شرح ديوان المتنبي
قافية الميم
وقال يمدح سيف الدولة، وهي أول ما أنشده سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عند نزوله أنطاكية من ظفره بحصن بَرْزُوَيْهِ، وكان جالسًا تحت فازة من الديباج١ عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان:
وَفَاؤُكُمَا كَالرَّبْعِ أَشْجَاهُ طَاسِمُهْ بِأَنْ تُسْعِدَا وَالدَّمْعُ أَشْفَاهُ سَاجِمُهْ٢
وَمَا أَنَا إلَّا عَاشِقٌ كُلُّ عَاشِقٍ أَعَقُّ خَلِيلَيْهِ الصَّفِيَّيْنِ لَائِمُهْ٣
وَقدْ يَتَزَيَّا بِالْهَوَى غَيْرُ أَهْلِهِ ويَستَصْحِبُ الْإِنْسَانُ مَنْ لَا يُلَائِمُهْ٤
بَلِيتُ بِلَى الْأَطْلَالِ إنْ لَمْ أَقِفْ بِهَا وُقُوفَ شَحِيحٍ ضَاعَ فِي التُّرْبِ خَاتِمُهْ٥
كَئِيبًا تَوَقَّانِي الْعَوَاذِلُ فِي الْهَوَى كَمَا يَتَوَقَّى رَيِّضَ الْخَيْلِ حَازِمُهْ٦
قِفِي تَغْرَمِ الْأُولَى مِنَ اللَّحْظِ مُهْجَتِي بِثَانِيَةٍ وَالْمُتْلِفُ الشَّيْءَ غَارِمُهْ٧
سَقَاكِ وَحَيَّانَا بِكِ اللهُ إِنَّمَا عَلَى الْعِيسِ نَوْرٌ وَالْخُدُورُ كَمَائِمُهْ٨
وَمَا حَاجَةُ الْأَظْعَانِ حَوْلَكِ فِي الدُّجَى إلَى قَمَرٍ مَا وَاجِدٌ لَكِ عَادِمُهْ؟٩
إذَا ظَفِرَتْ مِنْكِ الْعُيُونُ بِنَظْرَةٍ أَثَابَ بِهَا مُعْيِي الْمَطِيِّ وَرَازِمُهْ١٠
حَبِيبٌ كَأَنَّ الْحُسْنَ كَانَ يُحِبُّهُ فآثَرَهُ أَوْ جَارَ فِي الْحُسْنِ قَاسِمُهْ١١
تَحُولُ رِمَاحُ الْخَطِّ دُونَ سِبَائِهِ وتُسْبَى لَهُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ كَرَائِمُهْ١٢
وَيُضْحِي غُبَارُ الْخَيْلِ أَدْنَى سُتُورِهِ وَآخِرُهَا نَشْرُ الْكِبَاءِ الْمُلَازِمُهْ١٣
وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْنِي فِرَاقًا رَأَيْتُهُ وَلَا عَلَّمَتْنِي غَيْرَ مَا الْقَلْبُ عَالِمُهْ١٤
فَلَا يَتَّهِمْنِي الْكَاشِحُونَ فَإنَّنِي رَعَيْتُ الرَّدَى حَتَّى حَلَتْ لِي عَلَاقِمُهْ١٥
مُشِبُّ الَّذِي يَبْكِي الشَّبَابَ مُشِيبُهُ فكَيْفَ تَوَقِّيهِ وَبَانِيهِ هَادِمُهْ؟١٦
وَتَكْمِلَةُ الْعَيْشِ الصِّبَا وَعَقِيبُهُ وَغَائِبُ لَوْنِ الْعَارِضَيْنِ وَقَادِمُهْ١٧
وما خَضَبَ النَّاسُ الْبَيَاضَ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ وَلكِنْ أَحْسَنُ الشَّعْرِ فَاحِمُهْ١٨
وَأَحْسَنُ مِنْ مَاءِ الشَّبِيبَةِ كُلِّهِ حيَا بَارِقٍ فِي فَازَةٍ أَنَا شَائِمُهْ١٩
عَلَيْهَا رِياضٌ لَمْ تَحُكْهَا سَحَابَةٌ وَأَغْصَانُ دَوْحٍ لَمْ تَغَنَّ حَمَائِمُهْ٢٠
وَفَوْقَ حَوَاشِي كُلِّ ثَوْبٍ مُوَجَّهٍ مِنَ الدُّرِّ سِمْطٌ لَمْ يُثَقِّبْهُ نَاظِمُهْ٢١
تَرَى حَيَوَانَ البَرِّ مُصْطَلِحًا بِهَا يُحَارِبُ ضِدٌّ ضِدَّهُ وَيُسَالِمُهْ٢٢
إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ مَاجَ كَأنَّهُ تَجُولُ مَذَاكِيهِ وَتَدْأَى ضَرَاغِمُهْ٢٣
وَفِي صُورَةِ الرُّومِيِّ ذِي التَّاجِ ذِلَّةٌ لِأَبْلَجَ لا تِيجَانَ إِلَّا عَمَائِمُهْ٢٤
تُقَبِّلُ أَفْوَاهُ الْمُلُوكِ بِسَاطَهُ ويَكْبُرُ عَنْهَا كُمُّهُ وَبَرَاجِمُهْ٢٥
قِيَامًا لِمَنْ يَشْفِي مِنَ الدَّاءِ كَيُّهُ وَمَنْ بَيْنَ أُذْنَيْ كُلِّ قَرْمٍ مَوَاسِمُهْ٢٦
قَبَائِعُهَا تَحْتَ الْمَرَافِقِ هَيْبَةً وأنْفَذُ مِمَّا فِي الْجُفُونِ عَزَائِمُهْ٢٧
لَهُ عَسْكَرَا خَيْلٍ وَطَيْرٍ إذَا رَمَى بِهَا عَسْكَرًا لَمْ يَبْقَ إلَّا جَمَاجِمُهْ٢٨
أَجِلَّتُها مِنْ كُلِّ طَاغٍ ثِيَابُهُ وَمَوْطِئُهَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ مَلَاغِمُهْ٢٩
فَقَدْ مَلَّ ضَوْءُ الصُّبْحِ مِمَّا تُغِيرُهُ وَمَلَّ سَوَادُ اللَّيْلِ مِمَّا تُزَاحِمُهْ٣٠
وَمَلَّ الْقَنَا مِمَّا تَدُقُّ صُدُورَهُ وَمَلَّ حَدِيدُ الْهِنْدِ مِمَّا تُلَاطِمُهْ٣١
سَحَابٌ مِن الْعِقْبَانِ يَزْحَفُ تَحْتَهَا سَحَابٌ إِذَا اسْتَسْقَتْ سَقَتْهَا صَوَارِمُهْ٣٢
سَلَكْتُ صُرُوفَ الدَّهْرِ حَتَّى لَقِيتُهُ عَلَى ظَهْرِ عَزْمٍ مُؤْيَدَاتٍ قَوَائِمُهْ٣٣
مَهَالِكَ لَمْ تَصْحَبْ بِهَا الذِّئْبَ نَفْسُهُ وَلَا حَمَلَتْ فِيهَا الْغُرَابَ قَوَادِمُهْ٣٤
فَأَبْصَرْتُ بَدْرًا لا يَرَى الْبَدْرُ مِثْلَهُ وَخَاطَبْتُ بَحْرًا لَا يَرَى الْعِبْرَ عَائِمُهْ٣٥
غَضِبْتُ لَهُ لَمَّا رَأيْتُ صِفَاتِهِ بِلَا وَاصِفٍ وَالشِّعْرُ تَهْذِي طَمَاطِمُهْ٣٦
وَكُنْتُ إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا بَعِيدَةً سَرَيْتُ وَكُنْتُ السِّرَّ وَاللَّيْلُ كَاتِمُهْ٣٧
لَقَدْ سَلَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ الْمَجْدُ مُعْلِمًا فَلَا الْمَجْدُ مُخْفِيهِ وَلَا الضَّرْبُ ثَالِمُهْ٣٨
عَلَى عاتِقِ الْمَلْكِ الْأَغَرِّ نِجَادُهُ وَفِي يَدِ جَبَّارِ السَّمَوَاتِ قَائِمُهْ٣٩
تُحَارِبُهُ الْأَعْدَاءُ وَهْيَ عَبِيدُهُ وتَدَّخِرُ الْأَمْوَالَ وَهْيَ غَنَائِمُهْ٤٠
وَيَسْتَكْبِرُونَ الدَّهْرَ وَالدَّهْرُ دُونَهُ وَيَسْتَعْظِمُونَ الْمَوْتَ والْمَوْتُ خَادِمُهْ٤١
وَإِنَّ الَّذِي سَمَّى عَلِيًّا لَمُنْصِفٌ وَإِنَّ الَّذِي سَمَّاهُ سَيْفًا لَظَالِمُهْ
وَمَا كُلُّ سَيْفٍ يَقْطَعُ الْهَامَ حَدُّهُ وتَقْطَعُ لَزْبَاتِ الزَّمَانِ مَكَارِمُهْ٤٢
وقال يمدحه، وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية:
أيْنَ أزْمَعْتَ أيُّهَذَا الْهُمَامُ؟ نَحْنُ نَبْتُ الرُّبَا وَأَنتَ الْغَمَامُ٤٣
نَحْنُ مَنْ ضَايَقَ الزَّمَانُ لَهُ فِيـ ـكَ وَخَانَتْهُ قُرْبَكَ الْأيَّامُ٤٤
في سَبِيلِ الْعُلَا قِتَالُكَ وَالسِّلـْ ـمُ وَهذَا المُقَامُ وَالإجْذَامُ٤٥
لَيْتَ أَنَّا إِذَا ارْتَحَلْتَ لَكَ الْخَيـْ ـلُ وَأَنَّا إذَا نَزَلْتَ الْخِيَامُ٤٦
كُلَّ يَوْمٍ لَكَ احْتِمَالٌ جَدِيدُ وَمَسِيرٌ لِلْمَجْدِ فِيهِ مُقَامُ٤٧
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ٤٨
وَكَذَا تَطْلُعُ الْبُدُورُ عَلَيْنَا وَكَذَا تَقْلَقُ الْبُحُورُ الْعِظَامُ٤٩
وَلَنَا عَادَةُ الْجَمِيلِ مِنَ الصَّبـْ ـرِ لَوَ انَّا سِوَى نَوَاكَ نُسَامُ٥٠
كُلُّ عَيْشٍ مَا لَمْ تُطِبْهُ حِمَامٌ كُلُّ شَمْسٍ مَا لَمْ تَكُنْهَا ظَلَامُ٥١
أَزِلِ الْوَحْشَةَ الَّتِي عِنْدَنَا يَا مَنْ بِهِ يَأْنَسُ الْخَمِيسُ اللُّهَامُ٥٢
وَالَّذِي يَشْهَدُ الْوَغَى سَاكِنَ الْقَلـْ ـبِ كَأَنَّ الْقِتَالَ فِيهَا ذِمَامُ٥٣
وَالَّذِي يَضْرِبُ الْكَتَائِبَ حَتَّى تَتَلَاقَى الْفِهَاقُ والْأَقْدَامُ٥٤
وَإذَا حَلَّ سَاعَةً بِمَكَانٍ فَأَذَاهُ عَلَى الزَّمَانِ حَرَامُ٥٥
وَالَّذِي تُنْبِتُ الْبِلَادُ سُرُورٌ وَالَّذِي تَمْطُرُ السَّحَابُ مُدَامُ٥٦
كُلَّما قِيلَ: قَدْ تَنَاهَى أَرَانَا كَرَمًا مَا اهْتَدَتْ إلَيْهِ الْكِرَامُ٥٧
وَكِفَاحًا تَكِعُّ عَنْهُ الْأَعَادِي وَارْتِيَاحًا يَحَارُ فِيهِ الْأَنَامُ٥٨
إِنَّمَا هَيْبَةُ المُؤَمَّلِ سَيْفِ الدَّ وْلَةِ الْمَلْكِ في الْقُلوبِ حُسَامُ٥٩
فَكَثِيرٌ مِنَ الشُّجَاعِ التَّوَقِّي وَكَثِيرٌ مِنَ الْبَلِيغِ السَّلَامُ٦٠
وقال يمدحه أيضًا:
أنَا مِنكَ بَيْنَ فَضَائِلٍ وَمَكَارِمِ وَمِنِ ارْتِيَاحِكَ فِي غَمَامٍ دَائِمِ٦١
وَمِنِ احْتِقَارِكَ كُلَّ مَا تَحْبُو بِهِ فِيمَا أُلَاحِظُهُ بِعَيْنَيْ حَالِمِ٦٢
إنَّ الْخَلِيفَةَ لَمْ يُسَمِّكَ سَيْفَهَا حَتَّى بَلَاكَ فَكُنْتَ عَيْنَ الصَّارِمِ٦٣
فَإِذَا تَتَوَّجَ كُنْتَ دُرَّةَ تَاجِهِ وَإِذَا تَخَتَّمَ كُنْتَ فَصَّ الْخَاتِمِ٦٤
وَإِذَا انْتَضَاكَ عَلَى الْعِدَى فِي مَعْرَكٍ هَلَكُوا وَضَاقَتْ كَفُّهُ بِالْقَائِمِ٦٥
أَبْدَى سَخَاؤُكَ عَجْزَ كُلِّ مُشَمِّرٍ فِي وَصْفِهِ وَأَضَاقَ ذَرْعَ الْكَاتِمِ٦٦
وقال يمدحه، وكان سيف الدولة قد أمر غلمانه أن يلبسوا، وقصد ميَّافارقين في خمسة آلاف من الجند وألفين من غلمانه، ليزور قبر والدته، وذلك سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة:
إِذَا كَانَ مَدْحٌ فَالنَّسِيبُ الْمُقَدَّمُ أَكُلُّ فَصِيحٍ قَالَ شِعْرًا مُتَيَّمُ٦٧
لَحُبُّ ابْنِ عَبْدِ اللهِ أَوْلَى فَإنَّهُ بِهِ يُبْدَأُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ وَيُخْتَمُ٦٨
أَطَعْتُ الْغَوَانِي قَبْلَ مَطْمَحِ نَاظِرِي إِلَى مَنْظَرٍ يَصْغُرْنَ عَنْهُ وَيَعْظُمُ٦٩
تَعَرَّضَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الدَّهْرَ كُلَّهُ يُطَبِّقُ فِي أَوْصَالِهِ وَيُصَمِّمُ٧٠
فَجَازَ لَهُ حَتَّى عَلَى الشَّمْسِ حُكْمُهُ وَبَانَ لَهُ حَتَّى عَلَى الْبَدْرِ مَيْسَمُ٧١
كَأَنَّ الْعِدَا في أَرْضِهِمْ خُلَفَاؤُهُ فَإنْ شَاءَ حَازُوهَا وَإنْ شَاءَ سَلَّمُوا٧٢
وَلَا كُتْبَ إلَّا الْمَشْرَفِيَّةُ عِنْدَهُ وَلَا رُسُلٌ إِلَّا الْخَمِيسُ الْعَرَمْرَمُ٧٣
فَلَمْ يَخْلُ مِنْ نَصْرٍ لَهُ مَنْ لَهُ يَدٌ وَلَمْ يَخْلُ مِنْ شُكْرٍ لَهُ مَنْ لَهُ فَمُ٧٤
وَلَمْ يَخْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ عُودُ مِنْبَرٍ وَلَمْ يَخْلُ دِينَارٌ وَلَمْ يَخْلُ دِرْهَمُ٧٥
ضَرُوبٌ وَمَا بَيْنَ الْحُسَامَيْنِ ضَيِّقٌ بَصِيرٌ وَمَا بَيْنَ الشُّجَاعَيْنِ مُظْلِمُ٧٦
تُبَارِي نُجُومَ الْقَذْفِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ نُجُومٌ لَهُ مِنْهُنَّ وَرْدٌ وَأدْهَمُ٧٧
يَطَأْنَ مِنَ الْأَبْطَالِ مَنْ لَا حَمَلْنَهُ وَمِنْ قِصَدِ الْمرَّانِ مَا لَا يُقَوَّمُ٧٨
فَهُنَّ مَعَ السِّيدَانِ فِي الْبَرِّ عُسَّلٌ وَهُنَّ مَعَ النِّينَانِ فِي الْمَاءِ عُوَّمُ٧٩
وَهُنَّ مَعَ الْغِزْلَانِ فِي الْوَادِ كُمَّنٌ وَهُنَّ مَعَ الْعِقْبَانِ فِي النِّيقِ حُوَّمُ٨٠
إِذَا جَلَبَ النَّاسُ الْوَشِيجَ فَإِنَّهُ بِهِنَّ وَفي لَبَّاتِهِنَّ يُحَطَّمُ٨١
بِغُرَّتِهِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ والْحِجَا وَبَذْلِ اللُّهَا وَالْحَمْدِ وَالْمَجْدِ مُعْلَمُ٨٢
يُقِرُّ لَهُ بِالْفَضْلِ مَنْ لَا يَوَدُّهُ وَيَقْضِي لَهُ بِالسَّعْدِ مَنْ لَا يُنَجِّمُ٨٣
أَجَارَ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى ظَنَنْتُهُ تُطَالِبُهُ بِالرَّدِّ عَادٌ وَجُرْهُمُ٨٤
ضَلَالًا لِهَذِي الرِّيحِ! مَاذَا تُرِيدُهُ؟ وَهَدْيًا لِهَذَا السَّيْلِ! مَاذَا يُؤَمِّمُ؟٨٥
أَلَمْ يَسْأَلِ الْوَبْلُ الَّذِي رَامَ ثَنْيَنَا فَيُخْبِرَهُ عَنْكَ الْحَدِيدُ الْمُثَلَّمُ٨٦
وَلَمَّا تَلَقَّاكَ السَّحَابُ بِصَوْبِهِ تَلَقَّاهُ أعْلَى مِنْهُ كَعْبًا وَأكْرَمُ٨٧
فَبَاشَرَ وَجْهًا طَالَمَا بَاشَرَ الْقَنَا وَبَلَّ ثِيَابًا طَالَمَا بَلَّهَا الدَّمُ٨٨
تَلَاكَ وَبَعْضُ الْغَيْثِ يَتْبَعُ بَعْضَهُ مِنَ الشَّأْمِ يَتْلُو الْحَاذِقَ الْمُتَعَلِّمُ٨٩
فَزَارَ الَّتِي زَارَتْ بِكَ الْخَيْلُ قَبْرَهَا وَجَشَّمَهُ الشَّوْقُ الَّذِي تَتَجَشَّمُ٩٠
وَلَمَّا عَرَضْتَ الْجَيْشَ كَانَ بَهَاؤُهُ عَلَى الْفَارِسِ الْمُرْخِي الذُّؤَابَةَ مِنْهُمُ٩١
حَوَالَيْهِ بَحْرٌ لِلتَّجَافِيفِ مَائِجٌ يَسِيرُ بِهِ طَرْدٌ مِنَ الْخَيْلِ أَيْهَمُ٩٢
تَسَاوَتْ بِهِ الْأَقْطَارُ حَتَّى كَأَنَّهُ يُجَمِّعُ أَشْتَاتَ الْجِبَالِ وَيَنْظِمُ٩٣
وَكُلُّ فَتًى لِلْحَرْبِ فَوْقَ جَبِينِهِ مِنَ الضَّرْبِ سَطْرٌ بِالْأَسِنَّةِ مُعْجَمُ٩٤
يَمُدُّ يَدَيْهِ فِي الْمُفَاضَةِ ضَيْغَمٌ وَعَيْنَيْهِ مِنْ تَحْتِ التِّرِيكَةِ أَرْقَمُ٩٥
كَأَجْنَاسِهَا رَايَاتُهَا وَشِعَارُهَا وَمَا لَبِسَتْهُ وَالسِّلَاحُ الْمُسَمَّمُ٩٦
وَأَدَّبَهَا طُولُ الْقِتَالِ فَطَرْفُهُ يُشِيرُ إلَيْهَا مِنْ بَعيدٍ فَتَفْهَمُ٩٧
تُجَاوِبُهُ فِعْلًا وَمَا تَعْرِفُ الْوَحَى وَيُسْمِعُها لَحْظًا وَمَا يَتَكَلَّمُ٩٨
تَجَانَفُ عَنْ ذَاتِ الْيَمِينِ كَأَنَّهَا تَرِقُّ لِمَيَّافَارِقِينَ وَتَرْحَمُ٩٩
وَلَوْ زَحَمَتْهَا بِالْمَنَاكِبِ زَحْمَةً دَرَتْ أَيُّ سُورَيْهَا الضَّعِيفُ الْمُهَدَّمُ؟١٠٠
عَلَى كُلِّ طَاوٍ تَحْتَ طَاوٍ كَأَنَّهُ مِنَ الدَّمِ يُسْقَى أَوْ مِنَ اللَّحْمِ يُطْعَمُ١٠١
لَهَا فِي الْوَغَى زِيُّ الْفَوَارِسِ فَوْقَهَا فكُلُّ حِصَانٍ دَارِعٌ مُتَلَثِّمُ١٠٢
وَمَا ذَاكَ بُخْلًا بِالنُّفُوسِ عَلَى الْقَنَا وَلَكِنَّ صَدْمَ الشَّرِّ بِالشَّرِّ أَحْزَمُ١٠٣
أتَحْسِبُ بِيضُ الْهِنْدِ أَصْلَكَ أَصلَهَا وَأنَّكَ مِنْهَا؟ سَاءَ مَا تَتَوَهَّمُ١٠٤
إِذَا نَحْنُ سَمَّيْنَاكَ خِلْنَا سُيُوفَنَا مِنَ التِّيهِ فِي أَغْمَادِهَا تَتَبَسَّمُ١٠٥
وَلَمْ نَرَ مَلْكًا قَطُّ يُدْعَى بِدُونِهِ فيَرْضَى وَلَكِنْ يَجْهَلُونَ وَتَحْلُمُ١٠٦
أَخَذْتَ عَلَى الْأَعْدَاءِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَحْرِمُ١٠٧
فَلَا مَوْتَ إلَّا مِنْ سِنَانِكَ يُتَّقَى وَلَا رِزْقَ إلَّا مِنْ يَمِينِكَ يُقْسَمُ١٠٨
وقال يعاتب سيف الدولة — وأنشدها في محفل من العرب — وكان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحُه شق عليه وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، وأكثر عليه مرة بعد مرة، فقال يعاتبه:
وَا حَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ وَمَنْ بِجِسْمِي وَحَالِي عِنْدَهُ سَقَمُ١٠٩
مَا لِي أُكَتِّمُ حُبًّا قَدْ بَرَى جَسَدِي وَتَدَّعِي حُبَّ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الْأُمَمُ١١٠
إِنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ فَلَيْتَ أَنَّا بِقَدْرِ الْحُبِّ نَقْتَسِمُ١١١
قَدْ زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الْهِنْدِ مُغْمَدَةٌ وَقَدْ نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسُّيُوفُ دَمُ١١٢
فَكَانَ أَحْسَنَ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ وَكَانَ أَحْسَنَ مَا فِي الْأَحْسَنِ الشِّيَمُ١١٣
فَوْتُ الْعَدُوِّ الَّذِي يَمَّمْتَهُ ظَفَرٌ فِي طَيِّهِ أَسَفٌ فِي طَيِّهِ نِعَمُ١١٤
قَدْ نَابَ عَنْكَ شَدِيدُ الْخَوْفِ وَاصْطَنَعَتْ لَكَ الْمَهَابَةُ مَا لَا تَصْنَعُ الْبُهَمُ١١٥
أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئًا لَيْسَ يَلْزَمُهَا أَنْ لَا يُوَارِيَهُمْ أَرْضٌ وَلَا عَلَمُ١١٦
أَكُلَّمَا رُمْتَ جَيْشًا فانْثَنَى هَرَبًا تَصَرَّفَتْ بِكَ فِي آثَارِهِ الْهِمَمُ؟!١١٧
عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ وَمَا عَلَيْكَ بِهِمْ عَارٌ إِذَا انْهَزَمُوا١١٨
أَمَا تَرَى ظَفَرًا حُلْوًا سِوَى ظَفَرٍ تَصَافَحَتْ فِيهِ بِيضُ الْهِنْدِ وَاللَّمَمُ١١٩
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ إلَّا فِي مُعَامَلَتِي فِيكَ الْخِصَامُ وَأَنْتَ الْخَصْمُ وَالْحَكَمُ١٢٠
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ صَادِقَةً أَنْ تَحْسِبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ١٢١
وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِنَاظِرِهِ إِذَا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الْأَنْوَارُ وَالظُّلَمُ١٢٢
أَنَا الَّذِي نَظَرَ الْأَعْمَى إِلَى أَدَبِي وَأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ١٢٣
أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا وَيَسْهَرُ الْخَلْقُ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ١٢٤
وَجَاهِلٍ مَدَّهُ فِي جَهْلِهِ ضَحِكِي حَتى أَتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسَةٌ وَفَمُ١٢٥
إِذَا نَظَرْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً فَلَا تَظُنُّنَّ أَنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ١٢٦
وَمُهْجَةٍ مُهْجَتِي مِنْ هَمِّ صَاحِبِهَا أَدْرَكْتُهَا بِجَوَادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ١٢٧
رِجْلَاهُ فِي الرَّكْضِ رِجْلٌ وَالْيَدَانِ يَدٌ وَفِعْلُهُ مَا تُرِيدُ الْكَفُّ وَالقَدَمُ١٢٨
وَمُرْهَفٍ سِرْتُ بَيْنَ الْجَحْفَلَيْنِ بِهِ حَتَّى ضَرَبْتُ وَمَوْجُ الْمَوْتِ يَلْتَطِمُ١٢٩
فَالْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْقِرْطَاسُ وَالْقَلَمُ١٣٠
صَحِبْتُ فِي الفَلَوَاتِ الْوَحْشَ مُنفَرِدًا حَتَّى تَعَجَّبَ مِنِّي الْقُورُ وَالْأَكَمُ١٣١
يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَكُمْ عَدَمُ١٣٢
مَا كَانَ أَخْلَقَنَا مِنْكُمْ بِتَكْرِمَةٍ لَوْ أَنَّ أَمْرَكُمُ مِنْ أَمْرِنَا أَمَمُ!١٣٣
إِنْ كَانَ سَرَّكُمُ مَا قَالَ حَاسِدُنَا فَمَا لِجُرْحٍ إِذَا أَرْضَاكُمُ أَلَمُ١٣٤
وَبَيْنَنَا — لَوْ رَعَيْتُمْ ذَاكَ — مَعْرِفَةٌ إِنَّ الْمَعَارِفَ فِي أَهْلِ النُّهَى ذِمَمُ١٣٥
كَمْ تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْبًا فيُعْجِزُكمْ! وَيَكْرَهُ اللهُ مَا تَأْتُونَ وَالكَرَمُ١٣٦
مَا أَبْعَدَ الْعَيْبَ وَالنُّقْصَانَ عَنْ شَرَفِي! أَنَا الثُّرَيَّا وَذَانِ الشَّيْبُ وَالْهَرَمُ١٣٧
لَيْتَ الْغَمَامَ الَّذِي عِنْدِي صَوَاعِقُهُ يُزيلُهُنَّ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ!١٣٨
أَرَى النَّوَى تَقتَضِيني كلَّ مَرْحَلَة لَا تَسْتَقِلُّ بِهَا الْوَخَّادَةُ الرُّسُمُ١٣٩
لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيْرًا عَنْ مَيامِنِنَا لَيَحْدُثَنَّ لِمَنْ وَدَّعْتُهُمْ نَدَمُ١٤٠
إذَا تَرَحَّلْتَ عَنْ قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا أَنْ لَا تُفارِقَهُمْ فالرَّاحِلُونَ هُمُ١٤١
شَرُّ الْبِلَادِ مَكَانٌ لَا صَدِيقَ بِهِ وَشَرُّ مَا يَكسِبُ الْإِنْسَانُ مَا يَصِمُ١٤٢
وَشَرُّ مَا قَنَصَتْهُ رَاحَتِي قَنَصٌ شُهْبُ البُزَاةِ سَوَاءٌ فِيهِ والرَّخَمُ١٤٣
بِأَيِّ لَفْظٍ تَقُولُ الشِّعْرَ زِعْنِفَةٌ تَجُوزُ عِنْدَكَ لَا عُرْبٌ وَلَا عَجَمُ؟١٤٤
هَذَا عِتَابُكَ إلَّا أَنَّهُ مِقَةٌ قَدْ ضُمِّنَ الدُّرَّ إلَّا أَنَّهُ كَلِمُ١٤٥
وقال وقد عوفي سيف الدولة مما كان به:
الْمَجْدُ عُوفِيَ إِذْ عُوفِيتَ وَالْكَرَمُ وَزَالَ عَنْكَ إِلَى أَعْدَائِكَ الْألَمُ١٤٦
صَحَّتْ بِصِحَّتِكَ الْغَارَاتُ وَابْتَهَجَتْ بِهَا الْمَكَارِمُ وَانْهَلَّتْ بِهَا الدِّيَمُ١٤٧
وَرَاجَعَ الشَّمْسَ نُورٌ كَانَ فَارَقَهَا كَأَنَّمَا فَقْدُهُ فِي جِسْمِهَا سَقَمُ١٤٨
وَلَاحَ بَرْقُكَ لِي مِنْ عَارِضَيْ مَلِكٍ مَا يَسْقُطُ الْغَيْثُ إِلَّا حَيْثُ يَبْتَسِمُ١٤٩
يُسْمَى الْحُسَامَ ولَيْسَتْ مِنْ مُشَابَهَةٍ وَكَيْفَ يَشْتَبِهُ الْمَخْدُومُ وَالْخَدَمُ؟١٥٠
تَفَرَّدَ الْعُرْبُ فِي الدُّنْيَا بِمَحْتِدِهِ وَشَارَكَ الْعُرْبَ فِي إِحْسَانِهِ الْعَجَمُ١٥١
وَأَخْلَصَ اللهُ لِلْإِسْلَامِ نُصْرَتَهُ وَإنْ تَقَلَّبَ فِي آلَائِهِ الْأُمَمُ١٥٢
وَمَا أَخُصُّكَ فِي بُرْءٍ بتَهْنِئَةٍ إِذَا سَلِمْتَ فكُلُّ النَّاسِ قَدْ سَلِمُوا١٥٣
وأنفذ شاعر إلى سيف الدولة أبياتًا فيها يشكو الفقر، ويذكر أنه رآها في المنام، فقال أبو الطيب:١٥٤
قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ فِي الْأَحْلَامِ وَأَنَلْنَاكَ بَدْرَةً فِي الْمَنَامِ١٥٥
وَانْتَبَهْنَا كَمَا انْتَبَهْتَ بِلَا شَيْ ءٍ وَكَانَ النَّوَالُ قَدْرَ الْكَلَامِ١٥٦
كُنْتَ فِيمَا كَتَبْتَهُ نَائِمَ الْعَيـْ ـنِ فَهَلْ كُنْتَ نَائِمَ الْأَقْلَامِ؟١٥٧
أَيُّهَا الْمُشْتَكِي إِذَا رَقَدَ الْإِعـْ ـدَامَ لَا رَقْدَةٌ مَعَ الْإِعْدَامِ١٥٨
افْتَحِ الْجَفْنَ وَاتْرُكِ الْقَوْلَ فِي النَّوْ مِ وَمَيِّزْ خِطَابَ سَيْفِ الْأَنَامِ١٥٩
الَّذِي لَيْسَ عَنْهُ مُغْنٍ وَلَا مِنـْ ـهُ بَدِيلٌ وَلَا لِمَا رَامَ حَامِي١٦٠
كُلُّ آبَائِهِ كِرَامُ بَنِي الدُّنـْ ـيَا وَلكنَّهُ كَرِيمُ الْكِرَامِ١٦١
وقال يمدحه ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة:١٦٢
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ١٦٣
وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ١٦٤
يُكَلِّفُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الْجَيْشَ هَمَّهُ وَقَدْ عَجَزَتْ عَنْهُ الْجُيُوشُ الْخَضَارِم١٦٥
وَيَطْلُبُ عِنْدَ النَّاسِ مَا عِنْدَ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مَا لَا تَدَّعِيهِ الضَّرَاغِمُ١٦٦
يُفدِّي أَتَمُّ الطَّيْرِ عُمْرًا سِلَاحَهُ نُسُورُ الْمَلَا أَحْدَاثُهَا وَالْقَشَاعِمُ١٦٧
وَمَا ضَرَّهَا خَلْقٌ بِغَيْرِ مَخَالِبٍ وَقَدْ خُلِقَتْ أَسْيَافُهُ وَالْقَوَائِمُ١٦٨
هَلِ الْحَدَثُ الْحَمْرَاءُ تَعْرِفُ لَوْنَهَا وَتَعْلَمُ أَيُّ السَّاقِيَيْنِ الْغَمَائِمُ؟١٦٩
سَقَتْهَا الْغَمَامُ الْغُرُّ قَبْلَ نُزُولِهِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا سَقَتْهَا الْجَمَاجِمُ١٧٠
بَنَاهَا فَأَعْلَى وَالْقَنَا تَقْرَعُ الْقَنَا وَمَوْجُ الْمَنَايَا حَوْلَهَا مُتَلَاطِمُ١٧١
وَكَانَ بِهَا مِثْلُ الْجُنُونِ فَأَصْبَحَتْ وَمِنْ جُثَثِ الْقَتْلَى عَلَيْهَا تَمَائِمُ١٧٢
طَرِيدَةُ دَهْرٍ سَاقَهَا فَرَدَدْتَهَا عَلَى الدِّينِ بِالْخَطِّيِّ وَالدَّهْرُ رَاغِمُ١٧٣
تُفِيتُ اللَّيَالِي كُلَّ شَيْءٍ أخَذْتَهُ وَهُنَّ لِمَا يَأْخُذْنَ مِنْكَ غَوَارِمُ١٧٤
إِذَا كَانَ مَا تَنْوِيهِ فِعْلًا مُضَارِعًا مَضَى قَبْلَ أَنْ تُلْقَى عَلَيْهِ الْجَوَازِمُ١٧٥
وَكَيْفَ تُرَجِّي الرُّومُ وَالرُّوسُ هَدْمَهَا وَذَا الطَّعْنُ آسَاسٌ لَهَا وَدَعَائِمُ؟!١٧٦
وَقَدْ حَاكَمُوهَا وَالْمَنَايَا حَوَاكِمٌ فَمَا مَاتَ مَظْلُومٌ وَلَا عَاشَ ظَالِمُ١٧٧
أَتَوْكَ يَجُرُّونَ الْحَدِيدَ كَأنَّهُمْ سَرَوْا بِجِيَادٍ مَا لَهُنَّ قَوَائِمُ١٧٨
إِذَا بَرَقُوا لَمْ تُعْرَفِ الْبِيضُ مِنْهُمُ ثِيَابُهُمُ مِنْ مِثْلِها وَالْعَمَائِمُ١٧٩
خَمِيسٌ بِشَرْقِ الْأَرْضِ وَالْغَرْبِ زَحْفُهُ وَفِي أُذُنِ الْجَوْزَاءِ مِنْهُ زَمَازِمُ١٨٠
تَجَمَّعَ فِيهِ كُلُّ لِسْنٍ وَأُمَّةٍ فَمَا تُفْهِمُ الْحُدَّاثَ إلَّا التَّرَاجِمُ١٨١
فَلِلَّهِ وَقْتٌ ذَوَّبَ الْغِشَّ نَارُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا صَارِمٌ أَوْ ضُبَارِمُ١٨٢
تَقَطَّعَ مَا لَا يَقْطَعُ الدِّرْعَ وَالْقَنَا وَفَرَّ مِنَ الْأَبْطَالِ مَنْ لَا يُصَادِمُ١٨٣
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ١٨٤
تَمُرُّ بِكَ الْأبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ١٨٥
تَجَاوَزْتَ مِقْدَارَ الشَّجَاعَةِ وَالنُّهَى إِلَى قَوْلِ قَوْمٍ: أَنْتَ بِالْغَيْبِ عَالِمُ١٨٦
ضَمَمْتَ جَنَاحَيْهِمْ عَلَى الْقَلْبِ ضَمَّةً تَمُوتُ الْخَوَافِي تَحْتَهَا وَالْقَوَادِمُ١٨٧
بِضَرْبٍ أَتَى الْهَامَاتِ وَالنَّصْرُ غَائِبٌ وَصَارَ إِلَى اللَّبَاتِ وَالنَّصْرُ قَادِمُ١٨٨
حَقَرْتَ الرُّدَيْنِيَّاتِ حَتَّى طَرَحْتَهَا وَحَتَّى كَأنَّ السَّيْفَ لِلرُّمْحِ شَاتِمُ١٨٩
وَمَنْ طَلَبَ الْفَتْحَ الْجَلِيلَ فَإِنَّمَا مَفَاتِيحُهُ الْبِيضُ الْخِفَافُ الصَّوَارِمُ١٩٠
نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الْأُحَيْدِبِ كُلِّهِ كَمَا نُثِرَتْ فَوْقَ الْعَرُوسِ الدَّرَاهِمُ١٩١
تَدُوسُ بِكَ الْخَيلُ الْوُكُورَ عَلَى الذُّرَا وَقَدْ كَثُرَتْ حَوْلَ الْوُكُورِ الْمَطَاعِمُ١٩٢
تَظُنُّ فِرَاخُ الْفُتْخِ أنَّكَ زُرْتَهَا بِأُمَّاتِهَا وَهْيَ الْعِتَاقُ الصَّلَادِمُ١٩٣
إِذَا زَلِفَتْ مَشَّيْتَهَا بِبُطُونِهَا كَمَا تَتَمَشَّى فِي الصَّعِيدِ الْأَرَاقِمُ١٩٤
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ ذَا الدُّمُسْتُقُ مُقْدِمٌ قَفَاهُ عَلَى الْإقْدَامِ لِلْوَجْهِ لَائِمُ١٩٥
أَيُنْكِرُ رِيحَ اللَّيْثِ حَتَّى يَذُوقَهُ وَقَدْ عَرَفَتْ رِيْحَ اللُّيُوثِ الْبَهَائِمُ؟!١٩٦
وَقَدْ فَجَعَتْهُ بِابْنِهِ وَابْنِ صِهْرِهِ وَبِالصِّهْرِ حَمْلَاتُ الْأَمِيرِ الْغَوَاشِمُ١٩٧
مَضَى يَشْكُرُ الْأَصْحَابَ فِي فَوْتِهِ الظُّبَا بِما شَغَلَتْهَا هَامُهُمْ وَالْمَعَاصِمُ١٩٨
وَيَفْهَمُ صَوْتَ الْمَشْرَفِيَّةِ فِيهِمِ عَلَى أَنَّ أَصْوَاتَ السُّيُوفِ أَعَاجِمُ١٩٩
يُسَرُّ بِمَا أَعْطَاكَ لَا عَنْ جَهَالَةٍ وَلكِنَّ مَغْنُومًا نَجَا مِنْكَ غَانِمُ٢٠٠
وَلَسْتَ مَلِيكًا هَازِمًا لِنَظِيرِهِ وَلَكِنَّكَ التَّوْحِيدُ لِلشِّرْكِ هَازِمُ٢٠١
تَشَرَّفُ عَدْنَانٌ بِهِ لَا رَبِيعَةٌ وَتَفْتَخِرُ الدُّنْيَا بِهِ لَا الْعَوَاصِمُ٢٠٢
لَكَ الْحَمْدُ فِي الدُّرِّ الَّذِي لِيَ لَفْظُهُ فَإِنَّكَ مُعْطِيهِ وَإنِّيَ نَاظِمُ٢٠٣
وَإِنِّي لَتَعْدُو بِي عَطَايَاكَ فِي الْوَغَى فَلَا أَنَا مَذْمُومٌ وَلَا أَنْتَ نَادِمُ٢٠٤
عَلَى كُلِّ طَيَّارٍ إِلَيْهَا بِرِجْلِهِ إِذَا وَقَعَتْ فِي مِسْمَعَيْهِ الْغَمَاغِمُ٢٠٥
أَلَا أَيُّهَا السَّيْفُ الَّذِي لَيْسَ مُغْمَدًا وَلَا فِيهِ مُرْتَابٌ وَلَا مِنْهُ عَاصِمُ٢٠٦
هَنِيئًا لِضَرْبِ الْهَامِ وَالْمَجْدِ وَالْعُلَا وَرَاجِيكَ وَالْإِسْلَامِ أَنَّكَ سَالِمُ٢٠٧
وَلِمْ لَا يَقِي الرَّحْمَنُ حَدَّيْكَ مَا وَقَى وَتَفْلِيقُهُ هَامَ الْعِدَا بِكَ دَائِمُ؟!٢٠٨
وقال: وقد ورد فرسان الثغور ومعهم رسول ملك الروم يطلب الهدنة، وأنشده إياها بحضرتهم وقت دخولهم لثلاث عشرة بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة:
أَرَاعَ كَذَا كُلَّ المُلُوكِ هُمَامُ وَسَحَّ لَهُ رُسْلَ المُلُوكِ غَمَامُ؟!٢٠٩
وَدَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا فَأَصْبَحَ جَالِسًا وَأيَّامُهَا فِيمَا يُرِيدُ قِيَامُ؟!٢١٠
إِذَا زَارَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الرُّومَ غَازِيًا كَفَاهَا لِمَامٌ لَوْ كَفَاهُ لِمَامُ٢١١
فَتًى تَتْبَعُ الْأَزْمَانُ فِي النَّاسِ خَطْوَهُ لكُلِّ زَمَانٍ فِي يَدَيْهِ زِمَامُ٢١٢
تَنَامُ لَدَيْكَ الرُّسْلُ أَمْنًا وَغِبْطَةً وَأَجْفَانُ رَبِّ الرُّسْلِ لَيْسَ تَنَامُ٢١٣
حِذَارًا لِمُعْرَوِرِي الْجِيَادِ فُجَاءَةً إِلَى الطَّعْنِ قُبْلًا مَا لَهُنَّ لِجَامُ٢١٤
تُعَطَّفُ فِيهِ وَالْأَعِنَّةُ شَعْرُهَا وَتُضْرَبُ فِيهِ وَالسِّيَاطُ كَلَامُ٢١٥
وَمَا تَنْفَعُ الْخَيْلُ الْكِرَامُ وَلَا الْقَنَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَ الْكِرَامِ كِرَامُ٢١٦
إِلَى كَمْ تَرُدُّ الرُّسْلَ عَمَّا أَتَوْا لَهُ كَأنَّهُمُ فِيمَا وَهَبْتَ مَلَامُ؟!٢١٧
وَإنْ كُنْتَ لَا تُعْطِي الذِّمَامَ طَوَاعَةً فَعَوْذُ الْأَعَادِي بِالْكَرِيمِ ذِمَامُ٢١٨
وَإِنَّ نُفُوسًا أَمَّمَتْكَ مَنِيعَةٌ وَإنَّ دِمَاءً أَمَّلَتْكَ حَرَامُ٢١٩
إذا خَافَ مَلْكٌ مِنْ مَلِيكٍ أَجَرْتَهُ وَسَيْفَكَ خَافُوا وَالْجِوَارَ تُسَامُ٢٢٠
لَهُمْ عَنْكَ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ تَفَرُّقٌ وَحَوْلَكَ بِالْكُتْبِ اللِّطَافِ زِحَامُ٢٢١
تَغُرُّ حَلَاوَاتُ النُّفُوسِ قُلُوبَهَا فَتَخْتَارُ بَعْضَ الْعَيْشِ وَهْوَ حِمَامُ٢٢٢
وَشَرُّ الْحِمَامَيْنِ الزُّؤَامَيْنِ عِيشَةٌ يَذِلُّ الَّذِي يَخْتَارُهَا وَيُضَامُ٢٢٣
فَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَمْ يَكُنْ بِشَفَاعَةٍ وَلَكِنَّهُ ذُلٌّ لَهُمْ وَغَرَامُ٢٢٤
وَمَنٌّ لِفُرْسَانِ الثُّغُورِ عَلَيْهِمِ بِتَبْلِيغِهِمْ مَا لَا يَكَادُ يُرَامُ٢٢٥
كَتَائِبُ جَاءُوا خَاضِعِينَ فَأَقْدَمُوا وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا خَاضِعِينَ لَخَامُوا٢٢٦
وَعَزَّتْ قَدِيمًا في ذَرَاكَ خُيُولُهُمْ وَعَزُّوا وَعَامَتْ فِي نَدَاكَ وَعَامُوا٢٢٧
عَلَى وَجْهِكَ الْمَيْمُونِ فِي كُلِّ غَارَةٍ صَلَاةٌ تَوَالَى مِنْهُمُ وَسَلَامُ٢٢٨
وَكُلُّ أُنَاسٍ يَتْبَعُونَ إِمَامَهُمْ وَأَنْتَ لِأَهْلِ الْمَكْرُمَاتِ إِمَامُ٢٢٩
وَرُبَّ جَوَابٍ عَنْ كِتَابٍ بَعَثْتَهُ وَعُنْوَانُهُ لِلنَّاظِرِينَ قَتَامُ٢٣٠
تَضِيقُ بِهِ الْبَيْدَاءُ مِنْ قَبْلِ نَشْرِهِ وَمَا فُضَّ بِالْبَيْدَاءِ عَنهُ خِتَامُ٢٣١
حُرُوفُ هِجَاءِ النَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةٌ جَوَادٌ وَرُمْحٌ ذَابِلٌ وَحُسَامُ٢٣٢
أَذَا الْحَرْبِ قَدْ أتْعَبْتَهَا فَالْهُ سَاعَةً لِيُغْمَدَ نَصْلٌ أوْ يُحَلَّ حِزَامُ٢٣٣
وَإِنْ طَالَ أَعْمَارُ الرِّمَاحِ بِهُدْنَةٍ فَإِنَّ الَّذِي يَعْمَرْنَ عِنْدَكَ عَامُ٢٣٤
وَمَا زِلْتَ تُفْنِي السُّمْرَ وَهْيَ كَثِيرَةٌ وَتُفْنِي بِهِنَّ الْجَيْشَ وَهْوَ لُهَامُ٢٣٥
مَتَى عَاوَدَ الْجَالُونَ عَاوَدْتَ أَرْضَهُمْ وَفِيهَا رِقَابٌ لِلسُّيُوفِ وَهَامُ٢٣٦
وَرَبَّوْا لَكَ الْأوْلَادَ حَتَّى تُصِيبَهَا وَقَدْ كَعَبَتْ بِنْتٌ وَشَبَّ غُلَامُ٢٣٧
جَرَى مَعَكَ الْجَارُونَ حَتَّى إذا انْتَهَوْا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى جَرَيْتَ وَقَامُوا٢٣٨
فَلَيْسَ لِشَمْسٍ مُذْ أَنَرْتَ إنَارَةٌ وَلَيْسَ لِبَدْرٍ مُذْ تَمَمْتَ تَمَامُ٢٣٩
وقال يمدحه ويودعه، وقد خرج إلى إقطاع قطعه إياه بناحية معرة النعمان:
أَيَا رَامِيًا يُصْمِي فُؤَادَ مَرَامِهِ تُرَبِّي عِدَاهُ رِيشَهَا لِسِهَامِهِ٢٤٠
أَسِيرُ إِلَى إِقْطَاعِهِ فِي ثِيَابِهِ عَلَى طِرْفِهِ، مِنْ دَارِهِ، بِحُسَامِهِ٢٤١
وَمَا مَطَرَتْنِيهِ مِنَ الْبِيضِ وَالْقَنَا وَرُومِ الْعِبِدَّى هَاطِلَاتُ غَمَامِهِ٢٤٢
فَتًى يَهَبُ الْإِقْلِيمَ بِالمَالِ وَالْقُرَى وَمَنْ فِيهِ مِنْ فُرْسَانِهِ وَكِرَامِهِ٢٤٣
وَيَجْعَلُ مَا خُوِّلْتُهُ مِنْ نَوَالهِ جَزَاءً لِمَا خُوِّلْتُهُ مِنْ كَلامِهِ٢٤٤
فَلَا زَالَتِ الشَّمْسُ الَّتِي فِي سَمَائِهِ مُطَالِعَةَ الشَّمْسِ الَّتِي فِي لِثَامِهِ٢٤٥
وَلَا زَالَ تَجْتَازُ الْبُدُورُ بِوَجْهِهِ تَعَجَّبُ مِنْ نُقْصَانِهَا وَتَمَامِهِ٢٤٦
وأنشد سيفُ الدولة متمثلًا بقول النابغة:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ٢٤٧
فقال أبو الطيب مرتجلًا:
رَأَيْتُكَ تُوسِعُ الشُّعَرَاءَ نَيْلًا حَدِيثَهُمُ المُوَلَّدَ وَالْقَدِيمَا٢٤٨
فَتُعْطِي مَنْ بَقَى مَالًا جَسِيمًا وَتُعْطِي مَنْ مَضَى شَرَفًا عَظِيمَا٢٤٩
سَمِعْتُكَ مُنْشِدًا بَيْتَيْ زِيَادٍ نَشِيدًا مِثْلَ مُنْشِدِهِ كَرِيمَا٢٥٠
فَمَا أَنْكَرْتُ مَوْضِعَهُ وَلَكِنْ غَبَطْتُ بِذَاكَ أَعْظُمَهُ الرَّمِيمَا٢٥١
وقال يمدحه، ويذكر إيقاعه بعمرو بن حابس وبني ضبة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ولم ينشده إياها:
ذِكَرُ الصِّبَا وَمَرَاتِعِ الْآرَامِ جَلَبَتْ حِمَامِي قَبْلَ وَقْتِ حِمَامِي٢٥٢
دِمَنٌ تَكَاثَرَتِ الْهُمُومُ عَليَّ فِي عَرَصَاتِها كَتَكَاثُرِ اللُّوَّامِ٢٥٣
فَكَأنَّ كُلَّ سَحَابَةٍ وَكَفَتْ بِهَا تَبْكِي بِعَيْنِيْ عُرْوَةَ بْنِ حِزَامِ٢٥٤
وَلَطَالَمَا أَفْنَيْتُ رِيقَ كَعَابِهَا فِيهَا وَأَفْنَتْ بِالْعِتَابِ كَلَامِي٢٥٥
قَدْ كُنْتَ تَهْزَأُ بالْفِرَاقِ مَجَانَةً وَتَجُرُّ ذَيْلَيْ شِرَّةٍ وَعُرَامِ٢٥٦
لَيْسَ الْقِبَابُ عَلَى الرِّكَابِ وَإِنَّمَا هُنَّ الْحَيَاةُ تَرَحَّلَتْ بِسَلَامِ٢٥٧
لَيْتَ الَّذِي خَلَقَ النَّوَى جَعَلَ الْحَصَى لِخِفَافِهِنَّ مَفَاصِلِي وَعِظَامِي!٢٥٨
مُتَلَاحِظَيْنِ نَسُحُّ مَاءَ شُئُونِنَا حَذَرًا مِنَ الرُّقَبَاءِ فِي الْأَكْمَامِ٢٥٩
أَرْوَاحُنَا انْهَمَلَتْ وَعِشْنَا بَعْدَهَا مِنْ بَعْدِ مَا قَطَرَتْ عَلَى الْأَقْدَامِ٢٦٠
لَوْ كُنَّ يَوْمَ جَرَيْنَ كُنَّ كَصَبْرِنَا عِنْدَ الرَّحِيلِ لَكُنَّ غَيْرَ سِجَامِ٢٦١
لَمْ يَتْرُكُوا لِي صَاحِبًا إلَّا الْأَسَى وَذَمِيلَ دِعْبِلَةٍ كَفَحْلِ نَعَامِ٢٦٢
وَتَعَذُّرُ الْأَحْرَارِ صَيَّرَ ظَهْرَهَا إلَّا إلَيْكَ عَلَيَّ فَرْجَ حَرَامِ٢٦٣
أَنْتَ الْغَرِيبَةُ فِي زَمَانٍ أَهْلُهُ وُلِدَتْ مَكَارِمُهُمْ لِغَيْرِ تَمَامِ٢٦٤
أَكْثَرْتَ مِنْ بَذْلِ النَّوَالِ وَلَمْ تَزَلْ عَلَمًا عَلَى الْإِفْضَالِ وَالْإِنْعَامِ٢٦٥
صَغَّرْتَ كُلَّ كَبِيرَةٍ وَكَبُرَتْ عَنْ لَكَأنَّهُ وَعَدَدْتَ سِنَّ غُلَامِ٢٦٦
وَرَفَلْتَ فِي حُلَلِ الثَّنَاءِ وَإِنمَا عَدَمُ الثَّنَاءِ نِهَايَةُ الْإِعْدَامِ٢٦٧
عَيْبٌ عَلَيْكَ تُرَى بِسَيْفٍ فِي الْوَغَى مَا يَصْنَعُ الصَّمْصَامُ بالصَّمْصَامِ٢٦٨
إِنْ كَانَ مِثْلُكَ كَانَ أوْ هُوَ كَائِنٌ فَبَرِئْتُ حِينَئِذٍ مِنَ الْإسْلَامِ٢٦٩
مَلِكٌ زُهَتْ بِمَكَانِهِ أَيَّامُهُ حَتَّى افْتَخَرْنَ بِهِ عَلَى الْأَيَّامِ٢٧٠
وَتَخَالُهُ سَلَبَ الْوَرَى أَحْلَامَهُم مِنْ حِلْمِهِ فَهُمُ بِلَا أَحْلَامِ٢٧١
وَإذَا امْتَحَنْتَ تَكَشَّفَتْ عَزَمَاتُهُ عَنْ أَوْحَدِيِّ النَّقْضِ وَالْإِبْرَامِ٢٧٢
وَإِذَا سَأَلْتَ بَنَانَهُ عَنْ نَيْلِهِ لَمْ يَرْضَ بِالدُّنْيَا قَضَاءَ ذِمَامِ٢٧٣
مَهْلًا ألَا لِلَّهِ مَا صَنَعَ الْقَنَا فِي عَمْرِو حَابِ وَضَبَّةَ الْأَغْتَامِ!٢٧٤
لَمَّا تَحَكَّمَتِ الْأَسِنَّةُ فِيهِمِ جَارَتْ وَهُنَّ يَجُرْنَ فِي الْأَحْكَامِ٢٧٥
فَتَرَكْتَهُمْ خَلَلَ الْبُيُوتِ كَأَنَّمَا غَضِبَتْ رُءوسُهُمُو عَلَى الْأَجْسَامِ٢٧٦
أَحْجَارُ نَاسٍ فَوْقَ أَرْضٍ مِنْ دَمٍ وَنُجُومُ بَيْضٍ فِي سَمَاءِ قَتَامِ٢٧٧
وَذِرَاعُ كُلِّ أَبِي فُلَانٍ كُنْيَةً حَالَتْ فَصَاحِبُهَا أَبُو الْأَيْتَامِ٢٧٨
عَهْدِي بِمَعْرَكَةِ الْأَمِيرِ وَخَيْلُهُ فِي النَّقْعِ مُحْجِمَةٌ عَنِ الْإِحْجَامِ٢٧٩
يَا سَيْفَ دَوْلَةِ هَاشِمٍ مَنْ رَامَ أَنْ يَلْقَى مَنَالَكَ رَامَ غَيْرَ مَرَامِ٢٨٠
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّعٍ وَسَقَى ثَرَى أبَوَيْكَ صَوْبَ غَمَامِ٢٨١
وَكَسَاكَ ثَوْبَ مَهَابَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَأرَاكَ وَجْهَ شَقِيقِكَ الْقَمْقَامِ٢٨٢
فَلَقَدْ رَمَى بَلَدَ العَدُوِّ بِنَفْسِهِ فِي رَوْقِ أَرْعَنَ كَالْغِطَمِّ لُهَامِ٢٨٣
قَوْمٌ تَفَرَّسَتِ الْمَنَايَا فِيكُمُ فَرَأتْ لَكُمْ فِي الْحَرْبِ صَبْرَ كِرَامِ٢٨٤
تَاللهِ مَا عَلِمَ امْرُؤٌ لَوْلَاكُمُ كَيْفَ السَّخَاءُ وَكَيْفَ ضَرْبُ الْهَامِ٢٨٥
وقال، وقد تُحدِّث بحضرة سيف الدولة أن البطريق أقسم عند ملكه أنه يعارض سيف الدولة في الدرب، وسأله أن ينجده ببطارقته وعدده وعُدده، ففعل، فخاب ظنه. أنشده إياها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وهي آخر ما أنشده بحلب:
عُقْبَى الْيَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ مَاذَا يَزِيدُكَ فِي إقْدَامِكَ الْقَسَمُ؟٢٨٦
وَفي الْيَمِينِ عَلَى مَا أَنْتَ وَاعِدُهُ مَا دَلَّ أنَّكَ في المِيعَادِ مُتَّهَمُ٢٨٧
آلَى الْفَتَى ابْنُ شُمُشْقِيقٍ فَأَحْنَثَهُ فَتًى مِنَ الضَّرْبِ تُنْسَى عِنْدَهُ الْكَلِمُ٢٨٨
وَفَاعِلٌ مَا اشْتَهَى يُغْنِيهِ عَنْ حَلِفٍ عَلَى الْفِعَالِ حُضُورُ الْفِعْلِ وَالْكَرَمُ٢٨٩
كلُّ السُّيُوفِ إذا طَالَ الضِّرَابُ بِهَا يَمَسُّهَا غَيْرَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ السَّأَمُ٢٩٠
لَوْ كَلَّتِ الْخَيْلُ حَتَّى لا تَحَمَّلُهُ تَحَمَّلَتْهُ إلى أَعْدَائِهِ الهِمَمُ٢٩١
أَيْنَ الْبَطَارِيقُ وَالْحَلْفُ الَّذِي حَلَفُوا بِمَفْرَقِ الْمَلْكِ وَالزَّعْمُ الَّذِي زَعَمُوا؟٢٩٢
وَلَّى صَوَارِمَهُ إِكْذَابَ قَوْلِهِمِ فَهُنَّ أَلْسِنَةٌ أَفْوَاهُهَا الْقِمَمُ٢٩٣
نَوَاطِقٌ مُخْبِرَاتٌ فِي جَمَاجِمِهِمْ عَنْهُ بِمَا جَهِلُوا مِنْهُ وَمَا عَلِمُوا٢٩٤
الرَّاجِعُ الْخَيْلَ مُحْفَاةً مُقَوَّدَةً مِنْ كُلِّ مِثْلِ وَبَارٍ أَهْلُهَا إِرَمُ٢٩٥
كَتَلِّ بِطْرِيقٍ المَغْرُورِ سَاكِنُهَا بِأَنَّ دَارَكَ قِنَّسْرِينُ وَالْأَجَمُ٢٩٦
وَظَنِّهِمْ أَنَّكَ المِصْبَاحُ في حَلَبٍ إِذَا قَصَدْتَ سِوَاهَا عَادَهَا الظُّلَمُ٢٩٧
وَالشَّمْسَ يَعْنُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ جَهِلُوا وَالْمَوْتَ يَدْعُونَ إِلَّا أَنَّهُمْ وَهَمُوا٢٩٨
فَلَمْ تُتِمَّ سَرُوجٌ فَتْحَ نَاظِرِهَا إِلَّا وَجَيْشُكَ فِي جَفْنَيْهِ مُزْدَحِمُ٢٩٩
وَالنَّقْعُ يَأْخُذُ حَرَّانًا وَبَقْعَتَهَا وَالشَّمْسُ تَسْفِرُ أَحْيَانًا وَتَلْتَثِمُ٣٠٠
سُحْبٌ تَمُرُّ بِحِصْنِ الرَّانِ مُمْسِكَةً وَمَا بِهَا الْبُخْلُ لَوْلَا أَنَّهَا نِقَمُ٣٠١
جَيْشٌ كَأَنَّكَ فِي أَرْضٍ تُطَاوِلُهُ فَالْأَرْضُ لَا أَمَمٌ وَالْجَيْشُ لَا أَمَمُ٣٠٢
إِذَا مَضَى عَلَمٌ مِنْهَا بَدَا عَلَمٌ وَإنْ مَضَى عَلَمٌ مِنْهُ بَدَا عَلَمُ٣٠٣
وَشُزَّبٌ أَحْمَتِ الشِّعْرَى شَكَائِمَهَا وَوَسَّمَتْهَا عَلَى آنَافِهَا الْحَكَمُ٣٠٤
حَتَّى وَرَدْنَ بِسِمْنَيْنٍ بُحَيْرَتُهَا تَنِشُّ بِالْمَاءِ فِي أَشْدَاقِهَا اللُّجُمُ٣٠٥
وَأَصْبَحَتْ بِقُرَى هِنْزِيطَ جَائِلَةً تَرْعَى الظُّبَا فِي خَصِيبٍ نَبْتُهُ اللِّمَمُ٣٠٦
فَمَا تَرَكْنَ بِهَا خُلْدًا لَهُ بَصَرٌ تَحْتَ التُّرَابِ وَلَا بَازًا لَهُ قَدَمُ٣٠٧
وَلَا هِزَبْرًا لَهُ مِنْ دِرْعِهِ لِبَدٌ وَلَا مَهَاةً لَهَا مِنْ شِبْهِهَا حَشَمُ٣٠٨
تَرْمِي عَلَى شَفَرَاتِ الْبَاتِرَاتِ بِهِمْ مَكَامِنُ الْأَرْضِ وَالْغِيطَانُ وَالْأَكَمُ٣٠٩
وَجَاوَزُوا أَرْسَنَاسًا مُعْصِمِينَ بهِ وَكَيْفَ يَعْصِمُهُمْ مَا لَيْسَ يَنْعَصِمُ؟!٣١٠
وَمَا يَصُدُّكَ عَنْ بَحْرٍ لَهُمْ سَعَةٌ وَمَا يَرُدُّكَ عَنْ طَوْدٍ لَهُمْ شَمَمُ٣١١
ضَرَبْتَهُ بِصُدُورِ الْخَيْلِ حَامِلَةً قَوْمًا إذا تَلِفُوا قُدْمًا فَقَدْ سَلِمُوا٣١٢
تَجَفَّلُ المَوْجُ عَنْ لَبَّاتِ خَيْلِهِمِ كمَا تَجَفَّلُ تَحْتَ الْغَارَةِ النَّعَمُ٣١٣
عَبَرْتَ تَقْدُمُهُمْ فِيهِ وَفِي بَلَدٍ سُكَّانُهُ رِمَمٌ مَسْكُونُهَا حُمَمُ٣١٤
وَفِي أَكُفِّهِمِ النَّارُ التي عُبِدَتْ قَبْلَ الْمَجُوسِ إلَى ذَا الْيَوْمِ تَضْطَرِمُ٣١٥
هِنْدِيَّةٌ إنْ تُصَغِّرْ مَعْشَرًا صَغُرُوا بِحَدِّهَا أوْ تُعَظِّمْ مَعْشَرًا عَظَمُوا٣١٦
قَاسَمْتَهَا تَلَّ بِطْرِيقٍ فَكَانَ لَهَا أَبْطَالُهَا وَلَكَ الْأَطْفَالُ وَالْحُرَمُ٣١٧
تَلْقَى بِهِمْ زَبَدَ التَّيَّارِ مُقْرَبَةٌ عَلَى جَحَافِلِهَا مِنْ نَضْحِهِ رَثَمُ٣١٨
دُهْمٌ فَوَارِسُهَا رُكَّابُ أَبْطُنِهَا مَكْدُودَةٌ بِقَوْمٍ لَا بِهَا الْأَلَمُ٣١٩
مِنَ الْجِيَادِ الَّتِي كِدْتَ الْعَدُوَّ بهَا وَمَا لَهَا خِلَقٌ منْهَا وَلَا شِيَمُ٣٢٠
نِتَاجُ رَأْيِكَ في وَقْتٍ عَلَى عَجَلٍ كَلَفْظِ حَرْفٍ وَعَاهُ سامعٌ فَهِمُ٣٢١
وَقَدْ تَمَنَّوْا غَدَاةَ الدَّرْبِ فِي لَجَبٍ أَنْ يُبْصِرُوكَ فَلَمَّا أَبْصَرُوكَ عَمُوا٣٢٢
صَدَمْتَهُمْ بِخَمِيسٍ أَنْتَ غُرَّتُهُ وَسَمْهَرِيَّتُه في وَجْهه غَمَمُ٣٢٣
فَكَانَ أَثْبَتَ مَا فِيهِمْ جُسُومُهُمُ يَسْقُطْنَ حَوْلَكَ وَالْأَرْوَاحُ تَنْهَزِمُ٣٢٤
وَالْأَعْوَجِيَّةُ مِلْءَ الطُّرْقِ خَلفَهُمْ وَالْمَشْرَفِيَّةُ مِلْءَ الْيَوْمِ فَوْقَهُمْ٣٢٥
إِذَا تَوَافَقَتِ الضَّرْبَاتُ صَاعِدَةً تَوَافَقَتْ قُلَلٌ فِي الْجَوِّ تَصْطَدِمُ٣٢٦
وَأسْلَمَ ابْنُ شُمُشْقِيقٍ أَلِيَّتَهُ أَلَّا انْثَنَى فَهْوَ يَنْأَى وَهْيَ تَبْتَسِمُ٣٢٧
لَا يَأْمُلُ النَّفَسَ الْأَقْصَى لِمُهْجَتِهِ فَيَسْرِقُ النَّفَسَ الْأَدْنَى وَيَغْتَنِمُ٣٢٨
تَرُدُّ عَنْهُ قَنَا الْفُرْسَانِ سَابِغَةٌ صَوْبُ الْأَسِنَّةِ فِي أَثْنَائِهَا دِيَمُ٣٢٩
تَخُطُّ فِيهَا الْعَوَالِي لَيْسَ تَنْفُذُهَا كَأَنَّ كُلَّ سِنَانٍ فَوْقَهَا قَلَمُ٣٣٠
فَلَا سَقَى الْغَيْثُ مَا وَارَاهُ مِنْ شَجَرٍ لَوْ زَلَّ عَنْهُ لَوَارَتْ شَخْصَهُ الرَّخَمُ٣٣١
أَلْهَى الْمَمَالِكَ عَنْ فَخْرٍ قَفَلْتَ بِهِ شُرْبُ الْمُدَامَةِ وَالْأَوْتَارُ وَالنَّغَمُ٣٣٢
مُقَلَّدًا فَوْقَ شُكْرِ اللهِ ذَا شُطَبٍ لا تُسْتَدَامُ بِأَمْضَى مِنْهُمَا النِّعَمُ٣٣٣
أَلْقَتْ إِلَيْكَ دِمَاءُ الرُّومِ طَاعَتَهَا فَلَوْ دَعَوْتَ بِلَا ضَرْبٍ أَجَابَ دَمُ٣٣٤
يُسَابِقُ القَتْلُ فِيهِمْ كُلَّ حَادِثَةٍ فَمَا يُصِيبُهُمُ مَوْتٌ وَلَا هَرَمُ٣٣٥
نَفَتْ رُقَادَ عَلِيٍّ عَنْ مَحَاجِرِهِ نَفْسٌ يُفَرِّجُ نَفْسًا غَيْرَهَا الْحُلُمُ٣٣٦
الْقَائِمُ الْمَلِكُ الْهَادِي الَّذِي شَهِدَتْ قِيَامَهُ وَهُدَاهُ الْعُرْبُ وَالْعَجَمُ٣٣٧
ابْنُ الْمُعَفِّرِ فِي نَجْدٍ فَوَارِسَهَا بِسَيْفِهِ وَلَهُ كُوفَانُ وَالْحَرَمُ٣٣٨
لَا تَطْلُبَنَّ كَرِيمًا بَعْدَ رُؤيَتِهِ إنَّ الْكِرَامَ بِأَسْخَاهُمْ يَدًا خُتِمُوا٣٣٩
وَلَا تُبَالِ بِشِعْرٍ بَعْدَ شَاعِرِهِ قَدْ أُفْسِدَ الْقَوْلُ حَتَّى أُحْمِدَ الصَّمَمُ٣٤٠
وقال يمدح إنسانًا، وأراد أن يستكشفه عن مذهبه، وهي من قوله في صباه:
كُفِّي أَرَانِي وَيْكِ لَوْمَكِ أَلْوَمَا هَمٌّ أَقَامَ عَلَى فُؤَادٍ أَنْجَمَا٣٤١
وَخَيَالُ جِسْمٍ لَمْ يُخَلِّ لَهُ الْهَوَى لَحْمًا فَيُنْحِلَهُ السَّقَامُ وَلَا دَمَا٣٤٢
وَخُفُوقُ قَلْبٍ لَوْ رَأَيْتِ لَهِيبَهُ يَا جَنَّتِي لَظَنَنْتِ فِيه جَهَنَّمَا٣٤٣
