رزية، وهي المصيبة. والحبول: الدواهي؛ جمع حبل — بكسر الحاء — أنشد المفضل:

فَيَا عَجَبًا لِلْخَوْدِ تُبْدِي قِنَاعَهَا تُرَأْرِئُ بِالْعَيْنَيْنِ لِلرَّجُلِ الْحِبْل

(يقال: رأرأت بعينيها: إذا أدارتهما، تغمز الرجل.)

وقال الأخطل:

وَكُنْتُ سَلِيمَ الْقَلْبِ حَتَّى أَصَابَنِي مِنَ اللَّامِعَاتِ الْمُبْرِقَاتِ حُبُولُ

وقال كثير:

فَلَا تَعْجَلِي يَا عَزَّ أَنْ تَتَفَهَّمِي بِنُصْحٍ أَتَى الْوَاشُونَ أَمْ بِحُبُولِ

والخبول: جمع خبل، مصدر خبله: إذا أفسد من أعضائه أو عقله، والخابل: الشيطان، والخابل: المفسد، والخابلان: الليل والنهار؛ لأنهما لا يأتيان على أحد إلا خبلاه بهرم، وفي الحديث: «وبطانة لا تألوه خبالا»؛ أي لا تقصر في إفساد أمره. وقالوا: خبل خابل، يذهبون إلى المبالغة، قال:

نُدَافِعُ قَوْمًا مُغْضَبِينَ عَلَيْكُم فَعَلْتُمْ بِهِمْ خَبْلًا مِنَ الشَّرِّ خَابِلَا

يقول: إذا تخطتك الرزايا ولم تصبك الأقدار بسوء فلا أبالي من أصابته دواهيه وآفاته؛ لأن أملي إنما هو معقود بك.

(٥٥٧) الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس. والضفر: الشد، ويسمى ما يشد على الرأس من الذوائب: الضفائر، ومن سماها الضفر فقد سمى بالمصدر. يقول: إنما يحسن الشعر يوم القتال إذا نشرت ذوائبه. يعني بهذا أنه شجاع صاحب حروب يستحسن شعره إذا انتشر على ظهره يوم القتال، وكانوا يفعلون ذلك تهويلًا للعدو.

(٥٥٨) على فتى: متعلق ﺑ «منشورة» — في البيت السابق — وهو عيب في الشعر يسمى التضمين. والصعدة: الرمح القصير، يقال: اعتقل الرمح وتنكب القوس وتقلد السيف إذا حمل كلا منها حمل مثلها. ومعنى يعلها: يسقيها الدم مرة بعد أخرى. ومن كل وافي السبال: أي يعلها من كل رجل تام السبلة، وهي ما استرسل من مقدم اللحية. يقول: إنما يحسن شعري إذا كنت على هذه الحالة.

(٥٥٩) بريئًا وسليمًا: حالان. ومحبي قيامي: منادى. والنصل: السيف. يقول: يا من يحب مقامي وتركي الأسفار كيف أقيم ولم أجرح بنصلي أعدائي. وقال الواحدي: القيام هنا قيام إلى الشيء أو بالشيء. يقول: أيها المحبون قيامي إلى الحرب أو بالحرب ما لنصلكم لا يقتل ولا يجرح وليس فيه آثار الضرب؛ أي لم لا تعينوني بالسيف إن أحببتم قيامي؟

(٥٦٠) فرندي: يروى بفتح الراء وكسرها، معرب معناه ما يستدل به على جودة الحديد كالآثار والنقط. والهام: الرءوس. والنصل: السيف. يقول: أرى من قوتي ونشاطي قطعة في فرند هذا السيف؛ أي إن له حدة ومضاء كحدتي ومضائي، ثم قال: إن جودة الضرب في جودة الصقل؛ أي إذا لم يكن السيف جيد الصقل لم يجد به الضرب، وهذا تمثيل، يريد كثرة الأسفار وتمرسه بالخطوب، وأنها تصقل الهمم وتورثها مضاء كالصقل للسيف.

(٥٦١) المراد بخضرة ثوب العيش: النعمة والخصب، استعارة من خضرة النبات، والنبات إذا كان أخضر كان رطبًا ناعمًا. وقوله: في الخضرة … إلخ: يعني خضرة السيف، ويحمد من السيوف ما كان مشربًا خضرة. قال الشاعر:

مُهَنَّد كَأَنَّمَا طَابِعُهُ أَشْرَبَهُ بِالْهِنْدِ مَاءَ الْهِنْدَبَا

(الهندبا — بفتح الدال — مقصور: نبت معروف يؤكل.)

وقال البحتري:

حَمَلَتْ حَمَائِلُهُ الْقَدِيمَةُ بَقْلَةً مِنْ عَهْدِ عَادٍ غَضَّةً لَمْ تَذْبُلِ

واحمرار الموت: شدته، يقال: موت أحمر؛ أي شديد، وأصله من القتل وسيلان الدم. ومدرج النمل: مدبه، وهو حيث درج فيه بقوائمه فأثر فيه آثارًا دقيقة. جعل النصل مدرج النمل لما فيه من آثار الفرند. يقول: طيب العيش وهناؤه في السيف، أي في استعماله والضرب به.

(٥٦٢) الإماطة: الرفع والتنحية والإزالة، ومنه إماطة الأذى عن الطريق، ولعل الأقرب أن يكون مراده بقوله: بما وكأنه: قول القائل: ما أشبهه بكذا وكأنه كذا! يقول: لا تشبهني بأحد ولا تقل: كأنه فلان وما أشبهه بفلان؛ لأنه ليس فوقي أحد ولا مثلي أحد فتشبهني به. وهناك أقوال أخرى للشراح في قوله: «بما وكأنه» نورد منها أهمها. قال ابن القطاع: الصحيح من معنى هذا البيت أن «ما» نكرة بمعنى شيء موضوعة للعموم كأنه قال: أمط عنك تشبيهي بشيء من الأشياء كما أنك تقول: مررت بما معجب لك؛ أي بشيء معجب لك. وقال أبو بكر الخوارزمي: «ما» ها هنا اسم بمعنى الذي، يقال لمن يشبه بالبحر: كأنه ما هو نصف الدنيا، يعنون البحر؛ لأن الدنيا بر وبحر، ويقولون: كأنه ما هو سراج الدنيا، يعنون الشمس والقمر، ولما كان لفظها في المشبه به ذكره المتنبي مع كأن. وقال ابن جني: إنه يعتبر كأن قائلًا قال: بما يشبه؟ فيقول الآخر: كأنه الأسد، فقال هو معرضًا عن هذا القول: أمط عنك تشبيهي بما وكأنه، فلما جاء بحرف التشبيه — أي كأن — ذكر «ما».

(٥٦٣) وإياه: يعني النصل. والطِّرف: الفرس الكريم. والذابل: ما لان واهتز من الرماح. وقوله: «نكن» جواب الأمر. يقول: دعني وهذا السيف وفرسي ورمحي حتى نجتمع فنكون في رأي العين شخصًا واحدًا يلقى الورى — أي يحاربهم — فانظر بعد ذلك إلى ما أفعله من قتل الأعداء. قال ابن جني: وقد لاذ في هذا البيت بلفظ ذي الرمة ومعناه في قوله:

وَلَيْلٍ كَجِلْبَابِ الْعَرُوسِ ادَّرَعْتُهُ بِأَرْبَعَةٍ وَالشَّخصُ فِي الْعَيْنِ وَاحِدُ

أحَمُّ غُدَافِيٌّ وَأَبْيَضُ صَارِمٌ وَأَعْيَسُ مَهْرِيٌّ وَأَرْوَعُ مَاجِدُ

هذا، وقوله: يلقى الورى: نعت «واحدًا»، ويروى: نلق: مجزومًا على البدل من نكن.

(٥٦٤) أحيا: فعل المتكلم، وجملة «وأيسر»: حالية؛ يخبر عن نفسه بأنه حي باقٍ، مع أن أقل ما يقاسيه من شدائد الهوى قاتل. يقول: أقل وأهون ما قاسيت قاتل وأنا مع ذلك أحيا، والفراق جار على ضعفي حين فرق بيني وبين أحبتي وكنت ضعيفًا بمقاساة الهوى فلم يعدل حين ابتلاني ببعدهم. وقال بعض الشراح: يحتمل أن يكون أحيا في معنى أفعل التي للتفضيل: أي أشد ما يكون في الإنسان وأيسر ما قاسيت شيء قاتل، فكأن الكلام على التقديم والتأخير؛ أي الشيء الذي يقتل أحيا وأيسر ما لاقيت، أو ما ألقاه، وإذا حمل على هذا الوجه فقد حذف المضاف إليه؛ أي أحيا ما لاقيت وأيسر ما لاقيت. قال: وهم يستعملون هذا في الشعر، ولو قلت في النثر: أفضل وأكرم الناس زيد، يريد أفضل الناس وأكرمهم لقبح، وإنما الفصيح أفضل الناس وأكرمهم. وقال بعض الشراح تعليقًا على قوله: وما عدلا: كرر المعنى فقال: جار وما عدلا، والمفهوم أن جار علم منه أنه لم يعدل، قال: وإنما كرره لأن الجائر في وقت قد يعدل فيوصف بالجور إذا جار وبالعدل إذا عدل، وهذا جار عليه وما عدل، ومثله في القرآن الكريم: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ والمعنى أنها أموات لا تحيا في المستقبل كما يحيا الناس عند البعث.

(٥٦٥) الوجد: الحزن والشوق. والنوى: البعد، يقول: إن الحزن يزداد قوة كما يزداد البعد كل يوم، والصبر يضعف ويقل كما يضعف جسمي.

(٥٦٦) المنايا: جمع منية؛ الموت، يقول: لولا الفراق لما كان للمنايا طريق إلى أرواحنا: أي إنما توسلت إلينا بطريق فراق الأحباب، كما قال أبو تمام:

لَوْ حَارَ مُرْتَادُ الْمَنِيَّةِ لَمْ يَجِدْ إِلَّا الْفِرَاقَ عَلَى النُّفُوسِ دَلِيلَا

ولابن القطاع تأويل حسن. قال: إن «لها» جمع لهاة والمعنى ما وجدت لهوات المنايا إلخ، فلها: فاعل وجدت. والمنايا: في موضع جر بالإضافة. واللهاة؛ اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم. والسبل: جمع سبيل، والسبيل: الطريق، تذكر وتؤنث.

(٥٦٧) الدنف: الذي أثقله المرض. وقال علماء اللغة: الدنف: المرض اللازم المخامر، ويقال: رجل دنَف ودنِف ومدنف ومدنف؛ أي براه المرض حتى أشفى على الموت. فمن قال دنف: لم يثنه ولم يجمعه ولم يؤنثه، كأنه وصف بالمصدر. ومن كسر النون ثنى وجمع وأنث لا محالة، فقال: رجل دنف — بالكسر — ورجلان دنفان، ورجال أدناف، وإمرأة دنفة، ونسوة دنفات. ومن المجاز والاستعارة قول العجاج:

وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تَكُونُ دنفًا أَدْفَعُهَا بِالرَّاحِ كَيْ تَزَحْلَفَا

(يريد: حين اصفرت ودانت الغروب، فكأنها دنف حينئذٍ، يقال: دنفت الشمس وأدنفت: إذا دنت للمغيب واصفرت.)

يقول: أقسم عليك بحق ما بجفنيك من سحر أن تصلي مريضًا يحب الحياة في وصالك، فإن هجرت وأعرضت فليس يحب الحياة. وعنى بسحر جفنيها أنها بنظرها تصيد القلوب وتسبي عقول الرجال، فكأنها سحرتهم، والمعنى من قول دعبل:

مَا أَطْيَبَ الْعَيْشَ فَأَمَّا عَلَى أَنْ لَا أَرَى وَجْهَكِ يَوْمًا فَلَا

لَوْ أَنَّ يَوْمًا مِنْكِ أَوْ سَاعَةً تُبَاعُ بِالدُّنْيَا إِذَنْ مَا غَلَا

وقوله: يهوى الحياة: نعت «دنفًا»، ويروى: يهو — بدون ياء على أنه جواب للأمر — وقال العكبري تعليقًا على قوله: «وإما إن صددت فلا»: الفاء جواب «أما»؛ لأنها أسبق وجواب الشرط محذوف دل عليه الجواب المذكور. ومثله قولك: والله إن تزرني لأكرمنك بجعل الجواب للقسم لتقدمه وسد جواب القسم مسد جواب الشرط، وإذا قدمت الشرط جعلت الجواب له فتقول: إن تزرني والله أكرمك.

(٥٦٨) نصل الخضاب: ذهب. والسلوة: الاسم — من سلا عنه سلوًا — والسلو: طيب نفس الإلف عن إلفه، ويقول الرجل لصاحبه: سقيتني سلوة وسلوانًا؛ أي طيبت نفسي عنك، قال:

جَعَلْتُ لِعَرَّافِ الْيَمَامَةِ حُكْمَهُ وَعَرَّافِ نَجْدٍ إِنْ هُمَا شَفَيَانِي

فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقْيَةٍ يَعْلَمَانِهَا وَلَا سلْوَةٍ إِلَّا بِهَا سَقَيَانِي

يقول: إن لا يشب هذا الدنف — يعني نفسه؛ لأنه لا يزال شابًّا — فلقد شابت كبده لشدة ما يقاسي من حرارة الوجد والشوق، فإن خضبت السلوة ذلك الشيب ذهب ذلك الخضاب؛ لأن سلوته لا تبقى ولا تدوم، فإذا زالت السلوة زال خضاب كبده وعاد شيبه. يريد إذا سلا حينًا لم يلبث الشوق أن يعود. وما أروع قول أبي تمام:

شَابَ رَأْسِي وَمَا رَأَيْتُ مَشِيبَ الرَّ أسِ إِلَّا مِنْ فَضْلِ شَيْبِ الْفُؤَادِ

والمتنبي نقل شيب الفؤاد إلى الكبد، وهو مما استقبح من استعاراته.

(٥٦٩) يجن: من الجنون، ويروى: يحن — من الحنين، وهو الصبوة والطرب — ورواية يجن أليق ليطابق قوله: عقلًا — في آخر البيت — يقول: إن هذا الدنف يصير مجنونًا لشدة شوقه، فلولا أنه يجد رائحة من حبيبه إذا هبت الرياح من ناحية المشرق لما كان له عقل ولكن يخف جنونه إذا وجد ريح المشرق من قبل أحبائه:

فَإِنَّ الصِّبَا رِيحٌ إِذَا مَا تَنَسَّمَتْ عَلَى كِبْدِ مَحْزُونٍ تَجَلَّتْ هُمُومُهَا

وقد نظر المتنبي في هذا إلى قول عبد الله بن الدمينة:

وَأَسْتَنْشِقُ النَّسْمَاءَ مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُم كَأَنِّي مَرِيضٌ وَالنَّسِيمُ طَبِيبُ

(٥٧٠) ها: للتنبيه، أي ها أنا ذا فانظري. وتري: جواب الأمر. ووأل: نجا. يقول: ها أنا ذا فانظري إلي أو فكري فيَّ إن لم تنظري تري بي حرقًا من حبك، من لم يجرب القليل منها، فقد نجا من بلاء الحب. وقد أجمل المتنبي ما فصله البحتري في بيتين قال:

أَعِيدِي فِيَّ نَظْرَةَ مُسْتَثِيبٍ تَوَخَّى الْأَجْرَ أَوْ كَرِهَ الْأَثَامَا

تَرَيْ كَبِدًا مُحَرَّقَةً وَعَيْنًا مُؤَرَّقَةً وَقَلْبًا مُسْتَهَامَا

(٥٧١) علَّ: كلعل. ويشفع — بالنصب — جواب الترجي، وبالرفع: عطف على يرى. يقول: لعل الممدوح يرى ما أنا فيه من ذل الهوى فيكون شفيعًا لي إلى الحبيبة — التي جعلتني بحيث يضرب بي المثل في العشق — لتواصلني بشفاعته. قال الواحدي: وهذا من قول أبي نواس:

سَأَشْكُو إِلَى الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ هَوَاهَا لَعَلَّ الْفَضْلَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا

قال: وهذا أحسن من قول المتنبي؛ لأن الجمع بينهما يمكن بأن يعطيه من المال ما يتوصل به إلى محبوبته، والشفاعة تكون باللسان، وذلك نوع من القيادة … قال: على أني سمعت العروضي يقول: سمعت الشعراني يقول: لم أسمع المتنبي ينشده إلا: فيشفعني — من قولهم: كان وترًا فشفعه بآخر وإلى آخر؛ أي صيره شفعًا. فيكون كما قال أبو نواس. وقال العكبري — تعليقًا على قوله علَّ: «علَّ» حرف ذهب أصحابنا الكوفيون إلى أن لامه الأولى أصلية، وذهب البصريون إلى أنها زائدة، وحجتهم أنها حرف، والحروف كلها حروفها أصلية؛ لأن حروف الزيادة العشرة التي يجمعها «اليوم تنساه» إنما تختص بالأسماء والأفعال، فأما الحروف فلا يدخلها شيء من هذه الحروف على سبيل الزيادة، بل يحكم على حروفها كلها بأنها أصلية في كل مكان على كل حال. ألا ترى أن الألف لا تكون في الاسم والفعل إلا زائدة أو منقلبة ولا يجوز أن يحكم عليها في «ما» و«لا» بأنها زائدة أو منقلبة بل يحكم عليها بأنها أصلية؟ فدل على أن اللام الأولى في «لعل» أصلية، والذي يدل على ذلك أيضًا أن اللام خاصة لا تكاد تزاد إلا على سبيل الشذوذ، فكيف يحكم عليها بزيادة فيما لا يجوز فيه الزيادة بحال؟ وحجة البصريين أنهم وجدوها في كلام العرب وأشعارهم، كقول نافع الطائي:

وَلَسْتُ بِلَوَّامٍ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَمَا يَفُوتُ وَلَكِنْ عَلَّ أَنْ أَتَقَدَّمَا

وكقول الآخر:

لَا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أَنْ تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ

(لا تهين: أراد لا تهينن، فحذف النون الخفيفة لما استقبلها ساكن، والبيت للأضبط بن قريع السعدي.)

(٥٧٢) بصرت به: أي أبصرته. واعتقل رمحه: جعله بين ركابه وساقه. يقول: إني أيقنت بأن الممدوح يطلب بدمي إن سفكته الحبيبة ويأخذ منها ثأري؛ لأني رأيته قد اعتقل رمحه متوجهًا لقتال الأعداء فعلمت أنه يدرك ثأر أوليائه.

(٥٧٣) فضل والده: يروى: فضل نائله، والنائل: العطاء. وزحل: الكوكب المعروف وقد كان الظن أنه أبعد الكواكب السيارة من الأرض. يقول. وأيقنت أنني لا أستطيع عد عطائه لكثرته وأنني أدرك زحلًا قبل أن أدرك وصف عطائه أو وصف فضل والده.

(٥٧٤) القيل: الملك — بلغة حمير — أو الرئيس دون الملك الأعلى. ومنبج: بلد بالشام. والمثوى: المنزل والمقام. والأفق: القطر والناحية. وقَيْل: خبر مبتدأ محذوف أي هو قيل، وبمنبج: خبر مقدم، ومثواه: مبتدأ مؤخر، ونائله: مبتدأ، خبره: في الأفق. ويسأل: في موضع الحال. يقول. هو مقيم بمنبج وعطاؤه يطوف في الآفاق يسأل عمن يسأل غيره من الناس، يعني أن جوده ذاع حتى صرف العفاة عن غيره إليه. وفي مثل هذا يقول أبو تمام:

فَأَضْحَتْ عَطَايَاهُ نَوَازِعَ شُرَّدًا تُسَائِلُ فِي الْآفَاقِ عَنْ كُلِّ سَائِلِ

ويقول:

وَفَدَتْ إِلَى الْآفَاقِ مِنْ مَعْرُوفِهِ نِعَمٌ تسَائِلُ عَنْ ذَوِي الْإِقْتَارِ

ويقول أبو العتاهية:

وَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَبْغِ مَعْرُوفَهُ فَمَعْرُوفُهُ أَبَدًا يَبْتَغِينَا

(٥٧٥) الغرة: غرة الوجه. وصحنها: وسطها. والهيجاء: الحرب. يقول: إن وجهه لحسنه يضيء كالبدر في ظلام الليل، وإذا صال على أعدائه فإن الموت يحمل معه ويصول عليهم فيقتلهم، فالموت من أعوانه، ويروى: الموتَ — بالنصب — أي أنه إذا حمل على أعدائه أصحب الموت حاملًا إياه إليهم.

(٥٧٦) يقول: إن كلابًا — وهم قبيلة الممدوح — لشدة حبهم إياه يكتحلون بالتراب الذي يمشي عليه؛ كناية عن اغتباطهم بولائه، وسيفه في جناب — وهم قبيلة عدوه — يسبق ملامة من يلومه في منامهم؛ كناية عن شقائهم بعداوته. وهذا مثل، يقال: سبق السيف العذل، وأصل ذلك أن الحارث بن ظالم ضرب رجلًا فقتله، فأخبر بعذره، فقال: سبق السيف العذل. قال الواحدي: وروي هنا بيت منحول ليس في روايات الديوان، وهو:

مُهَذَّب الْجَدِّ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ لَهُ حُلْوٌ كَأَنَّ عَلَى أَخْلَاقِهِ عَسَلَا

أي هو طيب الأصل لأن جده كان مبرأ من العيوب، وهو مبارك يستنزل به القطر من الغمام فيسقي الله به، وهو عذب الأخلاق يستحلى خلقه كأنه معسول: ممزوج بالعسل.

(٥٧٧) استعار للفخر «سماء» لعلو الفخر، يقول: له نور يصعد في سماء الفخر لو صعد فكر واصفًا في مخترقه طوال الدهر ما نزل؛ لأنه يبقى يرقى في أثر ذلك النور فلا يلحقه، والمخترق: موضع الاختراق، ويريد به: المصعد في الهواء، كأنه يشق الهواء شقًّا، ويريد بالنور: ما اشتهر وذاع في الناس من ذكره وصيته؛ أي أنه عالٍ علوًّا لا يدرك بالوهم والفكر.

(٥٧٨) بادت: هلكت. وقدمًا: بمعنى قديمًا؛ أي زمانًا قديمًا، ولم يصرف تميمًا؛ لأنه أراد القبيلة، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث. والحَين: الهلاك. يقول: إن هلاكهم بسيفه ساق إليهم الأجل قبل وقته.

(٥٧٩) الحرب العوان: التي قوتل فيها المرة بعد المرة. والحلل: جمع الحلة، وهي المنازل التي حلوها. يقول: لما رأت تميم هذا الممدوح وخيله المنصورة قد أقبلت عليهم ولم يقاتلهم بعد تركوا منازلهم وهربوا في أول الأمر.

(٥٨٠) قال الواحدي: يعني لشدة ما لحقهم من الخوف ضاقت عليهم الأرض فلم يجدوا مهربًا، كقوله تعالى: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وهاربهم إذا رأى ما ليس بشيء يعبأ به أو توهم ما ليس بشيء شيئًا ظنه إنسانًا يطلبه، وكذا عادة الهارب الخائف كقول جرير:

مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ خَيْلًا تَكُرُّ عَلَيْهِمِ وَرِجَالَا

قال أبو عبيد: لما أنشد الأخطل قول جرير هذا قال: سرقه والله من كتابهم — يريد القرآن الكريم: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ، قال: ويجوز حذف الصفة وترك الموصوف دالًّا عليها، كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، أجمعوا على أن المعنى لا صلاة كاملة فاضلة، ويقولون: هذا ليس بشيء يريدون شيئًا جيدًا، وقال بعض المتكلمين: إن الله خلق الأشياء من لا شيء. فقيل: هذا خطأ؛ لأن لا شيء لا يخلق منه شيء، ومن قال: إن الله يخلق من لا شيء جعل لا شيء شيئًا يخلق منه. والصحيح أن يقال: يخلق لا من شيء؛ لأنه إذا قال لا من شيء: نفي أن يكون قبل خلقه شيء يخلق منه الأشياء.

(٥٨١) اللهوات: جمع لهاة، وهي لحمة في الحلق عند أصل اللسان. يقول: فبعد اليوم الذي بادت فيه تميم إلى يومنا هذا الذي نحن فيه لو ركضت خيلهم في لهوات صبي صغير لما شعر بهم حتى يسعل لقلتهم وذلتهم. وقد بالغ في هذا حتى أحال … قالوا: وهذا مأخوذ من قول الشاعر:

لَوْ أَنَّهُ حَرَّكَ الْجرْدَ الْجِيَادَ عَلَى أَجْفَانِ ذِي حلمٍ لَمْ يَنْتَبِهْ فَرقَا

وفيه نظر إلى قول بعضهم:

وَمَرَّ بِفِكْرِي خَاطِرًا فَجَرَحْتُهْ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ يَجْرَحُهُ الْفِكْرُ

وقال بعض الشراح: ويجوز أن يجعل الطفل منهم — أي من تميم — أي ما جسر الطفل منهم أن يسعل خوفًا وإشفاقًا مع أنه لا عقل له، فكيف الظن بكبيرهم في أمر الخوف وله عقل؟ وعلى هذا: «ركضت» فعل خيل النصر وقبيلته وقومه.

(٥٨٢) الألى: بمعنى الذين. والجزر: اللحم الذي يلقى للسباع، يقال: ما كانوا إلا جزرًا لسيوفنا؛ أي الذين نقتلهم فنلقيهم للسباع. والوجل: شدة الخوف. يقول: إن الذين لقوك منهم فنيتهم وجعلتهم جزرًا للسباع، والذين لم يلقوك ماتوا خوفًا منك.

(٥٨٣) المهمه: الفلاة الواسعة، والقذف: البعيد. يقول: كم فلاة بعيدة مترامية الأطراف قلب الدليل فيها — أي الذي يدل على الطريق — مضطرب خائف كقلب المحب، قطعتها بعد أن طال السير فيها، وهذا معنى قوله: قضاني بعدما مطلا، وهو استعارة جميلة؛ لأن المهمه كالمطلوب منه انقطاعه بالمسير فيه وهو — بطوله وتأخير انقطاعه — كالماطل بما يقتضي منه، فالضمير في «قضاني» عائد إلى المهمة.

(٥٨٤) المفاوز: الفلوات. والطرف: العين. وحر الوجه: أشرف موضع فيه أو ما بدا منه. وأفل: غاب. يقول: كنت أنظر إلى النجم دائمًا في مسيري ليلًا حتى كأن أجفاني معقودة به مخافة أن أضل الطريق، وإذا غاب النجم — أي في النهار — كنت أنصب وجهي للشمس دائمًا حتى كأنه معقود بها، وإنما يهتدي في الفلوات إلى الطريق ليلًا بالنجم ونهارًا بالشمس، والمراد أنه سافر فيه ليلًا ونهارًا حتى بلغ ما أراد.

(٥٨٥) الصم: الصلاب الشداد من كل شيء. واليعملة: الناقة القوية. وتغشمرت: تعسفت وركضت على غير قصد. يقول: أوطأت خف ناقتي حجارة المفاوز حتى وطئتها وسارت بي في السهل والجبل متعسفة حتى وصلت إليك.

(٥٨٦) حشو قميصي: يريد بدلي وفي مكاني. والنمرق: وسادة يعتمد عليها الراكب. والغيطان: جمع غائط، وهو ما اطمأن من الأرض وانخفض. والزجل: الصياح والضجيج. يقول: لو كنت مكاني فوق نمرق ناقتي لسمعت أصوات الجن في وهاد هذه المفاوز؛ أي أنها مسكن الجن لبعدها عن الإنس، والعرب إذا وصفت المكان بالبعد جعلته مساكن للجن، كما قال الأخطل:

مَلَاعِبُ جِنَّانٍ كَأَنَّ تُرَابَهَا إِذَا اطَّرَدَتْ فِيهَا الرِّيَاحُ مُغَرْبَلُ

وبيت المتنبي من قول ذي الرمة:

لِلْجِنِّ بِالميلِ فِي حَافاتِهَا زجل كَمَا تَجَاوَبَ يَوْمَ الرِّيحِ عَيْشُومُ

«العيشوم: شجر له صوت مع الريح.»

(٥٨٧) يقول: وصلت إلى الممدوح بنفس مات أكثرها؛ أي ذهب أكثر لحمها وقوتها لما قاست من هول الطريق ومشقته، ثم تمنى أن يعيش بما بقي من نفسه ليقضي حق الممدوح بخدمته له. وعبارة بعض الشراح: لما جعل ما قاساه من مشقة الطريق موتًا سمى الإقامة والراحة عيشًا. والمعنى: ليتني أصادف عيشًا بما بقي من عمري قبل أن أموت، فقوله: ليتني عشت: أراد ليتني أعيش، فعبر بالماضي عن المضارع.

(٥٨٨) يقول: لو وهبت الدنيا بأسرها كنت بخيلًا لعلو همتك، فالدنيا حقيرة بالإضافة إلى همتك. وهذا من قول حسان:

يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ الْمَذْمُومِ

ومن قول أبي العتاهية:

إِنِّي لَأَيْأَسُ مِنْهَا ثُمَّ يُطْمِعُنِي فِيهَا احْتِقَارُكَ للدُّنْيَا وَمَا فِيهَا

(٥٨٩) يقول: إن الناس مشغولون بآمالهم فيك والطمع فيما يأخذون من أموالك، وأنت مشغول بتحقيق آمالهم وتصديق أطماعهم. والبيت في ذاته يحتمل أن يكون معناه أن الناس مشغولون بطمعهم وحرصهم على حطام الدنيا، أما أنت فقد شغلت بتبديد هذا الحطام كرمًا.

(٥٩٠) أراد: تمثلوا بحاتم، فحذف الباء ضرورة. يريد أن الناس ضربوا المثل بحاتم فقالوا: أكرم من حاتم وأجود من حاتم، وهم لو نظروا بعين العقل لضربوا المثل بك؛ لأنك الغاية في الجود.

(٥٩١) وبالرسل: عطف على بما بعثت. وإيها: اسم فعل بمعنى كف ودع. أما إيه — بالخفض — فهي الاستزادة من المتكلم. يقول: أهلًا وسهلًا بهديتك ورسولك فكف، فقد أكثرت الهدايا وغمرني إحسانك.

(٥٩٢) هدية: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هديتك هدية ما رأيت صاحبها الذي أهداها — يعني الممدوح — إلا رأيت الناس كلهم في شخص واحد، يعني أنه جمع فيه جميع ما في الناس من معاني الفضل والكرم، وهذا كما قال أبو نواس:

وَلَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكِرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ

وقد قرر المتنبي هذا المعنى فقال:

أمِ الْخَلْقُ فِي شَخْصِ حَيٍّ أُعِيدَا

وقال:

وَمَنْزِلك الدُّنْيَا وَأَنْتَ الْخَلَائِقُ

(٥٩٣) أراد بالبركة: الوعاء الذي كان فيه العسل. يعني أن هذه الهدية عظيمة أقل شيء اشتمل عليه أقل ما في هذه الهدية سمك بهذه الصفة.

(٥٩٤) أكافي: من المكافأة، وهي أن يقابل الشيء بمثله، فأصلها الهمزة. واليد: النعمة. يقول: كيف أكافئ من لا يعتقد في أعظم نعمة له عندي أنها نعمة احتقارًا لها وتصغيرًا. أو تقول: بماذا أكافئ الذي أسدى إليَّ نعمة عظيمة وهو يستصغرها حتى يرى أنها لا تعد نعمة له عندي.

(٥٩٥) الودق: المطر. وهاتا: بمعنى هذه. والمخايل: جمع المخيلة — بضم الميم وكسر الخاء — السحابة الخليقة بالمطر. والخلف: اسم من الإخلاف في الوعد. يقول لصاحبيه: اصبرا قليلًا تريا من أمري شأنًا عظيمًا فقد ظهرت مخايله وما يشهد لي بتحقيق ما كنت أعدكما من نفسي من قتل الأعداء وبلوغ الآمال، وإني لا أقول شيئًا أعد به ولا أفعله.

(٥٩٦) الصائب: بمعنى المصيب. يقال: صابه يصوبه، وأصابه يصيبه. وآخر — بالنصب — عطف على لفظ صائب، وبالرفع: عطف على الموضع من «صائب». وقطن: خبر مقدم. والجنادل: مبتدأ مؤخر. يقول: عابني أخساء الناس وأراذلهم من بين من يصيب استه ما يرميني به؛ أي يلحقه ما يعيبني به، وآخر لا يؤثر في ما يرميني به ولا يعلق بي ما يقوله فِيَّ كأنه يرميني بقطعة قطن. فقوله: من صائب استه، كقولهم: جاءني القوم من فارس وراجل. يعني أنهم من هذين الجنسين.

(٥٩٧) أي ومن رجل آخر لا يعرفني ولا يعرف أنه جاهل بي، فهاتان جهالتان، ويجهل أني أعلم أنه جاهل بي. فعلمي: مفعول يجهل، وأنه: مفعول علمي؛ أي يجهل معرفتي بجهله بي. ومما يتصل بهذا المعنى قول الخليل بن أحمد صاحب علم العروض:

لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا أَقُولُ عَذَرْتَنِي أَوْ كُنْتُ أَجْهَلُ مَا تَقُولُ عَذَلْتُكَا

لَكِن جَهلْتَ مَقَالَتِي فَعَذَلْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ جَاهِلٌ فَعَذَرْتُكَا

وقول الآخر:

جَهِلْتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّكَ جَاهِلٌ فَمَنْ لِي بِأَنْ تَدْرِي بِأَنَّكَ لَا تَدْرِي

(٥٩٨) مالك الأرض: نصب على الحال، وعلى ظهر السماكين: في موضع الحال. يقول: ويجهل هذا الجاهل أني في الحال التي أملك فيها الأرض أعد نفسي معسرًا بالقياس إلى مقتضى همتي، وأني إذا علوت السماء وركبت السماكين عددت نفسي راجلًا، لاقتضاء همتي ما فوق ذلك.

(٥٩٩) يقول: إن همتي تريني كل شيء أطلبه حقيرًا، والغاية البعيدة قصيرة في عيني.

(٦٠٠) الطود: الجبل العظيم. ومناكبه: أعاليه. والضيم: الظلم. يقول: لم أزل ثابتًا ذا وقار كالطود لا يحركني شيء إلى أن ظلمت فلم أطق الظلم وإنما تجردت لدفعه عن نفسي.

(٦٠١) القلقلة: التحريك. ويريد بالحشا: ما في داخل الجوف. والقلاقل — الأولى — جمع قلقل، وهي الناقة الخفيفة. ويقال أيضًا: رجل قلقل، وفرس قلقل: إذا كانا سريعي الحركة. والقلاقل — الثانية — جمع قلقلة، وهي الحركة، يقول حركت — بسبب الهم الذي حرك نفسي — إبلا خفافًا في السير، يعني سافرت ولم أعرج بالمقام الذي يلحقني فيه الضيم. ويجوز أن تكون القلاقل الثانية أيضًا بمعنى الأولى، وإذن: يعود الضمير من كلهن على العيس، لا على القلاقل. يقول: خفاف إبل كلهن خفاف، يعني أنهن خفاف الخفاف وسراع السراع كما يقال: أفضل الفضلاء. هذا، وقد عاب الصاحب بن عباد أبا الطيب بهذا البيت، قال: ما له قلقل الله أحشاءه وهذه القافات الباردة؟ قال الواحدي: ولا يلزمه في هذا عيب فقد جرت عادة الشعراء بمثله، قال الثعالبي: قال لي أبو نصر بن المرزبان: ثلاثة من رؤساء الشعراء: شلشل أحدهم، وسلسل الثاني، وقلقل الثالث. أما الذي شلشل فالأعشى — وهو من رؤساء شعراء الجاهلية — قال:

وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الْحَانُوتِ يَتْبَعُنِي شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ

«الشاوي: الذي شوى. والمشل: المطر. والشلول: الخفيف. والشلشل: الخفيف القليل، وكذلك الشول، والألفاظ متقاربة. أريد بذكرها والجمع بينها: المبالغة.» وأما الذي سلسل فمسلم بن الوليد إذ يقول:

سُلَّتْ وَسَلَّتْ ثُمَّ سَلَّ سَلِيلُهَا فَأَتى سَلِيلُ سَلِيلِهَا مَسْلُولَا

وأما الذي قلقل فهو المتنبي الذي يقول: … البيت. ثم قال لي: فبلبل أنت أيضًا، فقلت: أخشى أن أكون رابع الشعراء، أعني قول من قال:

الشُّعَرَاءُ فَاعْلَمَنَّ أَرْبَعَهْ فَشَاعِرٌ لَا يَجْرِي وَلَا يُجْرَى مَعَهْ

وَشَاعِرٌ يُنْشِدُ وَسْطَ الْمَعْمَعَهْ وَشَاعِرٌ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَسْمَعَهْ

وَشَاعِرٌ مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَصْفَعَهْ

قال: ثم قلت بعد حين من الدهر:

وَإِذَا الْبَلَابِلُ أَفْصَحَتْ بِلُغَاتِهَا فَانْفِ الْبَلَابِلَ بِاحْتِسَاءِ بَلَابِلِ

(٦٠٢) وارانا: سترنا. والمشاعل: جمع مشعلة — بفتح الميم — النار الموقدة، وبكسر الميم: الآلة التي تحمل فيها النار. يقول: إذا سترنا الليل بظلامه أسرعت هذه الإبل حتى تصطك الحجارة بعضها ببعض وتنقدح النار فيها فترى ما لا تراه بضوء المشاعل.

(٦٠٣) الوجناء: الناقة الشديدة، جعل الناقة لشدة عدوها كالموج، وجعل المفازة كالبحار في سعتها. يقول: كأني منها إذا ركبتها في هذه المفازة في ظهر موج ترميني في بحر لا ساحل له.

(٦٠٤) يقول: يخيل إليَّ أن البلاد تلفظني فلا أستقر فيها، كما لا يستقر في مسامعي كلام العذال. يريد أنه دائم الأسفار لا يلقي عصاه ببلد حتى ينتقل إلى غيره، وهذا المعنى من قول القائل:

كَأَنِّي قَذًى فِي عَيْنِ كُلِّ بِلَادِ

وقد قال البحتري:

تَقَاذَفُ بِي بِلَادٌ عَنْ بِلَادٍ كَأَنِّي بَيْنَهَا عَيْرٌ شَرُودُ

(٦٠٥) العلا: جمع العليا، تأنيث الأعلى — كالكبر في جمع الكبرى — وتساوى: إن كان ماضيًا ثبت الياء في آخره، وهو في موضع جزم. وإن كان بمعنى تتساوى — بحذف إحدى التاءين — فلا ياء؛ لأنه مجزوم لوقوعه جوابًا للشرط. والمحايي والمقاتل: جمع المحيا والمقتل؛ مصدرين ميميين بمعنى الحياة والقتل. يقول: من يطلب ما أطلب من الشرف والرتب العالية استوى لديه الحياة والقتل؛ لأنه علم أن معالي الأمور فيها المخاوف والهلاك، فيكون قد وطن نفسه على الهلاك، فهو يصبر عليه ولا يكترث له.

(٦٠٦) نصب السيوف لأنها استثناء مقدم كبيت الكميت:

وَمَالِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ وَمَالِيَ إِلَّا مَذْهَبَ الْحَقِّ مَذْهَبُ

والوسائل: جمع الوسيلة، وهي الواسطة بين الطالب والمطلوب. يقول لملوك عصره: لا نطلب إلا أرواحكم ولا نتوسل إلا بسيوفنا.

(٦٠٧) قال ابن جني: يعني إذا وردت السيوف روح امرئ كانت أملك بها منه وإذا صدرت عنه صار وإن كان بخيلًا غير بخيل؛ لأن السيف ينال منه ما يطلب منه أو يفتدي روحه بماله.

(٦٠٨) الغث: الرديء من كل شيء، وأصله من غث اللحم: إذا كان مهزولًا. يقول رداءة عيشي في رداءة كرامتي لا في رداءة مطاعمي.

(٦٠٩) الرحيل: اسم بمعنى الارتحال. يقول: لما أزمعت أن ترحل مسافرًا أحببت أن أبرك، فوجدت أكثر ما عندي قليلًا بالإضافة إلى عظم قدرك.

(٦١٠) الصب: المشتاق. ورغب في الشيء: أراده وطلبه، ورغب عنه: لم يرده. والبكرة: أول النهار، والأصيل: آخره.

(٦١١) قال الواحدي: قال ابن جني: هذا البيت يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن يكون أهدى إليه شيئًا كان أهداه إليه صديقه الممدوح، والآخر: أن يكون أراد: جعلت ما كان من عادتك أن تهديه إليَّ وتزودنيه وقت فراقك هدية مني إليك، أي أسألك أن لا تتكلفه لي. ثم قال الواحدي: قال العروضي فيما أملاه عليَّ مما استدركه على ابن جني: أراد — أي المتنبي — أنك تحب أن تعطي فجعلت قبول هديتك إليَّ هدية مني إليك لحبك ذلك. وقول العروضي أمدح وأليق بما قبله من رغبته في المكارم واشتياقه إليها. وقوله: وظرفها التأميلًا: فالظرف وعاء الشيء. يقول: جعلت تأميلي مشتملًا على قبول هذه الهدية كاشتمال الظرف على ما فيه.

(٦١٢) قال ابن جني: أي لا كلفة عليك فيه؛ لأني لم أتكلف لك شيئًا من مالي، وإنما هو مالك عاد إليك أو بقي بحاله لديك، ويكون تحمل شكرك على قبوله ثقيلًا عليَّ لتكامل صنيعك به. وقال العروضي: هذا البيت تأكيد لما فسرته، فتأمله؛ لأنه يقول: هذه الهدية بر تحبه فيخف عليك قبوله لأنه إعطاء لي، وأنت تخف إلى الإعطاء ولا منة عليك فيه وإنما المنة لك، ومحمله إنما يثقل عليَّ لا عليك؛ لأنك إذا أعطيتني أثقلت رقبتي بالشكر.

(٦١٣) العزيز: الشيء الذي يقل وجوده، ويجوز أن يكون بمعنى شديد صعب غالب للصبر. والأسى: العلاج، يقال: أسوت الجرح آسوه أسوًا وأسًى إذا داويته وأصلحته، قال الأعشى:

عِنْدَهُ الْبِرُّ وَالتُّقَى وَأَسَا الشـْ ـشقِّ وَحَمْلٌ لِمضلِعِ الْأَثْقَالِ

(الشق: الصدع، ويروى: الصدع. والمضلع: المثقل للأضلاع؛ أي الأثقال الأحمال المضلعة.)

وعزيز: خبر مقدم، وهو مضاف إلى أسى، ومن دوائه: مبتدأ مؤخر. والنجل: جمع النجلاء؛ الواسعة. والعياء: الداء الذي لا علاج له قد أعيا الأطباء، وهو خبر عن ضمير محذوف يرجع إلى الداء أو إلى الحدق. يقول: يعز علاج من داؤه هوى الحدق النجل وهو داء عياء به مات العشاق من قبلنا. ويروى: عزيزٌ أسى من داؤه — بتنوين عزيز — وإضافة أسى إلى «من» ورفعه بالابتداء لتخصصه بالإضافة، وعزيز: خبره، والتقدير: أسى من داؤه الحدق النجل عزيز. ويروى: عزيز أسى — على أن أسى تمييز كما تقول: عزيز دواء، فيكون عزيز خبرًا مقدمًا، ومن داؤه: مبتدأ مؤخر، قال العكبري: وهذا إذا جعلت «من» معرفة، أما إذا جعلت «من» نكرة كان عزيز مبتدأ. وذهب بعض النحويين إلى أن المبتدأ والخبر إذا كانا نكرتين فالمبتدأ هو الأول لا غير. وقد يكون المبتدأ والخبر نكرتين وأحدهما أخص من الآخر، كقولك: ذهب خاتم في أصبعه، فخاتم هنا أخص من ذهب، وهو ثانٍ، فيكون مبتدأ أولى من ذهب. و«من» توصف على وجهين بالجملة والمفرد، فوصفها بالجملة نحو:

رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا قَلْبَهُ قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ

(من أبيات لسويد بن أبي كاهل اليشكري، وبعده:

وَيَرَانِي كَالشَّجَا فِي حَلْقِهِ عَسِرًا مَخْرَجُهُ مَا يُنْتَزَعْ

وَيُحَيِّينِي إِذَا لَاقَيْتُهُ وَإِذَا مُكِّنَ مِنْ لَحْمِي رَتَعْ

وقوله: رب من: أي رب رجل أنضجت قلبه من الغيظ؛ أي أكمدته. والشجا: ما يعترض في الحلق. ومخرجه: إخراجه. ورتع: أكل فيه كيف شاء.)

وبالمفرد نحو قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا

(فضلًا: يروى: شرفًا، وهو تمييز. وحب: فاعل كفى. والباء زائدة في المفعول، وهو «بنا».)

فمن: نكرة في البيتين؛ لأن «رب» لا يليها المعرفة. وقول حسان: على من؛ أي على قوم أو أناس. ويجوز رفع «غيرنا» على أنه خبر مبتدأ محذوف. يريد من هو غيرنا، كقراءة الأعمش: «تمامًا على الذين أحسن» بالرفع، فيجعل «من» موصولة. ويجوز لمن نون أسى — أي ونون عزيز — أن يرفع من رفع الفاعل بفعله على رأي الكوفيين والأعمش من إعمال اسم الفاعل، والصفة المشبهة باسم الفاعل من غير اعتماد، كقولك: قائم غلامك.

(٦١٤) منظري: أي موضع النظر مني، ويجوز أن يكون مصدرًا مضافًا إلى المفعول. والنذير: المنذر. وعداه بإلى على تضمينه معنى الرسول. يقول: من أراد أن يعرف حال الهوى فلينظر إليَّ فمنظري منظر من ظن أن أمر الهوى سهل.

(٦١٥) الضمير: للقصة والشأن. يقول: ما هي إلا أن يلحظ العاشق مرة بعد أخرى فإذا تمكنت النظرة من قلبه رحل عقله وطار؛ لأن الهوى والعقل لا يجتمعان.

(٦١٦) يقول: جرى حب هذه المحبوبة في عروقي مجرى الدم لشدة امتزاجه بي، فشغلني عن كل ما سواها، ويروى: به؛ أي بالحب. وقوله: حبها: الضمير للمحبوبة وإن لم يجرِ لها ذكر لدلالة المقام، وهو كثير في كلامهم. قال الواحدي: ويروى بعد هذا البيت بيتان منحولان، وهما:

سَبَتْنِي بِدَلٍّ ذَاتُ حُسْنٍ بِزَيْنِهَا تَكَحُّلُ عَيْنَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا كُحْلُ

كَأَنَّ لِحَاظَ الْعَيْنِ فِي فَتْكِهِ بِنَا رَقِيبٌ تَعَدَّى أَوْ عَدُوٌّ لَهُ دَخْلُ

«سبتني: أسرتي. والدل: الدلال. واللحاظ: مؤخر العين. والدخل: الريبة.»

(٦١٧) فما فوقها: أي فما هو أعظم منها، ويجوز أن يريد فما دونها في الصغر. يقول: قد أثر سقم الهوى في كل شيء من بدني فظهر فيه فعله. وما أبدع قول القائل في مثل هذا المعنى:

خَطْرَاتُ ذِكْرِكِ تَسْتَفِزُّ مَدَامِعِي فَأحِسُّ مِنْهَا فِي الْفُؤَادِ دَبِيبَا

لَا عُضْوَ لِي إِلَّا وَفِيهِ صَبَابَةٌ فَكَأَنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا

(٦١٨) عذلوا: لاموا. وأنة: فعلة من الأنين، يكون من شدة الوجع. تقول: أن يئن أنينا: إذا اشتكى وجعًا، وهيا: حرف نداء — كيا وأيا وأي والهمزة — والحُبيبة: الحبيبة. قال العكبري: قوله حبيبتا: المراد حبيبة فصغرها للتقريب من قلبه.

يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا حُبَيِّبَ نَفْسِي أَنْتَ خَلَّفْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ

وتصغير التعظيم كقول لبيد:

وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الْأَنَامِلُ

وكقول الحباب بن منذر يوم السقيفة: «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.» (عنى بالجذيل — ها هنا — الأصل من الشجرة تحتك به الإبل فتشتفي به: أي قد جربتني الأمور ولي رأي وعلم يشتفى بهما كما تشتفي هذه الإبل الجربى بهذا الجذل، وصغر على جهة المدح. وعذيق: تصغير العذق، وهو النخلة. والترجيب: إرفاد النخلة من جانب ليمنعها من السقوط: أي أن لي عشيرة تعضدني وتمنعني وترفدني، والتصغير للتعظيم.) وتصغير التحقير، مثل: أنيسان ونحوه. قال ابن جني: والألف في «حبيبتا» وفي «قلبا» وفي «فؤادا»: بدل من ياء الإضافة، وكلها في موضع نصب؛ لأنه نداء مضاف، أراد: يا حبيبتي، يا قلبي، يا فؤادي، يا جمل — وجمل اسم الحبيبة — وقال الواحدي: يجوز أن تكون الألف فيها للندبة أراد يا حبيبتاه، يا قلباه، يا فؤاداه، فحذف الهاء للدرج، قال: وكذا ذكر ابن فورجه، ثم قال ابن فورجه: قلبًا فؤادًا يدعوهما لأنه يتشكاهما شكوى العليل، كما قال ديسم ابن شاذلويه الكردي:

أَنِينِي أَنِيسِي، وَشَجْوِي وِسَادِي وَعَيْنِي كَحِيلٌ بِشَوْكِ الْقَتَادِ

إِذَا قِيلَ: دَيسمُ مَا تَشْتَكِي؟ أَقُولُ بِشَجْوٍ: فُؤَادِي فُؤَادِي

فهذا أيضًا يقول: قلبي فؤادي؛ أي هو الذي أتشكاه، ومعنى البيت: إني إذا عذلت في حبها أجبتهم بأنة ثم قلت: قلبي فؤادي يا جمل. يريد أني لا ألتفت إلى العذل ولا أزيد على الأنين ودعاء المحبوب ليغيثني مما أنا فيه. وقال بعض الشراح: قلبًا فؤادًا في محل رفع على تقدير حبيبتي قلبي فؤادي؛ أي هي لي بمنزلة القلب، وعلى هذا «جمل» اسم واحدة من العواذل: أي أقول لها: هي قلبي فلا أفارقها ولا أسمع عذلك فيها.