وَإِذَا سَحَابَةُ صَدِّ حِبٍّ أَبْرَقَتْ تَرَكَتْ حَلَاوَةَ كُلِّ حُبٍّ عَلْقَمَا٣٤٤
يَا وَجْهَ دَاهِيَةَ الَّذِي لَوْلَاكَ مَا أَكَلَ الضَّنَى جَسَدِي وَرَضَّ الْأَعْظُمَا٣٤٥
إِنْ كَانَ أَغْنَاهَا السُّلُوُّ فَإِنَّنِي أَصْبَحْتُ مِنْ كَبِدِي وَمِنْهَا مُعْدِمَا٣٤٦
غُصْنٌ عَلَى نَقَوَيْ فَلَاةٍ نَابِتٌ شَمْسُ النَّهَارِ تُقِلُّ لَيْلًا مُظْلِمَا٣٤٧
لَمْ تُجْمَعِ الْأَضْدَادُ فِي مُتَشَابِهٍ إِلَّا لِتَجْعَلَنِي لِغُرْمِيَ مَغْنَمَا٣٤٨
كَصِفَاتِ أَوْحَدِنَا أَبِي الْفَضْلِ الَّتي بَهَرَتْ فَأَنْطَقَ وَاصِفِيهِ وَأَفْحَمَا٣٤٩
يُعْطِيكَ مُبْتَدِرًا فَإِنْ أَعْجَلْتَهُ أَعْطَاكَ مُعْتَذِرًا كَمَنْ قَدْ أَجْرَمَا٣٥٠
وَيَرَى التَّعَظُّمَ أَنْ يُرَى مُتَوَاضِعًا وَيَرَى التَّوَاضُعَ أَنْ يُرَى مُتَعَظِّمَا٣٥١
نَصَرَ الْفَعَالَ عَلَى الْمِطَالِ كَأَنَّمَا خَالَ السُّؤَالَ عَلَى النَّوَالِ مُحَرَّمَا٣٥٢
يَا أَيُّهَا المَلَكُ الْمُصَفَّى جَوْهَرًا مِنْ ذَاتِ ذِي الْمَلَكُوتِ أَسْمَى مَنْ سَمَا٣٥٣
نُورٌ تَظَاهَرَ فِيكَ لَاهُوتِيَّةً فتَكَادُ تَعْلَمُ عِلْمَ مَا لَنْ يُعْلَمَا٣٥٤
وَيُهِمُّ فِيكَ إِذَا نَطَقْتَ فَصَاحَةً مِنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْكَ أَنْ يَتَكَلَّمَا٣٥٥
أَنَا مُبْصِرٌ وَأَظُنُّ أَنِّيَ نَائِمٌ مَنْ كَانَ يَحْلُمُ بِالْإِلَهِ فَأَحْلُمَا؟!٣٥٦
كَبُرَ الْعِيَانُ عَلَيَّ حَتَّى إِنَّهُ صَارَ الْيَقِينُ مِنَ الْعِيَانِ تَوَهُّمَا٣٥٧
يَا مَنْ لِجُودِ يَدَيْهِ فِي أَمْوالِهِ نِقَمٌ تَعُودُ عَلَى الْيَتَامَى أَنْعُمَا٣٥٨
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ: مَا ذَا عَاقِلًا وَيَقُولَ بَيْتُ المَالِ: مَا ذَا مُسْلِمَا٣٥٩
إِذْكَارُ مِثْلِكَ تَرْكُ إِذْكَارِي لَهُ إِذْ لَا تُرِيدُ لِمَا أُرِيدُ مُتَرْجِمَا٣٦٠
وقال في صباه:
إِلَى أَيِّ حِينٍ أَنْتَ فِي زِيِّ مُحْرِمِ؟ وَحَتَّى مَتَى في شِقْوَةٍ وَإِلَى كَمِ؟٣٦١
وَإِلَّا تَمُتْ تَحْتَ السُّيُوفِ مُكَرَّمًا تَمُتْ وَتُقَاسِ الذُّلَّ غَيْرَ مُكَرَّمِ٣٦٢
فَثِبْ وَاثِقًا بِاللهِ وِثْبَةَ مَاجِدٍ يَرَى الْمَوْتَ في الْهَيْجَا جَنَى النَّحْلِ في الْفَمِ٣٦٣
وقال في صباه:
ضَيْفٌ أَلَمَّ بِرَأْسِي غَيْرَ مُحْتَشِمِ والسَّيْفُ أَحْسَنُ فِعْلًا مِنْهُ بِاللِّمَمِ٣٦٤
إِبْعَدْ بَعِدْتَ بَيَاضًا لا بَيَاضَ لَهُ لَأَنْتَ أَسْوَدُ فِي عَيْنِي مِنَ الظُّلَمِ٣٦٥
بِحُبِّ قَاتِلَتِي وَالشَّيْبِ تَغْذِيَتِي هَوَايَ طِفْلًا وَشَيْبِي بَالِغَ الْحُلُمِ٣٦٦
فَمَا أَمُرُّ بِرَسْمٍ لَا أُسَائِلُهُ وَلَا بِذَاتِ خِمَارٍ لا تُرِيقُ دَمِي٣٦٧
تَنَفَّسَتْ عَنْ وَفَاءٍ غَيْرِ مُنصَدِعٍ يَوْمَ الرَّحِيلِ وشَعْبٍ غَيْرِ مُلْتَئِمِ٣٦٨
قَبَّلْتُهَا وَدُمُوعِي مَزْجُ أَدْمُعِهَا وَقَبَّلَتْنِي عَلَى خَوْفٍ فَمًا لِفَمِ٣٦٩
فَذُقْتُ مَاءَ حَيَاةٍ مِنْ مُقَبَّلِهَا لَوْ صَابَ تُرْبًا لَأَحْيَا سَالِفَ الْأُمَمِ٣٧٠
تَرْنُو إِلَيَّ بِعَيْنِ الظَّبْي مُجْهِشَةً وتَمْسَحُ الطَّلَّ فَوْقَ الْوَرْدِ بِالْعَنَمِ٣٧١
رُوَيْدَ حُكْمَكِ فِينَا غَيْرَ مُنْصِفَةٍ بِالنَّاسِ كُلِّهِمِ أَفْدِيكِ مِنْ حَكَمِ٣٧٢
أَبْدَيْتِ مِثْلَ الَّذِي أَبْدَيْتُ مِنْ جَزَعٍ وَلَمْ تُجِنِّي الَّذِي أَجْنَنْتُ مِنْ أَلَمْ٣٧٣
إِذَنْ لَبَزَّكِ ثَوْبَ الْحُسْنِ أَصْغَرُهُ وَصِرْتِ مِثْلِيَ فِي ثَوْبَيْنِ مِنْ سَقَمِ٣٧٤
لَيْسَ التَّعَلُّلُ بِالْآمَالِ مِنْ أَرَبِي وَلَا الْقَنَاعَةُ بِالْإِقْلَالِ مِنْ شِيَمِي٣٧٥
وَلَا أَظُنُّ بَنَاتِ الدَّهْرِ تَتْرُكُنِي حَتَّى تَسُدَّ عَلَيْهَا طُرْقَهَا هِمَمِي٣٧٦
لُمِ اللَّيَالِي الَّتِي أَخْنَتْ عَلَى جِدَتِي بِرِقَّةِ الْحَالِ وَاعْذُرْنِي وَلَا تَلُمِ٣٧٧
أَرَى أُنَاسًا وَمَحْصُولِي عَلَى غَنَمٍ وَذِكْرَ جُودٍ وَمَحْصُولِي عَلَى الْكَلِمِ٣٧٨
وَرَبُّ مَالٍ فَقِيرًا مِنْ مُرُوَّتِهِ لَمْ يُثْرِ مِنْهَا كَمَا أَثْرَى مِنَ الْعَدَمِ٣٧٩
سَيَصْحَبُ النَّصْلُ مِنِّي مِثْلَ مَضْرِبِهِ وَيَنْجَلِي خَبَرِي عَنْ صِمَّةِ الصَّمَمِ٣٨٠
لَقَدْ تَصَبَّرْتُ حَتَّى لَاتَ مُصْطَبَرٍ فَالْآنَ أُقْحِمُ حَتَّى لَاتَ مُقْتَحَمِ٣٨١
لَأَتْرُكَنَّ وُجُوهَ الْخَيْلِ سَاهِمَةً وَالْحَرْبُ أَقْوَمُ مِنْ سَاقٍ عَلَى قَدَمِ٣٨٢
وَالطَّعْنُ يُحْرِقُهَا وَالزَّجْرُ يُقلِقُهَا حَتَّى كَأَنَّ بِهَا ضَرْبًا مِنَ اللَّمَمِ٣٨٣
قَدْ كَلَّمَتْهَا الْعَوَالِي فَهْيَ كَالِحَةٌ كَأَنَّمَا الصَّابُ مَعْصُوبٌ عَلَى اللُّجُمِ٣٨٤
بِكُلِّ مُنْصَلِتٍ مَا زَالَ مُنْتَظِرِي حَتَّى أَدَلْتُ لَهُ مِنْ دَوْلَةِ الْخَدَمِ٣٨٥
شَيْخٍ يَرَى الصَّلَواتِ الْخَمْسَ نَافِلَةً وَيَسْتَحِلُّ دَمَ الْحُجَّاجِ في الْحَرَمِ٣٨٦
وَكُلَّمَا نُطِحَتْ تَحْتَ الْعَجَاجِ بِهِ أُسْدُ الْكَتَائِبِ رَامَتْهُ وَلَمْ يَرِمِ٣٨٧
تُنْسِي الْبِلَادَ بُرُوقَ الْجَوِّ بَارِقَتِي وَتَكْتَفِي بِالدَّمِ الْجَارِي عَنِ الدِّيَمِ٣٨٨
رِدِي حِيَاضَ الرَّدَى يَا نفْسِ وَاتَّرِكِي حِيَاضَ خَوْفِ الرَّدَى لِلشَّاءِ والنَّعَمِ٣٨٩
إِنْ لَمْ أَذَرْكِ عَلَى الْأَرْمَاحِ سَائِلَةً فَلَا دُعِيتُ ابْنَ أُمِّ الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ٣٩٠
أَيَمْلِكُ الْمُلْكَ وَالْأَسْيَافُ ظَامِئَةٌ وَالطَّيْرُ جَائِعَةٌ لَحْمٌ عَلَى وَضَمِ؟!٣٩١
مَنْ لَوْ رَآنِيَ مَاءً مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ وَلَوْ مَثَلْتُ لَهُ فِي النَّوْمِ لَمْ يَنَمِ٣٩٢
مِيعَادُ كُلِّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ غَدًا وَمَنْ عَصَى مِنْ مُلُوكِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ٣٩٣
فَإِنْ أَجَابُوا فَمَا قَصْدِي بِهَا لَهُمُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَمَا أَرْضَى لَهَا بِهِمِ٣٩٤
وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي، على ما كان قد شاهده من تهوره فقال:٣٩٥
أَبَا عَبْدِ الْإِلَهِ مُعَاذُ إِنِّي خَفِيٌّ عَنْكَ فِي الْهَيْجَا مَقَامِي٣٩٦
ذَكَرْتَ جَسِيمَ مَا طَلَبِي وَأَنَّا نُخَاطِرُ فِيهِ بِالْمُهَجِ الْجِسَامِ٣٩٧
أَمِثْلِي تَأْخُذُ النَّكَبَاتُ مِنْهُ وَيَجْزَعُ مِنْ مُلَاقَاةِ الْحِمَامِ٣٩٨
وَلَوْ بَرَزَ الزَّمَانُ إِلَيَّ شَخْصًا لَخَضَّبَ شَعْرَ مَفْرِقِهِ حُسَامِي٣٩٩
وَمَا بَلَغَتْ مَشِيئَتَهَا اللَّيَالِي وَلَا سَارَتْ وَفِي يَدِهَا زِمَامِي٤٠٠
إِذَا امْتَلَأَتْ عُيُونُ الْخَيْلِ مِنِّي فَوَيْلٌ فِي التَّيَقُّظِ وَالْمَنَامِ!٤٠١
وقال له بعض بني كلاب: أَشْرَبُ هذه الكأس سرورًا بك، فقال:
إِذَا مَا شَرِبْتَ الْخَمْرَ صِرْفًا مُهَنَّأً شَرِبْنَا الَّذِي مِنْ مِثْلِهِ شَرِبَ الْكَرْمُ٤٠٢
أَلَا حَبَّذَا قَوْمٌ نَدَامَاهُمُ الْقَنَا يُسَقُّونَهَا رِيًّا وَسَاقِيهِمُ الْعَزْمُ٤٠٣
وقال وقد مد له إنسان يده بكأس وحلف بالطلاق ليشربنها:
وَأَخٍ لَنَا بَعَثَ الطَّلَاقَ أَلِيَّةً لَأُعَلِّلَنَّ بِهذِهِ الْخُرْطُومِ٤٠٤
فَجَعَلْتُ رَدِّي عِرْسَهُ كَفَّارَةً عَنْ شُرْبِهَا وَشَرِبْتُ غَيْرَ أَثِيمِ٤٠٥
وقال يمدح الحسين بن إسحق التنوخي:
مَلَامِي النَّوَى في ظُلْمِهَا غَايَةُ الظُّلْمِ لَعَلَّ بِهَا مِثْلَ الَّذِي بِي مِنَ السُّقْمِ٤٠٦
فَلَوْ لَمْ تَغَرْ لَمْ تَزْوِ عَنِّي لِقَاءَكُمْ وَلَوْ لَمْ تُرِدْكُمْ لَمْ تَكُنْ فِيكُمُ خَصْمِي٤٠٧
أَمُنْعِمَةٌ بِالْعَوْدَةِ الظَّبْيَةُ الَّتِي بِغَيْرِ وَلِيٍّ كَانَ نَائِلَهَا الْوَسْمِي٤٠٨
تَرَشَّفْتُ فَاهَا سُحْرَةً فَكَأَنَّنِي تَرَشَّفْتُ حَرَّ الْوَجْدِ مِنْ بَارِدِ الظَّلْمِ٤٠٩
فَتَاةٌ تَسَاوَى عِقْدُهَا وَكَلَامُهَا وَمَبْسِمُهَا الدُّرِّيُّ فِي الْحُسْنِ وَالنَّظْمِ٤١٠
وَنَكْهَتُهَا وَالْمَنْدَلِيُّ وَقَرْقَفٌ مُعَتَّقَةٌ صَهْبَاءُ في الرِّيحِ وَالطَّعْمِ٤١١
جَفَتْنِي كَأَنِّي لَسْتُ أَنْطَقَ قَوْمِهَا وَأَطْعَنَهُمْ وَالشُّهْبُ في صُورَةِ الدُّهْمِ٤١٢
يُحَاذِرُنِي حَتْفِي كَأَنِّيَ حَتْفُهُ وَتَنْكُزُنِي الْأَفْعَى فَيَقْتُلُهَا سُمِّي٤١٣
طِوَالُ الرُّدَيْنِيَّاتِ يَقْصِفُهَا دَمِي وَبِيضُ السُّرَيْجِيَّاتِ يَقْطَعُهَا لَحْمِي٤١٤
بَرَتْنِي السُّرَى بَرْيَ الْمُدَى فَرَدَدْنَنِي أَخَفُّ عَلَى الْمَرْكُوبِ مِنْ نَفَسِي جِرْمِي٤١٥
وَأَبْصَرَ مِنْ زَرْقَاءِ جَوٍّ لِأَنَّني إِذَا نَظَرَتْ عَيْنَايَ سَاوَاهُمَا عِلْمِي٤١٦
كَأَنِّي دَحَوْتُ الْأَرْضَ مِنْ خِبْرَتِي بهَا كَأَنِّي بَنَى الْإِسْكَنْدَرُ السَّدَّ مِنْ عَزْمِي٤١٧
لِأَلْقَى ابْنَ إسْحَاقَ الَّذِي دَقَّ فَهْمُهُ فَأَبْدَعَ حَتَّى جَلَّ عَنْ دِقَّةِ الْفَهْمِ٤١٨
وَأَسْمَعَ مِنْ أَلْفَاظِهِ اللُّغَةَ الَّتِي يَلَذُّ بِهَا سَمْعِي وَلَوْ ضُمِّنَتْ شَتْمِي٤١٩
يَمِينُ بَنِي قَحْطَانَ رَأْسُ قُضَاعَةٍ وَعِرْنِينُهَا بَدْرُ النُّجُومِ بَنِي فَهْمِ٤٢٠
إِذَا بَيَّتَ الْأَعْدَاءَ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ صَرِيرَ الْعَوَالِي قَبْلَ قَعْقَعَةِ اللُّجْمِ٤٢١
مُذِلُّ الْأَعِزَّاءِ الْمُعِزُّ وَإِنْ يَئِنْ بِهِ يُتْمُهُمْ فَالْمُوتِمُ الْجَابِرُ الْيُتْمِ٤٢٢
وَإنْ تُمْسِ دَاءً في الْقُلُوبِ قَنَاتُهُ فَمُمْسِكُهَا مِنْهُ الشِّفَاءُ مِنَ الْعُدْمِ٤٢٣
مُقَلَّدُ طَاغِي الشَّفْرَتَيْنِ مُحَكَّمٍ عَلَى الْهَامِ إِلَّا أَنَّهُ جَائِرُ الْحُكْمِ٤٢٤
تَحَرَّجَ عَنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ كَأَنَّهُ يَرَى قَتْلَ نَفْسٍ تَرْكَ رَأْسٍ عَلَى جِسْمِ٤٢٥
وَجَدْنَا ابْنَ إِسْحَاقَ الْحُسَيْنِ كَجَدِّهِ عَلَى كَثْرَةِ الْقَتْلَى بَرِيئًا مِنَ الْإِثْمِ٤٢٦
مَعَ الْحَزْمِ حَتَّى لَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ لِأَلْحَقَهُ تَضَيِيعُهُ الْحَزْمَ بالْحَزْمِ٤٢٧
وَفي الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ تَأَخُّرًا لَأَخَّرَهُ الطبْعُ الْكَرِيمُ إِلَى القُدْمِ٤٢٨
لَهُ رَحْمَةٌ تُحْيي الْعِظَامَ وَغَضْبَةٌ بِهَا فَضْلَةٌ لِلْجُرْمِ عَنْ صَاحِبِ الْجُرْمِ٤٢٩
وَرِقَّةُ وَجْهٍ لَوْ خَتَمْتَ بِنَظْرَةٍ عَلَى وَجْنَتَيْهِ مَا انْمَحَى أَثَرُ الْخَتْمِ٤٣٠
أَذَاقَ الْغَوَانِي حُسْنُهُ مَا أَذَقْنَنِي وَعَفَّ فَجَازَاهُنَّ عَنِّي عَلَى الصُّرْمِ٤٣١
فِدًى مَنْ عَلَى الْغَبْرَاءِ أَوَّلُهُمْ أَنَا لِهَذَا الْأَبِيِّ الْمَاجِدِ الْجَائِدِ الْقَرْمِ٤٣٢
لَقَدْ حَالَ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْأَمْنِ سَيْفُهُ فَمَا الظَّنُّ بَعْدَ الْجِنِّ بِالْعُرْبِ وَالْعُجْمِ٤٣٣
وَأَرْهَبَ حَتَّى لَوْ تَأَمَّلَ دِرْعَهُ جَرَتْ جَزَعًا مِنْ غَيْرِ نَارٍ وَلَا فَحْمِ٤٣٤
وَجَادَ فَلَوْلَا جُودُهُ غَيْرَ شَارِبٍ لَقُلْنَا: كَرِيمٌ هَيَّجَتْهُ ابْنَةُ الْكَرْمِ٤٣٥
أَطَعْنَاكَ طَوْعَ الدَّهْرِ يَا ابْنَ ابْنِ يُوسُفٍ لِشَهْوَتِنا، وَالْحَاسِدُو لَكَ بِالرُّغْمِ٤٣٦
وَثِقْنَا بِأَنْ تُعْطِي فَلَوْ لَمْ تَجُدْ لَنَا لَخِلْنَاكَ قَدْ أَعْطَيْتَ مِنْ قُوَّةِ الْوَهْمِ٤٣٧
دُعِيتُ بِتَقْرِيظِيكَ فِي كلِّ مَجْلِسٍ وَظَنَّ الَّذِي يَدْعُو ثَنَائِي عَلَيْكَ اسْمِي٤٣٨
وَأَطْمَعْتَنِي فِي نَيْلِ مَا لَا أَنَالُهُ بِمَا نِلْتُ حَتَّى صِرْتُ أَطْمَعُ فِي النَّجْمِ٤٣٩
إِذَا مَا ضَرَبْتَ الْقِرْنَ ثُمَّ أَجَزْتَنِي فَكِلْ ذَهَبًا لِي مَرَّةً مِنْهُ بِالْكَلْمِ٤٤٠
أَبَتْ لَكَ ذَمِّي نَخْوَةٌ يَمَنِيَّةٌ وَنَفْسٌ بهَا فِي مَأزِقٍ أَبَدًا تَرْمِي٤٤١
فَكَمْ قَائِلٍ: لَوْ كَانَ ذَا الشَّخْصُ نَفْسَهُ لَكَانَ قَرَاهُ مَكْمَنَ الْعَسْكَرِ الدَّهْمِ!٤٤٢
وَقَائِلَةٍ — وَالْأَرْضَ أَعْنِي تَعَجُّبًا: عَلَيَّ امْرُؤٌ يَمْشِي بِوَقْرِي مِنَ الْحِلْمِ!٤٤٣
عَظُمْتَ فَلَمَّا لَمْ تُكَلَّمْ مَهَابَةً تَوَاضَعْتَ وَهْوَ الْعُظْمُ عُظْمًا عَنِ الْعُظْم٤٤٤
وقال يمدح علي بن إبراهيم التنوخي:
أَحَقُّ عَافٍ بِدَمْعِكَ الْهِمَمُ أَحْدَثُ شَيْءٍ عَهْدًا بِهَا الْقِدَمُ٤٤٥
وَإِنَّمَا النَّاسُ بِالْمُلُوكِ وَمَا تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُهَا عَجَمُ٤٤٦
لَا أَدَبٌ عِنْدَهُمْ وَلَا حَسَبٌ وَلَا عُهُودٌ لَهُمْ وَلَا ذِمَمُ٤٤٧
بِكُلِّ أَرْضٍ وَطِئْتُهَا أُمَمٌ تُرْعَى بِعَبْدٍ كَأَنَّها غَنَمُ٤٤٨
يَسْتَخْشِنُ الْخَزَّ حِينَ يَلْمُسُهُ وَكَانَ يُبْرَى بِظُفْرِهِ الْقَلَمُ٤٤٩
إِنِّي وَإِنْ لُمْتُ حَاسِدِيَّ فَما أُنْكِرُ أنِّي عُقُوبَةٌ لَهُمُ٤٥٠
وَكَيْفَ لَا يُحْسَدُ امْرُؤٌ عَلَمٌ لَهُ عَلَى كُلِّ هَامَةٍ قَدَمُ؟!٤٥١
يَهَابُهُ أَبْسَأُ الرِّجَالِ بِهِ وَتَتَّقِي حَدَّ سَيْفِهِ الْبُهَمُ٤٥٢
كَفَانِيَ الذَّمَّ أَنَّنِي رَجُلٌ أَكْرَمُ مَالٍ مَلَكْتُهُ الْكَرَمُ٤٥٣
يَجْنِي الْغِنَى لِلِّئَامِ لَوْ عَقَلُوا مَا لَيْسَ يَجْنِي عَلَيْهِمِ الْعَدَمُ٤٥٤
هُمُ لِأَمْوَالِهِمْ وَلَسْنَ لَهُمْ وَالْعَارُ يَبْقَى والْجُرْحُ يَلْتَئِمُ٤٥٥
مَنْ طَلَبَ الْمَجْدَ فَلْيَكُنْ كَعَلِيـْ ـيٍ يَهَبُ الْأَلْفَ وَهْوَ يَبْتَسِمُ٤٥٦
وَيَطْعَنُ الْخَيْلَ كُلَّ نَافِذَةٍ لَيْسَ لَهَا مِنْ وَحَائِهَا أَلَمُ٤٥٧
وَيَعْرِفُ الْأَمْرَ قَبْلَ مَوْقِعِهِ فَمَا لَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ نَدَمُ٤٥٨
وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ والسَّلَاهِبُ وَالـْ ـبِيضُ لَهُ وَالْعَبِيدُ وَالْحَشَمُ٤٥٩
وَالسَّطَوَاتُ الَّتِي سَمِعْتَ بِهَا تَكَادُ مِنْهَا الْجِبَالُ تَنْفَصِمُ٤٦٠
يُرْعِيكَ سَمْعًا فِيهِ اسْتِمَاعٌ إِلَى الدْ دَاعِي وَفِيهِ عَنِ الْخَنَا صَمَمُ٤٦١
يُرِيكَ مِنْ خَلْقِهِ غَرَائِبَهُ فِي مَجْدِهِ كَيْفَ تُخْلَقُ النَّسَمُ٤٦٢
مِلْتُ إِلَى مَنْ يَكَادُ بَيْنَكُمَا إِنْ كُنْتُمَا السَّائِلَيْنِ يَنْقَسِمُ٤٦٣
مِنْ بَعْدِ مَا صِيغَ مِنْ مَوَاهِبِهِ لِمَنْ أُحِبُّ الشُّنُوفُ وَالْخَدَمُ٤٦٤
مَا بَذَلَتْ مَا بِهِ يَجُودُ يَدٌ وَلَا تَهَدَّى لِمَا يَقُولُ فَمُ٤٦٥
بَنُو الْعَفَرْنَى مَحَطَّةَ الْأَسَدِ الـْ أُسْدُ وَلكِنْ رِمَاحُهَا الْأَجَمُ٤٦٦
قَوْمٌ بُلُوغُ الْغُلَامِ عِنْدَهُمُ طَعْنُ نُحُورِ الكُمَاةِ لَا الْحُلُمُ٤٦٧
كَأَنَّمَا يُولَدُ النَّدَى مَعَهُمْ لَا صِغَرٌ عَاذِرٌ وَلَا هَرِمُ٤٦٨
إِذَا تَوَلَّوْا عَدَاوَةً كَشَفُوا وَإِنْ تَوَلَّوْا صَنِيعَةً كَتَمُوا٤٦٩
تَظُنُّ مِنْ فَقْدِكَ اعْتِدَادَهُمُ أَنَّهُمْ أَنْعَمُوا وَمَا عَلِمُوا٤٧٠
إِنْ بَرَقُوا فَالْحُتُوفُ حَاضِرَةٌ أَوْ نَطَقُوا فَالصَّوَابُ وَالْحِكَمُ٤٧١
أَوْ حَلَفُوا بِالْغَمُوسِ وَاجْتَهَدُوا فَقَوْلُهُمْ: «خَابَ سَائِلِي» الْقَسَمُ٤٧٢
أَوْ رَكِبُوا الْخَيْلَ غَيْرَ مُسْرَجَةٍ فَإِنَّ أَفْخَاذَهُمْ لَهَا حُزُمُ٤٧٣
أَوْ شَهِدُوا الْحَرْبَ لَاقِحًا أَخَذُوا مِنْ مُهَجِ الدَارِعِينَ مَا احْتَكَمُوا٤٧٤
تُشْرِقُ أَعْرَاضُهُمْ وَأَوْجُهُهُمْ كَأَنَّهَا فِي نُفُوسِهِمْ شِيَمُ٤٧٥
لَوْلَاكَ لَمْ أَتْرُكِ الْبُحَيْرَةَ وَالـْ ـغَوْرُ دَفِيءٌ وَمَاؤُهَا شَبِمُ٤٧٦
وَالْمَوْجُ مِثْلُ الفُحُولِ مُزْبِدَةً تَهْدِرُ فِيهَا وَمَا بِهَا قَطَمُ٤٧٧
وَالطَّيْرُ فَوْقَ الْحَبَابِ تَحْسَبُهَا فُرْسَانَ بُلْقٍ تَخُونُهَا اللُّجُمُ٤٧٨
كَأَنَّهَا وَالرِّيَاحُ تَضْرِبُهَا جَيْشَا وَغًى هَازِمٌ وَمُنْهَزِمُ٤٧٩
كَأَنَّهَا فِي نَهَارِهَا قَمَرٌ حَفَّ بِهِ مِنْ جِنَانِهَا ظُلَمُ٤٨٠
نَاعِمَةُ الْجِسْمِ لَا عِظَامَ لَهَا لَهَا بَنَاتٌ وَمَا لَهَا رَخِمَ٤٨١
يُبْقَرُ عَنْهُنَّ بَطْنُهَا أَبَدًا وَمَا تَشَكَّى وَلَا يَسِيلُ دَمُ٤٨٢
تَغَنَّتِ الطَّيْرُ فِي جَوَانِبِهَا وَجَادَتِ الْأَرْضُ حَوْلَهَا الدِّيَمُ٤٨٣
فَهْيَ كَمَاوِيَّةٍ مُطَوَّقَةٍ جُرِّدَ عَنْهَا غِشَاؤُهَا الْأَدَمُ٤٨٤
يَشِينُهَا جَرْيُهَا عَلَى بَلَدٍ تَشِينُهُ الْأَدْعِيَاءُ وَالْقَزَمُ٤٨٥
أَبَا الْحُسَيْنِ اسْتَمِعْ فَمَدْحُكُمُ في الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَلَام مُنْتَظِمُ٤٨٦
وَقَدْ تَوَالَى الْعِهَادُ مِنْهُ لَكُمْ وَجَادَتِ الْمَطْرَةُ الَّتِي تَسِمُ٤٨٧
أُعِيذُكُمْ مِنْ صُرُوفِ دَهْرِكُمُ فَإِنَّهُ في الْكِرَامِ مُتَّهَمُ٤٨٨
وقال يمدح المغيث بن العجلي:
فُؤَادٌ مَا تُسَلِّيهِ الْمُدَامُ وَعُمْرٌ مِثْلُ مَا تَهَبُ اللِّئَامُ٤٨٩
وَدَهْرٌ نَاسُهُ نَاسٌ صِغَارٌ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ جُثَثٌ ضِخَامُ٤٩٠
وَمَا أَنَا مِنْهُمُ بالْعَيْشِ فِيهِمْ وَلكِنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَامُ٤٩١
أَرَانِبُ غَيْرَ أَنَّهُمُ مُلُوكٌ مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ٤٩٢
بِأَجْسَامٍ يَحَرُّ الْقَتْلُ فِيهَا وَمَا أَقْرَانُهَا إِلَّا الطَّعَامُ٤٩٣
وَخَيْلٍ مَا يَخِرُّ لَهَا طَعِينٌ كَأَنَّ قَنَا فَوَارِسِهَا ثُمَامُ٤٩٤
خَلِيلُكَ أَنْتَ لَا مَنْ قُلْتَ: خِلِّي وَإِنْ كَثُرَ التَّجَمُّلُ والْكَلَامُ٤٩٥
وَلَوْ حِيزَ الْحِفَاظُ بِغَيْرِ عَقْلٍ تَجَنَّبَ عُنْقَ صَيقَلِهِ الْحُسَامُ٤٩٦
وَشِبْهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ وَأَشْبَهُنَا بِدُنْيَانَا الطَّغَامُ٤٩٧
وَلَوْ لَمْ يَعْلُ إِلَّا ذُو مَحَلٍّ تَعَالَى الْجَيْشُ وَانْحَطَّ القَتَامُ٤٩٨
وَلَوْ لَمْ يَرْعَ إِلَّا مُسْتَحِقٌّ لِرُتْبَتِهِ أَسَامَهُمُ الْمُسَامُ٤٩٩
وَمَنْ خَبَرَ الْغَوَانِي فَالْغَوَانِي ضِيَاءٌ فِي بَوَاطِنِهِ ظَلَامُ٥٠٠
إِذَا كَانَ الشَّبَابُ السُّكْرَ وَالشَّيـْ ـبُ هَمًّا فَالْحَيَاةُ هِيَ الْحِمَامُ٥٠١
وَمَا كُلٌّ بِمَعْذُورٍ بِبُخْلٍ وَلَا كُلٌّ عَلَى بُخْلٍ يُلَامُ٥٠٢
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ جِيرَانِي وَمِثْلِي لِمِثْلِي عِنْدَ مِثْلِهِمِ مُقَامُ٥٠٣
بِأَرْضٍ مَا اشْتَهَيْتَ رَأَيْتَ فِيهَا فلَيْسَ يَفُوتُهَا إِلَّا الْكِرَامُ٥٠٤
فَهَلَّا كَانَ نَقْصُ الْأَهْلِ فِيهَا وَكَانَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا التَّمَامُ؟٥٠٥
بِهَا الْجَبَلَانِ مِنْ صَخْرٍ وَفَخْرٍ أَنَافَا: ذَا الْمُغِيثُ وَذَا اللَّكَامُ٥٠٦
وَلَيْسَتْ مِنْ مَواطِنِهِ وَلَكِنْ يَمُرُّ بِهَا كَمَا مَرَّ الغَمَامُ٥٠٧
سَقَى اللهُ ابْنَ مُنْجِبَةٍ سَقَانِي بِدَرٍّ مَا لِرَاضِعِهِ فِطَامُ٥٠٨
وَمَنْ إِحْدَى فَوَائِدِهِ العَطَايَا وَمَنْ إِحْدَى عَطَايَاهُ الدَّوَامُ٥٠٩
وَقَدْ خَفِيَ الزَّمَانُ بِهِ عَلَينَا كَسِلْكِ الدُّرِّ يُخْفِيهِ النِّظَامُ٥١٠
تَلَذُّ لَهُ الْمُرُوءَةُ وَهْيَ تُؤْذِي وَمَنْ يَعْشَقْ يَلَذُّ لَهُ الْغَرَامُ٥١١
تَعَلَّقَهَا هَوَى قَيْسٍ لِلَيْلَى وَوَاصَلَهَا فَلَيْسَ بِهِ سَقَامُ٥١٢
يَرُوعُ رَكَانَةً وَيَذُوبُ ظَرْفًا فَمَا نَدْرِى أشَيْخٌ أمْ غُلَامُ؟٥١٣
وَتَمْلِكُهُ الْمَسَائِلُ فِي نَدَاهُ وَأَمَّا فِي الْجِدَالِ فَلَا يُرَامُ٥١٤
وَقَبْضُ نَوَالِهِ شَرَفٌ وَعِزٌّ وَقَبْضُ نَوَالِ بَعْضِ الْقَوْمِ ذَامُ٥١٥
أَقَامَتْ فِي الرِّقَابِ لَهُ أَيَادٍ هِيَ الْأَطْوَاقُ وَالنَّاسُ الْحَمَامُ٥١٦
إِذَا عُدَّ الْكِرَامُ فَتِلْكَ عِجْلٌ كَمَا الأنْوَاءُ حِينَ تُعَدُّ عَامُ٥١٧
تَقِي جَبَهَاتُهُمْ مَا فِي ذَرَاهُمْ إِذَا بِشِفَارِهَا حَمِيَ اللِّطَامُ٥١٨
وَلَو يَمَّمْتَهُمْ فِي الْحَشْرِ تجْدُو لَأَعْطَوْكَ الَّذِي صَلَّوْا وَصَامُوا٥١٩
فَإِنْ حَلُمُوا فَإِنَّ الْخَيْلَ فِيهِمْ خِفَافٌ وَالرِّمَاحُ بِهَا عُرَامُ٥٢٠
وَعِنْدَهُمُ الْجِفَانُ مُكَلَّلَاتٍ وَشَزْرُ الطَّعْنِ وَالضَّرْبُ التُّؤَامُ٥٢١
نُصَرِّعُهُمْ بِأَعْيُنِنَا حَيَاءً وَتَنْبُو عَنْ وُجُوهِهِمُ السِّهَامُ٥٢٢
قَبِيلٌ يَحْمِلُونَ مِنَ الْمَعَالِي كَمَا حَمَلَتْ مِنَ الْجَسَدِ الْعِظَامُ٥٢٣
قَبِيلٌ أَنْتَ أَنْتَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ وَجَدُّكَ بِشْرٌ الْمَلِكُ الْهُمَامُ٥٢٤
لِمَنْ مَالٌ تُمَزِّقُهُ الْعَطَايَا وَيَشْرَكُ فِي رَغَائِبِهِ الْأَنَامُ؟!
وَلَا نَدْعُوكَ صَاحِبَهُ فَتَرْضَى لِأَنَّ بِصُحْبَةٍ يَجِبُ الذِّمَامُ٥٢٥
تُحَايِدُهُ كَأَنَّكَ سَامِرِيٌّ تُصَافِحُهُ يَدٌ فِيهَا جُذَامُ٥٢٦
إِذَا مَا الْعَالِمُونَ عَرَوْكَ قَالُوا: أَفِدْنَا أَيُّهَا الْحِبْرُ الْإِمَامُ٥٢٧
إِذَا مَا الْمُعْلِمُونَ رَأَوْكَ قَالُوا: بِهَذَا يُعْلَمُ الْجَيْشُ اللُّهَامُ٥٢٨
لَقَدْ حَسُنَتْ بِكَ الْأَوْقَاتُ حَتَّى كَأَنَّكَ فِي فَمِ الدَّهْرِ ابْتِسَامُ٥٢٩
وَأُعْطِيتَ الَّذِي لَمْ يُعْطَ خَلْقٌ عَلَيْكَ صَلَاةُ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ
وقال يمدح عمر بن سليمان الشرابي وهو يومئذٍ يتولى الفداء بين العرب والروم:
نَرَى عِظَمًا بِالْبَيْنِ وَالصَّدُّ أَعْظَمُ وَنَتَّهِمُ الْوَاشِينَ وَالدَّمْعُ مِنْهُمُ٥٣٠
وَمَنْ لُبُّهُ مَعْ غَيْرِهِ كَيْفَ حَالهُ؟! وَمَنْ سِرُّهُ فِي جَفْنِهِ كيْفَ يَكْتَمُ؟!٥٣١
وَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَالنَّوَى وَرَقِيبُنَا غَفُولَانِ عَنَّا ظِلْتُ أَبْكِي وَتَبْسِمُ٥٣٢
فَلَمْ أَرَ بَدْرًا ضَاحِكًا قَبْلَ وَجْهِهَا وَلَمْ تَرَ قَبْلِي مَيِّتًا يَتَكَلَّمُ
ظَلُومٌ كَمَتْنَيْهَا لِصَبٍّ كَخَصْرِهَا ضَعِيفِ الْقُوَى مِنْ فِعْلِهَا يَتَظَلَّمُ٥٣٣
بفَرْعٍ يُعِيدُ اللّيْلَ والصُّبْحُ نَيِّرٌ وَوَجْهٍ يُعِيدُ الصُّبْحَ واللَّيْلُ مُظْلِمُ٥٣٤
فَلَوْ كَانَ قَلْبِي دَارَها كَانَ خَالِيًا وَلَكِنَّ جَيْشَ الشَّوْقِ فِيهِ عَرَمْرَمُ٥٣٥
أَثَافٍ بِهَا مَا بِالْفُؤَادِ مِنَ الصَّلَى وَرَسْمٌ كَجِسْمِي ناحِلٌ مُتَهَدِّمُ٥٣٦
بَلَلْتُ بِهَا رُدْنَيَّ والْغَيْمُ مُسْعِدِي وَعَبْرَتُهُ صِرْفٌ وَفِي عَبْرَتِي دَمُ٥٣٧
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا انْهَلَّ فِي الْخَدِّ مِنْ دَمِي لَمَا كَانَ مُحْمَرًّا يَسِيلُ فَأَسْقَمُ٥٣٨
بِنَفْسِي الْخَيَالُ الزَّائِرِي بَعْدَ هَجْعَةٍ وَقوْلَتُهُ لِي: بَعْدَنَا الْغُمْضَ تَطْعَمُ؟!٥٣٩
سَلَامٌ فَلَوْلَا الْخَوْفُ وَالْبُخْلُ عِنْدَهُ لَقُلْتُ: أَبُو حَفْصٍ عَلَيْنَا الْمُسَلِّمُ٥٤٠
مُحِبُّ النَّدَى الصَّابِي إلَى بَذْلِ مَالِهِ صُبُوًّا كَمَا يَصْبُو الْمُحِبُّ الْمُتَيَّمُ٥٤١
وَأُقْسِمُ لَوْلَا أَنَّ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ لَهُ ضَيْغَمًا قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ ضَيْغَمُ٥٤٢
أَنَنْقُصُهُ مِنْ حَظِّهِ وَهْوَ زَائِدٌ وَنَبْخَسُهُ وَالْبَخْسُ شَيْءٌ مُحَرَّمُ؟!٥٤٣
يَجِلُّ عَنِ التَّشْبِيهِ لَا الْكَفُّ لُجَّةٌ وَلَا هُوَ ضِرْغَامٌ وَلَا الرَّأْيُ مِخْذَمُ٥٤٤
وَلَا جُرْحُهُ يُؤسَى وَلَا غَوْرُهُ يُرَى وَلَا حَدُّهُ يَنْبُو وَلَا يَتَثَلَّمُ٥٤٥
وَلَا يُبْرَمُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ حَالِلٌ وَلَا يُحْلَلُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ مُبْرِمُ٥٤٦
وَلَا يَرْمَحُ الْأَذْيَالَ مِنْ جَبَرِيَّةٍ وَلَا يَخْدُمُ الدُّنْيَا وَإِيَّاهُ تَخْدُمُ٥٤٧
وَلَا يَشْتَهِي يَبْقَى وَتَفْنَى هِبَاتُهُ وَلَا تَسْلَمُ الْأَعْدَاءُ مِنْهُ وَيَسْلَمُ٥٤٨
أَلَذُّ مِنَ الصَّهْبَاءِ بِالْمَاءِ ذِكْرُهُ وَأَحْسَنُ مِنْ يُسْرٍ تَلَقَّاهُ مُعْدِمُ٥٤٩
وَأَغْرَبُ مِنْ عَنْقَاءَ فِي الطَّيْرِ شَكْلُهُ وَأَعْوَزُ مِنْ مُسْتَرْفِدٍ مِنْهُ يُحْرَمُ٥٥٠
وَأَكْثَرُ مِنْ بَعْدِ الْأَيَادِي أَيَادِيًا مِنْ الْقَطْرِ بَعْدَ الْقَطْرِ وَالْوَبْلُ مُثْجِمُ٥٥١
سَنِيُّ الْعَطَايَا لَوْ رَأَى نَوْمَ عَيْنهِ مِنَ اللُّؤْمِ آلَى أَنَّهُ لَا يُهَوِّمُ٥٥٢
وَلَوْ قَالَ: هَاتُوا دِرْهَمًا لَمْ أَجُدْ بِهِ عَلَى سَائِلٍ أَعْيَا عَلَى النَّاسِ درْهَمُ٥٥٣
ولَوْ ضَرَّ مَرْءًا قَبْلَهُ مَا يَسُرُّهُ لَأَثَّرَ فِيهِ بَأْسُهُ وَالتَّكَرُّمُ٥٥٤
يُرَوِّي بِكَالْفِرْصَادِ فِي كُلِّ غَارَةٍ يَتَامَى مِنَ الْأَغْمَادِ تُنْضَى فَتُوتِمُ٥٥٥
إِلَى الْيَوْمِ مَا حَطَّ الْفِدَاءُ سُرُوجَهُ مُذُ الْغَزْوُ سَارٍ مُسْرَجُ الْخَيْلِ مُلْجَمُ٥٥٦
يَشُقُّ بِلَادَ الرُّومِ وَالنَّقْعُ أَبْلَقٌ بِأَسْيَافِهِ وَالْجَوُّ بِالنَّقْعِ أَدْهَمُ٥٥٧
إِلَى المَلِكِ الطَّاغِي فَكَمْ مِنْ كَتِيبَةٍ تُسَايِرُ مِنْهُ حَتْفَهَا وَهْيَ تَعْلَمُ!٥٥٨
وَمِنْ عَاتِقٍ نَصْرَانَةٍ بَرَزَتْ لَهُ أُسِيلَةِ خَدٍّ عَنْ قَرِيبٍ ستُلْطَمُ!٥٥٩
صُفُوفًا لِلَيْثٍ فِي لُيُوثٍ حُصُونُها مُتُونُ المَذَاكِي وَالْوَشِيجُ الْمُقَوَّمُ٥٦٠
تَغِيبُ الْمَنَايَا عَنْهُمُ وَهْوَ غَائِبٌ وتَقْدَمُ في سَاحَاتِهِمْ حِينَ يَقْدَمُ٥٦١
أَجِدَّكَ مَا تَنْفَكُّ عَانٍ تَفُكُّهُ عُمَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَمَالٌ تُقَسِّمُ٥٦٢
مُكَافِيكَ مَنْ أَوْلَيْتَ دِينَ رَسُولِهِ يَدًا لَا تُؤَدِّي شُكْرَهَا الْيَدُ وَالْفَمُ٥٦٣
عَلَى مَهَلٍ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِرَاحِمٍ لِنَفْسِكَ مِنْ جُودٍ فَإِنَّكَ تُرْحَمُ٥٦٤
مَحَلُّكَ مَقْصُودٌ وَشَانِيكَ مُفْحَمُ وَمِثْلُكَ مَفْقُودٌ وَنَيْلُكَ خِضْرِمُ٥٦٥
وَزَارَكَ بِي دُونَ الْمُلُوكِ تَحَرُّجِي إِذَا عَنَّ بَحْرٌ لَمْ يَجُزْ لِي التَّيَمُّمُ٥٦٦
فَعِشْ لَوْ فَدَى المَمْلُوكُ رَبًّا بِنَفْسِهِ مِنَ المَوْتِ لَمْ تُفْقَدْ وَفِي الْأَرْضِ مُسْلِمُ٥٦٧
واجتاز بمكان يعرف بالفراديس من أرض قِنَّسْرِين فسمع زئير الأسد، فقال:
أَجَارُكِ يَا أُسْدَ الْفَرَادِيسِ مُكْرَمُ فتَسْكُنَ نَفْسِي أَمْ مُهَانٌ فَمُسْلَمُ؟٥٦٨
وَرَائِي وَقُدَّامِي عُدَاةٌ كَثِيرَةٌ أُحَاذِرُ مِنْ لِصٍّ وَمِنْكِ وَمِنْهُمُ٥٦٩
فَهَلْ لَكِ فِي حِلْفِي عَلَى مَا أُرِيدُهُ؟ فَإِنِّي بِأَسْبَابِ الْمَعِيشَةِ أَعْلَمُ٥٧٠
إِذَنْ لَأَتَاكِ الخَيْرُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ وَأَثْرَيْتِ مِمَّا تَغْنَمِينَ وَأَغْنَمُ٥٧١
وقال في لعبة كانت تدور فسقطت عند بدر بن عمار:
مَا نَقَلَتْ فِي مَشِيئَةٍ قَدَمَا وَلَا اشْتَكَتْ مِنْ دُوَارِهَا أَلَمَا٥٧٢
لَمْ أَرَ شَخْصًا مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِهَا يَفْعَلُ أَفْعَالَهَا وَمَا عَزَمَا
فَلَا تَلُمْهَا عَلَى تَوَاقُعِهَا أَطْرَبَهَا أَنْ رَأَتْكَ مُبْتَسِمَا٥٧٣
وخرج أبو الطيب إلى جبل حرس، فنزل بأبي الحسين علي بن أحد المري الخراساني، وكان بينهما مودة بطبرية، فقال يمدحه:
لَا افْتِخَارٌ إِلَّا لِمَنْ لَا يُضَامُ مُدْرِكٍ أَوْ مُحَارِبٍ لَا يَنَامُ٥٧٤
لَيْسَ عَزْمًا مَا مَرَّضَ المَرْءُ فِيهِ لَيْسَ هَمًّا مَا عَاقَ عَنْهُ الظَّلَامُ٥٧٥
وَاحْتِمَالُ الْأَذَى وَرُؤْيَةُ جَانِيـ ـهِ غِذَاءٌ تَضْوَى بِهِ الْأَجْسَامُ٥٧٦
ذَلَّ مَنْ يَغْبِطُ الذَّلِيلَ بِعَيْشٍ رُبَّ عَيْشٍ أَخَفُّ مِنْهُ الْحِمَامُ٥٧٧
كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيْرِ اقْتِدَارٍ حُجَّةٌ لَاجِئٌ إِلَيْهَا اللِّئَامُ٥٧٨
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ٥٧٩
ضَاقَ ذَرْعًا بِأَنْ أَضِيقَ بِهِ ذَرْ عًا زَمَانِي وَاسْتَكْرَمَتْنِي الْكِرَامُ٥٨٠
وَاقِفًا تَحْتَ أَخْمَصَيْ قَدْرِ نَفْسِي وَاقِفًا تَحْتَ أَخْمَصَيَّ الْأَنَامُ٥٨١
أَقَرَارًا أَلَذُّ فَوْقَ شَرَارٍ وَمَرَامًا أَبْغِي وَظُلْمِي يُرَامُ؟!
دُونَ أَنْ يَشْرَقَ الْحِجَازُ وَنَجْدٌ وَالْعِرْاقَانِ بِالْقَنَا وَالشَّآمُ
شَرَقَ الْجَوِّ بِالْغُبَارِ إِذَا سَا رَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْقَمْقَامُ٥٨٢
الْأَدِيبُ الْمُهَذَّبُ الْأَصْيَدُ الضَّرْ بُ الذَّكِيُّ الْجَعْدُ السَّرِيُّ الْهُمَامُ٥٨٣
وَالَّذِي رَيْبُ دَهْرِهِ مِنْ أُسَارَا هُ وَمِنْ حَاسِدِي يَدَيْهِ الْغَمَامُ٥٨٤
يَتَدَاوَى مِنْ كَثْرَةِ المَالِ بِالْإِقـْ ـلَالِ جُودًا كَأَنَّ مَالًا سَقَامُ٥٨٥
حَسَنٌ فِي عُيُونِ أَعْدَائِهِ أَقـْ ـبَحُ مِنْ ضَيْفِهِ رَأَتْهُ السَّوَامُ٥٨٦
لَوْ حَمَى سَيِّدًا مِنَ الْمَوْتِ حَامٍ لَحَمَاكَ الْإِجْلَالُ وَالْإِعْظَامُ٥٨٧
وَعَوَارٍ لَوَامِعٌ دِينُهَا الْحِلـْ ـلُ وَلَكِنَّ زِيَّهَا الْإِحْرَامُ٥٨٨
كُتِبَتْ فِي صَحَائِفِ الْمَجْدِ: بِسْمٌ ثُمَّ قَيْسٌ وَبَعْدَ قَيْسِ السَّلَامُ٥٨٩
إِنَّمَا مُرَّةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدٍ لَجَمَرَاتٌ لَا تَشْتَهِيهَا النَّعَامُ٥٩٠
لَيْلُهَا صُبْحُهَا مِنَ النَّارِ وَالْإِصـْ ـبَاحُ لَيْلٌ مِنَ الدُّخَانِ تِمَامُ٥٩١
هِمَمٌ بَلَّغَتْكُمُ رُتَبَاتٍ قَصُرَتْ عَنْ بُلُوغِهَا الْأَوْهَامُ
وَنُفُوسٌ إِذَا انْبَرَتْ لِقِتَالٍ نَفِدَتْ قَبْلَ يَنْفَدُ الْإِقْدَامُ٥٩٢
وَقُلُوبٌ مُوَطَّنَاتٌ عَلَى الرَّوْ عِ كَأَنَّ اقْتِحَامَهَا اسْتِسْلَامُ٥٩٣
قَائِدُو كُلِّ شَطْبَةٍ وَحِصَانٍ قَدْ بَراهَا الْإِسْرَاجُ وَالْإِلْجَامُ٥٩٤
يَتَعَثَّرْنَ بِالرُّءُوسِ كَمَا مَرْ رَ بِتَاءَاتِ نُطْقِهِ التَّمْتَامُ٥٩٥
طَالَ غِشْيَانُكَ الكَرَائِهَ حَتَّى قَالَ فِيكَ الَّذِي أَقُولُ الْحُسَامُ٥٩٦
وَكَفَتْكَ الصَّفَائِحُ النَّاسَ حَتَّى قَدْ كَفَتْكَ الصَّفَائِحَ الْأَقْلَامُ٥٩٧
وَكَفَتْكَ التَّجَارِبُ الْفِكْرَ حَتَّى قَدْ كَفَاكَ التَّجَارِبَ الْإِلْهَامُ٥٩٨
فَارِسٌ يَشْتَرِي بِرَازَكَ لِلْفَخـْ ـرِ بِقَتْلٍ مُعَجَّلٍ لَا يُلَامُ٥٩٩
نَائِلٌ مِنْكَ نَظْرَةً سَاقَهُ الْفَقـْ ـرُ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ إِنْعَامُ٦٠٠
خَيْرُ أَعْضَائِنَا الرُّءُوسُ وَلَكِنْ فَضَلَتْهَا بِقَصْدِكَ الْأَقْدَامُ٦٠١
قَدْ لَعَمْرِي أَقْصَرْتُ عَنْكَ وَلِلْوَفـْ ـدِ ازْدِحَامٌ وَلِلْعَطَايَا ازْدِحَامُ٦٠٢
خِفْتُ إِنْ صِرْتُ فِي يَمِينِكَ أَنْ تَأْ خُذَنِي في هِبَاتِكَ الْأَقْوَامُ٦٠٣
وَمِنَ الرُّشْدِ لَمْ أَزُرْكَ عَلَى الْقُرْ بِ، عَلَى الْبُعْدِ يُعْرَفُ الْإِلْمَامُ٦٠٤
وَمِنَ الْخَيْرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عَنِّي أَسْرَعُ السُّحْبِ فِي الْمَسِيرِ الْجَهَامُ٦٠٥
قُلْ فَكَمْ مِنْ جَوَاهِرٍ بِنِظَامٍ وُدُّهَا أَنَّهَا بِفِيكَ كَلَامُ!٦٠٦
هَابَكَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَلَوْ تَنـْ ـهَاهُمَا لَمْ تَجُزْ بِكَ الْأَيَّامُ٦٠٧
حَسْبُكَ اللهُ مَا تَضِلُّ عَنِ الْحَقـْ ـقِ وَمَا يَهْتَدِي إِلَيْكَ أَثَامُ٦٠٨
لِمَ لَا تَحْذَرُ الْعَوَاقِبَ فِي غَيـْ ـرِ الدَّنَايَا أَمَا عَلَيْكَ حَرَامُ؟!٦٠٩
كَمْ حَبِيبٍ لَا عُذْرَ فِي اللَّوْمِ فِيهِ لَكَ فِيهِ مِنَ التُّقَى لُوَّامُ!٦١٠
رَفَعَتْ قَدْرَكَ النَّزَاهَةُ عَنْهُ وَثَنَتْ قَلْبَكَ المَسَاعِي الْجِسَامُ٦١١
إِنَّ بَعْضًا مِنَ الْقَرِيضِ هُذَاءٌ لَيْسَ شَيْئًا وَبَعْضَهُ أَحْكَامُ٦١٢
مِنْهُ مَا يَجْلُبُ الْبَرَاعَةُ والفَضـْ ـلُ ومِنْهُ مَا يَجْلُبُ الْبِرْسَامُ٦١٣
وورد على أبي الطيب كتاب من جدته لأمه تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها، فتوجه نحو العراق، ولم يمكنه وصول الكوفة على حالته تلك، فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته قد يئست منه، فكتب إليها كتابًا يسألها المسيرَ إليه، فقبَّلت كتابه، وحُمَّت لوقتها سرورًا به، وغلب الفرح على قبلها فقتلها، فقال يرثيها:
أَلَا لَا أُرِي الْأَحْدَاثَ حَمْدًا وَلَا ذَمًّا فَمَا بَطْشُها جَهْلًا وَلَا كَفُّهَا حِلْمَا٦١٤
إِلَى مِثْلِ مَا كَانَ الفَتَى مَرْجِعُ الْفَتَى يَعُودُ كَمَا أُبْدِي وَيُكْرِي كَمَا أَرْمَى٦١٥
لَكِ اللهُ مِنْ مَفْجُوعَةٍ بِحَبِيبِهَا قَتِيلَةِ شَوْقٍ غَيْرِ مُلْحِقِهَا وَصْمَا٦١٦
أَحِنُّ إِلَى الْكَأْسِ الَّتِي شَرِبَتْ بِهَا وَأَهْوَى لِمَثْوَاهَا التُّرَابَ وَمَا ضَمَّا٦١٧
بَكَيْتُ عَلَيْهَا خِيفَةً فِي حَيَاتِهَا وَذَاقَ كِلَانَا ثُكْلَ صَاحِبِهِ قِدْمَا٦١٨
وَلَوْ قَتَلَ الْهَجْرُ الْمُحِبِّينَ كُلَّهُمْ مَضَى بَلَدٌ بَاقٍ أَجَدَّتْ لَهُ صَرْمَا٦١٩
عَرَفْتُ اللَّيَالِي قَبْلَ مَا صَنَعَتْ بِنَا فَلَمَّا دَهَتْنِي لَمْ تَزِدْنِي بِهَا عِلْمَا٦٢٠
مَنَافِعُهَا مَا ضَرَّ فِي نَفْعِ غَيْرِهَا تَغَذَّى وَتَرْوَى أَنْ تَجُوعَ وَأَنْ تَظْمَا٦٢١
أَتَاهَا كِتَابِي بَعْدَ يَأْسٍ وَتَرْحَةٍ فَمَاتَتْ سُرُورًا بي فَمُتُّ بِهَا غَمَّا٦٢٢
حَرَامٌ عَلَى قَلْبِي السُّرُورُ فَإِنَّنِي أَعُدُّ الَّذِي مَاتَتْ بِهِ بَعْدَهَا سُمَّا٦٢٣
تَعَجَّبُ مِنْ خَطِّي وَلَفْظِي كَأَنَّهَا تَرَى بِحُرُوفِ السَّطْرِ أَغْرِبَةً عُصْمَا٦٢٤
وَتَلْثَمُهُ حَتَّى أَصَارَ مِدَادُهُ مَحَاجِرَ عَيْنَيْهَا وَأَنْيَابَهَا سُحْمَا٦٢٥
رَقَا دَمْعُهَا الْجَارِي وَجَفَّتْ جُفُونُهَا وَفَارَقَ حُبِّي قَلْبَهَا بَعْدَ مَا أَدْمَى٦٢٦
وَلَمْ يُسْلِهَا إِلَّا المَنَايَا وَإِنَّمَا أَشَدُّ مِنَ السُّقْمِ الَّذِي أَذْهَبَ السُّقْمَا٦٢٧
طَلَبْتُ لَهَا حَظًّا فَفَاتَتْ وَفَاتَنِي وَقَدْ رَضِيَتْ بِي لَوْ رَضِيتُ بِهَا قِسْمَا٦٢٨
فَأَصْبَحْتُ أَسْتَسْقِي الْغَمَامَ لِقَبْرِهَا وَقَدْ كُنْتُ أَسْتَسْقِي الْوَغَى وَالْقَنَا الصُّمَّا٦٢٩
وَكُنْتُ قُبَيْلَ الْمَوْتِ أَسْتَعْظِمُ النَّوَى فَقَدْ صَارَتِ الصُّغْرَى الَّتي كَانَتِ الْعُظْمَى٦٣٠
هَبِينِي أَخَذْتُ الثَّأْرَ فِيكِ مِنَ الْعِدَا فَكَيْفَ بِأَخْذِ الثَّأْرِ فِيكِ مِنَ الْحُمَّى؟!٦٣١
وَمَا انْسَدَّتِ الدُّنْيَا عَلَيَّ لِضِيقِهَا وَلَكِنَّ طَرْفًا لَا أَرَاكِ بِهِ أَعْمَى٦٣٢
فَوَا أَسَفَا أنْ لَا أُكِبَّ مُقَبِّلًا لِرَأْسِكِ وَالصَّدْرِ اللَّذَيْ مُلِئَا حَزْمَا٦٣٣
وَأَنْ لَا أُلَاقِي رُوحَكِ الطَّيِّبَ الَّذِي كَأَنَّ ذَكِيَّ المِسْكِ كَانَ لَهُ جِسْمَا٦٣٤
وَلَوْ لَمْ تَكُونِي بِنْتَ أَكْرَمِ وَالِدٍ لَكَانَ أَبَاكِ الضَّخْمَ كَوْنُكِ لِي أُمَّا٦٣٥
لَئِنْ لَذَّ يَوْمُ الشَّامِتِينَ بِيَوْمِهَا فَقَدْ وَلَدَتْ مِنِّي لِأَنْفِهِمِ رَغْمَا٦٣٦
تَغَرَّبَ لَا مُسْتَعْظِمًا غَيْرَ نَفْسِهِ وَلَا قَابِلًا إِلَّا لِخَالِقِهِ حُكْمَا٦٣٧
وَلَا سَالِكًا إِلَّا فُؤَادَ عَجَاجَةٍ وَلَا وَاجِدًا إِلَّا لِمَكْرُمَةٍ طَعْمَا٦٣٨
يَقُولُونَ لِي: مَا أَنْتَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ؟ وَمَا تَبْتَغِي؟ مَا أَبْتَغِي جَلَّ أَنْ يُسْمَى٦٣٩
كَأَنَّ بَنِيهِمْ عَالِمُونَ بِأَنَّنِي جَلُوبٌ إِلَيْهِمْ مِنْ مَعَادِنِهِ الْيُتْمَا٦٤٠
وَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ فِي يَدِي بِأَصْعَبَ مِنْ أَنْ أَجْمَعَ الْجَدَّ وَالْفَهْمَا٦٤١
وَلَكِنَّنِي مُسْتَنْصِرٌ بِذُبَابِهِ وَمُرْتَكِبٌ فِي كُلِّ حَالٍ بِهِ الْغَشْمَا٦٤٢
وَجَاعِلُهُ يَوْمَ اللِّقَاءِ تَحِيَّتِي وَإِلَّا فَلَسْتُ السَّيِّدَ الْبَطَلَ القَرْمَا٦٤٣
إِذَا فَلَّ عَزْمِي عَنْ مَدًى خَوْفُ بُعْدِهِ فَأَبْعَدُ شَيْءٍ مُمْكِنٌ لَمْ يَجِدْ عَزْمَا٦٤٤
وَإِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ كَأَنَّ نُفُوسَنَا بِهَا أَنَفٌ أَنْ تَسْكُنَ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَا٦٤٥
كَذَا أَنَا يَا دُنْيَا إِذَا شِئْتِ فَاذْهَبِي وَيَا نَفْسُ زِيدِي فِي كَرَائِهِهَا قُدْمَا٦٤٦
فَلَا عَبَرَتْ بِي سَاعَةٌ لَا تُعِزُّنِي وَلَا صَحِبَتْني مُهْجَةٌ تَقْبَلُ الظُّلْمَا٦٤٧
وقال يمدح الأمير أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة، وكان أبو محمد قد كثرت مراسلته إلى أبي الطيب من الرملة، فسار إليه، فلما دخل الرملة أكرمه أبو محمد فمدحه بهذه القصيدة:
أَنَا لَائِمي إِنْ كُنْتُ وَقْتَ اللَّوَائِمِ عَلِمْتُ بِمَا بِي بَيْنَ تِلكَ الْمَعَالِمِ٦٤٨
وَلَكِنَّنِي مِمَّا شُدِهْتُ مُتَيَّمٌ كَسَالٍ وَقَلْبِي بَائِحٌ مِثْلُ كَاتِمِ٦٤٩
وَقَفْنَا كَأَنَّا كُلُّ وَجْدِ قُلُوبِنَا تَمَكَّنَ مِنْ أَذْوَادِنَا فِي الْقَوَائِمِ٦٥٠
وَدُسْنَا بِأَخْفَافِ الْمَطِيِّ تُرَابَهَا فَلَا زِلْتُ أَسْتَشْفِي بِلَثْمِ الْمَنَاسِمِ٦٥١
دِيَارُ اللَّوَاتِي دَارُهُنَّ عَزِيزَةٌ بِطُولِ الْقَنَا يُحْفَظْنَ لَا بِالتَّمَائِمِ٦٥٢
حِسَانُ التَّثَنِّي يَنْقُشُ الْوَشْيُ مِثْلَهُ إِذَا مِسْنَ فِي أَجْسَامِهِنَّ النَّوَاعِمِ٦٥٣
وَيَبْسِمْنَ عَنْ دُرٍّ تَقَلَّدْنَ مِثْلَهُ كَأَنَّ التَّرَاقِي وُشِّحَتْ بِالْمَبَاسِمِ٦٥٤
فَمَا لِي وَلِلدُّنْيَا طِلَابِي نُجُومُهَا وَمَسْعَايَ مِنْهَا فِي شُدُوقِ الْأَرَاقِمِ؟!٦٥٥
مِنَ الْحِلْمِ أنْ تَسْتَعْمِلَ الْجَهْلَ دُونَهُ إِذَا اتَّسَعَتْ فِي الْحِلْمِ طُرْقُ الْمَظَالِمِ٦٥٦
وَأَنْ تَرِدَ الْمَاءَ الَّذِي شَطْرُهُ دَمٌ فَتُسْقَى إِذَا لَمْ يُسْقَ مَنْ لَمْ يُزَاحِمِ٦٥٧
وَمَنْ عَرَفَ الْأَيَّامَ مَعْرِفَتِي بِهَا وَبِالنَّاسِ رَوَّى رُمْحَهُ غَيْرَ رَاحِمِ
فَلَيْسَ بِمَرْحُومٍ إِذَا ظَفِرُوا بِهِ وَلَا فِي الرَّدَى الْجَارِي عَلَيْهِم بِآثِمِ٦٥٨
إِذَا صُلْتُ لَمْ أَتْرُكْ مَصَالًا لِصَائِلٍ وَإِنْ قُلْتُ لَمْ أَتْرُكْ مَقَالًا لِعَالِمِ٦٥٩
وَإِلَّا فَخَانَتْنِي الْقَوَافِي وَعَاقَنِي عَنْ ابْنِ عُبَيْدِ اللهِ ضُعْفُ الْعَزَائِمِ٦٦٠
عَنِ الْمُقْتَنِي بَذْلَ التَّلَادِ تِلَادَهُ وَمُجْتَنِبِ الْبُخْلِ اجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ٦٦١
تَمَنَّى أَعَادِيهِ مَحَلَّ عُفَاتِهِ وَتَحْسُدُ كَفَّيْهِ ثِقَالُ الْغَمَائِمِ٦٦٢
وَلَا يَتَلَقَّى الْحَرْبَ إِلَّا بِمُهْجَةٍ مُعَظَّمَةٍ مَذْخُورَةٍ لِلْعَظَائِمِ٦٦٣
وَذِي لَجَبٍ لَا ذُو الْجَنَاحِ أَمَامَهُ بِنَاجٍ وَلَا الْوَحْشُ الْمُثَارُ بِسَالمِ٦٦٤
تَمُرُّ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهْيَ ضَعِيفَةٌ تُطَالِعُهُ مِنْ بَيْنِ رِيشِ الْقَشَاعِمِ٦٦٥
إِذَا ضَوْءُهَا لَاقَى مِنَ الطَّيْرِ فُرْجَةً تَدَوَّرَ فَوْقَ البَيْضِ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ٦٦٦
وَيَخْفَى عَلَيْكَ الْبَرْقُ وَالرَّعْدُ فَوْقَهُ مِنَ اللَّمْعِ فِي حَافَاتِهِ وَالْهَمَاهِمِ٦٦٧
أَرَى دُونَ مَا بَيْنَ الْفُرَاتِ وَبَرْقَةٍ ضِرَابًا يُمَشِّي الْخَيْلَ فَوْقَ الْجَمَاجِمِ٦٦٨
وَطَعْنَ غَطَارِيفٍ كَأَنَّ أَكُفَّهُمْ عَرَفْنَ الرُّدَيْنِيَّاتِ قَبْلَ الْمَعَاصِمِ٦٦٩
حَمَتْهُ عَلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ سُيُوفُ بَنِي طُغْجِ بْنِ جُفِّ الْقَمَاقِمِ٦٧٠
هُمُ الْمُحْسِنُونَ الْكَرَّ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى وَأَحْسَنُ مِنْهُ كَرُّهُمْ فِي الْمَكَارِمِ٦٧١
وَهُمْ يُحْسِنُونَ الْعَفْوَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ وَيَحْتَمِلُونَ الْغُرْمَ عَنْ كُلِّ غَارِمِ٦٧٢
حَيِيُّونَ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي نِزَالِهِمْ أَقَلُّ حَيَاءً مِنْ شِفَارِ الصَّوَارِمِ٦٧٣
وَلَوْلَا احْتِقَارُ الْأُسْدِ شَبَّهْتُهَا بِهِمْ وَلكِنَّهَا مَعْدُودَةٌ فِي الْبَهَائِمِ٦٧٤
سَرَى النَّوْمُ عَنِّي فِي سُرَايَ إِلَى الَّذِي صَنَائِعُهُ تَسْرِي إِلَى كُلِّ نَائِمِ٦٧٥
إِلَى مُطْلِقِ الْأَسْرَى وَمُخْتَرِمِ الْعِدَا وَمُشْكِي ذَوِي الشَّكْوَى وَرَغْمِ الْمُرَاغِمِ٦٧٦
كَرِيمٌ نَفَضْتُ النَّاسَ لَمَّا بَلَغْتُهُ كَأَنَّهُمْ مَا جَفَّ مِنْ زَادِ قَادِمِ٦٧٧
وَكَادَ سُرُورِي لَا يَفِي بِنَدَامَتِي عَلَى تَرْكِهِ فِي عُمْرِيَ المُتَقَادِمِ٦٧٨
وَفَارَقْتُ شَرَّ الْأَرْضِ أَهْلًا وَتُرْبَةً بِهَا عَلَوِيٌّ جَدُّهُ غَيْرُ هَاشِمِ٦٧٩
بَلَى اللهُ حُسَّادَ الْأَمِيرِ بِحِلْمِهِ وَأَجْلَسَهُ مِنْهُمْ مَكَانَ الْعَمَائِمِ٦٨٠
فَإِنَّ لَهُمْ فِي سُرْعَةِ الْمَوْتِ رَاحَةً وَإِنَّ لَهُمْ فِي الْعَيْشِ حَزَّ الْغَلَاصِمِ٦٨١
كَأَنَّكَ مَا جَاوَدْتَ مَنْ بَانَ جُودُهُ عَلَيْكَ وَلَا قَاتَلْتَ مَنْ لَمْ تُقَاوِمِ٦٨٢
وأقسم عليه أبو محمد أن يشرب فأخذ الكأس، وقال ارتجالًا:
حُيِّيتَ مِنْ قَسَمٍ وَأَفْدِي الْمُقْسِمَا أَمْسى الْأَنَامُ لَهُ مُجِلًّا مُعْظِمَا٦٨٣
وَإِذَا طَلبْتُ رِضَا الْأَمِيرِ بِشُرْبِهَا وَأَخَذْتُهَا فَلَقَدْ تَرَكْتُ الْأَحْرَمَا٦٨٤
وحدث أبو محمد عن مسيرهم في الليل لكبس بادية وأن المطر أصابهم، فقال:
غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ لَكَ الْإِقْدَامُ فَلِمَنْ ذَا الْحَدِيثُ وَالْإعْلَامُ؟!
قَدْ عَلِمْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّكَ مَنْ لَمْ يَمْنَعِ اللَّيْلُ هَمَّهُ وَالْغَمَامُ٦٨٥
وقال، وقد كبست أَنطاكيَة فقتل مهره الطخْرور والْحِجْرُ أمه:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ٦٨٦
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ صَغِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ٦٨٧
ستَبْكِي شَجْوَهَا فَرَسِي وَمُهْرِي صَفَائِحُ دَمْعُهَا مَاءُ الْجُسُومِ٦٨٨
قَرَبْنَ النَّارَ ثُمَّ نَشَانَ فِيهَا كَمَا نشأ الْعَذَارَى فِي النَّعِيمِ٦٨٩
وَفَارَقْنَ الصَّيَاقِلَ مُخْلَصَاتٍ وَأَيْدِيهَا كَثِيرَاتُ الْكُلُومِ٦٩٠
يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْعَجْزَ عَقْلٌ وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ٦٩١
وَكُلُّ شَجَاعَةٍ فِي الْمَرْءِ تُغْنِي وَلَا مِثْلَ الشَّجَاعَةِ فِي الْحَكِيمِ٦٩٢
وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا وآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ!٦٩٣
وَلكِنْ تَاخُذُ الآذانُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الْقَرَائِحِ وَالْعُلُومِ٦٩٤
وسار أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية في سنة ست وثلاثين، فنزل بطرابلس وبها إسحاق بن إبراهيم الأعور بن كيغلغ. وكان جاهلًا، وكان يجالسه ثلاثة نفر من بني حيدرة، وكان بينه وبين أبي الطيب عداوة قديمة، فقالوا له: أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك؟! وجعلوا يغرونه، فراسله أن يمدحه، فاحتج عليه بيمين لحقته لا يمدح أحدًا إلى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها. ومات النفر الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يومًا، فهجاه أبو الطيب، وأملاها على من يثق به. فلما ذاب الثلج خرج كأنه يسير فرسه وسار إلى دمشق، فأتبعه ابن كيغلغ خيلًا ورجلًا، فأعجزهم وظهرت القصيدة، وهي:
لِهَوَى النُّفُوسِ سَرِيرَةٌ لَا تُعْلَمُ عَرَضًا نَظَرْتُ وَخِلْتُ أَنِّي أَسْلَمُ٦٩٥
يَا أُخْتَ مُعْتَنِقِ الْفَوَارِسِ فِي الْوَغَى لَأَخُوكِ ثَمَّ أَرَقُّ مِنْكِ وَأَرْحَمُ
يَرْنُو إِلَيْكِ مَعَ الْعَفَافِ وَعِنْدَهُ أَنَّ الْمَجُوسَ تُصِيبُ فِيمَا تَحْكُمُ٦٩٦
رَاعَتْكِ رَائِعَةُ البَيَاضِ بِعَارضِي وَلَوَ انَّهَا الْأُولَى لَرَاعَ الْأَسْحَمُ٦٩٧
لَوْ كَانَ يُمْكِنُنِي سَفَرْتُ عَنِ الصِّبَا فَالشَّيْبُ مِنْ قَبْلِ الْأَوَانِ تَلَثُّمُ٦٩٨
وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْحَادِثَاتِ فَلَا أَرَى يَقَقًا يُمِيتُ وَلَا سَوَادًا يَعْصِمُ٦٩٩
وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ٧٠٠
ذُو الْعَقْلِ يَشْقَى فِي النَّعِيمِ بِعَقْلِهِ وَأَخُو الْجَهَالَةِ فِي الشَّقَاوَةِ يَنْعَمُ٧٠١
وَالنَّاسُ قَدْ نَبَذُوا الْحِفَاظَ فَمُطْلَقٌ يَنْسَى الَّذِي يُولَى وَعَافٍ يَنْدَمُ٧٠٢
لَا يَخْدَعَنَّكَ مِنْ عَدُوٍّ دَمْعُهُ وَارْحَمْ شَبَابَكَ مِنْ عَدُوٍّ تَرْحَمُ٧٠٣
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ٧٠٤
يُؤْذِي الْقَلِيلُ مِنَ اللِّئَامِ بِطَبْعِهِ مَنْ لَا يَقِلُّ كَمَا يَقِلُّ وَيَلْؤُمُ٧٠٥
الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ٧٠٦
يَحْمِي ابْنَ كَيْغَلَغَ الطَّرِيقَ وَعِرْسُهُ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهَا الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ٧٠٧
أَقِمِ المَسَالِحَ فَوْقَ شُقْرِ سُكَيْنَةٍ إِنَّ المَنِيَّ بِحَلْقَتَيْهَا خِضرِمُ٧٠٨
وَارْفُقْ بِنَفْسِكَ إِنَّ خَلْقَكَ نَاقِصٌ وَاسْتُرْ أَبَاكَ فَإِنَّ أَصْلَكَ مُظْلِمُ٧٠٩
وَغِنَاكٌ مَسْأَلَةٌ وَطَيْشُكَ نَفْخَةٌ وَرِضَاكَ فَيْشَلَةٌ وَرَبُّكَ دِرْهَمُ٧١٠
وَاحْذَرْ مُنَاوَاةَ الرِّجَالِ فَإِنَّمَا تَقْوَى عَلَى كَمَرِ الْعَبِيدِ وَتُقْدِمُ٧١١
وَمِنَ البَلِيَّةِ عَذْلُ مَنْ لَا يَرْعَوِي عَنْ غَيِّهِ وَخِطَابُ مَنْ لَا يَفْهَمُ٧١٢
يَمْشِي بِأَرْبَعَةٍ عَلَى أَعْقَابِهِ تَحْتَ الْعُلُوجِ وَمِنْ وَرَاءٍ يُلْجَمُ٧١٣
وَجُفُونُهُ مَا تَسْتَقِرُّ كَأَنَّهَا مَطْرُوفَةٌ أَوْ فُتَّ فِيهَا حِصْرِمُ٧١٤
وَإِذَا أَشَارَ مُحَدِّثًا فَكَأَنَّهُ قِرْدٌ يُقَهْقِهُ أَوْ عَجُوزٌ تَلْطِمُ٧١٥
يَقْلِي مُفَارَقَةَ الْأَكُفِّ قَذَالُهُ حَتَّى يَكَادَ عَلَى يَدٍ يَتَعَمَّمُ٧١٦
وَتَرَاهُ أَصْغَرَ مَا تَرَاهُ نَاطِقًا وَيَكُونُ أَكْذَبَ مَا يَكُونُ وَيُقْسِمُ٧١٧
وَالذُّلُّ يُظْهِرُ فِي الذَّلِيلِ مَوَدَّةً وَأَوَدُّ مِنْهُ لِمَنْ يَوَدُّ الْأَرْقَمُ٧١٨
وَمِنَ الْعَدَاوَةِ مَا يَنَالُكَ نَفْعُهُ وَمِنَ الصَّدَاقَةِ مَا يَضُرُّ وَيُؤْلِمُ٧١٩
أَرْسَلْتَ تَسْأَلُنِي الْمَدِيحَ سَفَاهَةً صَفْرَاءُ أَضْيَقُ مِنْكَ مَاذَا أَزْعُمُ؟!٧٢٠
أَتُرَى الْقِيَادَة فِي سِوَاكَ تَكَسُّبًا يَا ابْنَ الْأُعَيِّرِ وَهْيَ فِيكَ تَكَرُّمُ٧٢١
فَلَشَدَّ مَا جَاوَزْتَ قَدْرَكَ صَاعِدًا وَلَشَدَّ مَا قَرُبَتْ عَلَيْكَ الْأَنْجُمُ٧٢٢
وَأَرَغْتَ مَا لِأَبِي الْعَشَائِرِ خَالِصًا إِنَّ الثَّنَاءَ لِمَنْ يُزَارُ فيُنْعِمُ٧٢٣
وَلِمَنْ أَقَمْتَ عَلَى الْهَوَانِ بِبَابِهِ تَدْنُو فَيُوجَأُ أَخْدَعَاكَ وَتُنْهَمُ٧٢٤
وَلِمَنْ يُهِينُ الْمَالَ وَهْوَ مُكَرَّمٌ وَلِمَنْ يَجُرُّ الْجَيْشَ وَهْوَ عَرَمْرَمُ٧٢٥
وَلِمَنْ إِذَا الْتَقَتِ الْكُمَاةُ بِمَأَزِقٍ فَنَصِيبُهُ مِنْهَا الكَمِيُّ المُعْلِمُ٧٢٦
وَلَرُبَّمَا أَطَرَ القَنَاةَ بِفَارِسٍ وَثَنَى فَقَوَّمَهَا بِآخَرَ مِنْهُمُ٧٢٧
وَالْوَجْهُ أَزْهَرُ وَالْفُؤَادُ مُشَيَّعٌ وَالرُّمْحُ أَسْمَرُ وَالْحُسَامُ مُصَمِّمُ٧٢٨
أَفْعَالُ مَنْ تَلِدُ الْكِرَامُ كَرِيمَةٌ وَفَعَالُ مَنْ تَلِدُ الْأَعَاجِمُ أَعْجَمُ٧٢٩
واجتاز ببعلبك فخلع عليه علي بن عسكر، وسأله أن يقيم عنده، وكان يريد السفر إلى أَنطاكيَة، فقال يستأذنه:
رَوِينَا يَا ابْنَ عَسْكَرٍ الْهُمَامَا وَلَمْ يَتْرُكْ نَدَاكَ بِنَا هُيَامَا٧٣٠
وَصَارَ أَحَبُّ مَا تُهْدِي إلَيْنَا لِغَيْرِ قِلًى وَدَاعَكَ وَالسَّلَامَا٧٣١
وَلَمْ نَمْلَلْ تَفَقُّدَكَ الْمَوَالِي وَلَمْ نَذْمُمْ أَيَادِيَكَ الْجِسَامَا٧٣٢
وَلَكِنَّ الْغُيُوثَ إِذَا تَوَالَتْ بِأَرْضِ مُسَافِرٍ كَرِهَ الْمُقَامَا٧٣٣
وكان مع أبي العشائر ليلًا على الشراب، فكلما أراد النهوض وهب له شيئًا، حتى وهب له ثيابًا وجارية ومهرًا فقال:
أَعَنْ إِذْنِي تَهُبُّ الرِّيحُ رَهْوًا وَيَسْرِي كُلَّمَا شِئْتُ الْغَمَامُ؟!٧٣٤
وَلَكِنَّ الْغَمَامَ لَهُ طِبَاعٌ تَبَجُّسُهُ بِهَا وَكَذَا الْكِرَامُ٧٣٥
وقال يمدح كافورًا، وقد أهدى إليه مهرًا أدهم في شهر ربيع الآخر سنة ٣٤٧ﻫ:
فِرَاقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيْرُ مُذَمَّمِ وَأَمٌّ وَمَنْ يَمَّمْتُ خَيْرُ مُيَمَّمِ٧٣٦
وَمَا مَنْزِلُ اللَّذَّاتِ عِنْدِي بِمَنْزِلٍ إِذَا لَمْ أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَرَّمِ٧٣٧
سَجِيَّةُ نَفْسٍ مَا تَزَالُ مُلِيحَةً مِنَ الضَّيْمِ مَرْمِيًّا بِهَا كُلُّ مَخْرِمِ٧٣٨
رَحَلْتُ فَكَمْ بَاكٍ بِأَجْفَانِ شَادِنٍ عَلَيَّ وَكَمْ بَاكٍ بِأَجْفَانِ ضَيْغَمِ!٧٣٩
وَمَا رَبَّةُ القُرْطِ الْمَلِيحِ مَكَانُهُ بِأَجْزَعَ مِنْ رَبِّ الْحُسَامِ الْمُصَمِّمِ٧٤٠
فَلَوْ كَانَ مَا بِي مِنْ حَبِيبٍ مُقَنَّعٍ عَذَرْتُ وَلَكِنْ مِنْ حَبِيبٍ مُعَمَّمِ٧٤١
رَمَى وَاتَّقَى رَمْيِي وَمِنْ دُونِ مَا اتَّقَى هَوًى كَاسِرٌ كَفِّي وَقَوْسِي وَأَسْهُمي٧٤٢
إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَّقَ مَا يَعتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ٧٤٣
وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عُدَاتِهِ وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ٧٤٤
أُصَادِقُ نَفْسَ الْمَرْءِ مِنْ قَبْلِ جِسْمِهِ وَأَعْرِفُهَا فِي فِعْلِهِ وَالتَّكَلُّمِ٧٤٥
وَأَحْلُمُ عَنْ خِلِّي وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَتَى أَجْزِهِ حِلْمًا عَلَى الْجَهْلِ يَنْدَمِ٧٤٦
وَإِنْ بَذَلَ الْإِنْسَانُ لِي جُودَ عَابِسٍ جَزَيْتُ بِجُودِ التَّارِكِ المُتَبَسِّمِ٧٤٧
وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ سَمَيْذَعٍ نَجِيبٍ كَصَدْرِ السَّمْهَرِيِّ الْمُقَوَّمِ٧٤٨
خَطَتْ تَحْتَهُ الْعِيسُ الْفَلَاةَ وَخَالَطَتْ بِهِ الْخَيْلُ كَبَّاتِ الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ٧٤٩
وَلَا عِفَّةٌ فِي سَيْفِهِ وَسِنَانِهِ وَلَكِنَّهَا فِي الْكَفِّ وَالْفَرْجِ وَالْفَمِ٧٥٠
وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجَمِيلِ بِفَاعِلٍ وَلَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ٧٥١
فِدًى لِأَبِي الْمِسْكِ الْكِرَامُ فَإِنَّهَا سَوَابِقُ خَيْلٍ يَهْتَدِينَ بِأدْهَمِ٧٥٢
أَغَرَّ بِمَجْدٍ قَدْ شَخَصْنَ وَرَاءَهُ إِلَى خُلُقٍ رَحْبٍ وَخَلْقٍ مُطَهَّمِ٧٥٣
إِذَا مَنَعَتْ مِنْكَ السِّيَاسَةُ نَفْسَهَا فَقِفْ وَقْفَةً قُدَّامَهُ تَتَعَلَّمِ٧٥٤
يَضِيقُ عَلَى مَنْ رَاءَهُ الْعُذْرُ أَنْ يُرَى ضَعِيفَ الْمَسَاعِي أَوْ قَلِيلَ التَّكَرُّمِ٧٥٥
وَمَنْ مِثْلُ كَافُورٍ إِذَا الْخَيْلُ أَحْجَمَتْ وَكَانَ قَلِيلًا مَنْ يَقُولُ لَهَا: اقْدُمِي٧٥٦
شَدِيدُ ثَبَاتِ الطِّرْفِ وَالنَّقْعُ وَاصِلٌ إِلَى لَهَوَاتِ الْفَارِسِ المُتَلَثِّمِ٧٥٧
أَبَا الْمِسْكِ أَرْجُو مِنْكَ نَصْرًا عَلَى الْعِدَا وآمُلُ عِزًّا يَخْضِبُ الْبِيضَ بِالدَّمِ٧٥٨
وَيَوْمًا يَغِيظُ الْحاسِدِينَ وَحَالَةً أُقِيمُ الشَّقَا فِيهَا مَقَامَ التَّنَعُّمِ٧٥٩
وَلَمْ أَرْجُ إِلَّا أَهْلَ ذَاكَ وَمَنْ يُرِدْ مَوَاطِرَ مِنْ غَيْرِ السَّحَائِبِ يَظْلِمِ٧٦٠
فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي مِصْرَ مَا سِرْتُ نَحْوَهَا بِقَلْبِ الْمَشُوقِ الْمُسْتَهَامِ الْمُتَيَّمِ٧٦١
وَلَا نَبَحَتْ خَيْلِي كلَابُ قَبَائِلٍ كَأَنَّ بِهَا فِي اللَّيلِ حَمْلَاتِ دَيْلَمِ٧٦٢
وَلَا اتَّبَعَتْ آثَارَنَا عَيْنُ قَائِفٍ فَلَمْ تَرَ إِلَّا حَافِرًا فَوْقَ مَنْسِمِ٧٦٣
وَسَمْنَا بِهَا الْبَيْدَاءَ حَتَّى تَغَمَّرَتْ مِنَ النِّيلِ وَاسْتَذْرَتْ بِظِلِّ الْمُقَطَّمِ٧٦٤
وَأَبْلَخَ يَعْصِي بِاخْتِصَاصِي مُشِيرَهُ عَصَيْتُ بِقَصْدِيهِ مُشِيرِي وَلُوَّمِي٧٦٥
فَسَاقَ إِلَيَّ الْعُرْفَ غَيْرَ مُكَدَّرٍ وَسُقْتُ إِلَيْهِ الشُّكْرَ غَيْرَ مُجَمْجَمِ٧٦٦
قَدِ اخْتَرْتُكَ الْأَمْلَاكَ فاخْتَرْ لَهُمْ بِنَا حَدِيثًا وَقَدْ حَكَّمْتُ رَأْيَكَ فَاحْكُمِ٧٦٧
فَأَحْسَنُ وَجْهٍ فِي الْوَرَى وَجْهُ مُحْسِنٍ وَأَيْمَنُ كَفٍّ فِيهِمِ كَفُّ مُنْعِمِ٧٦٨
وَأَشرَفُهُمْ مَنْ كَانَ أَشْرَفَ هِمَّةً وَأَكْبَرَ إِقْدَامًا عَلَى كُلِّ مُعْظَمِ٧٦٩
لِمَنْ تَطْلُبُ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تُرِدْ بِهَا سُرُورَ مُحِبٍّ أَوْ إِسَاءَةَ مُجْرِمِ؟!٧٧٠
وَقَدْ وَصَلَ الْمُهْرُ الَّذِي فَوْقَ فَخْذِهِ مِنِ اسْمِكَ مَا فِي كُلِّ عُنْقٍ وَمِعْصَمِ٧٧١
لَكَ الْحَيَوَانُ الرَّاكِبُ الْخَيْلَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانَ بِالنِّيرَانِ غَيْرَ مُوَسَّمِ٧٧٢
وَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي كَمْ حَيَاتِي قَسَمْتُهَا وَصَيَّرْتُ ثُلْثَيْهَا انْتِظَارَكَ فَاعْلَمِ٧٧٣
وَلَكِنَّ مَا يَمْضِي مِنَ الْعُمْرِ فَائِتٌ فَجُدْ لِي بِخَطِّ الْبَادِرِ الْمُتَغَنِّمِ٧٧٤
رَضِيتُ بِمَا تَرْضَى بِهِ لِي مَحَبَّةً وَقُدْتُ إِلَيْكَ النَّفْسَ قَوْدَ الْمُسَلِّمِ٧٧٥
وَمِثْلُكَ مَنْ كَانَ الْوَسِيطَ فُؤَادُهُ فَكَلَّمَهُ عَنِّي وَلَمْ أَتَكَلَّمِ٧٧٦
وقال يذكر حُمَّى كانت تغشاه بمصر ويعرض بالرحيل عن مصر، وذلك في ذي الحجة سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة:
مَلُومُكُمَا يَجِلُّ عَنِ المَلَامِ وَوَقْعُ فَعَالِهِ فَوْقَ الكَلام٧٧٧
ذَرَانِي وَالْفَلَاةَ بِلَا دَلِيلٍ وَوَجْهِي وَالْهَجِيرَ بِلَا لِثَامِ٧٧٨
فَإِنِّي أَسْتَرِيحُ بِذِي وَهَذَا وَأَتْعَبُ بِالْإِنَاخَةِ وَالمُقَامِ٧٧٩
عُيُونُ رَوَاحِلِي إِنْ حِرْتُ عَيْنِي وَكُلُّ بُغَامِ رَازِحَةٍ بُغَامِي٧٨٠
فَقَدْ أَرِدُ المِيَاهَ بِغَيْرِ هَادٍ سِوَى عَدِّي لَهَا بَرْقَ الْغَمَامِ٧٨١
يُذِمُّ لِمُهْجَتِي رَبِّي وَسَيْفِي إِذَا احْتَاجَ الوَحِيدُ إِلَى الذِّمَامِ٧٨٢
وَلَا أُمْسِي لِأَهْلِ الْبُخْلِ ضَيْفًا وَلَيْسَ قِرًى سِوَى مُخِّ النَّعَامِ٧٨٣
فَلَمَّا صَارَ وُدُّ النَّاسِ خِبًّا جَزَيْتُ عَلَى ابْتِسَامٍ بابْتِسَامِ٧٨٤
وَصِرْتُ أَشُكُّ فِيمَنْ أَصْطَفِيهِ لِعِلْمِي أَنَّهُ بَعْضُ الْأَنَامِ٧٨٥
يُحِبُّ الْعَاقِلُونَ عَلَى التَّصَافِي وَحُبُّ الْجَاهِلِينَ عَلَى الْوَسَامِ٧٨٦
وَآنَفُ مِنْ أَخِي لِأَبِي وَأُمِّي إِذَا مَا لَمْ أَجِدْهُ مِنَ الكِرَامِ٧٨٧
أَرَى الْأَجْدَادَ تَغْلِبُهَا كَثِيرًا عَلَى الْأَوْلَادِ أَخْلَاقُ اللِّئَامِ٧٨٨
وَلَسْتُ بِقَانِعٍ مِنْ كُلِّ فَضْلٍ بِأَنْ أُعْزَى إِلَى جَدٍّ هُمَامِ٧٨٩
عَجِبْتُ لِمَنْ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنْبُو نَبْوَةَ الْقَضِمِ الكَهَامِ٧٩٠
وَمَنْ يَجِدُ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَعَالِي فَلَا يَذَرُ الْمَطِيَّ بِلَا سَنَامِ٧٩١
وَلَمْ أرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ شَيْئًا كَنَقْصِ الْقَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ٧٩٢
أَقَمْتُ بِأَرْضِ مِصْرَ فَلَا وَرَائِي تَخُبُّ بِيَ الْمَطِيُّ وَلَا أَمَامِي٧٩٣
وَمَلَّنِيَ الْفِرَاشُ وَكَانَ جَنْبِي يَمَلُّ لِقَاءَهُ فِي كُلِّ عَامِ٧٩٤
قَلِيلٌ عَائِدِي سَقِمٌ فُؤَادِي كَثِيرٌ حَاسِدِي صَعْبٌ مَرَامِي٧٩٥
عَلِيلُ الْجِسْمِ مُمْتَنِعُ الْقِيَامِ شَدِيدُ السُّكْرِ مِنْ غَيرِ المُدَامِ٧٩٦
وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً فَلَيْسَ تَزُورُ إِلَّا فِي الظَّلِامِ٧٩٧
بَذَلْتُ لَهَا الْمَطَارِفَ وَالْحَشَايَا فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ فِي عِظَامِي٧٩٨
يَضِيقُ الْجِلْدُ عَنْ نَفَسِي وَعَنْهَا فَتُوسِعُهُ بِأَنْوَاعِ السِّقَامِ٧٩٩
إِذَا مَا فَارَقَتْنِي غَسَّلَتْنِي كَأَنَّا عَاكِفَانِ عَلَى حَرَامِ٨٠٠
كَأَنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فتَجْرِي مَدَامِعُهَا بِأَرْبَعَةٍ سِجَامِ٨٠١
أُرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ مُرَاقَبَةَ الْمَشُوقِ الْمُسْتَهَامِ٨٠٢
وَيَصْدُقُ وَعْدُهَا وَالصِّدْقُ شَرٌّ إِذَا أَلْقَاكَ فِي الْكُرَبِ الْعِظَامِ٨٠٣
أَبِنْتَ الدَّهْرِ عِنْدِي كُلُّ بِنْتٍ فَكَيْفَ وَصَلْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ؟!٨٠٤
جَرَحْتِ مُجَرَّحًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَكَانٌ لِلسُّيُوفِ وَلَا السِّهَامِ٨٠٥
أَلَا يَا لَيْتَ شِعْرَ يَدِي أتُمْسِي تَصَرَّفُ فِي عِنَانٍ أوْ زِمَامِ؟٨٠٦
وَهَلْ أَرْمِي هَوَايَ بِرَاقِصَاتٍ مُحَلَّاةِ الْمَقَاوِدِ باللُّغَامِ؟٨٠٧
فَرُبَّتَمَا شَفَيْتُ غَلِيلَ صَدْري بِسَيْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ حُسَامِ٨٠٨
وَضَاقَتْ خُطَّةٌ فَخَلَصْتُ مِنْهَا خَلَاصَ الْخَمْرِ مِنْ نَسْجِ الْفِدَامِ٨٠٩
وَفَارَقْتُ الْحَبِيبَ بِلَا وَدَاعٍ وَوَدَّعْتُ الْبِلَادَ بِلَا سَلَامِ٨١٠
يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ: أَكَلْتَ شَيْئًا وَدَاؤُكَ فِي شَرَابِكَ وَالطَّعَامِ
وَمَا فِي طِبِّهِ أَنِّي جَوَادٌ أَضَرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجِمَامِ٨١١
تَعَوَّدَ أَنْ يُغَبِّرَ فِي السَّرَايَا وَيَدْخُلَ مِنْ قَتَامٍ فِي قَتَامِ٨١٢
فَأُمْسِكَ لَا يُطَالُ لَهُ فيَرْعَى وَلَا هُوَ فِي العَلِيقِ وَلَا اللِّجَامِ٨١٣
فَإِنْ أَمْرَضْ فَمَا مَرِضَ اصْطِبَارِي وَإِنْ أُحْمَمْ فَمَا حُمَّ اعْتِزَامِي٨١٤
وَإِنْ أَسْلَمْ فَمَا أَبْقَى وَلَكِنْ سَلِمْتُ مِنَ الْحِمَامِ إِلَى الْحِمَامِ٨١٥
تَمَتَّعْ مِنْ سُهَادٍ أَوْ رُقَادٍ وَلَا تَأْمُلْ كَرًى تَحْتَ الرِّجَامِ٨١٦
فَإِنَّ لِثَالِثِ الْحَالَيْنِ مَعْنًى سِوَى مَعْنَى انْتِبَاهِكَ وَالْمَنَامِ٨١٧
وقال يهجو كافورًا:
مِنْ أَيَّةِ الطُّرْقِ يَأْتِي نَحْوَكَ الْكَرَمُ أَيْنَ الْمَحَاجِمُ يَا كَافُورُ وَالْجَلَمُ؟٨١٨
جَازَ الْأُلَى مَلَكَتْ كَفَّاكَ قَدْرَهُمُ فَعُرِّفُوا بِكَ أَنَّ الْكَلْبَ فَوْقَهُمْ٨١٩
لَا شَيْءَ أَقْبَحُ مِنْ فَحْلٍ لَهُ ذَكَرٌ تَقُودُه أَمَةٌ لَيْسَتْ لَهَا رَحِمُ٨٢٠
سَادَاتُ كُلِّ أُنَاسٍ مِنْ نُفُوسِهِمِ وَسَادَةُ الْمُسْلِمِينَ الْأَعْبُدُ الْقَزَمُ٨٢١
أَغَايَةُ الدِّينِ أَنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكُمْ يَا أُمَّةً ضَحِكَتْ مِنْ جَهْلِهَا الْأُمَمُ٨٢٢
أَلَا فَتًى يُورِدُ الْهِنْدِيَّ هَامَتَهُ كَيْمَا تَزُولَ شُكُوكُ النَّاسِ وَالتُّهَمُ٨٢٣
فَإِنَّهُ حُجَّةٌ يُؤْذِي القُلُوبَ بِهَا مَنْ دِينُهُ الدَّهْرُ وَالتَّعْطِيلُ وَالْقِدَمُ٨٢٤
مَا أَقْدَرَ اللهَ أَنْ يُخْزِي خَلِيقَتَهُ وَلَا يُصَدِّقَ قَوْمًا فِي الَّذِي زَعَمُوا٨٢٥
وقال يهجوه أيضًا:
أَمَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَرِيمُ تَزُولُ بِهِ عَنِ الْقَلْبِ الْهُمُومُ؟٨٢٦
أَمَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَكَانٌ يُسَرُّ بِأَهْلِهِ الْجَارُ الْمُقيمُ؟٨٢٧
تَشَابَهَتِ الْبَهَائِمُ وَالْعِبِدَّى عَلَيْنَا وَالْمَوَالِي وَالصَّمِيمُ٨٢٨
وَمَا أَدْرِي أَذَا دَاءٌ حَدِيثٌ أَصَابَ النَّاسَ أمْ دَاءٌ قَدِيمُ؟٨٢٩
حَصَلْتُ بِأَرْضِ مِصْرَ عَلَى عَبِيدٍ كَأَنَّ الحُرَّ بَيْنَهُمُ يَتِيمُ٨٣٠
كَأَنَّ الْأَسْوَدَ اللَّابِيَّ فِيهِمْ غُرَابٌ حَوْلَهُ رَخَمٌ وَبُومُ٨٣١
أُخِذْتُ بِمَدْحِهِ فَرَأَيْتُ لَهْوًا مَقَالِي لِلْأُحَيْمِقِ يَا حَلِيمُ٨٣٢
وَلَمَّا أَنْ هَجَوْتُ رَأَيْتُ عِيًّا مَقَالِي لِابْنِ آوَى يَا لَئِيمُ٨٣٣
فَهَلْ مِنْ عَاذِرٍ فِي ذَا وَفِي ذَا فَمَدْفُوعٌ إلَى السَّقَمِ السَّقِيمُ؟٨٣٤
إِذَا أَتَتِ الْإِسَاءَةُ مِنْ لَئِيمٍ وَلَمْ أَلُمِ الْمُسِيءَ فَمَنْ أَلُومُ؟!٨٣٥
ودخل عليه صديق له بالكوفة وبيده تفاحة ندٍّ عليها اسم فاتك، وكانت مما أهداه له، فاستحسنها الرجل، فقال المتنبي:
يُذَكِّرُنِي فَاتِكًا حِلْمُهُ وَشَيْءٌ مِنَ النَّدِّ فِيهِ اسْمُهُ٨٣٦
وَلَسْتُ بِنَاسٍ وَلَكِنَّنِي يُجَدِّدُ لِي رِيحَهُ شَمُّهُ٨٣٧
وَأَيَّ فَتًى سَلَبَتْنِي الْمَنُونُ وَلَمْ تَدْرِ مَا وَلَدَتْ أُمُّهُ!٨٣٨
وَلَا مَا تَضُمُّ إِلَى صَدْرِهَا وَلَوْ عَلِمَتْ هَالَهَا ضَمُّهُ٨٣٩
بِمِصْرَ مُلُوكٌ لَهُمْ مَا لَهُ وَلَكِنَّهُمْ مَا لَهُمْ هَمُّهُ٨٤٠
فَأَجْوَدُ مِنْ جُودِهِمْ بُخْلُهُ وَأَحْمَدُ مِنْ حَمْدِهِمْ ذَمُّهُ٨٤١
وَأَشْرَفُ مِنْ عَيْشِهِمْ مَوْتُهُ وَأَنْفَعُ مِنْ وَجْدِهِمْ عُدْمُهُ٨٤٢
وَإِنَّ مَنِيَّتَهُ عِنْدَهُ لَكَالْخَمْرِ سُقِّيَهُ كَرْمُهُ٨٤٣
فَذَاكَ الَّذِي عَبَّهُ مَاؤُهُ وَذَاكَ الَّذِي ذَاقَهُ طَعْمُهُ٨٤٤
وَمَنْ ضَاقَتِ الْأَرْضُ عَنْ نَفسِهِ حَرًى أَنْ يَضِيقَ بِهَا جِسْمُهُ٨٤٥
وقال يذكر مسيره من مصر ويرثي فاتكًا، وأنشأها يوم الثلاثاء لتسعٍ خلون من شعبان سنة ٣٥٢:
حَتَّامَ نَحْنُ نُسَارِي النَّجْمَ فِي الظُّلَمِ؟! وَمَا سُرَاهُ عَلَى خُفٍّ وَلَا قَدَمِ٨٤٦
وَلَا يُحِسُّ بِأَجْفَانٍ يُحِسُّ بِهَا فَقْدَ الرُّقَادِ غَرِيبٌ بَاتَ لَمْ يَنَمِ٨٤٧
تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أَوْجُهِنَا وَلَا تُسَوِّدُ بِيضَ العُذْرِ وَاللِّمَمِ٨٤٨
وَكَانَ حَالُهُمَا فِي الْحُكْمِ وَاحِدَةً لَوِ احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إِلَى حِكَمِ٨٤٩
وَنَتْرُكُ الْمَاءَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ سَفَرٍ مَا سَارَ في الْغَيْمِ مِنْهُ سَارَ فِي الْأَدَمِ٨٥٠
لَا أُبْغِضُ العِيسَ لَكِنِّي وَقَيْتُ بِهَا قَلْبِي مِنَ الْحُزْنِ أَوْ جِسْمِي مِنَ السَّقَمِ٨٥١
طَرَدْتُ مِنْ مِصْرَ أَيْدِيهَا بِأَرْجُلِهَا حَتَّى مَرَقْنَ بِنَا مِنْ جَوْشَ وَالْعَلَمِ٨٥٢
تَبْرِي لَهُنَّ نَعَامُ الدَّوِّ مُسْرَجَةً تُعَارِضُ الْجُدُلَ المُرْخَاةَ بِاللُّجُمِ٨٥٣
فِي غِلْمَةٍ أَخْطَرُوا أَرْوَاحَهُم وَرَضُوا بِمَا لَقِينَ رِضَا الْأَيْسَارِ بِالزَّلَمِ٨٥٤
تَبْدُو لَنَا كُلَّمَا أَلْقَوْا عَمَائِمَهُمْ عَمَائِمٌ خُلِقَتْ سُودًا بِلَا لُثُمِ٨٥٥
بِيضُ الْعَوَارِضِ طَعَّانُونَ مَنْ لَحِقُوا مِنَ الْفَوَارِسِ شَلَّالُونَ لِلنَّعَمِ٨٥٦
قَدْ بَلَّغُوا بِقَنَاهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِ وَلَيْسَ يَبلُغُ مَا فِيهِمْ مِنَ الْهِمَمِ٨٥٧
فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ مِنْ طِيبِهِنَّ بِهِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ٨٥٨
نَاشُوا الرِّمَاحَ وَكَانَتْ غَيْرَ نَاطِقَةٍ فَعَلَّمُوهَا صِيَاحَ الطَّيرِ فِي الْبُهَمِ٨٥٩
تَخْدِي الرِّكَابُ بِنَا بِيضًا مَشَافِرُهَا خُضْرًا فَرَاسِنُهَا فِي الرُّغْلِ وَالْيَنَمِ٨٦٠
مَكْعُومَةً بِسِيَاطِ الْقَوْمِ نَضْرِبُهَا عَنْ مَنْبِتِ الْعُشْبِ نَبْغِي مَنْبِتَ الْكَرَمِ٨٦١
وَأَيْنَ مَنْبِتُهُ مِنْ بَعْدِ مَنْبِتِهِ أَبِي شُجَاعٍ قَرِيعِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ؟!٨٦٢
لَا فَاتِكٌ آخَرٌ فِي مِصْرَ نَقْصِدُهُ وَلَا لَهُ خَلَفٌ فِي النَّاسِ كُلِّهِمِ٨٦٣
مَنْ لَا تُشَابِهُهُ الْأَحْيَاءُ فِي شِيَمٍ أَمْسَى تُشَابِهُهُ الْأَمْوَاتُ فِي الرِّمَمِ٨٦٤
عَدِمْتُهُ وَكَأَنِّي سِرْتُ أَطْلُبُهُ فَمَا تَزِيدُنِيَ الدُّنْيَا عَلَى الْعَدَمِ٨٦٥
مَا زِلْتُ أُضْحِكُ إِبْلِي كُلَّمَا نَظَرَتْ إِلَى مَنِ اختَضَبَتْ أَخْفَافُهَا بِدَمِ٨٦٦
أُسِيرُهَا بَيْنَ أَصْنَامٍ أُشَاهِدُهَا وَلَا أُشَاهِدُ فِيهَا عِفَّةَ الصَّنَمِ٨٦٧
حَتَّى رَجَعْتُ وَأَقْلَامِي قَوَائِلُ لِي أَلْمَجْدُ لِلسَّيْفِ لَيْسَ الْمَجْدُ لِلْقَلَمِ٨٦٨
اكْتُبْ بِنَا أَبَدًا بَعْدَ الْكِتَابِ بِهِ فَإِنَّمَا نَحْنُ لِلْأَسْيَافِ كَالْخَدَمِ٨٦٩
أَسْمَعْتِنِي وَدَوَائِي مَا أَشَرْتِ بِهِ فَإِنْ غَفَلْتُ فَدَائِي قِلَّةُ الْفَهَمِ٨٧٠
مَنِ اقْتَضَى بِسِوَى الْهِنْدِيِّ حَاجَتَهُ أَجَابَ كُلَّ سُؤَالٍ عَنْ هَلٍ بِلَمِ٨٧١
تَوَهَّمَ الْقَوْمُ أَنَّ الْعَجْزَ قَرَّبَنَا وَفِي التَّقَرُّبِ مَا يَدْعُو إِلَى التُّهَمِ٨٧٢
وَلَمْ تَزَلْ قِلَّةُ الْإِنْصَافِ قَاطِعَةً بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَوْ كَانُوا ذَوِي رَحِمِ٨٧٣
فَلَا زِيَارَةَ إِلَّا أَنْ تَزُورَهُمُ أَيْدٍ نَشَأْنَ مَعَ المَصْقُولَةِ الْخُذُمِ٨٧٤
مِنْ كُلِّ قَاضِيَةٍ بِالْمَوْتِ شَفْرَتُهُ مَا بَيْنَ مُنْتَقَمٍ مِنْهُ وَمُنْتَقِمِ٨٧٥
صُنَّا قَوَائِمَهَا عَنْهُمْ فَمَا وَقَعَتْ مَوَاقِعَ اللُّؤْمِ فِي الْأَيْدِي وَلَا الكَزَمِ٨٧٦
هَوِّنْ عَلَى بَصَرٍ مَا شَقَّ مَنْظَرُهُ فَإِنَّمَا يَقَظَاتُ الْعَيْنِ كَالْحُلُمِ٨٧٧
وَلَا تَشَكَّ إِلَى خَلْقٍ فَتُشْمِتَهُ شَكْوَى الْجَرِيحِ إِلَى الْغِرْبَانِ وَالرَّخَمِ٨٧٨
وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ لِلنَّاسِ تَسْتُرُهُ وَلَا يَغُرَّكَ مِنْهُمْ ثَغْرُ مُبْتَسِمِ٨٧٩
غَاضَ الْوَفَاءُ فَمَا تَلْقَاهُ فِي عِدَةٍ وَأَعْوَزَ الصِّدْقُ فِي الْإِخْبَارِ وَالْقَسَمِ٨٨٠
سُبْحَانَ خَالِقِ نَفْسِي كَيْفَ لذَّتُهَا فِيمَا النُّفُوسُ تَرَاهُ غَايَةَ الْأَلَمِ؟!٨٨١
الدَّهْرُ يَعْجَبُ مِنْ حَمْلِي نَوَائِبَهُ وَصَبْرِ جِسْمِي عَلَى أَحْدَاثِهِ الْحُطُمِ٨٨٢
وَقْتٌ يَضِيعُ وَعُمْرٌ لَيْتَ مُدَّتَهُ فِي غَيْرِ أُمَّتِهِ مِنْ سَالِفِ الْأُمَمِ٨٨٣
أَتَى الزَّمَانَ بَنُوهُ فِي شَبِيبَتِهِ فَسَرَّهُمْ وَأَتَيْنَاهُ عَلَى الْهَرَمِ٨٨٤
وقال يمدح عضد الدولة، وقد نثر عليهم الورد، وهم قيام بين يديه حتى غرقوا فيه:
قَدْ صَدَقَ الْوَرْدُ فِي الَّذِي زَعَمَا أَنَّكَ صَيَّرْتَ نَثْرَهُ دِيَمَا٨٨٥
كَأَنَّمَا مَائِجُ الْهَوَاءِ بِهِ بَحْرٌ حَوَى مِثْلَ مَائِهِ عَنَمَا٨٨٦
نَاثِرُهُ نَاثِرُ السُّيُوفِ دَمًا وَكُلَّ قَوْلٍ يَقُولُهُ حِكَمَا٨٨٧
وَالْخَيْلَ قَدْ فَصَّلَ الضِّياعَ بِهَا وَالنِّعَمَ السَّابِغَاتِ وَالنِّقَمَا٨٨٨
فَلْيُرِنَا الْوَرْدُ إِنْ شَكَا يَدَهُ أَحْسَنَ مِنْهُ مِنْ جُودِهِ سَلِمَا٨٨٩
وَقُلْ لَهُ: لَسْتَ خَيْرَ مَا نَثَرَتْ وَإِنَّمَا عَوَّذَتْ بِكَ الْكَرَمَا٨٩٠
خَوْفًا مِنَ الْعَيْنِ أَنْ يُصَابَ بِهَا أَصَابَ عَيْنًا بِهَا يُصَابُ عَمَى٨٩١
هوامش
(١) الفازة: مظلة تمد بعمود، وقال بعض اللغويين: هي بناء من خزف وغيرها تبنى في العساكر، والجمع فاز.
(٢) وفاؤكما كالربع: مبتدأ وخبر. وأشجاه: أي أشده شجوًا، من قولك: شجاني هذا الأمر؛ أي أحزنني. والطاسم: الطامس الدارس. و«بأن تُسعدا»: أي تساعدا وتعاونا، متعلق بوفاء، وذلك من الضرورات القبيحة؛ لأنه لا يجوز أن يتعلق بالمبتدأ بعد الإخبار عنه شيء. وسجم الدمع: سال وهطل. يخاطب خليليه اللذين عاهداه على أن يساعداه على البكاء عند ربع الأحبة، يقول لهما: إن وفاءكما بأن تساعداني على البكاء كهذا الربع، فإن الربع كلما تقادم عهده كان أشجى لزائره وأشد لحزنه؛ لأنه لا يتسلى به المحب، وكذلك وفاؤكما كلما ضعف وقل إسعادكما لي على البكاء اشتد حزني؛ إذ لا أجد من أتسلى به. ثم قال: والدمع أشفاه ساجمه، كأنه يقول: إن لي العذر في البكاء، أما أنتما فخليان؛ إذ لو كنتما محزونين مثلي لاستشفيتما بالدمع، كما هو شأن المحزون مثلي. يريد: ابكيا معي بدمع في غاية السجوم فهو أشفى للوجد، فإن الربع في غاية الطسوم وهو أشجى للمحب. وقال ابن جني: المعنى: كنت أبكي الربع وحده فصرت أبكي وفاءكما معه، ولذلك قال وفاؤكما كالربع: أي كلما ازددت بالربع وبوفائكما وجدًا، ازددت بكاء، ويروي: والدمعِ — بالجر — عطفًا على الربع، وعلى هذا يكون المعنى: وفاؤكما كالربع الدارس في الأدواء إذا لم تجريا عليه الدمع الساجم، وفي الشفاء إذا أجريتما عليه. وعبارة ابن القطاع: وفاؤكما لي بالإسعاد عفا ودرس كالربع الذي أشجاه للعين دارسه، فكنت أبكي الربع وحده فصرت أبكي معه وفاءكما وأشتفي بالدمع الذي هو راحة الإنسان وأشفاه للنفس ساجمه. وقال الإمام التبريزي: الشعراء وغيرهم يزعمون أن البكاء يجلو بعض الهم عن المكروب المحزون، قال الفرزدق:
ألم ترَ أني يوم جوِّ سُوَيقةٍ بَكيتُ فنادَتْنِي هُنيدةُ ما لِيَا
فقلتُ لها: إنَّ البكاءَ لراحَة به يَشْتفي من ظَنَّ أن لا تلاقيا
(مطلع إحدى قصائده، وهي أول قصيدة هجا بها جريرًا والبعيث.)
قال التبريزي: لامهما على البكاء، وأنهما لم يسعداه، قال: وذهب بعض الناس إلى أنه أراد بالمخاطبين عينيه. هذا، ولمناسبة «أشجاه» روى الرواة أن المتنبي لما أنشد هذه القصيدة كان ابن خالويه حاضرًا، فقال للمتنبي: تقول أشجاه وهو شجاه؟ فقال له: اسكت ليس هذا من علمك، إنما هو اسم لا فعل … يريد المتنبي أنه اسم تفضيل؛ أي أشده شجوًا لا كما ظن ابن خالويه أنه فعل … لأنه في الفصيح يقال — كما أسلفنا — شجاه يشجوه شجوًا: إذا حزنه، وشجاه تَذَكُّرُ إلفه: أي هيجه، وشجاه الغناء: إذا هيج أحزانه وشوقه. وأما أشجاه يشجيه إشجاء: فهو بمعنى أغصه، والشجا: ما اعترض في حلق الإنسان والدابة من عظم أو عود أو غيرهما، قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
ويرانِي كالشجا في حَلْقِهِ عَسِرًا مَخْرَجُه ما يُنْتَزَعْ
وقد شجي به — بالكسر — يشجى شجا، قال المسيب بن زيد مناة الغنوي:
لا تُنْكر القتْلَ وقدْ سُبِينا فِي حلقِكُمْ عَظمٌ وقدْ شجينا
«في حلقكم: أراد في حلوقكم.»
(٣) قوله: وما أنا إلا عاشق: إخبار عن نفسه بالعشق بلفظ مؤكد، ثم استأنف فقال: كل عاشق له خليلان صفيان فأعقهما في الخلة — الصداقة والود — من لامه في هواه، وفي هذا تعريض بالنهي عن اللوم. يقول: إن من لامني منكما على البكاء والجزع اعتقدت فيه العقوق، فكأن لائمكما أعقكما. قال الواحدي: ومعنى الأعق ها هنا: العاق، كقول الفرزدق:
إنَّ الذِي سَمَكَ السماءَ بنى لنا بَيتًا دعائِمُهُ أعَزُّ وَأَطْوَلُ
وكما قال الجاهلي:
خالي بنو أوْسٍ وخالُ سَرَاتِهِمْ أوْسٌ فأيُّهُمَا أدقُّ وألأمُ؟
أي فأيهما الدقيق واللئيم؟ وليس يريد أن الدقة واللؤم اشتملا عليهما معًا ثم زاد أحدهما على صاحبه، وقد يطلق هذا اللفظ ولا يراد به الاشتراك، كقوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ولا خير في مستقر أهل النار ولا حسن، كذلك جاز أن يقول: أعق خليله وإن لم يكن للممسك عن اللوم صفة عقوق. هذا، ويروى: كلَّ عاشق، بنصب «كل» على أنه مفعول عاشق، يريد إني عاشق كل عاشق مصف يعد خليله العاق من لامه في هواه.
(٤) التزيي: تكلف الزي، وهو اللباس والهيئة. قال الواحدي: وفي هذا البيت تعريض بصاحبيه أنهما ليسا من أهل الهوى وإن تكلفاه واتسما به. يقول: قد يتكلف الإنسان الهوى وليس من أهله، وفيه تعريض أيضًا بأنهما ليسا من أهل الصحبة؛ حيث قال: قد يسأل الإنسان الصحبة من لا يكون موافقًا له في أحواله، وهذا يدل على أن صاحبيه لم يفيا بما عاهدا من الإسعاد. هذا، ولمناسبة «يتزيا» قال ابن جني: سألته — أي للمتنبي — عن قوله: «يتزيا»، هل تعرفه في اللغة أو في كتاب قديم؟ قال: لا. قلت: فكيف تقدم عليه؟ قال قد جرت به عادة الاستعمال. قلت: أترضى بشيء تورده العامة؟ قال: ما عندك فيه؟ قلت: قياسه يتزوى. قال: من أين لك؟ قلت لأنه من الزي وعينه واو، وأصله زوي، فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، ولأنها أيضًا ساكنة قبل الياء، ودليل أن عينه واو أنهم لا يقولون: لفلان «زي»، إذا كان له شيء واحد يستحسن حتى يجتمع له أشياء كثيرة حسنة، فحينئذٍ يقال: له «زي»، من زويت أي جمعت، وقال الآخر:
زوى بين عينيه على المحاجم
(عجز بيت للأعشى، وصدره:
يَزيدُ يغُضُّ الطَّرْفَ دُونِي كأنَّمَا زوى … … إلخ
وبعده:
فلا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنَ عَيْنيكَ ما انزَوى ولا تلقَنِي إلَّا وأنفكَ رَاغِم
يقال: زوى ما بين عينيه فانزوى: جمعه فاجتمع.)
فقلت له: إلى هذا ذهبت فأصغى نحوه … وقد ذكره صاحب «العين» — أي الخليل بن أحمد — فقال: تزيا فلان بزي حسن وزييته تزية — بوزن تحية — فإن ثبت فليس بناقض لما قلت إنه يتزوي، فيجب أن يكون قلب الواو ياء تخفيفًا كقول الآخر:
إن ديموا جاد وإن جاد وبل
(عجز بيت لشاعر جاهلي يقال له: جهم بن سبل، وصدره:
أنا الْجَواد بنُ الجوادِ بنِ سَبلْ إن ديموا … … إلخ
يمدح أباه بالسخاء. وديموا، ويروى دوموا — على القياس: من قولهم ديمت السماء تدييمًا؛ أي أمطرت مطرًا دائمًا في سكون. وجادوا: من الجود، وهو المطر الواسع الغزير، أو المطر الذي لا مطر فوقه ألبتة. ووبل: من وبلت السماء وبلًا؛ أي أمطر مطرًا شديدًا ضخم القطر.)
وهو من دام يدوم ولكن لما رأى الديمة والديم بياء أنس بها وأخلد إليها لخفتها كما قالوا في عيد أعياد، وفي تحقيره عييد، وهو من عاد يعود، وكان قياسه عويد وأعواد، كما قيل في تحقير «ريح» رويح؛ وفي جمعها أرواح؛ وحكى اللحياني في نوادره: ريح وأرواح، فهذا مما أجري مجرى البدل اللازم لخفة الياء، وكذلك يتزيا إن كان صحيحًا من كلامهم، فهو مما ألزم بدل الياء من الواو تخفيفًا، ولأنه قد أبدلها في زي قصدًا من طريق الاشتقاق، والقياس يقتضي أن تكون عين الزي واوًا في الأصل؛ لأن باب طويت، ورويت مما عينه واو ولامه ياء أكثر من باب حييت وعييت مما عينه ولامه ياءان فلما اجتمع القياس والاشتقاق على قضيته لزم قبولها ورفض ما عداها وخالف وضعها.
(٥) الأطلال: آثار الديار. يدعو على نفسه بأن يبلى بلى الأطلال، إن لم يقف بأطلال الأحبة متوجعًا لها منحنيًا، كما يفعل الشحيح إذا فقد خاتمه ووقف يتلمسه في التراب. قال ابن وكيع: وهذا مأخوذ من قول أبي نواس:
كأني مُريغٌ في الديارِ طَريدةً أراها أمامي مرةً وورائي
وقد عاب ابن جني هذا البيت، قال: ليس للفظ عجزه جزالة لفظ صدره، وليس في وقوف الشحيح على طلب خاتمه مبالغة يضرب بها المثل. قال: والعرب تبالغ في وصف الشيء وتجاوز الحد، وقد تقتصر أيضًا وتستعمل المقاربة … وهذا بعينه قد جاء في الشعر الفصيح، قال جرير:
هن حيارى كمضلات الخدم
والخدم: جمع خدمة، وهي الخلخال … قال العروضي — ذائدًا عن المتنبي: لا عيب عليه، لأن الشحيح إذا طلب الخاتم احتاج إلى الانحناء ليقف بصره على الخاتم، ولو كان بدل الخاتم شيئًا عظيمًا كالخلخال والسوار لكان يطلبه من قيام فلا يحتاج إلى الانحناء، ولو كان صغيرًا كالدرة لكان يطلبه قاعدًا مكانه. يقول — أي المتنبي: إن لم أقف بها — أي بالأطلال — منحنيًا لوضع اليد على الكبد والانطواء عليها كوقوف الشحيح الطالب للخاتم، ويشهد لصحته قول ابن هرمة يذم بخيلًا:
نَكَّسَ لما أتيت سائِلَهُ واعتَل تنكيسَ ناظِم الْخرَزِ
فشبه هيأته بهيئة من ينظم الخرز في الإطراق وتنكيس الرأس. على أنا نقول — إن التزمنا بهذا السؤال: قد يبلغ من قيمة الخاتم ما يحق للشحيح أن يطيل وقوفه على طلبه. وقال الواحدي — مدافعًا أيضًا عن المتنبي: يقال في جواب هذا السؤال: إن وقوف هذا الشحيح وإن كان لا يطول كل الطول فقد يكون أطول من وقوف غيره، فجاز ضرب المثل به، كقول الشاعر:
رُب ليل أمَدَّ مِنْ نَفَس العا شِقَ طُولًا قطعتهُ بانتحاب
وقد علمنا أن ساعة من ساعات الليل تستغرق عدة أنفاس، ولكنه لما كان نفس العاشق أطول من نفس غيره، جاز ضرب المثل به، وإن لم يبلغ النهاية في الطول، وكقول الآخر:
وليل كظِل الرُّمْحِ قَصَّرَ طولَه دَمُ الزِّقِّ عَنَّا واصطفاقُ المزاهر
(دم الزق: الخمر. والمزاهر: جمع مزهر؛ آلة الطرب.)
وذلك لما كان ظل الرمح أطول من ظل غيره جعله الغاية في الطول.
(٦) كئيبًا: أي حزينًا، حال من قوله أقف بها — في البيت السابق. وتوقاني: تباعدني واجتنبني. والريض من الخيل: الصعب الذي لم يروض، وقد يكون الريض: الذي قد ذلل، فهو من الأضداد. والحازم: الذي يسوسه ويشده بالحزام. يقول: إن العواذل اللائي يعذلنني — يلمنني — في الهوى يحذرن جانبي وإبائي عليهن — إذا وقفت على الربع كئيبًا — كما يحذر حازم الريض من الخيل جماحه أن يعضه أو يرمحه — يضربه برجله.
(٧) تغرم: جواب قفي. والأولى: فاعل تغرم. ومن اللحظ: بيان للأولى. ومهجتي: مفعول تغرم، وغرم ما أتلفه: لزمه أداؤه. يقول: إنه نظر إليها نظرة أتلفت مهجته، فهو يقول لها قفي لأنظرك نظرة أخرى ترد مهجتي وتحييني، فإن فعلت كانت النظرة الثانية غرمًا لما أتلفته النظرة الأولى. وعبارة ابن جني: قفي يا محبوبة تغرم اللحظة الأولى التي لحظتك مهجتي بلحظة ثانية؛ لأن الأولى قد أتلفت مهجتي فوجب عليها الغرم، فإن لُحِظَ ثانية عاش. فتكون الأولى قد غرمت المهجة بالثانية، ثم ذكر الحجة الموجبة أن يطالب بالوقفة، فقال: والمتلف غارم، وهي حكومة بحق. وعبارة الخطيب التبريزي: لما نظر إليها نظرة أتلفت مهجته وأراد أن ينظر إليها أخرى لترجع إليه نفسه جعل الأولى كأنها الغارمة في الحقيقة، لأنها سبب التلف. ومثله لقطرب:
أشتاقُ بالنظرَةِ الأولى قرينتها كأنني لم أقدِّم قبْلها نَظرا
وقد أخذ بعضهم هذا المعنى فقال:
يا مُسْقما جسْمي بأوَّلِ نَظْرَةٍ في النظرة الأخْرى إليكَ شِفائي
وروى الخوارزمي: تغرمي — بالياء — وأصله: تغرمين، فحذف النون للجزم، والخطاب للمحبوبة، والمهجة هي المحبوبة، فمهجتي في موضع نصب بالنداء، والأولى مفعول، ويكون المعنى: قفي يا مهجتي تغرمي النظرة الأولى التي حرمتنيها بنظرة ثانية إليك. ثم قال: ومن أتلف شيئًا غرمه: أي أنت أتلفت علي النظرة الأولى التي رميتها منك أولًا فاغرميها بنظرة ثانية. والرواية الأولى هي الأوجه.
(٨) العيس: الإبل البيض. والنَّوْر: الزهر. والكمائم: أغلفة الزهر قبل أن تتفتق. جعل هؤلاء النسوة زهرًا في حسنهن، وصفاء ألوانهن، وطيب روائحهن، وجعل الخدور لهن بمنزلة الكمائم للزهر، ولما جعلهن زهرًا بنى على هذا اللفظ السقي والتحية؛ فإن الزهر نضرته بالماء، وجرت العادة بأن يُحَيِّي الناس بعضهم بعضًا بالأزهار والرياحين فيتناولوا شيئًا منها، ومعنى حيانا بك الله لقَّاناك وحيانا بك. وقد كشف السري الرفاء عن هذا المعنى بقوله:
حيًّا بِهِ اللهُ عاشِقيهِ فَقَدْ أصْبحَ رَيحانةً لمنْ عَشقا
(٩) الأظعان: النساء في الهوادج. وقوله: «ما واجد لك عادمه»: استئناف والضمير للقمر. يقول: أي حاجة لهؤلاء النسوة المسافرات معك إلى القمر بالليل؟ فإن من وجدك لم يعدم القمر، يعني أنها في الدجى تقوم مقام القمر. قال البحتري:
أضرَّت بِضَوْءِ البدْر والبدْرُ طالعٌ وقامت مقَامَ البدْر لَمَّا تَغيَّبا
وقال الآخر:
إنَّ بيتًا أنتَ ساكِنُهُ غيرُ محتاجٍ إلى السُّرُج
(١٠) يقال: أثاب فلان: رجع إليه جسمه بعد الهزال، وصلح بدنه. والمُعْيِي: الكليل. والمطي: جمع مطية؛ وهي الدابة تمتطى وتركب، وذكر المطي على اللفظ كتذكير النخل والسحاب وما أشبههما من الجمع. والرازم — كالرازح — الذي سقط من الإعياء فلا يبرح. يقول: إن الإبل الرازحة التي كلت وعجزت عن المشي، إذا نظرت إليك عاشت أرواحها، وعادت قوتها، وصلحت حالها مع أنها لا تعقل، فما الظن بنا وحياتنا برؤيتك؟ وقال ابن فورجه: إنما يعني بالمطي أصحابها. قال: والإبل لا فائدة لها في النظر إلى هذه المحبوبة، وإن فاقت حسنًا وجمالًا، وإنما ركابها هم الذين يسرون بذلك. وليس هذا بشيء؛ لأن الإبل التي لا عقل لها إنما يؤثر فيها النظر على مقتضى المبالغة والتعمق في المعنى، لا على الحقيقة، وهي عادة الشعراء في المبالغة.