(٦١٩) المسامع: جمع مسمع — كمنبر — الأذن. يقول لمحبوبته: كأنك أقمت رقيبًا على مسامعي يحول دون العذل فليس يدخلها، وأول هذا البيت من قول العباس بن الأحنف:

أَقَامَتْ عَلَى قَلْبِي رَقِيبًا وَنَاظِرِي فَلَيْسَ يُؤَدِّي عَنْ سِوَاهَا إِلَى قَلْبِي

وقول الآخر:

كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكِ يَرْعَى خَوَاطِرِي وَآخَرَ يَرْعَى نَاظِرِي وَلِسَانِي

هذا، والرقيب: الحافظ، والرقيب: المنتظر، رقبه يرقبه رقبة ورقبانًا — بالكسر فيهما — ورقوبًا، وترقبه وارتقبه: انتظره ورصده، ورقيب القداح: الأمين على الضريب، وقيل: هو أمين أصحاب الميسر، وهو أيضًا اسم السهم الثالث من قداح الميسر. والرقيب الذي في المشرق يراقب الغارب ومنازل القمر، كل واحد منها رقيب لصاحبه، كلَّما طلع منها واحد سقط آخر، مثل الثريا رقيبها الإكليل: إذا طلعت الثريا عشاء غاب الإكليل، وإذا طلع الإكليل عشاء غابت الثريا. قال:

أَحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ لَاقِيًا بُثَيْنَةَ أَوْ يَلْقَى الثُّرَيَّا رَقِيبُهَا

(٦٢٠) السهاد: الأرق، وقد سهد الرجل — بالكسر — يسهد سهدًا وسهدًا وسهادًا: لم يَنَمْ. ورجل سهد: قليل النوم، قال أبو كبير الهذلي:

فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّنًا سُهْدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ

(رجل حوش الفؤاد: حديده. والهوجل: الرجل الأهوج. والمبطن: الضامر البطن.)

والضمير في «بينهما»: للسهاد والمقلة. يقول: إذا تهاجرنا واصل السهاد عيني، أي لم أنم وجدًا لفَقْدِ من أحبه، وهذا كقوله — أي المتنبي:

إِنِّي لَأُبْغضُ طَيْفَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ إِذَا كَانَ يَهْجُرُنَا زَمَانَ وِصَالِهِ

فجعل الطيف يهجر عند الوصال، كما أن السهاد يصل عند الهجران.

(٦٢١) المشابه: جمع الشبه — بفتحتين — على غير قياس. ويصاب: يوجد. والشكل: المشاكل، أي الشبيه والنظير. تخلص في هذا البيت من النسيب إلى المديح مفضلًا الممدوح بالكمال على المعشوق في الجمال، فذكر أن في البدر أنواعًا من شبه الحبيبة منها الحسن والضياء والعلو والبعد عن الناس. ثم قال: وأشكو هواها إلى من لا يوجد له نظير، وإنما يشكو إليه ليعطيه من المال ما يتوصل به إليها.

(٦٢٢) شجاع الذي: أراد شجاعٍ الذي، بالتنوين، فحذفه لسكونه وسكون اللام الأولى من «الذي» وذلك كثير في الشعر. وعبارة العكبري: شجاع بدل من «ابن» وحذف منه التنوين على مذهبه، ومثله كثير في الشعر القديم والحديث، ومنه ما ذكر مسلم والبخاري وابن إسحاق في «المغازي» من قول عباس بن مرداس السلمي بالجعرانة للنبي ﷺ حين أعطى الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري من أموال هوازن كل واحد منهما مائة من الإبل وأعطى العباس دونهما، فقال:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيـْ ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ

وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ

(النهب — ها هنا — بمعنى المنهوب، والعبيد — مصغر — اسم فرسه.)

فترك تنوين مرداس، وهو اسم منصرف، ومثله:

عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّريدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ

(هو لابنة هاشم بن عبد مناف جد النبي ﷺ، وكان يسمى عمرًا، وهو أول من ثرد الثريد وهشمه فسمي هاشمًا، فقالت فيه ابنته هذا البيت. وقيل هو لابن الزبعري، ومسنتون، أصابتهم سنة وقحط، وأجدبوا. والعجاف: من العجف، وهو الهزال وذهاب السمن.)

فهذا حجة الكوفيين في ترك صرف ما ينصرف ضرورة، والقياس إذا كان يجوز حذف الواو المتحركة للضرورة في قول الشاعر — وهو بيت الكتاب:

فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ قَالَ قَائِلٌ: لِمَنْ جَمَلٌ رِخْوُ الْمِلَاطِ نَجِيبُ

(هو للعجير السلولي، وصف بعيرًا ضل عن صاحبه، فيئس منه، وجعل يبيع رحله، فبينا هو كذلك سمع مناديًا يبشر به، وإنما وصف ما ورد عليه من السرور بعد الأسف والحزن. والملاط: ما ولي العضد من الجنب. ويقال للعضدين: ابنا ملاط، ووصفه برخاوته؛ لأن ذلك أشد لتجافي عضديه عن كركرته وأبعد له من أن يصيبه ناكث أو ماسح أو ضبب، وهذه كلها آفات تلحقه إذا حك بعضده كركرته — زور البعير — ومعنى يشري: يبيع، وهو من الأضداد.)

فجواز حذف التنوين للضرورة أولى لأن الواو من «هو» متحركة، والتقدير: فبينا هو، والتنوين ساكن، ولا خلاف أن حذف الساكن أسهل من المتحرك، وحجة بعض نحاة البصريين أن الأصل في الأسماء الصرف، فلو جوزنا لأدى ذلك إلى رده عن الأصل إلى غير الأصل، وإلا التبس ما ينصرف بما لا ينصرف. وقد تقدم ما هو أوفى من ذلك فيما أسلفنا من هذا الشرح.

(٦٢٣) طيئ: قبيلة الممدوح، وقحطان بن هود: أبو قبائل اليمن، وعدنان أبو قبائل العرب. وجعل الممدوح كالثمر الحلو في جوده وحسن خلقه. وقوله له: أي للثمر، ومن روى «لها»: فالضمير للفروع، أو لطيئ. يقول: إنه ثمر قد خرج من غصون هي طيئ، وهذه الغصون قد خرجت من أصل هو قحطان.

(٦٢٤) يقول: إن الله سبحانه لا يبشر عباده بأحد من الخلق إلا أن يكون نبيًّا، فلو كان يبشر بغير نبي لبشرنا به على لسان الرسل، ويروى: لو بشر الله خلقه. هذا، وقال الجوهري: يقال: بشرت الرجل أبشره بالضم بشرًا وبشورًا من البشرى، وكذلك الإبشار والتبشير، والاسم البشارة — بكسر الباء وضمها — يقال: بشرته بمولود فأبشر إبشارًا؛ أي سر، وبشرت بكذا — بالكسر — أبشر: استبشرت به، قال عبد القيس بن خفاف البرجمي:

وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ

فَأَعِنْهُمُ وَابْشِرْ بِمَا بَشَرُوا بِهِ وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ

وقال بعض علماء اللغة: البشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير، وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيدة، كقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وقد يكون هذا على حد قولهم: تحيتك الضرب، وعتابك السيف.

(٦٢٥) الضيغم: الأسد. وسكن القاف — في وقفاته — للضرورة. وقوله: تحدث الخيل: يعني أصحابها؛ أي الفرسان. والرجل: الرجالة، وهم المشاة. وإلى القابض الأرواح: أي أشكو إلى قابض الأرواح؛ يريد لكثرة غزواته ووقائعه وقتله الأعداء. والأرواح: تروى بالنصب على أنها مفعول القابض، وبالخفض على الإضافة، مثل الحسن الوجه.

(٦٢٦) شت: تفرق. والشمل: الاجتماع. يقول: كلما تفرق جمع ماله اجتمع شمل معاليه. وعبارة بعض الشراح: كلما جمع مالًا من غزواته أو فرقه على أولياء تجمع له شمل المعالي.

(٦٢٧) من خفض همام: فعلى البدل مما تقدم، ومن رفعه فعلى إضمار مبتدأ محذوف، والهمام: الملك الرفيع الهمة. والغمد: جفن السيف. يقول: إنه يمضي في الأمور مضاء السيف، فإذا جرد سيفه من غمده لم تدرِ أيهما السيف، كما قال أبو تمام:

يَمُدُّونَ بِالْبِيضِ الْقَوَاطِعِ أَيْدِيًا وَهُنَّ سَوَاءٌ وَالسُّيُوفُ الْقَوَاطِعُ

(٦٢٨) ابن أم الموت: يعني أخا الموت، جعله أخًا للموت لكثرة قتله أعداءه. والبأس: الشدة. وفشا: شاع، يقول: لو كان لكل أحد من الناس بأسه لكانوا كلهم شجعانًا وإذ ذاك يقتل بعضهم بعضًا فينقطع النسل لكثرة القتل.

(٦٢٩) السابح: الفرس الذي كأنه من حسن جريه يسبح، ولما سمى فرسه سابحًا استعار للمنايا موجًا، ونصب «موج المنايا» على الظرفية: أي في موج المنايا و«بنحره» صلة سابح، وهذا كقول مالك بن خالد الخناعي:

بِأَسْرَعَ الشَّدِّ مِنِّي يَوْمَ لَا نِيَةٌ لَمَّا عَرَفْتُهُمْ وَاهْتَزَّتِ اللِّمَمُ

(نية: لغة في نية. واللمم: جمع لمة. شعر الرأس إذا كان فوق الوفرة. هذا وقد روي البيت: بأسرع الشد مني، يريد بأسرع شدًّا مني، فزاد اللام كزيادتها في بنات الأوبرا.)

أراد بأسرع في الشد مني، فحذف ونصب. ويروى: موج المنايا — بالرفع — فيكون «موج»: مبتدأ، خبره: بنحره: أي أن موج المنايا صار عند نحره. وأضاف «غداة» إلى الجملة التي بعدها؛ لأن ظروف الزمان تضاف إلى الجمل، تقول: رأيتك يوم قدم زيد. والمراد بالغداة هنا: مطلق الحين لا وقت بعينه، كما يقال: أصبح وأمسى؛ يراد بهما مطلق الكون أو الصيرورة. والوبل: المطر الكثير. يقول: رأيت الممدوح على فرس يسبح في موج بحر الحرب؛ أي يسرع الجري فيه يوم كثرت سهام الأعداء في صدر فرسه كما يكثر الوبل، وذلك لإقدامه وشجاعته، فهو لا يبالي لذلك ويمضي قدمًا.

(٦٣٠) القرن: الكفؤ في الحرب. والتحديق: شدة النظر. والنزال: القتال. وكانوا إذا اشتد القتال نزل بعضهم إلى بعض بالسيوف. وقيل: كانوا يركبون الإبل ويجنبون الخيل إذا غزوا. فإذا وصلوا إلى العدو تداعوا: نزال! فينزلون عن الإبل ويركبون الخيل. ومنه قول الحماسي:

وَلَقَدْ شَهِدْتُ الْخَيْلَ يَوْمَ طِرَادِهَا بِسَليم أوظِفَةِ الْقَوَائِمِ هَيْكَلِ

فَدَعَوا: نزَالِ! فَكُنْتُ أَوَّلَ نَازِلٍ وَعَلَامَ أَرْكَبُهُ إِذَا لَمْ أَنْزَلِ؟

(إذا جعلت «نزال» بمعنى النزول إلى الأرض كان المعنى: وعلام أركبه حين لم أنزل إلى الأرض، ومعلوم أنه حين لم ينزل هو راكب، فكأنه قال: وعلام أركبه في حين أنا راكب؟ أما إذا جعلت نزال بمعنى المنازلة — لا بمعنى النزول — كان المعنى: وعلام أركبه إذا لم أنازل الأبطال عليه؟ أي ولم أركبه إذا لم أقاتل عليه؟ أي في حين عدم قتالي عليه، والشعر لربيعة بن مقروم الضبي. والأوظفة: جمع وظيف، وهو مستدق الذراع والساق من الخيل وغيرها. والقوائم: الأرجل. والهيكل: العظيم، وصف به الفرس. يقول: شهدت الفرسان يوم تطاردهم بالرماح، وأنا على فرس ضخم سليم الأوظفة من العيوب.)

ثم سمى القتال نزالًا، والمقاتلة منازلة، وإن لم يكن هناك نزول. وأغضت العين: غمضت. والسنان: طرف الرمح. يقول. كم عين قرن حددت النظر نحوه قصدًا لقتاله فلم تطرف عينه إلا وقد أدخل فيها سنانه، فجعله لعينه بمنزلة الكحل.

(٦٣١) يقول: إذا طلب إليه الرفق بالأقران، وقيل له: ارفق رفقًا، قال: موضع الحلم غير الحرب؛ يعني أن الرفق والحلم إنما يكونان في السلم، أما الحرب فلا رفق فيها، والمتحلم فيها جاهل — أحمق — يضع الشيء في غير موضعه. وهذا المعنى قد طرقه كثير من الشعراء، ومنه قول الفند الزماني:

وَبَعْضُ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إِذْعَانُ

وقول سالم بن وابصة:

إِنَّ مِنَ الْحِلْمِ ذُلًّا أَنْتَ عَارِفُهُ وَالْحِلْمُ عَنْ قُدْرَةٍ فَضْلٌ مِنَ الْكَرَمِ

وقال الخريمي:

أَرَى الْحِلْمَ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ذِلَّةً وَفِي بَعْضِهَا عِزًّا يُسَوِّدُ صَاحِبَهُ

وقال الأعور الشني:

خُذِ الْعَفْوَ وَاغْفِرْ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّنِي أَرَى الْحِلْمَ مَا لَمْ تَخْشَ مَنْقَصَةً غُنْمَا

والحلم: نقيض السفه، وهو الأناة والتثبت والعقل.

(٦٣٢) ناء به الحمل: أثقله. ويقال: ناء بالحمل: إذا نهض به مثقلًا. والمرأة تنوء بها عجيزتها؛ أي تثقلها. وهي تنوء بعجيزتها: أي تنهض بها مثقلة. والحمل — بكسر الحاء — ما حمل على ظهر أو رأس، وأما الحمل — بفتح الحاء — فهو ما يحمل في البطن من الأولاد في جميع الحيوان. أما ما تحمله الشجرة من الثمر فمنهم من يفتحه تشبيهًا بحمل البطن ومنهم من يكسره يشبهه بما يحمل على الرأس، فكل متصل حمل — بالفتح — وكل منفصل حِمل — بالكسر — يصف حلمه بالرزانة يقول: لولا أنه باشر بنفسه حمل حلمه عن الأرض ونهض به دونها لعجزت الأرض عن حمله واندكت لثقله، ولما كان الحلم يوصف بالرزانة والثقل والحلم يشبه بالطود — الجبل — ساغ في وصف حلم الممدوح هذا الكلام، والمعنى أنه لو كان الحلم جسمًا لكان من الثقل بهذه الصفة.

(٦٣٣) يقول: تباعدت آمال الناس عن جميع المقاصد، يعني أنها قصدتك وتوجهت نحوك دون غيرك، وهو قوله: «وضاق بها … إلخ» أي لا سبيل لها إلا إلى بابك، ويروى: إلى بابه على الغائب.

(٦٣٤) الندى: الجود، والسرى: السير ليلًا، و«هبوا» وما بعدها إلى آخر البيت: حكاية. يقول: إن شيوع نداه يستحث القاعدين عنه على طلبه، فكأنه يناديهم ويقول لهم: استيقظوا من نومكم، واسروا إليه. فقد هلك بجوده البخل. هذا، ويقال: هب الرجل من نومه إذا استيقظ، وهو فعل موضوع لقوة الشيء ونشاطه، فقد قالوا: إن الهباب النشاط ما كان، قال لبيد:

فَلَهَا هِبَاب فِي الزِّمَامِ كَأَنَّهَا صَهْبَاءُ خَفَّ مَعَ الْجَنُوبِ جَهَامُهَا

(الهباب: النشاط. وصهباء: يريد كأنها سحابة صهباء؛ أي حمراء. وخف أسرع. والجهام، السحاب الذي لا ماء فيه؛ أي لهذه الناقة في مثل هذه الحال نشاط في السير، فكأنها في سرعة سيرها سحابة حمراء قد ذهبت الجنوب بقطعها التي هراقت ماءها فانفردت عنها، وتلك أسرع ذهابًا من غيرها.)

ومنه هب النائم؛ لأنه يزايل السكون، وهبت الريح إذا جاءت بعد سكون، وهب التيس هاج، وأراد السفاد، وهب السيف: إذا اهتز للقطع.

(٦٣٥) حالت: اعترضت. يقول: إن عطاياه لم تدع مجالًا للوعد؛ لأنه يعطيها معجلة ومن ثم لا يعزى إليه إنجاز ولا مطل؛ لأنه إذا لم يكن ثم وعد لم يكن هناك إنجاز ولا مطل، كما قال أشجع السلمي:

يَسْبِقُ الْوَعْدَ بِالنَّوَالِ كَمَا يَسـْ ـبقُ بَرْقَ الْغيُوثِ صَوْبُ الْغَمَامِ

هذا، ويقال: نجزت الحاجة إذا قضيت، وإنجازكها: قضاؤها. ونجز حاجته ينجزها — بالضم — نجزًا: قضاها ونجز الوعد. ويقال: أنجز حر ما وعد. ومن أمثالهم: إذا أردت المحاجزة فقبل المناجزة، يضرب لمن يطلب الصلح بعد القتال (تناجز القوم: تسافكوا دماءهم، كأنهم أسرعوا في ذلك.) وكل ذلك من نجز الشيء: فني وذهب فهو ناجز.

قال النابغة الذبياني:

وَكُنْتَ رَبِيعًا لِلْيَتَامَى وَعِصْمَةً فَمُلْكُ أَبِي قَابُوسٍ أَضْحَى وَقَدْ نَجَزْ

(أبو قابوس: كنية النعمان بن المنذر. يقول: كنت لليتامى في إحسانك إليهم بمنزلة الربيع الذي به عيش الناس. والعصمة: ما يعتصم به الإنسان من الهلاك، ونجز: فني وذهب، أي انقضى وقت الضحى؛ لأنه مات في ذلك الوقت.)

(٦٣٦) يقول: إن عطاياه لا يقدر أحد على تحديدها؛ أي أن يجعل لها حدًّا تنتهي إليه، كما لا يقدر أحد على رد ما فات، بل رد الفائت أقرب من تحديدها، وأيسر من إحصائها إحصاء المطر والرمل وهما لا يحصيان.

(٦٣٧) ما تنقم: ما تعيب، والاستفهام: معناه الإنكار، ويجوز أن يكون نفيًا وإخبارًا. والضمير في وجوهها: للأيام. وفي أخمصه: للممدوح. والأخمص: باطن القدم، ووجوهها: مبتدأ، ونعل: خبر، لأخمصه: متعلق بنعل. يقول: إنه غلب الأيام بعزه، وذلت له الأيام ذل من يطؤه بأخمصه حتى يصير تحت رجله كالنعل في الذل فالأيام لا تقدر أن تخالفه أو تعيب فعله.

(٦٣٨) عزه: غلبه وأعجزه. وقوله: «وإن عز» أي قل وجوده. يقول: إنه لا يعجزه أمر يحاوله وإن قل وجوده إلا أن يكون ذلك الأمر المراد وجدان نظير له فإنه يعجز عنه لعدم نظيره، وهذا كما يقول البحتري:

كُلُّ الَّذِي تَبْغِي الرِّجَالُ تُصِيبُهُ حَتَّى تُبَغِّي أَنْ يُرَى شَروَاه

«شرواه: أي مثله.» ويقول أيضًا:

وَلَئِنْ طَلَبْتُ شَبِيهَهُ إِنِّي إِذن لَمُكَلِّف طَلَب الْمُحَالِ رِكَابِي

(٦٣٩) ثعل: بطن من طيئ، وهم رهط الممدوح، وهو مفعول كفى، وفخرًا تمييز، وأنك منهم: فاعل كفى. والباء زائدة، مثلها في قوله تعالى: وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا. يقول: كفاهم فخرًا أنك منهم. وارتفع دهر بفعل مضمر دل عليه أول الكلام، كأنه قال: وليفخر دهر أهل لأن أمسيت من أهله، فأهل: صفة لدهر. يعني وليفخر دهر قد استحق أن تكون من أهله، ولك أن تجعل «دهر» مبتدأ محذوف الخبر: أي وكذلك دهر، ويجوز رفع دهر عطفًا على فاعل كفى، وهو المصدر المقدر؛ لأن «أن» مع خبرها بمعنى الكون لتعلق منهم باسم الفاعل المقدر الذي هو كائن، تقديره: كفى ثعلًا فخرًا كونك منهم. ودهر مستحق لأن أمسيت من أهله: أي وكفاهم فخرًا دهر أنت فيه أي أنهم فخروا بكونك منهم وفخروا بزمانك لنضارة أيامه، كما يقول تمام:

كَأَنَّ أَيَّامَهُمْ مِنْ حُسْنِهَا جَمعُ

وروى ابن فورجه: ودهرًا عطف على ثعلا، قال: وأهل رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو أهل لن أمسيت من أهله. وبعد فالمعنى: كفى ثعلا فخرًا على سائر العرب كونك منهم، وكذلك الدهر كفاه فخرًا على سائر الأزمنة كونك من أهله.

(٦٤٠) حاولت: طلبت ذلك بالحيلة، وغرة: أي غفلة. يقول: ويل لنفس طلبت منك غفلة وطوبى لعين لا تخلو من إبصارك. وطوبى: فعلى من الطيب، فقولهم: طوبى لفلان أي العيش الطيب له، وقيل طوبى له: حسنى له، وقيل: خير له، وقيل طوبى: اسم الجنة بالهندية، وقيل بالحبشية. وويل، قال الجوهري: «ويل» كلمة عذاب، وويح: كلمة رحمة، وقيل: هما بمعنى واحد، وهما مرفوعان بالابتداء، يقال: ويل لزيد وويح لزيد، ولك أن تقول ويلًا لزيد وويحًا لزيد، فتنصبهما بإضمار فعل، وكأنك قلت: ألزمه الله ويحًا وويلًا ونحو ذلك، وذلك أن تقول: ويحك وويح زيد. وويلك وويل زيد — بالإضافة — فتنصبهما أيضًا بإضمار فعل. وعبارة الزجاج: الويل كلمة تقال لكل من وقع في عذاب أو هلكة. قال: وأصل الويل في اللغة العذاب والهلاك. والويل: الهلاك يدعى به لمن وقع في هلكة يستحقها. ومنه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. فإن وقع في هلكة لم يستحقها، قلت: ويح لزيد، يكون فيه معنى الترحم. ومنه قول سيدنا رسول الله ﷺ: «ويح ابن سمية تقتله الفتة الباغية!»

(٦٤١) شام البرق: نظر إليه وتطلع إلى سحابه يؤمل إمطاره. والفاقة: الحاجة. والصيب: المطر الشديد. والمحل: الجدب. يقول: لا فاقة بفقير يُرجِّي عطاءك؛ لأنك تحقق مرجوه، ولا جدب حيث كنت؛ لأن جودك خصيب حيث كان. وشام برقك: مثل لتوجيه الأمل إليه كما يشام برق السحاب.

(٦٤٢) نكس المريض نكسًا ونكسا ونكاسا: عاودته العلة بعد النقه والبرء. قال أمية بن أبي عائذٍ الهذلي:

خَيَالٌ لِزَيْنَبَ قَدْ هَاجَ لِي نُكَاسًا مِنَ الْحُبِّ بَعْدَ انْدِمَالِ

يقول: إن مواصلة هجر الحبيب لي وهجر وصاله إياي قد أعاداني إلى السقم بعد الصحة، كما يعاد الهلال إلى المحاق بعد تمامه.

(٦٤٣) البلبال: الهم والحزن. يقول: إن جسمه ينقص بالهزال وبمقدار نقصان الجسم تكون زيادة الحزن؛ أي كلما نقص من جسمه شيء زاد بلباله بمقدار ذلك النقص.

(٦٤٤) الدمنة: ما اسودَّ من آثار الديار، والدو: الصحراء. وقوله: من ريا: أي من دمن ريا، «من» بيانية، كقول زهير:

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَة لَمْ تَكَلَّم

يريد: من دمن أم أوفى. وريا: اسم المحبوبة. والخال: شامة، أي بثرة سوداء ينبت حولها الشعر غالبًا، وتكون في الخد، شبه دمنتيها في الصحراء بخالين في خد. يقول: قف بدمنتي هذه المحبوبة لتنظرهما وتذكر من كان فيهما من أهليهما، فقد بقيتا كأنهما خالان في خد.

(٦٤٥) الطلول: ما بقي من آثار الديار، وبطلول: متعلق بقف. والعراص: جمع عرصة؛ ساحة الدار. يقول: قف بطلول لائحات في العراص كما تلوح النجوم في الليالي. يعني أن الطلول الشاخصة الباقية من ديار الأحباب تلوح في عراص خالية كما تلوح النجوم في الليالي المظلمة.

(٦٤٦) النؤي: جمع نؤى، وهو ما يحفر حول الخباء يقيه ماء المطر أن يدخله كالخندق. والخدام: جمع خدمة — بفتحتين — الخلخال. وخرس: يريد لا صوت لها. والسوق: جمع ساق. والخدال: الغلاظ السمان. شبه النؤي حول آثار الأخبية في استدارتها بالخلاخيل حول الأسؤق الغليظة، وإذا غلظت الساق لم يتحرك فيها الخلخال فلم يسمع له صوت، ومن ثم وصف الخلاخيل بالخرس. وهذا إخبار بأن النؤي لم تدفن في التراب، وأن ما أحدقت به ملأها كما تملأ الساق الغليظة الخلخال، وهذا من قول أبي تمام:

أَثَافٍ كَالْخُدُودِ لُطِمْنَ حُزْنًا وَنُؤْيٌ مِثْلُ مَا انْقَصَمَ السِّوَارُ

فنقل اللفظ من السوار إلى الخدام، وأصله من قول الأول:

نُؤْيٌ كَمَا نَقَصَ الْهِلَالَ مِحَاقَهُ أَوْ مِثْلُ مَا قَصَمَ السِّوَارَ الْمِعْصَمُ

(٦٤٧) فيها: في المحبوبة، أي في هواها، متعلق بتلمني؛ أي لا تلمني في هواها فإنني أعشق العشاق وإن كنت أنت أعذل العذال.

(٦٤٨) النوى: البعد والفراق، وعنى بالحية نفسه، والحية تطلق على الذكر والأنثى، يريد: أنه قد تمرس بحرِّ الفلوات في النهار وببرد الليل، والليل ظل كله، يعني أنه تعود السير في الحر والبرد فلا تؤثر فيه الأسفار، قال الواحدي: وهذا شكاية من الفراق وأنه مبتلًى به.

(٦٤٩) أمضى: أنفذ. والروع: الفزع والهول. وأسرى: من السرى، وهو السير ليلًا. شبه نفسه بملك الموت؛ لأنه يخوض غمار الحروب لأخذ الأرواح من غير خوف، والخيال يوصف بالسرى ولا يكترث لبعد المسافات.

(٦٥٠) الحتف: الهلاك. واللام الداخلة عليه للتقوية متعلقة بمحب، ويدنو: صفة لحتف، ومحب: عطف على أمضى — في البيت السابق — والقالي: المبغض يقول: إنه محب للحتف القريب إذا كان في العز، ومبغض للعمر في الذل وإن طال ذلك العمر، يعني أن الموت في العز أحب إليه من الحياة في الذل.

(٦٥١) الركب: جمع الراكب. وقوله: ملجن: أراد من الجن، فحذف النون لسكونها وسكون اللام من الجن، وهذا كقولهم: بلعنبر في «بني العنبر»، وبلقين في بني القين. والزي: الهيئة. يقول: إنهم كالجن في إلفه المجاهل والفلوات وركائبهم كالطير في سرعة قطع المسافات. وهذا من قول أبي تمام:

فِي ثُبَةٍ إِنْ سَرَوْا فَجِنُّ أَوْ يَمَّمُوا شُقَّة فَطَيْرُ

«الثبة: الجماعة. والشقة: السفر البعيد.»

(٦٥٢) الجديل: فحل كريم كانت العرب تنسب إليه الإبل. والبيد: الصحراوات. يقول: إن هذه الجمال التي هي كالطير في السرعة من بنات هذا الفحل الكريم تقطع بنا المفاوز قطع الأيام للآجال حتى تفنيها. وهذا من قول صريع الغوني:

مُوفٍ عَلَى مُهَج وَالْيَوْمَ ذُو رَهَجٍ كَأَنَّهُ أَجلٌ يَسْعَى إِلَى أَمَلِ

(٦٥٣) الهوجاء: الناقة التي لا تستوي في سيرها لنشاطها وخفتها كالريح الهوجاء. والدياميم: جمع ديمومة، وهي المفازة لا ماء بها. والسليط: الزيت. والذبال: جمع ذبالة وهي الفتيلة. يقول: كل ناقة قد أثرت فيها الفلوات تأثير النار في دهن الفتيلة، والمعنى: قد أفناها السير كما تفني النار دهن الفتيلة. وعبارة بعض الشراح: إن المفاوز قد ألهبتها بالظمأ والحر فأثرت فيها أثر النار في دهن الفتيلة.

(٦٥٤) عامدات: قاصدات. والضرغامة: الأسد؛ شبه الممدوح بالبدر في الحسن والشرف والعلو، وبالبحر في الجود والكرم، وبالأسد في البأس والشجاعة، ثم قال: إنه مفضال أي كثير الفضل.

(٦٥٥) وربيعًا: عطف على مفعول يزر — في البيت السابق — جعل الممدوح ربيعًا؛ وهو الزمن المعروف ويطلق على الخصب، وجعل عطاءه غيثًا — مطرًا — لذلك الربيع، وجعل شكر الشاكرين زهرًا يضاحك الغيث؛ لأن الزهر إنما يتفتح ويحسن بعد مجيء الغيث كالشكر يكون بعد العطاء، ثم استعار لمعاليه رياضًا لتجانس الألفاظ، وكأن هذا الزهر قد طلع من رياض معاليه؛ لأنه لولا كرمه وحبه للجود ما أثنى عليه الشاكرون. يقول: إن جوده يمطر على السائلين فتبتسم له ثغور الثناء ابتسام الزهر بعد المطر.

(٦٥٦) نفحت الريح: هبت أو نسمت، ونفح الرياح: هبوبها في البرد. واللفح: هبوبها في الحر، ونفح المسك ينفح: فاحت ريحه. والصبا: ريح مهبها جهة الشرق. وقوله منه: أي من الربيع المذكور. لما شبه الممدوح بالربيع شبه ما انتشر من ذكر مكارمه بالنسيم الذي يهب في الربيع. يقول: هبت علينا نسمة من أخبار كرمه أحيت ما مات من آمالنا.

(٦٥٧) الموالي: جمع مولى، وهو الحليف والصديق، والبوار: الهلاك.

(٦٥٨) عنده أي في رأيه واعتقاده، والرئبال: الأسد. يقول: هو يرى أن أكبر العيوب: البخل، ومن ثم يتجنبه ويتحاماه، وإذا شبهه أحد بالأسد كان ذلك كالطعن عليه؛ لأن الأسد دونه بأسًا وإقدامًا. وقال العكبري — تفسيرًا لصدر البيت — أكبر عيب يعيب به أحدًا عنده البخل لأنه كريم فلا يحب بخيلًا، فإذا عاب إنسانًا قال: هو بخيل. هذا، والرئبال مهموز — وقد سمع مخففًا، والجمع: الرآبيل والريابيل — على الهمز وتركه. قال بعضهم: يجوز فيه ترك الهمز، وأنشد لجرير:

رَيَابِيلُ الْبِلَادِ يَخَفْنَ مِنِّي وَحَيَّة أَريحَاءَ لِي اسْتَجَابَا

(أريحاء: بيت المقدس.)

ومثله لأبي حية النميري:

وَيَلْقَى كَمَا كُنَّا يَدًا فِي قِتَالِنَا رَيَابِيلَ مَا فِينَا كَهَامٌ وَلَا نِكْسُ

ويقال: فلان يترأبل: أي يغير على الناس ويفعل فعل الأسد.

(٦٥٩) النغمات: جمع نغمة، وهي هنا الصوت. والسيب: العطاء. يقول: عادته أن يعطي بغير سؤال فإن سبقت عطاءه نغمة من سائل بلغ ذلك منه مبلغ الجراحة من المجروح؛ أسفًا على أن عطاءه تأخر حتى أتى بطلبه. يعني أنه يشق عليه نغمة السائل قبل الإعطاء. ويحكى أن الحسن بن علي عليهما السلام أتاه مال من معاوية، فقسمه فلم يبقَ إلا خمسمائة دينار، فأراد أن يقوم بها من مجلسه، فالتفت وإذا أعرابي قد جاء على ناقة له، فقال الحسن لغلامه: ادفع إليه هذه الدنانير، وقل له: إنك أتيت ولم يبقَ عندنا سواها. فأخذها الأعرابي وقال له: يا ابن بنت رسول الله! والله ما أتيتك إلا قاصدًا، فماذا أعلمك بحالي؟ فقال له: إنَّا أناس نعطي قبل السؤال شحًّا على ما رجاه السائل لنا، ثم أنشد:

نَحْنُ أُنَاسٌ جَنَابُنَا خَضِلٌ يُسْرِعُ فِيهِ الرَّجَاءُ وَالْأَمَلُ

نَبْذُلُ قَبْلَ السُّؤْلِ نَائِلَنَا شُحًّا عَلَى مَا رَجَاهُ مَنْ يَسَلُ

ومثل هذا المعنى قول مروان بن أبي حفصة يرثي معن بن زائدة:

ثَوَى مَنْ كَانَ يَحْمِلُ كُلَّ ثِقلٍ وَيَسْبِقُ فَيْضُ رَاحَتِهِ السُّؤَالَا

وقال الخطيب التبريزي: المعنى: يلتذ بنغمات السائل كما يلتذ الجراح (لعل الإمام التبريزي يريد كما يلتذ بالجراحات التي تصيبه في الوغى: أي أنه كريم شجاع). وقد روى اليازجي هذا البيت هكذا:

وَالْجِرَاحَاتُ عِنْدَهُ نِعمَاتٌ سُبِقَتْ قَبْلَ سَيْبِهِ بِسُؤَالِ

وشرحه هكذا: يجوز في «نعمات» كسر العين على الإتباع، وفتحها للتخفيف أو على أنها جمع نعم، فتكون جمع الجمع. وبسؤال: متعلقة بسبقت. يريد: أن عادته سبق عطائه للسؤال، فإذا سبق السؤال عطاءه كان ذلك مؤلمًا له كالجراحة عند المجروح.

(٦٦٠) جعله سراجًا منيرًا؛ لأنه برأيه يهتدى في مشكلات الخطوب ودجنات الأمور، أو بعلمه يهتدى إلى ما أشكل من المسائل، والجيب: ما انفتح من القميص على النحر، والنقي الجيب: عبارة عن الطاهر من العيب؛ أي أن ثوبه لا يشتمل على دنس. والأبدال: العباد الزهاد؛ سموا بذلك لأنهم أبدال من الأنبياء في إجابة دعواتهم ونصحهم للخلق، وقيل: لأنه إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر.

(٦٦١) النضح: الرش. والبوائق: جمع بائقة، وهي الداهية. والزلزال — بفتح الزاي — الاسم، وبكسرها: المصدر. يقول — مخاطبًا صاحبيه: رشا الماء الذي يسيل من رجله إذا توضأ على المدائن تصر آمنة من الزلزال ببركة صلاحه.

(٦٦٢) البقير: قميص يشق بلا كمين، وهو بيان للثوب. والإعلال: مصدر أعله الله إذا أصابه بعلة، وهي المرض. يقول: واستشفيا بثوبه تبركًا به حتى تشفيا مما بكما من الإعلال.

(٦٦٣) مالئًا: حال مضمرة العامل، أي هو موصوف بما ذكر حالة كونه قد ملأ الأرض من عطائه وملأ القلوب من خوفه.

(٦٦٤) يقول: إنه زاهد في الدنيا لحقارتها ولو شاء ضمها إليه كلها فملكها.

(٦٦٥) الظبا: جمع ظبة، حد السيف. والعوالي: الرماح. يقول: نفسه لشجاعته وقوته تقوم مقام الجيش، وتدبيره بإصابته في الرأي يكفل له النصر، وهيبته إذا نظر تقوم مقام السيوف والرماح.

(٦٦٦) قال الواحدي: يعني أنه يفرق ماله بالعطاء فإذا فني المال أتى أعداءه فضرب جماجمهم وأغار على أموالهم، كما يقال: هو مفيد ومتلاف، فوقع ضربه في رءوس أمواله يكون في الحقيقة في رءوس الأبطال؛ لأنه لو لم يفرق ماله ما عاد إلى قتالهم واستباحة أموالهم، وهذا كقوله:

فَالسِّلْمُ يَكْسِرُ مِنْ جَنَاحَيْ مَالِهِ بِنَوَالِهِ مَا تَجْبُرُ الْهَيْجَاءُ

(٦٦٧) يقول: هم أبدًا يخافونه حتى كأنهم في يوم حرب لشدة خوفهم وليس الوقت يوم حرب. وقال ابن جني: أي فهم الدهر يتقونه لإعماله رأيه ومضائه فيهم، وإن لم يباشرهم بحرب ولا لقاء.

(٦٦٨) العنبر الورد: الذي يضرب لونه إلى الحمرة. والصلصال: الطين اليابس الذي يعمل منه الفخار. يقول: إنه لنقائه وطهارته خلق من العنبر وسائر الناس خلقوا من طين صلصال، وشتان ما بينهما.

(٦٦٩) الماء الزلال: البارد السائغ. يقول: إن الماء إنما استفاد العذوبة منه؛ لأن ما بقي طينته التي خلق منها اجتمع مع الماء فصار عذبًا.

(٦٧٠) عاف الشيء: كرهه. والركانة: الرسوخ والسكون. يقول: وإن ما بقي مما أعطى من الحلم والرزانة كره وأنف أن يحل في الناس فحل في الجبال فأفادت بذلك ثباتها وركانتها.

(٦٧١) يغره: يخدعه. والسلم: ضد الحرب، وترى: من الرأي. والشهود: مصدر بمعنى الحضور. وتتمة المعنى في البيت التالي.

(٦٧٢) الإشارة بقوله ذاك: إلى القتال، وكفاكه: أغناك عنه. والشاني: هو الشانئ — بالهمز — أي المبغض. وذليلًا: حال، والأشكال: الأشباه والأمثال. يقول: لا يغرني ما أراه من محبتك السلم وأنك لا ترى حضور القتال، فأقول إن ذلك من الجبن؛ وإنما كفاك القتال وأغناك عنه أن من عاداك قد ذل، وأن ليس هناك أكفاء لك يستحقون أن تنازلهم في حرب.

(٦٧٣) واغتفار: عطف على فاعل كفاكه و«من» في منه زائدة؛ أي لو غيره السخط والهام: الرءوس، والكناية في هامهم تعود إلى الأعداء، دل عليه قوله: عيش شانيك. يقول: وكفاك القتال عفوك وتجاوزك ولو غير السخط ذلك الاغتفار والعفو لدست رءوسهم بحوافر خيلك حتى تصير هامهم نعالًا لنعالها. وقال ابن جني: لو أحفظوك وحملوك على ترك الاغتفار لأهلكتهم، ولقد أحسن في كنايته عن الحفيظة بقوله: لو غير السخط منه، ومثله:

وَلَوْ ضَرَّ خَلْقًا قَبْلَهُ مَا يَسُرُّهُ لَأَثَّرَ فِيهِ بَأْسُهُ وَالتَّكَرُّمُ

كنى عن الضرر بأثر فيه.

(٦٧٤) الجياد: متعلق بمحذوف حال من نعال — في البيت السابق — ففيه تضمين، وقد عابه عليه قوم. والأعراء: جمع عري، وهو الذي لا سرج عليه. يقال: فرس عري وأفراس أعراء. والجِلال: جمع جل، وهو ما تلبسه الدابة. يقول: إنها تدخل الحرب أعراء من الجِلال ثم تخرج منها وعليها جِلال من الدم الذي جف عليها، كما قال جرير:

وَتُنْكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَلْوَانَ خَيْلِنَا مِنَ الطَّعْنِ حَتَّى تَحْسَبَ الْجونَ أَشْقَرَا

(٦٧٥) استعار: معطوف على جواب «لو»، والمراد بالحديد: السيوف. والذوائب: جمع ذؤابة؛ الخصلة من الشعر. يقول: إن سيوفه تستعير وتعير فإن لون الذوائب — وهو السواد ينتقل إليها، وذلك أن الدماء إذا جفت عليها اسودت، ولونها — وهو البياض — ينتقل إلى الذوائب فإنها بالروع تشيب الأطفال.

(٦٧٦) الطور: التارة، ونصب على الظرفية. والناقع من السم: الثابت في بدن شاربه لا يزايله حتى يقتله. والسلسال: الماء العذب الذي يتسلسل في الحلق، يقول: أنت سم لأعدائك حلو لأوليائك، وهذا المعنى طرقه كثير من الشعراء، قال أبو دؤاد:

فَهُمُ لِلْمُلَايِنِينَ أَنَاةٌ وَعُرَام إِذَا يُرَامُ الْعُرَامُ

وقال أبو نواس:

حَذَر امْرِئٍ نُصِرَتْ يَدَاهُ عَلَى الْعِدَا كَالدَّهْرِ فِيهِ شَرَاسَةٌ وَليانُ

ونقله أبو الشيص إلى السيف، قال:

وَكَالسَيْفِ إِنْ لَايَنْتَهُ لَانَ متْنُهُ وَحَدَّاهُ إِنْ خَاشَنْتَهُ خَشِنَانِ

(٦٧٧) يقول: أنت الناس فإذا غبت عن موضع غاب عنه الناس.

(٦٧٨) ومنزل: أي ورب منزل. والغاديات: السحائب المنتشرة صباحًا. والهطل: جمع هاطلة، وهي الكثيرة الماء، يقول: رب منزل نزلناه ليس لنا بمنزل على الحقيقة؛ لأنا نرتحل عنه وليس بمنزل لشيء غير السحاب الباكرة الماطرة، يعني روضًا نزلوه. وقد أسلفنا القول على واو «رب» في هذا الشرح.

(٦٧٩) الندي: الرطب. والخزامى والقرنفل: نبتان طيبان. والأذفر: الذكي الرائحة. والمحلل: الذي يحل كثيرًا. وقوله ملوحش: أي من الوحش، فحذف النون لسكونها وسكون اللام. يقول: يحله الوحش دون الناس فهو محلل من الوحش غير محلل من الإنس. قال الجوهري: مكان محلل؛ إذا أكثر الناس به الحلول، قال امرؤ القيس:

كَبِكْرِ الْمقَانَاةِ الْبَيَاضِ بِصُفْرَةٍ غَذَاهَا نمير الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ

(أراد بقوله: «بكر المقاناة» درة غير مثقوبة أو لم يرَ مثلها، ثم قال: غذا هذه الدرة ماء غير عذب لم يكثر حلول الناس عليه فيكدره ذلك. والمقاناة: الخلط، وكل شيء خالط شيئًا فقد قاناه. ويروى البيت بنصب البياض وخفضه، على حد قولهم: زيد الحسن الوجه. في البيت آراء كثيرة في معناه «انظر: «الزوزني» و«اللسان»، مادة: قنى».)

(٦٨٠) عنَّ: ظهر. والمراعي. الذي يرعى مع غيره. يقال: راعت الظبية أختها؛ أي راعت معها. والمغزل: الظبية لها ولد. والمحين: من الحين، وهو الهلاك، يقال: حينه الله؛ أي أهلكه. والموئل: المنجا. يقول: ظهر لنا في هذا الموضع ظبي يرعى مع ظبية مغزل قد حان أجله، وفاته موضع ينجو إليه من صيدنا لأننا ندركه حيثما ذهب.

(٦٨١) الجيد: العنق. والحلي بضم فكسر وبكسرتين وأصله بتشديد الياء، مخفف للقافية؛ جمع حَلْي بفتح فسكون، ما تتزين به المرأة من ذهب وفضة وجوهر. والتفضل: أن تلبس المرأة ثوبًا يبتذل في المنزل، ومنه قول امرئ القيس:

وَتُضْحِي فتيتُ الْمِسْكِ فَوْقَ فِرَاشِهَا نَئومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

(لم تنتطق عن تفضل: أي لم تنتطق بعد تفضل؛ أي لم تشد وسطها بنطاق بعد لبسها ثوب المهنة، يريد أنها مخدومة منعمة، تُخدم ولا تَخدم.)

وفي حديث امرأة أبي حذيفة، قالت يا رسول الله: إن سالم مولى أبي حذيفة يراني فضلًا — أي متبذلة في ثياب مهنتي — وليس لنا إلا بيت واحد، فما تأمرني في شأنه؟ فقال: «أرضعيه خمس رضعات.» يقول: أغنى هذا الظبي حسن جيده عن أن يلبس حليًا يتزين بها وقد تعود العري فاستغنى بهذا عن اتخاذ اللباس.

(٦٨٢) ضمخه بالطيب: طلاه به، والصندل: طيب يشبه لونه لون الظباء، ومعترضًا: حال مضمرة العامل؛ أي أصفه بما ذكر في حال كونه معترضًا، والأيل: الذكر من الأوعال، وفيه ثلاث لغات أيل وإيل وأيل، والجمع أياييل، وربما قالوا في إيل: «إجل» يبدلون الياء جيمًا، قال أبو النجم:

كَأَنَّ فِي أَذْنَابِهِنَّ الشوَّل مِنْ عَبسِ الصَّيْفِ قُرُون الأجلِ

(العبس: ما يبس على هلب الذنب من البول والبعر.)

قال أبو عمرو بن العلاء: بعض الأعراب يجعل الياء المشددة جيمًا. ويروى: قرون الإيل. شبه المتنبي لونه بلون الصندل، يقول: اعترض لنا بقرن طويل كقرن الأيل.

(٦٨٣) الكلاب: الذي يسوس الكلاب. والوثاق: ما يشد به. والأحبل: جمع حبل. يقول: إنه لسرعته لا يتمكن الكلب من النظر إليه فلا يستطيع تأمله، فيحل الكلاب ما كان يشد به الكلب ويطلقه عليه.

(٦٨٤) عن أشدق: متعلق ﺑ «حل»، أي حل الأحبل عن كلب أشدق، والأشدق: الواسع الشدق. والمسوجر: الذي في رقبته ساجور، وهو قلادة الكلب التي فيها مسامير. والمسلسل: الذي في عنقه سلسلة. والأقب: الضامر. الساطي: الذي يسطو على الصيد؛ أي يصول عليه. وقال ابن جني: هو البعيد الأخذ في الأرض. والشرس: السيئ الخلق. الشمردل: القوي السريع الفتي الحسن الخلق. يقول: إنه حل الأحبل عن كلب بهذه الأوصاف.

(٦٨٥) الضمير في «منها» للكلاب المفهومة من قوله كلابي؛ أي صاحب كلابي. وقوله: إذا يثغ: من الثغاء، وهو صوت الشاة ونحوها. ولا يغزل: أي لا يفتر عن الطلب. وذلك أن الكلب إذا دنا من الظبي وكاد يأخذه: ثغا في وجهه فغزل الكلب — أي تحير — ووقف مكانه من صوت الغزال، وجزم الفعلين — يثغ ويغزل — بإذا على تضمنها معنى الشرط، وهو من التجوزات الخاصة بالشعر. يقول: إن هذا الكلب، لا يفرَق من صوت الغزال ولا يفتر عنه إذا ثغا، ثم قال: موجد الفقرة رخو المفصل، فالموجد: الموثق القوي. والفقرة: بكسر الفاء وفتحها — ومثلها الفقارة — بالفتح: واحدة فقار الظهر، وهو ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب، والجمع فقر وفقار، وقيل في الجمع: فقرات وفقرات وفقرات. يعني أنه قوي الظهر لين المفاصل وذلك أسرع لأخذه.

(٦٨٦) السجنجل: المرآة. يقول: إنه يرى ما أدبر عنه كما يرى ما أقبل عليه؛ وذلك لسرعة التفاته وشدة تيقظه، وقد شبه صفاء حدقته بالمرآة. ويروى: في سجنجل؛ أي كأن أمامه مرآة ينظر فيها فتريه ما خلفه أمامه.

(٦٨٧) يعدو: يجري. وأحزن: سلك في الحزن؛ أي الوعر. وأسهل: سلك في السهل. وتلا: تبع. والمدى: الغاية. يقول: إنه يعدو في الحزن من الأرض عدو الذي هو في السهل لقوة قوائمه، وإذا تبع سائر الكلاب في طلب صيد بلغ الغاية التي يريدها، وقد تقدم الكلاب فصارت خلفه فصار متلوًّا بعد أن كان تاليًا.

(٦٨٨) الإقعاء: أن يجلس الكلب على إليته، والبدوي إذا اصطلى بالنار — استدفأ بها — أقعى على استه ونصب ركبتيه لتصل الحرارة إلى بطنه وصدره. وجلوس مفعول مطلق معنوي، وقوله: بأربع مجدولة لم تجدل؛ أي بأربع قوائم. والحرف: متعلق ﺑ «يُقعي». والمجدولة: المفتولة، يريد بقوائم محكمة الخلق لم يجدلها أحد، وإنما هي كذلك خلقة.

(٦٨٩) فتل الأيادي: صفة لأربع، يقال: يد فتلاء إذا تباعدت عن الصدر فلم يمسها عند العدو، وذكر يديه بلفظ الجمع، وكذلك الأرجل، والعرب تفعل مثل ذلك في التثنية. هذا، والأيادي أكثر ما تستعملها العرب في النعم، يقولون: لفلان عندي يد وأياد. والربذات: الخفيفات السريعات. والجندل: الصخر. يقول: إن قوائمه مفتولة سريعة في العدو شديدة الوطء لقوتها، وإذا وطئت الصخر أثرت فيه آثارًا مثل صورتها. هذا، وقد قالوا: إن الكلب لا يوصف بثقل الوطء، وإنما جاء هذا في الخيل والإبل، فنقله المتنبي إلى الكلب.

(٦٩٠) التفتل: كالانفتال، والمتن: جانب الظهر عند الصلب، والكلكل: الصدر. يقول: لسرعته ولين أعطافه إذا انفتل للوثوب على الصيد يلتوي بعضه على بعض حتى يكاد يجتمع صدره وظهره في آن واحد.

(٦٩١) الوسمي: أول المطر، والولي: ما يليه. والحضار: العدو الشديد، مصدر حاضره إذا جاراه في الحضر وهو العدو. وبين أعلاه: خبر مقدم، وشبيه: مبتدأ مؤخر، ويريد بأعلاه: رأسه، وبأسفله: قوائمه، كنى بما بينهما عن جسمه، وشبه تتابع حركته في الوثوب بتتابع المطر بعد المطر. يقول: إن عدوه الثاني في القوة والسرعة كعدوه الأول، يعني أنه لا يعيا ولا يفتر.

(٦٩٢) المضبر: المشدود المحكم الخلق ومثله الموثق. والجرول: الحجر، ومنه سمي الحطيئة جرولًا، كما سموا حجرًا وصخرًا: يقول كأنه قد خلق من الحجارة لقوته واجتماعه، وعنى بالرماح الذبل قوائمه اللينة.

(٦٩٣) الأجرد: القليل الشعر، وهكذا تكون كلاب الصيد. والأعزل الذي لا يكون ذنبه على استواء مع فقاره، وذلك عيب في الكلاب والخيل، وإذا لم يكن أعزل كان أشد لمتنه، ثم قال: إن آثار ذنبه في الأرض كآثار الكاتب إذا كتب حساب الجمَّل، وحساب الجمل معروف. قال العكبري: لأنه يحكي حروفًا غير حروف الكتابة يعلم بها العشور والمئين والألوف وهو خط قبطي. وذي ذنب: بدل من قوله: أشدق.

(٦٩٤) يقول: كأن ذنبه منفصل عن جسمه لكثرة تلويه وحركته، وهو على ذلك لا تبليه كثرة تحريكه إياه، كما أن السوط يكثر تحريكه ولا يبليه هذا التحريك. وقد ذهب ابن جني إلى أن المعنى أنه — الكلب — من سرعته وحدته يكاد يترك جسمه ويتميز عنه، قال: وقد لاذ في هذا بقول ذي الرمة إلا أنه تجاوزه:

لَا يَذْخَرَانِ مِنَ الْأيغَالِ بَاقِيَةً حَتَّى تَكَادَ تفرَّى عَنْهُمَا الْأهُبُ

وبقول أبي نواس:

تَرَاهُ فِي الْحُضْرِ إِذَا هَاهِيَ بِهِ يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِهَابِهِ

(هاهي به: زجره. والضمير: لكلابه. والإهاب: الجلد.)

فهذان ذكرا الإهاب — الجلد — وهو ذكر جميع الجسد، قال ابن جني: وقوله: لو كان يُبلي … إلخ: أي هو كالسوط في الصلابة والجدل، فلا يؤثر فيه العدو كما لا يؤثر في السوط التحريك.

(٦٩٥) نيل المنى: أي به نيل المنى، أو هو نيل المنى: أي به ينال الصائد مناه، والذي يرسله على الصيد يدرك به حكم نفسه، والعقلة: ما يعقل به الشيء من قيد ونحوه. والحتف: الهلاك. والتتفل: ولد الثعلب. يقول: إنه يدرك الظبي فيمنعه عن الإفلات. وهو من قول امرئ القيس:

بِمُنْجَرِدٍ قيدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ

ثم قال: ويدرك ولد الثعلب فيهلكه.

(٦٩٦) فانبريا: أي الكلب والظبي؛ أي اعترضا للناظرين في عدوهما فذين: أي فردين. يريد أنه لم يكن مع الكلب كلب آخر ولا مع الظبي ظبي آخر وعنى بالقسطل: الغبار الذي ثار من عدوهما. وعنى بالآخر: الكلب. وبالأول: الظبي؛ لأنه كان سابقًا بالعدو فرارًا من الكلب. وضمان الكلب شدة حرصه وعدوه خلفه، فجعل ذلك ضمانًا منه.

(٦٩٧) الهبوة: الغبرة. ويقال: ما ألوت في كذا وما ائتليت وما أليت؛ أي ما قصرت. والذهول: الغفلة عن الشيء، و«لا» في «أن لا يأتلي» زائدة، وهي تزاد في مواضع كثيرة للعلم بها، كما في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، والتقدير: ليعلم. وقال الراجز:

في بئر لا حور سرى وما شعر

(من أرجوزة طويلة للعجاج يمدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان قد وجهه لقتال أبي فديك الحروري، فأوقع به وبأصحابه، ومطلعها:

قَدْ جَبَرَ الدينَ الْإِلَهُ فَجَبَرْ وَعَوَّرَ الرَّحْمَنُ مَنْ وَلَّى الْعَوَر

إلى أن قال:

وَاخْتَارَ فِي الدِّينِ الْحَرُورِيِّ الْبَطرْ فِي بِئْرٍ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ

بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ

قوله: وعور الرحمن … إلخ: أي أفسد الله من ولاه الفساد. والحروري: أراد به أبا فديك الخارجي. وقوله: بإفكه: الباء سببية متعلقة بسرى. والإفك: الكذب. وجشر الصبح: انفلق وأضاء.

أي في بئر حور. و«لا» زائدة. والحور: الهلكة. يقول: كل واحد من الكلب والظبي لم يشتغل عن صاحبه، فالظبي مجد في الهرب، والكلب مجد في الطلب ولا يقصر الكلب في ترك التقصير، وإذا لم يقصر في ترك التقصير فقد جد.)

(٦٩٨) مقتحمًا: حال من ضمير يأتلي. والاقتحام: الدخول في الأمر الشديد. والجدول: النهر الصغير. يقول: إن هذا الكلب في وثوبه وسرعة عدوه لا يبالي بما يستقبله من هول. فهو يقتحم الهول حتى لو استقبله بحر لظنه جدولًا، فوثب إلى الشط الآخر كما يثب إذا قطع عرض الجدول.

(٦٩٩) افتر: كشر. والمذروبة: الأنياب المحددة. والأنصل: جمع نصل. يقول: حتى إذا دنا الكلب من الصيد، وقيل له — بلسان الحال — أدركت فافعل ما تريد فعله من القبض عليه، كشر عن أنياب محددة كأنها نصال السيوف.

(٧٠٠) لما شبه أنيابه بالنصال قال: إنها لم تصقل ولا عهد لها بالصقل كالسيوف المصنوعة؛ إذ هي محددة مصقولة خلقة، وعنى بالعذاب المنزل خطمه؛ (الخطم من كل دابة نحو الكلب والبعير: مقدم أنفها وفمها.) فإنه كالعذاب المنزل على الصيد لشدة أخذه وهول ما ينال الصيد منه.

(٧٠١) يذبل: جبل في الحجاز. يقول: كأن أنيابه مركبة في ريح الشمال من خفة الكلب وسرعته في العدو، وكأنها من ثقل الكلب على الصيد مركبة في جبل، جعل الكلب في خفة العدو كالريح، وفي ثقله على الصيد كالجبل.

(٧٠٢) الهوجل: المفازة. والمقتل: الموضع الذي إذا أصيب قتل صاحبه. والأكحل: عرق في الذراع من عروق الفصاد. يقول: كأن أنيابه من سعة فمه في صحراء، وكأنه من تمييزه وعلمه بمقاتل الصيد من غيرها علَّم بقراط — وهو الطبيب المعروف — علم التشريح، فصار يعلم المواضع التي يجوز فصدها كعرق الأكحل. وبعبارة أخرى: لما ذكر أنه عالم بالمقاتل لزم منه أن يكون عالمًا بغيرها أيضًا، وإلا لم تتميز له فصار في دعواه عالمًا بتشريح الأعضاء، وما يترتب على شقها من المنفعة أو الأذى، ولما تم له ذلك قال كأن بقراط تعلم منه التشريح، فصار يعلم المواضع التي يجوز فصدها كهذا العرق، هذا هو المعنى، وبذا انتفى نقد الصاحب بن عباد هذا البيت؛ إذ يقول: ليس الأكحل بمقتل؛ لأنه من عروق الفصد، وهو يصف الكلب بالعلم بالمقتل …

(٧٠٣) حال: انقلب. والقفز: الوثوب. والتجدل: السقوط على الجدالة — أي الأرض — والمرجل: القدر. والمراد بما للقفز: قوائمه. وبما في جلده: لحمه. يقول: إن قوائم هذا الظبي التي كانت للوثوب صارت للتمرغ في التراب حين أخذه الكلب وصار لحمه في القدر.

(٧٠٤) ضاره الأمر يضيره: كضره. ومعه: أي مع الكلب. والأجدل: الصقر. يقول: لم يضرنا مع وجود هذا الكلب فقدان الصقر؛ لأنه فعل فعله فأغنانا عنه. ثم قال — مخاطبًا الممدوح: إذا بقيت سالمًا سدت بك الناس كلهم، فيكون الملك بعد الله لي بك.

(٧٠٥) أبعد: تفضيل. والنأي: البعد. و«ما»: نكرة موصوفة بمعنى شيء. يقول: أبعد ما يكون من بعد المليحة بخلها؛ إذ لا يمكن قطع مسافة البخل كمسافة المكان البعيد. ثم قال: في البعد — أي في جملة البعد وأنواعه — ما لا تكلف الإبل قطعه وهو البعد بالبخل؛ لأن الإبل لا تقرب هذا البعد، وفي مثل هذا يقول أبو تمام:

لَا أَظْلِمُ النَّأْيَ قَدْ كَانَتْ خَلَائِقُهَا مِنْ قَبْلِ وَشْكِ النَّوَى عِنْدِي نَوًى قَذَفَا

ويقول أيضًا:

فَفِرَاقٌ جَرَعْتُهُ مِنْ فِرَاقٍ وَفِرَاقٌ جَرَعْتُهُ مِنْ صُدُودِ

ويقول البحتري:

عَلَى أَنَّ هجْرَانَ الْحَبِيبِ هُوَ النَّوَى لَدَيَّ وَعِرْفَانَ الْمُسِيءِ هُوَ الْعَذْلُ

ويقول أيضًا:

دَنَتْ بِأُنَاسٍ عَنْ تَنَاءٍ زِيَارَةٌ وَشَطَّ بِلَيْلَى عَنْ تَدَانٍ مَزَارُهَا

ويقول إبراهيم بن العباس:

وَإِنَّ مُقِيمَاتٍ بِمُنْعَرجِ اللِّوَى لأَقْرَبُ مِنْ ميٍّ وَهَاتيكَ دَارهَا

والأصل في هذا قول المثقب العبدي:

أَفَاطِمُ قَبْلَ بَيْنِكِ مَتِّعِينِي وَمَنْعُك مَا سَأَلْتُ كَأَنْ تَبِينِي

(٧٠٦) ملولة: أي هي ملولة. والتاء فيها: للمبالغة؛ لأنه يقال: رجل ملول وامرأة ملول. و«ما»: مفعول به. و«لها»: خبر ليس مقدم. وملل — آخر البيت — اسمها مؤخر، ومن ملل: متعلق به. يقول: إنها تمل كل شيء يدوم إلا مللها الدائم، فإنها لا تمله، ولو هي ملته لتركته وعادت إلى الوصل. ومن روى تدوم — بالتاء — كانت «ما» للنفي: أي ليست تدوم على حال.

(٧٠٧) انفتلت: تثنت وتمايلت. وطرفها: لحظها. ورجل ثمل: أخذ منه الشراب. يقول: إنها تتمايل في مشيها تمايل السكران، فكأن قدها نظر إلى طرفها فسكر من خمر عينيها كما يسكر منه عاشقوها.

(٧٠٨) وجل: خائف. يقول: إن عجزها — ردفها — ثقيل بكثرة اللحم، فهو يجذبها — إذا همت بالنهوض — إلى القعود فكأن عجزها في ارتعاده واضطرابه — لكثرة لحمه — خائف من فراقها، والخائف يوصف بالارتعاد، وكذلك العجز إذا كثر لحمه، كما قال:

إِذَا مَاسَتْ رَأَيْتُ لَهَا ارْتِجَاجَا

أما تفسير ابن جني للمصراع الثاني بقوله: أي كأن عجزها وجل من فراقها فهو متساقط متجدل قد ذهبت منته وتماسكه: فهو بعيد.

(٧٠٩) إلى ترشفها: أي إلى ترشف فمها؛ أي مص ريقها. يقول: إذا اتصل بي ذلك الشوق انفصل الصبر؛ أي أن صبره يفارقه إذا اتصل به ذلك الشوق. وقد طابق بين الانفصال والاتصال.

(٧١٠) الثغر: مقدم الأسنان. والنحر: أعلى الصدر. والمخلخل: موضع الخلخال من الساق. والمعصم: موضع السوار من اليد. والفاحم: الشديد السواد، يريد به الشعر. والرجل — بفتح فكسر وبفتحتين — الذي بين السبط والجعد. يقول: إنه يحب هذه الأشياء وهذه المواضع من بدنها، وهي داؤه.

(٧١١) ومهمه: أي ورب مهمه — أي فلاة — وجبته: قطعته. والعرامس: النوق الصلاب الشديدة، واحدتها عرمس. والذلل: المذللة بالعمل المروضة بالسير — جمع ذلول — يستوي فيه المذكر والمؤنث. يصف شدة سيره وأنه يجوب الفلاة — التي تعجز عنها النوق الصلاب التي اعتادت السير— على قدمه.

(٧١٢) الصارم: السيف. ومرتد: أي متقلد، خبر مبتدأ محذوف. وكذلك مجتزئ ومشتمل: أي أنا مرتد بصارمي مجتزئ — أي مكتف — بمخبرتي — أي معرفتي — مشتمل بالظلام. يقول: جبت هذا المهمه وأنا متقلد بسيفي مكتف بعلمي وخبرتي فلم أحتج إلى دليل يهديني الطريق، مشتمل بثوب الظلام كما يشتمل الرجل بثوب أو كساء.

(٧١٣) نكر الشيء وأنكره: استغربه، وصديق: فاعل لفعل محذوف يقدر من لازم ما بعده؛ أي إذا تغير صديق عليَّ ونحو ذلك. وأعياه الأمر: أعجزه، ويقال: عي بأمره وعيي: إذا لم يهتدِ لوجهه، والإدغام أكثر، ويقال في الجمع عيوا — مخففًا — وعيوا أيضًا — بالتشديد — وأعياني الأمر، قال عمرو بن حسان من بني الحارث بن همام:

فَإِنَّ الْكُثْرَ أَعْيَانِي قَدِيمًا وَلَمْ أُفْتِرْ لَدُنْ أَنِّي غُلَامُ

(يقول: كنت متوسطًا لم أفتقر فقرًا شديدًا، ولا أمكنني جمع المال الكثير، ويروى: «أعناني»: أي أذلني وأخضعني.)

يقول: إذا تغير صديقي وحال عن مودته وأنكرت عليه أحواله لم تعجزني الحيلة في فراقه، أي فارقته ولم أقم عليه.

(٧١٤) الخافقان: قطرا الهواء، وهما المشرق والمغرب. والمضطرب موضع الاضطراب، وهو الذهاب والمجيء. يقول: الأرض واسعة والبلاد كثيرة، فإذا لم يطب لي موضع تحولت إلى غيره ولم أقيد نفسي بمكان بعينه. وهذا معنى مطروق، قال القائل:

إِذَا تَنَكَّرَ خِلٌّ فَاتَّخِذْ بَدَلًا فَالْأَرْضُ مِنْ تُرْبَةٍ وَالنَّاسُ مِنْ رَجلِ

وقال البحتري:

فَإِذَا مَا تَنَكَّرَتْ لِي بِلَادٌ أَوْ صَدِيقٌ فَإِنَّنِي بِالْخِيَارِ

وقال عبد الصمد بن المعذل:

إِذَا وَطَنٌ رَابَنِي فَكُلُّ بِلَادٍ وَطَنُ

وما أجمل قول بشار بن برد فيما يتصل بهذا المعنى.

إِذَا أَنْكَرَتْنِي بَلْدَةٌ أَوْ نَكِرْتُهَا خَرَجْتُ مَعَ الْبَازِي عَلَيَّ سَوَادُ

(يقول: إذا لم يقدرني أهل بلدة أو لم أعرفهم فارقتهم مصاحبًا للبازي الذي هو أبكر الطيور مشتملًا على بقية من الليل غير منتظر لإسفار الصبح.)

(٧١٥) الاعتمار: الزيارة يقال: أتانا فلان معتمرًا: أي زائرًا، قال أعشى باهلة:

وَجَاشَتِ النَّفْسُ لَمَّا جَاءَ فَلهُمُ وَرَاكِب جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرِ

(قال الأصمعي: معتمر: أي زائر. وقال أبو عبيدة: هو متعمم بالعمامة، وتسمى العمارة.)

ويقال: اعتمر الأمر: أي أمه وقصده. قال العجاج يمدح عمر بن عبيد الله بن معمر القرشي:

لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ مَغْزًى بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَضَبَرْ

تَقَضِّيَ الْبَازِي إِذَا الْبَازِي كَسَرْ

(يقول: ارتفع قدره حين غزا موضعًا بعيدًا من الشام، وجمع لذلك جيشًا، وضبر — أي جمع قوائمه — ليثب. وكسر الطائر: ضم جناحيه حتى ينقض، يريد الوقوع.)

يقول: قصدي إياه يشغلني عن قصد غيره؛ لأني صببت رجائي عليه وعلقت آمالي به، ويروى: اعتماد — بالدال — ومعناه الاعتماد بالسير إليه وتعليق الرجاء به.

(٧١٦) كماله: صفة لمال. ولذوي الحاجات: خبر أصبح. ويسل: أي يسأل — حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى السين — يقول: إن المال المبذول مثل ماله قد صار ملكًا للعفاة يأخذونه متى شاءوا، فلا هو يبتدئهم بالعطا، ولا هم يسألونه، لأنه مالهم لا ماله. ويروى: أصبح مالًا — بالنصب: أي أصبح للناس نافعًا كما أصبح ماله نافعًا لذوي الحاجات، أي أنه ينفعهم بنفسه وماله، فهو لهم مال، وكما أن ماله يؤخذ بلا إذن، كذلك لا يستأذن في الدخول عليه، فكل من ورد عليه أخذ ماله بلا ابتداء ولا مسألة من الوراد.

(٧١٧) الجذل: السرور. يقول: لرجحان لبه ورحابة صدره يستخف بطوارق الدهر وحدثان الأيام علمًا منه أنها لا تُبقي على غم ولا سرور، ومن ثم لا يكون لهما أثر فيه فلا يبطر لدى السرور، ولا يجزع عند الحزن.

(٧١٨) الحمام: الموت. ودنا: قرب. والأجل: منتهى الحياة. يقول: إن الموت طائع أمره، فلو شاء أن يقتل من لم يتم أجله لساعده الموت على ذلك على الرغم من أن فيه تمردًا على المقدور وخرقًا له.

(٧١٩) «ما»: اسم موصول، اسم يكاد. والخبر: ينفعل. وقبل: متعلق بينفعل. يقول: لصحة تقديره ونفاذ عزيمته يكاد فعله يسابقه، فما يفعله ينفعل قبل فعله، وبعبارة أخرى: إنه لسداد رأيه وصحة عزمه تكاد أفعاله تسبق وجودها؛ لأنه لا يعزم على شيء إلا بعد التروي فيه والقطع بقضائه، ولعل هذا ينظر إلى قول القائل:

سَدِكَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ حَتَّى إِنَّهَا لَتَكَادُ تَفْجُؤُهُ بِمَا لَمْ يُقْدرَ

«سدكت به: لزمته.»

(٧٢٠) يقول: إن حقائق الخصال والمعاني التي طبعه الله عليها تعرف بالنظر إلى عينه فكأن ذكاءه وفطنته وحدة ذهنه قد اكتحلت بها عينه، فهي ظاهرة فيها ظهور الكحل. وعبارة بعض الشراح: إن حقائق ما طبع عليه — من حدة الذهن وذكاء النفس — تعرف من نظرة عينه حتى كأن عينه مكتحلة بالذكاء، فهو ظاهر فيها ظهور الكحل.

(٧٢١) الإشفاق: الخوف، والظرف والحرفان متعلقة بأشفق. وأخاف: بدل من أشفق. وأخاف يشتعل: أي أخاف أن يشتعل، فحذف «أن» ورفع الفعل. يقول: إذا اضطرمت فكرته واحتد ذهنه عند التروي أشفقت عليه أن يشتعل بنار فكرته هذه لشدة اتقادها وذكاء حدتها فيصير نارًا متوقدة، كما قال ابن الرومي:

أَخْشَى عَلَيْكَ اضْطِرَامَ الذِّهْنِ لَا حَذَرا

(٧٢٢) أي هو أغر. والأغر: السيد الكريم، وأعداؤه: مبتدأ، خبره: ما بعده، يقول: هو سيد شريف، وأعداؤه إذا سلموا من القتل بهربهم من بين يديه أعظموا فعلهم واستكثروه؛ لأن الهرب من بين يديه شجاعة لهم. وقوله: إذا سلموا بالهرب: إشارة إلى أنهم لا يمكن أن يسلموا مع الثبات.

(٧٢٣) أقبلته وجهي: حولته إليه وجعلته قبالته، والسابحة: الفرس تسبح في جريها. وأربعها: أي قوائمها الأربع. يقول: يستقبلهم بوجه كل فرس تسبق قوائمها طرفها؛ أي تضع قوائمها وراء منتهى بصرها. وهذا من قول أبي نواس:

يَسْبِقُ طَرْفَ الْعَيْنِ فِي الْتِهَابِهِ

«أي في شدة عدوه.» قال ابن جني: أسرف في المبالغة حتى خرج إلى ما يستحيل وقوعه؛ لأن القوائم إذا وصلت قبل الطرف فقد وصف النظر بالضعف.

(٧٢٤) الجرداء: القليلة الشعر، والمجفرة: الواسعة الجنبين. والجفرة: سعتهما. والعسيب: عظم الذنب. والخصل: جمع الخصلة من الشعر. يقول: إنها تملأ الحزام بسعة جنبيها وعظم بطنها وإن شعر ذنبها أطول من عسيبها، ويستحب في الخيل قصر العسيب وطول شعره.

(٧٢٥) التليل: العنق. والكفل: الردف، ويستحب فيهما الإشراف. يقول: إنها مشرفة الكفل عريضة الصدر، فإذا أدبرت منع إشراف كفلها من رؤية عنقها، وإذا أقبلت منع اتساع صدرها من رؤية كفلها. وعبارة الواحدي: من حيث تأملتها وجدتها مشرفة عند إقبالها بعنقها وعند إدبارها بعجزها، كما قال علي بن جبلة:

تَحْسبُهُ أقعدَ فِي اسْتِقْبَالِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَدْبَرْتُه قُلْت أكب

يريد: هذه الفرس من حيث تأملتها رأيتها حسنة في إقبالها وإدبارها.

(٧٢٦) والطعن شزر: جملة حالية؛ أي يقبلهم وجه كل سابحة في هذه الحال، والطعن الشزر: ما كان عن يمين وشمال، وذلك أشد الطعن. وواجفة: مضطربة لشدة الحرب؛ أي ترى أن الأرض تتحرك كأن في قلب الأرض وهلا — أي فزعًا — فهي ترعد من الخوف. ولما وصف الأرض بالحركة من الخوف استعار لها قلبًا. وعبارة بعض الشراح: واجفة؛ أي مضطربة يريد اضطراب الفرسان عليها إقبالًا وإدبارًا حتى كأنها تمور بهم.

(٧٢٧) الضمير في «خدها» للأرض. والخريدة: الحية، شبه وجه الأرض متلطخًا بالدماء بخد الجارية الحيية إذا خجلت فاحمر لونها، واستعار للأرض خدًّا لمشاكلة ما في الشطر الثاني.

(٧٢٨) السح: السكب. والمقل: جمع مقلة، وهي شحمة العين التي تجمع البياض والسواد. يريد أن الخيل — من شدة الطراد وما هي فيه من هول الحرب — قد عرقت، فجعل العرق مثل الدمع، إلا أنه لم ينزل من عيون ولا جفون، ولكنه جارٍ من الجلود.

(٧٢٩) سار: يروى بكسر فتنوين: اسم فاعل من السرى، ويروى بالفتح: فعلًا ماضيًا. والمواكب: الجيوش. والسبسب: الفلاة الواسعة. يقول: قد عم القفار والأماكن الخالية بجيوشه فملأها حتى لم يبقَ قفر. وشبه السبسب بالجبل لكثافة جيوشه وارتفاعها بالخيل والأسلحة والرماح. يعني أن مواكبه تراكمت في السهول على خيولها حتى صارت السهول كالجبال.

(٧٣٠) الأسل: الرماح، يقول: إن رماحهم اشتبكت وتضايق ما بينها حتى لو أصابهم مطر لم ينفذ إليهم من خلال تلك الرماح لشدة اتصالها والتحامها. وأصل هذا المعنى لقيس بن الحطيم:

لَوْ أَنَّكَ تُلْقِى حَنْظَلًا فَوْقَ بَيْضِنَا تَدَحْرَجَ عَنْ ذِي سَامِهِ الْمُتَقَارِبِ

«عن ذي سامه: أي على ذي سامه. والهاء في «سامه» ترجع إلى البيض. يعني البيض المموه بالذهب؛ لأن السام عروق الذهب. يقول قيس: إنهم تراصوا في الحرب حتى لو وقع حنظل على رءوسهم — على إملاسه واستواء أجزائه — لم ينزل إلى الأرض.» ثم قال ابن الرومي:

فَلَوْ حَصْبتهُمْ بِالْفَضَاءِ سَحَابَة لَظَلَّتْ عَلَى هَامَاتِهِمْ تَتَدَحْرَجُ

فنزل عن الحنظل إلى البرد، وبالغ في ذلك ثم نزل المتنبي عن البرد إلى المطر، وهو ألطف منه. ثم أخذ السري الرفاء هذا المعنى فقال:

تَضَايقَ حَتَّى لَوْ جَرَى الْمَاءُ فَوْقَهُ حماهُ ازْدِحَامُ الْبَيْضِ أَنْ يَتَسَرَّبَا

فنقله من المطر إلى الماء.

(٧٣١) ليث الشرى: أسد الشرى. والشرى: مكان يوصف بكثرة الأسود. والحمام: الموت. يقول: أنت بدر في الحسن، بحر في الجود، سحاب في كثرة العطاء، أسد في الشجاعة والبأس، موت للعدو، ورجل في الحقيقة، يعني جمعت هذه الأوصاف وأنت رجل.

(٧٣٢) عندك: صلة تقلبه. وفي كل موضع: صلة مثل. يقول: إن كفك التي تقلبها وأنت في بلدك وتصرفها في العطايا والهبات قد اشتهر ذكرها في كل موضع حتى صارت مثلًا في الجود. ويروى — نقبله — من التقبيل أي نقبله نحن والناس أجمعون، والرواية الأولى أجود. هذا، والبنان: الأصابع، وقيل: أطرافها. والبنان: لغة فيها. قال عمر بن أبي ربيعة:

فَقَالَتْ وَعَضَّتْ بِالْبنان فَضَحْتَنِي

وواحدة البنان: بنانة، وجمع القلة: بنانات. وربما استعاروا بناء أكثر العدد لأقله، أنشد سيبويه:

قَدْ جَعَلَتْ مَيُّ عَلَى الظرَارِ خَمْسَ بَنَانٍ قَانِئ الْأَظْفَارِ

(قال الشنتمري: الشاهد فيه إضافة الخمس إلى البنان، وهو اسم يستغرق الجنس على تقدير: خمس من البنان. والظرار: جمع ظرر، وهي حجارة مستديرة محددة. يقال: أرض مظرة: إذا كانت كثيرة الظرار. ويروى: على الطرار — بطاء غير معجمة: جمع طرة، وهي عقيصة من مقدم الناصية، ترسل تحت التاج في صدغ الجارية، وربما اتخذت من رامك، وهو ضرب من الطيب، وهذا أشبه بمعنى البيت. والبنان: جمع بنانة، وهي الإصبع. والقانئ: الشديد الحمرة من الخضاب.)

يريد خمسًا من البنان. ويقال: بنان مخضب؛ لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء فإنه يوحد ويذكر.

(٧٣٣) أي بخلوا عند أنفسهم؛ إذ لم يفعلوا الواجب عليهم بحكم جودهم حيث لم يهبوا الأعمار. وبعبارة أخرى: إن مقتضى جودهم أن لا يبقوا على شيء فإذا أعطوا كل ما يملكون ولم يهبوا أعمارهم لم يبرئوا أنفسهم من البخل.

(٧٣٤) امتشق السيف: استله وأسرع الطعن والضرب. واعتقل الرمح: جعله بين ساقه وركابه. يقول: إن لقلوبهم مضاء سيوفهم، ولقاماتهم طول رماحهم. وقال ابن وكيع — وأنت تعلم مقدار تجنيه على المتنبي وولوعه بالتشهير به وبسرقاته: أخذ هذا من قول عوف بن محلم الشيباني:

إِنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا قَدْ أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلَى تَرْجُمَانِ

وَبَدَّلَتْنِي بِالشطَاطِ انْحِنَا وَكُنْتُ كَالصعْدَةِ تَحْتَ السنَانِ

(٧٣٥) قواضب الهند: أي السيوف القواطع، والذبل: الطوال الصلاب، وحومة كل شيء: معظمه. والوغى: الحرب. وزحل: من كواكب النحس، والقمر: سعد. يقول: أنت رجل نقيض اسمه في الحرب؛ لأن البدر الذي هو اسمك من كواكب السعد ولكنك في الحرب نحس على أعدائك؛ لأنك هلاك لهم … أو تقول — كما قال بعض الشراح: إن البدر منير فيهتدى به في الأسفار، وأنت في الحرب نقيض اسمك؛ إذ تقتل الناس وتثير الغبار بالخيل فتظلم الأرض، ففعلك في الحرب نقيض فعلك في السلم.

(٧٣٦) الكتيبة: القطعة من الجيش. وكتيبة: مبتدأ، والخبر: نفل. وكذا في المصراع الثاني. والنفل: الغنيمة. والحلي: الزينة. والعطل: التي لا حلي لها. يقول: كل جيش لست صاحبه وأميره هو نفل للعدو، وكل بلدة لست زينتها هي عطل لا زينة لها.

(٧٣٧) شرقها ومغربها: أي الأرض، وإن لم يجرِ لها ذكر للعلم به. والركاب: الإبل. يقول: قصدك الناس من شرق الأرض وغربها طمعًا في عطائك وحرصًا على لقائك حتى اشتكتك الإبل لكثرة ما امتطيت إليك والطرق بكثرة ما وطئت وذلك بالخفاف والحوافر والأقدام. وقال بعض الشراح: لأنها ضاقت بكثرة القاصدين والسالكين … وليس بشيء، وشكوى الإبل كثيرة في الشعر، قال أبو العتاهية:

إِنَّ الْمَطَايَا تَشْتَكِيكَ لِأَنَّهَا قَطَعَتْ إِلَيْكَ سَبَاسِبًا وَرِمَالَا

وقال البحتري:

تَشَكَّى الْوَجَى وَاللَّيْلُ مُلْتَبِسُ الدُّجَى غُرَيْرِيَة الْأَنْسَابِ مَرْتٌ بقيعُهَا

«الوجى: الحفا. والمرت: المفازة لا نبات فيها. والبقيع: الموضع فيه أصول الشجر من ضروب شتى.» أما اشتكاء الطرق فهو من اختراعات المتنبي.

(٧٣٨) قليل عافية: أي عافية قليلة، فهو من إضافة الصفة للموصوف. وتجتديكها: أي تستوهبك إياها. والعلل: الأمراض، يقول: بذلت كل مالك ولم يبقَ لك إلا قليل من العافية فقدمت العلل عليك تستوهبه منك، وهذا كقوله السالف:

وَبَذَلْتَ مَا مَلَكَتْهُ نَفْسُكَ كُلَّهُ حَتَّى بَذَلْتَ لِهَذِهِ صِحَّاتِهَا

(٧٣٩) الآسى: الطبيب. والمبضع: حديدة الفاصد. والبطل: الشجاع. ويريد بالملومين: ما ذكره بعد من الآسي والمبضع. وقد كان الفصاد فصده وأخطأ في فصده ونفذت حديدته في يده وأصابه لذلك مرض، وجعل الطبيب والمبضع ملومين في ذلك الخطأ الحاصل منهما، ثم قال: عذرهما فيك أن الطبيب كان جبانًا فارتعدت يده هيبة لك والمبضع كان شجاعًا — أي حادًّا نافذًا — فتولدت العلة من هذين، ثم ذكر للطبيب عذرًا آخر في البيت التالي.

(٧٤٠) يقول: إنما وقع للطبيب الخطأ؛ لأن يدك أمل الناس جميعًا، منها يرجون الإحسان والعطاء، فلم يدرِ الطبيب كيف يقطع الأمل؛ لأنه إنما تعود قطع العروق، لا قطع الآمال. وقال ابن المعتز فيما يتصل بهذا المعنى للقاسم بن عبيد الله:

يَا فَاصِدًا لِيَدٍ جَلَّتْ أَيَادِيهَا وَنَالَ مِنْهَا الَّذِي يَرْجُوهُ رَاجِيهَا

يَدُ الْغِنَى هِيَ فَارْفُقْ لَا تُرِقْ دَمَهَا فَإِنَّ أَرْزَاقَ طُلَّابِ الْغِنَى فِيهَا

وقال أيضًا للخليفة المعتمد:

يَا دَمًا سَالَ مِنْ ذِرَاعِ الْإِمَامِ أَنْتَ أَذْكَى مِنْ عَنْبَرٍ وَمُدَامِ

قَدْ حَسِبْنَاكَ إِذْ جَرَيْتَ إِلَى الطَّسـْ ـتِ دُمُوعًا مِنْ مُقْلَتِيْ مُسْتَهَامِ

إِنَّمَا غَيَّبَ الطَّبِيبُ شَبَا الْمِبـْ ـضَعِ فِي نَفْسِ مُهْجَةِ الْإِسْلَامِ

(٧٤١) البضع: الفصد. والقبل: جمع قبلة، وهي الاسم من التقبيل. وأراد بضر القبل: كثرة تقبيل الناس ظهر كفه حتى أثر فيه وضره. قال الواحدي: وقد أكثر الشعراء من ذكر تقبيل اليد ولم يذكر أحد أنها استضرت بالقبل غير أبي الطيب، وهذا من مبالغاته، قال ابن الرومي:

فَامْدُدْ إِلَيَّ يَدًا تَعَوَّدَ بَطْنُهَا بذل النَّوَالِ وَظَهْرُهَا التَّقْبِيلَا

وقال إبراهيم بن العباس للفضل بن سهل:

لفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ يَدٌ تَقَاصَرَ عَنْهَا الْمَثَلْ

فَبَاطِنُهَا لِلنَّدَى وَظَاهِرُهَا لِلْقُبَلْ

وقال أبو الضياء الحمصي:

وَمَا خُلقَتْ كَفَّاك إِلَّا لِأَرْبَعٍ وَمَا فِي عِبَادِ اللهِ مِثْلك ثَانِ

لِتَجْرِيدِ هِنْدِيٍّ وَإِسْدَاءِ نَائِلٍ وَتَقْبِيلِ أَفْوَاهٍ وَأَخْذِ عِنَانِ

وقد ملح من قال:

يَدٌ نَرَاهَا أَبَدًا فَوْقَ يَدٍ وَتَحْتَ فَمْ

مَا خُلقَتْ بَنَانُهَا إِلَّا لِسَيْفٍ أَوْ قَلَمْ

(٧٤٢) الفصاد: هو الفصد. وأراد بالشق: التأثير والنفاذ؛ ومن ثم عداه بفي، واستعار لجوده عرقًا لما ذكر عرق يده. والعذل: الملام. يقول: إن الفصد يؤثر في يده، ولكن لا يؤثر الملام في جودها؛ أي لا ينجع قول اللائمين فيه. وقد نظر في هذا إلى قول أبي تمام:

خَلائِقُ كَالزَّغْفِ الْمُضَاعَفِ لَمْ يَكُنْ لِيُنْقِذَهَا يَوْمًا شَباةُ اللَّوَائِمِ

(٧٤٣) خامره: خالطه. والجزع: الفزع وقلة الصبر. والحذاقة: مصدر كالحذق. والعجل: المستعجل. يقول: خامر الطبيب — حين مددت يدك إليه للفصد — جزع من هيبتك فعجل في الفصد ولم يتأن كأنه عجل من حذقه، وهو على الحقيقة عجل من خوفه.

(٧٤٤) جاز الشيء: تعداه. وغير اجتهاد: مفعول أتى. والهبل: الثكل. يقول: بالغ في الاجتهاد حتى جاوز حد الاجتهاد ففعل ما هو غير اجتهاد؛ لأن الخطأ من فعل المقصرين المتهاونين، ثم دعا عليه فقال لأمه الثكل.

(٧٤٥) التعمق: بلوغ عمق الشيء — وهو أقصاه — يريد به المبالغة ومجاوزة الحد، يقول: إن النجاح في الأمور مقرون بما يفعله الإنسان حسب مقتضى طبعه وحين يرسل نفسه على سجيتها، فإذا تكلف وبالغ وتعمق زل فأخطأ.

(٧٤٦) ارث لها: رق. وبما وبالذي: متعلقان بتنهمل. يقول مخاطبًا الطبيب: ارفق بهذه اليد فإنها يد تسيل بما ملكته؛ أي تجود بمالها على العفاة وتسيل بمثل ما أسلته منها أي بالدم الذي تسفكه من الأعداء.

(٧٤٧) إلا لمثلك: أي إلا لك. يقول: لا يخلق الله مثلك ولا تصلح الدولات إلا لك في جودك وكرمك وإحسانك إلى الناس، وصاحب الدولة يجب أن يكون كريمًا سخيًّا لينتفع الناس بدولته.

(٧٤٨) زم البعير: خطمه بالزمام، واسم ليس: ضمير الشأن، وهم: مبتدأ، وخبره محذوف: أي ليس الأمر والخبر هم شاءوا. فحذف «شاءوا» لتقدمه في أول الكلام، ويجوز أن يكون «هم»: اسم ليس، إلا أنه استعمل الضمير المنفصل موضع المتصل ضرورة، والتقدير: بقائي شاء الارتحال ليسوا شاءوا، ويجوز أن تكون «ليس» هنا حرفًا عاطفًا فلا يكون لها اسم ولا خبر. يقول: لما ارتحلوا عني ارتحل بقائي، فكأن بقائي شاء ارتحالًا لا هم شاءوا ذلك، وكأنهم زموا صبري للمسير، لا جمالهم؛ لأني فقدت الصبر بعدهم. وإنما نفى الارتحال عنهم؛ لأن ارتحال بقائه أهم وأعظم شأنًا، فكأن ارتحالهم ليس ارتحالًا عند ارتحال بقائه، ولأنهم ربما يعودون، والبقاء إذا ارتحل لم يعد، وكذلك مسير صبره أعظم من مسير الجمال، فلم يعتد بسير جمالهم مع سير صبره عنه. وعبارة بعض الشراح: لما ارتحل الأحبة ارتحلت حياته؛ لأنه غير باقٍ بعدهم، فبقاؤه هو الذي أراد الارتحال، لا هم. ولما جعل حياته راحلة جعل مطيتها حسن الصبر؛ لأنه لو صبر لم يكن لرحيل حياته سبب، وإنما أثبت الرحيل لحياته دونهم بناء على أن الحياة والأحبة شيء واحد، فليس هناك حياة وأحبة ولا صبر وجمال، وإنما هم الحياة عينها، ومطيهم الصبر نفسه. وقال ابن القطاع: بقاء شاء؛ أي سبق ارتحالهم، يقال شاءه: وشآه: إذا سبقه، ولولا ذلك لمت أسفًا، وهذا على المبالغة. وقيل: المعنى بقائي أراد رحيلهم، فشاء من المشيئة، فليتني مت ولم أره يتأسف؛ إذ لم يمت عند رحيلهم.

(٧٤٩) تولوا: أدبروا. والبين: الفراق. وتهيبني: هابني. والاغتيال: أخذ الإنسان من حيث لا يدري. يقول: كأن البين هابني ففاجأني باغتياله، يريد فاغتالني اغتيال مفاجأة.

(٧٥٠) العيس: الكرام من الإبل. ويروى: عيرهم، وهي الإبل التي تحمل الميرة. والذميل: السير المتوسط. والانهمال: الانسكاب. يقول: كانت إبلهم تسير الذميل ودمعي ينصب في أثرهم انصبابًا، يتوجع ويتحسر. ومثله لابن الرومي:

لَهُمْ عَلَى الْعِيسِ إِمْعَانٌ يَشُطُّ بِهِمْ وَلِلدُّمُوعِ عَلَى الْخَدَّيْنِ إِمْعَانُ

(٧٥١) أناخ البعير: أبركه. وثرن: أي نهضن للمسير. والبيت مبني على ما قبله. يقول: كنت لا أبكي قبل فراقهم، فكأن إبلهم كانت تمسك دمعي عن السيلان ببروكها فوق جفني، فلما فارقوني سال دمعي، فكأنها ثارت للرحيل من فوق جفني فسال ما كانت تمسك من دموعي، وهو تخيل بديع.

(٧٥٢) النوى: البعد والفراق. والحجال: الخدور. يقول: لما ارتحلوا حجبتهم النوى عن عيني، فساعدت النوى ما كان يحجبهن عني قبل من البراقع والخدور.

(٧٥٣) الوشي: الثياب المنقوشة. وحجر به وشي: أي حجر من معدن فيه ذهب، أنشد ابن الأعرابي لأحيحة بن الجلاح يرثي ابنًا له:

وَما هِبْرِزِيٌّ مِنْ دَنَانِيرِ أَيْلَةِ بِأَيْدِي الْوُشَاةِ نَاصِعٌ يَتَأَكَّلُ

بِأَحْسَنَ مِنْهُ يَوْمَ أَصْبَحَ غَادِيًا وَنَفَّسَنِي فِيهِ الْحِمَامُ الْمُعَجَّلُ

«الوشاة الضرابون: يعني ضراب الذهب. ونفسني فيه: رغبني، والهبرزي الدينار الجديد.» والتجمل: التزين. يقول: هن غنيات بحسنهن عن التجمل بلبس الديباج، ولكن يلبسنه ليصن به جمالهن عن أعين الناظرين. قيل للصاحب: أغرت على أبي الطيب في قولك:

لَبِسْنَ بُرُودَ الْوَشْيِ لَا لِتَجَمُّلٍ وَلَكِنْ لِصَوْنِ الْحُسْنِ بَيْنَ بُرُودِ

فقال: نعم، كما أغار هو في قوله:

مَا بَالُ هَذِي النُّجُومِ حَائِرَةً كَأَنَّهَا الْعُمْي مَا لَهَا قَائِدْ

على بشار في قوله:

وَالشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ كَأَنَّهَا أَعْمَى تَحَيَّرَ مَا لَدَيْهِ قَائِدُ

(٧٥٤) التضفير: فتل الذوائب. والغدائر: جمع غديرة، وهي الخصلة من الشعر. يقول: لم ينسجن ذوائبهن طلبًا للتحسين، ولكن خفن أن يضللن فيها لو أرسلنها؛ لأنها تغشاهن كالليل. قال ابن جني: قد وصفت الشعراء الشعر بالكثرة، ولكن لم تفرط في ذلك مثل المتنبي، قال ابن المعتز:

دَعَتْ خَلَاخِيلهَا ذَوَائِبَهَا فَجِئْنَ مِنْ قَرْنِهَا إِلَى الْقَدَمِ

(٧٥٥) بجسمي: أي أفدي بجسمي. وبرته: هزلته. والوشاح: شبه قلادة تشده المرأة بين العاتق والكشح، يقول: أفدي بجسمي التي هزلته حتى لو جعلت وشاحي ثقب لؤلؤة لوسعني حتى يدور عليَّ إذا شئت أن أديره، يصف دقته ونحوله. ومثل هذا يقول الآخر:

قَدْ كَانَ لِي فِيمَا مَضَى خَاتَمٌ وَالْآنَ لَوْ شِئْتُ تَمَنْطَقْتُهُ

(٧٥٦) يقول: لولا أنني يقظان لكنت أظن نفسي خيالًا، يعني أنه كالخيال في الدقة، إلا أن الخيال لا يرى في اليقظة، فقوله: أظنني: أي أظن نفسي. وقوله: مني: متعلق ﺑ «خيالا»: أي خيالًا مني، كما تقول: جاءني خيال من المحبوب. قال الواحدي: قوله مني: أي من دقتي، ويبعد أن يقال من نفسي؛ لأنه قال: أظنني، ومعناه أظن نفسي، ولا يقال أظن نفسي خيالًا من نفسي. هذا، والعرب تقول: ظننتني وخلتني وعلمتني، ولم يروَ عنهم: ضربتني؛ لأن الفعل لما كان يتعدى إلى مفعولين اتسعوا في أحدهما لقوة تعديته. وقد جاءت عدمتني شاذة في قول جران العود:

لَقَدْ كَانَ لِي فِي ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُنِي وَمَا أَنَا لَاقٍ مِنْهُمَا مُتَزَحْزِحُ

(٧٥٧) الخوط: الغصن الناعم. ورنت: نظرت. والمنصوبات في البيت أسماء وضعت موضع الحال. كأنه قال: بدت مشرقة، ومالت متثنية، وفاحت طيبًا، ورنت مليحة. أو تقول المعنى: بدت مشبهة قمرًا في حسنها، ومالت مشبهة غصن بان في تثنيها، وفاحت مشبهة عنبرًا في طيب رائحتها، ورنت مشبهة غزالًا في سواد مقلتها. وهذا يسمى التدبيج في الشعر، ومثله:

سَفَرْنَ بُدُورًا وَانْتَقَيْنَ أَهِلَّةً وَمِسْنَ غُصُونًا وَالتْفَتْنَ جَآذرَا

(٧٥٨) جار عن الطريق: مال. وكثر استعماله في الظلم؛ لأنه جور عن الحق. يقول: هي في حكمها جائرة، ولكن قدها معتدل لا جور فيه.

(٧٥٩) يقول: كأن الحزن يعشق قلبي، وإنما يجد الوصال إذا هجرتني، يعني كلما هجرتني واصل الحزن قلبي وعلق به. هذا، وقوله: «مشغوف» رُوي بالعين المهملة، وبالغين المعجمة. وقد قرئ قوله تعالى: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا بالعين وبالغين، فمن قرأها بالعين فمعناه تيمها، ومن قرأها بالغين يعني أصاب شغاف قلبها أو غشي الحب قلبها. وشغاف القلب وشغفه: غلافه. قال قيس بن الخطيم:

إِنِّي لَأَهْوَاكِ غَيْرَ ذِي كَذِبٍ قَدْ شَفَّ مِنِّي الْأَحْشَاءُ وَالشغَفُ

أما الشغف: فهو إحراق الحب القلب مع لذة يجدها، كما أن البعير إذا هني بالقطران يجد له لذة مع حرقة. قال امرؤ القيس:

لتَقْتُلُنِي وَقَدْ شَعفْتُ فُؤَادَهَا كَمَا شَعَفَ الْمَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطَّالِي

«يعني أحرقت فؤادها بحبي كما أحرق الطالي هذه المهنوءة ففؤادها طائر من لذة الهناء؛ لأن المهنوءة تجد للهناء لذة مع حرقة.»

(٧٦٠) كذا: خبر مقدم عن «الدنيا» وصروف: خبر عن محذوف: أي هي صروف. والصروف: الأحداث: يقول: إن الدنيا كانت على من كان قبلي كما أراها الآن؛ أي كما هي عليَّ الآن، ثم بين ذلك فقال: هي صروف لا تدوم على حالة واحدة.

(٧٦١) في سرور: خبر «أشد». والجملة بعده: نعت سرور. يقول: إن السرور الذي يتيقن صاحبه الانتقال عنه هو عندي أشد الغم يترقب وقت زواله فلا يطيب له ذلك السرور.

(٧٦٢) قتودي: جمع قتد، وهو خشب الرحل. والغريري: المنسوب إلى غرير؛ فحل من الإبل كان في الجاهلية تنسب إليه كرام الإبل. والجلال: كالجليل — أي العظيم — كما يقال: طوال، وطويل. يقول: تعودت الارتحال حتى ألفته، وصارت الرحال أرضًا لي؛ لأني أبدًا على الرحال، فهي لي كالأرض للمقيم.

(٧٦٣) المقام: مصدر ميمي، بمعنى الإقامة. وأزمع الأمر، وأزمع عليه: مضى فيه وثبت عليه عزمه. وقال الكسائي: يقال: أزمعت الأمر، ولا يقال أزمعت عليه. قال الأعشى:

أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أَنْ تُزَارَا

وقال الفراء: أزمعته وأزمعت عليه: بمعنى، مثل أجمعته وأجمعت عليه. يقول: ما طلبت الإقامة في أرض؛ لأني أبدًا على سفر، ولا عزمت على الرحيل عنها؛ لأن الرحيل إنما يكون بعد الإقامة، ولا إقامة لي حتى أرحل. وقال ابن جني: المعنى إذا كان ظهره — أي البعير — كالوطن لي فأنا — إن جبت البلاد — كالقاطن في داره.

(٧٦٤) على قلق، القلق: الاضطراب. والجار والمجرور: في موضع الحال من التاء في ألفت. ويروى: على قلِق — بكسر اللام — أي بعير قلق. يقول: لا أستقر في مقام كأني على ظهر الريح، أوجهها مرة إلى جانب الجنوب ومرة إلى جانب الشمال، فعبر بالريحين عن الجانبين، ويروى: يمينًا أو شمالًا، فتكون بكسر الشين.

(٧٦٥) غرة الشهر: أراد أول الشهر. وإلى البدر: يروى إلى بدر بن عمار — بدون أل — لأنه علم. ومن روى البدر: أراد بدر السماء، لا الاسم العلم، يعني إلى الرجل الذي هو كالبدر، ثم نسبه إلى أبيه؛ لأنه ليس بدرًا على الحقيقة، وإن أشبهه؛ ألا ترى أنه قال: لم يكن في غرة الشهر الهلال، ولا بدر إلا وكان هلالًا أولًا؟ وهذا الذي عناه لم يكن هلالًا قط، وقد فسر هذا بقوله: ولم يعظم لنقص «البيت». وترك التنوين من «عمار» ضرورة لسكونه وسكن اللام، واللام في قوله: «لنقص» في البيت التالي، بمعنى بعد كما في قوله:

لطُول اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا

(٧٦٦) يقول: هو منقطع النظير لا مثل له، وإن رأيت فيه من الصفات ما يمثل لك كل ما غاب عنك من المحاسن، وذلك كالشجاعة مثلًا والجود والحسن، فإن هذه الصفات فيه تمثل لك الأسد والغيث والبدر، ولكن هذه مع كونه يشبهها في بعض صفاته لا شيء منها يشبهه في جميع صفاته. يعني أنه لم يجتمع في أحد ما اجتمع فيه وإن كانت أشباهه متفرقة في أشياء كثيرة: فكفه كالبحر، وقلبه وعضده كالأسد، ووجهه كالبدر.