(١١) يقول: إن هذا الحبيب قد استبد بالحسن وانفرد به، فليس لغيره فيه حظ، فكأن الحسن أحبه فاستخلصه لنفسه دون غيره، أو كأن الذي قسم الحسن بين الناس جار — لم يعدل — فأعطاه جميع الحسن، ولم يُبْقِ لأحد منه نصيبًا.
(١٢) الخط: موضع باليمامة تقوم فيه الرماح؛ وهي الرماح الخطية. والحي: الجماعة من الناس ينزلون بالبادية. يقول: هو حبيب عزيز منيع يحفظ بالرماح فلا يقع عليه سباء؛ لأن رماح قومه تحول دون ذاك، كما قال:
بِصُمِّ الْقَنَا يُحْفَظْنَ لَا بِالتَّمَائِمِ
وكرائم الأحياء تسبى برماح قومه فيؤدى بها إليه ليخدمنه.
(١٣) أدنى: أقرب. والكباء: العود الذي يتبخر به. ونشره: رائحته. قال اللحياني: ومثل الكباء الكبة، قال: والجمع كبًّا، وقد كبَّى ثوبه — بالتشديد — أي بخره، وتكبى واكتبى إذا تبخر بالعود؛ قال أبو دؤاد:
يَكْتبينَ اليَنْجوجَ في كبَّةِ الْمَشـْ ـتى وَبُلْهٌ أحلامُهُنَّ وِسامُ
(أي يتبخرن الينجوج؛ وهو العود. وكبة الشتاء: شدة ضرره. وقوله: وبله أحلامهن: أراد أنهن غافلات عن الخنى والخب.)
يقول: أقرب ستوره إليك أيها الطالبُ الوصولَ إليه غبار خيول قومه، وأبعدها عنك وأقربها منه — من الحبيب — دخان بخوره؛ يصف هذا الحبيب بأنه في غاية المنعة وغاية النعمة. وعبارة الواحدي: إن دخان العود الذي يتبخر به كثير عنده حتى صار كالحجاب بينه وبين من يطلبه. قال: ويروى: «وأولها نشر الكباء» والمعنى: وأول ستر دونها مما يليها. قال: ويمكن أن يقلب هذا فيقال: أدنى ستر إليها من الستور دونه غبار الخيل وأبعد ستر عنها نشر الكباء، يعني أن غبار الخيل كثير حتى وصل إليها فصار أدنى ستر منها دونها، كذلك ارتفع دخان العود حتى يتباعد منها الدخان فصار آخر ستر دونها. قال: وهذا أشبه بطريقة المتنبي في إيثار المبالغة.
(١٤) يريد كثرة ما لقي من صروف الدهر، وما مني به من فراق الأحبة حتى لا يستغرب فراقًا رآه، ولا تريه عينه شيئًا لم يعلمه قلبه. والمصراع الثاني من قول عدي بن الرقاع:
وعلمتُ حتى لست أسألُ عالِمًا عن حرفِ واحِدَةٍ لِكَي أَزْدَادَها
(من كلمته التي يقول في مطلعها:
عرف الديار توهما فاعتادها … … … [البيت]
وفيها يقول في وصف الظبية وولدها:
تُزْجي أغنَّ كأن إبرَةَ رَوقه قلم أصابَ مِنَ الدواةِ مدادها
تزجي أغن: أي تسوقه برفق؛ والروق: القرن، وإبرته: ما حدد من طرفه كأنه إبرة.)
ومثله لأبي الطيب:
عَرَفْتُ اللَّيَالِي قَبْلَ مَا صَنَعَتْ بِنَا فَلَمَّا دَهَتْنِي لَمْ تَزِدْنِي بِهَا عِلْمَا
وقال الأعور الشني:
لقد أصْبحتُ لا أحتاجُ فيما يَكونُ مِنَ الأمُورِ إلى السؤالِ
وقال ابن الرومي:
وما أحدَثَ العصرانِ شيئًا نكِرتُهُ هما السَّالبانِ الواهبانِ هُمَا هُمَا
(١٥) الكاشح: الذي يضمر لك العداوة. والعلاقم: جمع علقم؛ وهو الحنظل. قال ابن جني: سألته — أي المتنبي — وقت القراءة عليه: ما وجه التهمة في هذا الموضع؟ قال: أن يظنوا بي جزعًا. يقول: لا يتهمني الأعداء بالخوف من الردى والجزع من الفراق؛ فإني قد ذقت المرارات حتى ألفت ذوقها فلا أستمرها، والعلقم أشد الأشياء مرارة، وهو لا يحلو لأحد، ولكن من اعتاد ذوقه سهلت عليه مرارته، فكأنه قد حلا له. ومعنى رعيت الردى: رعيت أسباب الردى من المخاوف والمهالك، وكنى بالعلاقم عن المرارات، ولهذا قال «رعيت» لأن العلقم مما يرعى، يعني إني لا أجزع من الفراق وإن عظم أمره واشتدت مرارته لاعتيادي ذلك، كما قال الآخر:
وفارقتُ حتى ما أبالي مِنَ النَّوَى وإنْ بانَ جيران عليَّ كِرامُ
وقال المؤرج السدوسي:
رُوِّعْتُ بالبَينِ حتى ما أرَاعُ له وبالمصَائبِ في أَهْلِي وَجيراني
وهذا المعنى ظاهر في قول الخريمي:
لقد وقَرَتني الحادِثاتُ فما أُرَى لِنازِلة منْ رَيبها أتَوَجَّعُ
(١٦) مشب: مبتدأ، ومشيبه: خبره، ولك أن تعكس. وتوقاه: حذره، والضمير في «توقيه» للباكي، وفي «بانيه، وهادمه» للشباب. يقول: إن الذي يجزع على فقد الشباب إنما أشابه من أشبه، والشيب حصل من لدن من حصل منه الشباب، فلا سبيل إلى التوقي من المشيب؛ لأن أمره بيد غيره، ولعل هذا المعنى ينظر إلى قول ابن الرومي:
تُضَعْضِعهُ الأوقاتُ وَهْي بَقاؤُه وتَغتاله الأقوَاتُ وَهْيَ لَه طُعْمُ
إذَا مَا رَأيتَ الشيء يُبليه عمرُهُ وَيُفْنيه أن يبْقى ففي دائِهِ عقم
(١٧) العارضان: جانبا الوجه. يقول: تمام العيش هو الصبا وما يتلوه من بلوغ الأشد حتى يكون يافعًا مترعرعًا إلى أن يختلف إلى عارضيه لونا بياض وسواد. قال الواحدي: وغائب لون العارضين هو البياض، والقادم هو السواد السابق إلى العارض، ويجوز أن يريد بالقادم: الشيب — من قدم يقدم: إذا ورد — وبالغائب: السواد الذي غاب بقدوم البياض. ويجوز أن يكون غائب لون العارضين؛ لون البشرة حين يغيب عنها الشعر وبياضه، والقادم: هو لون الشعر من سواد وبياض. ويجوز أن يريد بالغائب: لون جلد العارض المستتر بالشعر، وبالقادم: سواد الشعر النابت، وهذا هو الأولى؛ لأنه يجعل تمام العيش أن يكون الإنسان صبيًّا ثم يافعًا مترعرعًا ثم ينبت شعره فيكون شابًّا؛ ولم يجعل الشيب من تكملة العيش، لأن:
من شاب فِي الناس مات حيا يمشي على الأرْض مشي هالكْ
لَوْ كان عمر الفتى حِسَابًا لكان في شَيبهِ فَذَالِكْ
(فذالك: جمع فذلكة من قول الحاسب: فذلك كذا.)
وبيت المتنبي من قول ابن الرومي:
سُلِبتُ سوادَ العارِضين وقبله بياضهما المحمودَ إذ أنا أمرَدُ
(١٨) الفاحم: الأسود الشديد السواد. يقول: إن البياض في الشعر حسن، فليس يخضب البياض لأنه مستقبح، ولكن لأن السواد أحسن منه؛ فالخاضب إنما يطلب الأحسن من لوني الشعر، وعبارة ابن جني: ذكر أن المشيب لم يخضب لأنه قبيح، ولكن سواد الشعر أحسن، والإنسان إذا شاب علم أنه كبير السن فزُهد فيه، فإذا خضب ظهر للغواني أنه شاب فترغبن فيه.
(١٩) أراد بماء الشبيبة: نضارتها وحسنها. والحيا: المطر. والبارق: السحاب ذو البرق. والفازة: قبة أو خيمة أو مظلة بعمودين نصبت لسيف الدولة وكانت من ديباج. والشائم: الناظر إلى البرق يرجو المطر. يقول: أحسن من الشباب الذي فقدته مطر سحاب بارق أنا أنظر إليه، يعني سيف الدولة، جعله مطر سحاب لجوده وعموم نفعه؛ وكنى بالشيم عن تعليق رجائه به بانتظار جوده، وقد جمع له في هذا البيت بين ضروب من المدح: الحسن، والجود، واستحقاق التأميل.
(٢٠) الدوح: جمع دوحة؛ وهي الشجرة العظيمة من أي الأشجار كانت. وتغن — بحذف إحدى التاءين — في رواية: لم تغن، يصف تلك الفازة بأنها مصورة بصور رياض وأشجار؛ بيد أنها ليست مما أنبته السحاب وحاكه — نسجه وصنعه — وأغصان تلك الأشجار لا تتغنى حمائمها ولا تتجاوب طيورها؛ لأنها صور ليست ذات أرواح.
(٢١) الموجه: ذو الوجهين. والسمط: السلك، ويطلق على القلادة. وأراد بسمط الدر: الدوائر البيض على حواشي تلك الأثواب التي اتخذت منها الفازة. شبهها بالدر لبياضها، غير أن من نظمه لم يثقبه؛ لأنه ليس بدرًا حقيقيًّا.
(٢٢) كانت هذه الفازة مصورة بأنواع الحيوان. يقول: ترى هذه الحيوانات مصطلحة بهذه الفازة مع أن ديدنها التفارس والتهارش، وجعلها متحاربة؛ لأنها نقشت على هذه الصورة: صورة المحارب، وأراد بالمسالمة أنها جماد لا روح فيها فتقاتل.
(٢٣) المذاكي: المسنة من الخيل. وتدأى: تختل. يقال: دأيت الصيد ودأوت له؛ أي ختلته — وروي بالذال المعجمة، يقال: ذأى الإبل: إذا طردها وساقها. والضراغم: الأسود. يقول: إذا ضربت الريح هذا الثوب تحرك كأنه يموج، وكأن الخيل التي صورت عليه جائلة، وكأن أسوده تختل الظباء لتصيدها وتطردها لتدركها.
(٢٤) الأبلج: المشرق، والذي قد وضع ما بين حاجبيه فلم يكن مقرون الحاجبين، وهو من صفات السادة. وروي: الأبلخ؛ وهو المتكبر العظيم في نفسه: بلخ — بالكسر — وتبلخ؛ أي تكبر، فهو أبلخ. وكان قد صور ملك الروم على هذه الفازة ساجدًا، وهو ما عناه بالذلة، وعنى بالأبلج — أو الأبلخ — سيف الدولة، وجعله لا تاج له لأنه عربي، وتيجان العرب عمائمها.
(٢٥) البراجم: مفاصل الأصابع، واحدتها برجمة. يقول: إن الملوك حين يلقونه يقبلون بساطه، ولا يبلغون أن يقبلوا كمه أو يده؛ لأنه أعظم شأنًا من ذلك.
(٢٦) قيامًا: مصدر لم يذكر فعله، كأنه قال: قاموا — أي الملوك — قيامًا، يريد أنهم قاموا بين يديه إجلالًا وهيبة. وكني بالكي عن ضربه وطعنه ولذعة حربه، وبالداء عن غوائل الأعداء وطغيانهم؛ يعني أنه يرد بالطعن والضرب من عصاه إلى طاعته كما يرد من به داء إلى الصحة بالكي. والقرم: السيد. والمواسم: جمع ميسم، وهو ما يوسم به — المكواة — ويقال أيضًا: المياسم — على لفظ الميسم — كنى بجعل مواسمه بين آذان السادات — أي في أقفائهم — عن قهرهم وإذلالهم.
(٢٧) القبائع: جمع قبيعة؛ وهو ما على طرف مقبض السيف من فضة أو حديد، يريد: قبائع سيوف الملوك. والجفون: جمع جفن؛ الغمد. يقول: قاموا بين يديه متكئين على قبائع سيوفهم هيبةً له وتعظيمًا، ثم قال: وعزائمه أنفذ وأمضى من السيوف — وهي ما في الجفون.
(٢٨) يقول: إن له عسكرين؛ خيله والطير التي اعتادت أن تصحبه لكثرة وقائعه حتى تأكل من لحوم القتلى، فكأنها من عديد جيشه، فإذا رمى بهما عسكر العدو لم يبقَ إلا عظام الجماجم؛ لأن عسكر الخيل يقتلهم، وعسكر الطير يأكل لحومهم. والضمير في «بها» للخيل والطير، فلما جعلهما جماعة كنى عنهما بلفظ الجمع، ولم يكنِّ بالتثنية للعسكرين، وقد عاب ابن وكيع هذا البيت، قال: لا أدري كيف خص الجماجم بالبقاء دون سائر العظام؟ ولا أعرف للخيل في هذا معنى، بل للطير؛ لأنها — أي الطير — لا تأكل عظام الموتى، وذلك أن الخيل إذا حملت بمن عليها أهلكت العدو فتأكلهم الطير ولا تدع إلا العظام للوحش … ومن ثم قال بعض الشراح: يجوز أن يكون المعنى أنهم كانوا يقتلون ويأسرون، فكانوا يأخذون رءوس القتلى يجعلونها في أعناق الأسرى؛ فلهذا لم تبقَ إلا الجماجم … وبعد: فما أبدع قول النابغة في هذا المعنى:
إذا غَزَوْا بِالجيْشِ حلَّقَ فَوْقَهُمْ عَصائِبُ طَيرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
يُصَاحِبْنَهُمْ حتى يُغِرْنَ مُغَارَهُمْ مِنَ الضارِيَاتِ بالدماء الدوارب
تَراهُنَّ خلْفَ الْقوْمِ خُزْرًا عُيُونها جُلُوسَ الشيوخِ في ثِيابِ المرانبِ
جَوَانِحَ قَدْ أيقنَّ أن قَبِيلَه إذا ما التقى الجمعانِ أوَّلُ غالِبِ
لهنَّ عليهم عادة قد عرفنها إذا عُرِّضَ الخَطِّيُّ فوق الْكَوَاثِبِ
(من الضاريات … إلخ: أي إن هذه الطير ضاريات متدربات على دماء القتلى، وخزرًا عيونها: أي ضيقة العيون خلقة أو أنها تتخازر؛ أي تقبض جفونها لتحدد النظر. وقوله: جلوس الشيوخ … إلخ، فالمرانب: جمع مرنباني؛ وهو الثوب المبطن بفراء الأرانب. يقول: إن هذه الطير تقع على أعالي الأرض والهضاب كأنها في ريشها ووقوفها تترقب القتلى جالسة جلوس الشيوخ إذا التفوا بأكسية المرانب يحددون النظر إلى شيء بعيد. وجوانح: أي مائلات للوقوع. والخطي: القنا. والكواتب: جمع كاتبة؛ وهي من جسم الفرس ما تحت الكاهل إلى الظهر بحيث إذا نصب عليه السرج كانت أمام القربوس يضع الفارس عليها رمحه مستعرضًا.)
(٢٩) الأجلة: جمع جل؛ ما يجعل على ظهر الدابة. والملاغم: ما حول الفم مما يبلغه اللسان ويصل إليه، جمع ملغم. قال بعض اللغويين: الملاغم من كل شيء الفم والأنف والأشداق؛ وذلك أنها تلغم بالطيب، وفي الإبل بالزبد، وتلغمت المرأة بالطيب جعلته في الملاغم. والملغم يشبه أن يكون مفعلًا من لغام البعير — وهو زبده — سمي بذلك لأنه موضع اللغام. وقيل لأعرابي: متى السير؟ فقال: تلغموا بيوم السبت؛ أي اذكروه يوم السبت، واشتقاقه من أنهم يحركون ملاغمهم بذكره يوم السبت. يقول: إنه يسلب ثياب كل طاغٍ من ملوك الروم فيتخذ منها أجلة لخيله، ويوطئ حوافرها وجه كل باغ فيهم. قال العكبري: وهذا مبالغة، ولا تتم هذه الصفة إلا بعد الإمعان في قتلهم وبلوغ الغاية من الظهور عليهم.
(٣٠) التاء — في «تغيره وتزاحمه» — إما للخطاب، وإما للخيل، وتغيره؛ أي تغير فيه، فحذف الجار ونصب الضمير — على حد قولهم: أقمت ثلاثًا ما أذوقهن طعامًا؛ أي ما أذوق فيهن — وقد كان العرب يغيرون وقت الصبح ليتغفلوا القوم، ولذلك كانوا يقولون عند الغارة: واصبحاه. يقول: لكثرة غاراتك وقت الصبح، قد مل الصبح منها وضجر ومل الليل من مزاحمتك إياه؛ وهو أنك تبلغ كل موضع يبلغه الليل. وقيل في معنى البيت: مما تغيره؛ أي تحمله على الغيرة، إذ يزيد على بياضه بريق أسلحتك، وتزاحم الليل فتذهب ظلمته بضوء أسلحتك. وقال بعضهم: تزاحم الليل بغبار خيلك، فكأنه ليل آخر.
(٣١) القنا: الرماح. وتدق تكسر. وصدر الرمح: أعلاه. قال الواحدي: أي ملت رماح الأعداء من دقك أعاليها وملت سيوفهم من ملاطمتك إياها، وأراد بالملاطمة مقابلتها بالتروس والمجان، فذلك ملاطمة بينهما. ويجوز أن يريد المتنبي رماح جيشه وسيوفه، على أن ترفع صدوره؛ يقول: ملت رماحك من كثرة ما تدق صدورها أعداءك، وملت سيوفك من الشيء الذي تلاطمه لكثرة وقعها عليه. هذا، وقد عاب ابن وكيع قوله: تلاطمه، قال: الملاطمة مفاعلة لا تكون إلا بين اثنين فلو قال مع تدق: «تلطم» لكان أحسن في الصناعة. ثم قال: وأحسن من هذا قول القائل:
حَرَامٌ على أرماحنا طعنُ مُدبر وتندَقُّ منها في الصدور صُدورُها
وهكذا ابن وكيع تراه كثير التفنيد لأبي الطيب حتى ليبالغ في ذلك.
(٣٢) أي هناك سحاب من العقبان … إلخ، والعقبان: جمع عقاب؛ طائر من الجوارح قوي المخالب له منقار أعقف. واستسقت: طلبت السقيا، والضمير: للسحاب الأول، وضمير صوارمه: للسحاب الثاني، والتأنيث في الأول: على معنى الجماعة، والتذكير في الثاني: على اللفظ. جعل العقبان التي فوق جيشه سحابًا، وجعل جيشه كذلك سحابًا لما فيه من بريق الأسلحة وصب الدماء وصوت الأبطال، وجعل الأسفل يسقي الأعلى إغرابًا في الصنعة، فهو قد شبه العقبان بسحاب يظل الجيوش ويزحف تحتها سحاب — يريد الجيوش — إذا استسقت العقبان بطلب الدم، سقتها صوارمه — سيوفه — لأنها تقتل الأعداء، فتشرب العقبان دماء القتلى، وهذا المعنى — أي صحبة الطير للجيش — كثير في كلامهم، قال الأفوه الأودي:
وتَرى الطير على آثارِنا رأْيَ عينٍ ثقةً أَنْ ستُمَارُ
«أي تعطي الميرة بما تجد من لحوم القتلى.» وقال النابعة:
إذا ما غزوْا بالجيشِ حلَّقَ فوقهم عصائبُ طيرٍ تهتدِي بعصائبِ
«وقد أسلفنا الكلام على هذا البيت آنفًا.» وقال أبو نواس:
تَتأيَّا الطيرُ غُدوتَه ثِقةً بالشِّبْع من جَزَرِه
(تأيا الشيء: تعمد آيته: أي شخصه، وقصده. وغدوته: غدوه. والجزر: قطع اللحم.)
وبيت المتنبي من قول أبي تمام:
وقد ظُللَتْ عِقبان أعلامِهِ ضُحًى بعِقبانِ طيرٍ في الدِّماء نواهِلِ
أقامتْ مع الرَّايَاتِ حتى كأنها من الجيش إلا أنها لم تقاتلِ
هذا وقد أخبرنا العكبري أن قومًا ممن هو مقصر في معرفة تدقيق المعاني قد تعنتوا على المتنبي بأمرين؛ أولهما: أن السحاب لا يسقي ما فوقه، والآخر: أن الطير لا تستسقي وإنما تستطعم، أما إسقاء السحاب ما فوقه فهو الذي أغرب به، فإنه لم يجعل الجيش سحابًا في الحقيقة فيمتنع إسقاؤه لما فوقه، وإنما أقامه مقام السحاب؛ لأنه طبق الأرض لكثرته وتزاحمه، وغطاها كما يغطي السحاب السماء، وقد فعلت العرب ذلك في أشعارها، ولما جعله سحابًا جعله يُستسقى فيسقي مع أن الطير لا تصيب من القتلى ما تصيبه وهي في الجو، وإذا كانت تهبط إلى الأرض حتى تقع على القتلى فالسحاب الساقي عالٍ عليها، وأما استسقاء الطير فجار على عادة العرب في أشعارها من استعمال هذه اللفظة تعظيمًا لقدر الماء كقول علقمة بن عبدة:
وفي كلِّ حيٍّ قد خبطْت بنعمة فَحُق لشأسٍ من نَداك ذَنوب
(خبطه بخير: أعطاه من غير معرفة بينهما على المثل، يخاطب ورق الشجر بعصاه ليتناثر فيعلف به إبله. والذنوب: الحظ والنصيب، وهي في الأصل الدلو المملوءة ماء. والبيت من كلمة لعلقمة بن عبدة أنشدها الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج الغساني ملك الشام يوم وثب بخيله ورجله على المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة فقتله وقتل خلقًا كثيرًا، وأسر من تميم مائة أسير منهم شأس بن عبدة أخو علقمة، فأطلق له أخاه وأسرى تميم، ومنحه مالًا جزيلًا. ومطلع القصيدة:
طحا بك قلب في الحسان طروبُ بُعَيْدَ الشباب عَصر حان مَشيب)
وكان ملك الشام قد أسر أخاه شأسًا فبعث إليه بهذه الأبيات يطلب منه أن يفكه؛ وأصل الذنوب: الدلو العظيمة إذا كان فيها الماء. وقد قال رؤبة:
يا أيها المائحُ دَلوي دونكا إني رأيت الناس يَحمدونكا
(الميح في الاستقاء: أن ينزل الرجل إلى قرار البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو بيده يميح فيها بيده، ويميح أصحابه، والجمع ماحة؛ فالمائح: هو الذي يملأ الدلو من أسفل البئر، والماتح: المستقي من أعلى البئر، تقول العرب: هو أبصر من المائح بِاسْتِ الماتح، تعني أن الماتح فوق المائح؛ فالمائح يرى الماتح ويرى اسْتَه.)
وهما لم يستسقيا ماء في الحقيقة، إنما أحدهما استطلق أسيرًا والآخر طلب عطاء كثيرًا.
(٣٣) صروف الدهر: نوبه وحوادثه. وعلى ظهر عزم: حال من فاعل لقيته. والمؤيد: القوي، قال تعالى: ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ؛ أي ذا القوة. يقول: خضت حوادث الدهر حتى لقيت سيف الدولة؛ يصف كثرة ما عانى من الأهوال وحوادث الدهر حتى بلغ سيف الدولة. وجعل عزمه مركوبه؛ لأنه بعزمه يسافر ويجتاز الصعاب، ولما جعله مركوبًا استعار له ظهرًا وقوائم وجعلها مؤيدات؛ أي قويات.
(٣٤) القوادم: صدور ريش الجناح من الطائر. والمهالك: المفاوز، ونصب «مهالك» كأنه أبدلها من «الصروف» وليس نصبها على البدل؛ لأنها لا تكون من صروف الدهر في شيء. ولكنها منصوبة بفعل دل عليه معنى الكلام، كأنه قال: قطعت مهالك لو سلكها الذئب لما صحبته روحه؛ لأنه يموت فيها جوعًا، ولو سلكها الغراب لم تصحبه قوادمه ولم يقدر على الطيران؛ وخص هذين لأنهما يألفان القفار والمواضع البعيدة من الناس، ولهذا يقال لهما: «الأصرمان»؛ وإذا عجزا عن قطع هذه المهالك فغيرهما أعجز عن قطعهما. وعبارة بعض الشراح: أراد بالمهالك — أي المفاوز — مسافات الخطوب التي قطعها، وهي بدل من صروف الدهر. يقول: الصروف التي قطعتها لو كانت مفاوز من الأرض لهلك فيها الذئب جوعًا، ولو لسكها الغراب لم يستطع قطعها لطولها، وخص هذين لأن الذئب من أصبر الحيوانات على الجوع، والغراب من أسرع الطير.
(٣٥) عبر البحر: شطه. يقول: فأبصرت من سيف الدولة بدرًا في الصباحة والطلاقة لا يرى بدر السماء مثله بين الناس مع اطلاعه على الدنيا كلها، وخاطبت منه بحرًا في العلم والسخاء لا يرى السابح فيه ساحله لبعده.
(٣٦) هذى يهذي هذيًا وهذيانًا: تكلم بغير معقول لمرض أو لغيره. والطماطم: جمع طمطم، يقال: رجل طمطم: إذا كان في لسانه عجمة لا يفصح، قال عنترة:
تأوِي له قُلُصُ النَّعامِ كما أوَتْ حِزَق يَمَانِيَةٌ لأعجمَ طِمطِمِ
(من معلقة عنترة. يقول: تأوي إلى هذا الظليم صغار النعام كما تأوي الإبل اليمانية إلى راعٍ أعجم عَيِيٍّ لا يفصح … شبه الظليم في سواده بهذا الراعي الحبشي وقلص النعام — أي صغارها — بإبل يمانية؛ لأن السواد في إبل اليمن أكثر، وشبه أويها إليه بأوي الإبل إلى راعيها، ووصفه بالعي والعجمة؛ لأن الظليم لا نطق له. قال الفراء: سمعت المفضل يقول: سألت رجلًا من أعلم الناس عن هذا البيت فقال: يكون باليمن من السحاب ما لا يكون لغيره من البلدان في السماء، وربما نشأت سحابة في وسط السماء فيسمع صوت الرعد فيها كأنه في جميع السماء فيجتمع إليه السحاب من كل جانب، فالحزق اليمانية: تلك السحائب، والأعجم الطمطم: صوت الرعد.)
وكذلك يقال: رجل طمطمي وطماطم وطمطماني؛ وفي لسانه طمطمانية، وفي صفة قريش: ليس فيهم طمطمانية حمير. يقول: لما رأيت صفات الممدوح لا واصف لها مع كثرة طماطم الشعر — يعني الشعراء الذين مدحوه قبلي — غضبت لأجله، لقصور هؤلاء الشعراء عن بلوغ وصفه.
(٣٧) يممت: قصدت. والسرى: سير الليل. يقول كنت إذا قصدت أرضًا بعيدة سريت بالليل مشتملًا بالظلام كأني سر والليل يكتم ذلك السر. وهذا من قول البحتري:
وطيِّكَ سرًّا لو تَكلفَ طيَّهُ دُجَى الليل عنا لم تسَعه ضمائرُه
وقد نقله البحتري من قول قعنب بن ضمرة الغطفاني، أحد شعراء الدولة الأموية:
سَرَينا به والليلُ داجٍ ظلامه فكان لنا قلبًا وكنا له سِرَّا
وقال الصاحب بن عباد — وقد نقله من المتنبي:
تجشمته والليل وحْفٌ جناحه كأنِّيَ سر والظلام ضمير
(وحف من قولهم: شعر وحف ونبات وحف؛ وهو ما غزر واسود.)
(٣٨) قال الواحدي: يقول: هو سيف سله المجد، يعني أن الشرف ومعالي الأمور تستعمله وتحمله على قتال الأعداء، فلا يغمده المجد ولا يثلمه الضرب؛ لأنه ليس سيفًا من حديد يتثلم بالضرب. ونقل العكبري هذا الكلام وقال: إن «معلمًا» حال من «المجد»: أي أعلم به الناس وأظهره. وقال آخرون: معلمًا — بفتح اللام — وهو الذي يميز نفسه بعلامة في الحرب، قالوا: يعني هو سيف سله المجد ومنع به حوزته من غارة اللئام، ولما جعل المجد مقاتلًا جعله معلمًا، إشارة إلى قوة امتناعه به وعزته على الطالبين.
(٣٩) الملك: روي بفتح الميم فيكون المراد به الخليفة. وروي بالضم فيكون المراد المملكة. والعاتق: موضع الرداء من المنكب. والأغر: الأبيض الكريم — ضد اللئيم — ونجاد السيف: حمالته، وقائمه: مقبضه. يقول: هو سيف يتقلده الخليفة — على إحدى الروايتين — ويضرب الله به أعداءه، فهو زين للخليفة ناصر لدين الله. وعلى الرواية الثانية: هو سيف على عاتق المملكة نجاده يتزين به الملك فهو من الملك في أرفع مواضعه، ومن تأييد الله بالحد الذي يمضيه فيه في أعلى مواقعه، وإذا كان ذلك اكتنفه نصره وساعدته أقداره؛ وإذن يبلغ مراده من أعدائه. وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
لقد خابَ مَن أهدَى سوَيداء قلبه لِحد سِنان في يَدِ الله عامِله
وقد كرره المتنبي في سيف الدولة بقوله:
فَأَنْتَ حُسَامُ الْمُلْكِ وَاللهُ ضَارِبٌ وَأَنْتَ لِوَاءُ الدِّينِ وَاللهُ عَاقِدُ
(٤٠) يقول: إن أعداءه يحاربونه وهم عبيده؛ لأنه يسبيهم فيسترقهم ويملك رقابهم، ويدخرون الأموال وهي غنائم له؛ لأنه يحتويها بالإغارة عليها. هذا، وعبيد جمع عبد — مثل كلب وكليب — وهو جمع عزيز، وقد جاء في جمع عبد: أعبد وعباد، وعُبُد، مثل سَقف وسُقف، وأنشد الأخفش:
انْسِبِ العبدَ إلى آبَائِهِ أسوَدَ الجلدةِ من قوم عُبُدْ
وفي الجمع أيضًا: عِبدان — بالكسر — مثل جِحشان، وعبدان مثل نمر ونمران، وعِبدَّان مشددة الدال — والعبدا والعبداء والمعبوداء والمعبدة: أسماء الجمع، وروي بدل عبيده: عتيده — بالتاء المثناة فوقها — والعتيد: الشيء الحاضر المهيأ. والعتاد: العدة والأهبة والآلة، يقال: أخذت للشيء عتاده. أي آلته.
(٤١) يقول: هم يعدون الدهر كبير الأمر عظيم الشأن، لما يفعله من إسعاد قوم وإشقاء آخرين، والدهر دونه؛ لأنه طوع له لا يفعل من ذلك إلا ما كان على هواه، ويستعظمون الموت لأنه أعظم حادث والموت خادمه؛ لأنه ينفذ مراده في أعدائه.
(٤٢) علي: اسم سيف الدولة. والهام: الرءوس، ولزبات الزمان: شدائده، جمع لزبة، وجمعها بسكون الزاي. قال الجوهري: أصابتهم لزبة: أي شدة وقحط، والجمع لزبات — بالتسكين — لأنه صفة. يقول: إن الذي سماه عليًّا قد أنصفه؛ إذ قد سماه بما يستحقه من الوصف بالعلو. والذي سماه سيفًا قد ظلمه. لأن السيف وإن عظم أثره فهو جماد، وقد ينبو حد السيف عن قطع الهام، أما الممدوح فإن مكارمه تذهب بشدائد الزمان وتنفيها عن العباد، فمن أين يشبه فعله فعل السيف حتى يطلق عليه اسمه؟ وعبارة بعض الشراح: يقول عادة السيف أن يقطع الرءوس ولا يزيد، ولكن هذا الممدوح يقطع رءوس الأبطال بحده: أي عزمه، ويقطع شدائد الزمان بمكارمه، فتسميته بالسيف غير وافية بما يستحقه.
(٤٣) الإزماع: العزم على الأمر. والهمام: الملك العظيم. والرُّبا: جمع ربوة. يقول: أين أزمعت أن تسير أيها الملك، ونحن الذين لا عيش لنا إلا بك، وإذا فارقتنا لم نعش، كنبت الرُّبا لا بقاء له إلا بالغمام. إذ لا شرب له إلا من مائه، أما نبت غير الرُّبا فيمكن أن يشرب من الماء الجاري. وهذا من قول الآخر:
نحنُ زهر الرُّبَا وجودُك غيثٌ هَلْ بغير الغُيوث يُونِقُ زهرُ؟
وعبارة العكبري: أين أزمعت أيها الملك عنا، ونحن الذين أظهرتهم نعمتك إظهار الغمام لنبت الربا، وهو من آنق النبات. ولهذا ضرب الله تعالى به المثل في قوله: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ، وهو مع ذلك أقرب النبت موضعًا من الغمام، وأشده افتقارًا إليه؛ لأنه لا يقيم فيه، ويسرع الانسكاب عنه. ولهذا شبه أبو الطيب حاله به … وقد عاب ابن وكيع هذا البيت، قال: أول هذه القصيدة سوء أدب لسؤاله ملكًا جليلًا ﺑ «أين أزمعت؟» قال: والبيت مأخوذ من قول ابن أبي فنن:
لعمرك إنني وأبا عليٍّ كنبت الأرض تُصلحه السماء
(٤٤) يقول: نحن الذي ضايقتهم الأيام في قربك فبخلت عليهم بك فحرمتهم لقاءك وباعدت بينهم وبينك وخانتهم في القرب منك. يريد أن الزمان يحبه ويعشقه ويغار على قربه ويريد أن ينفرد به دون الناس، وهو معنى معروف قد تعاورته الشعراء. قال محمد بن وهب:
وحارَبني فيه رَيْبُ الزمان كأن الزمان له عاشق
وقوله ضايق الزمان له فيك: قال ابن جني: اللام في «له» زائدة للتأكيد كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُم؛ أي ردفكم، وقوله جل شأنه: إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ وقول الشاعر:
أريد لأنسَى ذِكرها فكأنما تمثَّلُ لي ليلى بكل سبيل
(لكثير عزة، وقيل: لقيس بن الملوح، وقيل: لجميل، وتَمَثَّل — بحذف إحدى التاءين — أي تتمثل وتتخيل، وتراه في قصيدة طويلة جميلة لكثير في «أمالي» القالي.)
وقال ابن فورجه: يريد: نحن من ضايقه الزمان، فحذف الراجع إلى الموصول، والهاء في قوله «له» راجعة إلى الزمان. يقول: نحن الذين ضايقهم الزمان لنفسه ولأجله فيك؛ أي لتكون له دونهم، كما تقول: هم الذين رضيهم عمرو له؛ أي لنفسه، وإلحاق اللام بالمفعول قبيح جدًّا، ونصب «قربك» على أنه مفعول ثانٍ ﻟ «خان»، يقال: خان الزمان زيدًا ملكه، يتعدى إلى مفعولين، ولا يجوز نصبه على الظرف؛ لأنه يصير ذمًّا للممدوح، وإقرارًا بأن الزمان خانهم في حال اقترابهم منه.
(٤٥) الإجذام: الإسراع في السير، قال طرفة بن العبد:
أحلْتُ عليها بالقطيعِ فَأَجذمَتْ وقد خبَّ آلُ الأمْعَزِ المتوقِّد
(من معلقة طرفة، والإحالة: الإقبال هنا. والقطيع: السوط. والإجذام: الإسراع في السير. والآل: ما يرى شبه السراب طرفي النهار، والسراب: ما كان نصف النهار. والأمعز: مكان يخالط ترابه حجارة أو حصى. يقول طرفة: أقبلت على الناقة أضربها بالسوط فأسرعت في السير في حال خبب آل الأماكن التي اختلط تربتها بالحجارة والحصى.)
وهو أيضًا الإقلاع عن الشيء، قال الربيع بن زياد العبسي.
وحَرَّقَ قيْسٌ عليَّ البلاد حتى إذا اضطرمَتْ أجذما
(قيس هو قيس بن زهير العبسي، وكان قد ترك بلاد العرب وانتقل إلى بلاد العجم بعد إثارة الفتن في حرب داحس، والبيت من أبيات في الحماسة انظرها في «حماسة أبي تمام».)
يقول: إن أفعالك كلها مقصورة على العلا؛ قاتلت أو سالمت، أقمت أو سرت، فقصدك في جميع ذلك طلب العلا.
(٤٦) قال الواحدي: أي ليتنا معك نتحمل عنك المشقة في مسيرك ونزولك في سفرك، هذا معنى البيت، ولكنه أساء حتى تمنى أن يكون بهيمة أو جمادًا، ولا يحسن بالشاعر أن يمدح غيره بما هو وضع منه فلا يحسن أن تقول: ليتني امرأتك فأخدمك! قال ابن جني: طعن عليه قوم تعصبوا عليه فقالوا: الخيام يعلو من تحتها وقد جعله دونها، فأجاب عن ذلك نظمًا فقال:
لَقَدْ نَسَبُوا الْخِيَامَ إِلَى عَلَاءٍ
«وقد تقدمت هذه الأبيات.» قال ابن جني: وتلخيص المعنى: ليتنا نقيك الأذى ونتحمل عنك الردى.
(٤٧) الاحتمال: التحمل للمسير، ويروى: ارتحال، والمُقام: مصدر ميمي بمعنى الإقامة. يقول: يحدث لك كل يوم سفر جديد، وذلك آية بعد الهمة، كما قال تأبط شرًّا:
كثيرُ الهوَى شَتَّى النوى والمسالكِ
(صدره:
قليلُ التشكي للمهمِّ يُصيبُه
وقليل — ها هنا — بمعنى النفي.)
وفي كل يوم لك سير يقيم المجد عندك في ذلك السير؛ لأن ذلك السير لطلب المجد، أو لأن المجد مقيم معك حيثما كنت، كما قال أبو تمام:
كلما زرتَه وجَدْتَ لديه نَشبًا ظاعِنًا ومجدًّا مُقيما
وكما قال الأزدي — إسماعيل بن إسحاق القاضي الأزدي:
المجدُ صاحبُك الذي حالفتَه أبدًا فرَوضتهُ المريعةُ مرتعُكْ
فإذا رَحَلْتَ سرَيْتَ تحت ظلالهِ وإذا رَبَعْتَ ففي ذُرَاهُ مربعُكْ
«المريعة: المخصبة. وربعت: أقمت. وذراه: أعاليه، ولك أن تقرأ ذراه: بفتح الذال؛ أي كنفه.»
(٤٨) يقول: إذا عظمت الهمة وكبرت النفس تعب الجسم في تحصيل مرادها؛ وذلك أن الهمة تُعَنِّي الجسمَ في طلب معالي الأمور، ولا ترضى بالمنزلة الدون، ولا تستريح أو تحصلَ على الرتب العالية، كما قال العتابي:
وإن عليَّاتِ الأمور مَشوبةٌ بمستودعاتٍ في بُطون الأساوِدِ
(الأساود: الحيات.)
قال العكبري: وبيت المتنبي من كلام أرسطو: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة. قال ابن وكيع: لم يأخذ من الحكيم، وإنما أخذ من أهل صناعته، فأخذ قوله من قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
فقالوا: ألَا تلهو لتُدْرك لذة؟ فقلت: وكيف اللهوُ والهمُّ حاجزُ؟
ونفسي تُعاني أن تقيم مُرُوءتي على غايتي في المجدِ والجهدُ عاجزُ
ومن قول أبي زرعة:
أهلُ مجدٍ لا يحفِلون إذا نا لوا جسيما أن تُنهكَ الأجسامُ
ومن قول الحصني:
نفسي مُوَكَّلةٌ بالمجد تطلُبُه ومطلبُ المجد مقرونٌ به التلفُ
ومن قول ابن جابر:
إذا ما علا المَرْءُ رَامَ العُلا وَيَقْنَعُ بالدُّون مَنْ كان دُونَا
ومن قول أبي تمام:
فعلِمْنَا أنْ ليسَ إلَّا بشِقِّ النَّفـْ ـسِ صَارَ الكَرِيمُ يُدْعى كَرِيمَا
طَلبُ المجدِ يورِثُ النَّفْسَ خَبْلًا وهُمُومًا تُقَضْقِضُ الحيزُومَا
(الخبل: الفساد في الأصل، والمراد: الهم. والحيزوم: الصدر. وتقضقض: تكسر وتحطم.)
ولقد أخذ هذا المعنى أبو القاسم بن الحريش فقال:
فيا من يكُدُّ النَّفْسَ في طلبِ العُلا إذَا كَبُرَتْ نفْسُ الفتى طال شُغْلُهُ
(٤٩) يقول: كذا ديدن البدر؛ يغرب تارة ويطلع تارة، وكذا البحر يموج ويضطرب ويتحرك، وكذلك أنت لا تستقر أو تتحرك وتسير؛ يعني أنك بدر وبحر، فعادتك عادتهما.
(٥٠) النوى: البعد. وسامه الأمر: جشمه إياه. يقول: لو كلفنا غير فراقك لصبرنا صبرًا جميلًا كما هي عادتنا في الصبر على المحن، بيد أنه لا صبر لنا في بعدك ولا طاقة لنا باحتمال نواك، كما قال أبو تمام:
والصبْرُ يحسُن في المواطِنِ كلِّها إلَّا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ مَذْمُومُ
(٥١) يقول: كل عيش لم تطبه وتؤنسه بقربك هو والحمام — الموت — سواء، وكل شمس ظلمة إذا لم تكن أنت تلك الشمس. يريد تنغص عيشه بعده، وإظلام أيامه بفراقه. هذا، وقوله: ما لم تسكنها، على حد بيت أبي الأسود:
دَعِ الخمرَ يشربْهَا الغواةُ فإنني رأيْتُ أخاها مُغنِيًا بمَكانها
فإلَّا يَكُنْها أو تكُنْهُ فإنه أخوها غَذَته أُمه بِلِبانها
(يقال: هو أخوه بلبان أمه — بكسر اللام — ولا يقال: بلبن أمه؛ إنما اللبن الذي يشرب من ناقة أو شاة أو غيرهما من البهائم. يصف أبو الأسود الزبيب، وأطلقه على مذهب العراقيين في الأنبذة، وحض على شربه وترك الخمر بعينها، للإجماع على تحريمها، وجعل الزبيب أخًا للخمر لأن أصلها الكرمة، واستعار اللبان لما ذكره من الإخوة.)
والأجود: تكن إياها.
(٥٢) الخميس: الجيش. واللهام: الكثير الذي يلتهم كل شيء فيهلكه ويذهب به. يقول: أقم عندنا لتنفي الوحشة عنا يا من يأنس بوجوده الجيش العظيم؛ لقوة الجيوش بمكانه، فهم وإن كثروا يأنسون بك، ويتشجعون على لقاء الأهوال ثقة بشجاعتك.
(٥٣) الذي: عطف على «من» — في البيت السابق — والوغى: الحرب. والذمام: العهد. يقول: هو يحضر الحرب رابط القلب غير مضطرب الجأش، كأن القتال عاهده على أن لا يقتل. فهو يسكن إلى القتال سكونه إلى الذمام، وهذا من قول أبي تمام:
مُتسرِّعين إلى الحتوفِ كأنما بين الحُتوفِ وبينهم أرحامُ
(٥٤) الكتيبة: الفرقة من الجيش. والفهاق: جمع فهقة؛ وهي العظم الذي يكون على اللهاة، وهو مركب الرأس في العنق. والأقدام: جمع قدم. يقول: والذي يضرب الجيوش بسيفه، ويقطع أعناقهم حتى تتلاقى مع الأقدام.
(٥٥) يقول: وإذا ألم بمكان ونزل به ساعة صار ذلك المكان في ذمته، فلا تلم به الحوادث ولا يصيبه الزمان بأذى من جدب وقحط، وبعبارة أخرى: إن سيف الدولة إذا نزل ببلد أجاره على الدهر، وكف عن صروفه وأذاه وأمن المكروه ببركته.
(٥٦) والذي: مبتدأ. وسرور: خبره، والجملة: عطف على الشطر الثاني من البيت السابق. يقول: والذي تنبته بلاد ذلك المكان الذي تحل به سرور، والذي تمطره سماؤها مدام — خمر — أي يقيم السرور والطرب بذلك المكان حين تحل به، ولعله ينظر إلى قول البحتري:
ويومٍ بالمطيرة أمطرَتنا سماءٌ صوبُ وابِلها العُقارُ
(المطيرة: قرية من نواحي سامراء، وكانت من متنزهات بغداد وسامراء. قال البلاذري: إنها محدثة بنيت في خلافة المأمون. والعقار: الخمر.)
(٥٧) يقول: كلما قال الناس قد بلغ النهاية في الكرم أبدع كرمًا لم يهتدِ إليه من قبله من الكرام. وهو من قول البحتري:
طلوبٌ لأقصى غايةٍ بعد غايةٍ إذا قيلَ يومًا: قد تناهى، تزيَّدَا
(٥٨) تكع: تجبن وتضعف وتعجز، يقال: كع الرجل يكع — بكسر الكاف — فهو كع وكاع؛ أي لا يمضي في عزم ولا حزم، وهو الناكص على عقبيه. وفي الأثر: ما زالت قريش كاعة حتى مات أبو طالب، فلما مات اجترءوا عليه … الكاعة: جمع كاع، وهو الجبان. أراد أنهم كانوا يجبنون عن النبي ﷺ في حياة أبي طالب، فلما مات اجترءوا عليه. والارتياح: الاهتزاز للبذل واصطناع المعروف. يقول: وأرانا قتالًا يجبن عنه الأعداء ويعجزون، واهتزازًا للجود يحار فيه الخلق.
(٥٩) يقول: إن هيبته في القلوب تقوم مقام السيف، فليس يحتاج إلى اللجوء إلى السيف؛ لأنه مهيب تهابه الأعداء، فلا يقدمون عليه فيحتاج إلى دفعهم عن نفسه بالسيف، قال ابن وكيع: وهذا من قول أبي دلف:
ويصولُ الإمامُ في حيثما صا لَ وفي صولةِ الإمام الحِمامُ
(٦٠) يقول: إن توقاه الشجاع وحفظ نفسه منه في الحرب فذلك منه كثير، والبليغ إن أمكنه أن يسلم عليه فذلك غاية بلاغته؛ لأن هيبته توجب أن لا ينطق أحد بين يديه.
(٦١) الارتياح: الانبساط والاهتزاز للعطاء، يقول: أنا منك بين فضائل ذاتية وهي أوصاف ذاتك، ومكارم فعلية هي صفات فعلك، ومن اهتزازك للعطاء في غمام لا يقلع مطره.
(٦٢) تحبو به: تسخو به. و«ما» في قوله: «فيما ألاحظه»: نكرة، وليست موصولة، كأنه قال في شيء ألاحظه، والظرف معطوف على الخبر — في البيت السابق — يقول: إنني أستعظم احتقارك ما تعطيه وتجود به، ومن ثم أرى نفسي كأنني لا أعاينه في اليقظة وإنما أراه حلمًا، وبعبارة أخرى: لاحتقارك ما تعطيه — على كثرته — أرى نفسي في حال كأني أبصرها في النوم؛ لأن العادة لم تجر بذلك في اليقظة.
(٦٣) الهاء في «سيفها»: للدولة، وأضمر للعلم. وبلاك: اختبرك. والصارم: القاطع. يقول: لم يسمك الخليفة سيف الدولة إلا بعد أن جربك، فكنت صارمًا حقيقة لا ينبو حدُّك، ولا يطمع فيك عدوُّك، ولا يفل عزمك.
(٦٤) تتوج: لبس التاج، وكذلك تختم: أي لبس الخاتم. والخاتم: بكسر التاء وفتحها. يقول: إن الخليفة يتجمل بك تجمل التاج بالدر، والخاتم بالفص. يعني أنك أرفع ما يترفع به الخليفة.
(٦٥) انتضاك: استلك. وقائم السيف: مقبضه. يقول: إذا جردك الخليفة على عدو هلك ذلك العدو، وعجز هو عن حملك، وضاقت كفه عن قائم سيف أنت حقيقته؛ يعني أنه إنما يجردك بأن يدعوك للنضح عن الخلافة، لا بأن يتصرف فيك كيف يشاء.
(٦٦) المشمر: المجتهد. يقول: من شمر لوصف جودك أظهر جودك عجزه عن وصفك فهو لكثرته يعجز الواصف عن استيعابه، كما قال:
وكلُّ من أبدع في وصفهِ أصبح منسوبًا إلى العِيِّ
ومن كتم وصف جودك ضاق ذرعه؛ لأنه يريد أن يصف جودك ويعلم عجزه، فيضيق صدره لذلك.
(٦٧) النسيب: التشبب بالنساء، وشبب بالمرأة: قال فيها الغزل، ولعله من تشبيب النار وتأريثها. والمتيم: الذي استعبده الهوى. يقول: اعتاد الشعراء أن يقدموا النسيب في أشعارهم كلما مدحوا، فأنكر هذه العادة وقال: أكل فصيح يقول الشعر متيم بالحب حتى يبدأ بالنسيب؟ يعني ليس الأمر على هذا، فلا تجارهم في هذه العادة.
(٦٨) يقول: إن حب سيف الدولة أولى من حب غيره، فإنه إذا جرى الذكر الجميل يكون به بدؤه وختامه، يعني لا يذكر غيره بما يذكر هو به من الجميل، ومن كان بهذه الصفة كان أولى بالحب من النساء اللائي ينسب بهن الشعراء.
(٦٩) الغواني: جمع غانية؛ وهي التي غنيت بحسنها عن الزينة. وطمح بصره إليه: ارتفع نظره شديدًا. وقوله: ويعظم؛ أي ويعظم عنهن، فحذف للعلم. يقول: كنت أرغب في النساء قبل الْتقائي بسيف الدولة، وتطمح عيني إلى منظره الذي حين نظرت إليه نظرت إلى منظر يصغر منظرهن عنه، ويعظم هذا المنظر عن منظرهن؛ لأن هذا ملك وسلطان، وهن لهو وغزل. وعبارة العكبري: أطعت الغواني في التشبيب بهن قبل أن يطمح بصري إلى مملكة هذا الممدوح الذي يقل حسنهن عندها، ويصغر شأنهن عند شأنها. وقال ابن جني: المعنى: كنت متيمًا بالنساء وحبهن قبل أن أتعرض للأمور العالية، فلما قصدتها تركتهن. وقوله: إلى منظر: يعني معالي الأمور العالية، وروايته على هذا التفسير. وأعظم: أي أنا أعظم عنه، جعل نفسه تعظم عن المعالي.
(٧٠) تعرض الدهر وتعرض له: أتاه عن عرض — جانب. التطبيق: أن يصيب المفصل في الضرب. والتصميم: أن يمضي السيف في الضريبة. يقول: أتى الدهر عن عرض فذللـه بالتطبيق والتصميم، وإنما وصفه بهما لأنه جعله سيفًا. ويقال: سيف مطبق وهو الذي إذا أصاب المفصل قطعه، وسيف مصمم: إذا كان ماضيًا في الضريبة، وحاصل المعنى أنه أخضع الدهر، فلا يعسر عليه ما أراد، كما قال في البيت التالي.
(٧١) يقول: فحكمه جائز حتى على الشمس، وحسنه ظاهر حتى على البدر؛ أي أنه أحسن منه، فالميسم الحسن. (قال عمرو بن كلثوم في معلقته:
ظعائنَ من بني جُشَمِ بن بكر خلطن بمِيسَمِ حَسَبًا ودِينا)
وهذا ما ذهب إليه ابن جني، وقال العروضي: إن جاز أخذ الميسم من الوسامة، فأخذه من الوسم أولى ليكون المعنى موافقًا للمصراع الأول. يقول: كل شيء موسوم بان أنه له وتحت قهره وأمره، حتى البدر، وأشار بالميسم على البدر إلى ما في وجهه من السواد الذي هو أثر المحو.
(٧٢) يقول: إن أعداءه من الملوك كأنهم خلفاؤه حيثما كانوا من الأرض، استخلفهم على حفظ ممالكهم، فإن شاء تركهم عليها وإن شاء أجلاهم عنها فسلموا ممالكهم إليه، والمعنى: أن أعاديه من الروم وغيرهم يتصرف فيهم كيف شاء. هذا، والخلفاء: جمع خليفة، والهاء في «خليفة» للمبالغة، وجمع على الخلفاء على معنى التذكير لا على اللفظ، مثل ظريف وظرفاء، ويجمع على اللفظ خلائف كظريفة وظرائف.
(٧٣) المشرفية: السيوف. والخميس: الجيش. والعرمرم: الكثير. يقول: إنه لا يرسل إلى مخالفيه رسلًا غير الجيوش. ولا كتب له إلا السيوف: يعني أنه لاقتداره لا يعمد في إخضاعهم إلى الملاينة، ولكن إلى القتال؛ لأنهم أعجز من أن يقاتلوه، ولعل في هذا نظرًا إلى قول أبي تمام:
السيف أصدقُ أنباءً من الكُتب في حدهِ الحدُّ بين الجد واللعبِ
(٧٤) يريد عظم ملكه وعموم إحسانه. يقول: كل من له يد يقوم بنصره لوقوعهم تحت طاعته؛ ولأن نصره نصر دين الله، وكل من له فم ينطق بشكره؛ لما شملهم من إنعامه.
(٧٥) يقول: إن سلطانه عم الدنيا حتى خطب له على منابرها وضرب باسمه الدينار والدرهم. هذا، والمنبر: مرقاة الخاطب؛ سمي كذلك لارتفاعه وعلوه — من نبرت الشيء أنبره نبرًا: رفعته، وكل مرتفع: منتبر. والدينار: فارسي معرب، وأصله دنار — بالتشديد — بدليل قولهم: دنانير ودنينير؛ فقلبت إحدى النونين ياء، لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على فعال، كقوله تعالى: وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا إلا أن يكون بالهاء فيخرج على أصله مثل الصنارة والدنامة — القصير — لأنه أمن الآن من الالتباس؛ ولذلك جمع على دنانير. ومثله: قيراط، وديباج وأصله: دباج. قال أبو منصور: دينار وقيراط وديباج أصلها أعجمية، غير أن العرب تكلمت بها قديمًا فصارت عربية.
(٧٦) يقول: إنه شجاع ذو بصر وحذق بالحرب والنزال؛ فيضرب قرنه مكافحة وقد دنا ما بينهما حتى يضيق مضرب سيفيهما، وإذا ستر الغبار — غبار الحرب — نور الشمس فأظلم ما بين الشجاعين وزاغت الأبصار فإن بصره يبقى ثابتًا، فلا يخطئ مقتل قرنه. ويجوز أن يكون معنى «وما بين الشجاعين مظلم» أنهما وقعا في أمر عظيم، وتمثل الموت لهما. ومن شأن الناس أن يقولوا: أظلمت الدنيا ما بيني وبين فلان: إذا كلمه بكلمة تشق عليه، وإن لم يكن ثم ظلام.
(٧٧) نجوم القذف: هي التي ترمي بها الشياطين، قال تعالى: وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ونجوم الممدوح: خيله. والورد من الخيل: ما بين الكميت والأشقر. يقول: إن خيله تنقض على الأعداء كالشهب المنقضة في الهواء في السرعة والشدة. وجعلها نجومًا لأنها تتلألأ في الظلام ببريق الحديد؛ ولأنها تستغرق الأرض بسيرها استغراق الكواكب، فهي تسير في الأرض كما تسير الكواكب في السماء.
(٧٨) القصد: قطع الرماح إذا انكسرت، الواحدة: قصدة. والمران: جمع مارن؛ ما لان من الرماح. يقول: إن خيله تطأ القتلى من الأبطال الذين لم تحملهم ويعني أبطال العدو، وتطأ ما تكسر من قطع الرماح التي لا يمكن تقويمها لتكسرها، وهذا من قول الحصين بن الحمام المري:
يَطأن من القتلى ومن قِصَدِ القَنا خَبارًا فما يَجرِين إلا تجشما
«الخبار: الأرض الرخوة، تتعتع فيها الدواب، وفي المثل: من تجنب الخبار أمن العثار.» هذا، وقوله: «من لا حملنه» أراد ما حملنه؛ لأن «لا» لا تدخل على الماضي إلا مكررة، ولكنه أبدلها فرارًا من ثقل اللفظ.
(٧٩) السيدان: جمع سيد؛ وهو الذئب. وعُسَّل: جمع عاسل — من عسلان الذئب؛ وهو الإسراع والاضطراب في الجري. والنينان: جمع نون؛ وهو الحوت. يقول: إن خيله لكثرة غزواته عمت البر والبحر، فهي تعدو مع الذئاب في البر وتعوم مع الحيتان في البحر، حين تقصد أعاديه.
(٨٠) في الواد: يريد في الوادي، فاجتزأ عن الياء بالكسرة. وكُمَّن: جمع كامن — من كمن: إذا اختفى — والعقبان: جمع عقاب؛ وهو الطائر المعروف. والنيق: أعلى موضع في الجبل. والحوَّم: جمع حائم — من حومان الطير، وهو دورانها — يقول: إن خيله تكمن مع الغزلان في الأودية التي فيها كناسها؛ يعني إذا كمنت للعدو أو هبطت في الأودية فكمنت فلم تظهر، وتقتحم على الأعداء رءوس الجبال مع العقبان التي فيها وكورها. والحاصل أن الممدوح قد استوى لدى خيله وفرسان جيشه البر والبحر والسهل والوعر؛ فلا يبعد عنه مطلب، ولا يمتنع عليه موضع: وذلك لقوة عزائمه ونفاذه في مقاصده.
(٨١) الوشيج: شجر الرماح. واللبات: جمع لبة؛ أعلى الصدر. يقول: إذا جلب الناس الوشيج من منابته؛ ليجمعوه استعدادًا لما يطرأ، يتكسر تارة بخيله — أي بأيدي فرسانها في الطعن — ويتكسر تارة في صدورها، إذا طعنه الأعداء. يريد وصف وقائع الممدوح بالشدة والاستبسال.
(٨٢) بغرته: متعلق بمعلم — آخر البيت — والمراد بغرته: وجهه. والحجا: العقل. واللها: العطايا، جمع لهية: والمعلَم: الذي جعل لنفسه في الحرب علامة يعرف بها. يقول: هو معلم بوجهه في هذه الأشياء؛ أي أنه معروف يعرف بوجهه، فكأنه معلم به عند الحرب إذا حارب، وعند السلم وعند العقل والسخاء. قال الواحدي: وهذا على رواية معلم — بفتح اللام — ومن روى بكسر اللام قال: إنه لشدته وشهرته، لا يحتاج أن يعلم نفسه فإنه معلم بوجهه؛ يعني أن وجهه كعلامة له لشهرته، والجيد رواية من روى للحرب معلم. يقول: بوجهه علامة لهذه الأشياء؛ أي إذا نظرت إليه عرفت أنه أهل لهذه الأشياء موصوف بها، يحارب إذا رأى الحزم في الحرب، ويسالم إذا رأى السلم خيرًا من الحرب، ويعرف في وجهه أنه عاقل جواد محمود ماجد.
(٨٣) يقول: إن عدوه يشهد له بالفضل لظهوره ووضوحه، بحيث لا يمكن أن ينكر فضله، كما قيل: والفضل ما شهدت به الأعداء. ولظهور آثار السعادة عليه يحكم له بالسعادة من لا يعرف أحكام النجوم من السعادة والنحوسة.
(٨٤) عاد وجرهم: قبيلتان من العرب القديمة البائدة. يقول: أجار الناس من الأيام وحفظهم منها، فلا تقدر أن تصيبهم بمكروه حتى أطمع ذلك قبائل عاد وجرهم — على قدمهم وانعدامهم وهلاكهم في الزمان الأول — في أن يستنقذهم من يد العدم فتطالبه بردهم إلى الدنيا بعد أن أفنتهم الأيام.
(٨٥) يدعو على الريح بالضلال؛ لأنها آذتهم في طريقهم، كما قال:
بكَرْن ضرًّا وبَكرت تنفعُ
ودعا للسيل بالهداية؛ لأنه حكى الممدوح بالجود، وقال ابن فورجه: أراد الدعاء على الريح لضررها والدعاء للمطر لنفعه. وقوله: ماذا يؤمم؛ أي ماذا يقصد؟ هل يقصد أن يصد سيف الدولة عن طريقه وهو لا يستطيع ذلك؟ وقد بين هذا المعنى في البيت التالي.
(٨٦) الوبل: المطر الغزير. وثنينا: أي صرفنا. ويخبره — بالنصب — لأنه جواب الاستفهام. يقول: هلا سأل المطر الذي قصد صرفك عن مقصدك بسكبه فتخبره السيوف التي ثلمتها وقائعك أنها لم تقدر على صرفك عن وجهك فيعلم المطر أنه لا يقدر أيضًا على صرفك.
(٨٧) بصوبه: أي بما ينسكب منه، ويقال: فلان أعلى كعبًا من فلان؛ أي أرفع منه قدرًا، وأصله في المتصارعين يكون كعب الغالب أعلى من كعب المغلوب. يقول: لما استقبلك السحاب بالمطر استقبله منك من هو أعلى منه شرفًا وأوسع كرمًا.
(٨٨) باشره: تولاه بنفسه. والقنا: الرماح. يقول: إن هذا المطر باشر منك وجهًا طالما باشر الرماح فلم تنل منه، وبل ثيابًا طالما بلتها دماء القتلى فلم يثنه بللها، فكيف يهاب وقع المطر من لا يهاب وقع الرماح، ويخشى الماء من لم يخشَ الدماء؟!
(٨٩) تلاك: تبعك، ومن الشأم: متعلق بتلاك. يقول: تبعك الغيث وأنت غيث، فلا جرم أن يتبع بعضه بعضًا، وأنت أستاذ حاذق في الجود، فهو يتبعك ليتعلم منك الجود كما أن المتعلم للشيء يتبع من حذقه.
(٩٠) جشمه الشيء: كلفه إياه فتجشمه، والذي: مفعول ثانٍ لجشمه. يقول: إن السحاب زار قبر والدتك معك وكلفه الشوق ما كلفك من المسير نحوها؛ أي هو يشتاق قبرها كما تشتاقه.
(٩١) الذؤابة في الأصل: الضفيرة من شعر الرأس، والمراد بها هنا: ما أرسل من طرف العمامة بعد تكويرها، وأراد بالفارس المرخي الذؤابة: سيف الدولة، وإرخاء الذؤابة: كناية عن كونه معتمًّا. لأن سائر الجيش بالمغافر. يقول: لما عرضت للجيش وتصفحته كنت أنت بهاءه وجماله على عظم شأنه وتكاثر شجاعته.
(٩٢) التجافيف: جمع تجفاف، ما جلل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح، وقد يلبسه الإنسان أيضًا. والطود: الجبل. والأيهم: الذي لا يهتدى فيه، يقال: بر أيهم وفلاة يهماء. جعل كثيرة التجافيف حوله بحرًا مائجًا، وجعل خيله التي تسير بهذه التجافيف طودًا عظيمًا. يعني أن حوله من بريق الأسلحة ولمعان التجافيف ما يشبه البحر بكثرته، ويحكيه ببريق جملته يشير بذلك إلى موكب من خيله. وهو تخيل بديع: جعله التجافيف بحرًا يسير به من الخيل جبل عظيم لا يهتدى فيه.
(٩٣) الأشتات: المتفرقة، جمع شت. لما جعل جيشه جبلًا قال: إنه حل بين الجبال فملأ فجوة ما بينها فتساوت به أقطار الأرض كأنه جمع جبالها المتفرقة، ونظم بعضها إلى بعض. وعبارة ابن جني: تحيط خيله بالجبال وهي كالجبل، فكأن جيشه يؤلف بينها لسعته وكثافته، كقول النابغة:
تَغِيبُ الشوَاهِقُ في جيشِه وَتَبْدُو صِغارًا إذا لمْ تَغِبْ
وقال الواحدي: أي عم الأرض بكثرة خيله، فنظم بعمومه متفرق الجبال ونواحي الأرض. وقال ابن الإفليلي — على رواية الأقتار بدل الأقطار: الأقتار: الغبار، يشير إلى أن هذا الجيش يسحق الجبال بكثرته، ويحطمها بعظمه، فيستوي الرهج في السهل والوعر، وفي الصلب والرخوة، ويشتمل العجاج على الجبال حتى تصير كأنها في ذلك العجاج منتظمة، وبما غشيها من الجيش متصلة، كقول النابغة:
جَيشٌ يَظَلُّ بِهِ القضاءُ مُعَطَّلًا يَدعُ الإكامَ كأنَّهُنَّ صَحارِ
(الإكام: جمع أكمة؛ وهو الرابية. وصحار: جمع صحراء.)