(٧٦٧) حسام: أي هو حسام: سيف قاطع. وحسام — الثاني — بدل من ابن رائق، يقول: هو حسام لأبي بكر بن رائق الذي كان حسامًا للمتقي لله الخليفة العباسي حين صال به على بني البريدي، وقد كان المتقي حاربهم به في خبر ليس هذا موضعه.

(٧٦٨) بنو معد: هم العرب؛ لأن نسبهم ينتهي إلى معد بن عدنان. وبني أسد: بدل من قوله بني معد، وهم رهط الممدوح. قال الواحدي: يقول: إن الممدوح سنان في قناة العرب الذين هم بنو معد. ثم خصص بعض التخصيص وأبدل من بني معد بني أسد، فكأنه قال: هو سنان قناة بني أسد عند الحرب. والنزال: منازلة الأقران — بعض إلى بعض — من الخيل عند شدة القتال. يقول: هو رئيسهم وصدرهم الذي به يقاتلون، وفي مثل هذا المعنى يقول النامي — وقد قصر عنه المتنبي:

إِذَا فَاخَرَتْ بِالْمَكْرُمَاتِ قَبِيلَةٌ فَتَغْلِبُ أَبْنَاءُ الْعُلَا بِكَ تَغْلِبُ

قَنَاةٌ مِنَ الْعَلْيَاءِ أَنْتَ سِنَانُهَا وَتِلْكَ أَنَابِيبٌ إِلَيْكَ وَأَكْعُبُ

وقال بعض الشراح: بني أسد: بدل من قناة، ثم قال: جعل بني أسد — وهم رهط الممدوح — قناة؛ أي رمحا لبني معد، وجعل الممدوح سنانًا لهذه القناة. يعني أن الممدوح عزة لقومه، وهم عزة لسائر العرب. وروى بعض الشراح بني أُسد: بني أسد — على أنه جمع أسد — وقال: يعني أن بني معد هم بنو أسود: أي شجعان. وقال ابن جني: يجوز أن يكون بني أسد منادى مضافًا؛ يعني أن بني معد إذا نازلوا الأعداء، قالوا: يا بني أسد، فيقوم لهم قولهم في الغناء والدفع عنهم مقام سنان مركب في قناتهم؛ لأنهم إذا دعوهم أغنوا عنهم.

(٧٦٩) أراد بالعز — ها هنا — الغلبة والامتناع. ومقدرة — بتثليث الدال — أي قدرة. ومحمية: بمعنى حماية أي حماية الجار والحليف ومن يحق الذود عنه. ويجوز أن تكون بمعنى الحمية: أي الأنفة وعزة النفس. ونصب المنصوبات الخمس على التمييز. يقول: هو أعز من يغالب الأقران كفًّا؛ لأن يده فوق كل يد، وسيفه أغلب السيوف، وقدرته فوق قدرة الناس، وحمايته لمن يحق عليه الذود عنه زائدة على حماية غيره، وآله وأصحابه أغلب وأعز به من آل غيره.

(٧٧٠) منتمٍ: منتسب. يقول: هو شريف حسيب إذا انتمى كان له الشرف من أبيه وأمه.

(٧٧١) الإثناء: مصدر أثنى عليه. يقول: إن المدح الذي يستعظم للدنيا وأهلها حتى يكون لإفراطه محالًا عليها إذا أطلق عليه كان حقًّا؛ لاستحقاقه غاية الثناء. وبعبارة أخرى: إن أحق ما يصدق عليه من صفات المدح لو مدحت به الدنيا وأهلها لكان النسبة إليهم محالًا. يعني أن الناس كلهم لا يستحقون أدنى ما يستحقه من الثناء.

(٧٧٢) ضعف الشيء: أن يزاد عليه مثله. ويترك: يفتعل، من الترك. يقول: إذا مدحه الناس غاية ما قدروا عليه حتى لم يترك أحد مقالًا بقي ضعف ما قالوه من المحاسن؛ يعني المادح والمثني لا يبلغ في مدحه ما يستحقه، كما قالت الخنساء.

وَمَا بَلَغَ الْمُهْدُونَ نَحْوَكَ مِدْحَةً وَإِنْ أَطْنَبُوا إِلَّا وَمَا فِيكَ أَفْضَلُ

وقال أبو نواس:

إِذَا نَحْنُ أَثْنَيْنَا عَلَيْكَ بِصَالِحٍ فَأَنْتَ كَمَا نُثْنِي وَفَوْقَ الَّذِي نُثْنِيِ

(٧٧٣) بكل لدن: أي بكل رمح لين المهز، ومواضع: منصوب على الظرفية، مضاف إلى الجملة بعده. يقول: يا ابن الطاعنين بكل رمح صدور الأبطال. وهذا ينظر إلى قول البحتري.

وَأَتْبَعْتُهَا أُخْرَى فَأَضْلَلْتُ نَصلَهَا بِحَيْثُ يَكُونُ اللُّبُّ وَالرُّعْبُ وَالْحِقْدُ

(٧٧٤) العضب: السيف القاطع. والقلال: جمع قلة؛ أعلى الشيء، والمراد هنا الرءوس. يقول: يا ابن الضاربين بكل سيف رءوس العرب وأرجلها. قال ابن جني: وذلك لأنهم إذا ضربوا الفارس في قلة رأسه نزل السيف إلى أسفل جسده، وقيل: أراد بالأسافل: اللئام، وبالقلال: الكرام؛ أي ابن الذين يضربون الشريف والدنيء فلا يتركون أحدًا، أو لا يهابون أحدًا.

(٧٧٥) المتشاعرون: الذين يدعون الشعر وليسوا من أهله. وغرى بالشيء: أولع به، والداء العضال: الذي لا دواء له. يقول: إنه داء لهم يسقمون به حسدًا، ولذا لا يمكن أن يحمدوه.

(٧٧٦) الزلال: العذب الصافي الذي يزل في الحلق. وهذا مثل ضربه، يقول: مثلهم كمثل المريض مع الماء الزلال يجده مرًّا لمرارة فمه، كذلك هؤلاء إنما يذمونني لنقصانهم وغبائهم وعدم إدراكهم فضلي وشعري، فالنقص فيهم لا فيَّ ولو صحت حواسهم لعرفوا فضلي. قال حكيم: النفس الكريمة ترى الأشياء حسنة.

(٧٧٧) يقول: إن الحساد قالوا لي حسدًا له عليَّ ولي عليه: هل يرفعك الممدوح إلى الثريا؟! إنكارًا لأن يبلغني بخدمته منزلة رفيعة، فقلت: نعم يبلغنيها إذا أردت أن أنحط عن منزلتي: أي أنه رفعه إلى ما فوق الثريا فإن استفل وانحط رجع إلى موضع الثريا وإلا فهو أعلى منها درجة بخدمة الممدوح. وهذا تخيل بديع. هذا، وسميت المجموعة المعروفة من الكواكب بالثريا. قيل: لغزارة نوئها، وقيل: لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها، فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل، ولا يتكلم بالثريا إلا مصغرة، وهو تصغير على جهة التكثير، ويقال: إن خلال أنجم الثريا الظاهرة كواكب خفية كثيرة العدد، وقد ظن العطوي الشاعر كواكب الثريا ستة فقال:

خَلِيلَيَّ إِنِّي لِلثُّرَيَّا لَحَاسِدُ وَإِنِّي عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ لَوَاجِدُ

أَيَجْمَعُ مِنْهَا شَمْلُهَا وَهِيَ سِتَّةٌ وَأَفْقِدُ مَنْ أَحْبَبْتُهُ وَهْوَ وَاحِدُ

(٧٧٨) المذاكي: الخيل المسنة، وهي التي أتى عليها بعد قروحها سنة. وبيض الهند: السيوف. والسمر: الرماح. يقول: هو الذي يفني هذه الأشياء بكثرة الحروب. وعبارة العكبري: هو مفني الخيل والأعادي بالطراد في الحروب، وقيل: بالهيبة والسيوف والرماح بالضرب والطعن، ويجوز بالهبة.

(٧٧٩) قائدها: معطوف على المعنى. والضمير: للمذاكي. والمسومة: المعلمة. يقول: وهو قائد الخيل خفافًا في الركض ثقالًا على الحي الذي تحل بساحته صباحًا للغارة، أي ثقالًا على الأغادي.

(٧٨٠) جوائل: بدل من مسومة، وهي جمع جائلة: أي مترددة، وجوائل بالقني: أي تجول بأرماح فرسانها، والقني: جمع القنا. ومثقفات: أي مقومات بالثقاف، وهو الحديد الذي يسوى به الرمح. والعوامل: ما يلي الأسنة. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة التي في السراج. شبه أسنتها في اللمعان بالفتائل.

(٧٨١) يفئن: يعدن ويرجعن. ويروى: بقين. يقول: إذا وطئت هذه الخيل الصخور بأيديها وأرجلها تفتتت من شدة وطأتها فصارت رمالًا، كما قال ابن المعتز:

كَأَنَّ حَصَى الصمَانِ مِنْ وَقْعِهَا رَمْلُ

(٧٨٢) جواب: مبتدأ، خبره: عجز البيت، وقوله: أله نظير: في محل نصب حكاية السؤال. يقول: إذا سألني سائل فقال: هل لهذا الممدوح نظير؟ فجوابه: لا، ولا لك أيضًا نظير في هذا السؤال؛ لأن أحدًا لا يجهل هذا غيرك، فأنت في جهلك به بلا نظير. وأراد «لا» و«لا لك» فأخر المعطوف عليه ضرورة، كما قال الأحوص:

أَلَا يَا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلَامُ

(بعده:

سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْكِ فَخَبَّرُونِي هَنا منْ ذَاكَ تَكْرهه الْكِرَامُ

وَلَيْسَ بِمَا أَحَلَّ اللهُ بَأْسٌ إِذَا هُوَ لَمْ يُخَالِطْهُ الْحَرَامُ

والنخلة: كناية جميلة عن المرأة. وكنى بالهناة عن الرفث.)

وكرر النفي بقوله: «ألا لا» إشارة إلى أن جهل هذا السائل يوجب إعادة الجواب عليه.

(٧٨٣) الإعدام: الإقتار والفقر. يقول: كل نفس ترجو عطاءك وتعد هذا الرجاء مالًا لها تأمن الفقر؛ لأنك تبلغها آمالها البتة.

(٧٨٤) وجالًا: جمع وَجِل — بكسر الجيم — أي خائف، يقول: خافتك قلوب الأعداء حتى خاف خوفهم ووجلت أوجالهم، وهذا كقولهم: جن جنونه، قال:

جُنُونُك مَجْنُونٌ وَلَسْت بِوَاجِد طَبِيبًا يُدَاوِي مِنْ جُنُونِ جُنُونِ

(٧٨٥) يقول: إنما يحصل لك السرور والفرح بأن تسر جميع الناس: وإذا كان هناك واحد لم تسره لم يحصل لك السرور، فأنت تعلمهم الدلال عليك بهذا؛ لأنه لو قال أحد الناس أنا غير مسرور اجتهدت حتى تسره وترضيه، فهم يدلون عليك، إذ عرفوا منك هذا.

(٧٨٦) يقول: أنت لكرمك تحب العطاء، فإذا سألوك شكرتهم على السؤال وعددته منة عليك لحبك العطاء، وإن هم سكتوا سألتهم أن يسألوك حتى لا يفوتك لذة العطاء.

(٧٨٧) الاستماحة: طلب العطاء. والسماحة: الجود. يقول: أسعد الناس سائل يعطي مسئوله بأن ينال منه شيئًا، يعني أن مسئوله يفرح بأخذ عطائه حتى كأنه ينيله شيئًا. والحاصل أن أسعد الناس من أخذ من معطٍ يرى أن الأخذ منه عطاء له فيراه حقًّا عليه ويسر بذلك. قال البحتري:

فَيَكُونُ أَولَ سنةٍ مَأْثُورَةٍ أَنْ يَقْبَلَ الْمَمْدُوحُ رِفْدَ الْمَادِحِ

(٧٨٨) ما «نافية»، والجملة بعدها: حال من ضمير السهم محذوفًا، والتقدير: فراقه للقوس وهو ما لاقى الرجال. يقول: إن سهمه يفارق الرجل الذي يلاقيه نافذًا منه، وفيه نفس القوة التي فارق بها القوس حين لم يلاقِ أحدًا بعد؛ أي إذا رمى رجلًا بسهم خرج منه بعد النفاذ فيه وفيه قوة كقوته حين خرج عن كبد القوس، يصفه بشدة نزع القوس وقوة الرمي وانطلاق السهم. ويجوز أن تكون «ما» ظرفًا، كأنه قال: يكون الأمر كذلك مدة ملاقاته الرجال، كما تقول: لا أكلمك ما طار طائر.

(٧٨٩) النصال، جمع نصل؛ الحديدة التي تكون في السهم. يقول: إن سهامك إذا رميتها لا تقف عن مسيرها، فكأن ريشها يطلب نصالها ليدركها فهي تمضي أبدًا؛ لأن الريش لا يدرك النصل، لتقدم النصل عليه. وهذا من قول ليلى الأخيلية:

وَلَمَّا أَنْ رَأَيْتَ الْخَيْلَ قُبْلًا تُبَارِي بِالْخُدُودِ شَبَا الْعَوَالِي

نَسِيتَ وِصَالَهُ وَصددتْ عَنْهُ كَمَا صَدَّ الْأَزَبُّ عَنِ الظِّلَالِ

(قالت ليلى هذين البيتين في فائض بن عقيل وكان قد فر عن توبة يوم قتل. وقد مر شرحهما.)

فنقل المعنى من الخيل والخدود والعوالي إلى السهام والريش والنصال.

(٧٩٠) جاراه: جرى معه. وعالاه: غالبه في العلو. يقول: سبقت الذين سبقوا في مراحل المساعي والمكارم حتى شأوتهم فليس يجازيك أحد، وعلوت حتى جاوزت العلو المألوف فليس يعاليك أحد؛ إذ لا يبلغ أحد مبلغك. ويجوز أن يكون معنى السابقين: الأولين؛ أي الذي غبروا ومضوا.

(٧٩١) يفضله على جميع الناس، ويقول: إنه لو كان يمين شيء ما صلح الناس كلهم أن يكونوا شمالًا لذلك الشيء، وفي مثل هذا المعنى يقول أبو النجم:

لَوْ كَانَ خَلْقُ اللهِ جَنْبًا وَاحِدًا وَكُنْت فِي جَنْبٍ لَكُنْت زَائِدا

نَبَاهَةً وَنَائِلا وَوَالِدَا

(٧٩٢) يقول أنت في علو قدرك سماء وإن كانت كواكب تلك السماء خصالًا، جعله كالسماء، وخصاله في الشهرة والحسن نجومها، كما قال البحتري:

وَبَلَوْتُ مِنْكَ خَلَائِقًا مَحْمُودَةً لَوْ كُنَّ فِي فَلكٍ لَكُنَّ نُجُومَا

(٧٩٣) وأعجب: عطف على أقلب — في البيت السابق — وتنشا: أصله تنشأ بالهمز فلينه للوزن، وأراد أن تنشا، فحذف «أن». يقول: أنت قد ولدت كاملًا، فكيف استطعت أن تزداد بعد الكمال؟

(٧٩٤) أن عزم: أي لأجل أن عزم. والخليط: الذي يخالطك ويعاشرك، والمراد به الحبيب. والخليط أيضًا: القوم الذين أمرهم واحد. قال الشاعر:

إِنَّ الْخَلِيطَ أَجَدُّوا الْبَيْنَ فَانْجَرَدُوا وَأَخْلَفُوكَ عِدى الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا

وجمع الخليط: خلطاء وخلط، قال وعلة الجرمي في جمعه على خلط:

سَائِلْ مُجَاوِرَ جَرمٍ هَلْ جَنَيْتَ لَهُمْ حَرْبًا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الْخُلُطِ

يقول: إن في خده لأن عزم الحبيب فراقًا مطرًا — يعني الدمع — تزيد الخدود به محولًا — حدبًا — ومحول الخدود: شحوبها وتخدد لحمها وذهاب نضرتها والمطر من شأنه أن تخصب به البلاد ويخضر العشب، أما الدمع فهو مطر صنيعه على الضد من هذا. وفيه نظر إلى قول بعضهم:

لَوْ نَبَتَ الْعُشْبُ مِن دُمُوعٍ لَكانَ فِي خَدِّيَ الرَّبِيعُ

(٧٩٥) نفت: أذهبت. وغادرت: تركت. والفلول: الثلوم؛ أي ما يلحق حد السيف من كثرة الضرب. يقول: إن نظرته إلى الحبيب لدى الفراق ذهبت بنومه وأورثته السهاد وذهبت بحدة قلبه، يعني أثرت في لبه. وعبارة بعض الشراح: وتركت قلبه كالسيف المفلول لا يقوى على مقاومة النوائب واتقائها، ويجوز أن يكون المراد بالنظرة: النظرة الأولى التي نظرها الحبيب وسببت له العشق والهيام.

(٧٩٦) الضمير في «كانت»: للنظرة، والكحلاء: السوداء الجفون خلقة. والسؤل: ما يطلبه الإنسان ويتمناه، وهو خبر «كانت». ومن الكحلاء: متعلق بسؤلي. ولين السول — في آخر البيت — للقافية. يقول: كانت هذه النظرة مرادي ومطلوبي من هذه المرأة الكحلاء. ولكنها كانت في الحقيقة أجلى تصور مرادًا في قلبي، يعني أن نظرته إليها حال التوديع ذهبت بنفسه وأتت عليه.

(٧٩٧) الجفاء: الإعراض، وقد ضمنه معنى النُّبُوِّ والامتناع، ولذلك وصله بعلى. والنوى: البعد، يقول: إني أجد إعراضي عن النساء مروءة إلا عنك، والصبر على نازلة جميلًا إلا على بعدك، كما قال البحتري:

مَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ إِلَّا عِنْدَ فُرْقَة مَنْ بِبَيْنِهِ صِرْتُ بَيْنَ الْبَثِّ وَالْحَزَنِ

(٧٩٨) يقول: إني أملُّ دلال غيرك وإن قَلَّ، وأحب دلالك وإن كثر، كما قال جرير:

إِنْ كَانَ شَأنُكُمُ الدَّلَالَ فَإِنَّهُ حَسَنٌ دَلَالُكِ يَا أُمَيْمَ جَمِيلُ

(٧٩٩) الروادف: الكفل وما حوله، جمع رادفة؛ لأنها تردف الإنسان؛ أي تكون خلفه، كالرديف الذي يكون خلف الراكب، يقول: تشكو المطية ثقل روادفك فوقها شكوى النفس التي وجدت هواك مداخلها، يعني العاشق لها، يعني نفسه.

(٨٠٠) يقول — مخاطبًا حبيبته: يحملني على الغيرة جذبك زمامها إليك؛ لأنها تقلب فمها إليك كأنها قبلة، كما قال مسلم بن الوليد:

وَالْعِيسُ عَاطِفَةُ الرُّءُوسِ كَأَنَّمَا يَطْلُبْنَ سِرَّ مُحَدَّثٍ فِي الْأَحْلُسِ

هذا، والغيرة: الحمية والأنفة، لعلها من غار النهار: إذا اشتد حره، يقال: غار الرجل على امرأته، والمرأة على بعلها تغار غيرة وغيرًا وغارًا وغيارًا. قال أبو ذؤيب يصف قدورًا:

لَهُنَّ نَشِيجٌ بِالنَّشِيلِ كَأَنَّهَا ضَرَائِرُ حِرْمِيٍّ تَفَاحَشَ غَارُهَا

(نشل اللحم من القدر: انتزعه منها وهو النشيل، والنسبة إلى الحرم حرمي وهو من المعدول الذي يأتي على غير قياس. قال المبرد: يقال: امرأة حرمية وحرمية وأصله من قولهم: وحرمية البيت وحرمة البيت: قالوا إن أهل الحرم — وهم قريش — أول من اتخذ الضرائر. شبه غليلة القدور بصخب الضرائر.)

وأغار الرجل أهله: تزوج عليها فغارت، والعرب تقول: أغير من الحمى؛ أي أنها تلازم المحموم ملازمة الغيور لبعلها. هذا، والفم أكثر ما يستعمل بغير الميم مع الإضافة، فإذا أضيف قلت: فوك وفاك وفيك، إلا أنه قد جاء بالميم مضافًا عن العرب، قال:

كَالْحُوتِ لَا يَكْفِيهِ شَيْءٌ يَلْهَمُهْ يُصْبِحُ عَطْشَانَ وَفِي الْبَحْرِ فُمه

(٨٠١) الحدق: جمع حدقة، وهي سواد العين الأعظم. وواحدة الحسان: حسناء. والغواني: جمع غانية، وهي التي غنيت بحسنها عن التجمل. والصبابة: رقة الشوق. والغليل: حرارة العطش، والمراد به هنا: لاعج الوجد.

(٨٠٢) حدق: خبر عن محذوف، يرجع إلى حدق — الأولى — ويذم: يجير ويعطي الذمام. وغيرها: يجوز فيه النصب على الاستثناء، أو الحال، والجر على التبعية، وبدر بن عمار: فاعل يذم. يقول: إنه يجير من كل ما يقتل إلا من أحداق الحسان، فإنه لا يستطيع الإجارة منها، كما قال:

وُقِيَ الْأَمِيرُ هَوَى الْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَا لَا يَزُولُ بِبَأْسِهِ وَسَخَائِهِ

وقد تجاوز هذا في مدح عضد الدولة بأمن بلاده في قولة:

فَلَوْ طُرِحَتْ قُلُوبُ الْعِشْقِ فِيهَا لَمَا خَافَتْ مِنَ الْحَدَقِ الْحِسَانِ

(٨٠٣) يقول: إنه يفرج الكرب العظام عن أوليائه بإنزال مثلها بأعدائه، يعني أنه يقتل أعداءه ليدفعهم عن أوليائه ويفقرهم ليغني أولياءه فيزيل عنهم الفقر. ويقال: فرج عنه يفرج وأفرج يفرج وفرَّج يفرِّج تفريجًا: إذا أزال عنه الغم وكشفه، والكرب وما بعده بالنصب بإعمال اسم الفاعل، وروي بالخفض تشبيهًا بالحسن الوجه.

(٨٠٤) المحك: اللجوج، والمحك: اللجاج عند الغضب والمساومة ونحوهما، وقد محك يمحك ومحك محكًا ومحكًا فهو ماحك ومحك وتماحك البيعان والخصمان تلاحا، قال الفرزدق يهجو جريرًا:

يَا ابْنَ الْمَرَاغَةِ وَالْهجَاءُ إِذَا الْتَقَتْ أَعْنَاقهُ وَتَماحكَ الْخصمَانِ

مَا ضَرَّ تَغْلِبَ وَائِلٍ أَهجوتها أَمْ بُلت حَيْثُ تَنَاطَح الْبحرَانِ

(المراغة: الأتان التي لا تمتنع من الفحول، وبذلك لقب الأخطل أم جرير فسماه ابن المراغة: أي يتمرغ عليها الرجال.)

يقول: إنه يلج في تقاضي ماله على الناس من حق الطاعة والخضوع ولا يتوانى في ذلك، فإذا مطلوه بهذا الدين جعل سيفه كفيلًا له بقضائه، يعني إذا لم يخضعوا له طوعًا أخضعهم قهرًا.

(٨٠٥) النطق — كالمنطيق: اللسن البليغ. والضمير في «لثامه»، للممدوح، قال الواحدي: وكانت العرب تتلثم بعمائمها، فإذا أرادوا أن يتكلموا كشفوا اللثام عن أفواههم. يقول: إذا وضع الكلام لثامه عن فمه عند النطق أفاد منطقه قلوب السامعين عقولًا، يعني أنه يتكلم بالحكمة وبما يستفاد منه العقل.

(٨٠٦) قال ابن فورجه: يعني أن الزمان سخا — جاد — به عليَّ وكان بخيلًا به، فلما أعداه سخاؤه أسعدني الزمان بضمي إليه وهدايتي نحوه، والصراع الأول من قول ابن الخياط:

لَمَسْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أَبْتَغِي الْغِنَى وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الْجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدِي

فَلَا أَنَا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغِنَى أَفَدْتُ وَأَعْدَانِي فَأَتْلَفْتُ مَا عِنْدِي

وقال أبو تمام:

عَلَّمَنِي جُودُك السَّماحَ فَمَا أَبْقَيْتُ شَيْئًا لَدَيَّ مِنْ صِلتِك

وقال أيضًا:

لستُ يَحْيَى مُصَافِحًا بِسَلَامٍ إِنَّنِي إِنْ فَعَلْتُ أَتْلَفْتُ مَالِي

وأبو الطيب نقل المعنى إلى الزمان، والمصراع الثاني من قول أبي تمام:

هَيْهَاتَ لَا يَأْتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِ إِنَّ الزَّمَانَ بِمِثْلِهِ لَبَخِيلُ

وقال ابن جني: المعنى تعلم الزمان من سخائه فسخا به وأخرجه من العدم إلى الوجود، ولولا سخاؤه الذي استفاده منه لبخل به على أهل الدنيا واستبقاه لنفسه، فإن قيل: السخاء لا يكون إلا في الموجود، وهذا معدوم فالجواب: إن الزمان كأنه علم ما يكون فيه من السخاء إذا وجد، فكأنه استفاد منه ما تصور كونه فيه بعد وجوده، ولولا ما تصور من السخاء لبقي أبدًا بخيلًا، والشيء إذا تحقق كونه لا محالة أجري عليه في حالة عدمه كثير من الأوصاف التي يستحقها بعد وجوده. قال ابن فورجه: هذا تأويل فاسد وغرض بعيد، والسخاء بغير الموجود لا يوصف بالعدوى، ثم فسر البيت بما أسلفنا. هذا، والسخاء الجود، يقال: سخا يسخو سخاء وسخوًا وسخي يسخي سخاء وسخوة. قال الجوهري: وقول عمرو بن كلثوم:

مُشَعْشعَةً كَأَنَّ الْحُصَّ فِيهَا إِذَا مَا الْمَاءُ خَالَطَهَا سَخِينًا

(شعشع الشراب: مزجه بالماء. والحص: الورس، نبات له نوار أحمر، يشبه الزعفران، يقول: اسقني الخمر ممزوجة بالماء كأنها من شدة حمرتها بعد امتزاجها بالماء ألقي فيها نور هذا النبات الأحمر، وإذا شربناها وسكرنا جدنا بمالنا.)

أي جدنا بأموالنا، قال: وقول من قال سخينا من السخونة: نصب على الحال، فليس بشيء.

(٨٠٧) جعل اسم «كأن» نكرة، وخبرها معرفة ضرورة. والمتون: جمع متن، وهو الظهر. والغمامة: السحابة. والهندي: السيف المصنوع من حديد الهند، وفي كفه ومسلولا: حالان. وقد عكس التشبيه في هذا البيت؛ لأن الأصل أن يشبه السيف بالبرق، وهنا شبه البرق بالسيف فقال: كأن برقًا في ظهور الغمام سيفه إذا سله في يده، مبالغة في بريقه ولمعانه.

(٨٠٨) محل قائمه: أي قائم السيف؛ أي مقبضه هو يد الممدوح. ومواهبًا: تمييز. يقول: إن كفه تسيل نعمًا وهبات لو كانت مطرًا لما وجدت موضعًا تسيل فيه لكثرتها، ولعله ينظر في هذا إلى قول أبي تمام:

أَفَادَ مِنَ الْعلْيَا كُنُوزًا لَوَ انَّهَا صَوَامِتُ مَالٍ مَا دَرَى أَيْنَ تُجْعَلُ

(٨٠٩) مضاربه — جمع — مضرب — حد السيف الذي يضرب به الرقاب. ويبدين: يظهرن. أراد أن سيوفه تلازم الرقاب فوصفها بالعشق؛ لأنه أدعى الأشياء إلى اللزوم والرقة، يقول: إن سيوفه رقيقة ماضية، فكأنما هي — لرقتها — تبدي نحولًا من عشقها الرقاب، كما ينحل العاشق من جراء العشق. وعبارة بعض الشراح: يصف هذا السيف بالرقة والمضاء. يقول: إن مضاربه لكثرة ملازمتها للرقاب صارت عاشقة لها فأثر فيها هذا العشق نحولًا، فرقتها من ذلك النحول.

(٨١٠) عفره: مرغه في التراب. والهزبر: الشديد. والصارم: السيف القاطع. وكان بدر بن عمار — كما أسلفنا — هاج أسدًا عن بقرة قد افترسها فوثب على كفل فرسه وأعجله عن سل السيف فضربه بسوطه، ودار الجيش به فقتله. يقول: إذا كنت تصرع الأسد بالسوط — وهو أشد الحيوان بأسًا — فلمن خبأت سيفك؟

(٨١١) نضدت: جمع بعضها فوق بعض. والهام: الرءوس. والرفاق: جمع رفقه؛ الجماعة في السفر. وتلولا: حال؛ أي مماثلًا للتلول، جمع تل؛ الجبل الصغير. يقول: إن هذا الأسد كان بلية وقعت على أهل هذا النهر، فقد عصف بالمسافرين وأكثر القتلى منهم حتى ترك رءوسهم كالتلول المجتمعة من التراب.

(٨١٢) الورد: الذي يضرب لونه إلى الحمرة، وكذلك الأسد. والمراد بالبحيرة: بحيرة طبرية. والزئير: صوت الأسد. يقول: إذا زأر في طبرية بلغ زئيره العراق ومصر، وقد جانس بين ورد وورد.

(٨١٣) الغيل: الأجمة — الغابة — واللبدة: الشعر المجتمع على كتف الأسد. يقول: إنه لكثرة ما قتل من الفوارس قد تلطخ بدمائهم، ثم قال: وهو من غيله من الشجر كأنه في غيل آخر من لبدتيه لكثافة ما على كتفيه من الشعر وكثرته؛ شبه لبدتيه بالغابة.

(٨١٤) الفريق: الجماعة، وهو أكثر من الفرقة. وحلولا: أي حالين نازلين، حال من «الفريق». وتحت الدجى: في موضع الحال من نائب «ظنتا» يقول: ما استقبلت عين هذا الأسد في الظلام إلا ظنت نارًا أوقدت لجماعة نزلوا موضعًا. وهو معلوم أن عين الأسد وعين السنور وعين الحية تتراءى في ظلمة الليل بارقة. هذا، وقد قلنا: إن «حلولًا» حال من الفريق، وهو معلوم أن الحال من المضاف إليه قليل ضعيف، وإن كان قد جاء في شعر العرب القدامى، كقول النابغة الجعدي من قصيدة يصف فرسًا:

كَأَنَّ حَوَامِيَهُ مُدْبِرًا خَضِبْنَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تخضَبِ

حِجَارَة غَيْل بِرَضْرَاضَة كُسِينَ طِلَاءً مِنَ الطُّحْلبِ

(الحوامي: جمع حامية؛ ما عن يمين الحافر وشماله. وتخضب: بدل من «تكن». والغيل: الماء الجاري على وجه الأرض. والرضراضة: الأرض الصلبة. شبه حوافر الفرس بحجارة مقيمة في ماء قليل وذلك أصلب لها. والنون من «كسين» للحجارة. والطلاء: كل ما يطلى به. والطحلب: خضرة تعلو الماء المزمن. ومدبرًا: حال من الهاء في «حواميه» وهو محل الشاهد.)

وكقول زيد الفوارس:

عَوْذٌ وَبُهْثَة حَاشِدُونَ عَلَيْهِم حِلَقُ الْحَدِيدِ مُضَاعَفًا يَتَلَهَّبُ

(عوذ وبهثة: اسما رجلين. وحلق الحديد: الدروع. مضاعفًا: حال من «الحديد» وهو الشاهد، وجائز أن يجعل «يتلهب» في موضع الحال، ومضاعفًا: حال من المضمر في «يتلهب» ويتلهب: حال من الحلق، ويتلهب: أي يشعل، استعير للمعان الدرع.)

وقول تأبط شرًّا:

سَلَبْتَ سِلَاحِي بَائِسًا وَشَتَمْتَنِي فَيَا خَيْرَ مَسْلُوبٍ وَيَا شَرَّ سَالِبِ

(والشاهد هو مجيء بائسًا حالًا من المضاف إليه، وهو الياء من «سلاحي». وجائز أن يكون حالًا من مفعول «سلبت» المحذوف، والتقدير: سلبتني بائسًا سلاحي.)

(٨١٥) يقول: هو في غيله منفرد انفراد الرهبان في متعبداتهم، غير أنه لا يعرف حرامًا ولا حلالًا. والأسد إذا كان قويًّا هزبرًا لم يسكن معه في غيله من الأسود.

(٨١٦) الثرى ويروى البرى: التراب. والتيه: الزهو والعجب. والآسي: الطبيب، والأسد لعزته في نفسه وقوته لا يسرع المشي؛ لأنه لا يخاف شيئًا، وقد شبهه في لين مشيه بالطبيب الذي يجس العليل — المريض — فإنه يرفق به ولا يعجل.

(٨١٧) العفرة: الشعر المجتمع على قفاه. واليافوخ: الرأس. والإكليل: التاج، يقول: ويرد ذلك الشعر إلى هامته حتى يجتمع عليه فيصير ذلك لرأسه كالأكاليل، وإنما يفعل ذلك إذا غضب واغتاظ يجمع قوته في أعالي بدنه.

(٨١٨) نفسه: فاعل «تظنه». وزمجر الأسد: ردد زئيره. ومشغولًا: مفعول ثانٍ للظن. وعنها: صلة مشغولاً. يقول: إن نفسه تظنه مشغولًا عنها لكثرة ما يزمجر من شدة غضبه وغيظه. ووقع في بعض الروايات: نفسه — بالنصب — أي يزمجر لنفسه، والرواية الأولى أصح.

(٨١٩) القصر — هنا — ضد التطويل: والمخافة: مصدر مضاف إلى المفعول. والخطا: جمع خطوه، وهي مسافة ما بين القدمين، والكمي: البطل المستتر في سلاحه. والمشكول: المقيد بالشكال. قال الواحدي: وذو الحافر إذا رأى الأسد وقف وفحج (فحج: باعد ما بين رجليه ليبول) وبال. يقول: كأن الشجاع ركب فرسه بشكاله (الشكال الحبل الذي تشد به قوائم الدابة) فلا يخطو ولا يتحرك خوفًا منه، قال: هذا تفسير الناس لهذا البيت، قال: وقال ابن فورجه: المعنى لما خاف منك الأسد تقاصرت خطاه هيبة ونازعته نفسه إليك جراءة فخلط إقدامًا بإحجام، فكأنه فارس كمي ركب فرسه مشكولًا، فهو يهيجه للإقدام بجرأة، والفرس يحجم عجزًا عما يسومه لمكان شكاله.

(٨٢٠) الفريسة: صيد الأسد، وهو ما يفترسه. يريد البقرة التي هاجه عنها، والبربرة: الصياح، والبربرة — في الأصل — كلام المغضب استعارها لزمجرة الأسد. وخاله: ظنه. والتطفيل: الدخول على الآكلين من غير دعوة. وقال الليث: التطفيل: من كلام أهل العراق، يقولون: هو يتطفل في الأعراس. يقول: لما قصدته ألقى الفريسة وزمجر دونها، يعني ذودًا عنها؛ لأنه ظن أنك تتطفل على صيده لتأكل منه.

(٨٢١) الخلقان: الطبعان. يريد خلق الأسد وخلق الممدوح، والضمير من «إقدامه» للأسد. يقول: تشابهتما في الجرأة والإقدام وتخالفتما في أن الأسد شحيح بطعامه وأنت جواد باذل له، كما قال البحتري:

شَارَكْتَهُ فِي الْبَأْسِ ثُمَّ فَضَلته بِالْجُودِ مَحْقُوقًا بِذَاكَ زَعِيمًا

(٨٢٢) يريد بعضويه ما ذكره بعدُ من المتن والساعد، والمتن: جانب الصلب. والأزل: الأرسح — أي القليل لحم العجز والفخذين — وامرأة زلاء: لا عجيزة لها. والسمع الأزل: الذئب الأرسح يتولد بين الذئب والضبع، وهي صفة لازمة له كما يقال: الضبع العرجاء والمفتول المندمج الشديد كأنه فتل أي لوى، يقول: إن هذا الأسد يرى قوته وشجاعته فيك فمتنه ممسوح وساعده مفتول فقد أشبهه منك هذان العضوان.

(٨٢٣) ظامئة الفصوص: يعني فرسًا دقيقة المفاصل ليست برهلة رخوة. يقال: خيل ظماء الفصوص. والطمرة: الوثابة. يقول: قربت منه وأنت راكب في سرج فرس بهذه الصفة وتفردها بالكمال يأبى أن يكون لها نظير فلا تمثل بغيرها من الخيل.

(٨٢٤) نيالة: فعالة من النيل. والطلبات: جمع طلبة — بفتح فكسر — الحاجة والشيء المطلوب. ومكان لجامها: كناية عن رأسها. وما نيل: نفي. يقول: إن هذه الفرس تدرك ما تطلبه لشدة حضرها — جريها — وهي طويلة العنق مشرفة الرأس لولا أنها تحط رأسها للجام ما نيل رأسها. وقال الخطيب التبريزي: هذه الفرس إذا طلبت عدوًّا أو وحشًا نالته، وهي مع هذا عزيزة النفس تدل للراكب ما قدر عليها. وفيه نظر إلى قول زهير:

وَمُلْجَمُنَا مَا إِنْ يَنَالُ قَذَالهُ وَلَا قَدَمَاهُ الْأَرْضَ إِلَّا أَنَامِلُه

(٨٢٥) السوالف: جمع سالفة، وهي صفحة العنق. واستحضرتها: من الحضر، وهو الركض. والعنان: سير اللجام. يقول: إذا ركضتها جدت حتى يعرق عنقها وما حوله، وإذا جذبت عنانها طاوعت ولان عنقها حتى تظن العنان محلول العقد؛ لأنها لا تجاذبك العنان لمطاوعتها، وقال الواحدي: يجوز أن يكون هذا وصفًا لطول العنق. يعني أنها إذا رفعت رأسها استرخى العنان وطال؛ لأنه على قدر طول عنقها، فيصير العنان كأنه محلول. وقال بعض الشراح: إنما تدير عنقها ورأسها كيف شاءت، وتغلب فارسها فلا يقدر على رد رأسها بالعنان، فكأن عقد العنان محلول غير مشدود؛ لأنه لو كان مشدودًا قدر الفارس على ضبطها، قال الواحدي: وما أبعد هذا إذ فسر بغير المراد.

(٨٢٦) الزور: وسط الصدر حيث تلتقي عظامه، عاد إلى وصف الأسد، يقول: ما زال هذا الأسد حين لقيك يجمع قوى نفسه في صدره حتى صار عرضه في قلة طوله وكذلك يفعل الأسد إذا أراد الوثوب على الصيد.

(٨٢٧) يدق: يكسر. والحجار والحجارة والأحجار: جمع حجر، وهو الصخرة. والحضيض: قرار الأرض عند سفح الجبل، وقيل: هو في أسفله. وكتب يحيى بن يعمر عن يزيد بن المهلب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا واضطررناهم إلى عرعرة الجبل ونحن بحضيضه، وقال عمر عبد العزيز: أجملوا في الطلب، فلو أن رزق أحدكم في عرعرة جبل أو حضيض أرض لأتاه قبل أن يموت. وعرعرة الجبل: أعلاه. يقول: إنه لغضبه يضرب الأرض بصدره فيدق الحجر كأنه يريد أن يحفر الأرض ويتخذ سبيلًا إلى قرارها.

(٨٢٨) ادَّنى: افتعل، من الدنو؛ أي اقترب. يقول: كأن هذا الأسد غرته عينه ولم تصدقه النظر إليك ولو صدقته لما دنا منك هيبة لك، ولكنه مغرور، ظن الخطب الجليل — وهو مقاتلتك — غير جليل.

(٨٢٩) الأنف والأنفة: الاستنكاف، قال ابن جني: من عادته — أي المتنبي — أن يعترض ما هو فيه بمثل يضربه إذا كان مسددًا لما هو فيه، كقول الآخر:

وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ أَسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٍ وَلَا عُزْلِ

فالحوادث جمة: جملة اعترض بها بين الفاعل وفعله، وهو تسديد لما هو فيه. يقول: إن الكريم يأنف من الدنية فلا يهرب، بل يقدم على العدد الكثير حتى كأنه قليل في عينه. قال العكبري: وهذا عذر للأسد. يقول: لم يهرب الأسد وأنفته جعلت في عينه العدد الكثير قليلًا حتى كأنه في عينه قليل. وقال اليازجي يقول: إن أنفة الكريم في أن يعاب بالجبن تحمله على تعريض نفسه للهلكة حتى يصير العدد الكثير في عينه قليلًا، يشير إلى ثبات الممدوح وإقدامه على الأسد خوفًا من عار الهزيمة.

(٨٣٠) مضاض: مؤلم موجع. والحتف: الهلاك. يقول: إن العار موجع فمن خافه لم يخف الهلاك، وهذا كقولهم: من أنف من الدنية لم يحجم عن المنية. وهذا البيت مثل الذي قبله في الاعتراض كما قال ابن جني.

(٨٣١) المصادمة: مفاعلة من الصدم وهو الصك، والميل من الأرض: قدر منتهى مد النظر، وقيل: مسافة من الأرض متراخية ليس لها حد معلوم، والجمع: أميال وميول، يقول: إنه أعجلك من التقائك له فوثب على ردف فرسك وثبة لولا مصادمتك له عند وثبته هذه لتجاوزك مسافة ميل من شدتها.

(٨٣٢) خذله: خانه ولم ينصره، وكافحه: استقبله في الحرب بوجهه. والاستنصار: طلب النصرة. والتجديل: مصدر جدله إذا طرحه على الجدالة، وهي الأرض: أي صرعه. يقول: خانته قوته حين قاتلته؛ أي ضعفت فلم تسعفه فطلب نصرته من التسليم إليك — الانقياد وترك الخصومة — وانطرح أمامك على الأرض، فكأنه رأى النصر في ذلك، وهذا من التهكم.

(٨٣٣) مغلولًا: أي مقيدًا بالغل، وهو القيد، يقول: إن منيته حانت على يديك فقبضت على يده وعنقه لا يستطيع وثوبًا ولا فرارًا، فكأنك لقيته مقيدًا. قال الواحدي: أساء أبو الطيب في هذا حين لم يجعل أثرًا للممدوح ولا غناء في قتل الأسد وقال: كأنه كان مغلول اليد والعنق بقبض المنية عليه، وقد أساء الواحدي في نسبة الإساءة إلى المتنبي؛ لأن المعنى بديع — كما ترى — ولا غبار عليه.

(٨٣٤) الهرولة: الاضطراب في العدو. ومهولا: يريد خائفًا مذعورًا. وأراد بابن عمته: أسدًا كان قد هرب منه بعد ذلك، ولم يرد تحقيق النسب، إنما أراد أسدًا آخر من جنسه. يقول: لما سمع بقتل الأسد الأول هرب ونجا برأسه خائفًا منك.

(٨٣٥) مما فر منه: أي من الهلاك. وكقتله: خبر مقدم عن المصدر المتأول بعده، يقول: إن فراره من الهلاك، لما فيه من الذل والنقيصة وعدم موته قتيلًا مثل القتل؛ لأنه إنما سلم بالهرب، والهرب مثل القتل لدى الشجاع، بل أمر به، والمقتول بالسيف خير من المقتول بالذم والعاب، وهذا من قول أبي تمام:

أَلِفُوا الْمَنَايَا فَالْقَتِيلُ لِدَيْهِم مَنْ لَمْ يُخَلِّ الْعَيْشَ وَهْوَ قَتِيلُ

وله أيضًا:

لَوْ لَمْ يَمُتْ بَيْنَ أَطْرَافِ الرِّمَاحِ إِذَنْ لَمَاتَ إِذْ لَمْ يَمُتْ مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ

(٨٣٦) الخلة: الخليل، يستوي فيه المذكر والمؤنث، وكذلك الواحد والجمع؛ لأنه في الأصل مصدر قولك: خليل بين الخلة والخلولة. وقال أوفى بن مطر المازني:

أَلَا أَبْلِغَا خُلَّتِي جَابِرًا بِأَنَّ خَلِيلَك لَمْ يُقْتَلِ

تَخَطَّأتِ النَّبلُ أَحْشَاءَهُ وَأُخِّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ

(تقدم شرحهما.)

ومثله قول الحماسي:

أَلَا أَبْلِغَا خُلَّتِي رَاشِدًا وَصِنْوِي قَدِيمًا إِذَا مَا تَصِلُ

(يقول: أبلغا ابن عمي راشدًا صديقي من عهد قديم، إذا وصلت إليه. وبعده:

بِأَنَّ الدَّقِيقَ يَهِيجُ الْجليلَ وَأَنَّ الْعَزِيزَ إِذَا شَاءَ ذَل)

يقول: إن تلف الأسد الذي اجترأ عليك فهلك وعظ الأسد الذي فر منك، وحبب إليه الفرار.

(٨٣٧) يقول: لو عرف الناس ربهم معرفتك به لم يبعث الله تعالى رسولًا يدعوهم إليه ويعلمهم دينه، وقد أفرط في هذا البيت والذي بعده وتجاوز الحد.

(٨٣٨) يقول: لو وصل عطاؤك إلى الناس قبل إعطائك إياهم لكانوا لا يعرفون الأمل؛ لأن الموجود لا يؤمل: أي فكانوا يستغنون بما نالوا منك، لأنك تعطي فوق الأمل فلا يحتاجون إلى تأميل بعد ذلك. وقد أخذ ابن نباتة السعدي هذا المعنى فقال:

لَمْ يُبْقِ جُودُك لِي شَيْئًا أُؤَمِّله تَرَكْتَنِي أَصْحَبُ الدُّنْيَا بِلَا أَمَلِ

هذا، وقد أسكن الياء من الفعل المنصوب — وهو تعطيهم الثانية — ضرورة، قال العكبري: وهذا كثير إذا كان في حرفي العلة — الواو والياء — ومثله بيت الكتاب — كتاب سيبويه:

كَأَنَّ أيْدِيهنَّ بِالْقَاعِ الْقَرِقْ أيْدِي جَوَار يَتَعاطَيْنَ الْوَرِق

(يصف إبلًا بسرعة السير، والقرق: المكان المستوي أو الذي لا حجارة فيه.

وجوار: جمع جارية، ويتعاطين: أي يناول بعضهن بعضًا، والورق: الدراهم، وقال الشريف المرتضى في «أماليه»: القرق: الخشن الذي فيه الحصى، وشبه حذف مناسمهن له بحذف جوارٍ يلعبن بدراهم، وخص الجواري — الوليدات — لأنهن أخف يدًا من النساء، وقال آخرون: القرق هنا: المستوى من الأرض الواسع، وإنما خص بالوصف؛ لأن أيدي الإبل إذا أسرعت في المستوي فهو أحمد لها وإذا أبطأت في غيره فهو أجهد لها، والبيتان قال ابن رشيق: إنهما لرؤبة بن العجاج، قال البغدادي: ولم أرهما في ديوانه.)

(٨٣٩) حقيقة: منصوبة على التمييز. وخمولا: مفعول لأجله. وحقيقة الشيء: ما ثبت من أمره. والخامل: الساقط الذي لا نباهة له ولا شهرة. يقول: إن الناس عرفوك بما ظهر من سخائك وجودك، ولكنهم لم يعرفوك حق معرفتك؛ لأنهم لا يبلغون كنه قدرك، وإذا لم يعرفوك حق المعرفة فقد جهلوك، فليس جهلهم إياك لأنك خامل الذكر.

(٨٤٠) السؤدد: السيادة والرفعة. وتجشمت الأمر: تكلفته على مشقة. يقول: قد بلغت من الشهرة ما عرفه ما لا يعقل فضلًا عن العاقل؛ فالحمام إذا غنت فإنما تنطق بسيادتك، والخيل إذا صهلت فإنما تنطق بغزواتك التي تكلفها إياها، والبيت تتميم وتأكيد للبيت السابق.

(٨٤١) نافذًا وفحولا: منصوبان بما على أنها حجازية. والنفاذ: جواز الشيء والخلوص ومنه، نفذ ينفذ نفاذًا ونفوذًا، ورجل نافذ في أمره ونفوذ ونفاذ: ماضٍ في جميع أمره، وأمره نافذ: أي مطاع، ونفذ السهم الرمية ونفذ فيها ينفذها نفذًا ونفاذًا: خالط جوفها ثم خرج طرفه من الشق الآخر وسائره فيه، ونفذ الكتاب إلى فلان نفاذًا ونفوذًا. يقول: ليس كل من رام الرفعة والمعالي ببالغها، ولا كل الرجال بأبطال شجعان، وإنما ذلك مما يخص الله به من يشاء من عباده.

(٨٤٢) عداني: منعني. واعتلالي: فاعل عداني. وأراك بها: أي أراك وهي عليك ومعك، كما يقول: خرج بثيابه. وإنما قال هذا: لأنه رأى الخلع مطوية إلى جانبه ولم يره فيها؛ لأنه كان ذلك اليوم الذي لبس فيه الخلعة عليلًا.

(٨٤٣) يقول: افرض أنك طويتها ولم تلبسها، أتقدر أن تزيل جمالك؟ يعني أنه إنما يتجمل بجماله لا بثيابه، فإذا طوى ثيابه بقي عليه من الجمال ما لا يطوى ولا يزول.

(٨٤٤) يصفه حين كانت الخلع عليه، يريد بأعالي الثياب: ما ظهر منها للأعين. يقول: أقامت أعالي ثيابك تحسد الذي يلي جسمك منها؛ لأنه ينال من مس بدنك ما لا تناله، فبينهما قتال لذلك.

(٨٤٥) فيها: أي في الحلل؛ أي إن العيون تنظر إليك نظر المحبة والسرور وأنت في هذه الحلل كأنك في قلوب أصحاب العيون، وهي لباس عليك، مكان تلك الحلل. وقال ابن جني: قوله كأن عليك … إلخ: أي فهم يحبونك كما يحب الإنسان فؤاده. وقال ابن فورجه: يعني استحسان القلوب لها وتعلقها به وبها من ناحية الاستحسان. وقال غيرهما: أي يديمون النظر إليك، فإن العين تبع القلب تنظر إلى حيث يميل القلب إليه فالعيون إنما تنظر إليك؛ لأن القلوب تحبك — كما قال ابن جني — أو تستحسن الخلع — كما قال ابن فورجه.

(٨٤٦) يقول: فضائلك لا تحصى وإن قلت: إني أحصيها فكأني أقول: إنني أحصي الرمل، وهذا ما لا تقبله العقول؛ لأنه محال.

(٨٤٧) الضمير في «بها»: للخلع. وفي «به»: للكلام. يقول: إن هذه الخلع لا تزال ناقصة الجمال في نفسها، كما أن كلامي لا يزال ناقصًا إذ لم يستوفِ فضلك، وإنما تبلغ نهاية الكمال في الحسن بلبسك إياها؛ لأنها تتجمل بك.

(٨٤٨) العذل: الملام، وكفيته الأمر: أغنيته عنه، وأول مفعولي كفت محذوف أي كفتني. يقول: من لامني على شرب الخمر لامته منادمتي للأمير؛ لأن منادمته شرف، وليس للعاذل أن يعذل على ما يورث الشرف، وأغنتني جواب سائل يسأل فيقول: لم تشرب الخمر. هذا، ويقال: نادم فلانًا منادمة ونداما: جالسه على الشراب فهو نديمه وندمانه، قال النعمان بن نضلة العدوي — ويقال للنعمان بن عدي — وكان عمر قد استعمله على ميسان:

فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلَّمِ

لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ تَنَادُمُنَا فِي الْجَوْسَقِ الْمُتَهَدَّمِ

وجمع النديم: ندام وندماء، وجمع الندمان: ندامى. والمرأة ندمانة، والنسوة ندامى. ويقال: المنادمة مقلوبة من المدامنة؛ لأنه يدمن شرب الشراب مع نديمه، لأن القلب في كلامهم كثير كالقسي من القووس، وجذب وجبذ وما أطيبه وأيطبه، وخنز اللحم وخزن.

(٨٤٩) الجوانح: الأضلاع التي تحت الترائب، وهي مما يلي الصدر. والاصطناع: المعروف والإحسان. يقول: أرواني سحاب جودك، أي أغناني جودك، فحملت شكرك على هذا الإحسان، وإحسانك حملني — لأنه كفاني المؤنة — وتحمل أثقالي.

(٨٥٠) أوليتني: أعطيتني، ويعني بالقائل: نفسه. ومتى: سؤال عن الزمان، كأنه قال — منكرًا — أي زمان أقوم بشكر ما أعطيتني؟ أي لا أقوم به؛ لأني كلما أثنيت عليك وشكرتك حصلت على نعمة لك جديدة، وهو أن ذلك يكسبني علوًّا ورفعة: أي أن شكريك يرفع قدري.

(٨٥١) كان بدر بن عمار قد تاب من الشراب مرة بعد أخرى، ثم رآه أبو الطيب يشرب. فقال ارتجالًا:

يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي ندمَاؤُهُ

إلى أن قال:

وَالصِّدْقُ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ فَقُلْ لَنَا أَمِنَ الشَّرَابِ تَتُوبُ أَمْ مِنْ تَرْكِهِ؟!

(انظر قافية الكاف.)

فقال بدر: بل من تركه، فقال أبو الطيب هذه الأبيات. يقول: إن حظ سؤاله من ماله أكثر من حظه هو منه، فلو كان من سؤال نفسه لكان حظه من ماله أوفر.

(٨٥٢) يقول: إن أفعال الناس تتحير فيما يفعله لقصورها عنه وإرباء ما يفعله على فعلهم وما يفعله مع ذلك قليل في جانب دولته لاقتضائها الزيادة على ما فعل.

(٨٥٣) فسر المصراع الأول بالمصراع الثاني. قال ابن جني: أي إن يمينه تسح العطاء، وشماله الدماء. قال ابن فورجه: الرجل لا يقاتل بشماله والفعل يكون لليمين في كل شيء، وإنما يكون عمل الشمال كالمعاونة لليمين، وإنما يريد أن يديه جميعًا كالسحابتين عطاء وسح دماء.

(٨٥٤) يقول: إنه سفك دماء الأعداء ليرزق الطير من لحومهم؛ لأن الطير لما عودها من إطعامها لحوم الأعداء صارت عيالًا له، فالباعث له على قتلهم هو الجود، وهذا كقوله:

مَا بِهِ قَتْلُ أَعَادِيهِ وَلَكِنْ يَتَّقِي إِخْلافَ مَا تَرْجُو الذِّئَابُ

وقد زاد بذكر الجود والعيال على ما قاله الشعراء من إطعام الطير لحوم الأعداء.

قال ابن جني: أبلغ من هذا في المدح أنه ينحر ويذبح ليأكل الطير مما يجده من اللحم، فكأنه سفك الدماء بجوده لا ببأسه.

(٨٥٥) قال ابن جني: لو قال: دون زواله لكان أحسن، وكان مثل قول الآخر:

بِقَلْبِي غَرَامٌ لَسْتُ أَبْلُغُ وَصْفَهُ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ فَهْوَ شَدِيدُ

تَمُرُّ بِهِ الْأَيَّامُ تَسحبُ ذَيْلَهَا فَتبْلَى بِه الْأَيَّامُ وَهْوَ جَدِيدُ

قال: وله أن يحتج عنه فيقال: إن الأيام بعض الدهر، وليست هذه الأيام جميعه. وقد يجوز أن يذهب بعض الدهر ويبقى بعضه فيبقى الغرام بحاله مع بقاء المحب، فقال: إن الغرام باقٍ بقلبي فإذا ما زال زال معه الذكر، وقول أبي الطيب: بقي الذكر له إنما يصح ببقاء الناس، فإذا زال الناس والدهر عدم الذكر.

(٨٥٦) أبت: رجعت. وعفت: كرهت. يقول: لم أطول في جلوسي عنده؛ لأني رجعت وقد قضيت حاجتي.

(٨٥٧) أقفرت: خلوت ورحل عنك أهلوك. وأواهل: عامرة ذوات أهل. يقول: إنك قد أقفرت من أهلك، أما القلوب فما برحت آهلة بك؛ لأن مثالك لا يزايلها. وعبارة الواحدي: لم تدرس منازلك في القلوب وإن أقفرت أنت، يعني تجدد ذكرها في قلبه، وهذا من قول أبي تمام:

وَقَفْتُ وَأَحْشَائِي مَنَازِلُ لِلْأَسَى بِهِ وَهْوَ قَفْرٌ قَدْ تَعَفَّتْ مَنَازِلُهُ

ومثله للبحتري:

عَفَتِ الدِّيَارُ وَمَا عَفَتْ أَحْشَاؤُهُ

وقال ابن المعتز:

بُؤسًا لِدَهْرٍ غَيَّرَتْكَ صُرُوفُهُ لَمْ يَمْحُ مِنْ قَلْبِي الْهَوَى وَمَحَاكَا

قال ابن جني: بيت المتنبي أجمع من بيت أبي تمام؛ لأنه ذكر منازل الحزن فخص، والمتنبي ذكر المنازل فعم، ولقد أحسن ابن المعتز إذ جمع المعنى في كلمتين.

(٨٥٨) قوله: ببكى عليه، يروى: يبكى عليه، أي أولاكما بأن يُبكى عليه. فحذف الجار ثم حذف «أن»، وأولاكما: أي أحقكما، مبتدأ، خبره: العاقل. وذاك: خطاب للمنازل. يقول: إن القلوب التي هي منازل لديار الأحبة تعلم أن الأحبة قد رحلوا وتركوها خالية، أما الديار فلا تعلم ذلك والذي يعلم — وهو القلوب — هو الأولى بأن يُبكى عليه لعلمه بما ألم به. وعبارة الواحدي: إن منازلك التي في القلب تعلم إقفارك وخلوك من الأحبة وأنت لا تعلمين، والأحق منكما بالبكاء عليه هو العاقل، يعني القلب، أي أن قلبي أحق بأن يُبكى عليه منك؛ لأنك جماد لا تعلمين ما حل بك، أما هو فعليم به. وقال ابن جني: أي إن منازل الحزن بقلبي تعلم ما يمر بها من ألم الهوى وأنت تجهلين ذلك.

(٨٥٩) اجتلب: افتعل من الجلب، والمنية: الموت، والطرف: النظر. قال اللغويون: الطرف اسم جامع للبصر، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنه في الأصل مصدر فيكون واحدًا، ويكون جماعة، قال تعالى: لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ. يقول: إن طرفي هو الذي جلب المنية إليَّ بالنظر، فمن أطالب بدمي وأنا الذي قتلت نفسي؟ وهذا كما يقول قيس بن ذريح:

وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَنِيَّتِي بِكَفَّيَّ إِلَّا أَنَّ مَا حَانَ حَائِنُ

(قبله:

وَإِنِّي لَمفنٍ دَمْعَ عَيْنِي بِالْبُكَا حِذَارًا لِمَا قَدْ كَانَ أَوْ هُوَ كَائِنُ

وَقَالُوا: غَدًا أَوْ بَعْدَ ذَاكَ بِلَيْلَةٍ فِرَاقُ حَبِيبٍ لَمْ يَبِنْ وَهوَ بَائِنُ

وفي الأغاني:

بِكَفَّيكَ إِلَّا أَنَّ مَنْ حَانَ حَائِن

«والحائن الهالك».)

ويقول دعبل:

لَا تَعْجَبِي يَا سَلْمُ مِنْ رَجُلٍ ضَحِكَ الْمَشِيبُ بِرَأْسِهِ فَبَكَى

لَا تَأْخُذَا بِظُلَامَتِي أَحَدًا قَلْبِي وَطَرْفِي فِي دَمِي اشْتَرَكَا

(٨٦٠) الضمير في «وعنده» للذي اجتلب — في البيت السابق — يعني نفسه. والظباء: أي الحبائب المشبهات بالغزلان. والتابعة: التي تتبع أمها في المرعى. أراد: الصغيرة السن من الظباء. وظبية خاذل وخذول: وهي التي تتخلف في المرعى عن صواحبها. يقول: تخلو الديار من حسانها، وتفارقها وخيال من أهواه لا يفارقني. وقال الواحدي: تخلو الديار من النساء الحسان وعندي من كل صغيرة منهن خيال يأتيني كأنه تأخر عنهن.

(٨٦١) اللاء: أي اللواتي، نعت للظباء، أو بدل «من كل تابعة». وأفتكها: مبتدأ، والجبان: خبره. وبمهجتي: صلة «أفتكها». وكان الوجه تقديم «بمهجتي» على «الجبان» ولكنها الضرورة. وقال الخطيب التبريزي: الباء من قوله: «بمهجتي» متصلة في المعنى بأفتكها، إلا أنه لا يمكن تعلقها به؛ لأنه قد أخبر عنه بقوله: الجبان، ومحال أن يخبر عن الاسم وقد بقيت منه بقية، فلما امتنع ذلك علق الباء بمحذوف دل عليه أفتكها، فكأنه أضمر بعد ذكر الجبان فتكت بمهجتي. ويريد بالجبان: النافرة من الرجال؛ لأنها تخافهم. يقول: إن أفتك هؤلاء الظباء بمهجتي هي النفور التي أنا مغرم بها، والبخيلة منهن بالوصل هي أحبهن إليَّ قربًا.

(٨٦٢) الراميات: أي هن الراميات، ولك أن تجرها على التبعية، ومثلها الخاتلات. والختل: أخذ الصيد من حيث لا يدري. يقول: ترميننا بسهام لحاظهن وهن عنا نافرات غير مقبلات علينا، وكذلك يختلننا — يصدننا — بحسنهن غير عالمات بذلك.

(٨٦٣) المها: بقر الوحش، تشبه الحسان بها لحسن عيونها. والحبائل: جمع حبالة؛ الشرَك ينصب للصيد، يقول: هؤلاء يشبهن بقر الوحش في سواد حدقهن وسعة عيونهن ونحن نصيد بقر الوحش، فجازيننا عنهن وأخذن بثأرهن في صيدنا شبههن فصدننا بحبائل نصبنها في غير التراب، يعني بأعينهن.

(٨٦٤) الثغر: جمع ثغرة، وهي نقرة النحر التي بين الترقوتين، والجآذر، جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والمراد بالجآذر: النساء. والدمالج: جمع دملج وهو حلي يلبس في العضد. والخلاخل: جمع خلخل، لغة في خلخال. وجآذر وخلاخل: مبتدآن، خبرهما: الجار والمجرور قبلهما. يقول: إنهن يفعلن بحسنهن ما يفعل الطاعن بالرمح: أي يقتلن بهواهن، وحليهن تفعل ما تفعل الرماح. وعبارة ابن جني والواحدي: نساء مثل الجآذر بحليهن يفعل ما يفعل الطاعن بالرمح، كما قال الآخر:

هَلْ يَغْلِبَنِّي وَاحِدٌ أُقَاتِلهْ رِيمٌ عَلَى لَبَّاتِهِ سَلَاسِلُه

سِلَاحُهُ يَوْمَ الْوَغَى مَكَاحِلُه؟

وقال صريع الغواني:

بَارَزْتُهُ وَسِلَاحُهُ خَلْخَالُه حَتَّى فَضضت بِكَفِّي الْخَلْخَالَا

(٨٦٥) يقول: إنما سميت أغطية العيون جفونا؛ لأنها تتضمن أحداقًا تعمل ما تعمله السيوف فسميت أغطيتها باسم غطاء السيف، وهو الجفن. ومن أنها: بيان لذا، والضمير من قوله: أنها للعيون. وعمل: مفعول مطلق. وعوامل: خبر أن.

(٨٦٦) سجرتك: ملأتك، ومنه: «والبحر المسجور»، ويجوز أن تكون بمعنى ألهبتك. ويروى: شجرتك: أي حبستك عن الكلام، ويقال: ما شجرك عنه: أي ما صرفك من قولهم: شجرتك الدابة؛ إذا أصبت شجرها — والشجر ما بين اللحيين — باللجام لتكفها. ويروى: سحرتك؛ أي جعلتك مسحورًا بالشوق أو أنها أصابت سحرك: أي رئتك. وغري به: أولع. واللجاج: التمادي في المماحكة. يقول — مخاطبًا نفسه: كم وقفة لك مع الحبيبة تركتك على هذه الحال؟ وتمام الكلام في البيت التالي.

(٨٦٧) ناحلين: حال محذوف بعد وقفة: أي كم وقفة وقفناها ناحلين! والشاكل: الذي يشكل الكتاب؛ أي بعجمه. يقول: كم وقفنا ناحلين دون التعانق؟ أي دنا بعضنا من بعض ولم نتعانق خشية الرقيب والعاذل على الرغم مما نحن فيه من شدة الشوق. ثم شبههما واقفين متدانيين ناحلين كشكلتي نصب — أي فتحتين — قد دقق الكاتب رسمهما وضم بينهما فقرب إحداهما من الأخرى، وهذا منقول من قول الآخر:

إِنِّي رَأَيْتُكَ فِي نَوْمِي تُعَانِقُنِي كَمَا تُعَانِقُ لامُ الْكَاتِبِ الْأَلِفَا

ومثله لأبي إسحق الفارسي:

ضَمَمْتُهَا ضَمَّةً عُدنا بِهَا جَسَدًا فَلَوْ رَأَتْنَا عُيُونٌ مَا خَشِينَاهَا

(٨٦٨) يقول: تمتع بالنعمة واللذة ما بقي لك شبابك فله آخر من حيث كان له أول. [يعني] أنه يفنى ولا يبقى.

(٨٦٩) الأرب: الحاجة. وروق الشباب وريقه: أوله وأفضله. وقوله: ما دمت: فما مصدريه زمانية، والظرف المتأول منها صلة «انعم». يقول: انعم ولذ ما دام للحسان أرب فيك: يعني ما دمت شابًّا، فإن روق الشباب ظل يزول ولا يبقى.

(٨٧٠) آونة: جمع أوان كزمان وأزمنة. والقبل: جمع قبلة. يقول: للهو ساعات سريعة المرور كتزويد الحبيب الراحل من عندك قبلًا. فهي لذيذة ولكنها وشيكة الانقضاء كذلك ساعات اللهو وأوقات السرور.

(٨٧١) جمح الفرس: غلب فارسه، وجمح الرجل: ركب هواه فلا يمكن رده. قال الشاعر:

خَلَعْتُ عِذَارِي جَامِحًا لَا يَردُّنِي عَنِ الْبِيضِ أَمْثَالِ الدُّمَى زَجْرُ زَاجِرِ

وجمحت المرأة تجمح جماحًا من زوجها: خرجت من بيته إلى أهلها قبل أن يطلقها، ومثله: طمحت طماحًا، قال:

إِذَا رَأَتْنِي ذَاتُ ضِغْنٍ حَنَّت وَجَمَحَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَأَنَّت

وجمح إليه: أسرع، وقوله تعالى: لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ قال الزجاج: أي يسرعون إسراعًا لا يرد وجوههم شيء. ومن هذا قيل: فرس جموح، قال الأزهري: فرس جموح له معنيان؛ أحدهما: يوضع موضع العيب؛ وذلك إذا كان من عادته ركوب الرأس لا يثنيه راكبه، وهذا من الجماح الذي يرد منه بالعيب. والمعنى الثاني: أن يكون سريعًا نشيطًا مرحًا، وليس هذا بعيب يرد منه، ومصدره الجموح. و«ما» من قوله: «مما يشوب» نكرة موصوفة بمعنى شيء. ويشوب: يخلط. وأبو الفضل: كنية الممدوح. والمنى: جمع منية؛ ما نتمناه. والهائل: المهوب المخوف. يقول: جمح الزمان — أي قهر وغلب — فما تخلص لذة من أذًى يشوبها حتى إن هذا الممدوح رؤيته منى كل أحد، ولكنها مع ذلك مقام هائل مهوب، فلم تخلص هذه المنية من شائب ينغصها، قال ابن جني: هذا خروج — مخلص — ما روي أغرب منه.

(٨٧٢) ممطورة: خبر مقدم عن طرقي. وإليها: صلة طرقي. ودونها: خبر مقدم عن وابل. والفج: الطريق الواسع بين جبلين. والوابل: المطر الغزير. يقول: إن طرقي إلى رؤية الممدوح ممطورة بآثار إحسانه، يعني أنه يصل إلى إحسانه قبل وصوله إليه، ودون الوصول إلى رؤيته — أي بيني وبينها — وابل من جوده قد ملأ كل فج، فالضمير في «بها، ودونها» لرؤيته، ورُوي: «إليه ودونه»، والضمير: للممدوح.

(٨٧٣) الأزمة: جمع زمام؛ ما تقاد به الدابة، وذوامل: مسرعات. يقول: إن رؤيته محجوبة بما يغشاها من المهابة التي ترد الأبصار عن النظر إليه، حتى لو أن مطيًّا أسرعت في سيرها واعترضتها هذه الهيبة لارتدت عن مسيرها ولم تقدم إشفاقًا من الإقدام. قال الواحدي: وهذا إلى الهجاء أقرب منه إلى المدح. وقد عدل ابن جني عن ظاهر الكلام فقال: كأن على الطرق إليه سرادقًا يمنع من العدول عنه إلى غيره، والناس أبدًا ينحون نحوه. هذا، والسرادق — وجمعه سرادقات — هو كل ما أحاط بشيء، نحو الشقة في المضرب. أو الحائط المشتمل على شيء، أو الخباء. قال في الصحاح: السرادق الذي يمد فوق صحن الدار، وكل بيت من كرسف — أي قطن — فهو سرادق. قال رؤبة:

يَا حَكَمُ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ أَنْتَ الْجَوَادُ بْنُ الْجَوَادِ الْمَحْمُودْ

سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ

وقال سلامة بن جندل، يذكر قتل كسرى للنعمان بن المنذر:

هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانِ بَيْتًا سَمَاؤُهُ صُدُورُ الْفيولِ بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ

(٨٧٤) الشمائل: الخلائق والطبائع؛ جمع شمال. يقول: فيه إضاءة الشمس ومنفعتها وبهاؤها وجود السحاب والبحار وبأس الأسود، وتصرف الرياح في أحياء البلاد وسوق الأمطار؛ يريد عموم نفعه وعموم تصرفه وإسراعه في العطاء.

(٨٧٥) ملعقيان يريد من العقيان، حذف النون لالتقاء الساكنين، وخصت النون بالحذف لمناسبتها حروف العلة بالغنة. ومثله: ملحياة وملممات. والعقيان: الذهب، والمناهل: الموارد. يقول: إن الناس يردون منه على هذه الأشياء كما يردون مناهل الماء. ومن الحياة: أي لأوليائه. ومن الممات: أي لأعدائه، وقد زاد على أبي تمام في قوله:

تَرْمِي بِأَشْبَاحِنَا إِلَى مَلِكٍ نَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ وَمِنْ أَدَبِهْ

لأنه ذكر الموت والحياة.

(٨٧٦) اللجب: الضجيج. والوفود: الذين يفدون عليه يطلبون العطاء. وحواله: كحوله وحواليه. والقطا: الطائر المعروف. والفلاة: الصحراء. والناهل: الوارد على منهل الماء. قال ابن جني: يعني لو لم يخفِ القطا أصوات الوفود ببابه لسرى إليه ليشرب منه. وقال ابن فورجه: يعني أن القطا يراه ماء معينًا فيَهمُّ بوروده ويشفق من لجب وفوده على عادة الطير. قال الواحدي بعد أن ساق كلامهما: المعنى أنه لعموم نفعه تهم الطير بالورود عليه لتنقع غلتها، ليس أنه ماء يشرب منه أو تراه الطير ماء كما ذكر الشيخان.

(٨٧٧) أراد قبل «أن» في الموضعين فحذف «أن» فارتفع الفعل. ومن ذهنه: صلة يدري. يقول: هو — لذكائه وحدة ذهنه — يدري ما تطلب قبل أن تظهره له ويجيب قبل أن تسائل.

(٨٧٨) أحداقنا: فاعل تراه. ومعترضًا: حال. يقول: تراه عيوننا إذا اعترض لها أو تولى. يعني أن الأبصار إذا واجهته تحيرت ولم تستوفِ النظر إليه من الهيبة، وإنما تراه في حال اعتراضه وتوليه لانحرافه عنها حينئذٍ.

(٨٧٩) القضب: جمع قضيب، وهو السيف. وفواصل: قواطع. والضرائب: جمع ضريبة، وهي المضروب بالسيف. والمفاصل: جمع مفصل؛ ملتقى العظمين. يقول: كلماته سيوف قواطع أينما أصابت فصلت، فكأن كل موضع تقع عليه مفصل: يعني أنها تفصل بين الحق والباطل كما يفصل السيف إذا وقع على المفاصل.

(٨٨٠) القنابل: جمع قنبلة؛ الطائفة من الخيل: أي الجماعة من الجيش. يقول: إن مكارمه غلبت مكارم الناس حتى كأنها جيوش. يعني أنه يغلب كل جيش، كذلك مكارمه غلبت أيضًا مكارم غيره. وقنابل: يروى قبائل.

(٨٨١) يقال للداهية: أم دفر. وأم الدهيم. والدفر — في الأصل — النتن، ثم سميت به الداهية لخبثها، ومن هنا يقال للدنيا: أم دفر. والدهيم — في الأصل — اسم ناقة كانت لعمرو بن الريان بن الذهلي، خرج بنوه في طلب إبل لهم، فلقيهم كثيف بن زهير فضرب أعناقهم، ثم حمل رءوسهم في جوالق وعلقه في عنق الدهيم هذه، ثم خلاها في الإبل فراحت على أبيهم عمرو، فقال لما رأى الجوالق: أظن بني صادوا بيض نعام ثم أهوى بيده فأدخلها في الجوالق، فإذا رأس، فلما رآه قال: آخر البز على القلوص. فذهبت مثلًا، فقيل: أشأم من الدهيم، وأطلقت على الداهية. والهابل: الثاكل، وهي التي فقدت ولدها. يريد أن يقول: إن مكارمه أفنت الدواهي والشدائد حتى فقدت فكأن أمها صارت ثاكلًا، ومن ثم لا تعرف الخطوب والبأساء والشدائد؛ لأن مكارمه عصفت بها. هذا، وقد اضطربت كلمة الشراح في إعراب البيت، ولعل الأوجه أن يقال: إن أم الدهيم نائب فاعل «ترى» أي أن أم الدهيم لا ترى بعد ذلك، ثم ابتدأ وقال: وأم دفر هابل. وقال ابن جني: فما ترى أراد فما تريان فاكتفى بضمير الواحد من الاثنين، وقال: صدر البيت يتم به الكلام وأم الدهيم: ابتداء، وهابل خبر لأم دفر وأم الدهيم، وتقديره: أم الدهيم هابل، وأم دفر كذلك. ويجوز أن يكون اكتفى بضمير الواحد، كما قال الآخر:

لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلُّ بِهَا الْعَيْنَانِ تَنْهَل؟

(زحلوقة زل: أي زلق. وزحلوقة بالقاف، تروى: زحلوفة بالفاء، وهما لغتان، وهي آثار تزلج الصبيان من فوق إلى أسفل.)

فلم يقل تنهلان لاكتفائه بأحد الضميرين.

(٨٨٢) اللج: معظم الماء. يقول: هو علامة العلماء الذي يرجعون إليه في مسائلهم، وهو في جوده لج ليس له منتهى، وكل لج له منتهى ينتهي إليه إلا هذا.

(٨٨٣) مثله: نعت لمصدر محذوف: أي طيبًا مثل طيب مولده وطهارته. والقوابل: جمع قابلة، وهي التي تشارف المرأة عند الولادة. يقول: إنه خرج من بطن أمه طيبًا طاهرًا، فلو ولدت النساء أولادهن كما ولدته أمه لما احتجن إلى القوابل في تلك الحال.

(٨٨٤) الجنين: الولد في بطن أمه. وبيانه: مفعول مطلق: أي كبيانه. وضمير «به»: للجنين، والحامل: فاعل درت. وقوله: ذكر أم أنثى: أراد أذكر هو أم أنثى فحذف همزة الاستفهام لدلالة «أم» عليها ووصل همزة «أنثى» بعد نقل حركتها إلى الميم. يقول: لو بان الجنين بيانه بالكرم — أي كما بان كرمه حين كان جنينًا — لما التبس على الحامل الذكر بالأنثى: يعني أنه حين كان جنينًا كان ظاهر الكرم يعرف أنه مولود كريم، فلو بان حال كل جنين بيان كرمه لعرف الذكر من الأنثى.

(٨٨٥) المشاعل: جمع مشعل، وهو ما يضرم فيه النار ليهتدى به في الأسفار وغيرها. قال الواحدي: يأمرهم أن يزيدوا تواضعًا، فإن فضائلهم لا تخفى بالتواضع. وقد ضرب لذلك المثل بكتمان المشاعل في الظلام، فإنها لا تخفى، ومتى كان الظلام أشد كانت المشاعل أظهر، كذلك متى كان تواضعهم أكثر كانت فضائلهم أكثر. وقال التبريزي: كان لهذا الممدوح نسب في ولد الحسن بن علي عليهما السلام، فأمرهم بالتواضع؛ لأنهم كلما ازدادوا في التواضع ظهر شرفهم، وإن أخفوا نسبهم لا ينكتم، كما أن المشاعل لا تنكتم في الظلام.

(٨٨٦) السفاد: نزو الذكر على الأنثى. والرباب: غيم يتعلق بأسافل السحاب إذا كثر ماؤه. يقول: إنهم يكتمون معروفهم كما يكتم الغراب سفاده. ثم ذلك لا ينكتم، كما لا يخفى السحاب الهاطل.

(٨٨٧) جفخت: فخرت وتكبرت. وشيم: فاعل جفخت. وبهم: متعلق بجفخت، وجملة: وهم لا يجفخون بها: معترضة. والشيم: جمع شيمة، وهي الخلق والطبيعة. والحسب: ما يعد من مآثر الآباء. والأغر: السيد الكريم، يقول: إن لهم شيمًا كريمة تدل على ما لهم من الحسب الشريف، وهذه الشيم تفخر بهم وهم لا يفخرون بها لبعدهم عن الزهو والخيلاء.

(٨٨٨) متشابهي: كأنه منصوب على الحال من ضمير «يجفخون». والورع: التقوى. وعف الإزار وعفيفه: متنزه عن الفحشاء. والحلاحل: السيد العظيم. يقول: هم سواء في التقوى والورع، وكل من كبيرهم وصغيرهم عفيف ذو سيادة وعظمة.

(٨٨٩) يا افخر: يريد: يا هذا افخر، فحذف المنادى. ويجوز أن تكون «يا» للتنبيه كقوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ كأنه قال: «ألا اسجدوا» وكقول ذي الرمة:

أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيِّ عَلَى الْبِلَى وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجرعائِكِ الْقَطْرُ

ويروى: فافخر، ثم قال: إن الناس فيك ثلاثة أقسام: إما مستعظم يستعظمك؛ لما يرى من عظمتك، أو حاسد يحسدك على فضلك، أو جاهل يجهل قدرك.

(٨٩٠) يقول: بعد أن ظهر علوك وعرفه الناس لا تكترث لذم الحاسد؛ لأنه لا ينقص من قدرك، ولا لحمد الحامد؛ لأنه لا يزيدك علوًّا. فقوله: بعد ما عرفوا: أي بعد الذي عرفوه — فالضمير للناس، والعائد إلى «ما» محذوف.

(٨٩١) النائل: العطاء. يقول: إمساكك عن إسكاتي نائل منك عندي بعدما عرفت تقصيري. وبعبارة أخرى: إني قصرت في الثناء عليك، فكان حقك أن تؤاخذني بهذا التقصير، ولكنك أمسكت عني تكرمًا وتفضلًا فعددت ذلك عطاء منك لو لم تتجاوزه لكفاني.

(٨٩٢) تنشد: أي أن تنشد، فحذف «أن» فرفع الفعل، والهزبر: الأسد. والباسل: الشديد. يقول: لهيبتك وعلمك بالشعر وتمييزك جيده من رديئه لا يجرؤ الشعراء على أن ينشدوا بين يديك، ولكني — لجودة شعري واقتداري — أجرؤ على ذلك. قال الواحدي: وقول أبي نصر بن نباتة في هذا المعنى أحسن وأجود حيث يقول:

وَيلمهَا عِنْدَ السُّرَادِقِ هَيْبَةً لَوْ سَابَقَتْ قَضَبَ الْعِظَام فَضَائِلِي

نَفَضَتْ عَلَيَّ مِنَ الْقَبُولِ مَحَبَّةً قَامَتْ بِضَبْعِي فِي الْمقَامِ الْهَائِلِ

(٨٩٣) بابل: هي المدينة المشهورة، وإليها ينسب السحر، وفيها نزل الملكان اللذان كانا يعلمان الناس السحر بها — كما جاء في القرآن الكريم — يقول: ما نال شعراء الجاهلية جميعًا شعري ولا سمع أهل بابل بمثل سحري في الشعر.

(٨٩٤) يقول: إذا ذمني ناقص كان ذمه دليل كمالي وفضلي؛ لأن الناقص لا يحب الكامل الفاضل، لما بينهما من التفاضل، قال أبو تمام:

لَقَدْ آسَفَ الْأَعْدَاءَ فَضْلُ ابْنِ يُوسُفٍ وَذُو النَّقْصِ فِي الدُّنْيَا بِذِي الْفَضْلِ مُولَع

وقد أخذ أبو تمام هذا المعنى من قول مروان بن أبي حفصة:

مَا ضَرَّنِي حَسَدُ اللِّئَامِ وَلَمْ يَزَلْ ذُو الْفَضْلِ يَحْسُدُهُ ذَوُو التَّقْصِيرِ

وأصل هذا المعنى من قول الطرماح:

لَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئٍ غَيْرِ طَائِلِ

وأني شقي باللئام ولا ترى شقيًّا بهم إلا كريم الشمائل

(٨٩٥) أهيل: تصغير أهل، صغره تحقيرًا لهم. وفاعل يدعي: يعود على أهيل؛ لأن لفظ «أهل» واحد. ولك أن تقول: إن فاعل يدعي: باقل. وباقل: رجل من العرب كان يوصف بالعي، وفيه جرى المثل: أعيا من باقل، يقال: إنه كان اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فقيل له: بكم اشتريته؟ فعيي عن الجواب بلسانه، ففتح يديه، وفرق أصابعهما وأخرج لسانه، يريد أحد عشر درهمًا — فأفلت الظبي. يقول: من يكفل لي بفهم أهل عصر يدعون أن «باقلًا» يعلم حساب الهند مع سوء علمه بالحساب؟ يعني أنهم جهال لا يعرفون الجاهل من العالم، ولا الناقص من الفاضل. أو تقول: من لي بأهل عصر لا يفرقون بين العالم والجاهل حتى لو ادعى «باقل» بينهم معرفة الحساب لم يجد فيهم من يكذب دعواه؟ قال ابن جني ناقدًا: «وباقل» هذا لم يؤتَ من سوء حسابه، وإنما أُتي من سوء عبارته، فلو هو قال أن يفحم الخطباء فيهم «باقلا» أو نحو هذا لكان أسوغ. قال الواحدي — ردًّا عليه: وليس كما قال؛ فإن «باقل» كما أُتي من البيان أُتي من البنان فإنه لو بنى من سبابته وإبهامه دائرة ومن خنصره عقدة لم يفلت منه الظبي، فصح قول أبي الطيب في نسبته إلى جهل الحساب.

(٨٩٦) مقسم: يروى بكسر السين — على أنه اسم فاعل — وبفتحها — على أنه مصدر ميمي بمعنى القسم.

(٨٩٧) تقدير البيت: الطيب أنت طيبه إذا أصابك، والماء أنت الغاسل له إذا اغتسلت، فالطيب: مبتدأ، وأنت: مبتدأ ثانٍ، وطيبه: خبر أنت. والجملة: خبر الطيب. ومثله الشطر الثاني. وروى ابن جني: والماء أنت — بنصب الماء — قال: وتقديره وتغسل أنت الماء، دل على هذا المضمر قوله: الغاسل. يقول: إذا أصابك الطيب فأنت طيب له وإذا اغتسلت بالماء فأنت الغاسل له. يعني أنت أطيب من الطيب وأطهر من الماء كما قال الآخر:

وَإِذَا الدُّرُّ زَانَ حُسْنَ وُجُوهٍ كَانَ لِلدُّرِّ حُسْنُ وَجْهِكِ زَيْنَا

وَتَزِيدِينَ أَطْيَبَ الطِّيبِ طِيبا أَن تَمَسِّيهِ أَيْنَ مِثْلُكِ أَيْنَا؟!

(٨٩٨) النثا: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيئ — يقال: فلان حسن النثا وقبيح النثا، ومنه نثا الحديث والخبر نثوًا: حدث به وأظهره وأشاعه. ويروى: ثناك. يقول: ما دار اللسان في الحنك وما قلبت أنامل قلمًا بأحسن من أخبارك، كأنه يقول: ما قيل ولا كتب أحسن من مدحك وذكر أوصافك.

(٨٩٩) يقول: أماتكم الجهل قبل أن تموتوا؛ أي أنتم موتى من جهلكم وإن كنتم أحياء، وليس لكم وزن ولا قدر، ولخفة وزنكم تستطيع النمل أن تجركم، والسفيه الأحمق الخفيف العقل يوصف بخفة الوزن، كما أن الحليم الرزين يوصف بثقل الوزن.

(٩٠٠) وليد: تصغير ولد، وهو يقع على الواحد والجماعة، الذكور والإناث والمراد هنا الجماعة وهو منصوب؛ لأنه نداء مضاف. والكلب: نعت أبي الطيب. والدعوى، الادعاء في النسب، وهو أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه. يقول: يا أولاد هذا الرجل الخسيس أنتم لا عقل لكم تعقلون به شيئًا، فكيف فطنتم للانتساب إلى من لستم منه في شيء؟ أي إلى غير أبيكم.

(٩٠١) المنجنيق: آلة تُرمى بها الحجارة. قال صاحب «اللسان»: المنجنيق — بفتح الميم وكسرها — والمنجنوق: دخيل أعجمي معرب، وأصلها بالفارسية: من جي نيك: أي ما أجودني، وهي مؤنثة، قال زفر بن الحارث:

لَقَدْ تَرَكَتْنِي مَنْجِنِيقُ ابْن بَحْدل أحيدُ عَنِ الْعُصْفُورِ حِينَ يَطِيرُ

وتقديرها: منفعيل، لقولهم: كنا نجنق مرة ونرشق أخرى. قال الفراء: والجمع: منجنيقات، وقال سيبويه: هي فنعليل، الميم من نفس الكلمة أصلية؛ لقولهم في الجمع: مجانيق وفي التصغير: مجينيق، ولأنها لو كانت زائدة والنون زائدة لاجتمعت زائدتان في أول الاسم، وهذا لا يكون في الأسماء ولا الصفات التي ليست على الأفعال المزيدة ولو جعلت النون من نفس الحرف صار الاسم رباعيًّا، والزيادات لا تلحق ببنات الأربعة أولًا إلا الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج، ومنهم من قال: إن الميم والنون زائدتان، لقولهم: جنق يجنق؛ إذا رمى، والمتنبي يريد بالمنجنيق هنا: هجاءه. ورفع «أصل» على إعمال «لا» عمل «ليس»، على حد قول الحماسي:

مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا فَأَنا ابْنُ قَيْسٍ لَا بَراحُ

(من أبيات لسعد بن مالك تراها في الحماسة، وقد تقدم شرحها وأولها:

يَا يُؤْسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي وَضَعَتْ أَرَاهِطَ فَاسْتَرَاحُوا)

يقول: لو ضربتكم بهجائي وأصلكم قوي لكسرتكم وأهلكتكم فكيف ولا أصل لكم يعرف؟

(٩٠٢) يقول: لو كنتم عقلاء لما انتسبتم إلى من يعرف أنه لا نسل له ولا عقب؛ أي فقد ظهرت دعواكم بهذا الانتساب وأنكم كذابون فيما تدعون. يهجو قومًا يزعمون أنهم شرفاء.

(٩٠٣) قال الليث: الفعال اسم للفعل الحسن من الجود والكرم ونحوه، وقال ابن الأعرابي: الفعال فعل الواحد خاصة في الخير والشر، يقال: فلان كريم الفعال وفلان لئيم الفعال، قال: والفعال — بكسر الفاء — إذا كان الفعل بين الاثنين.

(٩٠٤) البخور — بفتح الباء — قال البكري: والعامة تضمها، وقلت — ها هنا — بمعنى أشرت، ويقال: قال بكمه: أي أشار، وقال برأسه نعم: أي أشار. والنوال: العطاء. يقول: إن أشرت في هذا البخور أن يساق إليَّ سوقا فهكذا قلت وفعلت في العطاء.

(٩٠٥) كان من خبر هذا الرجل أنه لما قدم أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية مر به وهو في طرابلس — وكان محافظًا على الطريق — فسأله أن يمدحه فلم يفعل، فاعتاقه عن سفره ثلاثة أيام، فلما فارقه هجاه بالقصيدة التي مطلعها:

لِهَوَى النُّفُوسِ سَرِيرَةٌ لَا تُعْلَمُ عَرضًا نَظَرْتُ وَخِلْتُ أَنِّي أَسْلَمُ

وستمر بك في قافية الميم، وهي من عيون قصائده.

(٩٠٦) يجوب الأرض: يقطعها. والحزن: الغليظ من الأرض. يقول: أتاني وعيده من مسافة بعيدة.

(٩٠٧) صفراء: اسم أمه، وقيل: صفراء: كناية عن الاست، والعرب تسب بنسبة الرجل إلى الاست، كما قال:

بِأَنَّ بَنِي استِهَا نَذَرُوا دَمِي

يقول: إنه على البعد يوعدني، ولو لم يحل بيني وبينه إلا رمحي لكان ما بيني وبينه طويلًا بعيدًا؛ لأنه لا يتمكن من الوصول إليَّ ولا يستطيع الإقدام عليَّ لجبنه.

(٩٠٨) يقول: إنه غير مخوف على من يهينه ولا يكترث له، وقصاراه إذا مسه الهوان أن يبكي، ولا يلجأ في الجزاء إلى غير البكاء فيتعزى به عن الإهانة.

(٩٠٩) يقول: إن عرضه ليس جميلًا حتى يستحق أن يصان؛ لأنه إنما يصان الجميل، وعرضه لا يجمل أن يجمل.

(٩١٠) يقول: هو كاذب في دعواه أني أذللته بهجائي، فهو ذليل حقير من قبل هجائي إياه، فقوله: ما أذللته بهجائه: كلام مستأنف، و«ما»: نافية.

(٩١١) الربع: المنزل. والطلل: ما شخص من آثار الديار. جعل كون الأحبة في الربع حياة له وارتحالهم عنه قتلًا؛ لأن الأمكنة إنما تحيا بالعمارة والسكان، فإذا خلت من العمار فهي ميتة، وفي الحديث: «من أحيا مواتًا فهو أحق به.» الموات: الأرض التي لم تزرع ولم تعمر، ولا جرى عليها ملك أحد، وإحياؤها: مباشرة عمارتها. يقول: رحلتم فخرب ربعكم وعفا طللكم، ولكنهما ليسا أول حي قتل من جراء فراقكم، ثم بين ذلك فيما يلي. هذا، وحسب الشيء يحسب: أي ظنه، بفتح السين وكسرها، في المضارع، قال في التهذيب: والكسر أجود اللغتين، وقال الجوهري: ويقال أحسبه — بالكسر — وهو شاذ؛ لأن كل فعل كان ماضيه مكسورًا فإن مستقبله يأتي مفتوح العين، — نحو علم يعلم — إلا أربعة أحرف جاءت نوادر: حسِب يحسِب. ويبس ييبس ويئس ييئس، ونعم ينعم، فإنها جاءت من السالم بالكسر والفتح، ومن المعتل ما جاء ماضيه ومستقبله جميعًا بالكسر: ومق يمق، ووفق يفق، ووثق يثق، وورع يرع، وورم يرم، وورث يرث، ووري الزند يري، وولي يلي.

(٩١٢) العذلة: جمع عاذل. يقول: قد تلفت نفوس العشاق قبل الربع بسببكم أو بهواكم أو بفراقكم، وأكثر العاذلون — اللائمون — عذلهم في هواكم لما رأوا من تهالكهم فيكم.

(٩١٣) الصرم: الجماعة من البيوت بمن فيها، وجمعه أصرام. والمروح: الذي يروح إبله من المرعى. يقول: إن الربع موحش خالٍ وإن كان فيه ناس ونعم لارتحال أحبابنا عنه؛ يعني أنه وإن كان قد حله ناس بعدهم يعد في حقي كالخالي الموحش لي، فكأنه قفر لا أحد فيه، وإن كان عامرًا بأهليه.

(٩١٤) الضمير في «برجه»: للحبيب. ورضي: بمعنى اختار وأحب، فلذلك عداه بغير حرف الجر. يقول: لو سار هذا الحبيب الجميل عن فلك من أفلاك السماء لما اختار هذا الفلك الذي كان فيه أن تحله الشمس بدلًا منه؛ لأنها لا تغني غناءه، إذ لا تعادله في المحاسن.

(٩١٥) لك أن تجعل «والهوى» عطفًا على الضمير المنصوب في قوله: «أحبه» فيكون من قبيل قوله:

وَإِنِّي لَأَعْشَقُ مِنْ عِشْقِكُمْ نُحولِي وَكُلَّ فَتًى نَاحِلِ

ولك أن تجعله قسمًا، كقول البحتري:

أَمَا وَهَواكِ حِلفَةَ ذِي اجْتِهَادِ

والأدؤر: جمع دار. والصبابة: رقة الشوق. والوله: ذهاب العقل. أي أحبه وأحب كل ما يرتبط به، ثم قال: إن الحب صبابة تملك قلب العاشق، ووله: أي فهو يجمل كل شيء للحبيب.

(٩١٦) ينصرها: أي الأدؤر. والهطل: الكثير السكب. يقول: يسقيها السحاب وعطشها إنما هو إلى غير المطر، وهو الحبيب الذي سار عنها وكان ينزل بها ويقال: نصر الغيث الأرض نصرًا: أغاثها وسقاها وأنبتها، قال الشاعر:

مَنْ كَانَ أَخْطَأَهُ الرَّبيعُ فَإِنَّمَا نُصِرَ الْحِجَازُ بِغَيْثِ عَبْدِ الْوَاحِدِ

ونصرت البلاد: إذا مطرت، فهي منصورة: أي ممطورة. ونصر القوم: إذا غيثوا.

(٩١٧) الحرب — بالتحريك — في الأصل نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، والمراد هنا: الهلاك. يقول الواقع في الهلاك: واحربا. والجداية: ولد الظبي. ومقيمة: حال من الضمير في «منك». وفاعلمي: معترضة. يقول: واحربا منك يا ظبية هذه الدار أقمت أو رحلت؛ لأنك إن أقمت منعنا عنك الصد، وإن رحلت حال بيننا وبينك النأى — البعد — فأنت تهجرين عند الإقامة وتفارقين عند الرحيل، فقربك وبعدك سيان في هلاكي.

(٩١٨) العبير: أخلاط تجمع من طيب. والضمير في «بها» للأدؤر. والتفلة: المنتنة الريح. يقول: إنما كانت ديارك تطيب بك فإذا خلت منك لم يطب لي رياها وكانت عندي تفلة، ولو خلطوا ترابها بالمسك والعبير، كما قال:

وَكَيْفَ الْتِذَاذِي بِالْأَصَائِلِ والضُّحَى إِذَا لَمْ يَعُدْ ذَاكَ النَّسِيمُ الَّذِي هَبَّا

(٩١٩) النجل: الولد: ونجله أبوه: ولده. يقول: أنا ابن الذي بعضه — أي ولده — يفوق أبا الباحث عن نسبي، أي أنا فوق أب الذي يبحث عن نسبي، وقوله: والنجل … إلخ: أراد به أن يبين أن المراد ببعضه الولد.

(٩٢٠) نافرت فلانًا فنفرته: أي فاخرته ففخرته. وأصل ذلك أن الرجلين من العرب كانا يحتكمان في الجاهلية إلى من عرف بالرياسة والفضل والصدق فيقولان له: أي نفرينا أفضل؟ فإذا فضل أحدهما على الآخر فالمغلوب منفور والغالب نافر، قال الأعشى:

بَانَ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا وَاعْتَرَفَ الْمَنْفُورُ لِلنَّافِرِ

(يروى:

قَدْ قُلْتُ شِعْرِي فَمَضَى فِيكُمَا وَاعترف … … إلخ

وهو للأعشى يمدح عامر بن الطفيل ويحمل على علقمة بن علاثة وكانا قد تنافرا إلى هرم بن سنان المري. والمنفور: المغلوب. والنافر: الغالب.)

وأنفدوا: أفرغوا وأفنوا. يقول: إنما يذكر الأجداد للقوم الباحثين والمفاخرين من غلبوه بالفخر ولم يجد حيلة فافتخر بالآباء. يعني إنما يحتاج إلى الفخر بجدوده من لا فضيلة له في نفسه.

(٩٢١) العضب: السيف القاطع. واللام الداخلة عليه زائدة لبيان الفاعلية. وفخرًا: مفعول مطلق نائب عن فاعله؛ أي ليفخر فخرًا. ومشتمله: أراد مشتملًا به، والاشتمال: أن يتقلد السيف فتكون حمائله على منكبه كالثوب الذي يشتمل به. والسمهري: الرمح. واعتقل الرمح: جعله بين ساقه وركابه. يقول: إن سيفي ورمحي يفتخران بي، لا أنا بهما.

(٩٢٢) خيره: أي أفضله، يروى: «حبره»؛ أي زينته وجماله. يقول: لبست الفخر فصار رداء على منكبي، ونعلًا تحت قدمي، فجدير به إذن أن يفخر بي.

(٩٢٣) يقول: بي بين الله أقدار الناس في الفضل؛ لأني أصف كل أحد بما فيه. أو لأن من أكرمني وأحسن إليَّ دل ذلك على مروءته، وميله إلى ذوي الفضل، ومن استخف بي، ولم يكترث لي دل ذلك على خسة قدره ولؤم نحيزته. كما قال البحتري:

وَإِنَّ مُقَامِي حَيْثُ خَيَّمْتُ مِحْنَةٌ تَدُلُّ عَلَى فَهْمِ الْكِرَامِ الْأَجَاوِدِ

وقوله: والمرء حيثما جعله: أي حيثما جعل نفسه. فمن صان نفسه، ورفع قدرها رفع الناس كذلك قدره، ومن تعرض للهوان أهين، كما قال:

إِذَا مَا أَهَانَ امْرُؤٌ نَفْسَهُ فَلَا أَكْرَمَ اللهُ مَنْ أَكْرَمَه

وقدمًا قيل:

وأَكرِمُ نَفْسِي إِنَّنِي إِنْ أَهَنْتُهَا وَحَقِّكَ لَمْ تكرُمْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدِي

ويجوز أن يكون المعنى: والمرء حيثما جعله الله؛ أي لا يستطيع أحد أن يتقدم منزلته التي وضعه الله بها.

(٩٢٤) جوهرة: أي أنا جوهرة. والغصة: ما يغص به الإنسان فلا يسيغه. والسفلة — بكسر الفاء — كسفلة — بسكونها وكسر السين — أسافل الناس وغوغاؤهم والسقاط منهم. يقول: أنا زينة الناس إذ أنوه بمناقبهم، وأشيد بذكر محاسنهم، فأنا جوهرة يفرح بها، وشجًا في حلوق اللئام لا يقدرون على إساغتي؛ لأني أقول فيهم ما أدلهم به وأكشف عن نقائصهم.