(٩٤) وكل فتى: عطف على قوله «بحر»؛ أي وحواليه كل فتى. والأسنة: أطراف الرماح. والإعجام: التنقيط. يقول: وحوله فتيان على وجوههم آثار الضرب والطعن يريد أنهم رجال حرب، وجعل أثر الضرب كالسطر لطوله، وأثر الطعن إعجامًا لذلك السطر، لندور جراحته فهي كالنقطة، وهذا المعنى ينظر إلى قول أبي تمام:
كتبتَ أوجهَهُمْ مَشْقًا ونَمنَمة ضَربًا وطعنًا يُقاتُ الهامَ والصُّلُفَا
كتابةً لَا تنِي مَقْروءَةً أبدًا ومَا خَطَطْتَ بِهَا لامًا ولا ألِفا
(من قصيدة له بارعة يمدح بها أبا دلف. والمشق: مد الحروف. والنمنمة: النقش، ويقات الهام: أي يجعل الهام والصلف قوتًا له. والهام: الرءوس. والصلف — بضمتين — جمع صليف؛ عرض العنق. وهما صليفان من الجانبين. ولا تني: لا تزال.)
(٩٥) المفاضة: الدرع الواسعة. والضيغم: الأسد. والتريكة: البيضة من الحديد، تشبيهًا بالتريكة؛ وهي: بيضة النعامة إذا اندلقت وخرج الفرخ فتركت، والأرقم: الحية الذكر. والضمير في يديه وعينيه للفتى. وضيغم: فاعل يمد. وأراد بمد يديه منه ضيغم فهو من باب التجريد كما تقول إن لقيت فلانًا: لقيت منه الأسد، وقوله: وعينيه؛ أي ويفتح عينيه منه أرقم. وهذا من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا
يقول: إن هذا الفتى في الشجاعة كالأسد، وفي حدة النظر وتوقد العينين كالأرقم، فإذا مد يديه في الدرع فقد مدهما أسد. وإذا مد عينيه من تحت الخوذة فقد مدهما أرقم.
(٩٦) الضمير في «كأجناسها»: للخيل. والشعار: العلامة في الحرب. والمسمم: الذي سقى السم. يقول: إن هذه الخيل عربية، وكل ما معها من الرايات والسلاح والملابس عربي كذلك.
(٩٧) الطرف: النظر، والضمير في «طرفه» للفارس، وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الخيل لما ذكرت لا بد لها من راكب. يقول: وأدب هذه الخيل طول تمرسها بالقتال والتقلب في شدائد الحرب حتى إن فارسها إذا أشار إليها من بعد فهمت إشارته.
(٩٨) الوحى: الصوت الخفي. وفعلًا ولحظًا: منصوبان على نزع الخافض، والواو بعدهما: للحال. يقول: إن هذه الخيل — لأدبها — تجاوبه بفعلها من غير أن تسمع صوته، ويفهما مراده باللحظ من غير أن يتكلم. وهذا المعنى ينظر إلى قول الفرزدق:
هَلْ تَذْكُرِينَ إذِ الركَابُ مُنَاخَةٌ بِرِحَالِهَا لِرَوَاح أَهْلِ الْمَوْسِمِ
إذْ نَحْنُ نَسْتَرِقُ الْحَدِيثَ وَفَوْقَنَا مِثْلُ الضَّبَابِ مِنَ الْغُبَارِ الْأقْتَمِ
وَكَذاكَ نُخْبرُ بِالْحَوَاجِبِ بَيْنَنَا مَا فِي النُّفُوس وَنَحْنُ لَمْ نَتَكَلَّمِ
(٩٩) التجانف: الميل، وفي التنزيل: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ أي مائل، وقال الأعشى:
تجانَفُ عن جَو اليمامَةِ ناقتِي وما عدَلَتْ من أَهْلِهَا لِسَوائكا
وميافارقين: بلد من أعمال ديار بكر. يقول: إن خيلك تميل عن ميافارقين رحمة لها؛ لأن فيها قبر والدته، وخشية أن تدوسها بحوافرها لو هي سارت بجانبها.
(١٠٠) يقول: لو أن هذه الخيل زحمت ميافارقين بمناكبها، أو لو زحمت ميافارقين الخيل بجدرها — وسماها مناكب؛ لأن الزحام يكون بالمناكب — يعني لو جرت بينهما مزاحمة لدرت — علمت — ميافارقين أي السورين يكون الضعيف المهدم؟ يعني أن الخيل أقوى من هذه البلدة، فهي لو قصدتها لهدمت سورها، فكانت تعلم أن سورها ضعيف لا يقوى على دفع خيل سيف الدولة. واستعار للخيل سورًا؛ لأنه ذكرها مع البلدة وجمعهما في المزاحمة، ولما كانت البلدة قوية بالسور استعار لقوة الخيل سورًا، قال ابن جني: من أعجب ما جرى أن أبا الطيب أنشد هذه القصيدة عصرًا وسقط سور المدينة تلك الليلة، وكان جاهليًّا قديمًا. هذا، وإليك تعليقات العكبري على هذا البيت قال: الضمير في «زحمتها»: للبلدة، وكذلك في «درت»: أي درت البلدة. ورفع أي بالابتداء، وما بعده الخبر، وهو استفهام، ومفعول «درت» محذوف، تقديره: علمت ضعفها؛ لأن «أيًّا» لا يعمل فيها ما قبلها كقوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ، فرفع «أي» بأحصى؛ لأنه فعل ماضٍ على قول بعضهم. والصحيح أن «أيًّا» في الآية بمعنى الذي «وأحصى» اسم، وقد حذف صدر الصلة، والتقدير: هو أحصى و«أي»: إذا كانت بمعنى الذي وتمت صلتها: أعربت، وإذا حذف صدر الصلة عادت إلى أصلها من البناء، وهي منصوبة الموضع بنعلم، و«أي» في البيت: مبتدأ، والضعيف: خبره، والمهدم: خبر ثانٍ، والجملة: في موضع نصب ﺑ «درت»، فهي معلقة عن العمل، و«أي» في البيت: استفهام. وروى الواحدي وغيره: «سوريها» فالضمير للبلدة. ورواية أبي الفتح: «سورينا» أي سور البناء وسور الخيل.
(١٠١) على كل طاو: من صلة قوله: «وكل فتى»، والطاوي: الخميص الجوف؛ أي الضامر جوعًا. يقول: كل فتى على فرس ضامر تحت فارس ضامر كأن شرابه الدم وطعامه اللحم، فهو أبدًا مستميت في طلب الأعداء مقتحم عليهم موغل في طلبهم ليأكل لحومهم ويشرب دماءهم. ووجه آخر وهو: وكل فتى ضامر على فرس ضامر كأنه — أي الفرس — يسقى من دمه ويطعم من لحمه؛ أي لضمره كأنه ليس له غذاء ولا شرب إلا من جسمه، فهو يزداد كل يوم ضمرًا. هذا، وقد قال ابن وكيع: إن البيت مأخوذ من قول أبي الشيص:
أكل الوجيفُ لحومَها ولحومَهم فأتَوكَ أنقاضًا على أنْقاض
(الوجيف: ضرب من السير السريع.)
(١٠٢) الوغى: الحرب. والحصان: الذكر من الخيل. والدارع: ذو الدرع. يقول: إن لهذه الخيل في الحرب زي فوارسها؛ لأنها قد ألبست التجافيف صونًا لها، فكل فرس منها ذو دروع من التجافيف وذو لثام بما أرسل على وجهه من الحديد.
(١٠٣) يقول: لم يتحصنوا هم بالدرع ولم يحصنوا خيلهم بها، ضنًّا بنفوسهم أن تنالها أسنة الرماح؛ فإنهم شجعان لا يبالون بالقتل، غير أنهم يقابلون شر الأعداء بمثله، وذلك فعل الحازم اللبيب، ومن شهد الحرب غير مستعدٍ ولا متسلح كان ذلك خرقًا وهوجًا. روي أن كُثَيِّرًا أنشد عبد الملك بن مروان:
عَلَى ابْنِ أبي العَاصِي دلاصٌ حَصينَة أجَادَ المسَدِّي سَرْدَهَا وَأذالهَا
يَئُودُ ضَئيلَ القَومِ حملُ قتيرها ويَستضلع القَرمُ الأشمُّ احتمالَها
(من قصيدة بارعة يقول فيها:
أحاطت يَداهُ بالخلافة بعدَ ما أرادَ رِجال آخرون اغتيالها
وإن أمير المؤمنين هو الذِي غزا كامِناتِ الود مني فنالها
تبلج لما جئت واهتز ضاحكًا وبَلَّ وسالاتي إليه بلالها
وقوله وأذالها: أي أطالها.)
فقال له عبد الملك: هلا مدحتني كما مدح الأعشى صاحبه فقال:
وإذا تكُونُ كَتِيبةٌ مَلْمُومَة خرساءُ يُغْشِي الرائدُون نهالها
كُنْتَ المقدَّمَ غيرَ لابِسِ جُنَّةٍ بالسَّيفِ تقْتلُ مُعلَمًا أبطَالَها؟
(ملمومة: كململمة؛ مجتمعة. وخرساء: أي لا يسمع لدروعها صوت للينها. ونهالها: عطاشها؛ أي يغشى القائدون عطاشها الأعداء، وفي رواية: يخشى. وجنة بالضم: الدرع، وكل ما وقاك فهي جنة. معلمًا بكسر اللام وفتحها: من أعلم الفارس نفسه؛ أي جعل لها علامة كريشة أو خرقة ملونة يعرف بها مكانه، والبيتان من قصيدة يمدح بها الأعشى قيس بن معد يكرب بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث الكندي.)
فقال له كثير: إنه وصف صاحبه بالخرق، وأنا وصفتك بالحزامة. ويريد المتنبي بالشر الأول شر الأعداء وما جاءوا به من العدد والأسلحة، وبالثاني ما عارضوهم بمثله، وسماه شرًّا للمقابلة، كقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا.
(١٠٤) يقول: أتظن السيوف — لأنك سميت سيفًا — أنها تشاركك في الأصل وأنك من جملتها، ساء هذا الوهم وهمًا. يعني: أنك وإن سميت سيفًا فإنك أشرف من سيوف الهند وأجل منها شأنًا وأعظم أصلًا رغم جلالتها ورفعتها ونفاذها وهيبتها، فهي بعض آلاتك تصرفها ولا تصرفك. هذا، ويجوز في مضارع حسب: فتح السين وكسرها، وهما لغتان فصيحتان.
(١٠٥) يقول: إذا نحن سميناك سيفًا خلنا — حسبنا — سيوفنا تتكبر وتعجب بأن صرت لها سميًّا فهي تتبسم في أغمادها تيهًا — كبرًا وفخرًا — وهذا ينظر إلى قول أبي نواس:
تَتِيهُ الشَّمسُ وَالْقَمَرُ المنيرُ إذَا قُلْنَا: كأنهما الأميرُ
قال العكبري: وقد عاب هذا البيت من لا يعرف معاني الشعر، وقال: قد وضع الشيء في غير موضعه حيث قال: تتبسم من التيه، ولا يكون من التيه إلا العبوس، وأن يشمخ الإنسان بأنفه، وهو فعل التائه المتكبر، وإنما يكون التبسم من المرح والفرح. وليس كما قالوا، والتبسم قد يكون من المعجب بنفسه التائه على أقرانه؛ استكثارًا لما عنده واستقلالًا لما عند غيره، فليس ينكر أن يكون التبسم من الإعجاب، فكأن السيوف تبسمت إعجابًا بنفسها لمشاركة الممدوح لها في التسمية، فحقرت بذلك السلاح والرماح.
(١٠٦) بدونه: أي بدون قدره واستحقاقه. يقول: لم نر ملكًا يلقب بدون ما يستحق فيرضى بذلك ومحله فوق أن يسمى سيفًا، ولكن الناس يجهلون قدرك وأنت تحلم عنهم فلا تؤاخذهم بجهلهم.
(١٠٧) الثنية: طريق العقبة. يقول: أخذت على أرواح أعدائك طريق عيشهم فليس يعيشون؛ لأنك فرقت بينهم وبين أرواحهم بالقتل، وأنت تعطي من تشاء، وتحرم من تشاء، لأنك ملك في يدك البسط والقبض.
(١٠٨) هذا من قول أبي العتاهية:
فَمَا آفَةُ الْآجَالِ غَيْرُكَ في الْوَغَى وَمَا آفَةُ الْأَمْوَالِ غَيْرُ حبَائِكَا
(١٠٩) الشبِم: البارد. والشبَم: البرد. وقد شبِمَ الماء — بالكسر — فهو شبِمٌ، ومطر شبِمٌ، وغداة ذات شبم، وقيل لابنة الخس (الخس: رجل من إياد، وابنة الخس: الإيادية التي جاءت عنها الأمثال، واسمها هند، وكانت معروفة بالفصاحة): ما أطيب الأشياء؟ قالت: لحم جزور سنمة، في غداة شبمة، بشفار خذمة، في قدور هزمة؛ أرادت في غداة باردة. والشفار الخذمة: القاطعة. والقدور الهزمة: السريعة الغليان. والشبم: الذي يجد البرد مع الجوع، قال حميد بن ثور:
بِعَيْنِيْ قُطَامِيٌّ نَمَا فوقَ مِرْقَبِ غَدا شَبِمًا يَنْقَضُّ بين الهجارِسِ
(القطامي بضم القاف وفتحها: الصقر، مأخوذ من القطم، وهو المشتهي اللحم. والهجارس: الثعالب. وقيل: جميع ما تعسس من السباع ما دون الثعلب وفوق اليربوع.)
يقول: وا حر قلبي واحتراقه حبًّا وهيامًا بمن قلبه بارد لا يحفل بي ولا يقبل عليَّ، وأنا عنده عليل الجسم لفرط ما أعاني وأقاسي فيه، سقيم الحال لفساد اعتقاده فيَّ. هذا وقوله: وا حر قلباه، أصله وا حر قلبي، فأبدل من الياء ألفًا طلبًا للخفة، والعرب تفعل ذلك في النداء، واستجلب هاء السكت وأثبتها في الوصل كما تثبت في الوقف، وحرك الهاء لسكونها وسكون الألف قبلها، وللعرب في ذلك أمران: منهم من حرَّك بالضم تشبيهًا بهاء الضمير، وأنشدوا لامرئ القيس:
وَقَدْ رَابنِي قَولُها يَا هَنَا هُ وَيْحكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشرِّ
(قولهم: يا هناه: أي يا رجل، لا يستعمل إلا في النداء. يقول: كنا متهمين فحققت الأمر.)
ومنهم من يحرك بالكسر على ما يوجد كثيرًا عند التقاء الساكنين.
(١١٠) براه: أنحله وأضناه. وأكتم: مبالغة من الكتمان. وتدعي: منصوب بأن مضمرة بعد الواو، وسكنه ضرورة، أو على لغة. يقول: إذا كان الناس يدعون حبه ويظهرون خلاف ما يضمرون فلمَ أخفي أنا حبه الذي برح بي وأسقمني، وأعين على نفسي بهذا الكتمان؟
(١١١) الغرة: الطلعة. يقول: إن كان يجمعني وغيري أن نكون محبين له؛ أي إن حصلت الشركة في حبه، فليتنا نقتسم فواضله وعطاياه بمقدار ذلك الحب حتى أكون أوفر نصيبًا من غيري؛ لأني أوفر حبًّا من غيري. وقال ابن جني: أي إن كان يجمعنا من آفاق البلاد المتباعدة حب لغرته، فليت أنا نقتسم بره كما نقتسم حبه.
(١١٢) والسيوف دم: أي مخضبة بالدم. يقول: إنه خدمه في حالي السلم والحرب.
(١١٣) الشيم: جمع شيمة، وهي الخليقة والخلق. يقول: إنه كان في الحالين أحسن الخلق وكانت أخلاقه أحسن ما فيه، وإنما المرء خلقه.
(١١٤) يممته: قصدته. والأسف: الحزن. يقول — وكان سيف الدولة اتبع بعض ملوك الروم ففاته: فوت العدو الذي قصدته ففاتك، بأن فر منك لاستحكام جزعه، ظفر حيث فر منك، فكأنك ظفرت به وإن كان في طي هذا الظفر أسف حين لم تدركه فتقتله، وفي طي ذلك الأسف نعم؛ إذ صرف الله عنك مؤنة الحرب، وحفظ جيشك مما قد يلم به من قتل وجراح.
(١١٥) البهم: الأبطال الذين تناهت شجاعتهم، جمع بهمة، ويقال للجيش: بهمة، ومنه قولهم: فلان فارس بهمة وليث غابة، قال ابن جني: البهمة في الأصل مصدر وصف به ولا فعل له. وقال بعضهم: قيل للكماة: بهم لأنه لا يهتدي لقتالهم من قولهم شيء مبهم. يقول: إن خوف أعدائك منك ناب عنك في شدة تأثيره فيهم، فصنع لك ما لا تصنعه عساكرك الشجعان، يعني أن مهابتك في قلوب أعدائك أبلغ من رجالك وأبطالك الذين معك.
(١١٦) يواريهم: يسترهم ويكنهم. والعلم: الجبل. يقول: ألزمت نفسك شيئًا لم يكن ليلزمها؛ وذلك رغبتك في أن لا يواري أعداءك أرض تشتمل عليهم أو جبل يحول بينك وبينهم، وإباؤك إلا أن تقتلهم حتى بعد هربهم، وهذا لا يلزمك؛ لأنه يكفيك أن تكون قد هزمتهم، أو تقول: ألزمت نفسك أن تتبعهم أينما فروا وتدركهم حيثما تواروا من الأرض، وهذا أمر لا يلزمك بعد أن تكون قد هزمتهم. يريد أنه لا يرجع عنهم إلا بعد قتلهم ولا يكفيه ما يكفي غيره من الظهور عليهم.
(١١٧) رمت: طلبت. وانثنى: ارتد. وهربًا: حال. يقول: أكلما طلبت جيشًا فارتد هاربًا منك وهزمته، حفزتك همتك إلى اقتفائه واقتفاء آثاره حتى تعمل فيهم سيفك، وهذا استفهام إنكار؛ أي ليس عليك أن تفعل وحسبك انهزامهم.
(١١٨) المعترك: ملتقى الحرب. يقول: عليك أن تهزمهم إذا التقوا معك في مجال الحرب والقتال ولا عار عليك إذا انهزموا فتحصنوا بالهرب؛ إشفاقًا منك وخوفًا من لقائك فلم تظفر بهم.
(١١٩) بيض الهند: السيوف. واللمم: جمع لمة؛ وهي الشعر إذا ألم بالمنكب. يقول: ليس يحلو لك الظفر إلا إذا ضربت رءوسهم بالسيف وتلاقت سيوفك وشعورهم.
(١٢٠) يقول: أنت أعدل الناس إلا إذا عاملتني فإن عدلك لا يشملني. وفيك خصامي وأنت الخصم والحكم؛ لأنك ملك لا أحاكمك إلى غيرك، وإنما أستعدي عليك حكمك والخصام وقع فيك، وإذن كيف ينتصف منك؟ قال ابن جني: هذه شكوى مفرطة؛ لأنه قال في موضع آخر:
وَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كفِّ حَارِمٍ كَمَا يُوجِعُ الْحِرْمَانُ مِنْ كَفِّ رَازِقِ
وإذا كان عدلًا في الناس كلهم إلا في معاملته فقد وصفه بأقبح الجور.
(١٢١) قال ابن جني: سألته — أي المتنبي — عن الهاء «في أعيذها» على أي شيء تعود؟ فقال: على «النظرات». وقد أجاز مثله أبو الحسن الأخفش في قوله تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ فقال: الهاء راجعة إلى الأبصار، وغيره من النحويين يقول: إنها إضمار على شريطة التفسير، كأنه فسر الهاء بالنظرات، ونظرات — كما قال التبريزي — في موضع نصب على التمييز؛ أي من نظرات. يقول: إنك إذا نظرت إلى شيء عرفته على ما هو عليه فنظراتك صادقة تصدقك فلا تغلط فيما تراه فلا تحسب الورم شحمًا، وهذا مثل، يقول: لا تظن المتشاعر شاعرًا كما يحسب الورم سمنًا.
(١٢٢) الناظر: العين. يقول: إذا لم يميز الإنسان البصير بين النور والظلمة فأي نفع له في بصره؟ يعني: يجب أن تميز بيني وبين غيري ممن لم يبلغ درجتي كما تميز بين النور والظلمة؛ لأن الفرق بيني وبين غيري ظاهر ظهور الفرق بين النور والظلمة، فلا ينبغي أن يستويا في عيني البصير.
(١٢٣) يقول: إن الأعمى على فساد حاسة بصره أبصر أدبي، وكذلك الأصم سمع شعري؛ يعني أن شعره سار في آفاق البلاد واشتهر حتى تحقق عند الأعمى والأصم أدبه فكأن الأعمى رآه لتحققه عنده، وكأن الأصم سمعه. وكان المعري إذا أنشد هذا البيت يقول: أنا الأعمى.
(١٢٤) الشوارد: سوائر الأشعار — من قولهم: شرد البعير: إذا نفر — والضمير في «شواردها»: للكلمات. قال ابن جني: يحتمل أن يراد بالكلمات: جمع كلمة التي هي اللفظة الواحدة، وهذا أشد في المبالغة، ويجوز أن يعني بالكلمات القصائد، وهم يسمون القصيدة كلمةً. وملء جفوني موضع المصدر: أي أنام نومًا ملء جفوني، ويقال: فعلت ذلك جراك ومن جرائك؛ أي من أجلك، وكذلك: من جلالك ومن إجلالك، ومن جللك، كله من أجلك. قال جميل:
رَسْمِ دارٍ وَقَفْتُ فِي طَلَلِه كِدْتُ أَقْضِي الغَدَاةَ من جَلَلِه
[أي من أجله، وقيل من جللك: من عظمك في عيني. وقوله: رسم دار، قال ابن سيده: أراد: رُبَّ رسم دار، فأضمر «رب» وأعملها فيما بعدها مضمرة.] وأنشد الكسائي على قولهم: فعلته من جلالتك — أي من أجلك — قول كُثير:
حَيائِيَ مِنْ أسماءَ والْخَرقُ بَينَنا وإكرَامِيَ القَوْمَ العِدَا من جَلالِها
[الخرق: البعد.] ووحد الضمير في «يختصم» على لفظ الخلق، لا معناه. يقول: أنا أنام ملء جفوني عن شوارد الشعر لا أحفل بها لأني أدركها متى شئت بسهولة، أما غيري من الشعراء فإنهم يسهرون لأجلها ويتعبون ويختصمون. قال الواحدي: ومعنى الاختصام اجتذاب الشيء من النواحي والزوايا؛ مأخوذ من الخصم، وهو طرف الوعاء (جاء في اللسان: الخصم — بالضم — جانب العدل وزاويته، يقال للمتاع إذا وقع في جانب الوعاء من خرج أو جوالق أو عيبة: قد وقع في خصم الوعاء وفي زاوية الوعاء، قال: وخصومة السحابة جوانبها. قال الأخطل يصف سحابًا:
إذا طَعَنَت فيه الْجَنُوبُ تحامَلتْ بأعجاز جرَّار تَدَاعى خصومها
أي تجاوب جوانبها بالرعد، وطعن الجنوب فيها سوقها إياه. والجرار: الثقيل ذو الماء، وتحاملت بأعجازه دفعت أواخره خصومها؛ أي جوانبها.)
يقول: إنهم يجتذبون الأشعار احتيالًا ويجتلبونها استكراهًا.
(١٢٥) مده: أمهله وطول له. وأصل الفرس: دق العنق، ومنه سمى الأسد فراسًا. يقول: رب جاهل خدعته مجاملتي، وتركه في جهله — خرقه — ضحكي منه حتى افترسته وبطشت به بعد زمان. يعني أنه يغضي عن الجاهل ويحلم إلى أن يجازيه ويعصف به.
(١٢٦) يقول: إذا كشر الأسد عن نابه فليس ذلك تبسمًا بل قصدًا للافتراس. يريد أنه وإن أبدى بِشْرَه وتبسمه للجاهل، فليس ذلك رضًا عنه. وفي مثل هذا يقول: أبو تمام:
قَدْ قَلَّصَتْ شَفَتاهُ مِنْ حَفيظَتِهِ فخِيلَ مِنْ شِدَّةِ التَّعْبيسِ مُبتَسِمًا
(١٢٧) المهجة: الروح. ومهجتي: مبتدأ، ومن هم صاحبها: خبر، والجملة صفة لمهجة. والهم: ما اهتممت به. والجواد. الفرس الكريم. والحرم: ما لا يحل انتهاكه. يقول: رب مهجة همة صاحبة مهجتي — أي قتلي وإهلاكي — أدركت هذه المهجة بفرس من ركبه أمن من أن يلحق، فكأن ظهره حرم لا يدنو منه أحد.
(١٢٨) يصف جواده، يقول: لحسن مشيه واستواء وقع قوائمه في الركض كأن رجليه رجل واحدة؛ لأنه يرفعهما معًا ويضعهما معًا، وكذلك يداه — ويسمى هذا الجري النقال والمناقلة — ثم قال: وفعله ما تريد الكف والقدم؛ أي أن جريه يغنيك عن تحريك اليد بالسوط والرجل بالاستحثاث. وقال ابن الإفليلي: وفعله في السرعة ما تريد القدم التي بها يستعجل وفي المؤاتاة والموافقة ما تريد الكف التي بها يستوقف.
(١٢٩) المرهف: السيف الرقيق الشفرتين. والجحفل: الجيش الكثير. وروى ابن جني: بين الموجتين: أراد موجتي الجيشين؛ لأنهما يموج بعضهما في بعض. يقول: ورب سيف سرت به بين الجيشين العظيمين حتى قاتلت به والموت غالب تلتطم أمواجه وتضطرب.
(١٣٠) البيداء: الفلاة. وتعرفني، يروى: تشهد لي، ويروى بدل السيف والرمح: الضرب والطعن. وروى الواحدي: والحرب والضرب. يصف نفسه بالشجاعة والفصاحة، وأن هذه الأشياء ليست تنكره لطول صحبته إياها، يقول: الليل يعرفني لكثرة سراي فيه وطول ادراعي له، والخيل تعرفني لتقدمي في فروسيتها، والبيداء تعرفني لمداومتي قطعها واستسهالي صعبها، والسيف والرمح يشهدان بحذقي في الضرب بهما، والقراطيس تشهد لإحاطتي بما فيها، والقلم عالم بإبداعي فيما أقيده. هذا، والقِرطاس والقُرطاس والقَرطاس والقرطس كله الصحيفة الثابتة التي يكتب فيها، وأنشد أبو زيد لمخش العقيلي يصف رسوم الدار وآثارها كأنها خط زبور كتب في قرطاس:
كأنَّ بحيثُ اسْتَودَعَ الدَّارَ أهْلُهَا مَخَط زَبُورٍ مِنْ دَوَاةٍ وَقِرْطَسِ
(١٣١) الفلوات: القفار. والقور: جمع قارة؛ وهي الأرض ذات الحجارة السوداء، والقور أيضًا: أصاغر الجبال. وأعاظم الآكام — جمع أكمة — قال منظور بن مرثد الأسدي:
هَلْ تَعْرِف الدار بأعْلى ذِي القُورْ؟ قد دَرَسَتْ غَيرَ رَمَادٍ مَكْفُورْ
مُكْتَئِبِ اللَّونِ مَرُوحٍ ممطورْ أزْمانَ عَيْناءُ سُرورُ المسْرُورْ
(قوله: بأعلى ذي القور؛ أي بأعلى المكان الذي بالقور. وقوله: قد درست غير رماد مكفور؛ أي درست معالم الدار إلا رمادًا مكفورًا، وهو الذي سفت عليه الريح التراب فغطاه وكفره. وقوله: مكتئب اللون: يريد أنه يضرب إلى السواد كما يكون وجه الكئيب. ومروح: أصابته الريح. وممطور: أصابه المطر. وعيناء: مبتدأ، وسرور المسرور: خبره، والجملة في موضع خفض بإضافة أزمان إليها. يقول: هل تعرف الدار في الزمان التي كانت فيه عيناء سرور من رآها وأحبها.)
والقور: يروى: القوز — بفتح القاف وبالزاي — وهو الكثيب الصغير، وجمعه أقواز وقيزان. قال ذو الرمة:
إلى ظُعنٍ يَقْرضنَ أقوازَ مُشْرِفٍ شمالًا وَعن أيمانِهنْ القَوارِس
(قرض المكان يقرضه قرضًا: عدل عنه وتنكبه. ومشرف والفوارس: موضعان. يقول: نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين.)
ويروى: الغور؛ وهو المطئن من الأرض. والأكم: جمع أكمة؛ الجبل الصغير. يقول: سافرت وحدي وصحبت الوحش في الفلوات منفردًا بقطعها مستأنسًا بصحبة حيوانها حتى تعجب مني نجدها وغورها لكثرة ما تلقاني وحدي.
(١٣٢) يقول: يا من يشتد علينا فراقه بما أسلف إلينا من عوارفه، كل شيء وجدناه بعدكم فإن وجدانه عدم، يعني لا يغني غناءكم أحد ولا يخلفكم عندنا بدل.
(١٣٣) ما أخلقه بكذا وأقمنه وأجدره وأحراه وأولاه: بمعنًى. وأمم: قريب. يقول: ما كان أحرانا ببركم وتكرمتكم في الاعتقاد لنا على نحو أمرنا في الاعتقاد لكم! يعني لو تقارب ما بيننا بالحب لكرمتمونا؛ لأنا أهل للتكرمة.
(١٣٤) يقول: إن سررتم بقول حاسدنا وطعنه فينا فقد رضينا بذلك إن كان لكم به سرور، فإن جرحًا يرضيكم لا نجد له ألمًا؛ لأن كل سرورنا في سروركم ورضانا في رضاكم. قال الواحدي: هذا من قول منصور الفقيه:
سُرِرْت بهَجْرِكِ لمَّا عَلِمـْ ـتُ أنَّ لقَلبِك فيهِ سُرُورًا
وَلوْلا سُرُورُك ما سَرَّني ولا كُنْتُ يومًا عَلَيْهِ صَبُورا
لأني أرَى كلَّ ما ساءَني إذا كان يُرضيكِ سهلًا يسيرا
(١٣٥) بيننا: خبر مقدم، ومعرفة: مبتدأ مؤخر. وقوله لو رعيتم ذاك: اعتراض. والإشارة إلى مضمون الجملة: أي لو رعيتم أن بيننا معرفة. والنهى: العقول. والذمم: العهود. يقول: إن لم يجمعنا الحب فقد جمعتنا المعرفة وذوو العقول يراعون المعرفة ويقدرونها حق قدرها، والمعارف عندهم عهود وذمم لا يضيعونها.
(١٣٦) يقول: كم تحاولون أن تجدوا لي عيبًا تعيبوننا وتتعلقون عليه وتعتذرون به في معاملتي فيعجزكم وجوده، وهذا الذي تفعلونه يكرهه الله ويكرهه الكرم الذي يأبى عليكم إلا أن تنصفوني منكم وتكافئوني بالجميل، وهذا تعنيف لسيف الدولة على إصغائه إلى الطاعنين عليه والساعين بالوشاية.
(١٣٧) وذان: أي العيب والنقصان. يقول: إن بعد ما بيني وبين النقصان والعيب كبعد الثريا من الشيب والهرم، فكما لا يلحقها الشيب والهرم لا يلحقني العيب والنقصان.
(١٣٨) الغمام: السحاب. والصواعق: جمع صاعقة؛ وهي تلك النار التي تسقط أثر الرعد الشديد. والديم: جمع ديمة؛ وهي مطر يدوم في سكون، وهو معلوم أن الصواعق مهلكة، وهي التي تكره وتخشى من الغمام، والديم نافعة وهي المرجوة من الغمام، فهو يقول: ليت الممدوح الذي يشبه الغمام والذي تصيبني صواعقه — يعني أذاه وسخطه — ويصيب غيري مطره — يعني بره ورضاه — يزيل ذلك الأذى إلى من عنده ذلك البر فينتصف الفريقان. وهذا من قول أبي تمام:
فلو شاءَ هذا الدهْرُ أقصرَ شرُّهُ كما قصَرَت عنَّا لُهَاهُ وَنَائِله
(أقصر: كف، ومثله قصر. واللها: جمع لهوة، العطية. والنائل: العطاء.)
ومثله قول ابن الرومي:
أعنديَ تَنْقَضُّ الصواعِق منكما وَعِند ذَوِي الكُفْرِ الحيا والثرى الْجَعْدُ؟!
(الحيا: المطر. وثرى جعد، وتراب جعد: لين ندي.)
وقوله أيضًا:
إذا كان حظ الناس سُقْيَا سمائكُم فحظي وميضُ البرق أو زَجَلُ الرعد
وأخذه السري الرفاء فقال:
وأنا الفِداءُ لمن مخيلةُ برقِهِ حظِّي وحظ سِوَاي من أنوائه
(١٣٩) النوى: البعد. وتقتضيني: أي تطالبني، وقد ضمنه معنى تكلفني أو تجشمني؛ ولذلك عداه إلى اثنين. والوخد والرسم: ضربان من السير. والوخادة: الإبل التي تسير سيرًا سريعًا. والرسم: جمع رسوم؛ وهي الناقة التي تؤثر في الأرض بأخفافها لسيرها الشديد. يقول: أرى البعد عنكم يكلفني أن أقطع كل مرحلة لا تقوم بقطعها الإبل السريعة الشديدة؛ لبعدها وشدة أهوالها. وعبارة العكبري: أرى النوى التي أريدها، والرحلة التي اعتقدتها، تقتضيني تجشم كل مرحلة وافية لا تستبد بها الإبل لبعد منالها، ولا تطيقها لشدة أهوالها.
(١٤٠) اللام في «ليحدثن» لام جواب القسم، وترك جواب الشرط لأنهما إذا اجتمعا كان الجواب للقسم، وترك جواب الشرط، وضمير «تركن» للوخادة والرسم. وضُمَيْر: جبل عن يمين الراحل إلى مصر من الشام قريب من دمشق. يقول: لئن لحقت ركابي بمصر ليندمن سيف الدولة على فراقي، وكان كما قال.
(١٤١) يقول: إذا رحلت عن قوم وهم قادرون على إرضائك حتى لا تضطر إلى مفارقتهم فهم المختارون لفراقك، فكأنهم هم الراحلون عنك. وإليك عبارة سائر الشراح قال الواحدي: إذا سرت عن قوم وهم قادرون على إكرامك حتى لا تحتاج إلى مفارقتهم فهم المختارون للارتحال، يريد بهذا إقامة عذره في فراقهم؛ أي أنتم تختارون الفراق إذا ألجأتموني إليه. وقال الإمام التبريزي: إن الرجل إذا فارق أناسًا، وقد ظنوا أنه غير مفارق لهم، أسفوا له، فكأنهم هم الراحلون. وقال ابن القطاع: رحلت عن المكان: انتقلت، ورحلت غيري: نقلته وسفرته، ومعناه: إذا ترحلت عن قوم قادرين على أن لا يفارقوك، فالراحلون عنك هم، والمعنى: أنه يخاطب نفسه ويشير إلى سيف الدولة حتى لا يذمه في رحلته قائمًا في ذلك عن نفسه بحجته. وقال العكبري: أي إذا رحل الراحل عن قوم وهم قادرون على إزاحة علته بإسعاف رغبته، وأغفلوه حتى ترحل عنهم، وانقطع بالزوال منهم، فهم الذين رحلوه، وأزعجوه وأخرجوه. ثم قال: وهذا من قول الحكيم: من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وإن تباعدت أنت عنه. وقال ابن وكيع — كعادته: هذا مأخوذ من قول أبي تمام:
وما القَفْرُ بالبِيدِ القَواء بل التي نَبَتْ بي وفيها ساكِنوها هي القفر
(القواء — بفتح القاف — الخالية لا أحد فيها.)
وأين هذا من ذاك؟
(١٤٢) يصم: يعيب. يقول: شر البلاد مكان لا يوجد فيه من يستروح إليه ويؤنس بوده، وشر ما كسبه الإنسان ما عابه وأذله؛ يريد أن هبات سيف الدولة وإن كثرت — مع جلالتها وسعتها — لا تعادل تقصيره في حقه وإيثاره لحساده.
(١٤٣) الشهب: جمع أشهب؛ وهو ما فيه بياض يصدعه سواد. والرخم: جمع رخمة؛ طائر من الجوارح الكبيرة الجثة الوحشية الطباع، وعبارة اللغة: الرخمة طائر أبقع على شكل النسر خلقة، إلا أنه مبقع بسواد وبياض يقال له الأنوق، والجمع رخم ورخم. قالوا: وهو موصوف بالغدر والموق والقذر. يقول: شر ما قنصه الصائد وظفر به قنص يشركه فيه البزاة الشهب مع رفعتها والرخم مع ضعتها ودناءتها. وهذا مثل؛ يعني شر صيد صدته ما شاركتني فيه اللئام. يريد أن سيف الدولة يجريه في رسم العطاء مجرى غيره من خساس الشعراء؛ أي إذا ساواني في أخذ عطائك من لا قدر له، فأي فضل لي عليه؟!
(١٤٤) الزعنفة — وجمعه زعانف — اللئام السقاط بين الناس، وهو مأخوذ من زعنفة الأديم — الجلد — وهو ما تساقط من زوائده، أو من زعانف السمك — وهي أجنحته — أو من زعانف القميص وهي ما تخرق من أسافله، وكل هذا يشبه به الأوباش ورذال الناس. وتجوز: من جواز الدراهم وهو رواجه، وروي: تخور؛ من خوار البقر، وهو تصحيف، كما قال الواحدي، وإن كان صحيحًا في المعنى. وهذا كما يروى أن رجلًا قرأ على حماد الراوية شعر عنترة:
إذ تستبيك بذِي غروب واضحٍ
فأبدل من الباء في «تستبيك» نونًا، فضحك حماد وقال: أحسنت، لا أرويه بعد اليوم إلا كما قرأت. يقول — مخاطبًا سيف الدولة: هؤلاء السقاط من الشعراء بأي لفظ يقولون الشعر وهم ليسوا عربًا؟ لأنهم ليست لهم فصاحة العرب، ولا كلامهم أعجمي يفهمه الأعجام؛ أي أنهم ليسوا شيئًا. وعبارة الواحدي: هؤلاء الخساس اللئام من الشعراء بأي لفظ يُقولون الشعر، وليست لهم فصاحة العرب، ولا تسليم العجم الفصاحة للعرب؟ فليسوا شيئًا
(١٤٥) المقة: المحبة. يقول: هذا الذي أتاك من الشعر عتاب مني إليك إلا أنه محبة وود؛ لأن العتاب يجري بين المحبين
ويبقى الود ما بقي العتاب
وهو در — يعني حسن نظمه ولفظه — إلا أنه كلمات. وعبارة العكبري: هذا عتابك وهو وإن أمضك وأزعجك محبة خالصة ومودة صادقة، فباطنه غير ظاهره، كما أنه قد ضمن الدر لحسنه، وإن كان كلامًا معهودًا في ظاهر لفظه.
(١٤٦) قوله وزال … إلخ: إنما هو خبر وليس دعاء. يريد أن أعداءه تؤلمهم عافيته؛ لعوده بعد ذلك إلى غزوهم كما أشار إلى ذلك في البيت التالي.
(١٤٧) انهلت: سالت. والديم: جمع ديمة؛ وهي المطر الدائم في سكون. كانت الغارات على بلاد الروم قد انقطعت، فلما شفي وصح اتصلت الغارات عليها، فكأن الغارات كانت عليلة بعلته، ثم صحت بصحته، وسرت المكارم بصحته؛ لأنه صاحبها، وكانت الأمطار منقطعة فلما شفي صادف اتصالها شفاءه.
(١٤٨) يقول: إن الشمس كانت قد فقدت نورها أيام مرضه، وكأن فقد ذلك النور كان سقمًا لها، وقد عاودها ذلك النور حين صح سيف الدولة؛ يعظم الأمر في علته كعادة الشعراء ومبالغاتهم التي قد تفضي بها إلى مثل هذا الهذيان. وقال بعض الشراح: البيت مجاز، يريد أن الشمس فقدت بهجتها في عيون أوليائه لعلته لاغتمامهم، فلما شفي عاد إليها حسنها.
(١٤٩) العارضان: شقا الفم، وقيل: جانبا اللحية، وعارضا الوجه وعروضاه: جانباه. يقول: تهلل عارضاك سرورًا وابتسامًا، فلاح لي منهما برق لا تخصب الأرض إلا حين تبتسم، فيبدو هذا البرق ويتبعه غيث الجود فيحييها. وذهب الواحدي والعكبري إلى أن المراد بالعارض ما يلي الناب من داخل الفم، أو هو الناب. قال الواحدي: ويريد بالبرق ظهور ثغره عند التبسم. يقول: لاح لي ببشرك وتبسمك برق لامع ونور ساطع لا يسقط الغيث إلا في أثره، ولا يوجد إلا في موضعه. يشير إلى العطاء الذي يتلو تبسمه؛ يعني أنه إذا تبسم بذل ماله فيصير ذلك المكان كأن الغيث قد نزل به، لأنه أخصب بجوده.
(١٥٠) الحسام: مفعول ثانٍ ليسمى، والمفعول الأول: نائب الفاعل، وهو ضمير الممدوح، والواو في «وليست» للحال، ومشابهة: اسم ليست، و«من» زائدة، وخبر «ليست» محذوف: أي وليست من مشابهة بينهما. ويشتبه: يتشابه. يقول: إن الممدوح يسمى بالسيف والسيف لا يشبهه، فليست التسمية بالسيف لمشابهة بينهما، فهو أشرف من السيف، وإن تساويا اسمًا؛ لأن السيف يخدمه فهو مخدوم والسيف خادم، فكيف يتشابه المخدوم والخادم؟
(١٥١) المحتد: الأصل، يقول: هو عربي الأصل، فاختصت العرب بالفخر به؛ لأنه منهم، ولكن تشارك العرب والعجم في إحسانه وعطائه؛ لأن إحسانه شمل الجميع. وفي مثل هذا يقول البحتري:
غَدَا قِسْمَةً عَدْلًا فَفِيكُمْ نَوَالُه وفي سَرْوِ نبْهَانَ بن عمرو مآثرُه
(١٥٢) الآلاء: النعم. يقول: إن كانت الأمم مشتركة في إنعامه فإن نصرته خالصة لدين الإسلام لا ينصر غيره من الأديان؛ أي إن نصرته قاصرة على تأييد الإسلام وإن كانت نعمته شائعة بين سائر الأمم.
(١٥٣) هذا من قول أبي العتاهية:
لو عَلِمَ الناس كيف أنت لهم مات — إذا ما ألِمتَ — أكثرهم
وقال: سلموا، على معنى «كل» لا على لفظها، قال الجوهري: «كل» لفظه واحد، ومعناه جمع، قال: فعلى هذا تقول كل حضر وكل حضروا — على اللفظ مرة، وعلى المعنى أخرى.
(١٥٤) كان هذا الشاعر من بغداد، ويسمى ابن المنجم، وأبياته هي:
كَانَ رَسْمُ الثَّنَاءِ مِنِّيَ شِعْرًا فاقَ حُسْنًا كَلُؤْلُؤٍ في نِظَامِ
لم يُقَدِّر لِقَاؤُكَ الْيَومَ فَاسْتَظـ ـهَرتُ فيهِ بالْكُتْبِ والأقلامِ
ولِيَ الرَّسم من تطولِكَ الْجَمـْ ـمِ وَذَاكَ الإفْضَالِ والإنْعَامِ
فَتَفَضَّلْ بهِ وَوَقِّعْ فإنِّي مُوثَقُ الحالِ في يَدِ الإعْدَامِ
زادكَ الله رِفْعَةً وَعُلوًّا وَسرورًا يبقى على الأيَّامِ
فوقع عليها أبو الطيب بهذه الأبيات.
(١٥٥) البدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف درهم، سميت ببدرة السخلة؛ جلدها.
(١٥٦) النوال: العطاء، يقول: كان مدحك لنا في الحلم، وكذلك نحن أجزنا على الحلم بالحلم، فكانت الجائزة على نحو مدحك. يريد تسفيه رأيه وتحميقه؛ إذ لم يجعل مدحه لسيف الدولة غرضًا يقصده.
(١٥٧) كنى عن رداءة لفظه وخطه، يقول: قد كان لفظك رديئًا؛ لأنك قلته في النوم فهل كانت أقلامك نائمة حين كتبته حتى جاء الخط رديئًا أيضًا؟
(١٥٨) الإعدام: الفقر. يقول: أيها المشتكي الفقر إذا نام كيف أخذك النوم مع الفقر؟
(١٥٩) افتح الجفن: أي لا تكن غافلًا، وفيه نكتة لا تخفى، يقول: إن القول الذي قلته في النوم لا تذكره لسيف الدولة، وميز مخاطبته من مخاطبة غيره أي لا تخاطبه كما تخاطب سائر الناس.
(١٦٠) يقول: لا يغني عنه أحد ولا يقوم مقامه؛ لعموم فضله، ولا يكون منه بدل؛ لجلالة قدره، ولا يمنح منه أحد ما يطلبه؛ لسعة مقدرته.
(١٦١) يقول: إن عشيرته أكرم أهل الدنيا، وهو أكرم عشيرته.
(١٦٢) كان سيف الدولة قد سار نحو ثغر الحدث لبنائها، وكان أهلها قد سلموها إلى الدمستق بالأمان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الأخرى سنة ثلاث وأربعين، وبدأ من يومه فوضع الأساس وحفر أوله بيده، فلما كان يوم الجمعة نازله الدمستق في نحو خمسين ألف فارس وراجل، ووقع القتال يوم الإثنين سلخ جمادى الأخرى من أول النهار إلى العصر، فحمل عليه سيف الدولة بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه، فظفر به وقتل ثلاثة آلاف من رجاله وأسر خلقًا كثيرًا، فقتل بعضهم وأقام حتى بنى الحدث، ووضع بيده آخر شرفة منه في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، فقال هذه القصيدة يمدحه، وأنشده إياها في ذلك اليوم في الحدث.
(١٦٣) العزم: الجد — عزم على الأمر عزمًا: أي أراد فعله — وقال الليث: العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله. والعزائم: جمع عزيمة؛ وهي ما يعزم عليه من الأمر. والمكارم: جمع مكرمة؛ فعل الكرم. يقول: إن العزائم إنما تكون على قدر أصحاب العزم، فمن كان كبير الهمة قوي العزم كان الأمر الذي يعزم عليه عظيمًا، وكذلك المكارم إنما تكون على قدر أهلها: فمن كان أكرم كان ما يأتيه من المكرمات أعظم، والمعنى أن الرجال قوالب الأحوال، فإذا صغروا صغرت، وإذا كبروا كبرت. وهذا كقول عبد الله بن طاهر:
إنَّ الفُتُوحَ عَلَى قدر الملوكِ وهمـْ ـمَاتِ الوُلاةِ وَإقدامِ المَقادِيمِ
(١٦٤) الضمير في «صغارها» للعزائم والمكارم. يقول: إن صغار الأمور عظيمة في عين الصغير القدر؛ إذ تملأ ذرعه، وعظامها صغيرة في عين العظيم القدر؛ لأن في همته فضلة عنها. يشير بذلك إلى شرف سيف الدولة، وما فعل في الوقعة التي ذكرنا من نفاذ عزمه وجلالة قدرة.
(١٦٥) الهم: الهمة؛ وهو ما هممت به من أمر لتفعله. والخضارم: جمع خضرم؛ وهو الكثير العظيم من كل شيء. يقول: يكلف سيف الدولة جيشه أن يقوم بما تقتضيه همته من الغارات والغزوات، وهو أمر لا قبل للجيوش الكثيرة به؛ لأن ما في همته ليس في طاقة البشر تحمله.
(١٦٦) الضراغم: الأسود. يقول: إن سيف الدولة يريد أن يكون الناس مثله شجاعة وإقدامًا، وذلك شيء لا تدعيه الأسود، فكيف تبلغه البشر؟
(١٦٧) نسور: بدل من أتم الطير، أو عطف بيان. وأحداثها والقشاعم: بدل تفصيل من نسور. والملا: بمعنى الفلاة، ويروى: الفلا: جمع فلاة؛ وهي الصحراء. والأحداث الشابة: جمع حدث. والقشاعم: الطويلات العمر، ويقال للحرب والمنية والذلة أم قشعم، وبكل أولئك فسر قول زهير:
فَشَدَّ ولم يُفزِعْ بيوتًا كثيرةً لدي حيث ألقت رحلها أم قشعم
(من معلقة زهير. يقول: فحمل حصين بن ضمضم على الرجل الذي رام أن يقتله بأخيه ولم يفزع بيوتًا كثيرة؛ أي لم يتعرض لغيره عند ملقى رحل المنية، وملقى الرحل: المنزل؛ لأن المسافر يلقي به رحله. أراد: عند منزل المنية، وجعله منزل المنية لحلولها قتل حصين.)
وأراد بأتم الطير: عمر النسور، وقد بينه بالمصراع الثاني. يقول: إن النسور صغارها وكبارها تقول لأسلحته فديناك بأنفسنا؛ لأنها كفتها مؤنة طلب الأقوات، لكثرة القتلى في وقائعه.
(١٦٨) «ما»: نفي، أو استفهام إنكار. وخلق: مصدر خلق يخلق. والمخالب: جمع مخلب، وهو لسباع الطير كالظفر للإنسان. والقوائم: جمع قائم، وهو قائم السيف؛ أي مقبضه. يقول: ليس يضر الأحداث من النسور؛ أي الفراخ، والقشاعم؛ أي المسنة التي ضعفت عن طلب القوت — وخص هذين النوعين لعجزهما عن طلب الرزق — ليس يضر هذين أن لا يكون لهما مخالب قوية مفترسة بعد أن خلقت أسياف سيف الدولة، فإنها تقوم بكفاية قوتها. ولك أن تقول: إن المعنى: وما ضرها لو خلقت بغير مخالب؟ كما تقول: ما ضر النهار ظلمته مع حضورك، وليس النهار بمظلم لكنك تريد ما ضره لو خلق مظلمًا. وعبارة العكبري — وهي بمعنى التفسير الأول: ما يضرها أن تخلق بغير مخالب تستعملها فيما تأكله وتصرفها فيما تنشبه؛ لأن سيوفه تبلغها في ذلك ما ترغبه، وتفعل لها ما تريده وتطلبه. هذا، وقد مر في هذا الشرح كثير مما قاله الشعراء في هذا المعنى، ومن مستحسن ما قيل في ذلك قول ابن نباتة السعدي — وقد أخذه من المتنبي:
وَيَوْمَاكَ يَوْمٌ لِلْعُفَاةِ مُذَلَّلٌ ويوم إلى الأعداء منك عَصَبْصَبُ
إذا حَوَّمَتْ فَوْقَ الرِّمَاحِ نُسُورُهُ أطار إليها الضَّربُ ما تترقبُ
(١٦٩) الحدث: قلعة معروفة بناها سيف الدولة في بلاد الروم، ووصفها بالحمراء؛ لأنها احمرت بدماء الروم، وذلك أن الروم غلبوا عليها وتحصنوا بها، فأتاهم سيف الدولة وقتلهم فيها حتى تلطخت بدمائهم، يقول: هل تعرف هذه القلعة لونها؟ يعني أنه غير ما كان من لونها بالدم، وهل تعلم أي الساقيين لها هو الغمائم: أجماجم الروم التي سقتها بالدم، أم السحائب التي سقتها بالمطر؟ يعني أن الجماجم أجرت عليها من الدماء مثل ما أجرت عليها السحائب من الماء، فهي لا تدري أي هذين الفريقين أحق بأن يسمى بالغمائم؛ لأنهما استويا في السقيا وقد بين هذا المعنى في البيت التالي. وقوله: أي الساقيين الغمائم: مبتدأ وخبر سدَّا مسد مفعولي تعلم.
(١٧٠) الغمام: جمع غمامة. والغر: البيض.
(١٧١) فأعلى: أي فأعلاها. والقنا: الرماح. يقول: بناها ورماح المسلمين تقارع رماح الروم والجيشان يتقاتلان والمنايا تسلب الأرواح، واستعار للمنايا موجًا متلاطمًا لكثرتها؛ أي لكثرة القتل، فكأن المنايا بحر تتلاطم أمواجه.
(١٧٢) مثل: اسم كان، وهو خلف من موصوف؛ أي شيء مثل الجنون. وأصبحت تامة، والواو بعدها للحال. والتمائم: جمع تميمة؛ وهي العوذة، يتوقون بها مس الجن. جعل اضطراب الفتنة فيها جنونًا لها؛ وذلك أن الروم كانوا يقصدونها ويحاربون أهلها فلا تزال الفتنة بها قائمة، فلما قتل سيف الدولة الروم وعلق القتلى على حيطانها سكنت الفتنة وسلم أهلها، فجعل جثث القتلى كالتمائم عليها حيث أذهبت ما بها من الجنون، وهو إسكان الفتنة. قال أبو الطيب: ما رد علي أحد شيئًا قبلته إلا سيف الدولة فإني أنشدته ومن جيف القتلى، فقال لي: مه، قل: ومن جثث القتلى، فقبلت وقلت كما قال لي. قال ابن وكيع: وقد لاذ أبو الطيب بقول أبي تمام:
تَكَادُ عَطَايَاهُ يُجَنُّ جُنُونهَا إذا لم يُعَوِّذْهَا بِنَغْمَةِ طالب
(١٧٣) الطريدة: المطرودة. أي ما طردته من صيد أو غيره. والخطى: الرماح. وراغم: ذليل، وأصل الرغم: أن يلتصق الأنف بالرغام؛ أي التراب. يقول: إن هذه القلعة كالطريدة أمام الدهر تعقبتها حوادثه؛ إذ سلط عليها الروم حتى خربوها، فأعدت بناءها ورددتها على أهل الدين، فذل الدهر حين خالفته فيما قصد وأراد.
(١٧٤) تفيت: من الفوت، وأفاته الشيء: حمله على فوته، وفاعل تفيت: ضمير المخاطب، والليالي: مفعول أول، وسكنه ضرورة، أو على لغة، وكل شيء: مفعول ثانٍ. وغوارمه جمع غارمة، وغرم الدين والغصب وغير ذلك: أداه. يقول: إذا سلبت الليالي شيئًا أفته عليها فلم تقدر على استرداده منك، وهي إذا أخذت منك شيئًا غرمته، وروى أخذنه — بالنون — ضمير الليالي، فتكون الليالي فاعل «تفيت» والمفعول الأول محذوف: أي من عادة الليالي إذا أخذت شيئًا أن لا ترده على صاحبه فتفيته إياه، فإن أخذت منك شيئًا غرمته؛ يعني أنت أقوى من الدهر، فإنه لا يقدر على مخالفتك والتمرد عليك. وهذا من قول بعضهم:
فما أدْرَكَ السَّاعُونَ فِينَا بِوِتْرِهِمِ ولا فَاتَنَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَاتِرُ
وقال الطرماح:
إن نَأْخُذِ النَّاسَ لا تُدْرَكْ أخِيذَتُنَا أو نَطَّلِبْ نَتَعَدَّى الحقَّ في الطَّلَبِ
وقال التبريزي وابن القطاع: من رواه بالنون أفسد المعنى، قال ابن القطاع: قال لي شيخي محمد بن البراء التميمي: قال لي صالح بن رشد: قرأت على المتنبي أخذنه بالنون فقال: صحفت يا أبا علي، قلت: وكيف قلت؟ فقال: أخذته — بالتاء — لأني لو قلت بالنون لأفسدت المعنى والإعراب ونقضت قولي في آخر البيت. وذلك أن تفيت يتعدى إلى مفعولين، فإذا جعلت «الليالي» فاعله ونصبت «كل شيء» لم يكن مفعولًا ثانيًا ففسد الإعراب، وإذا قلت بالتاء جعلت «الليالي» مفعولًا أولًا و«كل شيء» ثانيًا، وأما فساد المعنى: فلو جعلت «الليالي» الفاعلة لجعلتها تفيت كل شيء ولا تغرمه، ثم نقضته بقولي:
وهن لما يأخذن منك غوارم
وإنما المعنى تفيت يا سيف الدولة الليالي كل شيء أخذته منها فلا تغرمه لها، وهن غوارم لك ما يأخذن فصح المعنى.
(١٧٥) النحويون يسمون الفعل المستقبل مضارعًا؛ فالمضارع هنا المراد به المستقبل، يقول: إذا نويت أن تفعل أمرًا فكان ذلك فعلًا مستقبلًا مضى ذلك الذي نويته قبل أن يجزم ذلك الفعل. وأراد بالجوازم: «لم ولا ولام الأمر» أي إذا نوى أن يفعل أمرًا مضى قبل أن يقال له: لا تفعل؛ لأنه يسبق بما يهم به نهي الناهين وعذل العاذلين وقبل أن يؤمر به فيقال: ليفعل كذا وليعط فلانًا ولينجز ما وعد به؛ أي أن ما ينوي فعله يعالجه قبل أن يتصور فيه نهي أو طلب. وعبارة بعض الشراح: إذا نويت أن تفعل أمرًا وقع ذلك الفعل لوقته فصار ماضيًا قبل أن تكون فيه مهلة لدخول الجازم، وخص أدوات الجزم من عوامل المضارع؛ لأنها لغير الإيجاب فإن منها للنفي وهو «لم» و«لما» ومنها للطلب، وهو «لا» و«اللام» وبواقيها للشرط، فكأنه يقول: إذا هممت بأمر عاجلته قبل أن يتصور فيه النفي وقبل أن يقول القائل: لا تفعل أو ليفعل سيف الدولة كذا وكذا، ولم تنتظر أن يقدر فيه شرط أو جزاء، كأن يقال: إن تفعل كذا يترتب عليه كذا؛ لأن ما ينويه لا يتوقف على شرط، ولا يخاف وراءه عاقبة. وعبارة العكبري: يريد: ما أسعده الله به وأظهره له من سعده في قصده، فإذا كان ما ينويه فعلًا مستقبلًا — ولفظ المستقبل يقع على الدائم الذي لم ينقطع وعلى المتأخر الذي لم يقع — صار ذلك الفعل ماضيًا بوقوعه منه، ومتصرفًا بتمكنه منه قبل أن تلحقه الجوازم، فنثبته فيما لم يجب وتدخل عليه فتخلصه فيما لم يقع. قال ابن وكيع: هو مأخوذ من قول أبي تمام:
خرقاءُ يَلْعَبُ بِالعُقُولِ حَبَابُهَا كتلاعب الأفْعَال بالأسْمَاءِ
(من قطعة في وصف الخمر.)
قال العكبري: والبيت بناه على التورية.
(١٧٦) الآساس: جمع أس، قال أهل اللغة: الأس — وهو أصل البناء — يجمع على إساس مثل عس وعساس، وجمع الأساس: أسس، مثل قذال وقذل، وجمع الأسس: آساس. مثل سبب وأسباب. والدعائم: جمع دعامة؛ وهي عماد البيت، وكل شيء يستند إليه ويتقوى به فهو دعامة. يقول: كيف يؤملون هدم هذه القلعة وهي موثقة بطعنك الذي أعملته فيهم؟ فالطعن لها كالآساس والدعائم حيث وثقت به كما يوثق البناء بالآساس والدعائم.
(١٧٧) جعل القلعة والروم خصمين، والمنايا في الحرب حاكمة بينهما فحكمت للمظلوم — وهو القلعة — بالسلامة، فلم تترك لهم سبيلًا إلى هدمها، وحكمت على الظالم — وهو الروم — بالهلاك فأبادتهم.
(١٧٨) السرى: سير الليل. والجياد: الخيل. يقول: أتوا مدججين في السلاح، ولكثرة الحديد عليهم وعلى خيولهم كانت خيولهم كأنها لا قوائم لها، أي لا ترى؛ لأنها محجبة بالتجافيف التي على الخيول.
(١٧٩) البرق: اللمعان. والبيض: السيوف. وبرقوا: يعني الروم. يقول: إذا برقوا لكثرة ما عليهم من الحديد لم يفرق بين سيوفهم وبينهم؛ لأن عمائمهم الخوذ وثيابهم الدروع، فهم كالسيوف، فقوله ثيابهم من مثلها: أي من مثل السيوف، يعني من الحديد. قال العكبري: وأشار بهذا الوصف — أعني كثرة سلاح هذا الجيش — إلى قوته. وعبارة بعض الشراح: إذا برقوا عند وقع الشمس عليهم لم تتميز السيوف منهم؛ لأن أبدانهم مغطاة بالدروع ورءوسهم بالخوذ، وكلها من الحديد، فإذا برقت السيوف برقت هذه معها، وعبر عن الدروع والخوذ بالثياب والعمائم على الاستعارة؛ لأنها تلبس في أمكنتها. قال العكبري: وسمعت بعضهم — وكان شيخنا يقرأ عليه هذا الديوان — يقول: أخطأ أبو الطيب، كيف ذكر العمائم والعمائم للعرب وليست للروم، فكيف جعلها للروم؟ فضحكت من قوله وقلت له: الضمير في «مثلها» إلى أين يعود؟ أليس إلى البيض، وهي السيوف؟ فلم يدر ما قلت.
(١٨٠) الخميس: الجيش العظيم؛ سمي بذلك لأن له ميمنة وميسرة وقلبًا وجناحين. والزحف: التقدم، وأصله المشي مع تثاقل. والجوزاء: نجمان معترضان في جوز السماء؛ أي وسطها، وهما من البروج. والزمازم: الأصوات التي لا تفهم لتداخلها، وأصل الزمزمة: صوت الرعد، وأراد الأصوات الشديدة المتداخلة. يقول: إن هذا الجيش لكثرته طبق الأرض، وبلغت أصواته السماء. قال الواحدي: وخص الجوزاء بالذكر من بين سائر البروج؛ لأنها على صورة إنسان. قال الشراح: ولم يسمع في وصف جيش مثل هذا ومثل قول أبي تمام:
ملأ الملا عُصبًا فكَاد بأنْ يُرَى لَا خَلْفَ فِيه ولا له قُدَّامٌ
(١٨١) اللسن: اللغة، واللسان أيضًا. والحداث: جمع حادث، بمعنى متحدث. ومنه قول المجنون:
أتيْتُ مع الْحُدَّاثِ ليلى فلم أُبِنْ فأخْلَيْتُ فاستَعْجَمْتُ عِند خلائِي
ذهبْتُ فلم أصبرْ وعُدْتُ فَلَمْ أُبِنْ جوابًا كِلا اليومينِ يومُ بلائِي
(قال الزجاجي في أماليه: أخليت: وجدتها خالية، مثل أجبنته؛ أي وجدته جبانًا. فعلى هذا يكون مفعول «أخليت» محذوفًا: أي أخليتها. وقد أورد البيت الأول كل من الجوهري وابن منظور هكذا منسوبًا إلى عتي بن مالك العقيلي، وفي «المحكم»: عند خلائيا وبلائيا.)
وقول سويد بن أبي كاهل:
يُسْمِعُ الْحُدَّاثَ قولًا حسنًا لو أرادوا غيره لم يستطعْ
والتراجم: جمع ترجمان — بفتح التاء، وبضمها اتباعًا لضم الجيم — يقول: اجتمع في هذا الجيش كل جيل من الناس وأهل كل لغة من اللغات، فإذا كلم جيل منهم من ليس من أهل لغته احتاج إلى مترجم يترجم له، وكل هذا إشارة إلى عظم الجيش وما قد جمع فيه من المقاتلة.
(١٨٢) عنى بالغش: الضعاف من الرجال والأسلحة. والصارم: السيف القاطع. والضبارم: الشجاع الجريء، وأصله الأسد الشديد الغليظ. يتعجب من ذلك الوقت الذي قامت الحرب فيه بين سيف الدولة وبين الروم، يقول: ما كان مموهًا مغشوشًا هلك وتلاشى لرداءته كأنه ذاب بنار الحرب، ولم يبقَ من السيوف إلا السيف القاطع ولا من الرجال إلا الضبارم. وبعبارة أخرى: إن نار الحرب في ذلك اليوم سبكت الناس وأسلحتهم فأفنت ما كان رديئًا، ولم يبقَ إلا كل سيف صارم ورجل شجاع.
(١٨٣) يقول: تكسر من السيوف ما لم يكن ماضيًا يقطع الدروع والرماح، وهرب الجبناء الذين لا يقدرون على المصادمة. ومن روى: «فقطع» أراد الوقت، يعني أن الوقت كان صعبًا لم يبقَ معه إلا الخُلَّص من الرجال والأسلحة.
(١٨٤) الردى: الهلاك. يقول: وقفت في ساحة القتال حين لا يشك واقف في الموت؛ لشدة الموقف وكثرة المصارع فيه، حتى كأنك في جفن الردى وهو نائم فلم يبصرك وغفل عنك بالنوم فَسَلِمْتَ. قال الواحدي: سمعت الشيخ أبا معمر الفضل بن إسماعيل القاضي يقول: سمعت القاضي أبا الحسين علي بن عبد العزيز يقول: لما أنشد المتنبي سيف الدولة هذا البيت والذي بعده أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيتين على صدريهما، وقال له: كان ينبغي أن تقول:
وَقَفْتَ وَمَا فِي الْمَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ وَوَجْهُكَ وَضَّاحٌ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ
تَمُرُّ بِكَ الْأَبْطَالُ كَلْمَى هَزِيمَةً كَأَنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهْوَ نَائِمُ
ثم قال: وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادًا لِلَذَّةِ ولم أتبطَّن كاعِبًا ذاتَ خلخالِ
ولم أسْبأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولم أقُلْ لخيلي كُرِّي كَرَّة بعد إجفالِ
قال: ووجه الكلام في البيتين على ما قاله العلماء بالشعر أن يكون عجز الأول مع الثاني، وعجز الثاني مع الأول، ليستقيم الكلام، فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالسكر، ويكون سباء الخمر مع تبطن الكاعب. فقال أبو الطيب: أدام الله عز مولانا، إن صح أن الذي استدرك هذا على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك؛ لأن البزاز يعرف جملته، والحائك يعرف جملته وتفصيله؛ لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه، ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسًا، وعينه من أن تكون باكية: قلت:
ووجهك وضاح وثغرك باسم
لأجمع بين الأضداد في المعنى. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارًا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينار. قال الواحدي: ولا تطبيق بين الصدر والعجز أحسن من بيتي المتنبي؛ لأن قوله:
كأنك في جفن الردى وهو نائم
هو معنى قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف
فلا معدل لهذا العجز عن هذا الصدر؛ لأن النائم إذا أطبق جفنه أحاط بما تحته، فكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق الجفن بما يتضمنه من جميع جهاته، فهذا هو حقيقة الموت. وقوله: «تمر بك الأبطال» هو النهاية في التطابق للمكان الذي تُكْلَم فيه الأبطال فتكلح وتعبس، وقوله: «ووجهك وضاح» لاحتقار الأمر العظيم.