(٩٢٥) الكذاب: الكذب، يقال: كذب يكذب كذبًا وكذبًا وكذابًا وكذابًا، ورجل كاذب، وكذاب، وتكذاب وكذوب، وكذوبة، وكذبة — مثال همزة — وكذبان، وكيذبان، وكيذبان، ومكذبان. ومكذبانة وكذبذبان، وكذبذب وكذبذب. قال جريبة بن الأشيم:

فَإِذَا سَمِعْت بِأَنَّنِي قَدْ بِعْتُكُمْ بِوِصَالِ غَانِيَةٍ فَقُلْ كُذَّبْذُبُ

والكذب: جمع كاذب، مثل راكع وركع، قال أبو دواد الرؤاسي:

مَتَى يَقُلْ تَنْفَعُ الْأَقْوَامَ قَوْلَتُهُ إِذَا اضْمَحَلَّ حَدِيثُ الْكُذَّبِ الْولعَهْ

أَلَيْسَ أَقْرَبَهُمْ خَيْرًا وَأَبْعَدَهُمْ شرًّا وَأَسْمَحَهُمْ كَفًّا لِمَنْ مُنِعَهْ؟!

لَا يَحْسُدُ النَّاسَ فَضْلَ اللهِ عِنْدَهُمْ إِذَا تَشوه نُفُوس الْحُسَّدِ الْجَشعهْ

(الولعة: جمع والع، مثل كاتب وكتبة، والوالع: الكاذب.)

والكذب: جمع كذوب، مثل صبور وصبر، ومنه قرأ بعضهم قوله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ فجعله نعتًا للألسنة، وأكاد به: أقصد به على وجه الكيد بي. يعرض بقوم وشوا به إلى أبي العشائر. يقول: ذلك الكذب أهون عندي من راويه وناقله؛ أي لا أكترث له ولا لمن رواه.

(٩٢٦) مبالٍ: خبر عن محذوف: أي فلا أنا مبال. والمداجي: الذي يساتر العداوة. والواني: المقصر. وتكلة: بمعنى وكلة، وهو الذي يكل أمره إلى غيره. ينفي عن نفسه هذه الصفات، يقول: فلا أنا مبالٍ بأعدائي ولا مداجٍ لهم، ولا أنا مقصر في أمري، وفيما يجب عليَّ مراعاته وحفظه، ولا عاجز عن مكافأة المسيء، ولا ضعيف أكل أمري إلى غيري.

(٩٢٧) الدارع: لابس الدرع. وسفته: ضربته بالسيف. واللقى: الشيء المطروح. والعجاج: الغبار. والعجلة: يجوز أن يراد بها الاستعجال الذي يكون من الضارب والطاعن في الضرب والطعن، ويجوز أن تكون بمعنى الثكل — من قولهم: ناقة عجول: إذا فقدت ولدها — قال علماء اللغة: والعجول من النساء والإبل: الواله التي فقدت ولدها الثكلى لعجلتها في جيئتها وذهابها جزعًا، قالت الخنساء:

فَمَا عجُولٌ عَلَى بَوٍّ تُطِيفُ بِهِ لَهَا حَنِينَانِ: إِعْلَانٌ وَإِسْرَارُ

(بعده:

تَرْتَعُ مَا رتعت حَتَّى إِذَا ادَّكرت فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ

يَوْمًا بَأَوْجَدَ مِنِّي يَوْمَ فَارَقَنِي صَخْرٌ وَللْعَيْشِ إِحلاءٌ وَإِمْرَارُ

وترتع ما رتعت: يروى: ترقع ما غفلت، والبو: جلد ولد الناقة إذا مات حين تلده أمه يحشى تبنًا وهي لا تراه، ويدني منها فتشمه وترأمه فتدر عليه اللبن.)

ويجوز أن يكون بمعنى الطين، قيل في قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي من طين. وقال الشاعر:

وَالنَّبْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعجلِ

يقول: رب دارع ضربته بالسيف فتركته مطروحًا كالشيء الملقى وقت التقائنا.

(٩٢٨) رعته: أعجبته أو أرهبته. والقافية هنا: القصيدة. والمنقح: الذي يهذب القول ويختاره. والقولة: الجيد القول. يقول: إنه يبده السامع بالقافية الجيدة يرتاع لها ويتحير في حسنها الشاعر المجيد.

(٩٢٩) أشهد: بمعنى أحضر. والطعام: مفعول ثانٍ مقدم. و«من» مفعول أول، وأشهد يروى يشهد: ويروى أشهد — مضارع شهد، فتكون «معي» بحذف واو الحال أي ومعي، وقد تحذف: كما تقول: مررت بزيده على يده باز. ويريد بذلك الرجل الذي وشى به، وكان يقال له: المسعودي، كان المتنبي قد وصله بأبي العشائر فصار نديمًا له، ثم تناوله عند أبي العشائر.

(٩٣٠) لعل هذا ينظر إلى قول جميل:

إِذَا مَا رَأَوْنِي طَالِعًا مِنْ ثَنِيَّةٍ يَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَدْ عَرَفُونِي

(٩٣١) الحلل: الثياب. ومستحييًا: أي إنما أفعل ما ذكرت مستحييًا، فهو حال، العامل فيها مقدر. يقول: إنما أقمت مع الأعداء في بلد؛ لأني أستحي من أبي العشائر أن ألبس خلعه في غير بلده.

(٩٣٢) وجلة: خائفة. يقول: إن ثيابه لا تحب أن تفارقه لتشرفها به فهي تخاف أن يخلعها على جليسه.

(٩٣٣) النائل: العطاء، وكذلك السيب. يقول: إن غلمانه البيض كعطائه في أنه يهبهم — أي غلمانهم — أي أنه يهب غلمانه كما يهب أمواله، فيكون أول ما يحمله إليك من العطاء، أولئك الذين يحملون ذلك العطاء — وهم الغلمان.

(٩٣٤) ويروى: أبذل ما ود مثل ما بذله: أي من الود، فحذف النون. وهذا كالمعاتبة مع نفسه، والإقرار بالتقصير في مدحه، ومعارضته بمثل الود الذي يبذله.

(٩٣٥) الكيذبان: الكذاب — وقد وفينا القول على هذه المادة قريبًا — يقول: أكذبتني عيني فيما أدت إليَّ من محاسنه، أم وجد الكاذب فرصة فغير ما بيننا؟ ويجوز أن يريد بالعين: الرقيب، وأنث: جريًا على اللفظ. يقول: هل أخفى الرقيب عنده خبرًا من أخباري في حبي إياه وميلي إليه؟ وقال بعض الشراح: يقول: هل أخفت عينه عليه أثرًا من آثار خدمتي فجحدها عليَّ، أم أعار الكاذب سمعه فبلغ عنده ما يأمله من الوشاية بي؟ وهذا استفهام إنكار. أي ليس الأمر على ما ذكر، وإذن: لا أقصر في حقه ولا آلو جهدًا في مديحه. هذا، ويقال: أمل خيره يأمله أملًا، وكذا أمله تأميلًا أي رجاه.

(٩٣٦) منخوة: أي ذات نخوة — أي عظمة وكبر — والرأس يوصف بالكبر، يقال: في رأسه نخوة، والزعلة: النشيط، والزعلة أيضًا: البطرة الأشرة. يقول: أليس الممدوح ضراب كل رأس متكبر بطر يوم الوغى والقتال؟!

(٩٣٧) عذله: أي لامه على إسرافه وكثرة عطاياه.

(٩٣٨) الهول: الأمر العظيم الشديد. ولا يفتره: أي لا يفتره الهول وإن كثر ركوبه إياه. والمحزم: ما يقع عليه الحزام من الدابة. لما جعله راكبًا والهول مركوبًا أجراه مجرى المركوب من الدواب: أي أنه جهده بالركوب حتى لو كان له محزم لظهر عليه الهزال، وإنما خص المحزم؛ لأن الدابة إذا هزلت اتسع حزامها لما لحقها من الضمور.

(٩٣٩) قال الواحدي: أراد بالأحمر: فرسه الذي ركبه في وقعته بأنطاكية. والمكلل: الجاد الماضي في الأمر. يقال: حمل فكلل: أي مضى قدمًا ولم يخم، أنشد الأصمعي:

حَسَم عِرْق الدَّاءِ عَنْهُ فقضب تَكْلِيلَةَ اللَّيْثِ إِذا اللَّيْثُ وَثب

قال الأصمعي: وقد يكون كلل بمعنى جبن. يقال: حمل فما كلل: أي فما كذب وما جبن كأنه من الأضداد، وأنشد أبو زيد لجهم بن سبل:

وَلَا أُكَلِّلُ عَنْ حَربٍ مُجَلِّحَةٍ وَلَا أُخَدِّر لِلْمُلْقِينَ بِالسلمِ

ويقال: إن الأسد يهلل ويكلل، وإن النمر يكلل ولا يهلل، والمكلل: الذي يحمل فلا يرجع حتى يقع بقرنه، والمهلل: يحمل على قرنه ثم يحجم فيرجع. ويقال انكل الرجل انكلالًا: أي تبسم، وانكلت المرأة تنكل انكلالًا: إذا ابتسمت. قال الأعشى:

وَيَنْكَلُّ عَنْ غُرٍّ عِذَابٍ كَأَنَّهَا جَنْيُ أُقْحُوَان نَبْتُهُ مُتَنَاعِمُ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

وَتنكلُّ عَنْ عَذْبٍ شَتِيت نباته لَهُ أُشُرٌ كَالْأُقْحُوَانِ الْمُورِ

ومن روى «المكلل» — في البيت — بفتح اللام: أراد المتوج. ويجوز في «المشرع» النصب على أنه نعت للفارس، والخفض على أنه نعت للأحمر. يعني الذي أشرع الأعداء نحوه رماحهم.

(٩٤٠) الضمير من «وجهه»: للفرس، وضمير «أقسم» للممدوح. ويقول: لما رأت خيولهم وجه فرسه في حومة الوغى أقسم بالله لا أرتد عنهم ولا رأوا كفله حتى يأتي عليهم قتلًا. ولعل هذا المعنى من قول الآخر:

حَتَّى يَظُنُّوهُ إِنْسَانًا بِغَيْرِ قَفا وَأَنَّهُ رَاكِبٌ طِرفًا بِلَا كفل

(٩٤١) يقال: أكبرت الشيء إذا استكبرته، وأصغره: يروى بفتح الراء على أنه فعل ماضٍ أي استكبروا فعله واستصغره هو، وتم الكلام ها هنا ثم استأنف فقال. أكبر من فعله الذي فعله؛ أي هو أكبر من فعله وهذا هو تفسير ابن جني. قال العروضي: على هذا التفسير لا يكون مدحًا؛ لأن من المعلوم أن كل فاعل أكبر من فعله، والخالق تعالى ذكره فوق المخلوقين، وقالوا: إن خيرًا من الخير فاعله، وإن شرًّا من الشر فاعله، ولكن معنى البيت: إن الناس استكبروا فعله واستصغره هو، فكان استصغاره لما فعل أحسن من فعله، كما تقول: أعطاني فلان كذا وكذا واستقله، فكان استقلاله لذلك أحسن من إعطائه. قال العروضي: ثم العجب أنه غلط في صناعة هو إمامها المقدم فيها، وذلك أن «الذي» يصلح أن يكون بمعنى «من» وبمعنى «ما»، تقول: رأيت الذي دخل، ورأيت الذي فعلت، وكان يجب أن يذهب في هذا إلى «ما» فذهب إلى «من» ففسد المعنى. ولك أن تقول: أكبر من فعله الذي فعله؛ أي أن الذي فعل هذا الفعل هو أكبر منه: أي أنه إنما استصغره بالنسبة إلى عظم قدره. وروى الخوارزمي: وأصغره بضم الراء — على أنه مبتدأ مخبر عنه بما بعده: أي وأصغر فعله أكبر مما استعظموه.

(٩٤٢) القاطع: يروى: القائل، والقاتل. والكميل: بمعنى الكامل. أنشد سيبويه:

عَلَى أَنَّنِي بَعْدَمَا قَدْ مَضَى ثَلَاثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلا كميلا

يُذَكِّرنيكِ حَنِينُ الْعجولِ وَنَوْحُ الْحمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلا

(يقول: لم أنسَ عهدك على بعده، فكلما حنت عجول — وهي الفاقدة ولدها من الإبل وغيرها — أو ناحت حمامة، رقت نفسي فذكرتك. والهديل هنا: صوت الحمامة ونصبه على المصدر، والعامل فيه يدعو؛ لأنه بمنزلة تهدل. ويجوز أن يكون الهديل الفرخ الذي يزعم الأعراب أن جارحًا صاده في سفينة نوح فالحمام يبكي عليه، كما قال طرفة:

كَدَاعِي هَدِيل لَا يُجَابُ وَلَا يُمل

فالهديل هنا الفرخ؛ لأن الحمام تدعوه نائحة عليه فلا يجيبها ولا تمل دعاءه.)

وكمل — بفتح العين وضمها — يكمل — بالضم — في مضارعهما: وكمل — بكسر العين — يكمل — بالفتح — لا غير. قال الجوهري: والكسر أردؤها. يقول: يقطع ويصل كما يشاء ولا يشغله فعل جميل عن فعل جميل آخر. وقد فسر البيت فيما يلي.

(٩٤٣) تشجره: تنفذ فيه وتخالطه. ومنه قول شريح بن أوفي العيسي:

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ؟!

(قبله:

وَأَشْعَثَ قَوَّام بِآيَاتِ رَبِّهِ قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ

شَكَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ

عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتبعِ الْحَقَّ يَظْلِمِ

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ … … … … … [البيت]

قال شريح هذه الأبيات يوم الجمل حين أمر أبو طلحة محمد بن طلحة أن يبرز للقتال وكان من قرابة رسول الله ﷺ، فكان كلما حمل عليه رجل قال نشدتك بحاميم — لما فيها من آية قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، حتى حمل عليه العبسي هذا فقتله، ثم قال هذه الأبيات. يقول: ورب أشعث من أثر العبادة كثير القيام والعمل بآيات ربه، أو القيام في الليل بتلاوتها قليل الأذى. ورُوي: الكرى أي النوم، ورُوي: القذى، وهو ما يتساقط في العين فيغمضها، كنى بقتله عن قلة النوم فيما ترى العين؛ أي في رأي العين. شككت: أي خرقت له بالرمح جيب — أي طوق — قميصه كناية عن طعنه به في صدره ومن خلفه حتى نفذ من صدره فسقط مطروحًا على يديه ووجهه، وعبر بالفم مبالغة في التنكيل، ولأنه أول ما يلقى الأرض من الوجه، وذلك بلا سبب، غير أنه ليس تابعًا لعلي بن أبي طالب، وهكذا حال كل من لم يتبع الحق يذكرني حاميم، والحال أن رمحي قد اختلط بأضلاعه، وقد كان من حقه أن يذكرنيها قبل ذلك.)

يقول: لا تمنعه الحرب عن الجود ولا الجود عن الطعان.

(٩٤٤) يقول: كلما آمن بلاده من مهاجمة الأعداء سرى في طلب الغزو والفتح، وكلما خيف مكان نزله فدفع عنه المخافة وآمنه.

(٩٤٥) الختل: الأخذ خدعة. أي على بغتة. يقول: كلما حارب أعداءه جهارًا تمكن منهم وظفر بهم حتى كأنه خادعهم وأتاهم بغتة. وضمير «أمكن» للعدو: أي أمكنه من نفسه.

(٩٤٦) البيض — بكسر الباء — السيوف، وتروى بفتح الباء: جمع بيضة، وهي الخوذة التي تجعل على الرأس. واللدان: الرماح اللينة، جمع لدن. وسن عليه درعه: إذا صب الدرع على نفسه بأن لبسها. والدلاص: الدرع اللينة الملساء. ونثل الدرع: ألقاها عنه. قال ابن جني: وذكر الدرع بقوله نثله ضرورة أو يكون ذهب إلى البدن. يقول: إنه يحتقر السيوف والرماح — دارعًا كان أو حاسرًا — وسن بالسين المهملة — يروى بالشين المعجمة، وكلتاهما بمعنى صب، يقال: سن عليه الماء، أي صبه، وسن عليه الدرع يسنها سنًّا كذلك: إذا صبها عليه، قال الجوهري: سننت الماء على وجهي: أي أرسلته إرسالًا من غير تفريق، فإذا فرقته بالصب قلت «بالشين»، ويقال: شن عليهم الغارة: إذا فرقها.

(٩٤٧) الفقاهة: الفهم والفطنة والعلم، فقه الرجل يفقه فقاهة. يقول: إن فقاهة الممدوح هذبت فهمه لي، فهو يفهم شعري ويعرف جيده، وفصاحتي هذبت شعري له، فأنا آتيه به فصيحًا لا عاب فيه.

(٩٤٨) يقول: أنا أحمده حمد السيف إياه، والسيف لا يحمد كل حامل له وكذلك أنا لا أحمد كل يد.

(٩٤٩) وأنت مكلفي: حال: وأنبى: تفضيل — من قولهم: نبا به المكان: إذا لم يوافقه، ونبا السيف: كلَّ عن الضريبة. والشقة: المسافة. يقول: تمنعني من المسير خوفًا عليَّ أن ينبو بي المكان الذي أنا قاصده وتتعبني مشقة السفر وأنت تكلفني من الإقامة عندك بما هو أنبى بي وأطول تعبًا وأشد حالًا من السفر البعيد.

(٩٥٠) الفسطاط: مدينة مصر قديمًا. وأراد بلقني: اجعلهم يلقونني؛ أي ابعثهم خلفي ليردوني إليك. يريد إذا سرت عنك لم تقدر على ردي إليك. هذا، والرجال: الرجالة قال تعالى: فرجالًا أو ركبانًا. يقال: رجل الرجل رجلًا فهو راجل ورجل ورجل ورجيل ورجل ورجلان: إذا لم يكن له ظهر في سفر يركبه وشاهد رجلان:

عَلَيَّ إِذَا لَاقيتُ لَيْلَى بِخَلْوَةٍ أَنْ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلانَ حَافِيَا

والجمع رجال ورجالة ورجال ورجالي ورجالي ورجالي ورجلان ورجلة ورجلة ورجلة وأرجلة وأراجل وأراجيل. قال أبو ذؤيب:

أَهَمَّ بَنِيهِ صَيْفُهُمْ وَشِتَاؤُهُمْ وَقَالُوا: تَعَدَّ وَاغْزُ وَسْطَ الْأَرَاجِل

(يقول: أهمهم نفقة صيفهم وشتائهم، وقالوا لأبيهم: تعد أي انصرف عنا وحارب وسط الرجالة. وقال الجوهري: أراجل هنا جمع رجل، خلاف المرأة.)

قال ابن بري: الأراجل هنا جمع أرجال، وأرجال جمع راجل — مثل صاحب وأصحاب وأصاحيب — إلا أنه حذف الياء من الأراجيل، لضرورة الشعر. قال أبو المثلم الهذلي:

يَا صَخْرُ وَاردَ مَاءٍ قَدْ تَتَابَعَهُ سَومُ الْأَرَاجِيلِ حَتَّى مَاؤُهُ طَحِل

(سوم الأراجيل: أي حر الرجالة. وماء طحل: كدر.)

والرجلان بمعنى الراجل، جمعه رجلى ورجال — مثل عجلان وعجلى وعجال — ويقال: رجل ورجالي، مثل عجل وعجالى. وامرأة رجلى: مثل عجلى. ونسوة رجال مثل عجال، ورجالى مثل عجالى. أما الرجل خلاف المرأة فجمعه رجال. ورجالات: جمع الجمع. قال الجوهري في جمع الرجل: أراجل، واستشهد ببيت أبي ذؤيب المتقدم ويقال للمرأة: «رجلة»، قال الشاعر:

كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا غَيْرَ جِيرَانِ بَنِي جَبَلَه

خَرَقُوا جَيْبَ فَتَاتِهِمْ لَمْ يُبَالُوا حرمَةَ الرَّجلَه

(عنى بجيب فتاتهم: هنها.)

(٩٥١) مني: تجريد. يريد أنه بطل شجاع لا يقبل الضيم — الظلم — وإن فوارسه ورجالاته لا يقدرون على رده إليه.

(٩٥٢) قال ابن خلكان: هو «فاتك» الكبير المعروف بالمجنون، كان روميًّا أخذ صغيرًا من بلاد الروم بقرب موضع يعرف بذي الكلاع، وهو ممن أخذه الإخشيد من سيده بالرملة كرهًا بلا ثمن وأعتقه، فكان حرًّا عنده في عدة المماليك، وكان كريم النفس، بعيد الهمة، شجاعًا كثير الإقدام، ولذلك قيل له: «المجنون»، وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمة الإخشيد، فلما مات مخدومهما وتقرر كافور في خدمة ابن الإخشيد أنف «فاتك» من الإقامة بمصر كيلا يكون كافور أعلى رتبة منه ويحتاج أن يركب في خدمته، وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعًا له فانتقل إليها — وهي بلاد وبيئة كثيرة الوخم — فاعتل بها جسمه وأحوجته العلة إلى دخول مصر للمعالجة، فدخلها وبها المتنبي. وكان أبو الطيب يسمع بكرم «فاتك» وشجاعته، إلا أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفًا من كافور، و«فاتك» يسأل عنه ويراسله بالسلام ثم التقيا في الصحراء مصادفة وجرى بينهما مفاوضات فلما رجع «فاتك» إلى داره حمل إلى أبي الطيب هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها، فاستأذن «المتنبي» الأستاذ كافور في مدحه فأذن له، فمدحه في التاسع من جمادى الآخر سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة بهذه القصيدة. انتهى. ولعل في هذه القصة ما يفسر به قول المتنبي:

فَأُمْسِكَ لَا يُطَالُ لَهُ فَيَرْعَى … … … [البيت]

كأنه يقول: لا يباح له أن يقصد خدمة غير كافور بمصر، ولا كافور يرضيه، ولا يطلق سراحه فيرحل عن مصر.

(٩٥٣) الإسعاد: الإعانة. يقول — مخاطبًا نفسه: ليس عندك من الخيل والمال ما تهديه إلى الممدوح جزاء له على إحسانه إليك فليسعدك النطق؛ أي فامدحه، وجازه بالثناء عليه إن لم تعنك الحال؛ أي على مجازاته بالمال. وفي مثل هذا المعنى يقول يزيد المهلبي:

إِنْ يُعْجِزِ الدَّهْرُ كَفِّي عَنْ جَزَائِكُم فَإِنَّنِي بِالْهَوَى وَالشُّكْرِ مُجْتَهِدُ

قال العكبري: «وهذا من الابتداء الذي يكرهه السامع بأن يقول للممدوح: لا خيل عندك تهديها ولا مال، وهو أول ما يقول له. وقال في إعراب «لا خيل» نصب الخيل بلا؛ لأنها تنصب النكرات بغير تنوين، وقال سيبويه والخليل: يجوز أن ترفع النكرات بالتنوين. وأنشد العجاج:

تَاللهِ لَوْلَا أَنْ تَحُشَّ الطُّبَّخُ بِي الْجَحِيمَ حِينَ لَا مُسْتَصْرَخُ

(يريد بالطبخ: الملائكة الموكلين بالعذاب، وحش النار بالحطب: أوقدها، ومنه حش الحرب يحشها حشًّا: إذا أسعرها وهيجها تشبيها بإسعار النار.)

وما ارتفع بعدها عند بعض النحاة على الابتداء، وفي قراءة من قرأ: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ برفع الثلاثة أنه على الابتداء، والخبر في «الحج». وقرأ بعضهم برفع «الرفث»، و«الفسوق»، ونصب، «الجدال»، وهو كقول أمية بن أبي الصلت.

فَلَا لَغْوٌ وَلَا تَأْثِيمَ فِيهَا وَمَا فَاهُوا بِهِ لَهُمُ مُقِيمُ

(قالوا في قوله تعالى: لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ أن تأثيم يجوز أن يكون مصدرًا.

قال ابن سيده: ولم أسمع به، قال: ويجوز أن يكون اسمًا كما ذهب سيبويه في التثبيت والتمتين.)

وقرأ آخرون بنصب الأولين ورفع الثالث وهو كبيت أبي الطيب، ومثله:

هَذَا لَعَمْركُمُ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ لَا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلَا أَبُ

(هو لرجل من مذحج يقال له: هني بن أحمد الكناني، وكان هني هذا ممن يبر أمه ويخدمها، وكانت مع ذلك تؤثر أخًا له عليه — يقال له جندب — فقال:

هَلْ فِي الْقَضِيَّةِ أَنْ إِذَا اسْتَغْنَيْتُمُ وَأَمِنْتُمْ فَأَنَا الْبَعِيدُ الْأَجْنَبُ

وَإِذَا الْكَتَائِبُ بِالشَّدَائِدِ مَرَّةً حَجَرتُكُمُ فَأَنَا الْحَبِيبُ الْأَقْرَبُ

وَلِجُندبٍ سَهْلُ الْبِلَادِ وَعَذْبُهَا وَليَ الْمِلَاحُ وَحَزْنُهُنَّ الْمُجْدِبُ

وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةً أُدْعَى لَهَا وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ

عَجَبًا لِتِلْكَ قَضِيَّةً وَإِقَامَتِي فِيكُمْ عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَعْجَبُ!

هَذا لَعَمْركُمُ الصَّغَارُ … … … … [البيت]

الحيس هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، و«عجبا» يروي عجب.)

وهذا محمول على الموضع؛ لأن موضع الأول رفع بالابتداء، ويكون «لا» بمعنى «ما» فكأنك قلت: ما رجل ولا غلام في الدار.

(٩٥٤) يقول: واجزه بالمدح والثناء عليه والشكر له؛ فإن إنعامه يأتي فجأة من غير تقدم سؤال وانتظار، وغيره من الناس اقتصر على القول دون الفعل، قال المهلبي:

وَكَمْ لَكَ نَائِلًا لَمْ أَحْتَسِبْهُ كَمَا يُلْقَى مُفَاجَأَةً حَبِيبُ!

والنعمى والنعماء والنعمة: المال واليد والصنيعة، وما أنعم الله به عليك والخفض والدعة: ضد البأساء والبؤس، والنعمى إذا كانت على فعلى قصرت، وإذا كانت على فعلاء: مدت.

(٩٥٥) الخريدة الجارية الحيية. والمكسال من النساء: الفاترة القليلة التصرف. وخريدة: فاعل جزى. والإحسان: مفعول ثانٍ مقدم. وموليه — أي معطيه — مفعول أول. يقول: ربما جازت بالإحسان من يولي — يعطي — الإحسان امرأة عاجزة عن كل شيء. يعني إن لم تمكن المكافأة فعلًا فهي ممكنة قولًا كالمكافأة من هذه المكسال، يحث نفسه على الجزاء وترك التقصير فيما يمكن، ثم ضرب لهذا مثلًا فيما يلي. هذا، والجزاء: المكافأة على الشيء، جزاه به وعليه جزاء، وجازاه مجازاة — قال الجوهري: جزيته بما صنع جزاء، وجازيته: بمعنى، ويقال: جازيته فجزيته؛ أي غلبته، وقوله تعالى: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا؛ يعني يوم القيامة لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئًا، يقال: جزيت فلانًا حقه؛ أي قضيته. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بردة بن نيار حين ضحى بالجذعة: «تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك»؛ أي تقضي. قال الأصمعي: هذا مأخوذ من قولك: قد جزي عني هذا الأمر ولا همز فيه، قال: ومعناه لا تقضي عن أحد بعدك. ويقال: جزت عنك شاة: أي قضت، وبنو تميم يقولون: أجزأت عنك شاة — بالهمز — أي قضت، وقيل في قوله تعالى: لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا: لا تغني.

(٩٥٦) الشكل — بالضم — جمع شكال، وهو الحبل تشد به قوائم الدابة. وبالفتح: مصدر شكل الدابة إذا شدها بالشكال، والظهور: جمع ظهر. والتصهال بمعنى الصهيل أخرجه مخرج تسيار ونحوه؛ ضرب لنفسه المثل في عجزه عن المكافأة بالفعل والاجتزاء عنه بالقول، بفرس أحكم شكاله فعجز عن الجري لكنه يصهل. يقول: إن لم يكن عندي الفعل فعندي مكافأة بالقول. يعني إن لم أقدر على المكاشفة بنصرتك على كافور فإني أمدحك إلى أوان ذلك، كما أن الجواد إذا شكل عن الحركة صهل شوقًا إليها. وقال المعري: إن كانت حالي ضيقة عن مكافأتك فعلًا جازيتك قولًا وجعل التصهال مثلًا لثنائه على الممدوح. وكان «فاتك» هذا يسر خلافًا للأسود — كافور — وينطوي على بغضه ومعاداته، وكان أبو الطيب يحبه ويميل إليه، ولكن لا يمكنه إظهار ذلك خوفًا من كافور.

(٩٥٧) سيان: مثنى «سي» بمعنى مثل. والإكثار: الغنى، والإقلال: الفقر. يقول: ليس شكريك عن فرح بما أهديته إليَّ؛ لأن الغنى والفقر عندي سواء لقلة مبالاتي بالدنيا. قال ابن جني: ما رأيت أبا الطيب أشكر لأحد منه لفاتك، وكان يقول: حمل إليَّ ما قيمته ألف دينار في وقت واحد.

(٩٥٨) بخال: جمع باخل. يقول: إنما أشكر لأني رأيت من القبيح أن يجاد لي بالبر والنعمة وأنا بخيل بقضاء الحق ساكت عن الشكر والحمد. وقوله: «وأننا» يجوز فيه فتح الهمزة على العطف، وكسرها على الحال.

(٩٥٩) الحزن: خلاف السهل. والسباخ: جمع سبخة، وهي الأرض لا تنبت؛ لأنها ذات نزٍّ وملح، وهطال: ساكب. يقول: لما وصل إليَّ بره ونعمته كنت كمنبت روض الحزن جاده بالبكرة غيث هطال فأفاده، نضرة وذكاء. يعني أن مطر بره لم يصادف مني سبخة لا تنبت، وخص روض الحزن؛ لأنها أنضر لبعدها عن الغبار والنز والغمق، والمعنى أن بره صادف مني من يعرف حقه ويذيع شكره.

(٩٦٠) يقول: إن موقع إحسانه مني يبين للناظرين أن غيره من المحسنين يخطئون مواقع الإحسان؛ لأنهم لا يقلدونه من يستأهله ويقوم بشكره. ولك أن تبقي الغيوث على معناها الحقيقي. يعني أن الممدوح أحكم من الغيوث؛ لأنه يضع إحسانه في موضعه، أما هي فإنها تمطر التربة الصالحة والرديئة.

(٩٦١) لما يشق: أي لما يصعب، متعلق بفعال. والسادات: جمع سادة؛ جمع سيد.

(٩٦٢) وارث: صفة أخرى لسيد، وسئال: طلاب. وبغير السيف: صلة سئال، يقول: لا يدرك المجد إلا سيد لم يرث أباه مالًا — والممدوح لم يرث أباه؛ لأنه كان جوادًا فلم يخلف مالًا — ويمينه تجهل ما وهب لكثرته، وليس هو كسوبًا ولا سئالًا بغير السيف؛ أي لا يطلب حاجته إلا بالسيف لما فيه من المشقة والمخاطرة بالروح.

(٩٦٣) الضمير في «له» للسيد. والجملة: نعت آخر له؛ أي قال الزمان له — بلسان حاله — إن المال لا يبقى على مالكه، ففهم هذه المقالة عنه وفرق ماله في سبيل المجد. وعبارة الواحدي: وقوله: إن الزمان … إلخ: كلام مستأنف. وعذال: مبالغة من العذل وهو اللوم. يقول: إن الزمان يلوم على البخل؛ لأن البخيل يفوت على نفسه كسب المحمدة والذكر باستبقاء ما ليس بباقٍ. وقال ابن جني: أكرم الناس من تعب في جمع الأموال بالسيف ثم يهبها بعد. وقال التبريزي: من رأى الممسكين وموتهم عن الأموال وتخليتها للأعداء فقد أراه الزمان فيهم العبر فكأنه حذره عن الإمساك، والزمان لم يقل قولًا حقيقة، وإنما رأى تصاريفه فاتعظ فكان كمن قال له.

(٩٦٤) القناة: الرمح، والبيت في صفة السيد أيضًا. يقول: يعلم الرمح في يده أنه سيشقى به خيل وأبطال إذ قد عوده ذلك.

(٩٦٥) فاتك: هو اسم الممدوح، وأراد بالكاف: كاف التشبيه الداخلة على «فاتك». والمنقصة: النقص. يقول: لا يدرك المجد إلا سيد صفاته هذه التي ذكرت، ثم استدرك فقال: دخول الكاف عليه تنقص من قدره في الظاهر؛ لأنه يوهم أن له شبيهًا، وإنما هو كالشمس إذا شبهت بها أحدًا، والشمس لا شبيه لها، وهذه الكاف هي التي يقال لها: كاف الاستقصاء، ذكرها أهل العربية، ومثلوا لها بقولهم: من الحروف ما لا يقبل الحركة كالألف. وقال ابن جني: إذا قيل: كفاتك ودخول الكاف منقصة جعل له شبيه، فانتقص بذلك، وإنما قولي كالشمس — وإن كانت لا شبيه لها والكاف زائدة — كقول رؤبة:

لَوَاحِقُ الْأَقْرَابِ فِيهَا كَالْمقق

(من أرجوزة لرؤبة أولها:

وَقَاتِم الْأَعْمَاقِ خَاوِي الْمخْتَرق

راجعها في «أراجيز العرب» للبكري، وفي «خزانة الأدب» للبغدادي. ولواحق الأقراب. خماص البطون قد لحقت بطونها بظهورها، والمقق: الطول.)

أي فيها مقق، وهو الطول، ولا يقال: فيها كالطول إلا على زيادة الكاف. وقد أنكر الواحدي كلام ابن جني هذا، وقال: لم يعرف ابن جني وجه دخول الكاف في كفاتك، فقال الكاف ها هنا زائدة، وإنما معناه وتقديره: فاتك أي هذا الممدوح فاتك، مع أن جميع البيت مبني على هذه الكاف، فكيف يقال إنها زائدة؟ وعبارة الإمام التبريزي: لا يدرك المجد إلا رجل صفاته هذه التي ذكرت، ثم شبهه بفاتك ثم استدرك ذلك بقوله: ودخول الكاف منقصة؛ أي كاف التشبيه الداخلة على «فاتك»: أي أن دخول الكاف عليه ينقص من قدره؛ لأنه يوهم أن له شبيهًا، وليس له شبيه، فهو كالشمس، يشبه بها الشيء المستحسن على الظاهر، وليس لها مثل.

(٩٦٦) البراثن من السباع والطير بمنزلة الأصابع من الإنسان. وبمثلها: صلة غذته. والأشبال: جمع شبل، وهو ولد الأسد. يقول: الذي يقود إلى الحرب رجالًا هم أسود تغذوهم براثنه — يعني سيوفه وسلاحه فهن له كالبراثن — برجال مثلهم من الأعداء؛ أي أنه بغنمهم الأبطال وجعلهم كالأشبال له لأنه يقوم بتغذيتهم. قال الشراح: يشير إلى غلمانه الذين رباهم وضراهم بأسلاب أعدائه منذ كانوا أشبالًا إلى أن صاروا أسدًا.

(٩٦٧) به: صلة القتيل. وللسيوف: خبر مقدم عن آجال. وقوله: كما للناس: فما مصدرية، وللناس: خبر عن محذوف، والتقدير: للسيوف آجال كما للناس آجال. يقول: لجودة ضربه يقتل المقتول ويقتل ما يقتله به وهو السيف. يريد أنه يكسره في جسمه، فجعل ذلك قتلًا للسيف، ثم قال: وإن للسيوف آجالًا كما أن للناس آجالًا.

(٩٦٨) وماله: يريد نعمه. والأهمال: جمع همل، وهي الإبل بلا راعٍ. قال الجوهري: الهمل — بالتحريك — الإبل بلا راع، مثل النفش، إلا أن الهمل يكون ليلًا ونهارًا، والنفش لا يكون إلا ليلًا، يقال: إبل همل وهاملة وهمال وهوامل، وتركتها هملًا أي سدًى إذا أرسلتها ترعى ليلًا بلا راعٍ. وفي المثل: اختلط المرعى بالهمل. والمرعى: الذي له راعٍ. يقول: إن هيبته تمنع الإغارة على ماله فكأنها تغير على الغارة وماله مهمل لا راعي له بأقاصي الأرض لا يغار عليه لهيبته. ويجوز أن يكون المعنى: أن القوم يغيرون على الأموال فيحملونها إليه هيبة له، فكأن هيبته تغير على غارة غيره، ثم قال: وماله بأقاصي الأرض أهمال لا يغار عليها. وجملة المعنى أنه — لجلالة قدره ونباهة شأنه وعظمه في النفوس — تتهيبه الفرسان في غاراتها فلا تقدم على مقاتلة أهماله.

(٩٦٩) العير: حمار الوحش، وهو بدل تفصيل من «ما». والهيق: الظليم — ذكر النعام — والخنساء: البقرة الوحشية، سميت بذلك لخنس أنفها — والخنس قريب من الفطس، وهو قصر الأنف ولزوقه بالوجه. والذيال: الثور الوحشي؛ لأنه يجر ذنبه كالذيل. يقول: يقدر على صيد ما يختاره من الوحش لحذقه واقتداره، وجعل الاختيار للأَسِنَّةِ مجازًا؛ لأنه يطلب الصيد بها، فكأنها هي التي تختار. وعبارة العكبري: يعني أنه كان ملازم الحروب في الفلوات، وكان يتقوَّت بلحوم الوحش، وكان عارفًا بصيدها، فما اختاره منها لا يفوت رغبته ولا يسبق أسنته.

(٩٧٠) مشهاة: أي تُعطي ما تشتهيه، وإنما يقال في هذا المعنى أشهاه — بالألف — تقول: تشهت المرأة على زوجها فأشهاها: أي أنالها شهواتها، ولكن المتنبي استعمل «فعل» في موضع «أفعل». والعقوة: الساحة. والآصال: جمع أصل، جمع أصيل؛ آخر النهار، وهو مستطاب لدى العرب لغروب الشمس وانقطاع الحر وهبوب النسيم. يقول: إن أضيافه يعطون ما يشتهون إذا نزلوا بداره فتطيب أوقاتهم عنده كأنها آصال. وفيه نظر إلى قول أبي تمام:

أَيَّامُنَا مَصْقُولَةٌ أَطْرَافُهَا بِكَ وَاللَّيَالِي كُلُّهَا أَسْحَارُ

(٩٧١) القاري: المُضيف، وقاريها: يعني الممدوح. والخرادل: القطع — كأنها مقصورة من قولهم: لحم خراديل؛ أي مقطَّع — وهو من الجموع التي لا واحد لها والذال فيه: لغة. وقال كعب بن زهير:

يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا لَحْمٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ

(من قصيدة «بانت سعاد» التي مدح بها سيدنا رسول الله ﷺ يصف أسدًا، يقول: يذهب هذا الأسد أول النهار يتطلب صيدًا لولديه فيطعمهما لحمها. والعيش هنا: القوت. ولحم معفور: أي ملقًى في العَفَر — بفتحتين — وهو التراب. وخراديل: مقطَّع.)

والأوصال: جمع وصل، وهو العضو. والشيزى: خشب أسود تعمل منه الجفان — القصاع — يقول: لو اشتهت أضيافه لحمه لما بخل به عليهم ولأتاهم وشيكًا، قطع من لحمه حرصًا منه على مسرتهم. قال العكبري: وهذا من الإفراط الذي يجسر فيه بما لا يكون إشارة إلى استيفاء الغاية فيما يمكن.

(٩٧٢) الرزء: المصيبة. وحفزه واحتفزه: دفعه من خلفه يحفزه حفزًا، قال الراجز:

ترِيحُ بَعْدَ النَّفَسِ الْمَحْفُوزِ إِرَاحَةَ الْجِدَايَةِ النَّفُوزِ

(يريد بالنفس المحفوز: النفس الشديد المتتابع كأنه يحفز: أي يدفع. والجداية: الظبية. ونفز الظبي: جمع قوائمه ثم وثب.)

يقول: إن المصيبة عنده في المال والولد هي ارتحال الأضياف من داره؛ أي إنه يناله من ذلك ما ينال من يرزأ في ماله وولده.

(٩٧٣) الصدى: العطش. وكان الوجه أن يقول: فضلات — بفتح الضاد — ولكنه سكنها للضرورة. والمحض من اللبن: الخالص الذي لم يشب بماء. واللقاح: جمع لقحة، وهي الناقة الحلوب. ومحض اللقاح: فاعل يروي. وأراد بصافي اللون: الخمر. والسلسال: الذي يسهل جريه في الحلق. يقول: إنه يكثر لهم من اللبن والخمر فيفضل عنهما ما يروي الأرض من سؤر أقداحهم الذي يراق. وقال ابن جني: إذا انصرف أضيافه أراق بقايا ما شربوه ولم يدخره لغيرهم؛ لأنه يلقي كل وارد بِقِرًى جديد من اللبن والخمر. وعبارة ابن الإفليلي: يروي عطش الأرض بفضلات ما يسقيه أضيافه من اللبن والخمر وما يتابع لهم من الألطاف والبر، فيفضل عنهم من ذلك ما يقوم للأرض مقام السقي، وما يحل لها محل المطر، وهذا التفسير وما ذهبنا إليه قريب من قريب، وهو أوجه مما ذهب إليه ابن جني.

(٩٧٤) تقري: تضيف. وصوارمه: سيوفه. والعبط والعبيط: الطري من الدم. والساع: جمع ساعة. ونزال وقفال: الأضياف — منهم من ينزل، ومنهم من يرحل.

قال الواحدي: كل ساعة تأتي عليه يجدد فيها ذبحًا، كأن الساعات نزال ينزلون عليه، وقفال رجعوا من سفر؛ يعني أنه لا يطعم أضيافه اللحم الغب، بل يجدد لهم الذبح والنحر كل ساعة فيجري دمًا عبيطًا. وقال ابن جني: يقول: هو كل ساعة يريق دمًا طريًّا من أعدائه، فكأنه يقري الساعات، وكأنها قوم ينزلون عليه، فجعل ابن جني الدم العبيط من الأعداء.

(٩٧٥) أراد بالنفوس: الدماء. قال السموءل بن عادياء:

تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظِّبَاتِ تَسِيلُ

(من أبياته التي يقول في مطلعها:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عرضه فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ

والظباة: جمع ظبة؛ حد السيف والسنان والنصل والخنجر، وما أشبه ذلك.)

وأغنام: جمع غنم. وآبال: جمع إبل. يقول: تجري الدماء حوله مختلطة دماء الأعداء بدماء الذبائح للأضياف، كما قال البحتري:

مَا انْفَكَّ مُنْتَضِيًا سَيْفِي وَغًى وَقِرًى عَلَى الْكَوَاهِلِ تَدْمَى وَالْعَرَاقِيبِ

(٩٧٦) نائله: عطاءه. والأطيفال: تصغير أطفال. يصف عموم بره، وأن القريب والبعيد فيه سواء، حتى الأطفال التي لا تقدر على النهوض إليه والتعرض لمعروفه، فبره يصل إلى كل أحد.

(٩٧٧) الأقران: جمع قرن، وهم الأكفاء في الحرب. والبيض: السيوف. والظبة: حد السيف. وهادية — من هدى اللازم — أي مهتدية. والسمر: الرماح. يقول: إذا التقى الجيشان جيشه وجيش عدوه، وتدانى الفريقان فأصبحت السيوف هادية؛ لأنها تمضي قدمًا على استواء، والرماح ضالة؛ لأنها تذهب يمينًا وشمالًا في الطعن، وهو الطعن الشزر، فهو أمضى الفريقين سيفًا في أقرانه. وقال العكبري: أراد أن القوم إذا دنا بعضهم من بعض تجالدوا بالسيوف، فكأن الرماح ضالة في الرجال، فقصرت الرماح وضلت عن مقاصدها، وضاق المجال عن التطاعن بها، وصار الأمر إلى المجالدة بالسيوف فصارت السيوف هادية مبصرة، والرماح ضالة مقصرة، فحينئذٍ يكون أمضى الفريقين.

(٩٧٨) الآل: السراب. يقول: إذا اختبرته رأيته يربي أضعافًا على ما أراك منظره. ثم قال: وفي الرجال الماء والآل؛ يعني في الرجال من هو كالماء؛ أي رجل على حق الرجال وفيهم من هو كالآل: أي يشبه الرجال بصورته، وليس عنده ما عندهم من المعاني، كالآل يشبه الماء وليس بماء.

(٩٧٩) اختلطن: أي البيض والسمر. والعقال: داء يأخذ الدواب في أرجلها يمنعها من المشي. يقول: إذا اختلطت السيوف والرماح لدى الحرب لقبه حاسده بالمجنون حسدًا له على فرط شجاعته التي تشبه الجنون، والعقل ليس في كل وقت محمودًا؛ لأنه في مثل هذه الحال يمنع من الإقدام، فيكون لصاحبه كالعقال. قال ابن جني: ولم يفضل الجنون على العقل بأحسن من هذا. وقال العكبري: كان «فاتك» يلقب بالمجنون، ففسره أبو الطيب تفسيرًا أذهب قبحه وحسن عند المنكر له أن يتلقب بمثله. وقد نظر في لفظ البيت إلى قول أبي تمام:

وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُولَئِكَ عُقَّالَاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ

(عقالاته: قيوده. وقبل البيت:

إِذَا مَارِقٌ بِالْغَدْرِ حَاوَلَ غَدْرَةً فَذَاكَ حَرِيٌّ أَنْ تَئِيمَ حَلَائِلُه

فَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَارَ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُه)

وفي معناه إلى قول الكلابي:

أَلَا أَيُّهَا الْمُغْتَابُ عِرْضِي تَعِيبُنِي تُسَمِّينِي الْمَجْنُونَ فِي الْجدِّ وَاللَّعْبِ

أَنَا الرَّجُلُ الْمَجْنُونُ وَالرَّجُلُ الَّذِي بِهِ تُتَّقَى يَوْمَ الْوَغَى غِرَّةُ الْحَرْبِ

(٩٨٠) يقول: يرمي الجيش الذي يناصبه بالبيض — السيوف — ولا بد له ولتلك السيوف من شق ذلك الجيش، ولو كان في القوة والثبات كالجبال، فالضمير في «بها» للبيض. قال بعض الشراح: الضمير للخيل، وقوله: لا بد بالرفع على إعمال «لا» عمل «ليس».

(٩٨١) نشبت: علقت. والمخلب للسبع والطير: بمنزلة الظفر للإنسان، أثبت له المخالب على إضمار تشبيهه بالأسد. والحلم: الأناة والعقل. والرئبال: الأسد. قال الواحدي: هذا كأنه عذر للذي يلقبه بالمجنون من أعدائه؛ لأنهم يرونه كالأسد في الشجاعة والأسد لا يوصف بالحلم، كذلك هذا الممدوح، يبعد عنه الحلم إذا قاتل الأعداء. يقول: هو أسد على أعدائه إذا أنشبت فيهم مخالبه زايله الحلم؛ لأن الحلم والأسد لا يجتمعان. وقال ابن القطاع: إذا أنشب مخالبه في قوم ذهب عنهم التدبير والشجاعة.

(٩٨٢) يروعهم: يفزعهم. ومنه: تجريد. وصروف الدهر: حدثانه. والاغتيال: الإهلاك على غفلة. يقول: هذا الممدوح دهر يغول الأعداء، إلا أنه يغولهم جهارًا، أما الدهر فإنه يغتال بصروفه ولا يؤذن بخطوبه، وجعله كالدهر تعظيمًا لشأنه، ثم بالغ وفضله على الدهر.

(٩٨٣) «ما»: خبر مقدم عن «الذي». ونالوا: الضمير للعدى. والجملة صلة «الذي». يقول: هو بجرأته وإقدامه واقتحامه الحروب والمهالك نال الشرف الأعلى، فما الذي نال أعداؤه بإحجامهم وتوقيهم ما يأتيه من المخاوف والأهوال؟

(٩٨٤) المهند: السيف الهندي القاطع. وأضم الكعب: الرمح. والأصم: الصلب. والكعب: الناشز بين أنبوبي الرمح. والعسال: المهتز المضطرب. يقول: إذا تزينت الملوك بالتيجان ونحوها تزين هو بالسيف والرمح. يعني أنه احتاز الرياسة مغالبة بنفسه واستحقها بشجاعته وإقدامه. هذا، و«حليته»: تروى بالنصب على أنه خبر كان، و«مهند» اسمها، وهو وإن كان نكرة إلا أنه عطف عليه، فكأنه أراد وصفه، فقربه من المعرفة، وتروى: «حليته» بالرفع، فتكون مبتدأ، خبرها ما بعدها، والجملة خبر كان، واسمها ضمير الشأن أو ضمير الممدوح.

(٩٨٥) أبو شجاع: كنية الممدوح، وهو خبر عن محذوف؛ أي هو أبو شجاع. وأبو الشجعان: بدل. وقاطبة: جميعًا. والهول: ما أخاف وأفزع وهو خبر آخر. ونمته: غذته وربته، أو نسب إليها، يقول: نماه جد كريم ونميته إلى فلان. والهيجاء: الحرب. يقول: هو أبو شجاع كنية، وهو أبو الشجعان كلهم حقيقة؛ لأنهم كلهم دونه، وهو هول عند الحرب في أعين الأعداء. ونمته أهوال الحرب؛ لأنه نشأ فيها فصارت له كالغذاء، أو قد صار ينسب إليها ويُعرف بها.

(٩٨٦) يقول: إن الحمد كله له وليس لغيره جزء منه. يعني أنه المحمود في أفعاله وأقواله وليس يحمد دونه أحد.

(٩٨٧) السربال: الثوب. والماذي: الدرع اللينة. يقول: يكفيه في الحرب سربال واحد من الدرع، أما الحمد فعليه منه سرابيل كثيرة؛ يعني أنه يتوقى الذم بأكثر مما يتوقى الحرب.

(٩٨٨) أوليت: أعطيت. والنوال: العطاء، وهو تمييز. والنال: الرجل الكثير النوال، وهذا كما يقال: كبش صافٍ: أي كثير الصوف، ويوم طان: أي كثير الطين، ويوم راح: كثير الريح، ورجل خاف: كثير الخوف. يقول: لا أستطيع أن أستر إحسانك وقد غرقتني فيه؛ أي هو أشهر من أن يستتر.

(٩٨٩) يقول: توصلت إلى إكرامي بالبر والإحسان بلطف وتدبير ورأي تحصيلًا لثنائي عليك، وكذلك الكريم يحتال على تحصيل ما يفيده شرفًا وذكرًا. يشير إلى ما وصله به «فاتك» وأنه كان وسيلة لاستئذان كافور في مدحه؛ لأن أبا الطيب لم يكن يجسر أن يمدحه ابتداء خوفًا من كافور.

(٩٩٠) غدوت — هنا — تامة، والتجوال: مصدر بمعنى الجولان. يقول: لم تزل تحتال على العلياء حتى غدوت والأخبار تجول في الآفاق بحسن ذكرك والثناء عليك، وصار لكل أحد أمل في كفيك حتى الكواكب تأملك.

(٩٩١) التنبال: القصير، وجمعه: تنابل وتنابلة، لما جعل الثناء لباسًا للممدوح عبر عن طول معانيه بطول الممدوح وعن قصرها بقصره. يقول: إنما طال ثنائي لطول ما يتضمنه من وصف مناقب الممدوح. وعبارة الواحدي: يقول: مدح الشريف يشرف الشعر، ومدح اللئيم يؤدي إلى لؤم الشعر، يعني أن شعري قد شرف بشرف هذا الممدوح. وزاد على ذلك العكبري فقال: أي قد طال لساني بالثناء، وفتح لي باب المدح والإطراء، جلالة قدر من مدحته، وكثرة فضائل من وصفته، وإنما أنا في ذلك ذاكر لما عاينت والثناء إنما يقصر عن القصير الحال، الراغب عن الكرم والإفضال.

(٩٩٢) اختال الرجل: أدركه الزهو والعجب فمشى الخيلاء. وقوله: أن تختال: أي عن أن تختال فحذف. يقول: إن كنت لكرمك وتواضعك وفضلك تترفع عن الكبر والعجب بين الناس، فإن قدرك يختال ويزهي بين أقدار الناس؛ لأنك أعظم قدرًا من كل أحد.

(٩٩٣) المفضال: الكثير الفضل. يقول: لما جبلت عليه من الكرم وعلو الهمة كانت نفسك كأنها لا ترضاك صاحبًا لها حتى تفضل كل مفضال وتربي عليهم.

(٩٩٤) المهجة: دم القلب. والروع: الفزع. والبذال: مبالغة من البذل، ضد الصيانة. يقول: وكأن نفسك لا تعدك قائمًا بحق صيانتها حتى تبذلها وتجود بها في الروع فتقتحم المهالك، وتتعرض لمواجهة الحروب والمتالف.

(٩٩٥) يقول: لولا أن في السيادة مشقة لصار الناس كلهم سادة، ثم بين المشقة التي في السيادة، فقال: من جاد افتقر، ومن أقدم على الحرب قتل، ولا سيادة دون الجود والشجاعة. والبيت مفرع على البيتين السابقين — كما لا يخفى — وهو من قول منصور النمري:

الْجُودُ أَخْشَنُ مَسا يَا بَنِي مَطَرٍ مِنْ أَنْ تَبُركُمُوهُ كَفُّ مُسْتَلِبِ

مَا أَعْلَم النَّاسَ أَنَّ الْجُودَ مَكْسَبَة لِلْمَجْدِ لَكِنَّه يَأْتِي عَلَى النشبِ

(٩٩٦) الطاقة: اسم — من أطاقه: إذا قدر عليه — والشملال: الناقة القوية الخفيفة المشي السريعة. يعتذر عمن لم يسد من الناس، يقول: كل إنسان يجري في السيادة على قدر طاقته، فليس كل أحد أهلًا للاضطلاع بأعباء السيادة حتى يستطيع أن يسود ويبلغ مبلغ الممدوح، كما أنه ليس كل ناقة مشت بالرحل شملالًا.

(٩٩٧) يقول: من يتجنب معك القبيح ولا يعاملك به في هذا الزمان فقد أحسن إليك وفعل جميلًا، لكثرة من يعاملك بالقبيح، وقد أخذ هذا المعنى أبو فراس فقال:

وَصِرْنَا نَرَى أَنَّ الْمُتَارِكَ مُحْسِنٌ وَأَنَّ خَلِيلًا لَا يَضُرُّ وَصول

وقال العكبري: وهذا من قول الحكيم: «من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله ترك الرذائل.»

(٩٩٨) يقول: إذا ذكر الإنسان بعد موته كان ذلك حياة ثانية له، وما يحتاج إليه في دنياه قدر القوت، وما فضل عن القوت فهو شغل له لا حفل به ولا غناء فيه، كما قال سالم بن وابصة:

غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ خَلَّةٍ فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرَا

قال ابن جني: مثله ما يحكى عن بعض ولد عمر بن عبد العزيز أنه رُؤي يستقي ماء، فقيل له: بعد الخلافة؟! فقال: إنما فقدنا الفضول.

(٩٩٩) يقول للعاذلة: كل أحد يدعي لنفسه صحة العقل كما تدَّعين أنتِ؛ يعني أنك بلومك إياي تدعين أنك أصح عقلًا مني، ولكن ليس يعلم أحد جهل نفسه؛ لأنه متى علم جهل نفسه لم يكن جاهلًا.

(١٠٠٠) لهنك: قال سيبويه: أصلها «لله أنك»، وقال أبو زيد: أصلها «لإنك» مركبة من «لام التوكيد وإن»، فأبدلت همزة «إن» هاء لئلا يجتمع حرفان للتوكيد في الصورة. يقول: أنت أولى باللوم، وأحوج إلى العذل مني؛ لأن من أحببته لا يلام على حبه.

(١٠٠١) مثلك: منصوب على الحال من عاشق؛ لأن وصف النكرة إذا قدم عليها نصب على الحال. يقول لها: إن وجدت لمحبوبي مثلًا في الحسن وجدت لي مثلًا في العشق؛ يعني كما أن محبوبي لا مثل له، كذلك أنا. وقد فسر مراده فيما يلي.

(١٠٠٢) محب: خبر عن محذوف ضمير المتكلم. والبيض: النساء. والمرهفات: السيوف. والضمير في «مرهفاته» للمحب. يقول: أنا محب أعشق الحرب دون النساء؛ فإذا ذكرت البيض أردت بها السيوف، وإذا ذكرت حسنهن كنيت به عن صقل السيوف.

(١٠٠٣) يقول: وأكني كذلك بالسمر عن الرماح السمر، ويعني بجناها: ما يجتنى منها من المعالي التي يرتقى إليها بالعوالي. يقول: فالمعالي هي أحبائي، ورسلي التي تتردد بيني وبينها هي الأسنة — الرماح — يريد: أني أخطب المعالي بالرماح.

(١٠٠٤) الثنايا: الأسنان التي في مقدم الفم. والغر: البيض. والحدق: جمع حدقة؛ سواد العين، والمراد بها العين. والنجل: الواسعة. يدعو على قلب يميل إلى الحسان بالعدم — الفقد — يقول: لا كان لي قلب لا فضلة فيه لغير حب ثنايا الحسان وأحداقهن، ولا ينزع من الأمور إلى أرفعها، ويحل من منازل المجد والشرف في أجلها وأكرمها.

(١٠٠٥) الغبطة: السعادة وحسن الحال. يقول: إن المرأة الحسناء إذا هجرت لم تحرم المهجور غبطة؛ لأنها لو واصلته لم تبلغه الغبطة أيضًا، يريد أن الغبطة على الحقيقة إنما هي في كسب المعالي ونيل المجد والشرف لا في نيل اللذات ومواصلة الغانيات. فالهاء في «بلغتها»: مفعول أول لبلغت، وهي عائدة على الغبطة، ومن شكى: مفعول ثانٍ، وبالوصل: متعلق ببلغتها، ومن شكى الهجر هو العاشق؛ أي وإن واصلته لم تبلغه غبطة. وقال الخطيب التبريزي: نهى عن الحرص في طلب النساء. يقول: إذا هجرتها ثم وصلتها كنت أحسن موقعًا عندها وأنشط لها فزادت الغبطة، وإذا شكوت إليها الهجر وتذللت لها هنت في عينها؛ فحرمتك وصلها فضلًا عن تبليغك الغبطة.

(١٠٠٦) يقول للعاذلة: دعيني أنل من العلا ما لم ينل قبلي، فإن العلا الصعبة الشاقة — وهي التي لم يبلغها أحد — في الأمر الصعب الذي لم يركبه أحد، وما يسهل وجوده يسهل الوصول إليه؛ يعني لا يدرك من المعالي ما تجلى قيمته إلا بتكلف ما تعظم مشقته، وما كان منها يقرب تناوله فبحسب ذلك يكون تساهله.

(١٠٠٧) رخيصة: حال. والشهد بفتح الشين وضمها: العسل. وإبرة النحل: شوكتها. يقول للعاذلة: تريدين أن أدرك المعالي رخيصة — أي دون أن أبذل فيها نفسي وأعرضها للأهوال — والمعالي لا تدرك كذلك؛ فإن من حاول اجتناء الشهد قاسى لسع النحل، ولا يبلغ حلاوة العسل إلا بمقاساة مرارة اللسع. وهذا كما قال العتابي:

وَإِنَّ جُسَيْمَاتِ الْأُمُورِ مَشُوبَةٌ بِمُسْتَوْدَعَاتٍ فِي بُطُونِ الْأَسَاوِدِ

(الأساود: الحيات.)

هذا: وقال الواحدي: قرئ على المتنبي لقيان — بضم اللام — وكذلك أملاه، وهو خطأ، والصواب: الكسر. ذكره سيبويه وقال: هو مثل عرفان وغشيان وحرمان ووجدان وإتيان ونحو ذلك.

(١٠٠٨) والخيل تلتقي، يروى: «والخيل تدعى»؛ يريد أصحاب الخيل، والجملة حالية. والادعاء في الحرب: الاعتزاء والانتساب — وهو أن يقول: أنا فلان ابن فلان. وتجلى: تنفرج وتنكشف، يقال: أجلت المعركة عن كذا قتيلًا. يقول: تخافين علينا الموت عند التحام الحرب، وتبارز الفرسان، ولم تعلمي عن أي عاقبة تنفرج الخيل؛ أي هل تكون الدائرة علينا أو على العدو؟ قال العكبري: يشير إلى الموقعة التي شهدها في الكوفة مع الخارجي قبل وصول هذا الممدوح إليها.

(١٠٠٩) الغبين: المغبون فعيل بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، من غَبَنَه في البيع والشراء: خدعه وغلبه. وشريت ها هنا: ابتعت، ويروى شربت. «ودلير» و«لشكروز»: قال الواحدي: اسمان أعجميان من أسماء الديلم، ومعناهما الشجاع والمسعود. وقال اليازجي: «لشكروز» مركب من «لشكر» وهو الجيش و«واواز» وهو الصوت؛ أي صوت الجيش. يقول: وعلى فرض أن الدائرة كانت علينا، وكنت أنا من جملة الهلكى؛ لم أعد ذلك غبنًا علي، وإنما أعده ربحًا مقابل ما حصلت عليه لنفسي من إكرام هذا الممدوح.

(١٠١٠) أمر الشيء يمر إمرارًا: صار مرًّا، ويقال: مر يمر — بفتح الميم وضمها. والأنابيب: جمع أنبوب؛ وهو ما بين كل كعبين؛ والمراد هنا: الرماح أنفسها وخطر الريح اهتز. «تحلو لي» تصير حلوة. يقول: إن الرماح الخاطرة بيننا وبين أعدائنا تصير مرة علينا؛ يعني أن الحرب شديدة المرارة. فإذا ذكرنا إقبال الأمير صارت حلوة لنا؛ لأنا نظفر على الأعداء بدولته وإقباله. هذا: وقد عاب قوم عليه قوله «فتحلو لي» مع قوله «تجلى»، وقالوا: كيف جمع بينهما في القافية ولا صحة للواو؟ قال الواحدي: وليس الأمر كذلك؛ لأن الواو والياء إذا سكنتا وانفتح ما قبلهما جرتا مجرى الصحيح؛ مثل القول والمين، وكذلك إذا انفتحا وسكن ما قبلهما؛ مثل أسود وأبيض، وهذا مثل قول الكُسَعِي: (الكسعي: نسبة إلى كسع كزفر؛ وهم حي من اليمن رماة، أو من بني ثعلبة بن سعد بن قيس غيلان، واسمه غامد بن الحرث، أو محارب بن قيس، يضرب به المثل في الندامة، قال الفرزدق:

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوارُ

وكان من حديثه أنه كان يرعى إبلًا له في وادٍ فيه حمض وشوحط فإما ربى نبعة حتى اتخذ منها قوسًا، وإما رأى قضيب شوحط ثابتًا في صخرة فأعجبه، فجعل يقومه حتى بلغ أن يكون قوسًا فقطعه، وقال:

يا ربِّ سَدِّدْني لِنَحْتِ قَوْسِي فإنها مِنْ لَذَّتي لنفسي

وانفعْ بِقَوْسي ولدِي وعِرْسِي

أَنْحَتُ صَفْرَاءَ كلوْن الوَرْسِ كَبْدَاءَ لَيْسَت كالقِسِيِّ النُّكْس

حتى إذا فرغ من نحتها برى من بقيتها خمسة أسهم، ثم قال:

هنَّ وربي أَسْهُمٌ حِسانُ يَلَذُّ للرمْيِ بها البَنَانُ

كأنما قوَّمها مِيزان فأبشِرُوا بالْخِصبِ يا صِبيان

إنْ لم يُعِقْنِي الشؤمُ والحرمانُ

ثم خرج ليلًا إلى قترة له — القترة: بيت الصائد — على موارد حمر الوحش؛ فرمى عيرًا منها، فأنفذه، وأورى السهم في الصوانة نارًا، فظن أنه أخطأ فقال:

أعوذ بالمهيمن الرحمنِ من نكد الجدِّ مع الحرمان

مَا لي رأيْتُ السهمَ في الصَّوَّان

يُورِي شَرَارَ النار كالعِقْيان أَخلفَ ظنِّي ورَجَا الصبيان

ثم وردت الحمر ثانية فرمى عيرًا منها، فكان كالذي مضى من رميه، فقال:

أعوذ بالرحمن من شرِّ القَدَر لا بارك الرحمن في أُمِّ القُتَر

أأمغِطُ السهمَ لإرهاق الضرر أم ذاك من سوء احتمالٍ ونظر

أمْ ليسَ يُغني حَذرٌ عند قدَرْ؟

«المغط والإمغاط: سرعة النزع بالسهم»، ثم وردت الحمر ثالثة؛ فكان كما مضى من رميه فقال:

إن لشُؤْمي وشقائي ونكَدْ قد شفَّ منِّي ما أرَى حَرُّ الكبِدْ

أخلَفَ ما أرجو لأهلي وولَدْ

ثم وردت الحمر رابعة؛ فكان كما مضى من رميه الأول فقال:

ما بالُ سهمي يُظهرُ الْحُباحِبا قد كنت أرجو أن يكون صائبا

إذ أمكن العَيرُ وأبْدَى جانبًا فصار رأيي فيه رأيًا كاذبا

ثم وردت الحمر خامسة؛ فكان كما مضى من رميه، فقال:

أبَعْدُ خمسٍ قد حفظْتُ عدَّها أحْمِلُ قوْسي وأريدُ رَدها

أخْزَى إلهي لينَها وشدَّها واللهِ لا تَسْلَم عندي بعدها

ولا أُرَجِّي ما حَيِيتُ رفْدَها

ثم خرج من قترته حتى جاء بها إلى صخرة فضربها بها حتى كسرها، ثم نام إلى جانبها حتى أصبح، فلما أصبح ونظر إلى نبله مضرجة بالدماء وإلى الحمر مصرعة حوله عض إبهامه فقطعها، ثم أنشأ يقول:

نَدِمْتُ ندامة لو أن نفسي تطاوعني إذًا لَبَتَرْتُ خَمْسي

تبيَّنَ لي سَفاهُ الرأي مِنِّي لَعَمْرُ الله حين كسَرْتُ قوْسي)

يا ربِّ سَددْني لِنَحْتِ قَوْسِي فإنها مِنْ لَذَّتي لنفسي

وانفعْ بِقَوْسي ولدِي وعِرْسِي

وقد قال البحتري:

إن سَيرَ الخليطِ حين استَقلا

ثم قال في هذه القصيدة:

كنْتَ من بين البرايا به أحق وأوْلى

وقال ابن جني: هذه قافية فيها فساد؛ وذلك أن الواو في «تحلو لي» ردف؛ لأنها ساكنة قبل حرف الروي، وليس في هذه القصيدة قافية مردفة غير هذه، وهذا عيب عندهم، بيد أنه جاء في الشعر القديم:

إذا كنت في حاجة مرسلًا فأرسل حكيما ولا توصهِ

وإن بَابُ أمر عليك الْتوى فشاور لبِيبًا ولا تعصهِ

(وبعدها:

ولا تنطِق الدهرَ في مجلس حديثًا إذا أنت لم تُحْصِهِ

وَنُصَّ الحديث إلى أهله فإن الوثيقةَ في نَصِّه

وإنْ ناصحٌ منك يومًا دَنا فلا تنْأ عنه ولا تُقْصِه

وَكَمْ من فَتًى شاخصٍ عقلُه وقد تعجب العينُ من شخصِه

وآخَرَ تحسبه جاهلًا ويأتيك بالأمر من فَصِّهِ

وهي لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، شاعر ضخم أدرك الدولة العباسية، ونص الحديث رفعه وأسنده. والوثيقة في الأمر: إحكامه والأخذ بالثقة. وفص الأمر: أصله وحقيقته. يقول: أنا آتيك بالأمر من فصه؛ يعني من مخرجه الذي قد خرج منه.)

(١٠١١) يقول: لو كنت أعلم علمًا ليس بالظن أن هذه الفتنة التي دعت إلى إعمال الرماح تكون سببًا لمجيء الممدوح إلينا والتملي بقربه؛ لزاد سروري بزيادة الفتنة وكثرة القتل. قال العكبري: يشير إلى الوقعة التي جرت بالكوفة، ولم يشهدها الممدوح، وكانت سبب قدومه إلى الكوفة.

(١٠١٢) العراقان: الكوفة والبصرة. وكاشف: لك أن تجعله منادى، وأن تجعله حالًا. والخوف يروى البأس، والبأس: الفقر أو الشدة. والمحل: الجدب. يدعو يقول: لا خلت هذه الأرض من فتنة تكون سببًا لورودك، وداعية إلى مجيئك إليها حتى تكشف عنا الخوف بسطوتك، والجدب بجود راحتك.

(١٠١٣) أنبى: جعلها نابية لا تنفذ. والنصول: السيوف. يقول: إذا نَبَتِ السيوف بأيدينا، وحال دون نفاذها كثرة سلاح أعدائنا، ذكرناك فنفذت سيوفنا بدولتك، وكان ذكرك أمضى من السيف.

(١٠١٤) الضمير في «نواصيها» لخيل الأعداء — وإن لم يجر لها ذكر — وسكَّن الياء في «نواصيها» للضرورة. والوغى: الحرب. والنبل: سهام العرب. والنشاب: سهام العجم. يقول: إذا سميناك في الحرب انهزم أعداؤنا، فكأن اسمك سهام تقع في وجوه أخيلهم، فتكون أقتل لهم من نشابنا ونبلنا.

(١٠١٥) يقول: إن كنت أنبتنا بعد انقضاء الوقعة بيننا وبينهم، ولم تشهد ما قصدت له من نصرتنا؛ فنحن إنما انتصرنا عليهم وهزمناهم بذكرك قبل وصولك؛ فأنت الغالب لا نحن. وجعل «قبلًا» نكرة فأعربها وكسرها، كما قال الآخر:

وساغَ لِيَ الشرابُ وكنتُ قبلًا أكادُ أغصُّ بالماء الحميمِ

(هو ليزيد بن الصعق، وقبله:

فَنِمْتُ الليل إذ أوقعْتُ فيكم قبائل عامِرٍ وبني تميم

وساغَ لِيَ الشرابُ … … … … [البيت]

وأغص: مضارع غصصت بالطعام غصصًّا — من باب تعب — والغصة: ما غص به الإنسان من طعام أو غيظ على التشبيه، وهو هنا مستعمل مكان الشرق؛ لأنه مخصوص الماء؛ يقال شرق بالماء وبِريقه إذا لم يبلعهما. والحميم: الماء الحار — وليس بمراد — ومن ثم قال أبو العباس ثعلب: سألت ابن الأعرابي عن الحميم في هذا البيت، فقال: الحميم: الماء البارد. فيكون الحميم إذن من الأضداد، يكون الحار ويكون البارد.)

(١٠١٦) السنابك: أطراف الحوافر. والسبل: الطرق. يقول: ما زلت أنتوي زيارتك وقصدك قبل هذا الاجتماع، وكان ذلك حاجة لا تنال إلا بقطع المسافة؛ فهي حاجة بين سنابك الخيل والطرق.

(١٠١٧) الجياد: الخيل. ويؤثرن: يخترن. يقول: لو لم تسِرْ إلينا لسرنا إليك بأنفس هي غريبة بين الناس، لما فيها من الخلائق التي لا توجد في غيرها، ومن ذلك أنها تؤثر السفر على الحضر والتعب على الدعة؛ تحصيلًا للمجد وعليا المراتب.

(١٠١٨) خيل: عطف على «نفس». والمرجل: القدر من نحاس. يقول: ولسرنا إليك بخيل سابقة طاردة للوحوش، لا ترعى الرياض قبل صيد وحشها، فإذا مررنا بروضة صدنا بها الوحش ونصبنا المرجل ثم رعت خيلنا؛ يعني أن الكلال لا يصيب هذه الخيل بعد قطع المراحل، فلا يمنعها من مطاردة الوحش وصيده قبل أن تستريح وترعى، وهذا من قول امرئ القيس:

إذا ما ركِبنا قال وِلْدَانُ أهْلِنا: تعالَوْا إلى أن يأتِيَ الصيد نحطب

(١٠١٩) في الفضل: متعلق بشركة. يقول: كانت نيتنا أن نقصدك، والقصد مقترن بفضل القاصد، فلما اتفق مجيئك وكفيتنا بذلك مؤنة المسير إليك، حصل لك فضلان: فضل كسبته بقصدك إلينا، وفضل تنفرد به دون سائر الناس.

(١٠٢٠) يتبع أصله: يتتبع؛ فأسكن التاء الأولى وأدغمها في الثانية، ومثله اطَّير واثَّاقل. والوبل: المطر الغزير. والرائد: الذي يرسله القوم يطلب لهم الكلأ ومساقط الغيث. وقوله رائد الوبل: من باب المشاكلة. يقول: ليس من يطلب المطر كمن مطر وهو في داره، يريد أنهم بسبب مجيئه إليهم صاروا كمن مطر ببلده لا يتعنى بنشدان الموضع الممطور؛ يعني ليس من يقصد الخير كمن يأتيه الخير عفوًا بلا قصد ولا تعب. وقال الإمام التبريزي: أنت كالسحاب الذي جاءنا مطره، ولم يحوجنا إلى السفر؛ لنرى ما أنبته فيما بعد من الأماكن البعيدة التي تقصد للمرعى.

(١٠٢١) يقول: لست كمن يدعي الشوق، ثم لا يزور ويحتج بعوائق الشغل؛ يعني أن من يدعي الشوق إذا كان بهذه الصفة كان كاذبًا في دعواه؛ لأن من عالج الشوق زار ولم يستبعد الدار، يريد أن الممدوح لو تأخر عن المجيء إلى الكوفة لقصده أبو الطيب ولم يحتج بالشغل؛ ومما يتصل بهذا المعنى قول القائل:

بَعيدٌ عنِ الكَسلانِ أو ذي ملالة وَأمَّا على المشتاق فهو قرِيبُ

(١٠٢٢) كلاب: هي القبيلة الثائرة التي قصدت إلى الكوفة وقاتلها أهلوها قبل قدوم هذا الديلمي الممدوح. وقوله: لمن تركت … الخ: استفهام. والشويهات: جمع شويهة، تصغير شاة. يقول: إن بني كلاب طلبوا الإمارة وهم رعاة إبل وغنم، فإذا طلبوا الإمارة فلمن تركوا رعي الإبل والغنم؟ يعني أنهم ليسوا أهلًا لما طلبوه، وإنما هم أهل للرعي.

(١٠٢٣) يقول: أبى الله أن ينيلهم الإمارة، وأن يؤمن الوحش من الصيد والضب من الأكل؛ يعني أنهم أهل بادية، وديدنهم صيد الوحش وأكل الضباب الخبيثة المطعم، ويأبى الله لهم إلا هذا، لا الإمارة التي حاولوها … هذا، والضب معروف وجمعه ضِبَاب وضُبَّان وأضُبٌّ، مثل كف وأكف، والأنثى ضبة. والعرب تستقذر الورل؛ وهو دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه، وتستخبثه فلا تأكله، وأما الضب فإنهم يحرصون على صيده وأكله. وفي المثل: أعق من ضب؛ لأنه ربما أكل حسوله — أولاده — حين تخرج من بيضه. ومن قولهم: لا أفعله حتى يرِد الضب الماء؛ لأن الضب لا يشرب الماء. ومن كلامهم الذي يضعونه على ألسنة البهائم قالت السمكة: وردًا يا ضب، فقال:

أصبحَ قلبي صَرِدًا لا يشتهِي أن يردَا إلا عرادًا عَرِدَا

وصِلِّيانًا بَرَدا وعَنْكثًا مُلْتَبدًا

«صردًا: أي باردًا. والعراد: نبت صلب العيدان منتشر الأغصان ينبت في البادية؛ وهو النخيل. وعراد عرد: على المبالغة. والصليان: نبت كذلك. وبردا: يريد باردًا. ويروى زردا: أي سريع الازدراد. والعنكث: شجر يشتهيه الضب فيسحجه بذنبه حتى يتحات فيأكل المتحات.»

(١٠٢٤) الطمرة: الفرس العالية الوثابة. وتنيف: تشرف. والسحوق: النخلة الطويلة. يقول: قاد هذا الممدوح لكلاب كل فرس وثابة طويلة العنق كأن عنقها نخلة سحوق — طويلة — قد أشرف خداها من فوقها، وهذا من قول الآخر:

كأن الْجِسْمَ للرائين طَود وهاديها كأنْ جِذْع سحوقُ

هذا: ويقال نخلة سحوق وجبارة ومجنونة وباسقة؛ يريدون العلو، وأنها ممتنعة لا يصل إليها أحد إلا بالتعب، وأنشدوا:

يا ربِّ أرْسِل خارفَ المساكينْ عَجَاجةً ساطِعةً العثانِينْ

تنفضُ ما فِي السُّحق المجانين

«يعني بخارف المساكين الريح الشديدة التي تنفض لهم التمر من رءوس النخل، وعثنون الريح هيدبها إذا أقبلت تجر الغبار جرًّا.»

(١٠٢٥) الجواد: الفرس الكريم. وبأغنى: أي بحافر أغنى، فحذف الحافر للعلم به. والحديد: بيان للنعل. يقول: وقاد لها كل فرس جواد، قوي الأسر، شديد الخلق، يضرب الأرض بحافر مستغنٍ عن النعل بصلابة خلفته، كما يستغني النعل عن النعل، وسمى حافره كفًّا استعارة من الإنسان كما استعير للإنسان الحافر من الفرس في قول جبيهاء الأسدي يصف ضيفًا طارقًا أسرع إليه:

فأبْصَرَ نَارِي وَهْيَ شقراءُ أُوقِدَتْ بِليلٍ فَلَاحتْ لِلْعُيُونِ النواظِرِ

فما رقدَ الوِلْدَانُ حتى رَأَيْتُه على البكرِ يمْرِيهِ بساقٍ وحافر

يمريه: يستخرج ما عنده من الجري.

(١٠٢٦) ولت: أدبرت، والضمير للقبيلة. وتريغ: تطلب. وخلفت: تركت خلفها. يقول: إن كلابًا هذه كانت قبل تمردها وطمعها في الإمارة في أمن ونعمة، فلما طمعت في الإمارة وجاءت إلى الكوفة محاربة، هزمت وأدبرت هاربة تطلب غيثًا — يعني أمنًا ونعمة — وقد خلفت أمنًا كان في يدها، فصارت تطلب بأرجلها ما كان في يدها؛ أي تطلب بهربها وإغذاذها — سيرها على أرجلها — ما كان حاصلًا في أيديها، فدلت بذلك على جهل وحمق، وقال ابن فورجه: يعني أنها كانت في غيث من إقطاع السلطان وإنعامه، فلما عصوا وحاربوا انهزموا وولوا هاربين يطلبون مأمنًا وحصنًا، وقد خلفوا أمنًا كان حاصلًا لهم. وقوله تطلب بأرجلها ما كان في أيديها؛ أي تطلب بهربها وعدْوها — جريها على أرجلها — ما كان حاصلًا في أيديها؛ والمعنى أنها تطلب ما كان في أيديها آمنة مطمئنة بالانتقال والرحلة، خائفة متوقعة، فأشار باليد والرجل إلى الحالتين. هذا ويقال: أراغ وارتاغ: بمعنى طلب وأراد؛ تقول للرجل يحوم حولك: ماذا تريغ؟ أي ماذا تريد وتطلب؟ وفلان يريغ كذا وكذا ويليصه؛ أي يطلبه ويديره، وأنشدوا:

يُدِيرُونَنِي عن سالِمٍ وَأُرِيغُهُ وجلدةُ بين العينِ والأنفِ سالِمُ

(١٠٢٧) المراد بالمال — ههنا — المواشي. والهزل — بفتح الهاء وضمها — الهزال؛ ضد السمن، وقد هُزِل الرجل والدابة — على ما لم يُسَمَّ فاعله — وهزل هو هَزلًا وهُزلًا، وهزلته أنا أهزله هزلًا فهو مهزول، وأهزل القوم؛ أي أصابت مواشيهم سنة — جدب — فهزلت. يقول: يحاذرون الهزال على مواشيهم وهم قد ذلوا بالقتل والهزيمة، وما لحقهم من الذل شر مما يحاذرون على أموالهم من الهزال.

(١٠٢٨) به: متعلق بأهدت، والباء تجريد. وكريم السجايا: يعني الممدوح، والسجايا: الخلائق والطبائع. يقول: أهدت إلينا كلاب — بتمردها وعصيانها — من الممدوح كريم السجايا يسبق — في الإحسان — فعلُه قولَه، ويتقدم — في الإفضال — إنجازُه وعدَه؛ يعني أنها كانت سببًا في قدومه إلينا، وإن لم تقصد ذلك.

(١٠٢٩) الرزايا: المصائب. والأسنة: أسنة الرماح. وآثارها: هي الجراحات التي تحدثها. والفتل: جمع فتيلة؛ وهي التي يجعل فيها الطبيب المرهم ليوصله إلى الجرح. يقول: إنه جبر أحوال الناس وأصلح ما لحقهم من الرزايا والخسائر بسبب غارة بني كلاب، وآسى جروحهم وداواها بجوده، كما تؤاسَى جروح الأسنة وتداوَى بالفتائل. وهذا ينظر إلى قول بشامة بن حزن النهشلي:

بِيض مفارِقُنا تغلِي مَرَاجِلُنَا نأسو بأموالِنا آثارَ أيْدِينا

(١٠٣٠) النوال: العطاء. والثاكلات: الفاقدات أولادهن. يقول: أدرك ثأر القتلى، وأفاض جوده على الأحياء، فأزال شكوى الموتور والمرزوء حتى شفى الثاكلات من حزنهن حين ثأر لهن وأنساهن الثكل بجوده. قال العكبري: والثاكلات في موضع نصب عطفًا على «كل»، والتقدير: شفى كل شاكٍ والثاكلات، ويجوز أن يكون في موضع جر، ولكن العطف أولى وأظهر.

(١٠٣١) تروق: تعجب. وحاد: مال. يقول: إن الشمس تستحسن صورة وجهه، فلو نزلت إليه الشمس شوقًا إليه لمال عنها. وعف: يعني أنه عفيف عن كل أنثى حتى عن الشمس، فلو هي نزلت إليه لحقق معنى العفة.

(١٠٣٢) المراد بالخيل: الفرسان. والرجل: جمع راجل. يقول: هو شجاع يَقتل ولا يُقتل، فكأن الحرب تعشقه وتحبه، فإذا زار الحرب وأتاها استبقته وأفنت مَن سواه من الفرسان والرجال، فكأنها جعلتهم فداء له، وهو تخيل مبتكر بديع.

(١٠٣٣) ريان: من الرِّي. وتصدى: تعطش. والصدى: العطش. والبذل: العطاء. يقول: إنه لا يشرب الخمر، فكأنه مرتوٍ منها لا يعطش إليها، ولا يفتر عن البذل، فكأنه عطشان لا يروى منه.

(١٠٣٤) يقول: مملكته وعظم قدره يشهدان بوحدانية الله تعالى وعدله ورأفته بعباده؛ إذ ملَّك عليهم من هو عفيف محسن إلى عباده.

(١٠٣٥) الحسام: السيف القاطع. والليث: الأسد. والشبل: ولد الأسد. يقول: ما دام قائم سيفه في كفه فلا عادية لقوي على ضعيف؛ لأنه يصده بسيفه أن يعدو على الناس. والليث والناب: مَثَل — أي ولو كان القوي ليثًا لكان بلا ناب — وقال ابن جني: يعني لا تعمل أنياب الأسد ما يعمل سيفه في كفه. فكأنها ليست موجودة، وليس بشيء.

(١٠٣٦) يقول: وما دام هو يحرك يده بالبذل فلا يحل لأحد دعوى المكارم؛ لأنه لا يجود أحد جوده.

(١٠٣٧) يقول: هو مجبول على البذل والجود، يمقت البخل ويجتويه، فلا يرى طاهرًا مبرءًا من الدنس إلا من جانب البخل وتطهر منه.

(١٠٣٨) يقول: لا قطع الله أصلًا أنجب لنا مثله، وأبقى على النسل الذي نشر علينا فضله، فإني رأيت الفروع إنما تطيب بحسب طيب أصولها.

(١٠٣٩) اثلث: كن ثالثًا؛ من قولهم ثلثت الرجلين أثلثهما: إذا صرت ثالثهما. والطلل: ما شخص من آثار الديار. والإرزام: حنين الإبل. يقول للطلل: كن ثالثنا في البكاء على فقد الأحبة، فإنا نبكي والإبل تحن كأنها تبكي كذلك. وعبارة العكبري التي كأنها شعر منثور: كن أيها الطلل ثالثًا في البكاء على فقد الأحبة، فنحن نبكي والإبل تحن معنا، تساعدنا بالبكاء على ما غيرته الأيام من بهجتك، وأذهبت من غضارتك وجدتك، ووصلته من بعد أحبائنا العامرين لك، الجامعين شمل السرور بك، فإنا نبكي فيك، ونوقنا ترزم، ونندب ساكنيك ودموعنا تسجم. وفيه نظر إلى قول البحتري:

اطْلُبَا ثَالِثًا سِوايَ فإني رابعُ العيسِ والدُّجى والبيد

ومن هذا قول التهامي:

بكيتُ فَحَنَّتْ نَاقَتِي فَأجابها صهيل جوادي حين لاحت ديارها

(١٠٤٠) أولا: عطف على محذوف: أي إن بكيت فخليق بك البكاء، أو لم تبك فلا عتب عليك. ولمثلها: أي لمثل هذه الفعلة — يعني عدم البكاء. وفعل: جمع فعول. يقول: إن لم تبك معنا فلا عتب عليك؛ فإن الطلول ليس من عادتها البكاء، فهي فاعلة لمثل هذه الفعلة من ترك المساعدة على البكاء.

(١٠٤١) يقول للطلل: لو كنت ذا نطق لاعتذرت إلي بأنك لو كنت ممن يبكي لما قدرت على البكاء مع ما حل بك من البلاء بسبب ارتحال الأحبة، وهو قوله «بي غير ما بك»، وقد فسر ذلك في البيت التالي.

(١٠٤٢) لم أبك أني: أي لم أبك لأني. والضمير من «شغفوا وقتلوا» للأحبة، والعائد محذوف: أي شَغفوهم وقَتلوهم. والبيت من تتمة قول الطلل، ويروى شُغفوا وقُتلوا — بالبناء للمجهول — والأُولى أجود. يقول: لقلت لي: الذي بي أكثر من الذي بك؛ لأنهم — الأحبة — شغفوك حبًّا فأذهبوا قلبك فبكيت لفراقهم، أما أنا فإنهم قتلوني بارتحالهم — كناية عن دروسه بعدهم — والقتيل لا يقدر على البكاء.

(١٠٤٣) يقول للطلل: إن الأحبة الذين ارتحلوا عنك وغادروك وأقمت بعدهم أيامهم دول لديارهم؛ تعمر بنزولهم أيام مقامهم، وتخرب بارتحالهم. وعبارة العكبري: أيامهم للديار التي يحلونها، دول سرور مستقبلة، وأيام جذل مستأنفة، والذي صرف عنك من ذلك يوحشك، وما منعته منهم لا محالة يؤلمك. وأقمت: يُروى بضم التاء، على أن هذا من كلام الطلل متصلًا بالكلام المحكي عنه.

(١٠٤٤) يقول: إن الحسن محصور في الحبيب الذي معهم، فهو يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم. وعبارة العكبري: الحسن يرحل مع الذين هاجنا الحزن لرحيلهم، وينزل معهم بالمكان الذي ينزلونه، فلا يفارقهم انقيادًا لأمرهم، ولا يتأخر عنهم كلفًا بهم.

(١٠٤٥) في مقلتي رشأ: متعلق ﺑ «يرحل» — في البيت السابق. والرشأ: ولد الظبية. والحلل: جمع حلة؛ وهي القوم المجتمعون في بيوت مجتمعة للنزول. يقول: إن الحسن يرحل في مقلتين مستعارتين من رشأ تديرهما امرأة بدوية تقيم في البادية، حيثما نزلت افتتن بها القوم الذين تنزل بهم.

(١٠٤٦) يقول: إن هذه المرأة قتين (امرأة قتين: قليلة الطعم، وهذا من الصفات المحمودة في النساء) قليلة التناول للطعام، حتى لتشكو الأطعمةُ هجرها وصدودها. ثم قال: ومن الذي تصل؟ وهو استفهام؛ يعني أن الهجر ديدنها، فهي لا تصل أحدًا حتى الطعام. وقوله وصدودها: قال العكبري: روايتنا فيه عن شيخي بالنصب والجر؛ فالنصب عطفًا على طول، والجر عطفًا على هجرتها.

(١٠٤٧) ما أسأرت: أي الذي أسأرت وأبقت؛ مبتدأ، والخبر تركته. والقعب: قدح من خشب مقعر. وجملة «وهو المسك» حالية. يقول: إذا شربت لبنًا من قدح فإن ما يبقى فيه بعد شربها منه تطيب رائحته، ويحلو طعمه حتى لكأنه مسك وعسل. يريد طيب نكهتها وعذوبة ريقها، وفيه نظر إلى قول جميل:

فلو تَفَلتْ في البحر والبحرُ مالح لعاد أُجاجُ البحرِ من ريقها عَذْبًا

هذا، وقد قلنا أسأرت: أي أبقت؛ فالسؤر بقية الشيء، والجمع أسآر، وفي الحديث: «إذا شربتم فأسئروا»؛ أي أبقوا شيئًا من الشراب في قعر الإناء، والنعت منه سَئَّار — على غير قياس — لأن قياسه «مسئر». قال الجوهري: ونظيره أجبره فهو جبار. قال الأخطل:

وشارِبٍ مُربحٍ بالكأسِ نادَمَنِي لا بالْحَصُور ولا فيها بسئَّارِ

«سئار — بالهمز — بوزن سعار: معناه أنه لا يسئر في الإناء سؤرًا، بل يشتفه كله. والرواية المشهورة بسوَّار: أي بمعربد وثاب من سار، إذا وثب وثب المعربد على من يشاربه. والحصور: الذي لا ينفق على الندامى، وقيل الهيوب المحجم عن الشيء، وإنما أدخل الباء لأنه ذهب بلا مذهب ليس لمضارعته له في النفي.»

(١٠٤٨) ثمل: أي سكر. يقول: قالت لي — لائمة على العشق: ألا تصحو من بطالتك؟ فقلت لها: أخبرتني — في فحوى كلامك حين أمرتني بالصحو — أن الهوى سكر؛ لأن الصحو لا يكون من غير السكر. وهذا إشارة إلى أنه كان غافلًا عن حال نفسه؛ لشدة هيمانه، وأنها نبهته إلى أنه سكران من الهوى.

(١٠٤٩) فناخسر: هو اسم عضد الدولة. وصبحكم: أي أتاكم صباحًا للغارة. والغزل: الكلف بالنساء. يقول: لو أن عضد الدولة — مع جده وتوفره على تدبير الملك — أتاكم صباحًا للغارة وبرزت له، لقدحت في قلبه غزلًا فمال إليك، وعاقه ذلك عن الحرب لمكانك من الحسن. وقال ابن جني: ما أحسن ما كنى عن الهزيمة بقوله عاقه الغزل. قال ابن فورجه ناقدًا: لو كانت هذه إحدى السعالي (السعالي: جمع سعلاة، قيل هم سحرة الجن، وقيل الغيلان الخبيثة) لما هزمت أحدًا فكيف عضد الدولة! وما وجه الهزيمة عمن توصف بالحسن ويقال فيها بدوية فتنت بها الحلل! وإنما هذا وصف لعضد الدولة بالرغبة عن النساء والتوفر على الجد، ثم لما بالغ في وصف هذه وأراد الخروج إلى المدح أتى بالغاية في ذكر حسنها، حتى لو أن عضد الدولة — مع توفر وجده على تدبير الملك — لو تعرضت له هذه المرأة لقدحت في قلبه غزلًا عاقه عن الرجوع عنها؛ ألا تراه يقول بعده: ما كنت فاعلة وضيفكم … الخ! وكيف يضاف المنهزم، وإنما غلط ابن جني لما سمع قوله: وتفرقت عنكم كتائبه، وإنما تتفرق حينئذ عنهم لتوفرها على الغزل واللهو ولذة الظفر بالحبيب.

(١٠٥٠) الكتائب: جمع كتيبة؛ الفرقة من الجيش. وقتل: جمع قتول. يقول: ولتفرقت كتائبه عنكم لِوُلُوعه بكم وتشاغله بذلك عن الحرب. ثم قال: إن الحسان يخدعن العقول، والشغف بهن قاتل، ومن ثم تخدعين عضد الدولة، وهو من هو؟! وتتفرق كتائبه من جرائك، فكأنك هزمتهم وعصفت بهم.

(١٠٥١) يقول: أي شيء كنت فاعلة وقد أتاكم ملك الملوك ضيفًا، وسبيل من حل به أن يحتفل به وبكرمه، وأنت بخيلة! يعني بالطعام والقِرى، يصفها بالبخل، والبخل والجبن من خير أخلاق النساء، وهما من شر أخلاق الرجال.

(١٠٥٢) القرى: ما يقدم للضيف من الطعام وغيره. ويسل: يسأل، حذف الهمزة، وألقى حركتها على السين. يقول: أكنتِ لا تقومين بقراه فتفتضحي في فعلك، أم تقومين بذلك فتخرجي عن المعهود من أمرك؟

(١٠٥٣) الضمير في «به»: لحيث. والجور: خلاف العدل، ويروى: ولا خور، والخور: الضعف. والوجل: الخوف. يقول: بل لا يسعك حينئذ البخل؛ لأن المكان الذي يحل به هذا الملك لا تحل به هذه الأشياء.

(١٠٥٤) الطنب: اعوجاج في الرمح. يقول: إنه — لاستقامته واعتداله في الأمور — إذا ذكر اسمه اعتدل الرمح المعوج.

(١٠٥٥) يقول: إن من كان قبله من الملوك لم يحسنوا سياسة الملك إحسانه، فإن لم يكن ذلك عجزًا منهم عما يسوس به الناس من الحزم والعدل وما إليهما، فهو غفلة منهم؛ إذ لم يهتدوا إلى سيرته.

(١٠٥٦) يقال «فلان ابن بجدتها» للعالم بالشيء المتقن له، وهو عالم ببُجْدة أمرك وبَجْدة أمرك وبُجُدَة أمرك — بضم الباء والجيم — أي بدخيلته وبطانته، وعنده بَجدة ذلك — بفتح الباء — أي علمه. يقول: حتى ملك الدنيا عضد الدولة وهو عالم بها وبضبط أمورها وسياسة أهلها، فشكا إليه السهل والجبل ما لحقهما من الخلل.

(١٠٥٧) شكوى: مفعول مطلق. يقول: شكا إليه السهل والجبل كما يشكو العليل إلى الطبيب الذي يضمن له أن يشفيه من كل داء وعلة حتى لا تعاوده علة؛ يعني أن الدنيا بما كان فيها من الاضطراب والفساد كأنها كانت شاكية إلى عضد الدولة، وهو — بقصده تسكين الفتنة وحسن السياسة — كأنه ضامن أن لا يعاود الدنيا ما شكته، وأصل هذا قول الأخيلية:

إذا هبط الحجَّاجُ أرضًا مريضةً تَتَبَّعَ أقصى دائها فشفاها

(١٠٥٨) قالت شجاعته: فعل وفاعل. وقوله فلا كذبت: دعاء اعترض بين الفعل والفاعل. يقول: إنه يقتحم الأهوال غير مبال بها حتى كأن شجاعته قالت: أقدم فما لنفسك أجل تخشاه كآجال الناس؛ يعني أن شجاعته زينت له الإقدام، وصورت له أن أحدًا لا يقدم عليه، فهو باق بوقاية شجاعته إياه. ثم دعا له بالبقاء وقال: لا كانت شجاعته كاذبة فيما قالت.

(١٠٥٩) يوم وغى: يوم حرب. يقول: هو الغاية في الشجاعة حين يراد ضرب المثل في الشجاعة، أو يراد الدعاء إلى النزال يوم الحرب والقتال.

(١٠٦٠) الوفود: جمع وفد؛ وهم جماعة الوافدين للعطاء. والشكل: جمع شكال؛ وهو ما يجعل في قوائم الفرس. والعقل: جمع عقال؛ وهو ما يربط به يد البعير. يقول: إن الوفود الذين يعمِدون إليه ويقصدونه لا يقصدونه بسلاح؛ لأنه لا مطمع فيه بالسلاح، وإنما عدتهم التي يحتاجون إليها في قصدهم إياه هي شكل الخيل وعقل الإبل ثقة بنيل ما يرجون من عطاياه. وأسكن العين في «الشكْل» على لغة تميم، وضمها في «العقل» على لغة أسد.

(١٠٦١) البخت: الإبل العجمية؛ وهي غير العربية. يقول: إنه يعطيهم الخيل حتى يشكلوها بشكلهم والإبل حتى يعقلوها بعقلهم؛ يعني أنه يحقق آمالهم، ويكون عند رجائهم فيه، فيعطيهم من خيله وإبله ما يشكلون ويعقلون.

(١٠٦٢) يقول: إن مواهبه تلي أمر ماله من خيل وإبل وتتصرف فيها، فأمواله أبدًا جميعها على أيدي مواهبه توزعها على عفاته، فإذا صمدت إليه وفود وَهَبَ خيله وإبله كلها في وقت معًا، وإذا بقى منها شيء وهبه لمن يفد بعدهم، وإلَّا وهب بدلها ذهبًا وفضة؛ يعني أن جميع أمواله في تصرف مواهبه. وعبارة الخطيب التبريزي: خيله وإبله التي تأخذها الوفود ثلاثة أصناف: فإما أن تكون موفورة قد كان قبلها غيرها فهي تسلم إليهم، وإما أن تكون قد بقيت منها بقية فهم المحكمون فيها، وإما أن تكون استبدل غيره فهم يأخذون البدل. وقال المعري: يهب أوائل خيله وإبله لأوائل الوفود، وبقيتها لمن يفد بعد، فإذا لم يبق شيء وهب في الوقت بدلها من العين والورق.

(١٠٦٣) السبل: المطر وهو بين السحاب والأرض؛ أي حين يخرج من السحاب، ولم يصل بعد إلى الأرض. يريد به هنا ما يجري على يديه من المواهب والدماء. وشوقًا إليه: مفعول له، عامله ينبت، والضمير المجرور للسبل. والأسل: عيدان الرماح؛ أي إن الناس تشتاق إلى مواهبه، والرماح تنبت شوقًا إلى ما يسقيها من دم الأبطال. ولا يخفى ما في البيت بين السبل وضميره من الاستخدام. وعبارة الواحدي والعكبري: إن الناس يشتاقون إلى عطاء يده، والرماح تنبت شوقًا إلى أن تصحب يده؛ أي ليطعن بها ويستعملها في الحرب. فقوله شوقًا إليه … الخ: أي وينبت الأسل شوقًا إليه — أي إلى الممدوح — أي إلى مباشرتها بيده. ولك أن تقول: إن جملة «شوقًا إليه … الخ» صفة لسبل؛ يعني أن ما يجري على يديه من العطايا والدماء تشتاقه الناس وتنبت الرماح شوقًا إليه؛ أي إلى ما يسقيها من دم الأبطال؛ يشير إلى أنه شجاع.

(١٠٦٤) سبل: من رواه بالجر أبدله من الأول، ومن رفعه جعله خبر مبتدأ محذوف. والحوذان: نبات طيب الطعم زهره أحمر في أصله صفرة. والنفل: نبت من أحرار البقول زهره أصفر طيب الرائحة، تسمن عليه الخيل. لما سمى عطاءه سبلًا قال: هو سبل — مطر — ينبت المكرمات والمجد؛ لأنه مطر مواهب ودماء يذيع بها حمده وتعلو مهابته، وليس من المطر الذي ينمو به النبات.

(١٠٦٥) و«إلى» عطف على «إلى سبل». وبالناس: خبر مقدم. ويلل مبتدأ مؤخر. والجملة: صفة لحصى. واليلل: قصر الأسنان — يقال رجل أَيَلُّ، والأنثى يلَّاء — وهو ضد الروق، والروق: طول الأسنان. قال لبيد يصف أسهمًا:

فرَمَيتُ القومَ رشقًا صائبًا ليس بالعُصْلِ ولا بالمُقتَعلْ

رَقَميَّات عليها ناهِض تُكلِحُ الأرْوَقَ منهم والأيلّْ

(سهام عصل: معوجة. والمقتعل: السهم الذي لم يبر بريًا جيدًا. والرقميات: سهام تنسب إلى موضع بالمدينة. وعليها ناهض: أي عليها ريش فرخ من فراخ النسر ناهض؛ أي وفر جناحاه ونهض للطيران. وأكلحه الأمر: أي لشدته أصابه بالكلوح؛ وهو بُدُوُّ الأسنان عند العبوس.)