(١٨٥) كلمى: جمع كليم، بمعنى جريح. وهزيمة: أي منهزمة، وهو من باب فعيل بمعنى مفعول، والتاء فيه للجمع، على مذهب البصريين. ووضاح: مشرق. والمعنى ظاهر، ولكن الإمام العكبري أبى إلا أن يفسر البيت بعبارته المسجوعة الجميلة، قال: أي تمر بك الجرحى من الأبطال منهزمين، وكلمى مستسلمين، وذلك لا يثني عزمك، ولا يضعف نفسك، بل كنت حينئذٍ وضاحًا غير متخوف، وبسامًا غير متضجر، واثقًا من الله بنصره، متيقنًا بما وصلك به من جميل صنعه. قال: وهذا كما قال مسلم بن الوليد:
يفترُّ عندَ اقتراب الحرب مُبتسمًا إذا تغيرَ وَجهُ الفارس البطلِ
(١٨٦) النهى: جمع نهية؛ وهي العقل. وإلى قول قوم: صلة «تجاوزت»، وتتمة البيت: مفعول القول. يقول: أظهرت من إقدامك وعزمك وجلدك على المخاوف ما تجاوزت به حد الشجاعة والعقل إلى ما يقول قوم من أنك تعلم الغيب، وتعرف أعقاب الأمور قبل حلولها. يعني أن ما اقتحمته من الأهوال لا تثبت أمامه شجاعة، وما أظهرته من الصبر ورباطة الجأش لا يكفي في مثله العقل والرصانة، فكأنك قد كوشفت بالغيب وعرفت أن العاقبة لك، فلبثت في تلك الحال وضاحًا بسامًا لا تكترث لما تراه حولك من الأهوال. قال ابن جني في تعليقاته على هذا البيت: في آخره بعض التنافر لأوله؛ لأن الشجاعة لا تذكر مع علم الغيب، ولولا أنه ذكر العقل لكان أشد تباينًا؛ لأن العاقل عارف بأعقاب الأمور، ولو كان موضع الشجاعة الفطانة لكان أليق بعلم الغيب، إلا أنه كان في ذكر الحرب وكانت الشجاعة من ألفاظ وصفها. ويجوز أن يكون ذكر الشجاعة مع علم الغيب؛ لأنه كان قد عرف ما يصير إليه فشجع ولم يحذر الموت.
(١٨٧) يريد بالجناحين: ميمنة الجيش وميسرته، وهما جانبا العسكر، ولما سماهما جناحين جعل رجالهما خوافي وقوادم. والجناح: يشتمل على القوادم وهي من الريش ما فوق الخوافي، قيل: إنها عشر ريشات في مقدم جناح الطائر، وعليها معوله في طيرانه، والخوافي: ما تحت القوادم. يقول: لففت جناحي العسكر — عسكر الروم — على القلب فأهلكت الجميع. وقوله: تموت الخوافي تحتها: أي تموت تحت مثل هذه الضمة؛ ولذلك عبر بالمضارع.
(١٨٨) بضرب: متعلق بضممت. والهامات: الرءوس. واللبات: النحور. يريد سرعة انتصاره عليهم، يقول: لم يك إلا حملة بالسيوف وقعت على هاماتهم والجيشان واقفان لا يتحقق النصر لأحدهما، فما بلغت من الهامات إلى اللبات حتى انهزموا فكان النصر لك. وقال ابن جني: إذا ضربت عدوًّا فحصل سيفك في رأسه لم تعتد ذلك نصرًا ولا ظفرًا، فإذا فلق السيف رأسه فصار إلى لبته، فحينئذٍ يكون ذلك عندك نصرًا ولا يرضيك ما دونه. وعبارة ابن فورجة — وهي في عراض ما قلناه: إنما عنى أبو الطيب سرعة وقوع النصر، وأنه لم يلبث إلا قدر وصول السيف المضروب به من الهامة إلى اللبة، كأنه يقول: نازلت العدو والنصر غائب، وضربتهم بالسيف وقد قدم النصر.
(١٨٩) الردينيات: الرماح، نسبة إلى ردينة، امرأة باليمامة كانت هي وزوجها يعملان الرماح. يقول: تركت القتال بالرماح وازدريتها؛ لأنها سلاح الجبناء، أما سلاح الشجعان فهو السيف، لاقتضائه مقاربة ما بين الفريقين في القتال؛ لهذا عمدت إليه واخترته. ولما آثرت السيف على الرمح في القتال صار كأن السيف يعير الرمح؛ لأنه يطعن من بعيد، والسيف من قريب، فكأنه يسبه بالضعف وقلة الغناء. وعبارة العكبري — التي لا تخرج عن هذا وإنما نوردها لجمالها — قال: إنك طرحت الرماح واستقللت فعلها، وعدلت إلى السيوف عالمًا بفضلها، واعتمدتها لخبرتك بأمرها، فكأنها شتمت الرماح بتصغيرها لشأنها وإهانتها تسخطًا لفعلها.
(١٩٠) البيض: السيوف. والخفاف: المرهفة. والصوارم: القواطع. ومفاتيحه: أي مفاتيح الفتح.
(١٩١) الأحيدب: جبل الحدث. ونثرتهم: فرقتهم. يقول: نثرت جثثهم فوق هذا الجبل كما تنثر الدراهم على العروس؛ يعني تفرقت مصارعهم على هذا الجبل كما تتفرق مواقع الدراهم إذا نثرت. قال العكبري: وهذا من محاسن أبي الطيب، وقد أشار بهذا إلى أن سيف الدولة تحكم في الروم قتلًا وأسرًا، ونثر جيشهم فوق هذا الجبل نثرًا.
(١٩٢) وكر الطائر: موضع مبيته، والجمع: وكور. والذرا: أعالي الجبال. يقول: إنك تتبعهم بخيلك في رءوس الجبال حيث وكور جوارح الطير فتقتلهم هناك حتى تكثر مطاعم الطير حول وكورها. وعبارة بعض الشراح: تدوس بك الخيل في آثار الروم وكورَ الطير في رءوس الجبال وقنن الأوعار، وقد كثرت الجثث من القتلى حول الوكور بكثرة من قتلته هنالك فرسانك، ومن أهلكه من الروم جيشك وغلمانك، وأشار بذلك — أي كثرة الجثث حول وكور الطير مع انتزاح مواضعها وامتناع أماكنها — إلى ما كان الروم عليه من شدة الهرب، وما كان أصحاب سيف الدولة عليه من قوة الطلب، وأنهم قتلوهم في رءوس الجبال، وأدركوهم في أبعد غايات الأوعار.
(١٩٣) الفتخ: جمع فتخاء؛ إناث العقبان، سميت بذلك لطول جناحها ولينه في الطيران، والفتخ: لين المفاصل. والأمات: جمع أم فيما لا يعقل، وقد جاء فيه: أمهات؛ حملًا على من يعقل. والعتاق: كرام الخيل. والصلادم: جمع صلدم، وهي الفرس الشديدة الصلبة. يقول: تظن فراخ العقبان — لما صعدت خيلك الجبال وبلغت أوكارها — أنها أمهاتها. يعني أن خيلك كالعقبان شدة وسرعة وضمرًا، كما قال:
نظرُوا إلى زُبَرِ الحديد كأنما يَصْعَدْنَ بينَ مناكِب العِقْبَانِ
وقال ابن الإفليلي: تظن فراخ العقبان؛ لكثرة ما صيرت حول وكورها من جثث القتلى، أنك زرتها بأماتها فأمددتها بمطاعمها وأقواتها، وإنما فعل ذلك صلادم خيلك، وكثرة كتائب جيشك.
(١٩٤) الصعيد: وجه الأرض. والأراقم: الحيات فيها سواد وبياض. يقول: إذا زلقت الخيل في صعودها الجبال جعلتها تمشي على بطونها في تلك المزالق مشي الحيات على بطونها في الصعيد. يصف صعوبة مراقيها في الجبال.
(١٩٥) الدمستق: صاحب جيش الروم. وأقدم: خلاف أدبر. وقوله: قفاه — إلى آخر البيت — حال من الضمير في «مقدم». يقول: أكل يوم يقدم عليك الدمستق، ثم يفر فيلوم قفاه وجهه على إقدامه قائلًا له: لم أقدمت حتى عرضتني للضرب بهزيمتك؟ وذلك أن إقدامه سبب هزيمته والضرب في قفاه.
(١٩٦) الليث: الأسد. ويذوقه: معناه يجربه ويختبره — يقال: ذاق ما عند فلان؛ أي جربه — والضمير: لليث. يشير إلى أن الدمستق أجهل من البهائم؛ لأن البهائم إذا شمت ريح الأسد وقفت ولم تتقدم، وهذا على طريق التمثيل، والمعنى أنه يسمع خبر سيف الدولة، ومبلغ شجاعته، فيأتيه مقاتلًا ثم ينهزم، ولو هو خام عن اللقاء وانهزم من غير قتال لكان أحزم.
(١٩٧) فجعه: رزأه بشيء يكرم عليه، وجمع فَعْلَة: فَعَلات — بفتح العين في الصحيح — وإنما أسكن الميم من حملات ضرورة. والصهر: أهل بيت المرأة. ولا يقال لأهل بيت الرجل إلا أختان، وأهل بيت المرأة أصهار، يقال: صاهرت القوم: إذا تزوجت فيهم، وأصهرت بهم: إذا اتصلت بهم وتحرمت بجوار أو نسب أو تزوج. وقال ابن الأعرابي: الصهر: زوج بنت الرجل وزوج أخته، والختن: أبو امرأة الرجل وأخو امرأته. ومن العرب من يجعلهم أصهارًا كلهم، ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان جميعًا. والغواشم: التي لا تبالي من أخذت. يقول: هلا اعتبر بمن رزئه من هؤلاء فلا يجترئ على العود إلى الإقدام؟ وعبارة العكبري: يريد أن حمَلات سيف الدولة فجعت الدمستق بابنه وأصهاره، وهو لا يرتدع بحملاته الغواشم للأقران، الغواصب لأنفس الفرسان، فما للدمستق لا يكفه عن التعرض له ما أسلف سيف الدولة من الإيقاع؟
(١٩٨) الظبا: جمع ظبة؛ حد السيف. والهام: الرءوس. والمعاصم: جمع معصم؛ أطراف السواعد. يقول: انهزم وهو يشكر أصحابه؛ لأن السيوف اشتغلت بهم عنه، فكأنهم وقوه السيوف برءوسهم وأيديهم حتى سبق وفات السيوف.
(١٩٩) المشرفية: السيوف. قال أهل اللغة: المشارف: قرى من أرض اليمن، وقيل: من أرض العرب تدنو من الريف، والسيوف المشرفية منسوبة إليها، يقال: سيف مشرفي ولا يقال مشارفي؛ لأن الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن، لا يقال مهالبي ولا جعافري ولا عباقري. يقول: إذا سمع الدمستق صوت وقع السيوف في أصحابه فهم أنها تقتلهم، فجد في الهرب، مع أن أصوات السيوف عجماء؛ أي ليست ذات لفظ يفهم. والمعنى: إذا سمع صليل السيوف علم أنهم مقتولون.
(٢٠٠) يقول: إن الدمستق يسر بما أخذته من أصحابه وأمتعته وأسلحته وعدته؛ لأن هذه الأشياء كانت كالفداء له، إذ نجا هو واشتغل عسكرك بها عنه، وليس سروره جهلًا بحالته، وإن الذي انتهبت أمواله ليس من شأنه أن يسر، ولكنه حين نجا برأسه غانم وإن كان مغنومًا؛ أي لا يبالي بغيره إذا نجا هو، لأن المسلوب إذا سلم منك بسلبه فهو سالب. قال العكبري. وهذا مثل قول بسطام بن قيس في المثل: السلامة إحدى الغنيمتين.
(٢٠١) التوحيد: خبر أول ﻟ «لكن»، وهازم: خبر ثانٍ. يقول: لست في هزمك الدمستق ملكًا هزم ملكًا مثله، ولكنك التوحيد قد هزم الشرك؛ لأنك سيف الإسلام وزعيمه، والدمستق عماد أهل الشرك وقوامه، فكلاكما زعيم ملته.
(٢٠٢) الضمير في «به»: لمليك: قال العكبري: ولو كان بدل الهاء «كاف» لكان أجود حتى يكون مخاطبًا، وعدنان: أبو العرب. وربيعة: بطن من عدنان؛ وهي قبيلة سيف الدولة. والعواصم: بلاد قصبتها أَنْطَاكِيَة. يقول: إن جميع العرب يفتخرون بك لرجوعك بالنسب إليهم، وليس يفتخر بك رهطك فقط، وأنت فخر لجميع الدنيا لا لبلاد مخصوصة — بلاده — لأنك أشرف أهل الدنيا.
(٢٠٣) يريد بالدر: شِعره. يقول: المعاني لك واللفظ لي، فأنت تعطيني المعاني بأفعالك ومناقبك، وأنا أنظمها بتقييدها فيه. وفي مثل هذا يقول ابن الرومي:
ودُونك من أقاوِيلي مَدِيحًا غَدا لَكَ دُرُّهُ وَلِيَ النظامُ
(٢٠٤) تعدو: تجري وتسرع. والوغى: الحرب. يقول: إني أمتطي في الغزو خيلك التي أعطيتنيها، فلست مذمومًا في أخذها؛ لأني شاكر أياديك ناشر ذكرك، ولستَ أنت نادمًا على ما أعطيتني؛ لقيامي بحق ما أوليتني.
(٢٠٥) «على»: صلة تعدو، ولك أن تجعلها من صلة «نادمًا»؛ أي لست نادمًا على هبتك لي كل فرس طيار، وأن تجعلها من صلة محذوف دل عليه ما تقدم كأنه قال: أقصد الوغى على كل فرس إذا سمع صوت الأبطال في الحرب طار إليها برجله عوض الجناح. يريد شدة سرعته في العدو حتى كأن قوائمه أجنحة. والغماغم: الأصوات المختلطة، هي أصوات المتحاربين. وما أبدع قول ابن المعتز — ولعل بيت المتنبي ينظر إليه:
وليلٍ ككُحل العينِ خُضتُ ظلامه بأزْرَقَ لَمَّاعٍ وَأَخضرَ صارِمِ
وطيارَةٍ بالرجْل خوفًا كأنما تُصَافِحُ رَضراضَ الحصى بالجماجمِ
(٢٠٦) يقول: أنت السيف لا يتضمنه غمد؛ إذ هو دائمًا مجرد على أعدائه، وليس يرتاب — يشك — في هذا أحد، ولا يعصم — لا يحمي ولا يمنع — منك شيء، لا حصن ولا حديد. ويروى: لست وفيك ومنك.
(٢٠٧) الهام: الرءوس. والعلا: المراتب العالية. وأنك سالم: فاعل هنيئًا، وهي حال محذوفة العامل، والأصل: ثبت هنيئًا، فحذف الفعل وقامت الحال مقامه. وقد تقدم في هذا الشرح القول على هنيئًا بأوفى من هذا. يقول: لتهنأ هذه المذكورات بسلامتك؛ لأنك قوامها، فضرب الهام أنت أحذق الناس به، والمجد أنت أكسب الناس له، والعلا أنت جامع شملها وراجي مكارمك التي لا تمطل بفضلها، والإسلام لأنك أعززته.
(٢٠٨) لِم: استفهام إنكار، وأصلها: «لم» بفتح الميم فسكنها، وهو مخصوص بالضرورة. و«ما» من قوله «ما وقى»: ظرفية زمانية. وتفليقه: حال من الرحمن. يقول: لماذا لا يصونك الله سبحانه ما دامت صيانته للأشياء — أي أبدًا — وأنت سيفه الذي يصول به على أعدائه؟
(٢٠٩) راع: أفزع وخوف. والاستفهام استفهام تعجب. وكذا: نائب مفعول مطلق؛ أي روعًا كهذا الروع الذي أرى! والهمام الملك العظيم الهمة. وسح الماء: صبه. يقول: هل راع ملك جميع الخلق كما أرى من روعك إياهم؟ وهل تقاطرت رسل الملوك على ملك كما تقاطرت عليك؟ وجعل توالي الرسل إلى حضرته كسح الغمام، يعني هل أفزع ملك قبله كل الملوك فزعًا دعاهم إلى الخضوع له والاستجارة به وتتابع رسلهم عليه حتى كأنها مطر يصبه غمام؟
(٢١٠) دانت: أطاعت. وقيام: أي قائمة — كأنه من باب صاحب وصحاب — يقول: هل أطاعت الدنيا أحدًا كما أطاعته وخضعت له، فأصبح جالسًا لا يسعى في تحصيل مراد، وقامت الأيام تسعى في تحصيل ما تريد؟
(٢١١) اللمام: الزيارة القليلة، قال جرير:
بنفسيَ من تجنُّبهُ عزيز عليَّ ومَن زيارتُهُ لِمام
يقول: إذا غزاهم كفاهم أدنى نزول منه بأرضهم لو اكتفى هو بذلك، لكنه لا يكتفي حتى يبلغ أقاصي بلادهم.
(٢١٢) الأزمان: جمع زمن، وزمن مقصور من زمان. وفي الناس: صلة «تتبع»، والخطو: نقل القدم! والزمام: ما تقاد به الدابة. يقول: إن الزمان يتبعه ويجري في الناس على مراده؛ فمن أحسن هو إليه أحسن إليه الزمان، ومن أساء إليه أساء إليه الزمان، حتى كأن لكل زمان زمامًا في يده يقوده به كما يشاء. يشير إلى قوة سعده وإقبال جده.
(٢١٣) الغبطة: حسن الحال. يقول: إنك تحسن إليهم وترعاهم، فهم آمنون ما كانوا عندك، والذين أرسلوهم إليك يخافونك؛ لأنهم ليسوا على أمان منك، فلا تنام أجفانهم خوفًا منك، وقد بين ذلك في البيت التالي. هذا؛ ولمناسبة «ليس» من قوله: ليس تنام، قال العكبري: «ليس» هنا تحتمل أمرين؛ أحدهما: أن يكون استعملها استعمال «ما»، كقول العرب: ليس الطيب إلا المسك فيما حكاه سيبويه، والثاني: أن يكون في «ليس» ضمير، وحذف تاء التأنيث ضرورة، والأجود أن تكون بمعنى «ما» فتخلو من الضمير؛ لأنه إذا جعلها فعلًا ماضيًا فالواجب أن يقول: ليست تنام.
(٢١٤) حذارًا: مفعول له، وهو مصدر حاذر. واعروري الفرس: ركبه عريانًا. وقوله إلى الطعن: متعلق بمعروري. والقبل: جمع أقبل وقبلاء؛ وهو الذي أقبلت إحدى عينيه على الأخرى تشاوسًا وعزة نفس. وقيل معنى قبلًا ها هنا: مقبلة. تقول: أقبلت قبله؛ أي قصدت نحوه. يقول: هم لا ينامون حذرًا من سيف الدولة الذي يركب الخيل عريًا إلى الحرب؛ يعني لا يتوقف إلى أن تسرج وتلجم إذا دعت الحرب إلى ركوبها.
(٢١٥) الضمير من «فيه» في المصراعين: للطعن المذكور في البيت السابق. والأعنة: جمع عنان؛ سير اللجام. والسياط: جمع سوط؛ ما يضرب به الراكب. يقول: إن خيله مؤدبة إذا قيدت بشعرها انقادت كما تنقاد بالعِنان، وإذ زجرت بالكلام قام ذلك مقام السياط، قال العكبري: أراد أن يقول: والأعنة معارفها، فما صح له الوزن، ولو صح لكان حسنًا، وإنما اكتفى بشعرها ومراده المعارف.
(٢١٦) القنا: الرماح. يقول: لا غناء إلا بالرجال والفرسان، فليس تنفع كرام الخيل ولا صم الرماح إذا لم يصرفها من الأبطال كرام.
(٢١٧) فيما وهبت: متعلق بملام. يقول: إنك تردهم عما يطلبون من الهدنة ردك لوم اللائمين لك في العطاء؛ أي كما أنك لا تصغي إلى ملامة لائم في سخائك، فكذلك لا تقبل الهدنة، وهذا هو المدح الموجه.
(٢١٨) الذمام: العهد. وطواعة: حال؛ أي طائعًا، وعاذ به عوذًا: لجأ. يقول: إن كنت لا تعطي الروم عهدًا وصلحًا طواعية فَلِيَاذُهُمْ بك يوجب لهم الذمام؛ لأن من لاذ بالكريم وجبت له الذمة، وإن كان عدوًّا؛ أي فقد حصل لهم ما طلبوا وإن لم تعطهم. ثم أكد هذا بالبيت التالي.
(٢١٩) أممتك: قصدتك. والحرام: الذي لا يستباح. يقول: إن من قصدك راجيًا صار منيعًا بقصدك وحرمت إراقة دمه؛ لأنها قد دخلت في حرمتك، وراجيك لا يضيع.
(٢٢٠) الملك والمليك: واحد. وسيفك: مفعول خافوا، والواو: للحال. وتسام: تُكَلَّف. والجوار: مفعول ثانٍ لتسام. يقول: إذا خاف ملك من ملك أجرت الخائف، وهم — الروم — إنما خافوا سيفك وسألوك أن تجيرهم منه، وإذا كنت تجير من غيرك فأنت بأن تجير من نفسك أولى.
(٢٢١) البيض الخفاف: السيوف، يقول: هم لا يحاربونك بسيوفهم، بل يتفرقون بها عنك منهزمين، ويزدحمون عليك بالكتب اللطيفة الأسلوب التي يتلطفون فيها لمسألتك ويتضرعون إليك، يشير إلى عجزهم عن مقاومته في الحرب وازدحامهم عليه في السلم.
(٢٢٢) الضمير من «قلوبها»: للنفوس. والحمام: الموت. يقول: إن حلاوة النفوس تغر قلوب أربابها وتغريها بحب الحياة حتى تختار عيشًا فيه ذل أو تختار الهرب خوف القتل، وذلك العيش هو الموت في الحقيقة، بل هو شر من الموت، كما ذكر في البيت التالي.
(٢٢٣) الزؤام: العاجل، أو السريع الوحي المجهز، وقيل: الكريه. ويضام: يظلم. لما جعل عيش الذليل موتًا آخر، قال: هو شر الموتين؛ لما فيه من تحمل الضيم وتجرع الذل والغيظ والهوان.
(٢٢٤) اسم «كان» يعود على قوله: ما أتوا له. والغرام: الشر الدائم الملازم وما لا يستطاع أن يتفصَّى منه، قال الله عز وجل: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا؛ أي ملحًّا دائمًا ملازمًا. يقول: لو كان ما طلبوه مصالحة لما افتقروا إلى التشفع بفرسان الثغور؛ لأن الصلح أن ترغب فيه أنت أيضًا، ولكن طلبوا إليك أن تؤخر عنهم الحرب أيامًا، فكان ذلك ذلًّا لهم وعارًا ملازمًا.
(٢٢٥) المن هنا: النعمة. وفرسان الثغور: يريد بهم فرسان طرسوس وأذنة والمصيصة، وكان الروم قد وسطوهم لدى سيف الدولة في طلب الهدنة، وأن يؤخر عنهم الحرب أيامًا، وذلك ما لا يكادون يقدرون على طلبه إليه بأنفسهم، فبلغهم ما كانوا لا يظنون أنه يقع، بفضل شجاعة هؤلاء الفرسان، فلهؤلاء الفرسان المنة؛ إذ بلغوهم ما لم يكونوا ليبلغوه بأنفسهم. فقوله: «ومن»: عطف على «ذل». ويرام: يطلب.
(٢٢٦) الكتائب: جمع كتيبة؛ الجماعة من الجيش. وخام عن اللقاء: جبن ونكص على عقبيه. يقول: هؤلاء الفرسان كتائب جاءوا إليك خاضعين فأقدموا — اجترءوا — عليك بهذا الخضوع، ولو لم يكونوا كذلك لجبنوا ولم يجسروا على لقائك.
(٢٢٧) تقول: هو في ذَراه: أي في ظله وكنفه. يقول: إنهم تعودوا إحسانك قديمًا؛ إذ كانوا في كنفك وظلك وحمايتك تحسن إليهم حتى غرقوا في برك وإحسانك.
(٢٢٨) الميمون: ذو اليمن والبركة. والغارة: الحرب. وتوالى: تتتابع. والمراد بالصلاة والسلام: التعظيم. يقول: كلما سرت في غارة صلوا عليك وسلموا إعجابًا بك وتعظيمًا لما يعرفونه عنك من الشجاعة والإقدام وإن كانت الإغارة عليهم، وهذا البيت — والذي بعده — توكيد للبيت السابق.
(٢٢٩) يقول: إن الكرام يقتدون به؛ لأنه إمامهم.
(٢٣٠) القتام: الغبار. وأراد بالجواب: الجيش. يقول: رب جيش أقمته مقام جواب كتاب كتب به إليك، فصار غباره يدل عليه كما يدل العنوان على الكتاب. هذا، وعنوان الكتاب: ما يعرف به؛ سمي كذلك لأنه يعن الكتاب من ناحيتيه — أي يعرض — وأصله: عُنَّان كرمان، وكلما استدللت بشيء تظهر على غيره فهو عنوان له، كما قال حسان يرثي عثمان:
ضَحَّوْا بأشمط عنوان السجُود به يُقَطِّع الليل تسبيحًا وقرآنًا
والعنوان بالضم هي اللغة الفصيحة، قال أبو داود الرؤاسي:
لمن طللٌ كعنوان الكتاب ببطن لُوَاقَ أو بطن الذهاب
(هذا هو النص الصريح لهذا البيت، ولواق: أرض معروفة. والذهاب: موضع.)
وقال أبو الأسود الدؤلي:
نظرْت إلى عُنوانهِ فنبذْتَه كنبذك نعلًا أخْلقتْ من نِعالِكا
قال الليث: والعلوان: لغة في العنوان غير جيدة. وقد يقال: عنوان وعنيان.
(٢٣١) البيداء: الأرض القفرة البعيدة. والنشر: خلاف الطي. وختام الكتاب: الطين الذي يختم به. وفضه: كسره. يقول: تضيق البيداء بهذا الجواب ولم ينشر ولم يفض عنه الختم؛ يعني أنه جيش كثير تضيق به الأرض الواسعة قبل انتشاره، فكيف إذا انتشر وتفرق للحرب والغارة؟ وقد استعار الفض والختم وهما للكتاب والجواب لما جعل الجيش كتابًا وجوابًا، وهو تخيل بديع رائع
(٢٣٢) الجواد: الفرس الكريم. والرمح الذابل: اللين. الحسام: السيف القاطع. لما جعل الجيش جوابًا جعل حروف هجائه هذه الأشياء. أي أنه ألف من هذه الأشياء كما يؤلف الجواب من حروف الهجاء.
(٢٣٣) أَذَا الحرب: أي يا صاحب الحرب. ويروى: أخا الحرب، يقال: هو أخو كذا أي ملازم له معروف به، ولهي الرجل عن الشيء من باب علم: اشتغل عنه وتركه. يقول: لقد أتعبت الحرب؛ أي أتعبت أهلها بكثرة الغارات وملازمتها، فاتركها ساعة حتى تغمد الفرسان سيوفها وتحل حزم الخيل.
(٢٣٤) عمر الرجل يعمر — من باب فهم: أي طال عمره. يقول: إن سلمت الرماح من التكسر بترك استعمالها في الحرب بالهدنة بين الفريقين فقصاراها أن تبقى عندك عامًا واحدًا؛ لأنك لا تهادن العدو أكثر من هذه المدة. وعبارة العكبري: إن أعمار الرماح عند غيرك دعة تطول واتساع هدنة، وغاية أعمارها عندك عام لا تتجاوزه؛ لأن الانكسار يسرع إليها بمداومتك الطعن وأمد مهادنتك للروم عام ثم تعود إلى حربهم على عادتك، وتكسر الرماح فيهم على سجيتك، وما تترك عادتك.
(٢٣٥) السمر: الرماح. واللهام: الكثير الذي يلتهم كل شيء. يقول: ما زلت تفني الرماح بكثرة استعمالها في وقائعك مع كثرتها، وتفني بفنائها الجيش الكثير من الأعداء.
(٢٣٦) الجالون: النازحون الذين أخرجوا من ديارهم. والهام: الرءوس. يقول: متى عاد الروم — الذين تركوا ديارهم خوفًا منك بالهدنة التي أجبتهم إليها — إلى أوطانهم عاودت أنت تلك الأوطان بالغزو، وقد توفر لسيوفك ما تقطعه من الرقاب والرءوس.
(٢٣٧) الكاعب: التي قد بدا ثديها للنهود. يقول: لما هربوا منك وجلوا عن منازلهم ربو أولادهم لتسبيهم، وقد صارت البنت كاعبًا والابن شابًّا؛ أي صاروا بحيث يصلحان للسبي. قال العكبري: يشير إلى أن مسالمة سيف الدولة ضرب من التدبير؛ لأنهم يعاودون ما أخلوه من منازلهم فيكون ذلك أقرب لقتلهم وأمكن لسبيهم. هذا، وقوله: حتى تصيبها؛ أي حتى تكون العاقبة إصابتك إياها. على حد قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا.
(٢٣٨) يقول: جاراك الملوك فيما نهجته من المكارم حتى إذا انتهوا إلى أقصى غاياتهم، ووقفوا من الكلال متخلفين عنك جريت وحدك فسبقت غايتهم، وأصل هذا في الخيل تجارى، فإذا ونى بعضها سبقه الذي لم يلحقه الكلال.
(٢٣٩) يقول: فليس لشمس منهم — من الملوك — إنارة مع ما يبدو من نورك، ولا لبدر منهم تمام مع ما أتمه الله لك من الفضل. يعني: أن الملوك صغير كل كبير منهم عند قدرك، وناقص كل من كان يتم منهم بالقياس إلى فضلك. وعبارة بعض الشراح: أي من يشبه منهم بالشمس كسف بهاؤك مجده، فلا إنارة له، ومن يشبه منهم بالبدر ظهر نقصه عند ظهور فضلك.
(٢٤٠) الإصماء: إصابة المقتل في الرمي، يقال: رماه فأصماه: إذا أصاب مقتله. والمرام: المطلب. يريد أنه حسن المحاولة لما يطلبه بصير بمواضع الظفر به، كالرامي يصيب فؤاد مرميه فيقتله لساعته. وقوله: تربى … إلخ؛ أي إنه يغير على أعدائه فيأخذ أموالهم وعددهم، ويستعين بها على إنفاذ بأسه فيهم فجعل ما يأخذه منهم كالريش، وبأسه كالسهام التي لا تنفذ إلا بالريش الذي عليها. وقال ابن جني: يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن يكون يربون الريش فإذا تكامل رماه الممدوح بسهامه؛ أي إن الطائر يكون فرخًا فلا يكمل حتى يتم ريشه، فهم يربونه إلى أن يصلح أن يصاد، والآخر: أن الأعداء يربون ريشهم؛ ليأخذه فيريش به سهامه فيكون فعلهم قوة له. والعرب تكني بالريش عن حسن الحال، راش فلان فلانًا، كأنه جعل له ريشًا ينهض به.
(٢٤١) يقال: أقطعه أرض كذا: إذا جعل له غلتها رزقًا. والإقطاع: اسم لتلك الأرض، من التسمية بالمصدر. والطرف: الفرس الكريم. والحسام: السيف القاطع. يقول: إن جميع ما أتصرف فيه ويضاف إلي من أرض وثياب وخيل ومنازل وسلاح فهو له، وصل إلي من نعمته. وقد أجمل النابغة هذا المعنى في قوله:
وما أغفلْتُ شكرَكَ فانتصِحْني وكيف ومن عطائك جُلُّ مالي؟!
وقد فصله النابغة أيضًا فقال:
وإنَّ تِلَادي إن نظرْتُ وَشِكَّتي ومُهري وما ضمتْ إليَّ الأنامِل
حِباؤكَ والعِيسُ العِتاق كأنها هِجانُ المها تَرْدِي عليها الرحائل
(الشكة: ما يلبس من السلاح. والحباء: العطاء. والرديان: ضرب من السير بين العدو — الجري — والمشي الشديد. وجملة عليها الرحائل: حال. والرحائل: جمع رحالة؛ سرج من جلود ليس فيه خشب كانوا يتخذونه للركض الشديد.)
وقال أبو نواس:
وكلُّ خير عندَنا من عنده
(٢٤٢) البيض: السيوف. والقنا: الرماح. والعبدَّى: العبيد، جمع عبد. والغمام: السحاب. وهاطلات: ساكبات. يقول: وأسير كذلك فيما أمطرني به سحاب جوده من السيوف والرماح يحملها العبيد الرومية؛ يعني أنه وهبه العبيد بسلاحها.
(٢٤٣) الضمير في «فرسانه وكرامه»: للإقليم، والإقليم: واحد أقاليم الأرض. قال ابن دريد: لا أحسب الإقليم عربيًّا، وقال الأزهري: وأحسبه عربيًّا. وأهل الحساب يزعمون أن الدنيا سبعة أقاليم كل إقليم معلوم كأنه سمي إقليمًا؛ لأنه مقلوم من من الإقليم الذي يتاخمه، أي مقطوع.
(٢٤٤) خوله كذا: ملكه إياه. والنوال: العطاء. يقول: إنه يجازيني بنواله إذا مدحته بما أستفيده من الأدب من كلامه. وهذا أغرب من قوله أبي تمام:
نأخذ من مالِه ومِن أدبِه
قال بعض الشراح: يشير إلى قصة الواقعة التي ذكرها في القصيدة التي مطلعها:
طِوال قَنًا تُطَاعِنُهَا قِصَارُ وَقَطْرُكَ فِي نَدًى وَوَغًى بِحَارُ
وكان سيف الدولة قد قص هذه الواقعة عليه فنظمها. يقول: أقطعني هذه الأرض جزاء لما مدحته به في القصيدة المذكورة، وأنا إنما استفدت معانيها منه ونظمت فيها ما قص علي من كلامه، فالفضل فيها له، لا لي.
(٢٤٥) أراد بالشمس التي في لثامه: وجهه. يقول: لا زال باقيًا بقاء الشمس، فكلما طلعت في السماء كان وجهه طالعًا بإزائها، وأضاف السماء إليه مبالغة في المدح، كما قال الفرزدق:
لنا قمراها والنجوم الطوالع
وقال ابن جني: أضاف السماء إليه لإشراقها عليه، كما قال الآخر:
إذا كوكبُ الخرقاء لاحَ بِسُحْرَةِ سُهَيْلٌ أذاعَتْ غزلها في القرائب
(بعده:
وقالت: سماءُ البيت فوقكَ مُنْهِجٌ ولمَّا تُيسِّرْ أحبُلًا للركائب
والخرقاء: المرأة التي لا تحسن عملًا، ومنه: الخرقاء صاحبة ذي الرمة، فإنه أول ما رآها أراد أن يستطعم كلامها فقدم إليها دلوًا، وقال أخرزيها لي، فقالت: إني خرقاء: أي لا أحسن عملًا. قالوا: فأضاف الكوكب إلى الخرقاء بملابسة أنها لما فرطت في غزلها في الصيف، ولم تستعد للشتاء استغزلت قرائبها عند طلوع سهيل سحرًا، وهو زمان مجيء البرد، فبسبب هذه الملابسة سمي سهيل كوكب الخرقاء، وسهيل: بدل أو عطف بيان لكوكب الخرقاء، وأذاعت: فرقت، وجملة قالت في البيت الثاني عطف على «أذاعت». والسماء: السقف. والمنهج: من أنهج الثوب؛ إذا أخذ في البلى. وأحبل: جمع حبل، وهو الرسن ونحوه. والركائب: الإبل التي يسار عليها. أي وقالت لزوجها: سماء البيت فوق مخلق ولما تيسر للركائب أحبلًا فكيف تنتجع على هذه الحالة؟)
أضاف الكوكب إليها لجدها في عملها عند طلوعه.
(٢٤٦) جمع البدر لأنه أراد بدر كل شهر. وتعجب: أي تتعجب. يقول: لا زال باقيًا على توالي الأشهر تمر بدورها بوجهه فتظنه بدرًا آخر لكماله، ولكنها تتعجب حين ترى أنها تنقص وهو لا يزال تامًّا.
(٢٤٧) كان سيف الدولة قد أرسل سرية، ففزع الناس لخيل — جيش — لقيت السرية ببلد الروم فركب سيف الدولة وركب معه أبو الطيب، فوجد السرية قد ظفرت. وأراه بعض العرب سيفه فنظر إلى الدم عليه وإلى فلول أصابته في ذلك اليوم، فأنشد سيفُ الدولة متمثلًا ببيتي النابغة الذبياني:
ولا عَيبَ فيهم غير أن سُيوفَهمْ بهنَّ فُلولٌ من قِرَاع الكتائبِ
تُخُيِّرْنَ من أزمان يوم حليمةٍ إلى اليوم قد جُرِّبْنَ كلَّ التجاربِ
فقال أبو الطيب هذه الأبيات.
«والفلول: الثلوم. والكتائب: فوق الجيش. وتخيرن: أي السيوف. وحليمة: امرأة كانت تطبهم إذا قاتلوا، وفيها المثل المشهور: وما يوم حليمةَ بسرٍّ، وإلى اليوم: صلة تخيرن. وقد جربن: حال». والبيتان من قصيدته في عمرو بن الحارث الأصغر من ملوك بني غسان، ومطلعها:
كِليني لِهمٍّ يا أمَيمةُ ناصبِ وليل أقاسيه بطيء الكواكب
يمدح قومه يقول: لا عيب فيهم إلا أن سيوفهم مثلمة من قراع الجيوش، وهذا على الحقيقة فخر لهم، وإذا لم يكن فيهم عيب إلا هذا فهو تأكيد لنفي العيب عنهم، وهذا ما يعرف عند أهل البديع بتأكيد المدح بما يشبه الذم. ثم قال في البيت التالي: هي من أجود السلاح تخيرها أسلافهم والذين من بعدهم، من ذلك اليوم إلى يومنا هذا، وقد جربت بكل وجهٍ من وجوه التجارب؛ يعني أنه لم يكن بها عيب، فلما انتهت إلى نوبة الممدوحين تثلمت لما نالها من شدة القراع.
(٢٤٨) النَّيل: العطاء. وأوسع العطاء ونحوه: بسطه، وكثَّره. وحديثهم: بدل تفصيل من الشعراء. يقول: إنك توسع العطاء للشعراء المحدثين منهم والأقدمين، ثم بين ذلك في البيت التالي.
(٢٤٩) بقى — بفتح القاف — هي لغة طيئ، ومنه قول زيد الخيل الطائي:
لعَمرُكَ ما أخشَى التصعلُك ما بقَى على الأرضِ قَيْسِيٌّ يسوق الأباعِرا
يقول: تعطي الباقين منهم — أي الأحياء — عطاء جزيلًا، والماضين شرفًا عظيمًا بأن تنشد أشعارهم وتتمثل بها استحسانًا لها فيكون ذلك شرفًا عظيمًا لهم.
(٢٥٠) زياد: اسم النابغة الذبياني، والنابغة لقب غلب عليه. ونشيدًا: مفعول مطلق، وضعه موضع الإنشاد.
(٢٥١) الغبطة: أن تتمنى مثل حال المغبوط من غير أن تريد زوالها عنه وليس بحسد. ورم العظم يرم رمة: بلي، فهو رميم، وقوله: أعظمه الرميما: وصف الأعظم — وهي جمع — بالمفرد؛ لأن فعيلًا وفعولًا يستوي فيهما المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، قال تعالى: مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. يقول: لم أنكر موضع زياد من الشعر، وأنه أهل لأن تنشد شعره، لكني غبطت عظامه البالية لما نالته بذلك من الشرف. هذا، ومما يتصل بهذا الموقف ما يحكى أن المعتمد بن عباد صاحب قرطبة وأشبيلية أنشد يومًا في مجلسه قول المتنبي:
وَمَا الْحُسْنُ فِي وَجْهِ الفْتَى شَرَفٌ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ وَالْخَلَائِقِ
وجعل يردده استحسانًا له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الشاعر الأندلسي، فأنشد ارتجالًا:
لئن جاد شعرُ ابن الحُسينِ فإنما بِقَدْر العطايا واللُّها تفتح اللَّهَا
تنبأ في نَظْمِ الْقَرِيضِ ولو دَرَى بأَنَّكَ تَرْوِي شعرَه لتألَّها
(٢٥٢) ذكر: جمع ذكرى، كأنهم حملوه على مؤنث التاء فجمعوه على حد سدرة وسدر — وهو قياس عند الفراء. والصبا بمعنى اللهو والتصابي. ومراتع — بالجر — معطوف على الصبا، ويروى بالرفع عطفًا على ذكر. والمراتع: جمع مرتع؛ الموضع ترتع فيه الدواب: أي ترعى كيف شاءت، ويروى: مرابع، جمع مربع؛ المكان الذي يربعون — يقيمون — فيه، يريد ديار الأحبة. والآرام: الظباء البيض، وأراد بهن النساء، جمع رئم — على القلب المكاني — والحمام: الموت. يقول: إن ذكر الصبا ومراتع النساء اللائي أهيم بهن جلبت علي حالة هي والموت سواء، يعني شدة وجده على فراقهن، فكأنه مات قبل موته لشدة الوجد.
(٢٥٣) الدمن: جمع دمنة؛ ما تلبد من آثار الديار بعد رحيل القوم، ودمن: خبر مبتدأ محذوف؛ أي تلك المراتع دمن. والعرصات: جمع عرصة؛ ساحة الدار. يقول: لما وقفت بآثار المحبوب تكاثرت همومي شوقًا إلى من كان بها كتكاثر لوامي في حبهن.
(٢٥٤) وكفت: أي قطرت وسالت، ويروى: وقفت. وعروة بن حزام: هو صاحب عفراء، وهو أحد عشاق العرب المشهورين. شبه هطلان السحاب في تلك الدمن ببكاء عروة بن حزام على فراق صاحبته. يريد كثرة ما تجري عليها السحب من المطر، بدليل أنها محت آثار تلك الديار، ولعله ينظر في هذا إلى قول أبي تمام:
كَأَنَّ السَّحَابَ الْغُرَّ غَيَّبْنَ تَحْتَهَا حَبِيبًا فَمَا تَرْقَا لَهُنَّ مَدَامِعُ
(السحاب جمع؛ ولذلك وصفها بالغر. وترقا: هو ترقأ، فخفف، ورقأت الدمعة: جفت وانقطعت.)
ومثله لمحمد بن أبي زرعة:
كَأَنَّ صَبَّيْنِ بانا طُول لَيْلِهِمَا يَسْتَمْطِرَانِ عَلَى غُدْرَانِهَا المُقَلَا
(٢٥٥) الكعاب: الجارية بدا ثديها للنهود. يقول: طالما رشفت ريق كعاب تلك الدمن فيها وأطالت هي — الكعاب: أي محبوبته — عتابي حتى أفحمتني عن الكلام، فأنا أذكر من كان بهذه الدمن، وأرتحل عنها فيزيد وجدي وشوقي.
(٢٥٦) المجانة: مثل الخلاعة، والماجن: الذي لا يبالي بما يتكلم به. والشرة: الحدة والنشاط. والبطر والعرام: الشراسة، وقيل: الخبث. قال شبيب بن البرصاء يصف إبلًا سمنت وحملت الشحوم:
كأنها من بُدُنٍ وإيفارْ دَبَّتْ عليها عارماتُ الأنبارْ
(الأنبار: جمع نبر، وهو دويبة شبيهة بالقراد إذا دبت على البعير تورم مدبها. والبدن والبدن: السمن والاكتناز. وإيفار: مأخوذ من الشيء الوافر — ويروى: وإيقار — يريد أنها قد أوقرت من الشحم. يقول: من سمنها ووفور شحمها، كأنما لسعتها الأنبار فورمت جلودها.)
يقول — مخاطبًا نفسه: حين كنت شابًّا لم تبتلَ بالفراق وما كنت تدري وجد الفراق وشدته بعد، وكنت تهزأ به لهوًا وغفلة واستخفافًا، تمرح في شرتك وعرامك غير مبالٍ بما ستلاقيه من الشدائد.
(٢٥٧) القباب: جمع قبة، والمراد بها: الهوادج. واسم «ليس»: ضمير الشأن، والقباب على الركاب: مبتدأ وخبر، والجملة: خبر «ليس». والركاب: الإبل. وتروى القباب — بالنصب — قال العكبري: من روى القباب بالنصب: جعله خبر «ليس» ويكون المعنى: ليس الذي تعاينه القباب. يقول: ليس هذا الذي تراه هوادج الأحبة على الإبل، ولكنها الحياة ترحلت عنا، يعني أنه يموت بعد فراقهن.
(٢٥٨) النوى: البعد. والضمير في خفافهن: للركاب — الإبل — وأراد: أخفافهن؛ لأن خف البعير يجمع على أخفاف. والخفاف: جمع الخف؛ الملبوس، فوضع أحدهما موضع الآخر تجوزًا. يقول متمنيًا: ليت الذي خلق الفراق جعل أعضائي لأخفاف الإبل التي تحملوا عليها حصًى حتى تطأني بأخفافها.
(٢٥٩) متلاحظين (متلاحظين: رواه الواحدي هكذا على التثنية، وقد رواها العكبري على صيغة الجمع): حال من فاعل «نسح» قدمت على العامل فيها وهو نسح. ونسح: نسكب، والشئون: جمع شأن؛ مجرى الدمع من الرأس. وفي الأكمام: متعلق بنسخ. يصف حاله وحال الحبيبة لدى الوداع، يقول: كانت الحبيبة تنظر إلي وأنا أنظر إليها لدى الوداع، وكلانا قد غلبه البكاء فستره بكمه خوفًا من الرقباء. والأكمام: جمع كم، والكم: الثوب مدخل اليد ومخرجه، والذي في العكبري: الآكام بدل «الأكمام»، والآكام: جمع أكمة. وهي التل، والأكمام أقرب.
(٢٦٠) انهملت: انسكبت. يقول: ليست الدموع — التي أجريناها — بدموع، ولكنها أرواحنا جرت على أرجلنا، ثم تعجب من الحياة بعد انسكاب هذه الأرواح ونفادها، وفي مثل هذا المعنى يقول القائل:
وليس الذِي يجرِي من العينِ ماءَها ولكنَّها رُوحي تَذُوبُ فَتَقْطُرُ
(٢٦١) سجام: غزيرة كثيرة. يقول: لو كانت دموعنا في اليوم الذي جرت فيه — أي يوم الرحيل — مثل صبرنا في ذلك اليوم لكانت قليلة، لكنها كانت سجامًا غزيرة. يخبر عن قلة صبره وكثرة دموعه. هذا، و«كن» الثانية زائدة، والعرب قد تجعل الكون زائدًا في الكلام، وكثير من النحويين حملوا قوله تعالى: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا على زيادة «كان»، وأنشد الفراء:
سراة بني أبي بكر تَسَامَى على كان المسَوَّمَةِ الْعِرَابِ
(المسومة: المعلمة بعلامة لتترك في المرعى، أو هي من قولك: سومت فلانًا، إذا خليته وسومه؛ أي وما يريد. والعراب: التي ليس فيها عرق هجين. وتسامى — بحذف إحدى التاءين — أي تتسامى، من السمو، وهو العلو. يقول: سراة هذه تختال على تلك الخيول.)
و«كان» في هذا البيت زائدة بلا خلاف.
(٢٦٢) الضمير في يتركوا: للراحلين. والأسى: الحزن. والذميل: ضرب من السير سريع. والدعبلة: الناقة السريعة، وأراد بفحل النعام: الذكر. يقول: رحلوا وتركوني وحيدًا لم أصاحب بعدهم إلا الحزن وجدًا عليهم، وسير ناقة كالظليم في عدوها وسرعتها في الفلوات.
(٢٦٣) يقول: تعذر وجود الأحرار — أي الكرام — حرم علي ركوبها — أي الناقة — إلا للقصد إليك؛ لأنك الحر الذي يستحق أن يقصد ويزار، فأنا أتجنب ركوبها إلا إليك كما أتجنب فرجًا حرامًا علي إتيانه — يعني الزنا — وهذا من قول أبي نواس:
وإذا الْمَطِيُّ بِنَا بَلغنَ مُحَمَّدًا فظُهُورُهُنَّ على الرِّجالِ حَرَامُ
وأخذه مهيار الديلمي فقال:
يا ناقُ ويْحَكِ عَجِّلي تَصِلي هذا المنَى فلْيَهِنْكِ الطَّلَبُ
فإذا وَصَلْتِ بِنَا قِبَابَ قُبًا لا مَسَّ ظَهْرَكِ بعدَها قتَبُ
وهو معنى قديم متداول.
(٢٦٤) الغريبة: اسم لما يستغرب، والتاء فيه للاسمية — كما في عجيبة ونحوها — وعبارة الواحدي: الهاء في «الغريبة» للمبالغة لا للتأنيث، كما يقال: راوية وعلامة. وقال التبريزي: أنت أعجوبة غريبة، كما تقول: داهية دهياء. ويقال: ولد المولود لتِمام وتَمام: بالكسر وبالفتح. يقول: أنت غريبة هذا الزمان؛ لأن أهله كلهم ناقصو المكارم وأنت تام الكرم بينهم.
(٢٦٥) النوال: العطاء. والعلم: العلامة التي يعرف بها الشيء. يقول: لم تزل يعرف بك الإفضال والإنعام؛ أي لم تزل منعمًا مفضلًا. وعبارة بعض الشراح: أي إن الإفضال والإنعام يتعرفان بك ويهتدى إليهما بأفعالك، فأنت كالعلامة لهما.
(٢٦٦) يقول: إن كل فعلة كبيرة صغرت بجانب أفعالك العظام؛ لأن أفعالك أكبر منها، وكبرت عن أن تشبه بشيء، فيقال: كأنك كذا، وأنت مع ذلك شاب لم تبلغ الحنكة بعد، وهو أشرف لك وأمدح. وعبار بعض الشراح: أي صغرت الأفعال الكبيرة بأفعالك؛ لأن أفعالك أكبر منها. وكبرت عن أن تشبه بغيرك؛ لأنك لم تدع لأحد مزية عليك. مع أنك إذا عددت أيامك لم تتجاوز سن الغلام. هذا، واللام من «لكأنه»: للتوكيد، وأراد قول القائل: لكأنه فلان أو كأنه الأسد أو البحر، فحذف خبر «كأن» لأنه أراد مطلق التشبيه، واستغنى عن ذكر القول بالحكاية. وقال العكبري: وقد أدخل «لام التأكيد» على «كأن» وهو قليل جدًّا، والقياس لا يمنع منه؛ لأن «كاف» التشبيه تكون في صدر الكلام، وقولك: كأن زيدًا عمرو، مؤدٍّ عن قولك: كعمرو زيد، فجاز دخول اللام على الكاف، كما جاز في قولك: لزيد أفضل من بكر.
(٢٦٧) رفل يرفل في ثيابه رفلًا: إذا أطالها وجرها متبخترًا فهو رافل. ورفِل رفلًا: فهو رفِل: خرق — حمق — باللباس وكل عمل، أنشد الأصمعي:
في الرَّكْب وَشواشٌ وفي الحي رَفِلْ
«الوشواش: الخفيف السريع.» الحلل: جمع حلة، قالوا: ولا تكون الحلة إلا ثوبين، وقال ابن شميل: الحلة القميص والإزار والرداء. والإعدام: الفقر. يقول: إن عليك من الثناء حللًا تتبختر فيهن؛ يريد ثناء الشعراء والمادحين عليه بما أغدق عليهم من نعمه، ونهاية الإعدام — الفقر — هو عدم الثناء لا عدم الثراء. وعبارة بعض الشراح: كأنه يشير إلى ما كسبه من الثناء بجوده؛ أي أنه أنفق ماله على الشعراء والمادحين، فكان بذلك هو الثري، لأن ثناءهم باقٍ والمال يغدو ويروح.
(٢٦٨) ترى: أراد أن ترى، فحذف «أن». وقوله: بسيف؛ أي مع سيف. والوغى: الحرب. والصمصام: السيف، وهو الصارم — القاطع — الذي لا ينبو عن الضريبة. يقول: أنت سيف في حدَّتك ومضائك فلا حاجة بك إلى السيف.
(٢٦٩) «كان» الأولى ناقصة، والثانية تامة، بمعنى وجد، وهي خبر الأولى. و«أو هو كائن»: عطف على الخبر. وقوله: فبرئت … إلخ: قسم. يقول: لم يكن مثلك ولا يكون. قال الواحدي: هذا من المدح البارد الذي يدل على رقة دين وسخافة عقل وهو من شعر الصبا — إذ قال المتنبي هذه القصيدة في صباه.
(٢٧٠) يقال: زها الرجل فهو مزهو: إذا تكبر وتاه، فكان حقه أن يقول: زُهِيَتْ إلا أنه جاء به على لغة طيئ في قولهم: بقى في بقي، كذلك قال: زُها في زُهِيَ فسكن الياء فلما دخلت تاء التأنيث سقطت الياء الساكنة. وقال ابن منظور: قال ابن سيده: وقد زُهيَ الرجل على لفظ ما لم يسم فاعله، وللعرب أحرف لا يتكلمون بها إلا على سبيل المفعول به وإن كان بمعنى الفاعل، مثل: زُهي الرجل، وعُني بالأمر ونُتجت الشاة والناقة وأشباهها، وحكى ابن دريد: زها يزهو زهوًا: أي تكبر، ومنه قولهم: ما أزهاه! وليس هذا من زُهي؛ لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه، قال الأحمر النحوي يهجو العتبي والفيض بن عبد الحميد:
لنا صاحبٌ مُولع بالْخِلافْ كثيرُ الخطاء قليلُ الصوابْ
ألجُّ لَجَاجًا من الْخُنْفِساء وأزْهى إذا ما مشى من غرابْ
قال الجوهري: قلت لأعرابي من بني سليم: ما معنى زُهي الرجل؟ قال أعجب بنفسه، فقلت: أتقول: زها، إذا افتخر؟ قال: أما نحن فلا نتكلم به. يقول: افتخرت بك الأيام على الأيام التي مضين ولم تكن فيهن.
(٢٧١) تخاله: تظنه. والورى: الخلق. والحلم: الأناة والعقل. ومن حلمه: أي من أجل حلمه. يقول: لرجاحة حلمه على أحلام — عقول — الناس كأنه أخذ أحلامهم فضمها إلى حلمه.
(٢٧٢) تكشفت: ظهرت. وأراد بالأوحدي: الأوحد، فزاد الياء للمبالغة. وأصل الإبرام: فتل الحبل ونحوه، والنقض ضده. يقول: إذا اختبرته ظهرت لك عزائمه صادرة عن رجل لا نظير له في عزماته إن أبرم أمرًا أو نقضه.
(٢٧٣) البنان: أطراف الأصابع. والنيل: العطاء. والذمام هنا: الحق. ونصب «قضاء»: على الحال، ويجوز أن يكون مفعول «يرض»، وبالدنيا: صلته. يقول: إذا طلبت عطاءه فأعطاك الدنيا كلها لم يرضَ بها في قضاء حقك.
(٢٧٤) مهلًا: مفعول مطلق نائب عن فعله؛ أي أمهل مهلًا. وألا: استفتاح. ولله: كلمة تعجب. والقنا: الرماح. وقوله: في عمرو حاب: أراد عمرو بن حابس — بطن من أسد — فرخم المضاف إليه. قال الواحدي: وذلك غير جائز؛ لأن الترخيم حذف يلحق أواخر الأسماء في النداء تخفيفًا، والكوفيون يجيزونه في غير النداء وينشدون:
أبا عُرْوَ لا تَبْعَدْ فكلُّ ابْنِ حُرَّة سيدْعُوهُ داعِي موْتِهِ فيُجِيبُ
(عرو: مرخم عروة. ولا تبعد: أي لا تهلك، وهو دعاء خرج بلفظ النهي. فإن قيل: كيف قال: لا تبعد وهو قد هلك؟ فالجواب: أن العرب قد جرت عادتهم باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت، ولهم في ذلك غرضان: أما أولهما: فهو أنهم يريدون بذلك استعظام موت الرجل الجليل، وكأنهم لا يصدقون بموته، والثاني: أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره ولا ينسى؛ لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته. وقوله: فكل ابن حرة: أراد فكل ابن امرأة.)
والبصريون ينكرون هذه الرواية وينشدون أيا عرو. وقال العكبري: ذهب أصحابنا — يريد الكوفيين — إلى جواز ترخيم المضاف، وأوقعوا الترخيم في آخر الاسم المضاف إليه، وحجتهم: أنه قد جاء في أشعار العرب القدماء، كقول زهير بن أبي سلمى:
خُذُوا حَظَّكُمْ يَا آلَ عِكرم وَاحْفَظوا أوَاصِرَنا والرَّحمُ بالغيبِ تُذْكر
(من أبيات قالها زهير لبني سليم، وبلغه أنهم يريدون الإغارة على غطفان. والحظ: النصيب. يقول: صونوا حظكم من صلة القرابة، ولا تفسدوا ما بيننا وبينكم من القرابة، فإن ذلك مما يعود مكروهه عليكم. وعكرم: ترخيم عكرمة، وآل عكرمة هم بنو عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان مضر. والأواصر: جمع آصرة، وهي ما عطفك على رجل من رحم أو قرابة أو صهر أو معروف. والرحم: موضع تكوين الولد، وتخفف بسكون الحاء مع فتح الراء وكسرها، ثم سميت القرابة والوصلة مع جهة الولاء: رحم، فالرحم خلاف الأجنبي، وهي مؤنثة في المعنيين.)
وقد جاء الترخيم في قول جرير:
ألَا أضْحَت حبالُكُمُ رِمَامَا وأضْحَتْ مِنْكَ شاسِعَة أُمَامَا
(قال الأعلم: الرمام: جمع رميم، وهو الخلق البالي. يريد أن حبال الوصل بينه وبين أمامة قد تقطعت للفراق الحادث بينهما. وقال غيره: الرمام: جمع رمة — بالضم — وهي القطعة البالية من الحبل، وهذا البيت مطلع قصيدة لجرير.)
فهذا ترخيم في غير النداء، على من قال: يا حار بالكسر. وضبة: قبيلة مشهورة. والأغتام: جمع غتم، جمع أغتم، ورجل أغتم وغتمي: لا يفصح شيئًا، والغتمة: عجمة في المنطق، والغتم في الأصل: قطع اللبن الثخان، ومنه قيل للثقيل الروح: غتمي. والغتم: شدة الحر والأخذ بالنفس، قال الراجز يصف إبلًا:
حرَّقها حَمْضُ بِلَادٍ فِلٍّ وغتْمُ نجم غيرِ مستقل
(الفل: الأرض القفرة. وأفللنا: أي صرنا في فل من الأرض، ومنه يقال: فلان فل من الخير؛ أي خالٍ من الخير.)
فما تكاد نِيبُهَا تولِّي
أي غير مرتفع لثبات الحر المنسوب إليه، وإنما يشتد الحر عند طلوع الشعرى التي في الجوزاء. قال الواحدي: جعل هؤلاء أغتامًا؛ لأنهم كانوا جاهلين حين عصو حتى فعل ما فعل.
(٢٧٥) قال العلامة العكبري: يروى: المنية بدل الأسنة، وليس بشيء، والأصح الأسنة، ولهذا قال: وهن. فجمع الضمير في المبتدأ والخبر، ومن روى المنية أراد بها المنايا، وليس هو بشيء، إلا أني وجدتها في بعض النسخ فذكرتها حتى لا أخل بشيء على حسب الطاقة.
(٢٧٦) الخلل: فرجة ما بين الشيئين، ونصبه على الظرفية. يقول: غزوتهم في عقر دارهم حتى تركتهم خلال بيوتهم أجسامًا بلا رءوس كأن رءوسهم قد غضبت على أجسامهم ففارقتها.
(٢٧٧) البيض: جمع بيضة، وهي الخوذة. والقتام: الغبار. وأحجار: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هناك أحجار ناس. يصف المعركة وكثرة القتلى. يقول: صارت الأرض دمًا، وصار مكان الحجارة ناس قتلى فوق تلك الأرض، وصارت الخوذ نجومًا لامعة في سماء من الغبار. وبعبارة أخرى: انتشرت الجثث في ساحة الحرب كالحجارة، منبثة على أرض من الدم، وامتلأ الهواء خوذًا تلمع كالنجوم في سماء من الغبار.
(٢٧٨) وذراع: عطف على قوله: أحجار ناس. وحالت: تحولت وتغيرت. يقول: هناك أحجار ناس، وهناك ذراع كل أبي فلان؛ أي ذراع مقطوعة من رجل كان يكنى أبا فلان، فلما قتل حالت كنيته فصار صاحب تلك الكنية يقال له: أبو الأيتام؛ لأن بنيه صاروا يتامى بهلاكه. هذا، وقد نصب كنية — كما قال الواحدي — على الحال من أبي فلان، وتقديره كل أب لفلان؛ لأن كل إذا كان واحدًا في معنى جماعة لا يكون إلا نكرة، كما تقول كل رجل وكل فرس، وهذا كما يقال: رب واحدِ أمه لقيت، ورب عبدِ بطنه ضربت، على تقدير رب واحد لأمه، ورب عبد لبطنه، والإضافة يراد بها الانفصال. وقال ابن جني: ويجوز نصبها بأعني.
(٢٧٩) وخيله محجمة: مبتدأ وخبر، والجملة: حال سدت مسد خبر عهدي، ويروى: وخيله — بالجر — عطفًا على معركة. ومحجمة: بالنصب على الحال. والنقع: الغبار. والإحجام: التأخر. يقول: لم أعهد معركته إلا على هذه الحال، فخيله مقدمة أبدًا تتأخر عن التأخر؛ أي تأنف من الرجوع فلا تقدم عليه.
(٢٨٠) رام: طلب. ومنالك: أي غايتك التي تنالها. يقول: من طلب أن يبلغ غايتك فقد طلب أمرًا لا مطلب فيه: أي لا يفوز طالبه، وهذا البيت منحول في الصحيح، لم يروه الواحدي؛ لأن سيف الدولة لم يلقب بهذا اللقب إلا سنة ثلاثين وثلاثمائة، لقبه به المتقي العباسي، والقصيدة نظمت سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
(٢٨١) الصلاة من الله: الرحمة والبركة. وصوب الغمام: المطر. يدعو له بالصلاة ولأبويه بالسقيا، وقوله: غير مودع: حال. قال الواحدي: وقول الناس عند التوديع غير مودع معناه أنا معك قلبًا وإن فارقت شخصًا. ويجوز أن يكون من جهة الفأل، ذكره كالاحتراس لمكان ذكر أبويه وهما قد ماتا: أي وأنت حي لا يودعك أهلك. ويجوز أن يكون المعنى: أن روحي صحبتك فأنت مشيع غير مودع.
(٢٨٢) القمقام: السيد الكثير الخير الواسع الفضل، وأصله البحر؛ لأنه مجتمع الماء، من قولهم قمقم الله عصبه: أي جمعه وقبضه. وأراد بشقيقه: أخاه ناصر الدولة.
(٢٨٣) روق الجيش: أوله ومقدمته، وأصله القرن، فاستعاره. والأرعن: الجيش المضطرب لكثرته. والغطم: البحر الكثير الماء. واللهام: الجيش الكثير يلتهم كل شيء. يقول: إن أخاك قد رمى بلد العدو وحده، ولم يكن معه من أهله أحد، وهو قائد جيش يلتهم كل شيء ولا يخشى شيئًا.
(٢٨٤) تفرست: تأملت. والمنايا: جمع منية؛ الموت. يقول: أنتم قوم تأملتكم المنايا وخبرتكم فرأتكم في الحرب صبرًا كرامًا، وإذا صبروا في الحرب كانت المنايا إليهم أسرع. قال العكبري: وكان الوجه أن يقول فيهم: فرأت لهم، كما تقول: أنتم قوم لهم وفاء، ولكنه حمله على المعنى؛ لأنه إذا خاطبهم بالكاف كان أمدح.
(٢٨٥) الهام: الرءوس. يقول: منكم استفاد الناس البذل والشجاعة ولولا أنتم لما عرفا.
(٢٨٦) العقبى: العاقبة. وعلى: متعلقة بيمين. يقول: من حلف على أن عاقبة الحرب له — أي أنه ظافر لا محالة — كانت العاقبة الندم؛ لأنه ربما لا يظفر، والقسم لا يزيد في الإقدام؛ لأن الجبان لا يقدم وإن حلف. يشير إلى تكذيب البطريق الذي حلف لملك الروم أنه لا بد أن يلقى سيف الدولة في بطارقته ويجتهد في لقائه بهم ففعل فخيب الله ظنه، فذكر المتنبي ذلك يرد عليه ويهجوه، وكأنه يقول: لو كنت ممن إذا قال وفى لم تحتج إلى اليمين، وماذا يزيدك: يروى: «ماذا يفيدك».
(٢٨٧) في اليمين: خبر مقدم عن الموصول — في الشطر الثاني — يقول: إذا حلفت على ما تعده من نفسك دلت اليمين على أنك غير صادق فيما تعده؛ لأن الصادق لا يحتاج إلى اليمين.
(٢٨٨) آلى: حلف. وابن شمشقيق: بطريق الروم. وأحنثه: ألجأه إلى الحنث، وهو نقض الحلف في اليمين. والكلم: الكلام. يقول: أقسم بطريق الروم أنه ظافر بسيف الدولة فاضطره إلى نقض يمينه فتًى — يعني سيف الدولة — أراه من شدة الضرب ما أذهله عن قسمه وأنساه كلامه ووعده.
(٢٨٩) فاعل: عطف على قوله فتى، وما اشتهى: مفعول فاعل. والفعال: جمع فعل. يقول: وأحنثه رجل يفعل ما يريد؛ لأنه ملك لا معارض له، ويغنيه عن القسم على ما يفعله حضور فعله وكرمه. أي إنه موثوق بقوله لكرمه، وفعله ما يريد حاضر عاجل فلا يحتاج إلى أن يقسم على ما يريد فعله.
(٢٩٠) الضراب: أي المضاربة. والسأم: الضجر، وهو فاعل «يمسها». يقول: كل السيوف إذا ضرب بها كلت ونبت إلا هذا السيف، فإنه مهما ضرب به لا يسأم مقارعة الأبطال.
(٢٩١) يقول: لو عجزت الخيل عن حمله إلى أعدائه لسار إليهم بنفسه؛ لأن همته لا تدعه يترك القتال. وقوله: «حتى لا تحمله» بحذف إحدى التاءين: أي تتحمله، قال ابن جني: الاختيار فيه الرفع؛ لأنه فعل الحال من «حتى» كأنه قال: حتى هي غير متحملة له، والنصب جائز على معنى إلى أن لا تحمله.
(٢٩٢) البطريق: القائد من الروم. ومفرق الملك: يريد رأسه. والملك: لغة في الملك. يقول: أين ذهبوا وأين يمينهم التي أقسموها برأس مليكهم أن يعارضوا سيف الدولة، وما زعموا من أنهم يثبتون على قتاله ويظفرون به، والزعم كناية عن الكذب، يعني أن كل ذلك كان كذبًا.
(٢٩٣) وليته الأمر تولية فتولاه: أي باشره. والصوارم: السيوف القواطع. والقمم: جمع قمة، وهي الرأس. يقول: ولي سيف الدولة سيوفه أن تكذبهم فيما ادعوا من الصبر على القتال، فكذبتهم سيوفه بقطع رءوسهم، وجعلها — أي السيوف — كالألسنة تعبر عن تكذيبهم. ولما جعلها ألسنة جعل رءوسهم كالأفواه؛ لأنها — السيوف — تتحرك في تلك الرءوس تحرك اللسان في الفم. وهو تخيل بديع رائع.
(٢٩٤) نواطق: نعت ألسنة، أو خبر عن محذوف ضمير الصوارم، وهذا البيت تفسير للمصراع الثاني من البيت السابق. يقول: إذا وقعت هذه السيوف في جماجمهم أخبرتهم عن سيف الدولة بما علموا من إقدامه وشجاعته وصبره في الحرب، وبما جهلوا منه؛ لأنهم لم يعرفوا ما عنده من البأس تمام المعرفة.
(٢٩٥) الراجع: بمعنى المرجع، وهو خبر عن محذوف ضمير سيف الدولة. يقول: هو — سيف الدولة — الذي يرد الخيل عن غزواته وقد حفيت من كثرة المشي، يقودها فرسانها قودًا راجعًا بها من كل بلد قد صيره مثل وبار في الخراب، وأهلك أهلها وأبادهم فصاروا مثل قوم إرم، وليس يريد أن «وبار» كان أهلها إرم، وإنما يريد أن الديار التي رد عنها خيله كانت كوبار خرابًا، وأهلها كإرم هلاكًا. ووبار: مدينة قديمة الخراب. قيل: كانت من مساكن عاد: أي من كل مدينة مثل وبار، وإرم: جيل من الناس هلكوا في قديم الدهر يقال: إنهم من عاد.
(٢٩٦) تل بطريق: بلد بالروم. وقنسرين: كورة بالشام بالقرب من حلب. ويقال لها أيضًا: قنسرون، من ألزمها الياء أعربها إعراب ما لا ينصرف، ومن قال بالواو أعربها إعراب الجمع السالم. هذا، وقال الجوهري في ترجمة قسر: وقنسرون: بلد بالشام — بكسر القاف والنون مشددة تكسره وتفتح — وأنشد ثعلب بالفتح هذا البيت لعكرشة الضبي يرثي بنيه:
سقى الله فتيانًا ورائي تركْتهم بحاضر قنَّسرين من سَبَل القطر
(قال ابن بري: صواب إنشاده:
سقى الله أجداثًا ورائي تركنها
وحاضر قنسرين: موضع الإقامة على الماء من قنسرين، وبعد البيت:
لعمري لقد وارت وضمت قبورهم أكفًّا شِدادَ القبض بالأسَل السُّمر
يُذكرُنيهم كل خير رأيته وشرٍّ فما أنفك منهم على ذُكر
يريد أنهم كانوا يأتون الخير ويجتنبون الشر، فإذا رأيت من يأتي خيرًا ذكرتهم، وإذا رأيت من يأتي شرًّا لا ينهاه عنه أحد ذكرتهم.)
والأجم: مكان بقرب الفراديس، وهذا تفسير لقوله من كل مثل وبار: يعني من كل بلد خراب كتل بطريق التي اغتر ساكنها بأن دارك بعيدة عنه، فظن أنك لا تقدر على قطع ما بينك وبينه من المسافة.
(٢٩٧) ظنهم: معطوف على ما دخلت عليه الباء من قوله: بأن دارك؛ أي واغتروا بظنهم. وعادها: انتابها. يقول: واغتروا بظنهم أنك كالمصباح في حلب، ومتى فارقتها وبعدت عنها أظلمت؛ يريد انتقضت عليك ولايتها وشق أهلها عصا الطاعة.
(٢٩٨) هذا كالجواب لهم على ما اغتروا فيه. يقول: ما ظنوه من أنك مصباح حقيقته أنك الشمس التي تعم كل مكان بضيائها وإن كانت بعيدة، إلا أنهم جهلوا الحقيقة، وما ظنوه من أنك تستبعد أرضهم قد وهموا فيه وغلطوا؛ إذ لم يعرفوا أنهم بتحريكهم إياك إنما يدعون الموت الذي لا يتعذر عليه مكان.
(٢٩٩) سروج: بلد قرب حران. والناظر: العين؛ أي كانت غافلة عن قدومك فلم تنتبه له إلا وقد ازدحم الجيش عليها. أو تقول: لم تصبح سروج إلا وخيلك مزدحمة عليها، جعل الصباح لها بمنزلة فتح الناظر.
(٣٠٠) النقع: الغبار. وحران: بلد من بلاد ما بين النهرين على بعد من سروج. وبقعتها: ضبطها أبو العلاء المعري بفتح الباء، وقال: هي مكان كالبطحاء يعرف ببقعة حران، قال: ولا يجوز أن تضم الباء في هذا الموضع؛ لأن النقع — وهو الغبار — إذا أخذ حران فقد أخذ بقعتها، فلا يحتاج إلى ذكره. أما ابن جني وجماعة معه فقد رووها بضم الباء، وقد فسروها بأنها المكان الواسع من الأرض. وتسفر: من سفور المرأة وهو أن تكشف عن وجهها. يقول: انتشر الغبار وتكاثف حتى بلغ حران وبقعتها — وذلك لعظم الحرب وكثرة الجيش — وحتى حجب ضوء الشمس فهي تظهر من خلاله أحيانًا ثم تعود فتحتجب كأنها الحسناء تسفر أحيانًا ثم تعود فتلتثم.
(٣٠١) سحب: خبر عن محذوف يرجع إلى الجيش. وحصن الران: موضع من عمل سيف الدولة. وممسكة: أي بخيلة بالمطر؛ شبه جيشه بالسحب لكثرته وانتشاره. يقول: تمر هذه السحب بهذا الموضع فتمسك مطرها عنه، وليس إمساكها هذا بخلًا وإنما هو إشفاق على دياره، وهذه السحب نقم، والنقم إنما تصب على ديار الأعداء.
(٣٠٢) التاء — في تطاوله — للأرض، والهاء: للجيش؛ أي تطاول الأرض جيشك، أي تغالبه طولا. والأمم: القرب، يقال: أخذت ذلك من أَمم أي من قرب، وداري أمم داره: أي مقابلتها، وأصله القصد الذي هو الوسط. والأمم: اليسير، يقال: ما سألت إلا أممًا، وقال زهير:
كأن عيني وقد سال السليل بهم وجيزةٌ ما هُمُ لو أنهم أمم
(قال ابن بري: ويروى:
وعبرة ما هم لو أنهم أمم
والسليل: وادٍ واسع غامض. قال ابن بري: قوله: سال السيل بهم؛ أي ساروا سيرًا سريعًا. يقول: انحدروا به، فقد سال بهم، وقوله: ما هم: «ما» زائدة، و«هم» مبتدأ، وعبرة: خبره؛ أي هم لي عبرة. ومن رواه: «وجيرة ما هم» فتكون «ما» استفهامية؛ أي أيُّ جيرة هم؟)
يريد: أي جيرة كانوا لو أنهم بالقرب مني؟ يقول: بعدت الأرض فطالت كأنما تطاول أطرافها جيشك الكبير البعيد أطرافه، فكلاهما طويل بعيد الأطراف لا قرب فيه، ثم بين هذا البيت التالي.
(٣٠٣) علم الأرض: هو الجبل. وعلم الجيش: الراية. يقول: كلما مضى جبل من الأرض بدا جبل آخر. وكذلك هذا الجيش، كلما مضت كتيبة منه برايتها جاءت كتيبة أخرى، فلا الأرض تفنى ولا الجيش يفرغ. هذا، وقد جاء في «أمالي ابن الشجري» ما يأتي: قال الخطيب التبريزي: لو قال — المتنبي: وإن مضى عالم، لكان أحسن؛ لأن تكرار العلم كثير في البيت. قال ابن الشجري: ولو استعمل أبو الطيب ما قال الخطيب لكان قبيحًا في صناعة الشعر؛ لأنه أتى بذكر العلم — الذي هو الجبل — مرتين، فوجب أن يقابله بذكر العلم — الذي هو الراية — مرتين، وإذا قال: مضى عالم، دل على كثرة الجيش، فكذلك ذكر العلم يدل على كثرة الجيش؛ لأن العلم يكون تحته أمير معه جماعة، وأما كراهيته لتكرار العلم فقول من جهل ما في التكرار من التوكيد والتبيين إذا تعلق التكرار بعضه ببعض بحرف عطف أو شرط أو غيرهما من المعلقات، وقد جاء في الكتاب العزيز: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ، وأيضًا فيه: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ والتكرار في هذا النحو حسن مقبول، وإذا ورد التكرار في الكتاب العزيز علمت أن التكرار في بيت المتنبي غير معيب، وإنما يعاب التكرار إذا ورد اللفظ في بيتين أو ثلاثة والمعنى واحد.
(٣٠٤) شزب: عطف على جيش، أو على علم — الأخير — وهي جمع شازب: الفرس الضامر، وخيل شزب: ضوامر. والشعرى: يريد الشعرى اليمانية؛ نجم يطلع في فصل الصيف، فهي تعد من نجوم القيظ؛ لأن طلوعها حينئذٍ يكون من طلوع الشمس. والشكائم: جمع شكيمة؛ الحديدة المعترضة في فم الفرس. والحكم: جمع حكمة، ما أحاط من اللجم بالحنك. يقول: وخيل حميت حدائد لجمها من حر الشمس حتى جعلت الحكم تسم أنوف الخيل. يعني لشدة الحر أحمت الشمس اللجم حتى صارت مكان الحكم مثل الوسم — الكي.
(٣٠٥) سمنين: موضع. والنشيش: صوت الماء وغيره إذا غلا، يقول: حتى وردت هذه الخيل بحيرة هذا الموضع وكرعت في الماء فسمع للجمها نشيش في أشداقها لشدة حرارة الحديد. يريد أنها كانت محماة، فلما أصابها الماء نشت، ويريد أنها — لسرعتها — وردت الماء وشربت بلجمها.
(٣٠٦) وأصبحت: أي الخيل. وهنزيط: موضع ببلاد الروم. والظبا: جمع ظبة؛ حد السيف، والظبا: فاعل ترعى، والجملة: حال من قرى. يريد في خصيب منها. واللمم: جمع لمة؛ ما ألم بالمنكب من الشعر. يقول: أصبحت الخيل جائلة بقرى هذا المكان للغارة والقتل، والسيوف ترعى منها في مكان خصيب نبته الشعور؛ يعني رءوسهم. وعبارة ابن جني والواحدي: إن السيوف ترعى في مكان خصيب من رءوسهم فنبت هذا المكان إنما هو اللمم، يعني أن السيوف تصل من الرءوس إلى مكان مثل ما يصل إليه المال الراعي — الماشية — في البلد الخصيب.
(٣٠٧) فما تركن: أي الظبا — السيوف. والخلد: ضرب من الفأر ليست له عيون. قال ابن جني — وكذلك الواحدي: يقول: إن أهل الروم كانوا فريقين؛ فريقًا دخلوا المطامير والأسراب كالفأر إذا ريعت من شيء دخلت جحرها، وفريقًا توقلوا — صعدوا — في الجبال واعتصموا بها كالبازي يطير علوًّا، فجعل من دخل الأسراب خلدًا ذات أعين، ومن تحصن بالجبال بزاة لها أقدام؛ لأنه يريد بالفريقين ناسًا. والمعنى: ما تركت السيوف إنسانًا دخل المطامير تحت الأرض فصار كالخلد ولا من تعلق برأس الجبل فصار كالبازي إلا أهلكته. وعبارة ابن القطاع: ما تركن من هو في ضعفه وخفاء مكانه كالخلد، إلا أنه ذو بصر — يعني إنسانًا — ولا تركن من هو كالبازي في ارتفاعه إلا أنه ذو قدم؛ يعني إنسانًا.
(٣٠٨) الهزبر: الأسد. واللبد: جمع لبدة، كقربة وقرب، وهي زبرة الأسد. أي ما على كتفيه من الشعر. والمهاة: البقرة الوحشية، توصف بحسن العيون. والحشم: الخدم، وهي حاشية الرجل العظيم. يقول: ولا تركت السيوف بطلًا كالهزبر له مكان اللبدة درع، ولا امرأة حسناء كالمهاة لها خدم من مثلها؛ يعني نساء من الأمراء والأشراف.
(٣٠٩) الشفرات: جمع شفرة؛ حد السيف. والباترات: القاطعات. ومكامن الأرض: الخفيات منها. والغيطان: جمع غائط. المطمئن من الأرض. والأكم: جمع أكمة؛ التل. يقول: إنهم لوشك حينهم — هلاكهم — وحلول آجالهم لم يجدهم — ينفعهم — الهرب، ولم ينجهم من القتل، حتى كأن المواضع التي هربوا إليها من الغيطان والجبال كانت تقذف بهم وترميهم على حدود السيوف.
(٣١٠) أرسناس: نهر معروف ببلادهم. ومعصمين: أي ممتنعين، وأصله أن يتمسك الراكب بشيء خوفًا من أن يصرعه فرسه. يقول: قطعوا هذا النهر مستمسكين به ظانِّين أنه يعصمهم منك، وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم منك؟ لأنك تقطعه وتركبه بالسفن والجسور وراءهم.
(٣١١) الطود: الجبل. والشمم: العلو والارتفاع. والبيت توكيد للبيت السابق. يقول: إن سعة بحارهم لا تصدك عنها؛ لأنك تقطعها وإن كانت واسعة، وارتفاع جبالهم لا يردك عنها؛ لأنك تعلوها وتصدعها.
(٣١٢) الضمير في ضربته: للنهر، وهو أرسناس. وقدمًا: أي إقدامًا؛ حال. يقول: ضربته بصدور خيلك حين عبرته وهي تحمل قومًا يرون التلف في الإقدام سلامة؛ أي لا يهابون التلف، بل يتهافتون عليه. وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
يستعذبون مناياهم كأنهم لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
(٣١٣) تجفل — في المصراعين بحذف إحدى التاءين — أي تتجفل، والتجفل: الإسراع في الذهاب. واللبات: جمع لبة؛ أعلى الصدر. والغارة: الخيل الغائرة على العدو. والنعم: المواشي، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. يقول: إن الأمواج تنهزم أمام صدور خيلهم وهي سابحة فتتتابع مسرعة كما تنهزم المواشي عند الغارة عليها فتنهزم وتجفل مسرعة.
(٣١٤) تقدمهم: أي تتقدمهم، والضمير من «فيه» للنهر. والرمم: العظام البالية. والحمم: بوزن صرد؛ الرماد والفحم، وكل ما احترق بالنار، الواحدة: حممة، وفي الأثر: إن رجلًا أوصى بنيه عند موته فقال: «إذا أنا مت فأحرقوني بالنار، ثم إذا صرت حممًا فاسحقوني، ثم ذروني في الريح لعلي أضل الله.» وقال طرفة:
أشجاك الربعُ أم قِدَمُه؟ أم رماد دارس حممهْ؟
يقول: عبرت النهر متقدمًا رجالك فيه وفيما قصدت إليه من ذلك البلد الذي قتلت أهله فصاروا رممًا، وأحرقت مساكنهم فصاروا حممًا، وذلك البلد هو تل بطريق.
(٣١٥) وفي أكفهم: أي أكف أصحاب سيف الدولة الذين ذكرهم في قوله: حاملة قومًا. وأراد بالنار: السيوف؛ جعل السيوف نارًا، اضطرامًا وإهلاكًا. أو لما فيها من البريق واللمعان. يقول: إنها — السيوف — نار كانت مطاعة في كل وقت قبل أن تعبد المجوس النار، وهي نار تضطرم إلى هذا اليوم؛ أي تتوقد وتبرق. وقال ابن جني: يريد سيوفًا كالنار في الصفاء والجوهر. وقبل المجوس: يريد أنها قديمة، وعبارة الخطيب التبريزي: يريد بالنار: السيوف، شبهها بالنار اضطرامًا وإهلاكًا. وعبادتهم السيوف: اشتمالهم بها كما يشتمل المسلمون بالصحف والمسيحيون بالصلب.
(٣١٦) هندية: أي هي سيوف منسوبة إلى الهند. وقال العكبري: جزم الشرط ولم يأتِ له بجواب مجزوم ولا بما يقوم مقامه، والأولى في الشرط والجواب إذا كانا فعلين أن يكونا مستقبلين، ويجوز أن يكونا ماضيين، ويجوز أن يكون الشرط ماضيًا والجواب مضارعًا، وبالعكس — كهذا — وهو أضعفها؛ لأن الشرط إذا أثر في الشرط يريد أن يؤثر في الجواب. وذكر عبد القاهر أن الشرط إذا كان ماضيًا والجواب مضارعًا جاز فيه الجزم والرفع، وأنشد بيت زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حَرِمُ
(الخليل: المحتاج المعدم والفقير المختل الحال. والمسغبة: المجاعة. وحرم: أي ممنوع.)
وهذا قول مردود؛ لأن سيبويه يجعل هذا ضرورة في الشعر، والشرط معترض، ويقول: خبر «لا» جواب، وموضع الضرورة يؤخر الخبر إلى موضع الاعتراض، ويقدم الاعتراض إلى موضع الخبر، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: يقول. ووجه التأخير: أن المعنى يقول: لا غائب مالي إن أتاه خليل.
(٣١٧) الهاء من «قاسمتها» و«لها»: للنار؛ أي السيوف. وتل بطريق: مفعول ثانٍ لقاسمتها. والضمير من أبطالها: لتل بطريق. يقول: قاسمت سيوفك سكان هذه البلدة — تل بطريق — فجعلت أبطالها للسيوف فأهلكتهم وسبيت أنت الأطفال والنساء.
(٣١٨) بهم: أي بالأطفال والحرم. والزبد: رغوة الموج. والتيار: الموج الذي ينضح — يرش. والمقربة في الأصل: الخيل المدناة من البيوت، لكرمها وإعدادها للغارة. والجحافل: جمع جحفلة، وهي لذي الحافر كالشفة للإنسان. والنضح: الرش. والرثم: بياض في شفة الفرس العليا، يريد بالمقربة: السفر؛ جعلها كالخيل المقربة. يعني: عبر بالسبي الماء وهم في زوارق تشق زبد الأمواج. ولما سماها مقربة استعار لها الجحافل، وجعل ما لصق من زبد الماء بها كالرثم في جحافل الخيل.
(٣١٩) دهم: أي هي — المقربة — دهم. وفوارسها: مبتدأ، وركاب: خبره. ومكدودة: أي مجهودة بسرعة السير — خبر آخر عن ضمير «المقربة». والألم: مبتدأ، خبره: بقوم. يقول: هي سود؛ لأنها مطلية بالقار، وفوارسها تركب بطونها، لا ظهورها، على خلاف الخيل إذا ركبت، وهي متعبة في سيرها. إلا أن ألم هذا التعب ينال من الملاحين لا منها هي؛ لأنهم هم الذين يعملون دونها.
(٣٢٠) الجياد: الخيل، والجار والمجرور: خبر آخر عن ضمير «المقربة». والشيم: الأخلاق. يقول: إن هذه السفن تعد من الخيل التي جعلتها كيدًا لأعدائك؛ لأنها تحمل جيوشك إليهم، إلا أنه ليس لها خلقة الخيل ولا طباعها.
(٣٢١) في وقت: صلة نتاج. وعلى عجل: بدل من الظرف قبله، والمراد بالحرف هنا: الكلمة. يقول: إن هذه السفن مما أحدثه رأيك في وقت قريب المدة كمدة فهم السامع ذي الفهم كلمة ينطق بها ناطق؛ أي كانت المدة في اتخاذها كالمدة التي يستغرقها فهم السامع الفطن حرفًا، أي كلمة. قال الواحدي: ويجوز أن يريد الواحد من حروف المعجم مما له معنًى: ﮐ «عِ» من وعيت، و«دِ»: من وديت.
(٣٢٢) الدرب: موضع. وغداة الدرب: أي غداة اليوم الذي كانوا فيه على هذا الموضع. وفي لجب: حال من فاعل «تمنوا»، واللجب: الصياح واختلاط الأصوات. وبكسر الجيم: نعت للجيش العظيم الذي تختلط أصواته. يقول: أرادوا أن يبصروك في ذلك اليوم، فلما أبصروك عموا عن الرشد والرأي — أي تحيروا — أو تقول: تمنوا في ذلك اليوم أن يبصروك فلما أبصروك سددت عليهم مذاهب الرأي فصاروا من شدة الحيرة كالعميان. وقال الواحدي: عموا؛ أي غضت هيبتك عيونهم عنك فكأنهم عموا.
(٣٢٣) الخميس: الجيش. «والغرة» في الأصل: البياض في جبهة الفرس، وقد يراد بها الوجه والطلعة وشريف القوم. والسمهرية: الرماح. والغمم: كثرة الشعر وإسباله على الوجه. جعل الجيش كأنه فرس، وسيف الدولة في مقدمته كالغرة، والرماح المشرعة في أيديهم كالغمم؛ لكثرتها وتلززها، وهذا ينظر إلى قول الآخر:
فَلَوْ أنَّا شَهِدْنَاكُمْ نُصِرْنَا بِذِي لَجَبٍ أزَبَّ مِن العَوَالِي
(الأزب في الأصل: الطويل الشعر الكثيره. والعوالي: الرماح. واللجب: اختلاط الأصوات. وذو اللجب: الجيش.)
(٣٢٤) يسقطن: أي الجسوم، والجملة حالية. يقول: ثبتت أجسامهم أمامك؛ لأنك لم تترك لهم سبيلًا إلى الهزيمة، فسقطت حولك وانهزمت أرواحهم.
(٣٢٥) الأعوجية: الخيل المنسوبة إلى أعوج — فرس كريم كان بني هلال — وملء — في المصراعين — حال من الضمير في الظرف. والمشرفية: السيوف، يقول: إن الخيل كانت خلفهم مالئة الطرق لكثرتها، وجعل السيوف ملء اليوم؛ لأنها تعلو في الجو وتنزل عند الضرب في الهواء، فأينما كان النهار كانت السيوف، وهذا — كما قال الواحدي — مبالغة في القول، وإغراق في الوصف.
(٣٢٦) الضربات — بسكون الراء — للضرورة. والقلل: جمع قلة؛ أعلى الرأس. يقول: إذا توافقت الضربات من الأبطال صاعدة في الهواء — لأن اليد ترفع للضرب — توافقت رءوس مقطوعة بتلك الضربات متصادمة في الهواء؛ يعني أنهم لا يضربون ضربة إلا قطعوا بها رأسًا، فالرءوس المقطوعة على قدر تلك الضربات، لا تخطئ لهم ضربة عن قطع رأس.
(٣٢٧) أسلم: ترك. وابن شمشقيق: بطريق من بطارقة الروم؛ أي قوادهم. وأليته: يمينه. وألا: أي أن لا، و«أن» هنا: للتفسير. ولا انثنى: حكاية اليمين. وينأى: يبعد. يقول: ترك يمينه التي حلف بها وآلى أنه يثبت ولا ينهزم ولا يرجع عنك، فانهزم وأبعد في الهزيمة ويمينه تسخر منه وتضحك.
(٣٢٨) الأقصى: الأبعد، ضد الأدنى — وقد طابق بينهما — والمهجة: الروح، وقوله فيسرق: أراد فهو يسرق، فرفعه. يقول: ليأسه من نفسه لا يأمل أن يستتم النفس البعيد — أي الطويل — فهو يغتنم أنفاسه القريبة سرقة من أيدي الأجل.
(٣٢٩) عنه: أي عن ابن شمشقيق. والقنا: الرماح. والسابغة: الدرع التامة الطويلة. والصوب: الانصباب. والديم: جمع ديمة؛ المطر الدائم في سكون. وفي أثنائها: أي في تضاعيفها ومطاويها. يقول: تمنع الرماح من النفوذ فيه درع سابغة، وقد تلطخت بالدماء التي تسيل من الأسنة عليها. وقال ابن جني: وقع الأسنة في هذه الدرع كديمة المطر تتابعًا.
(٣٣٠) العوالي: صدور الرماح. وليس تنفذها: حال. يقول: إن الرماح تؤثر في درعه؛ أي تجرحها، ولا تنفذها إلى جسمه، حتى كأن أسنتها أقلام تخط في القرطاس ولا تؤثر فيه ولا تخرقه.
(٣٣١) الغيث: المطر. وواراه: ستره وأخفاه. ومن شجر: بيان ﻟ «ما». وزل عنه: أخطأه. والرخم: جمع رخمة؛ طائر من الجوارح الكبيرة، يشبه النسر في الخلقة. يقول: إنه لما هرب استتر في الشجر فلم يبصره الفرسان، ولولا ذلك لقتل وألقي للطير، فكانت تجتمع — الطير — عليه فتواري شخصه، ودعا على الشجر الذي أخفاه بأن لا يسقى الماء.
(٣٣٢) الممالك: أي أصحاب الممالك. وقفلت: رجعت. يقول: ألهى الملوك عن مثل هذا الفخر — الذي كسبته في هذه الغزوة — لهوهم واشتغالهم بشرب الخمر واستماع الغناء.
(٣٣٣) مقلدًا: حال، العامل فيها: قفلت. وذا شطب: أي سيفًا في متنه طرائق، والضمير في «منهما»: للشكر والسيف. يقول: جعلت الشكر شعارك، وتقلدت فوقه سيفًا تجاهد به أعداء الله، ولا شيء يستديم النعم مثلهما. فقوله: لا تستدام … إلخ: استئناف، قال العكبري: هو استئناف وليس بوصف لشكر الله، وذا شطب: لأن أحدهما معرفة والآخر نكرة، والمعرفة لا توصف بالجملة، ولا يجمع بين وصف المعرفة والنكرة، فجرى مجرى قولك: مررت بزيد وجاءني رجل عاقلان؛ أي هما عاقلان؛ لأنك استأنفت الجملة.
(٣٣٤) يقول: لكثرة ما قتلت منهم كأن دماءهم صارت تطيعك. لعلمها بأنها لا تمتنع منك كلما أردت سفكها، حتى لو دعوتهم للقتال ولم تضربهم لسالت دماؤهم قبل الضرب إجابة لك.
(٣٣٥) يريد بالحادثة: ما يصيب الإنسان من مرض أو زمانة أو غيرهما. يقول: إنك تعجل قتلهم فلا تمهلهم أن يموتوا حتف أنوفهم أو يهرموا من كبر السن، فيهلكون شبانًا أصحاء الأبدان. وبعبارة أخرى: إنك تفنيهم بالقتل فأنت تسابق الحوادث فيهم والموت والهرم، فما تترك منهم أحدًا حتى يموت حتف أنفه ولا تدعه حتى يكبر فيهرم.
(٣٣٦) علي: اسم سيف الدولة. والمحاجر: جمع محجر، وهو ما حول العين — يريد جفونه — والحلم: الرؤيا في النوم. يقول: نفى الرقاد على عينيه نفس كبيرة لا تسكن إلى الأحلام ولا ما تزينه من بلوغ الآمال؛ لأن مثله في قوة عزمه وبعد مرتقى همته لا يستريح أن يحقق بنفسه وقوة إرادته مقتضى عزيمته. وقال العكبري: نفى رقاده عن عينيه كبير همته وقوة عزمه ونفس يفرج عن غيرها النوم والدعة واللهو. ويفرج: تروى: يفرح — بالحاء المهملة.
(٣٣٧) القائم: إما بالرفع — على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو القائم — وإما بالجر بدلًا من «علي». يقول: هو القائم بالأمور يدبرها ويمضيها على وجهها، الهادي إلى دين الله، الذي شاهدت العرب والعجم ومن بدا ومن حضر قيامه بالأمور والحروب، وهداه في الدين. ولك أن تقول الهادي من هدى اللازم؛ أي المهتدي.
(٣٣٨) عفره: ألقاه على العفر؛ أي التراب. وكوفان: اسم للكوفة، وأراد بالحرم: مكة. يقول: هو ابن الذي قتل فرسان نجد وتركهم يتمرغون في التراب وملك الكوفة والحرم. قال الواحدي: يعني حرب أبيه أبي الهيجاء للقرامطة وإفناءه إياهم وولايته الكوفة وطريقة مكة. قال العكبري: وأنث ضمير نجد — بقوله فوارسها — على إرادة الجهة. قال: ويجوز أن يكون الضمير لفرسان العرب، وهو أجود من أن يعود على نجد.
(٣٣٩) يدًا: تمييز. يقول: متى رأيته وظفرت به فلا تطلب بعده كريمًا، فلا كريم بعده؛ لأنه خاتمة الكرام، إذ هو أسخاهم يدًا.
(٣٤٠) يريد بشاعره: نفسه، ثم قال: قد فسد قول الشعر، فخليق به ألا يسمع، فالصمم حينئذٍ يحمد حتى يتفادى من سماع مثل هذا الشعر.
(٣٤١) كفي: دعي واتركي. وأراني: يريد عرفني وأعلمني، وويك: أصلها ويلك، فحذفت اللام لكثرة الاستعمال، وهي كلمة تقال في مقام التعجب والإنكار. وهم: فاعل أراني. والياء — في أراني — مفعول أول، ولومك: مفعول ثانٍ. و«ألوما» مفعول ثالث. وأنجم أي أقلع وذهب. قال الواحدي: يقال أنجمت السماء: إذا أقلعت عن المطر. وأنجم المطر: أي أمسك. ولا يقال أنجم الفؤاد، ولا فؤاد منجم، ولكنه — المتنبي — استعمله في مقابلة أقام. يقول للعاذلة: اتركي عذلي، فقد أراني الهم — المقيم على فؤادي الراحل الذاهب مع الحبيب — أن لومك إياي أحق بأن يلام مني، وعلى هذا يكون «ألوما» مبنيًّا من الملوم، وأفعل لا يبنى من المفعول إلا شاذًّا، وقال قوم: «ألوما» من المليم، وهو الذي استحق اللوم. يقول لها: الهم أراني لومك أبلغ في الإلامة واستحقاق اللوم، وهذا أبلغ في الشذوذ. وقال الواحدي: المعنى أراني الهم المقيم على فؤادي الراحل الذاهب مع الحبيب — أن لومك أبلغ تأثيرًا وأشد علي، وذلك أن المحزون لا يطيق استماع اللوم، فهو يقول: لومك أوجع في هذه الحالة، فكفي عني، وفيه نظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة:
تقولُ وَتُظْهرُ وَجْدًا بِنَا وَوَجْدِيَ لو أظهرت أوجد
وقال التبريزي: يحتمل المصراع الأول أن يكون مستغنيًا بنفسه؛ أي كفي لومك فإني أراني ألوم منك، أي أكثر منك لومًا لنفسي، فيكون «هم» مرفوعًا بابتداء مضمر؛ أي هذا هم، أو بفعل: أي أصابني هم.
(٣٤٢) خيال: عطف على «هم»، جعل جسمه خيالًا ليدل بذلك على دقته ونحوله، فإن الخيال اسم لما يتخيل لك لا عن حقيقة. يقول: لم يترك الهوى بجسمي محلًا من لحم ودم فيعمل فيه السقام، ونصب «ينحله» لأنه جواب نفي بالفاء.
(٣٤٣) وخفوق: عطف آخر على «هم»، والخفوق: والخفقان؛ اضطراب القلب. واللهيب: ما التهب من النار، ويريد بلهيب قلبه: ما فيه من حرارة الشوق والوجد، وعنى بالجنة: الحبيبة، يقول: لو رأيت ما في قلبي من حر الشوق والوجد لظننت أن جهنم في قلبي، وانتقل من خطاب العاذلة إلى خطاب الحبيبة، والقصة واحدة، وإن أراد بالعاذلة الحبيبة لم يكن انتقالًا، ولكن الحبيبة لا تعذل على الهوى؛ ألا ترى إلى قول أبي حية النميري:
عَذَلَتْنَا في عِشْقِهَا أُمُّ عَمْرٍو هَل سمعتمْ بالْعَاذلِ المعشوقِ؟
والبيت فيه نظر إلى قول عبد الله بن الدمينة في وداع محبوبته:
غَدَتْ مُقْلتِي في جنَّةٍ من جمَالها وقلبي غَدَا منْ حُبها في جهنم
(٣٤٤) الْحِبُّ: المحبوب. وأبرقت السحابة: أظهرت برقها. والعلقم: شجر مر يقال: هو شجر الحنظل، ويقال لكل شيء مر: علقم. استعار للصدود سحابًا، ولما استعار له سحابًا استعار له برقًا. يقول: إذا ظهرت مخايل الصدود ولاحت لوائحه زالت حلاوة الحب واستحالت إلى مرارة.
(٣٤٥) قال ابن جني: داهية: اسم التي شبب بها، وقال ابن فورجه: ليست باسم علم لها، ولكن كنى بها عن اسمها على سبيل التضجر؛ لعظيم ما حل به من بلائها، أي إنها لم تكن إلا داهية علي. قال الواحدي: والوجه قول ابن جني لترك صرفها في البيت، ولو لم تكن علمًا لكان الوجه صرفها. أقول: الوجه ما ذهب إليه ابن فورجه، وإنما هو كناية عن اسم الحبيبة نزلها منزلة العلم عليها؛ فمنعها من الصرف لذلك. يقول لوجه الحبيبة: لولاك ما تسلط الهزال على جسدي وما دق عظمي. والرض: الدق والكسر، ورضاض كل شيء: دقاقه، فالمعنى: ضعفت حتى كأني قد كسرت عظامي.
(٣٤٦) المعدم: الفقير، ذكره في مقابلة قوله: «أغناها». وسلاه وسلا عنه سلوًّا: نسي ذكره وذهل عنه. يقول: إن كان السلو قد أغناها عني فليست تحتاج إلى وصلي، فقد عدمتها وعدمت كبدي؛ لأن هواها أحرق كبدي، فأنا معدم — فقير — منها ومن كبدي، أي أنها سالية عني وأنا فقير إليها. وعبارة بعض الشراح: يريد أنها قد سلبت كبده بمحبتها، فإن كان السلو قد أغناها عنه حتى لا تحتاج إلى وصله فقد عدم كبده وحبيبته؛ لأنه قد حرمهما جميعًا. هذا، ومعدمًا رواها ابن جني: «مصرمًا»، والمصرم والمعدم واحد. ومثلهما: الممحمق والمماق والمبلط والمعسر والمقتر والمفلس، كل أولئك: الذي لا مال له. ومن كلام العرب: كلأ تيجع له كبد المضرم، وهو الذي لا مال له، يحزن أن لا يكون له إبل كثيرة فيرعيها في هذا الكلأ فأوجعته كبده.
(٣٤٧) نقوى: تثنية «نقا»، وهو الكثيب من الرمل، يقال في التثنية: نقوان ونقيان، وسمي الكثيب من الرمل نقا؛ لأن المطر إذا أصابه نقاه وغسله كما ينقى الثوب بالغسل. والفلاة: المفازة، وتقل: تحمل. يصف الحبيبة يقول: هي غصن — يعني قامتها — نابت على كثيبي رمل «يعني ردفيها» ووجهها شمس النهار تحمل من شعرها ليلًا مظلمًا.
(٣٤٨) يريد بالأضداد: ما ذكره في البيت السابق من دقة قامتها، وثقل ردفيها، وبياض وجهها، وسواد شعرها، وهذه — على تضادها — مجموعة في شخص متشابه الحسن. يقول: لم تجمع هذه الأوصاف المتضادة في شخص تماثل حسنه إلا لتجعلني هذه الأضداد غنمًا لغرمي؛ أي لما لزمني من عشقها وهواها، يعني: إلا لتستعبدني وترتهن قلبي. فقوله: «في متشابه» أراد شخصها الذي تشابهت أعضاؤه في حسن الخلق وتناسبه. والغرم: الغرام، وهو ما لزمه من عشقها وهواها. والمغنم: الغنيمة، وهو ما يغتنمه الإنسان، وأصله من مال العدو، ثم صار في كل ما يصيبه الإنسان من كسب أو هبة، ويروى: «لم تجمع الأضداد» على إسناد الفعل للحبيبة.
(٣٤٩) بهر الشيء: ظهر وغلب بظهوره، كالشمس تبهر النجوم. شبه هذه الأضداد بصفات الممدوح من كونه مرًّا على الأعداء، حلوًا للأولياء، طلقًا لدى الندى، جهمًا عند اللقاء — في الحرب — وما أشبه ذلك، وقال: إن هذه الصفات غلبت واصفيها فلم يقدروا على وصفها فأنطق واصفيه؛ لأنهم حاولوا وصفه ووصف محاسنه، ثم أفحمهم لعجزهم عن إدراكها، والإفحام: ضد الإنطاق، والمفحم: الذي لا يقول الشعر، وهذا ضرب من التخلص.
(٣٥٠) يقول: إنه يبتدرك بالعطاء، فإن سبقته بالسؤال أعطاك واعتذر إليك عن تأخر عطائه عن سؤالك، كأنه أتى بجرم — أي ذنب — وهو في الأصل الكسب، يقال: جرم يجرم واجترم؛ أي كسب، وهو يجرم لأهله ويجترم: أي يتكسب ويطلب ويحتال، وجريمة القوم: كاسبهم، يقال: فلان جارم أهله وجريمتهم؛ أي كاسبهم، قال أبو خراش الهذلي يصف عقابًا شبه فرسه بها:
كأني إذ غدوت ضمنْتُ بَزِّي من العِقبان خائتةً طلوبَا
جريمة ناهض في رأس نِيقِ ترى لعظام ما جمعَتْ صليبا
(غدوت: أي للحرب. وبزي: أي سلاحي. وخائتة: أي منقضة. يقال: خاتت العقاب: أي انقضت. وطلوبًا: صفة لخائتة. وجريمة: بمعنى كاسبة. والناهض: فرخها. والنيق: أرفع موضع في الجبل. والصليب: ودك العظام. يقول عن هذه العقاب التي شبه بها فرسه: إنها تصيد فرخها الناهض ما تأكله من لحم طير أكلته وبقي عظامه يسيل منها الودك.)
(٣٥١) التعظم: إظهار العظمة، وضده التواضع، وهو أن يظهر الضعة من نفسه، ووضع التواضع موضع الضعة والخساسة، كما وضع التعظم موضع العظمة. يقول: يرى شرفه وارتفاع رتبته في تواضعه، واتضاعها في تكبره، والمعنى: يرى العظمة في أن يتواضع، ويرى الضعة في أن يتعظم؛ أي فليس يتعظم.
(٣٥٢) الفعال: اسم للفعل الجميل. والمطال: المماطلة، وهي المدافعة. قال الواحدي: ولو قال «المقال»: لكان أحسن؛ ليكون في مقابلة الفعال. يقول: نصر فعله على القول، وعطاءه على المطل؛ أي يعطي ولا يعد ولا يماطل، كأنه يظن أن السؤال حرام على العطاء، ولا يحوج إلى السؤال، بل يسبق بعطائه السؤال. قال الواحدي: وهذا على المجاز والتوسع؛ لأن العطاء لا يوصف بأنه يحرم عليه شيء، ولكنه أراد أن يذكر تباعده عن الإلجاء إلى السؤال.
(٣٥٣) أراد بالجوهر: الأصل والنفس. وذو الملكوت: هو الله سبحانه وتعالى. يقول: أيها الملك الذي خلُص جوهرًا «أي أصلًا ونفسًا» من عند الله؛ أي أن الله تعالى تولى تصفية جوهره لا غيره، فهو جوهر مصفًى من عند الله تعالى. قال الواحدي: وهذا مدح يوجب الوهم، وألفاظ مستكرهة في مدح البشر، وذلك أنه أراد أن يستكشف الممدوح عن مذهبه، حتى إذا رضي بهذا علم أنه رديء المذهب بادعائه الألوهية، وإن أنكر علم أنه حسن الاعتقاد، لا يرضى بدعوى الألوهية لنفسه. وأسمى من سما: صفة لذي الملكوت، أما ابن جني فإنه يجعله للممدوح؛ لأنه قال: هو منادى، كأنه قال: يا أعلى من علا. قال: ويجوز أن يكون موضعه رفعًا، كأنه قال: أنت أعلى من علا.
(٣٥٤) لاهوتية: هي رواية ابن جني، قال: ونصبها على المصدر، ويجوز أن تكون حالًا من الضمير في «تظاهر». قال الواحدي: وهذا خطأ في الرواية واللفظ؛ لأن النور مذكر فلا تؤنث صفته، والرواية لاهوتية. وتظاهر وظهر: بمعنًى، ويجوز أن تكون بمعنى تعاون؛ أي أعان بعضه بعضًا. ولاهوتية: إلهية، وهي لغة عبرانية، يقولون لله تعالى: لاهوت، وللإنسان: ناسوت. وقال ابن جني: لو كان عربيًّا لكان اشتقاقه من أله الذي أدخل عليه الألف واللام فصار مختصًّا باسم الله تعالى — في أحد قولي سيبويه — ويكون بوزن الطاغوت، إلا أن الطاغوت مقلوب واللاهوت غير مقلوب، ولو كان عربيًّا كان وزنه فعلوت بمنزلة الرهبوت والرحموت. يقول: قد ظهر فيك نور إلهي تكاد تعلم به الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
(٣٥٥) يهم: أي النور، وفصاحة: مفعول به، وأن يتكلما: صلة «يهم». يقول: ويهم هذا النور الإلهي لظهوره أن يتكلم فيك وينطق من كل عضو من أعضائك بخلاف سائر الناس الذين لا ينطقون إلا من أفواهم، جعل ظهوره في كل عضو منه نطقًا، والمعنى: لفصاحتك يفعل النور ذلك فيك. وإليك نص كلام الواحدي، قال: قال ابن جني: أي يهم كل عضو من أعضائك أن يتكلم بمدحك إذا نطقت لفصاحتك، وهذا عند من يجوز زيادة «من» في الإثبات، وفيك — في أول البيت — يتعلق بأن يتكلم في آخره، وفيك: أي في مدحك ووصفك. قال الواحدي: وليس المعنى على ما ذكره — أي ابن جني — من وجهين؛ أحدهما: أنه جعل ظهور النور في كل عضو منه نطقًا، واللفظ لا يشعر به، إلا أن يقال: هم به ولم يفعله، والآخر: أنه لا يكون لقوله: «إذا نطقت فصاحة» فائدة؛ لأن قوله:
ويهم فيك كل عضو منك أن يتكلما
أفاد المعنى المراد، فيبقى ذلك الباقي لغوًا، والمعنى: أنه جعل النطق عبارة عن الظهور، وكان ينبغي أن يقول: هم بأن يظهر ولكنه لم يظهر، لا أنه ظهر النور من جميع الأعضاء بالفعل. وقال قوم: لما كان تكلم العضو بالنور الإلهي — أعني به القوة الناطقة — وكان هو الموجب لنطق اللسان وغيره أضاف الفعل إليه وقال: يهم النور فيك أن يتكلم وينطق من كل عضو من أعضائك بخلاف سائر الناس الذين لا ينطقون إلا من أفواههم، جعل ظهوره في كل عضو منه نطقًا. والمعنى: لفصاحتك يفعل النور ذلك.
(٣٥٦) يقول: أنا مستقيظ، ولكن لعظم ما أرى منك وغرابته أظن أني في الحلم. ثم عدل عن ذلك وقال: من يحلم بالإله حتى أحلم بك؟! يريد أن يثبت له الألوهية امتحانًا. وعبارة الشراح: أنا أبصرك وأظن أني أراك في النوم، قال هذا استعظامًا لرؤيته؛ وذلك أن الإنسان إذا رأى شيئًا يعجبه وأنكر رؤيته قال: أرى هذا حلمًا، أي أن مثل هذا لا يرى في اليقظة. وهذا كما قال الآخر:
أبَطْحاء مكة هذا الذي أراه عِيانًا وهذا أنا؟!
قال الواحدي: استفهم متعجبًا مما رأى، ثم حقق أنه رأى ذلك يقظان لا نائمًا يدل على هذا باقي البيت، والمعنى: لا يحلم أحد برؤية الله تعالى، ولا يراه في النوم أحد حتى أراك أنا؛ أي كما لا يرى الله تعالى في النوم، كذلك لا ترى أنت. قال الواحدي: وهذه مبالغة مذمومة وإفراط وتجاوز حد، ثم هو غلط في إنكار رؤية الله تعالى في النوم، فإن الأخبار قد تواترت بذلك، وقد ذكر المعبرون حكم تلك الرؤيا في كتبهم. ويروى أن ملكًا من الملوك رأى في نومه أن الله تعالى قد مات، فقص رؤياه على المعبرين فلم يتكلموا فيها بشيء استعظامًا لما رأى، حتى قال من كان أعلمهم: تأويل رؤياك أن الحق قد مات في بلدك لظلمك وجورك، وذلك بأن الله هو الحق، فعلم الملك أنه كما قال فرجع عن ظلمه وتاب.
(٣٥٧) هذا البيت تأكيد لما ذكر في البيت السابق. يقول: قد عظم علي ما أعاينه من الممدوح وحاله حتى شككت فيما رأيت؛ إذ لم أرَ مثله ولم أسمع به حتى صار المعاين كالمتوهم المظنون الذي لا يدرك بالعيان، أي لا يرى.
(٣٥٨) يقول: إن جودك يفرق مالك كأنه ينتقم منه كما تنتقم أنت من العدو بإهلاكه، غير أن تلك النقم في أموالك نعم على الأيتام؛ لأنها مفرقة فيهم. قال الواحدي: ولو قال: على البرايا لكان أعم وأشمل؛ لأن اليتامى مقصور على صنف من الناس.
(٣٥٩) ما ذا— في المصراعين — مركبة من «ما» النافية العاملة عمل «ليس» و«ذا» الإشارية. يقول: هو يفرط في جوده حتى ينسبه الناس إلى الجنون، وحتى يقول بيت المال: ليس هذا مسلمًا؛ لأنه فرق بيوت مال المسلمين ولم يدفع فيها شيئًا. ومثل هذا قول أبي نواس:
جُدْت بالأموال حتى قيل: ما هذا صحيح
يريد أبو نواس: ما هذا صحيح العقل. وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال:
جاد بالأموال حتى حسبوه الناس حُمْقا
وتبعه أبو تمام فقال:
ما زال يهذِي بالمكارم والنَّدَى حتى ظننَّا أنه محمومُ
قال الواحدي: وهذا معنى بارد وقد زاده الطائي فسادًا، وأصل هذا المعنى من قول عبيد بن أيوب العنبري:
حمراء تَامِكةُ السنام كأنها جملٌ بهَوْدج أهله مظعون
جادت بها عند الوَداع يمينُه كلتا يدَيْ عُمَرَ الغداةَ يمينُ
ما كان يُعطي مثلها في مثله إلا كريم الْخِيم أو مجنونُ
(تمك السنام: اكتنز وتزوى. وفي الصحاح: أي طال وارتفع فهو تامك، وناقة تامك: عظيمة السنام.)
(٣٦٠) أذكرته كذا: بمعنى ذكرته. والمترجم: المعبر عن الشيء مثل الترجمان. يقول: إن مثلك لا يحتاج إلى إذكار بحاجة؛ لأنك تعلمها من غير تذكير، فلست تحتاج إلى من يترجم لك عما يراد منك، فيكون ترك الإذكار إذكارًا لك. وهذا المعنى من قول أبي تمام:
وإذا الجود كان عوْني على المر ءِ تقاضيتُه بترك التقاضي
(٣٦١) المحرم: من الإحرام بالحج والعمرة، وزيه العري؛ لأنه لا يلبس المخيط. يقول — لنفسه: إلى متى أنت عريان شقي بالفقر؟! ويجوز أن يريد أن المحرم لا يصيب شيئًا ولا يقتل صيدًا، فهو يقول: إلى متى أكف عن قتل الأعداء؟ قال الواحدي: وهو الوجه. هذا، و«كم»: اسم مبني على السكون، وهو يقع عبارة عن الإخبار وعن الاستفهام، وهو هنا استفهام. وحركته للقافية لا لالتقاء الساكنين. قال العكبري: فكأنه قال: إلى كم التواني؟
(٣٦٢) هذا حث منه على الحرب والقتال وطلب العز. يقول: إن لم تقتل في الحرب كريمًا مت غير كريم في الذل والهوان؛ أي فلأن تصبر على شدة الحرب خير من أن تبقى ثم لا تنجو من الموت في الذل.
(٣٦٣) الهيجا: من أسماء الحرب، وجنى النحل: ما يجتنى من خلاياها من العسل. يقول: بادر إلى الحرب بدار شريف يستحلي الموت كما يستحلي العسل.
(٣٦٤) أراد بالضيف: الشيب. كما قال الآخر:
أهلًا وسهلًا بضيفٍ نزلْ وأستودع الله إلْفًا رحلْ
[يريد: الشيْب والشباب.] وألم: نزل. والمحتشم: المنقبض المستحي. واللمم: جمع لمة؛ الشعر الذي جاوز شحمة الأذن وألم بالمنكبين. يقول: إن الشيب ظهر في رأسه شائعًا دفعة واحدة من غير أن يظهر في تراخٍ ومهلة، هذا هو معنى قوله «محتشم»، ثم فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب. كما قال البحتري:
ودِدتُ بياضَ السيف يوم لقِينَني مكان بياضِ الشيب حل بمَفرِقي
(لقينني: أي الغواني المذكورة في البيت قبله، وهو:
أجِدكَ ما وصل الغوَاني بِمُطْمِعِ ولا القلب مِن رق الغواني بمعتق)
«جعل نزول السيف برأسه أحب إليه من نزول الشيب به.» وقال الواحدي: إنما فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب؛ لأن الشيب يبيضه، وذلك أقبح ألوان الشعر، ولذلك حسن تغييره بالحمرة، والسيف يكسبه حمرة إذا قطع اللحم. على أن ظاهر قوله: «أحسن فعلًا منه باللمم»: يوجب أن الشعر المقطوع بالسيف أحسن من الشعر الأبيض؛ لأن السيف إذا صادف الشعر قطعه، وإنما يكسبه حمرة إذا قطع اللحم.
(٣٦٥) يقال: بعد يبعد بعدًا — من باب فرح — إذا ذل وهلك. قال تعالى: أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ. وقوله: بعدت؛ دعاء. وبياضًا: تمييز. وعنى بالبياض الأول: بياض الشيب. وبالثاني: المعاني الحميدة. يريد معنى قول أبي تمام:
له منظرٌ في العين أبيض ناصِعٌ ولكنه في القلب أسْود أسفعُ
وقد قال المتنبي في بياض الثلج ما يشبه هذا، وهو قوله:
فكأنها ببياضها سوداء
والظلم: جمع ظلمة، بمعنى الظلام، ويكون اسمًا لثلاث ليالٍ من آخر الشهر. يقول: إن بياض الشيب ليس ببياض فيه نور وسرور وهو أشد سوادًا من الظلم. لما يوري به من حلول الأجل وقطع الأمل. قال الواحدي: وقد ذهب جميع الشراح في قوله:
لأنت أسود في عيني من الظلم
إلى أن هذا من الشاذ الذي أجازه الكوفيون في نحو قول الراجز:
أبيضُ من أختِ بني إباض
(قيل: إنه رجز لرؤبة بن العجاج وقبله:
لقد أتى في رمضان الماضي جارية في دِرْعها الفضفاضِ
تقطعُ الحديث بالإيماض أبيضُ من أخت بني إباض
وبعده:
مثلُ الغزَالِ زين بالْخَضاض قبَّاءُ ذاتُ كفل رَضراض
جارية: فاعل أتى. والدرع: القميص. والفضفاض: الواسع. وأخت بني أباض: معروفة بالبياض، وبنو أباض قوم. والخضاض: نوع من الحلي. والقباء: الضامرة البطن فعلاء من القبب وهو دقة الخصر. والرضراض: الكثير اللحم. والإيماض: ما يبدو من بياض أسنانها عند الضحك والابتسام، وشبهه بوميض البرق في لمعانه، وتقطع الحديث بالإيماض: أي إذا ابتسمت وكان الناس على حديث قطعوا حديثهم ونظروا إلى حسن ثغرها، ويحتمل أن تكون هي المحدثة، وأنها تقطع حديثها بالتبسم، يصفها بطلاقة الوجه وسماحة الخلق. وقيل: المعنى: أنهم إذا تحدثوا فأومضت إليهم — أي نظرت — شغلهم حسن عينيها فقطعوا حديثهم.)
إذا الرجالُ شَتَوا واشتد أكلهم فأنت أبيضهم سِرْبال طبَّاخ
(من أبيات لطرفة بن العبد هجا بها ملك الحيرة عمرو بن هند، وتروى هكذا:
أنت ابنُ هندٍ فأخبِرْ من أبوك إذا لا يصلحُ الملكَ إلا كل بذاخ
إن قلت: نَصر فنصر كان شرفني قِدمًا وأبيضَهم سربال طباخ
ما في المعالي لكم ظل ولا ورق وفي المخازي لكم أسناخ أسناخ
مع أبيات أخر. قال ابن الكلبي: هذا الشعر منحول. وقوله: واشتد أكلهم أراد بالأكل: القوت، وهو مضموم الهمزة؛ أي غلت أسعارهم، ومن روى أكلهم — بفتح الهمزة — جعل الأكل بمعنى المأكول، وقد يكون معناه أنهم إذا شتوا لا يجدون الطعام إلا بعد جهد وشدة وجوع فإذا وجدوه بالغوا في الأكل. والسربال: القميص.
يقول: إذا دخل فصل الشتاء الذي يمنع من التصرف وانقطعت الميرة وغلت الأسعار واشتد القوت، فسربال طباخك نقي، للؤمك، ولو كنت كريمًا لاسود؛ لكثرة طبخه على ما عهد من سربال الطباخين. ومثل هذا المعنى قول الآخر:
ثيَاب طهاتك عند الشتا ء بيض تلألأ لا تدنس
وقِدرك لم يعرها طارق وكلبك منجحر أخرس
والأسناخ: جمع سنخ: الأصل.)
وسمعت العروضي يقول: أسود ها هنا: واحد السود. والظلم: الليالي الثلاث في آخر الشهر التي يقال لها: ثلاث ظلم. يقول لبياض شيبه: أنت عندي واحد من تلك الليالي الظلم. على أن ابن جني قد قال ما يقارب هذا، فقال: وقد يمكن أن يكون لأنت أسود في عيني كلامًا تامًّا، ثم ابتدأ يصفه فقال من الظلم، كما تقول: هو كريم من أحرار، وهذا يقارب ما ذكره العروضي، غير أنه لم يجعل الظلم: الليالي.
(٣٦٦) يريد بقاتلته: حبيبته؛ لأن حبها قتله، وبحب قاتلتي: خبر مقدم، وتغذيتي: مبتدأ مؤخر. وهواي وشيبي: قال ابن الشجري: يحتملان الرفع والجر، فالرفع بأن يكونا مبتدأين، و«طفلًا»، و«بالغ» حالين سدَّا مسد الخبرين، كما تقول ضربي زيدًا جالسًا، وتقديره: هواي إذ كنت طفلًا، وشيبي إذ كنت بالغ الحلم، والجر على إبدالهما من الحب والشيب، وحسن إبدال الهوى من الحب إذ كان بمعناه، والعامل في الحالين على هذا القول: المصدران — هواي وشيبي — والتقدير: تغذيتي بحب قاتلتي والشيب بأن هويت طفلًا وشبت بالغ الحلم، وقد بين في المصراع الثاني وقت المحبة ووقت الشيب. يقول: إن تغذيتي بهذين — الحب والشيب — ثم بين ذلك بقوله. هويت وأنا طفل، وشبت حين احتلمت؛ لشدة ما قاسيت من الهوى فصارا غذائي.
(٣٦٧) الرسم: أثر الديار مما كان لاصقًا بالأرض، والطلل: ما كان شاخصًا. والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها. يقول: كل رسم يذكرني رسم دارها، فأسأله تسليًّا، وكل ذات خمار تذكرنيها، فتريق — تسيل — دمي أي تقتلني.
(٣٦٨) المنصدع: المنشق، والشعب: مصدر بمعنى الفراق، من قولهم: شعبته إذا فرقته. والملتئم: المجتمع. يقول: تنفستْ عند الوداع تحسرًا على فراقي عن وفاء؛ يعني عما في قلبها من وفاء صحيح غير منشق، وفراق غير مجتمع، يريد وحزن فراق فحذف المضاف؛ أي أنها كانت منطوية على وفاء صحيح، وهم فراق لا يلتئم — لا يجتمع — وكان تنفسها عن هذين. والمعنى: إنا افترقنا بالأجساد «لا بالقلوب»؛ لأنها كانت معي على الوفاء. قال الواحدي: ويجوز أن يريد بالشعب: القبيلة، ويكون المعنى: عن فراق شعب غير مجتمع؛ لارتحالهم وتفرقهم في كل وجه.
(٣٦٩) يقول: بكينا جميعًا حتى امتزجت دموعي بدموعها في حال التقبيل؛ يعني أنهما تقاربا حتى اختلطت دموعهما حال التقبيل. ونصب «فمًا» على: الحال، كقولك: كلمته فَاهُ إلى فِي؛ أي مشافهة. ومزج: قال الواحدي: مصدر بمعنى المزاج؛ ما يمزج بالشيء، سمى به الفاعل. يقول: دموعي مازجة دموعها؛ أي ممتزجة بها.
(٣٧٠) المقبَّل: موضع التقبيل؛ أي الفم. وصاب: أي نزل، من قولهم: «صاب المطر يصوب صوبًا»، ويجوز أن يكون بمعنى أصاب، يقال: صابه وأصابه. يقول: إن ريقها عذب طيب، فهو ماء الحياة، إذا ذاقه العاشق حيي به، حتى لو وقع على الأرض لأحيا الموتى من الأمم السالفة. وأصل هذا المعنى للأعشى، إذ يقول:
لو أسندَت مَيْتًا إلى نَحْرها عاش ولَمْ يُنقلْ إلى قابِرِ
(٣٧١) ترنو: تنظر. ومجهشة: متهيأة للبكاء. ومراده بالطل: دموعها، وهو في الأصل: المطر الخفيف. والعنم، قيل: هو ضرب من الشجر، له نور أحمر، تشبه به الأصابع المخضوبة. قال النابغة:
بمُخَضَّبٍ رَخْصٍ كَأَنَّ بنانهُ عنم على أغصانه لم يُعقد
(رخاصة الأنامل: لينها.)
قال الجوهري: هذا يدل على أنه نبت لا دود. قال ابن بري: وقيل: العنم؛ ثمر العوسج (العوسج: شجر من شجر الشوك، له ثمر أحمر مدور كأنه خرز العقيق) يكون أحمر ثم يسود إذا نضج وعقد، ولهذا قال النابغة: لم يعقد يريد: لم يدرك بعد، وقيل: هو أطراف الخروب الشامي، قال:
فلم أسمعُ بِمرضِعَةٍ أمالتْ لهاةَ الطفلِ بالعنم المسوكِ
وعن الأعراب القدم: العنم: شجرة صغيرة خضراء لها زهرة شديدة الحمرة. جعل المتنبي عينها عين ظبي لسوادها، وأراد بالورد: خدها، وبالعنم: أطراف بنانها محمرة بالخضاب. ومعنى البيت من قول أبي نواس:
يا قمرًا أبصرْتُ في مَأتَمٍ يندَبُ شجوًا بين أتْرَابِ
يبكي فيلقي الدُّرَّ مِنْ نَرْجِسٍ ويلطم الورْدَ بعنَّابِ
ومثله لابن الرومي:
كأنَّ تِلكَ الدمُوع قطْرُ ندًى يَقْطُرُ مِنْ نَرْجِسٍ على وَرْدِ
وأحسن فيه الوأواء الدمشقي بقوله:
فأمْطرَت لؤلوًا مِنْ نَرْجس وسقتْ وَرْدًا وَعَضت على العُنَّاب بالبَرَدِ
(٣٧٢) رويد: اسم فعل بمنزلة صه ومه، يقال: رويد زيدًا: أي دعه وأمهله، ونصب «حكمك» به، وغير منصفة: حال، والعامل فيه: حكمك؛ أي أن تحكمي غير منصفة، أي ظالمة. ويحتمل أن يكون نداء مضافًا يريد: «يا غير منصفة» فحذف حرف النداء. ومن حكم: في موضع الحال: أي أفديك حاكمة، أو تقول: إنه في موضع نصب على التمييز. و«من» زائدة. يقول: دعي أو أقلي حكمك علينا وأنت ظالمة لنا، ثم قال: أفديك بالناس كلهم من حاكم. يعني أنت حبيبة إلي وإن جرت علي في الحكم.
(٣٧٣) الجزع: نقيض الصبر، وأجن الشيء: ستره وكتمه. يقول: وافقتني في ظاهر الجزع للفراق ولم تضمري ما أضمرته من وجعه. وهذا كما يقول الناشئ:
لفظي ولفظُكِ بالشكوى قدِ ائتلفا يا ليتَ شِعري فقلبانَا لِمَ اخْتلفَا؟!
(٣٧٤) إذن: قال الزجاج: تأويله: إن كان الأمر كما جرى أو كما ذكرت، يقول القائل: زيد يصير إليك، فتقول: إذن أكرمه؛ أي إن كان الأمر على ما تصف وقع إكرامه، وتأويلها ها هنا: أنه ذكر أنها لم تجنِ الألم، كأنه قال: لو أجننت من الألم ما أجننته إذن لبزك — أي سلبك — ثوب الحسن أقل جزء من أجزاء الألم؛ أي لأذهب حسنك، وظهر عليك من أثره ما يذهب نضارة حسنك ويكسوك ثوب السقم. وإنما ثنى الثوب؛ لأن العادة في اللباس ثوبان: إزار ورداء للعرب، ويسمونهما الحلة، فكأنه قال: وكساك حلة السقم كما كساني.
(٣٧٥) التعلل: تزجية الوقت (يقال: زجيت الشيء تزجية إذا دفعته برفق، ويقال: كيف تزجي الأيام؟ أي كيف تدافعها، وزجيت أيامي: دافعتها بقليل من القوت أجتزئ به وأكتفي، ويقال: تزجيت بكذا: اكتفيت به) بالشيء اليسير بعد الشيء. يقال: فلان يتعلل بكذا: أي يمضي به وقته ودهره. والإقلال: الفقر وقلة ذات اليد. يقول: ليس من عادتي أن أتزجى الآمال وأدافع الوقع بشيء أرجوه لعله لا يكون ولا أن أقنع باليسير، يعني أنه يطلب الكثير، ويسافر في طلب المال كما قال أبو الأسود الدؤلي:
وَمَا طَلبُ المَعِيشَةِ بالتمنِّي ولكِنْ ألقِ دَلوكَ في الدِّلاء
(٣٧٦) بنات الدهر: صروفه ونوائبه التي تتولد منه وتحدث فيه. قال العكبري: والعرب تستعمل البنوة والأخوة فيمن فعل شيئًا يعرف به، فيقولون: هذا ابن سفر؛ إذا كان معتادًا للأسفار، وهو أخو معروف، وأبو الأضياف. يقول: لا أظن النوائب تدعني حتى أدفعها عن نفسي بسد طريقها إلي؛ وذلك أن يتقوى بالمال والأنصار.
(٣٧٧) أخنى عليه الدهر: أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة الذبياني:
أضْحت خلاءً وأضْحى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
(من قصيدة للنابغة الذبياني يمدح بها النعمان بن المنذر، ويعتذر إليه مما بلغه عنه، وهي التي أولها:
يا دارَ ميَّةَ بالعلياء فالسند أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ
ولبد: هو آخر نسور لقمان بن عاد. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر من أظب عفر في جبل وعر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر، فاختار النسور فكان آخر نسوره يسمى لبدًا.)
والجدة: الغنى. ورقة الحال: كناية عن الفقر. يقول — لمن لامه في الفقر: لا تلمني وَلُمِ الدهر الذي أتى على مالي وسلبني الغنى.