يقول: ويشتاق إلى حصى أرض أقام بها، ولكثرة ما قبل الناس ذلك الحصى بين يديه أصابهم اليلل وقصرت أسنانهم. وقال ابن جني: من كثرة ما قبل الناس حصى الأرض بين يديه، كأنهم قد حدث فيهم انحناء وانعطاف إلى ذلك الحصى كما تنعطف الأسنان على باطن الفم، وهو معنى حسن؛ ويكون اليلل على هذا انعطاف الأسنان إلى داخل الفم وإقبالها عليه.

(١٠٦٦) الضواحك: التي بين الأنياب والأضراس، وهي أربع ضواحك. يقول: إن لم تخالط الأسنان حصى أرضه لدى التقبيل، فلمن تصان القبل وتدخر؟ يعني أن حصى أرضه أحق شيء بالتقبيل إعظامًا له وإجلالًا لقدره.

(١٠٦٧) قدر: جمع قدرة، وتروى: غرر، جمع غرة؛ بياض الشيء وحسنه. يقول: على وجهه نور من الله تعالى، ذلك النور قدر من الله؛ يعني أنه يدل على قدرته تعالى، وتلك القدر تقوم مقام الآيات والرسل؛ لما فيها من الإعجاز وظهور الصنع. وعلى رواية غرر يكون المعنى: على وجهه نور من الله يشير إلى تمليكه ووجوب طاعته، فيقوم مقام الآيات والرسل في بيان مراده تعالى وتبليغ أوامره.

(١٠٦٨) القلل: الرءوس، جمع قلة. يقول: إذا لم تقبل القلوب ما يحكم به، ضرب رءوس أولئك الذين يأبون حكمه، فكأنها رضيت بحكم سيوفه.

(١٠٦٩) الخميس: الجيش. والقنا: الرماح. والذبل: الدقاق. يقول: إذا عصاه جيش العدو فلم يخضع له، خفض رماحه لطعنه بها — وذلك سجود القنا — فحمله على الخضوع قهرًا.

(١٠٧٠) كان «وهشوذان» هذا قد هزمه ركن الدولة أبو عضد الدولة بالطرم — موضع في عراق العجم. والهبل: الثكل — الفقد — تقول العرب: لأم فلان الهبل. يقول: أرضيت يا «وهشوذان» ما حكمت به سيوف ركن الدولة، أم تتمادى في طغيانك، فتستزيد لك ولأصحابك من القتل والخزي والتنكيل؟

(١٠٧١) وردت: أي السيوف. وغير مغمدة: حال. والقنا: الرماح. والشعل: جمع شعلة؛ القبس من النار، شبه سيوف الممدوح المصلتة بشعل النار.

(١٠٧٢) الخزر: ضيق العين، وقيل أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخر عينه. والقبل في الخيل: أن تقبل إحدى العينين على الأخرى، وإنما تفعل ذلك الخيل لعزة أنفسها. والأعيان: جمع عين «تقول عيون وأعين وأعيان»، قال يزيد بن عبد المدان:

ولكنني أغْدُو عَلَيَّ مُفاضةٌ دِلاص كأعيان الجراد المُنظم

(المفاضة: الدرع السابغة كأنها أفيضت على لابسها. والدلاص: الصقيلة البراقة، وشبه حلقها في الدقة والزرقة، وتقارب السرد، بعيون جراد نظم بعضه إلى بعض وجمع.)

قال ابن جني: يقول: القوم ترك وخيلهم عزيزة الأنفس؛ أي أتوك عليها. قال ابن فورجه: كيف خص «ابن جني» الترك بالذكر دون سائر أجناس العسكر، سيما وأكثرهم ديلم، والممدوح ديلمي؟ وذهب عليه أن الغضبان يتخازر، وقد سمع من ذكر خزر الغضبان ما لا يحصى، كقوله:

خُزْرٌ عيونهم إلى أعدائهم

وبعد؛ فالمعنى إذن أن القوم غضاب، والخيل نشاط عزيزة الأنفس.

(١٠٧٣) يقول: أتاك قومه وليس لك بهم طاقة، وليس بهم من القوم الذين بعدوا عنهم وانفصلوا من جملتهم اختلال، يريد كثرة عسكر ركن الدولة أبي عضد الدولة، وذلك أن جماعة من عسكر ركن الدولة انفصلوا عنه، ومضوا إلى «وهشوذان» ولم يلحق عسكر ركن الدولة بهم اختلال؛ والمعنى أن عسكر ركن الدولة كبير لا يختل بمن انفصل عنه. فالقبل: الطاقة. وبهم: يتعلق بقبل. وجملة «ليس بمن أتوا … الخ»: حال. وقوله بمن أتوا: أراد بمن أتوه، فحذف العائد، وكذلك بمن نأوا: أي بمن نأوا عنه.

(١٠٧٤) الري: بلد بين أرض فارس وخراسان، وكانت قاعدة ركن الدولة، والنسبة إليها رازي. وفصلوا: يريد خرجوا. وقفلوا: رجعوا. يقول: لكثرة جيوشه بالري لم يشعروا بخروج هؤلاء من بينهم، ولا يشعرون برجوعهم حين يرجعون؛ يعني أنهم لم يشعروا بالجيش الذي هزم «وهشوذان» لقلتهم بالإضافة إلى سائر الجيش، ولا شعروا بقفولهم.

(١٠٧٥) يخاطب «وهشوذان» يقول: أقبلتَ إلى الحرب ولا أسد يقدم إقدامك، ومضيت منهزمًا ولا وعل ينهزم انهزامك، فخبر «لا» في الموضعين محذوف — كما ترى — للعلم به. والوعل: تيس الجبل، له قرنان قويان منحنيان كسيفين أحدبين.

(١٠٧٦) الراح: جمع راحة؛ راحة اليد. يقول لوهشوذان: تعطي سلاحهم من أرواح عسكرك وأكفهم من الأموال والأثاث والكراع (الكراع — بضم الكاف — اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير) والسلب ما لم تكن العيون لتطمح أن تراه، لمنعته وبعد نيله.

(١٠٧٧) يقول: أسخى الملوك بترك مملكته ونقلها إلى من يغصبها منه من خاف انتقال الرأس عنه؛ يعني أنك خفت أن يقطع رأسك، فسخوت بمملكتك لئلا ينتقل الرأس عنك. قال ابن جني: لو قال بترك مملكة لكان أوجه، إلا أنه اختار النقل لقوله آخرًا: ينتقل.

(١٠٧٨) دلف إليه: دنا منه ومشى إليه. يقول: لولا جهلك لما قصدت قومًا تنهزم عنهم بأدنى حرب منهم، فضرب لهذا مثلًا بالغرق والتفل؛ والمعنى أنهم لكثرتهم لو بزقوا عليك لغرقوك.

(١٠٧٩) الغيل: جمع غيلة؛ وهي القتل على حين غفلة، ومن حيث لا يدري. يقول: إن جيشه لا يأتون أحدًا في خفية ليظفروا غدرًا وليغتالوا عدوهم، فإنهم لا يحتاجون في قهر عدوهم إلى الغدر والاغتيال، فهم يقاتلون أعداءهم جهارًا.

(١٠٨٠) تعرفه: حال؛ أي وأنت تعرفه. يخاطب «وهشوذان» يقول: إن الحزم أن لا تعارض من هو أقوى منك، إلا إذا اضطررت إلى ذلك. يلومه على اختياره الحرب من أول الأمر، مع علمه أن ركن الدولة وابنه عضد الدولة أقوى منه.

(١٠٨١) استحى يستحي: بمعنى استحيا يستحيي. ونضلوك: غلبوك — من المناضلة؛ وهي المراماة بالسهام، يقال تناضل الرجلان فنضل أحدهما صاحبه إذا غلبه، وكان أكثر إصابة منه — وأتى بعلامة الجمع في «نضلوك»، والفعل مقدم على الفاعل على لغة من يقول: أكلوني البراغيث. وفضلوا: فاقوا في الفضل؛ أراد: أو فضلوك. يقول: من كان مغلوبًا بآل بويه لا يستحي من ذلك؛ لأنهم يغلبون كل أحد.

(١٠٨٢) يقول: لما قدروا عفوا فهم يعفون عن قدرة، ولما وعدوا وفوا بذلك الذي وعدوا، ولما سئلوا أغنوا من سألهم، ولما علوا أعلوا أولياءهم، ولما ولوا الناس عدلوا فيما بينهم؛ أي فمن خالفهم فهو ظالم، ومن ناوأهم فهو شديد الاغترار بهم.

(١٠٨٣) يقول: هم فوق السماء منزلة ورتبة، وفوق كل طلبة وحاجة، وإذا أرادوا شيئًا هو غاية عند الناس نزلوا إليه من علو؛ إذ هم وراء كل غاية.

(١٠٨٤) الصوارم: السيوف. وتعذر: تنصل واحتج لنفسه، ومثله اعتذر.

قال أبو ذؤيب:

فإنك منها والتعذر بعدما لَجَجْت وشَطَّت من فُطَيمة دارُها

وقال لبيد يخاطب ابنتيه، ويقول: إذا مت فنوحا وابكيا علي حولًا:

فقوما فقولَا بالذي قد علمتما ولا تخمِشا وجْهًا ولا تحلِقا الشعَرْ

وقولا هو المرء الذي لا خليله أضاع ولا خان الصديق ولا غدَرْ

إلى الحوْل ثم اسمُ السلام عليكما ومَن يبكِ حولًا كاملًا فقد اعتذر

يقول: إن كرمهم غلب غضبهم وكفهم عن استعمال السيوف، فإذا اعتذر إليهم الجاني ولو كذبًا قبلوا عذره تكرمًا.

(١٠٨٥) شهر السيف: جرده من غمده. والعذل: اللوم. يقول: إذا أذعن مخالفهم بالكلام لم يستعملوا معه السيف؛ يعني لا يعجلون إلى الحرب، وإنما يقدمون اللوم والوعيد، وما دام العذل يؤثر في المخالف لا يقصدونه بمساءة ولا ضر. يصفهم بالحلم والأناة، وفي مِثل هذا المعنى يقول بعض الملوك: إذا كفاني الكلام لم أرفع السوط، وإذا كفاني السوط لم أشهر السيف.

(١٠٨٦) أبو علي: هو ركن الدولة أبو عضد الدولة. وأبو شجاع: هو عضد الدولة. يقول: بركن الدولة قهروا الملوك وسادوهم، وبعضد الدولة كملت لهم مملكتهم واتسع سلطانهم.

(١٠٨٧) الغرة: الطلعة. و«أن» تفسيرية. ولا فاته أمل: حكاية القسم. وأشار بذا الأول إلى ركن الدولة، وبالثاني إلى عضد الدولة. يقول: لما ولد عضد الدولة ظهر على وجهه من شواهد النجابة ومخايل البركة والإقبال، ما علم أبوه منه أن الآمال انحازت إليهم وحصلت لهم، فكأن وجهه وهو في المهد كفل لهم إدراك جميع الآمال، وأن لا يعجزهم عن بلوغها حال. وروى ابن جني «بركات نعمة ذا»؛ يعني أن بركات النعمة بعضد الدولة حلفت لركن الدولة أن الآمال لا يفوته منها شيء. قال الواحدي: ويجوز أن يريد بالنعمة نعمة أبيه ركن الدولة؛ أي ما يملكه من العدة والعتاد تكفل لعضد الدولة بإدراك الآمال. ويروى «بركات نغمة ذا»؛ يعني أن أباه عرف بنغمته — صوته — لما ولد أنه يدرك به الآمال كلها.

(١٠٨٨) يقول: إن الأيام خليقة بأن تتظلم مني وتقول ما للمتنبي وما لي؟ أي لأني جشمتها من همتي ما ليس في وسعها؛ وكان من حقه أن يقول «وما لنا»؛ لأنه ذكر الأيام والليالي، لكنه ذهب بهما إلى الدهر، فكأنه قال: ما أجدر الدهر! ويقال فلان جدير بكذا؛ أي خليق. وأنت جدير بكذا، والجمع جدراء وجديرون.

(١٠٨٩) لا أن يكون … الخ: أراد لا أن يكون هكذا مقالي لها بأن أتظلم منها، فحذف «لها» للعلم به والاختصار، كما تقول: «ما أجدر زيدًا بأن يقوم إليك لا أن تقوم»، تريد إليه فتحذفه. وفتى: خبر مبتدأ محذوف؛ أي أنا فتى، وصلَى بالنار: قاسى حرها. يقول: إن الأيام جديرة بأن تتظلم مني لا بأن أتظلم أنا منها؛ لأني فتى لا يزال يقاسي شدائد الحروب؛ يعني أنه تعود الصبر على الشدائد، فلا تحفزه الأيام إلى الشكوى.

(١٠٩٠) يقول: من نيران الحروب أشرب وبها أغتسل؛ يريد طول مخالطته الحروب، وتمرسه بها وانغماسه فيها، حتى صارت نيرانها عنده كالماء بردًا، فهو يشرب منها ويغتسل بها، وهذا مثل أراد أن شدائدها هانت عليه حتى صار يستروح إليها كما يستروح إلى السلم. ثم قال: إن الفحشاء لا تخطر له على بال، يصف نفسه بالعفة حتى لا تخطر الفحشاء على باله، فضلًا عن أن يحدِّث نفسه بإتيانها. والفحشاء: كل ما اشتد قبحه من الذنوب؛ والمراد هنا الفجور؛ الزنا.

(١٠٩١) جذب: شد. والزراد: صانع الزرد؛ وهي الدروع، وأراد بجذب الزراد لذيله دعاءه إياه؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يكلم آخر فقد يجذبه من ثوبه ليقبل عليه. والسربال: القميص، ويسمى به الدرع استعارة، والجمع سرابيل. وسمته: كلفته. والسرد — ويروى الزرد — مداخلة حلق الدروع بعضها في بعض.

(١٠٩٢) والسروال: معروف؛ وهو أعجمي معرب وأكثر كلام العرب سراويل — بصيغة الجمع وإن لم يقصد به الجمع — وقوله «وكيف لا»: أي كيف لا أكون كذلك، فحذف للعلم به. والإدلال: الفخر والتيه، يقال فلان مدل بكذا.

(١٠٩٣) والمجروح والثمال: فرَسان كانا لعضد الدولة. يقول: لو خيرني الزراد في صنع سربال ألبسه بين أن يكون من صنعة الدرع أو من صنعة الثياب — أي بين أن يصنع لي درعًا أو ثوبًا — لما اخترت إلا الثوب دون الدروع. يشير بذلك إلى أن سيفه درعه، وهو يحمي به بدنه، وإنما حاجته أن يحصن عورته. قال الواحدي: وهذه طريقة المتنبي يترفع عن معاشرة النساء كبرًا وتعففًا. ثم قال للمتنبي: وكيف لا أرغب عن الدروع وأنا متحصن بالممدوح، وبه أدل وأفتخر على الناس؟

(١٠٩٤) الجريال: صبغ أحمر تشبه به الخمر. يقول: إنه يسقي أعداءه كئوس الموت، وأولياءه كئوس الخمر.

(١٠٩٥) القفص: جيل من الناس ينزلون بجبال كرمان، وهو مفعول أول لأصار. وأمس: مفعول ثانٍ. يقول: لما أفنى هؤلاء القوم فصيرهم مثل أمس الدابر، وجواب «لما» يأتي بعد.

(١٠٩٦) قال الواجدي: قتلهم: ذللهم، ومنه قول امرئ القيس:

في أعشَار قَلْبٍ مُقَتَّلٍ

أي مذلل، ويقال شراب مقتل: إذا سكنت سورته بالماء. والإجفال: الإسراع في الهرب. والكرد: جبل معروف. يقول: ذللهم وأضعفهم ومنعهم عن أن يقاتلوا حتى اتقوه بالفرار منه والإسراع بين يديه هربًا.

(١٠٩٧) فهالك: أي فمنهم هالك. والجالي: النازح عن وطنه. والجالية: الذين جلوا عن أوطانهم. والعوالي: الرماح. يقول: فأصارهم بين هالك أفناه التعرض لحربه، وطائع أنجاه التسليم لأمره، ونازح عن داره خوفًا منه. ثم قال: وصاد فرسان الأعداء بالرماح.

(١٠٩٨) والعتق: عطف على العوالي — جمع عتيق. يقول: وصادهم بالسيوف القديمة الصنعة، الجديدة الصقل. وقوله سار … الخ: جواب لمَّا أصار؛ أي لما فعل ذلك وفرغ منه سار لصيد الوحش المعتصمة بالجبال حتى لا يسلم منه ذو منعة.

(١٠٩٩) وفي رقاق: عطف على الجبال. والرقاق من الأرض: اللينة. والإنس: الناس. والأوصال: المفاصل. يقول: سار للصيد وهو يطأ الدماء أينما ذهب لكثرة ما قتل.

(١١٠٠) منفرد: نصب على الحال — من سار. والرعال: القطعة من الخيل، واحدها رعلة. يقول: سار منفردًا عن جيشه لا يريد أن يسايره أحد، وإنما كان يفعل ذلك لعظم همته لا ضجرًا منهم.

(١١٠١) الضن: البخل. يقول: ضَنَنْت بالشيء أَضِنُّ — وهي اللغة العالية — وضننت أضِن ضَنًّا وضِنًّا وضَنَّة ومَضَنَّة وضَنَانَة: بخلت به، وهو ضنين به، ومن هذا قولهم علق مضَنة ومضِنة؛ أي شيء نفيس مضنون به ويُتنافس فيه. والانسلال: مصدر انسل؛ بمعنى خرج من بين أصحابه في خفية، ومثله التسلل، ومنه قوله تعالى: يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا. يقول: وكان ينفرد عنهم ضنًّا بنفسه عن صحبتهم، لا أنه يريد أن يستبدل بهم غيرهم. ثم قال: إن خيله لم تكن تتحرك في سيرها معه إلا حركات خفية هيبة له.

(١١٠٢) التصهال: الصهيل. والمختال: المعجب بنفسه المستكبر. يقول: فالخيل تضرب على الصهيل تأديبًا لها، وفوقها كل رجل عليل في سكونه وتصاغره هيبة لعضد الدولة، وهو في نفسه وهمته مختال؛ فكل عليل مبتدأ، وفوقها خبره.

(١١٠٣) يمسك فاه: نعت عليل. والزوال: الساعة تلي الظهيرة. يقول: وليس يسعل هيبة، وقد طال مقامه من الغداة إلى الزوال، يصف عسكره بالوقار إجلالًا له، هكذا قال أكثر الشراح. قال بعضهم: ولعل الأشبه بمراد المتنبي أنهم كانوا يفعلون ذلك مخافة أن ينفر الصيد إذا سمع جلبتهم، كما يستدل عليه من السياق التالي هذا: ويقال طلعت الشمس والقمر والفجر والنجوم تطلع طلوعًا، ومطلَعًا ومطلِعًا، وهو أحد ما جاء من مصادر فعَل يفعُل على مفعِل، ومطلَعًا بالفتح لغة، وهو القياس، والكسر الأشهر. قال الفراء: إذا كان الحرف من باب فعَل يفعُل — مثل دخل يدخل وخرج يخرج وما أشبههما — آثرت العرب في الاسم منه والمصدر فتح العين، إلا أحرفًا من الأسماء ألزموها كسر العين من مفعل؛ من ذلك المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمنسك والمنبت، فجعلوا الكسرة علامة الاسم والفتح علامة للمصدر، راجع لسان العرب مادة «طلع».

(١١٠٤) يئل: ينجُ ويرجع إلى موئل، مضارع وأل؛ أي نجا. وغير آل: أي غير مقصر، اسم فاعل من ألا يألو. وعدا: ركض وجرى. والأدغال: الآجام، وهي الشجر الكثيف الملتف. وانغل: دخل في الشجر. يقول: لم ينجُ من صيده الطير الذي طار ولم يقصر في طيرانه؛ أي فكيف ينجو الذي قصر؟ ولم ينجُ كذلك ما عدا من الوحش، فدخل واستتر بالأدغال؛ أي فكيف ينجو الذي لم يلجأ إلى الأدغال؟

(١١٠٥) الدحال: جمع دحل، كالهوة في الأرض يجتمع فيها ماء وينبت القصب. و«من» بيان «لما». وحرام اللحم: ما كان كالخنزير والسبع والنمر ونحوها. يقول: ولم ينجُ أيضًا ما تحصن بالماء والدحال مما يحل أكله وما لا يحل.

(١١٠٦) دشت الأرزن: موضع بشيراز. والدشت: الصحراء. والأرزن: شجر صلب تتخذ منه العصي. والطوال: مبالغة من الطويل، وهو نعت للأرزن. يقول: إن النفوس معدة للآجال حتى تأخذها وتذهب بها، ثم دعا لدشت الأرزن بأن يسقيه الله سقيًا. وقال بعض الشراح: قوله إن النفوس عدد الآجال؛ أي إن عدد النفوس على عدد الرجال يعني أن لكل نفس أجلًا، وكان الوجه العكس؛ أي أن يقول: الآجال عدد النفوس، فقلب الكلام تفننًا.

(١١٠٧) الفيح: الواسعة، جمع أفيح. والأغيال: جمع غيل، وهو الأجمة. والرئبال: الأسد، ويجوز في مجاور الحركات الثلاث: الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والنصب على أنه حال، والجر على أنه نعت لدشت. يقول: إن هذا الدشت محاط بالمروج، وفيه كل نوع من الصيد والحيوان، فخنزيره مجاور للأسد.

(١١٠٨) الداني: القريب. الخنانيص: جمع خِنَّوْص؛ ولد الخنزير. والأشبال: جمع شبل؛ ولد الأسد. ومشترف: بمعنى مشرف، يقال أشرف واشترف، قال جرير:

من كلِّ مشترف وإن بعُدَ المدى

«يريد من كل فرس مشرف مرتفع». يقول: إن أولاد الخنازير فيه قريبة من أولاد الأسد مجاورة لها، والدب فيه مشرف على الغزال؛ لأن الدب جبلي والغزال سهلي.

(١١٠٩) يقول: إن هذا المكان قد اجتمعت فيه الأضداد من الحيوان؛ يعني المفترس كالأسد ونحوه وغير المفترس كالظبي والأرنب، وكل واحد من هذين الفريقين أشكال.

(١١١٠) فناخسر: اسم عضد الدولة. والضمير في «عليها» للأضداد والأشكال. الفيال: الذي يسوس الفيل. يقول: كأن الممدوح خاف على هذه الحيوانات أن لا تكون كاملة فجاءها بما لم يكن فيها وهو الفيل؛ ليكمل أمرها باجتماع الحيوانات فيها.

(١١١١) الأيل: جمع إيل؛ وهو حيوان من ذوات الظلف، للذكور منه قرون متشعبة لا تجويف فيها، أما الإناث فلا قرون لها. قال العكبري: وهذا البيت الرواية فيه أُيَّل — بضم الهمزة — على أنه جمع إيل، والمعروف أيايل، ووزن إيل فعل مثل القنب (ضرب من الكتان.) وفعل لا يجمع على فُعَّل إنما فُعَّل جمع فاعل كصائم وصوَّم وراكع وركع وساجد وسجد. أقول: وقد جاء في اللسان أن بعضهم ذهب إلى أن «أيل» اسم للجمع، ومفرد الأيايل الأيل بفتح الهمزة وكسر الياء. قال الخليل: وإنما سمي أيلًا لأنه يئول إلى الجبال. وبعد، فقد اضطربت كلمة اللغويين هنا؛ فقيل مفرد الأيايل إيل وقيل أيل، وقيل إن إيل وأيل جمع أيل «راجع لسان العرب مادة أيل». وطوع: حال. والوهوق: جمع وهق؛ وهو الحبل تؤخذ فيه الدابة وغيرها. والمراد بالخيل: الفرسان. يقول: صيدت الأيائل وقيِّدت بالحبال والوهوق حتى صارت طوعًا لها تقاد بها.

(١١١٢) النعم: الإبل، أما الأنعام، فهي الإبل والغنم والبقر. قال الفراء: النعم يذكر ولا يؤنث، ويجمع على نعمان، مثل حمل وحملان، والعرب إذا أفردت النعم لم يريدوا بها إلا الإبل، فإذا قالوا الأنعام أرادوا بها الإبل والبقر والغنم. وقال ابن سيده: النعم الإبل والشاء، ويذكر ويؤنث، والجمع أنعام وأناعيم. والأرسال: جمع رسل؛ وهو القطيع من الإبل. ومعتمة: من العمامة. والأجذال: جمع جذل؛ وهو أصل الشجرة إذا قطع أعلاها. يقول: إن هذه الأيايل تسير في الجبال سيرًا لينًا كما تسير الإبل بعد أن صيدت وكانت قبل ذلك شديدة العدو — الجري — وهي ذات قرون كبار ملتفة، كأنها قد اعتمدت بأعواد يابسة من الأجذال.

(١١١٣) يريد بأثقال الأحمال: القرون؛ يعني أنهن خلقن كذلك، لا أنه يكون لهن قرون حين الولادة؛ فالكلام منصرف إلى جنس الأيايل — لا إلى صغارهن — يصف قرون الأيايل بالثقل، وأن هذه القرون تمنعها أن تفلي رءوسها لاعوجاجها. وقال ابن جني: يعني بأثقل الأحمال الجبال. قال ابن فورجة: بل المراد القرون؛ لأن الواحد منها إذا قطع، حمله حمار أو رجل. قال الواحدي: وقول ابن جني أظهر؛ لأنها ولدت ولا قرون لها، ومن البعيد أن يراد قرون أبويها؛ والمعنى: ولدن تحت الجبال وقرونهن لطولها وتشعبها تمنعهن من فلي رءوسهن لعوجهن، وما ذهبنا إليه أظهر.

(١١١٤) الهزال: رقة الجسم. يقول: إن هذه القرون لا تشارك أجسامها في الهزال.

(١١١٥) السبة: العار يسب به. يقول: إذا انتفت الأيايل إلى ظل قرونهن رأين لها أقبح الصور لضخامتها وكثرة تعاريجها، فكأن قرونها خلقت لإذلال من نسب إليها لتكون زيادة في تعبير الجهال. يشير إلى قولهم في الشتم: يا قرنان، وهو الذي لا غيرة له.

(١١١٦) السبة: العار يسب به. يقول إذا انتفت الأيايل إلى ظل قرونهن رأين لها أقبح الصور لضخامتها وكثرة تعاريجها، فكأن قرونها خلقت لإذلال من نسب إليها لتكون زيادة في تعبير الجهال. يشير إلى قولهم في الشتم: يا قرنان، وهو الذي لا غيرة له.

(١١١٧) السبة: العار يسب به. يقول إذا انتفت الأيايل إلى ظل قرونهن رأين لها أقبح الصور لضخامتها وكثرة تعاريجها، فكأن قرونها خلقت لإذلال من نسب إليها لتكون زيادة في تعبير الجهال. يشير إلى قولهم في الشتم: يا قرنان، وهو الذي لا غيرة له.

(١١١٨) أراد بالعضو هنا القرن، ولا يسمى القرن عضوًا؛ إذ ليس من جملة الأعضاء، ولعله أطلق عليه عضوًا لمجاورته العضو. والخبال: الفساد وشلل الأعضاء، كنى به هنا عن عدم استطاعة هذه الأيايل الفرار، فكأنها قد أصابها شلل أمسكها عن الجري. يقول: إذا حل بالجسم خبال، فإن أحد أعضائه كيفما كان لا ينفعه — في حال من الأحوال — من ذلك الخبال؛ يريد أن عظم قرونها لم ينفعها في الخروج من الوهوق.

(١١١٩) أوفت: أشرفت من فوق الجبال. والفدر: جمع الفدور والفادر. قال الأصمعي: الفادر من الوعول: الذي قد أسن، بمنزلة القارح من الخيل، والبازل من الإبل. وقيل الوعل: الشاب التام. والضال: شجر؛ وهو السدر البري. يقول: وأشرفت الوعول المسنة ترتدي بقرونها كأنها — لانعطافها — القسي التي تعمل من شجر الضال.

(١١٢٠) نواخس: حال من القسى. والآطال: جمع إطل؛ وهو الخاصرة. وينفذن: يخرقن. يقول: إن أطراف هذه القرون تنخس أعجازها؛ أي تصيبها وتضربها، وتكاد لطولها وانعطافها تنفذ من خواصرها.

(١١٢١) اللحي: جمع لحية. قال ابن سيده: اللحية اسم يجمع من الشعر ما ينبت على الخدين والذقن، والجمع لِحًى ولُحًى — مثل ذروة وذرى. والسبال: الشوارب، جمع سبلة؛ الشارب. يقول: لها شعور قد تدلت من أعناقها كأنها لحى ولكن لا شوارب لها، وتلك اللحى تصلح لأن تضحك لا لأن تبجل وتعظم. هذا، والسبلة أيضًا مقدم اللحية، وما أسبل منها على الصدر، ومن هذا قولهم: جاء فلان وقد نشر سبلته، إذا جاء يتوعد. قال الشماخ:

أتتنِي سُليمٌ قَضَّهَا بِقَضِيضِهَا تُنَشِّرُ حوْلي بالبقيع سِبَالَهَا

يقولون لِي يا احلِفْ ولستُ بحالف أُخادعُهم عنها لكَيما أنالَها

ففَرَّجْتُ غَمَّ النفس عَنِّي بحِلفةٍ كما قَدَّتِ الشقراءُ عنها جِلَالَها

(سليم قبيلة. وقضها بقضيضها: أي بأجمعهم؛ وهو اسم منصوب موضوع موضع المصدر، كأنه قال جاءوا انقضاضًا. وقال سيبويه: كأنه يقول انقض آخرهم على أولهم. وأصل القض: الكسر، وقد استعمل الكسر موضع الانقضاض كقولهم عقاب كاسر؛ أي منقضة. والبقيع الموضع المعروف بالمدينة — على صاحبها أفضل الصلوات والتسليم. وتنشر حولي … الخ: يروى تمسح أراد أنهم يمسحون لحاهم، وهم يتوعدونه. وقوله يا احلف: أي يا رجل احلف، أو «يا» للتنبيه. وأخادعهم عنها: أي عن الحلفة، فأقول لهم لا أحلف، وأظهر أن الحلف يشق علي. وقوله لكيما أنا لها: أي الحلفة. وقوله ففرجت … الخ: يريد كشفت هذا الغم عني باليمين الكاذبة، كما كشفت الشقراء ظهرها بشق جلها عنه. والشقراء: يريد الناقة، وفي مثل بهذا المعنى يقول ابن الرومي:

وإني لذُو حَلفٍ كاذب إذا ما اضطُررت وفي الحال ضِيقُ

وهل من جُناح على مُعسرٍ يدافع بالله ما لا يطيقُ)

(١١٢٢) كل أثيث: بدل من اللحى؛ أي كل لحية هذه صفتها. والأثيث من الشعر: الكثير الملتف. ونبتها: فاعل أثيث. ومتفال: خبيثة الرائحة. والغوالي جمع غالية؛ وهي أخلاط من الطيب. والدمال: زبل الدواب؛ وهو السرجين. يقول: لها لحى كثيرة الشعر، منتنة الريح، لم تطيب بمسك ولا بطيب، بل بالبول والسرجين!

(١١٢٣) تسريح الشعر: حله وتخليص بعضه من بعض. والعارضان: جانبا الوجه. يقول: لو سرحت هذه اللحى حال كونها في وجه رجل ذي احتيال، لكانت له شبكة يصطاد بها أموال الناس؛ لأن ذا اللحية الطويلة يعظم ويظن به الخير ويؤتمن، وإذا كان محتالًا خان الأمانة وفاز بها.

(١١٢٤) يقول: لعدها شبكة من الشباك التي ينصبها قضاة السوء لأخذ أموال اليتامى بما يظهرون من حلي المهابة والوقار وسيماء الخير والتقى. هذا، والسوء: الاسم — مِن ساءه يسوءه سوءًا — والسوء: الفجور والمنكر؛ تقول هذا رجلُ سوء، بالإضافة، وإذا دخلت عليه الألف واللام قلت هذا رجل السوء. قال الفرزدق:

وكنت كذِئبِ السَّوءِ لَمَّا رأى دَمًا بصاحبه يومًا أحال على الدم

(أحال الذئب على الدم: أقبل عليه. قال الفرزدق أيضًا:

فتى ليس لابن العَمِّ كالذئب إن رأى بصاحبه يومًا دمًا فهْو آكله)

قال الأخفش: ولا يقال الرجل السوء، ويقال الحق اليقين، وحق اليقين جميعًا؛ لأن السوء ليس بالرجل، واليقين هو الحق. قال: ولا يقال هذا رجل السُّوء — بالضم — وقرأ ابن كثير وأبو عمرو قوله تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ بضم السين؛ يعني الشر والهزيمة، وقرأ باقي القراء بفتح السين، وهو من المساءة. راجع لسان العرب، مادة: «سوأ».

(١١٢٥) الإدبار والإقبال: مصدرا أدبر وأقبل، والدبر: خلاف القبل. قال الجوهري: ودبُر كل شيء ودبْره: آخره، على المثل، قال الكميت:

أعَهْدَكَ من أُولي الشبيبة تطلُبُ عَلَى دُبُرٍ هيهات شأْوٌ مُغِرِّب

(شأو مغرب — بكسر الراء وفتحها — بعيد.)

والقذال: مؤخر الرأس. يقول: إذا استدبرت هذه اللحى، رأيتها كما تستقبلها لعظمها وعرضها؛ فهي تعم الوجه والقفا.

(١١٢٦) فاختلفت: عطف على قوله «وأوفت». والوابل: المطر الكثير. والطود: الجبل. وقوله: من معال، يقال أتيته من عل ومن عال ومن معال ومن عالِ الدار — بكسر اللام — ومن علا؛ قال ذو الرمة في من «معال»:

فرَّجَ عنه حَلَقَ الأغلالِ جَذْبُ العُرَى وجِرية الجبال

ونغَضانُ الرحلِ من مُعالِ

(أراد: فرج عن حنين الناقة حلق الأغلال — يعني حلق الرحم — سيرنا، وكل حركة في ارتجاف نغض ونغضان، والجرية — بالكسر — حالة الجريان.)

وفي «أتيته من علا» يقول أبو النجم:

باتتْ تنوشُ الحوْضَ نوْشًا من عَلا نوْشًا به تقطَعُ أجوازَ الفلا

(باتت: أي الإبل. وتنوش الحوض: تتناول ملء أفواهها من مائة. ومن علا: أي من فوق؛ يريد أنها عالية الأجسام طوال الأعناق، وذلك النوش الذي تناله هو الذي يعينها على قطع الفلوات. والأجواز: جمع جوز؛ وهو الوسط؛ أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربًا كثيرًا، وتقطع بذلك الشرب فلوات، فلا تحتاج إلى ماء آخر.)

وفي «من عل الدار» — بكسر اللام — قال امرؤ القيس:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مدبرٍ معًا كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

(يقول امرؤ القيس: إن هذا الفرس مكر إذا أريد منه الكر على العدو، ومفر إذا أريد منه الفر، ومقبل ومدبر إذا أريد منه ذلك. وقوله معًا: يعني أن الكر والفر والإقبال والإدبار مجتمعة في قوته لا في فعله؛ لأن فيها تضادًّا. ثم شبهه في سرعة مره وصلابته بحجر عظيم ألقاه السيل من مكان عالٍ إلى حضيض.)

وفي «أتيته من علُ» — بضم اللام — أنشد يعقوب لعدي بن زيد:

في كِناسٍ ظاهِر يسترُهُ مِن عَلُ الشفَّانَ هُدَّابُ الْفَنَنْ

(الشفان هنا: البرد؛ وهو منصوب بإسقاط حرف الجر؛ أي يستره هداب الفنن من الشفان. والهداب: كل ورق ليس له عرض كورق السرو والأثل. والفنن: الغصن أو ما تشعب من ورقه.)

أما قول أوس بن حجر يصف قوسًا وقواسًا:

فمَلَّكَ باللِّيطِ الذي تحت قشرها كَغِرْقِئ بيضٍ كَنَّهُ القيضُ من عَلُو

(الليط: جمع ليطة — كريش وريشة — قشرة القصبة والقوس والقناة وكل شيء له متانة. والقيض: قشر البيض الأعلى اليابس. وغرقئ البيض: قشره الذي تحت القيض. وملك: شدد — من قولهم ملكت المرأة العجين: إذا عجنته وأنعمت عجنه وأجادته. والذي: مفعول ملك لا صفة لليط. يقول أوس: ترك شيئًا من القشر على قلب القوس تتمالك القوس به — أي تقوى وتشتد. يكنها: أي يسترها لئلا يبدو قلب القوس فيتشقق وهم يجعلون عليها عقبًا إذا لم يكن عليها قشر، ولذلك مثَّله بالقيض للغرقئ.)

فإن الواو زائدة، وهي لإطلاق القافية، ولا يجوز مثله في الكلام. وفي «أتيته من عال» يقول دكين بن رجاء:

يُنْجِيه مِن مِثل حمام الأغلالْ وقْعُ يدٍ عَجْلَى ورِجل شِمْلَالْ

ظمأى النَّسَا من تحْتُ ريَّا من عالْ

(الأغلال: جمع غلل؛ وهو الماء الذي يتخلل بين الشجر. وشملال: خفيفة سريعة. والنسا — بوزن العصا: عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين، ثم يمر بالعرقوب حتى يبلغ الحافر، فإذا سمنت الدابة انفلقت فخذاها بلحمتين عظمتين، وجرى النسا بينهما واستبان، وإذا هزلت الدابة اضطربت الفخذان وماجت الربلتان — جمع ربلة باطن الفخذ — وخفى النسا. يصف دكين فرسًا، يقول: ينجي هذا الفرس من خيل مثل حمام يرد غللًا من الماء وقع يد … الخ، يصفه بالسرعة، ثم قال: إن قوائمه ليست برهلة ولا كثيرة اللحم، ويحمد ذلك فيها، ثم قال: إنها ريا من فوق — يقال فرس ريان الظهر إذا سمن متناه.)

وأتيته من علو، قال أعشى باهلة:

إني أتتني لسانٌ لا أُسَرُّ بها من عَلْوُ لا عجبٌ منها ولا سَخَرُ

(من كلمته المشهورة التي يرثي بها المنتشر. واللسان هنا: يراد بها الرسالة والكلمة والخبر.)

ويروى من علْو وعلُو. يقول: رشقت هذه الأيايل بالنبال من أعالي الجبال وأسافلها، فهي تجيء منها وتذهب بين نبال كالمطر تأتيها من كل جانب.

(١١٢٧) العتل: القسي الفارسية. والرجال — بكسر الراء، ويروى بضمها، والتثقيل: جمع راجل. والكبد: بالكسر وبفتح فكسر، لغتان. والنصال: جمع نصل؛ الحديدة المركبة في السهم، وكبداها الناتئان وسط تلك الحديدة عن يمينها وشمالها. يقول: رمت قسي الرجالة تلك الوعول، فأدخلت في كبد كل منها نصلًا من نصال السهام؛ يعني أن الرماة قد أثخنوها بالرماح.

(١١٢٨) يهوين: يسقطن. والقلال: جمع قلة؛ أعلى الجبل. والظلف: الحافر المشقوق. والإرقال: ضرب من العدْو. يقول: فهن يسقطن من أعالي الجبال منحدرات على ظهورهن، فصارت أظلافهن مقلوبة وصار عدْوهن — جريهن — على الظهور بعد أن كان على الأظلاف.

(١١٢٩) يرقلن: يجرين. والمحال: فقار الظهر، جمع محالة. يقول: هي تعدو في الجو نازلة على ظهورها في طرق تسرع إيصالها إلى الحضيض، كما هو شأن ما يهوي سفلًا.

(١١٣٠) النيمة: هيئة النوم. والمكسال: صيغة مبالغة من الكسل، وتروى: الكسال جمع كسلان. والقفي: جمع قفا. والعجال: جمع عجل وعجلان وأعجل، العجال: حال. لما نزلت في تلك الطرق على قفيها جعلها كالنائم المستلقي على ظهره كسلًا، ولكنها في ذلك أسرع العجال لسرعة هويها.

(١١٣١) يقول: لا يشتكين في تلك السرعة نَصَبًا ولا تعبًا ولا إعياء؛ لأنهن لا يقفن عن النزول، ولا يخفن ضلالًا ولا تيهًا في طريقهن؛ لأنها تفضي بهن إلى الأرض ألبتة.

(١١٣٢) عنها: صلة الترحال، والضمير للوحوش. وسبب: خبر «كان»، وتشويق: اسمها، وتقدير الكلام: فكان تشويقُ إكثار إلى إقلال سببَ ترحال عنها. يقول: لما أكثر من صيدها شوقه الإكثار من الصيد إلى الإقلال؛ لأنه مل الصيد لكثرته فكان ذلك سبب رحيله عنها.

(١١٣٣) البلبال: الهم والحزن. وسلمى: أحد جبلي طيئ، والآخر أجا. وقيال: جبل بالبادية. يقول: لكثرة فتكه بالصيد خافته الوحوش، حتى بات وحش نجد في خوف وهم، وكذا وحش جبل طيئ، فهي تخشى أن يقصد إليها.

(١١٣٤) نوافر — كما قال ابن جني: حال من ضمير «يخفن». والضِّباب: جمع ضبٍّ؛ وهو الدويبة المعروفة يأكلها العرب. والأورال: جمع ورل؛ دابة على خلقة الضب أعظم منه، طويلة الذنب دقيقته. والخاضبات الربد: النعام لأنها ربد الألوان — في لونها غبرة — فإذا أكلت الربيع انخضبت — احمرت سوقها — فيسمى الظليم خاضبًا، قال أبو دؤاد:

له سَاقا ظَليمٍ خاضِبٍ فوجِئَ بالرُّعبِ

«راجع لسان العرب، مادة: خضب». والرئال: جمع رأل؛ فرخ النعام. يقول: إن وحوش سائر النواحي نفرت خوفًا منه.

(١١٣٥) الخنساء: المها — بقر الوحش — لخنس أنفها. والذيال: الثور الوحشي لطول ذنبه. والأزوال: جمع زول، وهو العجيب الظريف من كل شيء. يقول: إن الوحوش تسمع من أعاجيب أخبار عضد الدولة في الصيد ما يبعث الخرس على السؤال عنه مع عجزها عن السؤال.

(١١٣٦) فحولها: جمع فحل، وهي رواية ابن جني. وتروى: فَحولها — بفتح الفاء التي هي للجواب — كما تقول أكثرت من الجميل فالناس كلهم يشكرونك، فأتى بالفاء لأن فعل الجميل كان سبب الشكر، والحول: جمع حائل، ضد الحامل. والعوذ: الحديثات النتاج، جمع عائذ. والمتالي: جمع المتلية، وهي التي تتلوها أولادها. يقول: إن أنواع الوحوش تود وتتمنى لو بعث إليها من يلي عليها فيذللها، وتتمة الكلام فيما يلي.

(١١٣٧) يركبها: نعت والٍ. والخطم: جمع خطام؛ وهو الزمام، وخطمت البعير: زممته. والرحال: جمع رحل، وهو للإبل كالسروج للخيل. يقول: هذا الوالي يذلل الوحش حتى تنقاد في الأزمة والرحال، فتصير آمنة من أهوال الطرد ومما يصيبها من خوف الصيد.

(١١٣٨) خمس المال: أخذ خمسه. والمسبل: من السحاب الهاطل. والهطال: المتتابع السيلان. يقول: ويأخذ ذلك الوالي خمس ما ترعاه الوحش من العشب وخمس الماء الذي ترده وترضى بذلك ولا تبالي.

(١١٣٩) السفار: المسافرون، وهم السَّفْر، وواحد السفر — في القياس — سافر، مثل صاحب وصحب، إلا أنه لم ينطق ﺑ «سافر». والقفال: جمع قافل، وهو الراجع من من سفره، كأنه قال: يا أقدر الناس جميعًا ذاهبًا كنت أم راجعًا. والثعالي: الثعالب على الإبدال، وهو خاص بالشعر، ومثله: الأراني، جمع أرنب، قال أبو كاهل اليشكري يشبه ناقته بعقاب:

كأن رجْلي على شغواء حادرةٍ ظَمياء قد بُلَّ من طلٍّ خوافيها

لها أشاريرُ من لحم تُتمِّرهُ من الثعالي وَوَخز من أرانيها

(الشغواء: العقاب، سميت بذلك من الشغي؛ وهو انعطاف منقارها الأعلى. والحادرة: الغليظة. والظمياء: المائلة إلى السواد. وخوافيها: يريد خوافي ريش جناحها. والأشارير: جمع أشرارة؛ وهي اللحم المجفف للادخار. وتتمر: تجففه، واشتقاقه من التمر، يريد بقاءها في وكرها حتى يجف لكثرته. والوخز: القطع من اللحم، وأصل الوخز: الطعن الخفيف، كأنه يريد ما تقطعه من اللحم بسرعة ورجلي يروى: رحلي. والثعالي: الثعالب. والأراني: الأرانب.)

يقول: لو شئتَ غلَّبت الضعيفَ على القوي حتى تصيد الأسود بالثعالب.

(١١٤٠) الآل: ما يرى نصف النهار كأنه ماء. والإلال: جمع ألة؛ وهي الحربة العريضة النصل. يقول: لو شئت غرقت أعداءك بما هو ليس بماء، ولو طعنتهم باللآلئ بدل الإلال — الحراب — لقامت اللآلي في إهلاكهم مقام الحراب؛ لأنك مظفر منصور.

(١١٤١) الطَّرَد: الصيد، وهو مصدر طرد، مثل الطَّرْد بالإسكان. والسعالي: جمع سعلاة؛ وهي الغول، يقال: إنها تتمثل في الفلوات على صورة الجن. والظلم: الليالي التي في آخر الشهر لا يطلع فيها القمر. والأبال: جمع آبل، وهي التي تجتزئ بالكلأ عن الماء. يقول: لم يبقَ إلا أن تصيد الغيلان في المهامه على ظهور الإبل، يعني ملكت الإنس والوحش وكففت شر كل ذي غائلة فلم يبقَ إلا أن تخلي المفاوز من السعالي حتى لا تؤذي السائرين في الليالي المظلمة، وإنما خص الإبل؛ لأن الخيل لا تعمل في المفاوز، وجعلها مكتفية عن الماء بالكلأ لئلا تحتاج إلى الماء.

(١١٤٢) المحال: المستحيل الذي لا يكون. يقول: بلغت غاية آمالك، وملكت كل شيء يوصف بالوجود ويدرك مكانه، ولم تترك إلا المعدوم الذي لا يوصف بالمكان والوجود. وقوله في: «لا مكان» كما يقال سافرت بلا زاد.

(١١٤٣) الحلي: ما يصاغ من الجواهر للزينة. والحالي: صاحب الحلي. وبالأب: متعلق بمحذوف؛ أي تتحلى. والشنف: القرط الذي يعلق في أعلى الأذن. وحليًا: مفعول العامل المحذوف. يقول: النسب حلية لصاحبه وأنت الحالي بتلك الحلية، فأنت إنما تتحلى بأبيك لا بما تتزين به النساء من حليهن، وذلك الحلي الذي هو نسبك تزين منك بالجمال؛ يعني أن أباك يزينك وأنت جماله تزينه أيضًا.

(١١٤٤) المعطال: التي لا حلي عليها. يقول: إن الحلي لا تكسب الحسن إذا كان لابسها قبيحًا، فيكون الحسن فيمن لا حلي عليه أحسن من الحلي فيمن لا حسن فيه؛ يعني أن من لا فضيلة له في نفسه لا تُجْدِيه فضيلة النسب كالقبيح إذا تحلى. وقال ابن القطاع: صحف هذا البيتَ كل الرواة فرووه قبح — بالقاف والباء — وهو ضد الحسن ولا معنى للقبح في هذا البيت؛ لأنه لا يجهل أحد أن الحسن خير من القبح، وقال أحسن منها، فعاد الضمير على الحلي وحدها ولم يكن للقبح ذكر؛ لأن الحلي مؤنثة والقبح مذكر، ولا يجوز أن يغلب المؤنث على المذكر، وإنما غرهم ذكر الحسن فظنوا أنه قبح، وإنما هو فُتُخ — بالفاء والتاء والخاء المعجمة — جمع فَتْخَة، يقال: فَتْخَة وفَتَخَة وفُتُخ وفَتَخَات وفِتَاخ وفُتُوخ، وهي خواتيم بلا فصوص يلبسها نساء العرب في أصابع أيديهن وأرجلهن … أقول: ومما يستطرف إيراده هنا شاهدًا على الفتخ، وأنها كما قال ابن القطاع قول الدهناء بنت مسحل زوج العجاج — وكانت رفعته إلى المغيرة بن شعبة، فقالت له: أصلحك الله إني منه بجمع؛ أي لم يفتضني، فقال العجاج:

الله يعلم يا مغيرة أنني قد دُستُها دَوْسَ الحصان المرسلِ

وأخذتها أخذ المقصِّبِ شاته عَجلانَ يذبَحها لقومٍ نُزَّل

فقالت الدهناء:

والله لا تخدعني بِشَم ولا بتقبيل، ولا بضَمِّ

إلا بزَعزاع يُسَلِّي همي تسقطُ منه فَتَخِي في كُمِّي

«الزعزاع: الاسم، من زعزعه زعزعة؛ أي حركه.»

(١١٤٥) فخر: مبتدأ، خبره: من قبله، والضمير في قبله: للفخر، وبالعم: حال من الضمير المذكور. وقال العكبري: الباء في قوله «بالعم» متعلقة بفعل محذوف يدل عليه الكلام؛ أي لا يفخر أحد بعمه وخاله ويترك نفسه وأفعاله، ولا يجوز أن يتعلق بالهاء في «قبله» وإن كانت ضمير المصدر؛ لأنه لا نسبة بينه وبين الفعل، ولا يجوز تعليق حرف الجر به. ويجوز أن تكون الباء مع ما بعدها في موضع نصب على الحال من الهاء في «قبله» وتكون أيضًا متعلقة بمحذوف؛ أي من قبله كائنًا بالعم، كقولك هند مررت بها من الصالحات. يقول: إنما يفتخر الفتى بشرف نفسه وحسن أفعاله من قبل أن يفتخر بعمه وخاله، قال البحتري:

فما الفَخرُ بالعَظْمِ الرميم وإنما فخارُ الذي يَبغي الفخارَ بنفْسِهِ


No comments:

Post a Comment

Pages