(٣٧٨) المحصول: مصدر بمعنى الحصول، وقد يكون المفعول مصدرًا، كقولهم ليس له معقول أي عقل. وقوله: «وذكر جود» مفعول لفعل محذوف دل عليه المقام؛ أي وأسمع ذكر جود، فهو من باب:
عَلَفْتُهَا تِبنًا وماءً بارِدًا
(وماء باردًا: أي وسقيتها ماء باردًا، جعله العيني صدرًا، وأورد له عجزًا هكذا:
حتى شتت همالةً عيناها
وجعله غيره عجزًا، وصدره: لما حططتُ الرحل عنها واردًا
ولا يعرف قائله. وقيل: إنه لذي الرمة. وشتت: أقامت شتاء. وهمالة: من هملت العين إذا صبت دمعها.)
يقول: أرى قومًا على صورة الناس غير أنهم عند التحصيل كالغنم لا عقل لهم، وأسمع ذكر الجود، ولكن لا أحصل منه إلا على الكلام دون الفعال. وهذا من قول السيد الحميري:
قد ضيع الله ما جَمَّعتُ من أدبٍ بين الحمير وَبَين الشاء والبقرِ
قال العكبري: وهو من قول الحكيم: من كانت همته الأكل والشرب والنكاح فهو بطبع البهائم؛ لأنا نعلم أنها متى خلي بينها وبين ما تريده لم تفعل شيئًا غير ذلك.
(٣٧٩) رب مال: معطوف على «أناسًا» — في البيت السابق — والمروة: أصلها الهمز، يقال: امرؤ ذو مروءة، تخفف الهمزة فيبقى واوان، تدغم الأولى في الثانية، وهي النخوة وكمال الرجولية. والإثراء: الغنى. يقول: وأرى صاحب مالٍ ليس له مروءة ولم يستكثر منها كما استكثر من المال حتى أثرى بعد الفقر؛ أي لم يكثر المروءة عند كثرة المال. فقوله: «أثرى من العدم»، هو كما يقال: استغنى من الفقر. وهذا المعنى من قول أبي تمام:
لا يحسَبُ الإفْلالَ عُدْمًا بلْ يرى أنَّ المُقلِّ من المروءَةِ مُعدِمُ
(٣٨٠) النصل: نصل السيف. ومضرب السيف: حده. والصمة: الشجاع. وبه سمي الصمة: أبو دريد بن الصمة. والصمم: جمع صمة. وينجلي: ينكشف. يقول: سيصحب السيف مني رجلًا مثل حده في المضاء، ويتبين للناس أني أشجع الشجعان. يعني أنه إذا قصد الحرب مضى مضاء السيف وعمل عمل الأشجع؛ أي أنه أشجع الشجعان.
(٣٨١) لات: بمعنى ليس، والأصل فيها «لا» فزيدت عليها التاء، كما في: ربت، وثمت. قال ابن جني: من العرب من يجر بها، وأنشد:
طلبُوا صُلحنا وَلَاتَ أوَانٍ فأجبنا أن ليسَ حين بقاء
البيت لأبي زبيد الطائي النصراني الشاعر الإسلامي من قصيدة، راجعها في الجزء الرابع من «الخزانة» طبعة السلفية، وراجع الكلام على «لات» هناك.
والمصطبر: بمعنى الاصطبار. والمقتحم: كذلك، بمعنى الاقتحام، وهو الدخول في الشيء. يقول: تكلفت الصبر حتى لم يبقَ اصطبار، فالآن أقحم: أي أقحم نفسي، أي أوردها المهالك وأوقعها في الحروب حتى أدرك مرادي فلا يبقى اقتحام. وعلى هذا فمفعول «أقحم» محذوف. ولك أن تقرأها: أقحم؛ أي أقتحم، وقد ورد قحم يقحم — من باب خضع — بمعنى اقتحم.
(٣٨٢) ساهمة: متغيرة لما يلحقها من شدائد الحرب، يقال: سهم وجهه يسهم سهومًا: إذا تغير. وجملة: والحرب أقوم … إلخ: حالية. يقول: لأكلفن الخيل من أهوال الحرب ما تسهم له ألوانها ولأتركن الحرب قائمة كانتصاب الساق على القدم؛ أي شديدة.
(٣٨٣) يحرقها: يروى يخرقها. والضمير: للخيل، والجملة: عطف على الجملة الحالية في البيت السابق. والزجر: الصياح. واللمم: الجنون. يقول: والطعن يعمل في الخيل عمل النار حتى كأنه يحرقها، والزجر — أي الصياح بها عند اقتحامها في الحرب أو في الماء — يمنعها عن التأخر، ويقلقها — أي يحركها — حتى كأن بها جنونًا. يريد أنها تضطرب لما يلحقها من ألم الطعن وخوف الزجر فكأنها مجنونة، إذ لا تستقر ولا تثبت.
(٣٨٤) كلمتها: من الكلم الذي هو الجرح. والعوالي: الرماح. وكلح: كشر في عبوس. والصاب: شجر إذا اعتصر خرج منه كهيئة اللبن، وربما نزت منه نزية — أي قطرة — فتقع في معين كأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر، قال أبو ذؤيب الهذلي:
إني أرِقتُ فبِتُّ الليلَ مُشتجرًا كأنَّ عيْنِيَ فيها الصابُ مذبوح
(يروى:
نام الخليُّ وبتُّ الليل مشتجِرًا
والمشتجر: الذي يضع يده تحت حنكه مذكرًا لشدة همه. ومذبوح: أي مشقوق معصور، وأصل الذبح: الشق.)
يقول: هي عابسة فاتحة أفواهها لما أصابها من جراح الرماح، فكأن الصاب قد شد على لجمها فهي تجد مرارته. ومعصوب: يروى معصور، ويروى: مذرور.
(٣٨٥) بكل منصلت: متعلق بقوله: لأتركن، والمنصلت: الماضي في الأمور. وأدلت له من كذا: أي أعنته عليه حتى جعلت له الدولة. يقول: لأتركن الحرب قائمة بكل رجل ماضٍ في الأمور طالما انتظر خروجي على السلطان حتى أعطيته الدولة من الخدم الذين لا يستحقون الإمارة. يعني بهم الأتراك الذين تملكوا العراق وخرجوا على السلطان.
(٣٨٦) شيخ: إما بالجر على التبعية لمنصلت، وإما بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو شيخ. والنافلة: خلاف الفرض، وهي ما يحسن فعله ولا يحرم تركه. يريد أنه يستعين بمثل هذا ممن لا يعتقد الدين حتى يزيل دولة الخدم. وقال ابن القطاع: كل من فسر الديوان قال: «الشيخ» هنا: واحد الشيوخ من الناس. يقول: أنتصر على أعدائي بكل شيخ ماضٍ في أموره، لا يبالي بالعواقب، مستحل للمحارم، سافك للدماء، وهذا بالهجاء أشبه. وإنما المعنى أن الشيخ هنا السيف، فإن الشيخ من أسمائه، وكذلك العجوز، قال أبو المقدام البصري — واسمه جساس بن قطيب:
رُبَّ شيخٍ رأيْتُ في كفِّ شيخٍ يضْرِبُ المُعلمين والأبطالا
وعجُوزٍ رأيْتُ في فَمِ كلْبٍ جُعِلَ الكلْبُ للأمير جمالا
سمي السيف شيخًا لقدمه؛ لأنهم يمدحون السيوف بالقدم، وقيل: سمي شيخًا لبياضه تشبيهًا بالشيب، وكذلك المعنى في العجوز. والكلب: مسمار من ذهب أو فضة يجعل في قائم السيف، جاء في لسان العرب: قال ابن الأعرابي: الكلب مسمار مقبض السيف ومعه الآخر يقال له: العجوز، وقيل: العجوز نصل السيف، والكلب ما فوق النصل من جانبيه، حديدًا كان أو فضة.
(٣٨٧) العجاج: الغبار. والكتائب: جمع كتيبة؛ الفرقة من الجيش. ورامته: يريد: رامت عنه؛ أي زالت عنه ولم يزل هو عنها، فحذف حر الجر وأوصل الفعل، والأصل استعماله بحرف الجر، كما قال الأعشى:
أبانا فلا رِمْتَ مِنْ عندِنا فإنا بخير إذا لم تَرِمْ
وقال الجوهري: يقال: رامه يريمه ريمًا؛ أي برحه. ويقال: لا ترمه؛ أي لا تبرحه. ثم قال: ويقال: رمت فلانًا ورمت من عند فلان، بمعنًى. وأنشد بيت الأعشى. يقول: إن الأبطال تنهزم عنه ولا ينهزم هو. قال ابن جني والواحدي: والنطح إنما هو للكباش، ولا يستعمل في الأسود، ولو قال: كلما صدمت أو رميت لكان أليق، ولكنه أراد بالنطح: القتال.
(٣٨٨) بارقتي: يريد سيوفه التي لها بريق ولمعان. والديم: جمع ديمة، وهي المطر الدائم. يقول: إذا برقت سيوفي لأعدائي في الحرب فإن ضوءها يزيد على ضوء بروق السحاب حتى تنسي الناس البروق، ويكثر مع ذلك سيلان الدم حتى تستغني البلاد عن الأمطار بما أصبه من الدماء. قال العكبري: وهذا كلام مشبع بالحماقة حتى لو قاله أحد بني بويه أو بني أرتق أو بني أيوب لنسب إلى ذلك، وهم ملوك الأرض وحماتها، وأرباب المغازي وولاتها.
(٣٨٩) ردي: أمر — من ورد الماء يرد ورودًا — والردى: الهلاك. ويا نفس: يروى: حوباء؛ أي يا حوباء. والحوباء: النفس. والشاء: جمع شاة. والنعم: الإبل خاصة. يقول — لنفسه: ردي المهالك والحروب واتركي خوف ورود الهلاك للنعم والشاء. أي إنها هي التي لا تقاتل عن نفسها ولا تدافع عنها من الذل. وقال ابن القطاع: قد صحف هذا البيت جماعة فرووا: حياض خوف الردى — بالحاء المهملة. قال لي شيخي: قال لي صالح بن رشدين: لما قرأت هذا البيت قرأته بالحاء المهملة، فقال لي: لم أقل كذلك. قلت: فكيف قلت؟ قال قلت: خياض — بالخاء المعجمة — لأني لو قلته بالمهملة كنت قد نقضت قولي: ردي حياض الموت، فإنها هي حياض خوف الردى، وكل من ورد الماء فلا بد أن يخوضه إما بيد، أو فم. والمعنى: ردي يا نفس حياض الموت، فإن الموت في العز حياة، واتركي خياض خوف الردى للحيوان الذي لا يعقل. ولو قال المتنبي: خياض غير الردى بالخاء أو قال: واتركي ورد خوف الردى … إلخ. لم يحتج إلى هذا إلا أن مذهبه أنه يغمض معانيه حتى لا يفهمها إلا العلماء.
(٣٩٠) يقول — لنفسه: إن لم أتركك سائلة الدم على الرماح — أي إن لم أحضر الحرب حتى ليسيل الدم مني على الرماح — فلا دعيت أخا المجد والكرم. قال العكبري: وهو من قول ابن أيوب:
إن تقتلُوني فَآجَالُ الكماة كما خُيِّرتُ قبلُ وما بالقتْل من عارِ
وإن نجوْتُ لوَقْتٍ غيره فعسى وكلُّ نفسٍ إلى وقتٍ ومقدار
(٣٩١) ظامئة: عطشى. ولحم: فاعل «يملك». والوضم: الخشبة يقطع الجزار عليها اللحم، ويضرب اللحم على الوضم مثلًا للضعيف الذي لا امتناع عنده، ويقال للمرأة: لحم على وضم، ومنه قول القائل:
أحاذر الفقر يومًا أن يلم بها فيهتك الستر عن لحم على وضم
وذلك أن الحيوان فيه نوع امتناع، فإذا ذبح ووضع لحمه على الوضم كان عرضة لكل أحد، حتى الطيور والذباب. وقوله: أيملك الملك: استفهام معناه الإنكار. يقول: لا يملك الملك ضعيف ذليل لا يدفع عن نفسه كاللحم على الوضم، وأسيافنا عطاش إلى دمه والطير جائعة لم نشبعها من لحمه، يعني أنه يقتل ويلقى للطيور ولا يملك. قال ابن جني: يريد أن ملوك عصره ليس فيهم من يدفع عن نفسه.
(٣٩٢) من: بدل من قوله: لحم على وضم. والظمأ: العطش. ومثلت: انتصبت، ويروى: عرضت، بدل مثلت. يقول: من لو كنت ماء وكان عطشان لمنعه خوفه مني أن يشرب حتى يموت عطشًا، ولو رآني في النوم مائلًا له لَهجر النوم خوفًا من أن يراني في النوم. وهذا ينظر إلى قول مروان بن أبي حفصة:
فإذا تنبَّهَ رُعْتَه وإذا غَفى سَلَّتْ عليه سيوفَك الأحلامُ
(٣٩٣) ميعاد: مبتدأ، خبره: غدًا. وكل رقيق الشفرتين: أي كل سيف رقيق الشفرتين، وهو الذي رقت شفرتاه «حداه» بكثرة الصقل. ومن عصى: أي من عصاني، عطف على كل. يتوعد من عصاه من الملوك بقرب إيقاد نار الحرب.
(٣٩٤) يقول: إن أطاعوني وأجابوني إلى ما أدعوهم إليه فلست أقصدهم بسيوفي، وإنما أقصد بها غير المطيع فأقتله بها، وإن أدبروا عني ومضوا في عصيانهم فلا أقتصر على قتلهم وحدهم، وإنما أقتلهم وكل من رأى رأيهم.
(٣٩٥) جاء في «الصبح المنير»: قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية سنة نيف وعشرين وثلاثمائة وهو فتًى، فأكرمته وعظمته لما رأيت من فصاحته وحسن سمته، فلما تمكن الأنس بيني وبينه وخلوت معه في المنزل اغتنامًا لمشاهدته واقتباسًا من أدبه، قلت: والله إنك لرجل خطير تصلح لمنادمة ملك كبير. فقال: ويحك: أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل، فظننت أنه يمزح، ثم تذكرت أني لم أسمع منه كلمة هزل قط منذ عرفته، فقلت له: ما تقول؟ فقال: أنا نبي مرسل كما ذكرت. فقلت: مرسل إلى من؟ فقال: إلى هذه الأمة الضالة المضلة، قلت: ماذا تفعل؟ قال: أملأ الدنيا عدلًا كما ملئت جورًا. قلت: بماذا؟ قال: بإدرار الأرزاق والثواب العاجل والآجل لمن أطاع وأتى، وضرب الأعناق لمن عصى وأبى. فقلت له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه أن يظهر. وعذلته على ذلك، فأنشد يقول بديهًا، وذكر هذه الأبيات.
(٣٩٦) معاذ: مرفوع بالبدل من «أبا عبد الإله». قال العكبري: ولو كان عطف بيان لكان منصوبًا منونًا؛ لأنهم أجروا عطف البيان مجرى الصفة. والهيجاء: من أسماء الحرب. يقول: إنك تجهل منزلتي في الحرب، ومقدار ما طبعت عليه من الجرأة والبأس، ومن ثم تلومني على ما أنا مقدم عليه لظنك بي العجز عن بلوغه.
(٣٩٧) الجسيم: العظيم. و«ما»: زائدة، كقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ، وكقول الشاعر:
إِنْ أُمْسِ ما شيخًا كبيرًا فطالما عُمِرْتُ ولكن لا أرى العمر ينفعُ
(البيت أحد أبيات عشرة أوردها أبو تمام في «حماسته» لمجمع بن هلال قال: غزا مجمع بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن تيم الله، يزيد بن سعد بن زيد مناة، فلم يصب شيئًا فرجع من غزاته تلك فمر بماء لبني تميم عليه ناس من بني مجاشع فقتل فيهم وأسر، فقال في ذلك: إن أمس ما شيخا … إلى آخر الأبيات. قال المرزوقي في قوله: إن أمس ما شيخا: «ما» زائدة. يقول: إن صرت شيخًا طاعنًا في السن هدفًا لسهامه فذلك حق؛ لأن من يعش يكبر، ومن يكبر يهرم، وطول العمر لا يجدي إذ كان مؤداه إلى الضعف وغايته الموت.)
قالوا: ويحتمل أن تكون «ما» بمعنى الذي، أو نكرة، فيضمر هو بعدها، فإذا كانت نكرة فتقديره: جسيم شيء هو طلبي. والمهج: الأرواح. يقول: عاتبتني على محاولة الأمر العظيم ومخاطرتنا فيه بالأرواح العظيمة.
(٣٩٨) النكبات: الشدائد تنكب الإنسان. والجزع: نقيض الصبر. والحمام: الموت. يقول: مثلي لا تنال منه النكبات ولا تصيبه؛ إما لأنه حازم يدفعها بحزمه عن نفسه، وإما لأنه صابر عليها فليست تؤثر فيه.
(٣٩٩) الفرق: وسط الرأس. والحسام: السيف القاطع. يقول: إن الزمان الذي هو محل النكبات والنوائب لو كان شخصًا ثم برز إلي محاربًا لخضب شعر رأسه سيفي.
(٤٠٠) يقول: إن الزمان لم يبلغ مراده مني، ومن تغيير حالي وتوهين أمري، وما انقدت له انقياد من يعطي زمامه فيقاد به. وهذا كما يقوله البحتري:
لعمرُ أبي الأيام ما جارَ صرْفها عليَّ ولا أعطيتها ثِنيَ مِقْوَدِي
(٤٠١) عيون الخيل: يريد عيون أصحاب الخيل. وقوله. فويل: يريد فويل لهم. يقول: إذا امتلأت عيون أرباب الخيل من منظري فويل لهم في الحالتين؛ لأنهم يخافونني أشد الخوف، فلا يكون لهم أمن في اليقظة ولا لذة ولا راحة في منامهم.
(٤٠٢) صرفًا: أي خالصة غير ممزوجة. والذي من مثله شرب الكرم: هو الماء. يريد أن شرابه الماء، لا الخمر.
(٤٠٣) يقول: حبذا الأبطال الذين يقاتلون بالرماح ويلازمونها ملازمة النديم للنديم؛ أي كأنها نداماهم، لأنهم لا يخلون من صحبتها، ويسقونها ما يرويها من الدماء، فهم سقاة رماحهم، وعزمهم على الحرب يسقيهم دماء الأعداء. هذا، والندامى: جمع ندام، والندام: جمع النديم، وهو الشريب الذي ينادمه. ويقال له: الندمان أيضًا، قال النعمان بن نضلة العدوي، ويقال للنعمان بن عدي، وكان عمر استعمله على ميسان:
فإن كنت نَدْماني فبالأكبر اسقني ولا تسقِني بالأصغرِ المُتَثَلِّمِ
لعلَ أمِيرَ المؤمنينَ يسوءُهُ تنادُمنا في الْجَوْسقِ المتَهدِّمِ
ولمناسبة حبذا: فقولهم حبذا الأمر: أي هو حبيب، قال سيبويه: جعلوا حب مع ذا بمنزلة الشيء الواحد، وهو عنده اسم، وما بعده مرفوع، ولزم ذا حب، وجرى كالمثل، والدليل على ذلك أنهم يقولون في المؤنث: «حبذا» ولا يقولون «حبذه». ومنه قولهم: حبذا زيد، فحب: فعل ماضٍ لا يتصرف، وأصله «حبب» على ما قاله الفراء، و«ذا»: فاعله، وهو اسم مبهم من أسماء الإشارة، جعلا شيئًا واحدًا، فصارا بمنزله اسم يرفع ما بعده، وموضعه رفع بالابتداء، و«زيد»: خبره، ولا يجوز أن يكون بدلًا من «ذا» لأنك تقول: حبذا امرأة، ولو كان بدلًا: لقلت حبذت امرأة. قال جرير:
يَا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ مِنْ جَبَلٍ وَحَبَّذَا سَاكِنُ الرَّيَّانِ مَنْ كَانَا
وَحَبَّذا نَفَحَاتٌ مِنْ يَمَانِيَةٍ تَأْتِيكَ مِنْ قِبَلِ الرَّيَّانِ أَحْيَانَا
(من قصيدته التي مطلعها:
بان الخليط ولو طوَّعت ما بانا وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانا
وفيها يقول:
إن العيون التي في طرفها مرضٌ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصْرَعن ذا اللبِّ حتى لا حراك به وهن أضعفُ خلق الله أركانا
والريان: أطول جبال أجأ. واليمانية: رياح الجنوب.)
(٤٠٤) الألية: اليمين. والتعليل: التلهية بالشيء. وقال الشراح في قوله: لأعللن: إنه من العلل، وهو السقي مرة بعد أخرى. والخرطوم: من أسماء الخمر، قيل: لأنها إذا بزل الدن انصبت في صورة الخرطوم، وقيل: سميت بذلك لأخذها بخراطم شرابهم — أي أنوفهم — كما قيل:
ولقد شرِبتُ الخمر حتى خِلتُها أفْعَى تَكِشُّ على طريق المُنخر
«كشيش الأفعى: صوت تخرجه من فيها، وقيل: صوتها من جلدها لا من فمها فإن ذلك من فحيحها.»
(٤٠٥) العرس: الزوجة. يقول: إن هذا الأخ حلف أن أشرب وإلَّا فامرأته طالق فجعلت ردي امرأته وإبقاءها عليه كفارة عن شرب الخمر، وشربتها غير آثم؛ إذ كان قصدي بالشرب بقاء الزوجية بينهما.
(٤٠٦) النوى: البعد وهي مؤنثة. يقول: إن لومي الفراق — في تفريقه بيننا وظلمه إيانا بالبعد — غاية الظلم منا فلعله يعشقها كعشقي إياها، فلذلك يختارها لنفسه ويحول بيني وبينها، وقد حقق هذا المعنى في البيت التالي. وهذا كما قال محمد بن وهيب:
وحاربني فيهِ رَيبُ الزمانِ كأن الزمان لهُ عاشِقُ
وقال البحتري:
قد بَيَّنَ البينُ المُفرِّقُ بيننا عِشقَ النَّوَى لِربيبِ ذاك الربْرَب
(٤٠٧) زواه: نحاه وأبعده. يقول: لو كانت النوى لا تغار عليكم لما منعت عني لقاءكم وطوته عني، ولما خاصمني بسببكم. هذا، والخصم: المخاصم، يستوي فيه الجمع والواحد والمؤنث، يقول: هم خصم، وهو خصم، وهما خصم، وهي خصم.
(٤٠٨) الوسمي: أول مطر في السنة، وأراد به: أول ما بدأت به من الوصال. والولي: المطر الثاني. وأراد به ما بعد ذلك من الوصل. والنائل: العطاء، وأراد به وصالها، يقول: إنها بدأت بوصل ثم لم تعد إليه، فليتها أنعمت علي برجوعها إلى الوصل مرة أخرى. وهذا منقول من قول ذي الرمة:
لِنِي وَليَة تُمرِعْ جنابي فإنَّنِي لِمَا نِلتُ من وَسْمِيِّ نُعْماك شاكِر
(لني: أمر من الولي: أي أمطرني ولية منك: أي معروفًا بعد معروف.) والمعنى من قول بشار:
قد زُرْتِنِي زَوْرَةً في الدَّهْرِ وَاحِدَةً ثَنِّي ولا تجعليها بيضة الديك
(قال أبو عبيد في البخيل يعطي مرة ثم لا يعود: كانت بيضة الديك. فإن كان يعطي شيئًا ثم يقطعه آخر الدهر قيل للمرة الأخيرة: كانت بيضة العقر، وقيل: إن بيضة العقر هي بيضة الديك يبيضها في السنة مرة واحدة، وقيل: يبيضها في عمره مرة واحدة. فتضرب بيضة الديك مثلًا للعطية القليلة التي لا يربها معطيها ببر يتلوها، وقيل: إن بيضة العقر وبيضة الديك كلاهما كقولهم: بيض الأنوق والأبلق العقوق، مثل لما لا يكون.)
هذا، ولك أن تجعل «منعمة» خبرًا مقدمًا، والظبية مبتدأ مؤخرًا، أو تجعل «الظبية»: فاعلًا لمنعمة، سدت مسد خبرها على جعلها مبتدأ بعد الاستفهام.
(٤٠٩) الترشف: المص. والسحرة: السحر. والظلم: ماء الأسنان وبريقها. وإنما خص السحرة؛ لأن الأفواه تتغير عند ذلك، وإذا كانت طيبة النكهة في آخر الليل كان أمدح لها، ألا ترى إلى قول امرئ القيس:
كأنَّ المُدَامَ وصوْبَ الغَمامِ وريحَ الْخُزَامى وَنشْرَ القُطُرْ
يُعلُّ بهِ بَرْدُ أنيابِهَا إذَا طَرَّبَ الطَّائِرَ المسْتَحِرْ
وقال الحارثي:
كأن بِفيهَا قهوة بابِليَّةً بماء سماء بعد وَهْنٍ مِزَاجُها
والعاشق إذا مص ريق معشوقه زادت نار حبه تلهبًا؛ لذلك قال:
تَرَشَّفْتُ حَرَّ الْوَجْدِ مِنْ بَارِدِ الظَّلْمِ
ولله ابن الرومي حين بسط هذا المعنى في هذه الأبيات البديعة:
أعانقها والنفسُ بعدُ مَشوقَةٌ إليها وهلْ بعدَ العناقِ تَدَان؟!
وأَلثَمُ فاها كيْ تَزُول حَرَارتِي فيَشْتَدُّ ما ألقَى من الهيَمَانِ
وما كان مقدارُ الذِي بي من الجوى لِيَشفِيَه ما تَرْشُفُ الشفتَانِ
كأنَّ فؤادي ليسَ يشفِي غليله سِوَى أن يُرَى الرُّوحان يمتزجان
(٤١٠) يقول: إن كلًّا من قلادتها ونطقها وثغرها الذي تبسم عنه سواء في الحسن والنظم، فهي درية العقد والكلام والثغر، وهذا معنى متداول، قال البحتري:
فَمِنْ لُؤْلُؤٍ تُبْدِيه عند ابتسامها ومن لؤلؤٍ عند الحدِيث تساقِطه
فذكر شيئين، وقال المؤمل بن أميل:
وإن نقطتْ دُرٌّ فَدُرٌّ كلامُها ولَمْ أرَ دُرًّا قبلها ينظِمُ الدرا
فذكر شيئًا واحدًا، وأخذ أبو المطاع بن ناصر الدولة هذا المعنى فقال:
ومُفَارِقٍ نفسي الفِدَاءُ لِنَفْسِه وَدَّعْتُ صبْرِيَ عَنْه في تَوْدِيعِهِ
وَرَأيتُ منهُ مثلَ لؤلؤِ عِقدِهِ من ثَغْرِهِ وَحديثهِ ودموعهِ
فزاد ذكر الدمع على المتنبي.
(٤١١) النكهة: رائحة الفم. والمندلي: العود الذي يتبخر به، نسبة إلى مندل: موضع بالهند يجلب منه العود، ومثله قمار، قال ياقوت: بفتح القاف ويروى بكسرها: موضع ينسب إليه العود، قال: هكذا تقوله العامة، والذي ذكره أهل المعرفة «قامرون» موضع ببلاد الهند، يجلب منه العود النهاية في الجودة، قال ابن هرمة:
أحِبُّ الليل إنَّ خيال سلمى إذا نمنا ألمَّ بنا فزارا
كأن الركب إذ طرقتك باتوا بمندل أو بقارعَتيْ قَمَارا
هذا، وقد يقع المندل على العود على إرادة ياء النسب وحذفها ضرورة فيقال: تبخرت بالمندل، وهو يريد المندلي، ويدلك على صحة ذلك دخول الألف واللام في المندل قال عمر بن أبي ربيعة:
لمِن نارٌ قبَيْلَ الصُّبـ ـحِ عند البيتِ ما تخْبُو
إذا ما أُخْمِدَتْ يُلْقَى عليها المندلُ الرطبُ
ويروى: إذا ما أوقدت. وقال كثير:
بأطيبَ من أردان عزَّةَ مَوْهنًا وَقَدْ أوقدَتْ بالمنْدَل الرَّطْب نَارُها
«يقال: لقيته موهنًا، أي حين يدبر الليل، أو هو نحو من نصف الليل، أو هو ساعة تمضي من الليل.» ولمناسبة بيت كثير رووا أن إحدى المدنيات قالت لكثير: فض الله فاك، أنت القائل: بأطيب من أرادان عزة … البيت؟ فقال: نعم، قالت: أرأيت لو أن زنجية بخرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب؟ هلا قلت كما قال سيدكم امرؤ القيس:
ألم تريانِي كلما جئتُ طارقًا وَجَدْتُ بها طيبًا وإن لم تَطيَّب؟
والقرقف: من أسماء الخمر، وكذلك الصهباء، وهذه الأشياء معطوفة على فاعل «تساوي» — في البيت السابق. يقول: استوت منها هذه الأشياء في طيب الرائحة والذوق. قال الواحدي: وإنما يستوي في الذوق شيئان: النكهة والخمر؛ لأن العود مر المذاق، ولكنه جمع بينها في الريح، وأراد في الطعم شيئين. ثم النكهة أيضًا لا طعم لها؛ لأنها رائحة الفم، واستفهام الكلام إلى ذكر الريح، ثم احتاج إلى القافية وإلى إقامة الوزن فذكر الطعم فأفسد، لاختلاف ما ذكره في الطعم. قال العكبري: وليس كما ذكر — أي الواحدي — لأنه — المتنبي — قال: استوت نكهتها والمندلي وقرقف، فلما وصف القرقف احتاج أن يقول في الريح والطعم، ولم يرد سوى الخمر في الطعم.
(٤١٢) الشهب من الخيل: التي في لونها بياض قد غلب على السواد. والدهم: السود. يقول: جفتني بهجرها كأني لست الأنصح الأشجع من عشيرتها، وإنما قال هذا لأن نساء العرب يملن إلى الشجاع الفصيح؛ ألا ترى إلى قول العنبري لما رأته امرأته يطحن فازدرته:
تقول وصكَّتْ وجهها بِيمينها: أبَعْلِيَ هذا بالرَّحَى المتقاعِسُ
فقلت لَهَا: لا تعجلي وتَبيَّني بلائي إذا التفَّتْ عليَّ الفوارس
(بعد البيتين:
ألست أردُّ القِرْن يركب ردْعَهُ وفيه سنان ذو غرارَين يابسُ
إذا هاب أقوام تجشَّمْتُ هوْل ما يَهَاب محيَّاه الألدُّ المداعسُ
لعمْرُ أبيكِ الخيرِ إني لخَادمٌ لضيفي وإني إن ركبت لفَارسُ
أبعلي هذا — بإشارة التحقير — تعجب مما رأت. والمتقاعس: الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، نقيض المتحادب. وبالرحى: تبيين، وبلائي: مصدر أبلى الرجل؛ إذا اجتهد في حرب أو كرم. ويركب ردعه: يريد يصرع منكوسًا رأسه أسفله. والغراران: الخدان. ويابس: يريد أنه صلب لا تأنيث فيه، ويروى: نائس من ناس ينوس؛ إذا تحرك واضطرب. وهاب: يروى: «خام» بمعنى نكص وجبن. والحميا: السورة والشدة. والألد: الشديد الخصومة. والمداعس: المطاعن.)
فذكر لها شجاعته وحسن بلائه عند الحرب لترغب فيه، فذكر أبو الطيب أن هذه غادرة ناقضة عادة أمثالها، بجفائه. وقوله: «والشهب في صورة الدهم» يريد إذا رؤيت الخيل الشهب سوداء لتلطخها بالدماء وجفافها عليها، كما قال النابغة الجعدي:
وتُنكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ ألْوانَ خَيْلِنَا مِنَ الطَّعْنِ حَتَّى تحْسَبَ الجَوْنَ أشْقَرَا
(٤١٣) الحتف: الهلاك. ونكزته الحية: لسعته بأنفها، فإذا عضته بنابها قيل: نشطته. قال الواحدي: الحتف لا يتصور منه الحذر، وإنما يريد أن قرني الذي منه حتفي لو قاتلني لحذرني كأني حتفه؛ أي كأني أقتله يقينًا وأغلبه، فهو يحذرني حذر من تيقن هلاكه من جهة إنسان. ويحتمل أن يكون هذا مجازًا ومبالغة في وصف شجاعته. وقوله: وتنكزني الأفعى؛ أي يتعرض لي أعدى أعدائي فأهلكه، وقد جعل أعداءه قسمين: حاذرًا يحاذره، ومتعرضًا له يهلكه المتنبي. ولما سمى عدوه أفعى سمى قوة نفسه وشجاعته سمًّا؛ لشدة تأثيره في عدوه.
(٤١٤) الردينيات: الرماح، نسبة إلى ردينة: امرأة كانت تقوم الرماح. والسريجيات: السيوف، نسبة إلى «قين» اسمه سريج. يقول: إن الرماح تنقصف قبل الوصول إلى إراقة دمي، والسيوف تنقطع قبل أن تقطع لحمي. فجعل دمه يقصفها لما كان السبب في قصفها، وكذلك لحمه. والفعل قد ينسب إلى من كان سببًا فيه. وعبارة التبريزي: أي أنا من نفسي وعشيرتي في منعة، فإذا أصابني طعن كبر الطعن في طلب ثأري حتى تتقصف الرماح، وإذا ضربت تتكسر السيوف حتى يدرك ثأري.
(٤١٥) برتني: أي هزلتني، مأخوذ من بري السهم، وهو نحته حتى يدق. والسُّرَى: جمع سرية، ومن ثم أنثها وقال: برتني، وهي سير الليل. والمدى: جمع مدية، وهي السكين. وجرمي: أي جسدي، مبتدأ مؤخر، خبره: أخف. والجملة: حال من الضمير في «رددنني» أو مفعول ثانٍ لها، وهذا على رواية أخف — بالرفع — وتروى منصوبة، فتكون حالًا، أو مفعولًا ثانيًا. وجرمي: بدل من الياء في: «رددنني»، وإنما أبدل «جرمي» من الضمير لإثبات الوزن وإقامة القافية، وإلَّا فقد تم المعنى دونه، ولا يجوز جعله فاعلًا ﻟ «أخف»؛ لأن أفعل التفضيل لا يرفع الظاهر إلا في مسألة الكحل. يقول: أذهبت السرى لحمي فجعلتني في خفتي على المركوب كنفسي الذي يخرج من فمي.
(٤١٦) نصب «أبصر» عطفًا على موضع الجملة — في البيت السابق — في رواية من رفع، أو على لفظ «أخف» في رواية من نصب. وجو: قصبة اليمامة. وزرقاء: اسم امرأة من أهل «جو» حديدة البصر، تدرك ببصرها الشيء البعيد، فضربت العرب بها المثل، فقالوا: أبصر من زرقاء اليمامة، قالوا: إنها امرأة من جَدِيس كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلما قتلت جديس طسمًا خرج رجل من طسم إلى حسان بن تبع فاستجاشه ورغبه في الغنائم فجهز إليهم جيشًا، فلما صاروا من «جو» على مسيرة ثلاث ليالٍ صعدت الزرقاء فنظرت إلى الجيش، وقد أمروا أن يحمل كل رجل منهم شجرة يستتر بها ليلبسوا عليها. فقالت: يا قوم قد أتتكم الشجر أو أتتكم حمير، فلم يصدقوها فقالت:
أقسمُ بالله لقد دَبَّ الشجرْ أو حمْيرٌ قد أخذت شيئًا يُجر
فلم يصدقوها. فقالت: أحلف بالله لقد أرى رجلًا ينهش كتفًا أو يخصف النعل، فلم يصدقوها ولم يستعدوا حتى صبحهم حسان فاجتاحهم، فأخذ الزرقاء فشق عينيها فإذا فيهما عروق سود من الإثمد، وكانت أول من اكتحل بالإثمد من العرب. وقد ذكرها الشعراء من قديم في شعرهم: مثل النابغة في قصيدته الدالية، والأعشى في قصيدة عينية. فضل المتنبي نفسه على زرقاء اليمامة فقال: إذا نظرت عيناي ساواهما علمي؛ أي أنهما لا يسبقان علمي فإذا رأيت الشيء ببصري علمته بقلبي. وروى ابن جني: شأواهما علمي، والشأو: الأمد والغاية. يقول: إذا نظرت عيناي فغايتاهما أن تعرف ما علمته بقلبي. يعني أنه عارف بأعقاب الأمور، ويروى: شاءهما؛ أي سبقهما، مقلوب «شأى». ويروى أيضًا: سأواهما علمي. والسأو: الهمة؛ أي همة عيني أن تريا ما عرفت.
(٤١٧) الدحو: البسط. والإسكندر: هو ذو القرنين — الذي بنى السد بين يأجوج وبين سائر البلاد كما جاء في القرآن الكريم، وليس هذا موضع تبيين حقيقة هذا السد، وهل ذو القرنين هذا هو الإسكندر المقدوني أو خلافه؟ يصف المتنبي كثرة أسفاره في الأرض وتقلبه في البلاد حتى عرف الأرض كلها، وحتى كأنه بسطها لعلمه بها، ويذكر قوة عزمه على الأمور، حتى كأن الإسكندر بنى السد من عزمه. هذا، وقد فرق أهل اللغة بين السد بالضم وبينه بالفتح، فقال الزجاج: ما كان مسدودًا خلقة فهو سُد — بالضم — وما كان من عمل الناس فهو سَد — بالفتح.
(٤١٨) لألقى: متصلة بقوله: برتني السرى. وأبدع: أي جاء بالأمور البديعة المبتكرة التي لم يسبق لها مثال، يقول: تكلفت المشاق وكابدت شدائد الأسفار لألقى الممدوح المذكور الذي دق فهمه وأبدع في دقة الفهم حتى صار أعظم من أن يوصف بدقة الفهم، فيقال: إنه عالم بالغيب، أو تقول: حتى صار أعظم من أن تدركه الأفهام الدقيقة.
(٤١٩) يلذ بها: يروى: يلذ لها، ويقال: لذذت الشيء ولذذت به: أي استلذذته. وقوله: ولو ضمنت، يروى: «وإن ضمنت». يقول: إنه صحيح اللفظ، مستحلى الكلام، يلتذ السمع بكلامه ولو كان شتمًا، لصحته وعذوبته.
(٤٢٠) قحطان: أبو قبائل اليمن. وقضاعة: قبيل منه. وبنو فهم: حي من قضاعة، وهم رهط الممدوح. والعرنين — في الأصل — ما تحت ملتقى الحاجبين من الأنف. يقول إنه في هؤلاء كاليمين من الجسد، وفي هؤلاء كالرأس والعرنين؛ أي أنه رئيسهم وبه عزهم. والعرنين يجعل مثلا في العز، وكذلك الأنف، وجعله كالبدر في «بني فهم» الذين هم كالنجوم.
(٤٢١) بيَّت الأعداء: طرقهم ليلًا. والصرير والقعقعة: من مرادفات الصوت. والعوالي: الرماح. يقول: إذا وافى أعداءه ليلًا أخفى تدبيره ومكره وتحفظ من قبل أن يفطن له فيأخذهم على غفلة حتى يسمع صرير رماحه بين ضلوعهم قبل أن يسمعوا أصوات اللجم متحركة في أحناك خيله، وحاصل المعنى أنه يهجم عليهم فلا يشعرون به إلا وقد طعنهم برماحه لإسراعه ولطف تدبيره. وقد زلت قدم ابن جني في تفسيره هذا البيت إذ قال: يبادر إلى أخذ الرمح، فإذا لحق إسراج فرسه فذاك، وإلَّا ركبه عريانًا.
(٤٢٢) يئن: مضارع آن يئين؛ أي يحين. وقوله: به، أي على يديه. والموتم: اسم فاعل من أيتم. يقول: هو مذل الأعراب، ومعز الأذلاء، يرفع قومًا ويضع آخرين. ثم قال: وإن حان يتمهم — أي يتم الأعزاء — فهو الموتم وهو في الوقت عينه الجابر اليتم؛ يعني أنه يقتل الآباء ثم يحسن إلى أبنائهم الأيتام ويكفلهم بنعمته.
(٤٢٣) القناة: الرمح، ويريد بممسكها: نفسه، ومن روى: فممسكها — بفتح السين — أراد موضع الإمساك؛ وهو الكف، مثل المدخل والمخرج. ومنه: للتجريد. والعدم: الفقر. يقول: إن أدوى (أدواه: أحدث به داء) قلوب المطعونين بقناته؛ فإن الذي أمسكها هو الذي يشفي من الفقر بعطائه، وقد قابل بين الداء والشفاء.
(٤٢٤) الطاغي: الجائر الذي يتجاوز الحد. وشفرتا السيف: حداه. والهام: الرءوس. يصف سيفه يقول: هو مقلد سيفًا جائر الشفرتين لكثرة ما يقتل. محكمًا في رءوس الأعداء، جائرًا في حكمه، لأنه يحكم بقتلهم جميعًا ولا يبقي منهم أحدًا.
(٤٢٥) تحرج عن الشيء: كف عنه وأمسك تأثمًا. وحقن الدماء: حفظها وتركها في أبدانها. يقول: إنه يريق دماء أعدائه ولا يبقي عليها، فكأنه يرى ترك رأس من رءوس أعدائه على جسمه قتل نفس لا يحلُّ له قتلها؛ أي يتحرج من هذا كما يتحرج من ذاك.
(٤٢٦) قال الواحدي: لما وصفه بكثرة القتل ذكر أنه لا يقتل إلا من يستحق القتل كجده — وكان غازيًا يقتل الكفار — فكان بريئًا من إثم القتل على كثرة ما له من القتلى. وروى ابن جني: كحده بالحاء وقال: أي كحد هذا السيف؛ أي أنه كثير القتل ولا إثم عليه، لأنه لا يضع الشيء في غير موضعه، كما أن حد السيف كثير القتل، وهو غير آثم كما قال أبو تمام:
إن أجرمَتْ لم تنصَّل من جرائمِها وَإنْ أَساءت إلى الأقوام لم تُلمِ
(٤٢٧) مع الحزم: متعلق بقوله: «وجدنا». والحزم: ضبط الإنسان أمره والأخذ فيه بالثقة. يقول: وجدناه ملازمًا للحزم حتى لو تعمد تركه لم يعد مع تركه إلا حازمًا؛ لأن الحزم ملازم له، والمعنى: أنه لاستيلاء الحزم عليه يلحقه تركه إياه بفعله حتى لو أراد ترك الحزم لم يمكنه. وفي هذا نظر إلى قول أبي تمام:
تعوَّد بَسْط الكفِّ حتى لَوَ انَّه ثَنَاهَا لِقبضٍ لم تجبْه أنامِله
ولك أن تقول: إن المعنى أنه لو تعمد ترك ما هو حزم في بادئ الرأي لم يكن تركه إلا لأمر يقتضيه الحزم؛ لأنه يرى ما لا يراه غيره، ولا يضع الأشياء في غير مواضعها.
(٤٢٨) في الحرب: عطف على «مع الحزم». والقدم: التقدم. يقول: هو صاحب الحرب وفي الحرب أبدًا، حتى لو أراد تأخرًا لكان تأخره تقدمًا؛ إذ ليس عنده إلا التقدم. والمعنى: لأخَّره الطبع الكريم عن التأخر إلى التقدم.
(٤٢٩) يقول: بلغت رحمته إلى حد أنها تكاد تحيي العظام وهي رميم. قال الواحدي: أي فضلت عن الأحياء إلى الأموات وغضبه فضل عن صاحب الجرم فضلة هي للجرم؛ يعني أنه يفني بغضبه المجرم وتبقى من غضبه فضلة تفني الجرم الذي اجترمه أيضًا، بمعنى أنه بعد تنكيله بالمجرم لا يجترئ أحد أن يأتي مثل جرمه خوفًا من غضبه فغضبه يفني المجرم وجرمه.
(٤٣٠) رقة الوجه: كناية عن الحياء وكرم الأخلاق. يقول: هو رقيق الوجه حياءً وكرمًا، فلو نظرت إليه لظهر على وجهه أثر نظرك كأثر الختم: ثم لا يذهب ذلك الأثر ولا ينمحي.
(٤٣١) الغواني: جمع غانية، وهي الشابة التي غنيت بجمالها عن الحلي، وقيل: التي غنيت بزوجها عن الرجال، وقيل: التي غنيت ببيت أبويها فلم يقع عليها سباء، وأسكن «الغواني» ضرورة؛ لأنها مفعول أذاق. والصرم: الهجر والمقاطعة — بفتح الصاد وضمها — وقيل: الصَّرم المصدر. والصُّرم: الاسم. يقول: إنه لحسنه تعشقه النساء ولكنه يعف عنهن ولا يواصلهن، فكان ذلك منه جزاء لهن على مصارمتهن إياي.
(٤٣٢) فدًى: خبر عن الموصول بعده. والغبراء: الأرض. والأبي: بمعنى الآبي، وهو الذي يأبى الدنايا. والجائد: الفاعل، من جاد يجود. والقرم: السيد، وأصله: الفحل من الإبل يترك للفحلة ولا يحمل عليه. يقول: يفدي هذا الممدوح كل من على الأرض وأولهم أنا؛ لأنه سيدهم.
(٤٣٣) حال: اعترض. يقول: لقد أخاف سيفه الجن حتى حال بينهم وبين أن يأمنوه، فما ظنك بالإنس بعد خوف الجن، والعرب والعرب واحد، وكذلك العجم والعجم.
(٤٣٤) أرهب: أخلف. والجزع: نفاد الصبر من شدة الخوف. يقول: أخاف كل أحد حتى لو نظر بهيبته إلى درعه لذابت جزعًا من خوفه وجرت مجرى الماء، وهذا من قول الآخر:
لو صالَ من غضب أبو دُلف على بيضِ السيوفِ لَذُبْنَ في الأغماد
هذا، ويقال: فَحْم وفَحَم مثل نهر ونهر، وفي المثل: لو كنت أنفخ في فحم؛ أي لو كنت أعمل في عائدة. قال الأغلب العجلي:
هل غيرُ غار هدَّ غارًا فانهدَم قد قاتلوا لو ينفُخون في فحم
وصبروا لو صبروا على أَممْ
يقول: لو كان قتالهم يغني شيئًا، ولكنه لا يغني فكان كالذي ينفخ نارًا ولا فحم ولا حطب، فلا تتقد النار، يضرب هذا المثل للرجل يمارس أمرًا لا يجدي عليه، والفحيم كالفحم. قال امرؤ القيس:
وإذ هي سوداءُ مثل الفحيم تُغَشِّي المطانِبَ والمنكِبا
(وإذ هي سوداء: يعني اللمة، وذلك دليل الشباب والفتوة. والمطانب: جمع المطنب، وهو حبل العاتق الممتد إلى المنكب.)
(٤٣٥) غير شارب: حال. وابنة الكرم: الخمر. يقول: جاد بالأموال فأكثر وتخرق في الكرم، فلولا أننا رأيناه صاحيًا لقلنا: كريم هيجته الخمر فحركته إلى الجود وابتعثته عليه، وقد جانس بين الكريم والكرم. وهذا من قول البحتري:
صحَا واهتز للمعرو ف حتى قيل: نشوانُ
(٤٣٦) طوع الدهر: لك أن تجعل المصدر مضافًا إلى الفاعل، فيكون المعنى: أطعناك كما أطاعك الدهر، ولك أن تجعله مضافًا إلى المفعول: فيكون المعنى أطعناك غاية الطاعة شهوة منا لطاعتك كما نطيع الدهر — ولا ينفك أحد من طاعة الدهر — وأطاعك حاسدوك على الرغم منهم خوفًا منك. هذا وقوله: الحاسدو لك، أراد والحاسدون، فحذف النون، لأنه شبهه بالفعل، كأنه قال: والذين حسدوك ومثل هذا كثير، قال عبيد بن الأبرص:
ولقد يَغنَى به جيرانُكِ الـ ـمُمسـكو منكِ بأسباب الوِصالْ
أراد الممسكون، وأنشد جميع النحويين:
والحافظو عورةَ العشيرة لا يأتيهمِ من ورائنا وكَفُ
من قصيدة لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي، وقبله:
نحنُ المكيثون حيث نُحمد بالـ ـمكث ونحنُ المصالتُ الأنفُ
والمكيثون: جمع مكيث، فعيل من المكث، وهو اللبث — الانتظار — والمراد هنا الصبر والرزانة. والمصالت: جمع مصلت، وهو الماضي في الأمور لا يهاب شيئًا. والأنف: جمع آنف، من الأنفة، وهي الحمية. والحافظو: عطف على «المصالت». والعورة: المكان الذي يخاف منه العدو. والوكف: العيب والإثم. يقول: ونحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون به من تضييع ثغرهم وقلة رعايته. «راجع القصيدة وقصتها وشرحها في الجزء ٤ ص٢٠٥ من «الخزانة» طبعة السلفية».)
أراد: الحافظون، ولذلك نصب عورة، وقرأ بعض القراء: وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةَ بنصب «الصلاة». وارتفع الحاسدو بالعطف على الضمير في «أطعناك» وحسن العطف على الضمير المرفوع، وإن لم يؤكد، لطول الكلام.
(٤٣٧) خلناك: حسبناك. والوهم: تخيل الشيء وتمثله كان في الوجود أو لم يكن. وقال الجوهري: وَهَمْتُ في الشيء — بالفتح — أهم وهمًا: إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره. وتوهمت: أي ظننت. ووهِم — بكسر الهاء: غلط وسها. يقول: وثقنا بأنك تعطينا لما تحققناه من جودك فلو لم تعطنا لظنناك قد أعطيتنا.
(٤٣٨) التقريظ: المدح. وقوله: الذي يدعو، أراد يدعوني، فحذف المفعول. يقول: لكثرة مدحي إياك دعيت مادحك وشاعرك، والذي يدعوني يظن أن اسمي ثنائي عليك فيقول يا مثني فلان — يا مادح فلان — وبعبارة أخرى: لقد اشتهرت بمدحك بين الناس حتى سموني مادح فلان، وصار الذي يريد أن يدعوني، يناديني بهذا اللفظ، لظنه أني مسمًى به. وقال ابن جني: أنا أمدحك بالشعر، فيقول الناس هذا شاعر الأمير، فاشتق لي من مدحك اسم. وهذا المعنى من قول الناس: من أكثر من شيء عرف به، وقد قال جعفر بن كثير لجميل: قد ملأت البلاد بذكر بثينة وصار اسمها لك نسبًا وإني لأظنها حديدة العرقوب دقيقة الظنبوب. وقد نقل المتنبي هذا من قول البحتري:
وما أنا إلا عبدُ نعمتكَ التي نُسِبْتُ إليها دون رهطي ومعشري
(٤٣٩) يقول: قد نلت بجودك كل ما أردت، ولما أدركت ذلك طمعت فيما لا ينال؛ لأن من نال ما أراد طمع فيما وراءه مما لا يناله، ولم يزل بي هذا الطمع حتى صرت أطمع في إدراك النجوم حتى أنالها، كما قال البحتري:
لِمَ لا أَمُدُّ يدي حتى أنال بها زُهْر النجوم إذا ما كنت لي عضدا
(٤٤٠) القرن: الكفء في الحرب. وأجزتني: أعطيتني جائزة، وهي العطاء. والكلم: الجرح. يقول: إذا أردت أن تعطيني وقد ضربت أحد أقرانك في الوغى، فاجعل عطائي ملء جرحه ذهبًا، فإن ذلك يكون كفيلًا لي بالغنى. يصفه بسعة الضربة وبعد غور جرحه ورحابته.
(٤٤١) يمنية: تروى عربية. والنخوة: الكبر. يريد بها ترفعه عن الدنايا وعما يورثه عيبًا. والمأزق: المضيق، والمراد به: ساحة الحرب، يقول: ترفعك عن النقائص ونفسك التي ترمي بها أبدًا في مآزق الحرب يأبيان ذمي لك؛ أي لا موضع للذم فيك، لأنك مترفع عن كل ما يزري بك؛ لأنك كريم شجاع.
(٤٤٢) القرا: الظهر. والمكمن: المخبأ. والدهم: الكثير. يقول: كم من قائل يقول: لو كان جسمه على قدر نفسه وهمته، لاختفى وراء ظهره الجيش العظيم.
(٤٤٣) وقائلة: أي ورب قائلة، والأرض: منصوب بأعني، وتعجبًا: مفعول له، أو حال، ولك أن تجعله مفعولًا مطلقًا لفعل محذوف: أي أتعجب تعجبًا. وعليَّ امرؤ: مبتدأ وخبر. وقوله: بوقري؛ أي بمثل وقري، أي ثقلي. يصف رزانته وثقل حلمه، يقول: إن الأرض تقول: تعجبت تعجبًا يمشي علي امرؤ ثقيل حلمه كثقلي.
(٤٤٤) الضمير من «وهو العظم»: يرجع إلى التواضع المفهوم من قوله: تواضعت. والجملة: معترضة. وعظمًا: مصدر في موضع الحال من «التاء» في «تواضعت». وعن العظم: متعلق بعظمًا. يقول: أنت عظيم القدر والنفس والهمة، فلم يكلمك الناس مهابة لك، فلما هابوك تواضعت متعظمًا عن تلك العظمة، وهذا التواضع والتعظيم عن العظمة هو عين العظمة؛ لأن تواضع الشريف عن شرفه هو الشرف كل الشرف.
(٤٤٥) أحق — أي أولى وأجدر: خبر مقدم عن الهمم. والعافي: الدارس الذاهب، من عفت الديار؛ درست. والقدم: خلاف الحدوث. يقول: أحق عافٍ بأن يبكى عليه هو همم الكرام التي قد درست وذهبت؛ أي أنها أولى بالبكاء من الدمن والأطلال. ثم قال: إن القدم أحدث الأشياء عهدًا بها — أي بالهمم — أي أن دروسها قديم، وإذن لا عهد لأحد بها. قال الواحدي: لأن المحدثات تتأخر عن القدم، وإذا كان القدم أحدث الأشياء عهدًا بها فلا عهد بها لأحد، وهذا كما تقول أحدث الناس عهدًا بها آدم، دل هذا على أنه لا عهد بها لأحد من الناس. وقال ابن جني: سألته — أي المتنبي — عن معنى هذا البيت، فقال: أحق ما صرفت إليه بكاءك همم الناس؛ لأنها قد عفت ودرست فصار أحدثها عهدًا قديمًا. وعبارة التبريزي: أحق عافٍ بأن يبكى عليه همم الكرام؛ لأنها قد عفت كما تعفو الربوع، فهن أحق بدمعك من كل الدارسات، وجعل القدم أحدث الأشياء عهدًا بالهمم: أي أن دروسها قديم، فلا همم في الأرض.
(٤٤٦) يقول: إن الناس بالملوك يرتفعون، والعرب إذا ملكهم العجم لم يفلحوا؛ لما بينهما من التباين والتنافر واختلاف الطبائع واللغة. ثم بين هذا في البيت التالي. هذا، وقد قال أبو عبيد: أصل الفلاح البقاء، وأنشد للأضبط بن قريع:
لكلِّ هم من الأمور سعَهْ وَالْمُسْيُ والصبحُ لا فلاح معه
يعني ليس مع كر الليل والنهار بقاء، ثم كثر استعماله حتى صار يطلق على الفوز بكل ما يغتبط به، وفيه صلاح حال.
(٤٤٧) الحسب: ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: الحسب الفعال الصالح. والذمم: جمع ذمة، وهي الأمان والعهد.
(٤٤٨) قوله: ترعى بعبد: يريد عبيد الخلفاء من الأتراك الذين كانوا يؤمرون على الناس.
(٤٤٩) الخز: ثياب تعمل من الأبريسم؛ أي الحرير الصرف لا يشوبها قطن ولا كتان. يقول: يرى من كبريائه الخز خشنًا، وكان قبلًا رثًّا حافيًا طويل الأظفار.
(٤٥٠) يقول: إني — وإن لمت حسادي — لا أنكر أنهم معذورون في حسدي؛ لأنهم معاقبون بتقدمي عليهم، وظهور نقصانهم بزيادة فضلي.
(٤٥١) العلم: الجبل؛ أي شهير كالعلم. والهامة: الرأس، وهذا تأكيد لبيان عذرهم في الحسد. يقول: لم لا يحسد من صار كالعلم في كل فضل؛ أي اشتهر وصار كالمشار إليه، وعلا الناس كلهم فصارت قدمه فوق الهامات، يعني علت درجته درجاتهم. وقد نظر في هذا إلى قول البحتري:
واعذر حسودَك فيما قد خُصِصْتَ به إن العُلَا حسَنٌ فِي مثلها الحسدُ
(٤٥٢) أبسأ الرجال به: أي آنسهم به وآلفهم له، يقال: بسأت بالشيء؛ إذا أذهبت هيبته من قلبك. وتتقي: تحذر. والبهم: جمع بهمة؛ البطل الذي لا يدري من أين يؤتى من شدة بأسه. يقول: كيف لا يحسد من كان من الهيبة بحيث يهابه أنيسه، ومن الشجاعة بحيث تتقيه الأبطال؟!
(٤٥٣) كفاه الشيء: صرفه عنه. وأنني: فاعل كفى. والكرم: نقيض اللؤم. يقول: منع عني الذم أني رجل كريم أرى ما بي من الكرم أعز شيء أملُكه وأصونه ببذل المال دونه وأبخل به بخل غيري بالمال.
(٤٥٤) اللئيم: الدنيء الأصل، الشحيح النفس، نقيض الكريم. والعدم — بفتح العين والدال، وبضم العين وسكون الدال وبضمها: الفقر وقلة المال. ويجني لهم: يكسب لهم. يقول: إن غنى اللئيم لو علم يجني عليه ما لا يجنيه الفقر؛ لأن الفقر يقطع عنه الطمع ولا يظهر لؤمه، لأنه لا يقصد في حاجة. أما الغنى فإنه يظهر لؤمه؛ لأن الأطماع تتصل به، ولؤمه يمنع من تحقيقها، فيتوجه عليه الذم.
(٤٥٥) الضمير في «لسن» للأموال، والتأم الجرح: التحم. يقول: إن اللئام مملوكون لأموالهم؛ لأنهم يتعبون في سبيل حفظها وجمعها ومنعها وهي كأنها تشير عليهم بأن يصونوها ولا يبذلوها فيطيعونها. وهم لا يملكونها؛ لأنهم ليست لهم قدرة على البذل لها، ولا أن يكسبوا بها محمدة في الدنيا أو أجرًا ومثوبة في العقبى، فضلًا عن أنها صائرة إلى الوارث. وإذن: فهم للأموال وليست لهم، وبهذا يوصف اللئيم المكثر، كما قال حاتم الطائي:
إذا كان بعضُ المال رَبًّا لِأهلهِ فإني بحَمدِ الله مالي معبَّدُ
وقال آخر:
ذريني أكُنْ ربًّا ولا يكنْ لِيَ المال ربَّا تَحْمدي غِبَّه غدًا
وقال أبو نواس:
أنتَ للمالِ إذا أَمْسكْتَه فإذا أنْفَقْتَه فالمال لَكْ
وقال المخزومي:
إنَّ رَبَّ المالِ آكِلُه وهْوَ لِلْبُخَّال أَكَّالُ
ثم قال: إن العار أبقى من الجرح؛ لأن جرح السيف يبرأ ويلتم. أما جرح العار فإنه يبقى ولا يزول عن صاحبه.
(٤٥٦) الكاف من «كعلي»: في موضع نصب خبر «يكن»؛ أي مثل علي. وجملة «وهو يبتسم»: في موضع الحال. وقوله: يهب الألف؛ أي من الدنانير.
(٤٥٧) ويطعن الخيل: أي فرسانها. وكل نافذة: أي كل طعنة نافذة؛ أي تنفذ في المطعون إلى الجانب الآخر. والوحاء: السرعة. يقول: إن مطعونه لا يحس بألم الطعنة؛ لأنها — لسرعتها — تقتله قبل أن يدرك ألمها. قال ابن جني: لم توصف الطعنة بوحاء أسرع من هذا. وقد قال غيره في السيف:
ترَى ضرَبَاتِهِ أبدًا خِطابًا إلى أن يستبين له قتيل
(٤٥٨) الموقع — ها هنا — مصدر بمعنى الوقوع. يريد أن يقول: إنما يندم من لا يعرف العواقب أما من يعرف الأمر قبل وقوعه، فإنه لا يندم على فعله؛ لأنه يعلم وجه الصواب فيه فيفعله عن بصيرة ومعرفة، فلا يلم به بعد ذلك ما يبعثه على الندم. وعبارة ابن جني: إذا حمل هذا البيت على صحة الظن كان كما قال أوس بن حجر:
الْأَلْمَعِيُّ الذي يظنُّ بِكَ الظَّنـْ ـنَ كأن قد رأى وقد سمعا
أي هذا الممدوح لا يندم لأنه لا يفرط في الأمور، وإنما يندم من ضيع حزمه وقت المنفعة. وقد شرح هذا الغرض من قال:
إذا أنتَ لم تزْرعْ وأبصرت حاصِدًا نَدِمْتَ على التفريطِ في زمنِ الْبَذْرِ
(٤٥٩) السلاهب: الخيل الطوال، جمع سلهب وسلهبة، يقال: فرس سلهب وسلهبة للذكر: إذا عظم وطال وطالت عظامه. والبيض: السيوف. والحشم: أتباع الرجل الذين يغضبون لغضبه ويرضون لرضاه. يقول: له هذه الأشياء لأنه ملك. فقوله: والأمر: ابتداء، وما بعده عطف عليه، والخبر قوله: له.
(٤٦٠) السطوات: جمع سطوة، وهي القهر بالبطش، وسطا عليه وبه سطوًا وسطوة: صال. والقصم — بالقاف — أن ينكسر الشيء فيبين، وأما الفصم — بالفاء — فهو أن ينصدع الشيء من غير أن يبين. قال ذو الرمة يصف ظبيًا قد انحنى في نومه فشبهه بدملج — ما يلبس في المعصم من الحلي — قد انفصم:
كأَنَّهُ دُمْلجٌ مِن فِضَّةٍ نَبَهٌ في ملعبٍ من عَذَارَى الْحَيِّ مفصومُ
(شبه الغزال وهو نائم بدملج فضة قد طرح ونسي، وكل شيء سقط من إنسان لنسيه، ولم يهتد إليه: فهو نبه، وجعله مفصومًا لتثنيه وانحنائه إذا نام. ونبه هنا بدل من «دملج» ويقال أصله نبهًا: أي لم يدر متى ضل. قال الأصمعي: أضلوه نبهًا: لا يدرون متى ضل حتى انتبهوا له. وذهب ابن بري إلى أن النبه هنا الشيء المشهور. قال: شبه ولد الظبية حين انعطف لما سقته أمه فروى بدملج فضة نبه — أي بدملج أبيض نقي — كما كان ولد الظبية كذلك. وقال: في ملعب من عذارى الحي؛ لأن ملعب الحي قد عدل به عن الطريق المسلوك، كما أن الظبية قد عدلت بولدها عن طريق الصياد. وقوله: مفصوم ولم يقل مقصوم؛ لأن الفصم الصدع والقصم الكسر والتبري، وإنما يريد أن الخشف — ولد الظبية — لما جمع رأسه إلى فخذه واستدار كدملج مفصوم: أي مصدوع من غير انفراج.)
يقول: وله السطوات المشهورة التي يتحدث بها الناس، وتتسامع أخبارها، والتي تكاد الجبال تتصدع وتنهد لها لشدتها.
(٤٦١) يقال: أرعني سمعك — أي اصغ به إليَّ واستمع مني. ومعناه اجعل سمعك لكلامي بمنزلة الموضع الذي يرعى فيه ويتصرف، والضمير من فيه في الشطرين للسمع. والخنا: الفحش في الكلام. يقول: هو يسمع الداعي إذا دعاه واستغاث به لنصرة أو فعل مكرمة، فهو عند ذلك سميع، ويعرض عن الفحش كأن به صممًا. هذا، والداعي: رواها ابن جني بدون ياء، وقال: أراد الداعي وقد حذف القراء ياء الداعي في مواضع من القرآن الكريم وأثبتوها في مواضع، فأثبتها أبو عمرو وورش عن نافع في قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وصلًا، وحذفاها وقفًا اتباعًا للمصحف، وأثبتها البزي وقفًا ووصلًا في قوله: يَدْعُ الدَّاعِ في سورة القمر. وأثبتها وصلًا أبو عمرو وورش، وإلى الداعي أثبتها في الحالين ابن كثير وفي الوصل نافع وأبو عمرو وحذف الجميع الباقون وصلًا ووقفًا اتباعًا للمصحف.
(٤٦٢) خلقه: مصدر؛ أي إبداعه. وغرائبه: منصوب به. والنسم: جمع نسمة، وهي نفس الروح وذو الروح. قال الشاعر:
ما صوَّرَ اللهُ حِين صوَّرها في سائرِ الناس مثلها نَسَمَه
يقول: إن خلقه غرائب المجد، وإبداعه من المكارم ما لم يسبق إلى مثله يعرفك ويصحح لك خلق الله — عز وجل — النسم؛ لأن المخلوق إذا كان قادرًا على خلق شيء كان الخالق أولى بالقدرة عليه. وقال ابن جني: أراك كيف يخلق الله النفوس، يعظم قدر ما يأتيه، كأنه شبه أفعاله بأفعال الله تعالى.
(٤٦٣) يخاطب صاحبيه على عادة العرب. يقول: إني عدلت إلى زيارة رجل لو جئتما يا صاحبي تسألانه يكاد ينقسم بينكما، فيصير لكل واحد منكما نصفه إن سألتماه نفسه، وهذا مبالغة في الجود.
(٤٦٤) الشنوف: جمع شنف، وهو ما يعلق في أعلى الأذن. أما القرط: فهو ما يعلق في شحمة الأذن. والخدم: جمع خدمة، وهي الخلخال. وقوله: من بعد: متعلق ﺑ «ملت» — في البيت السابق — يقول: ملت إلى زيارته من بعد ما كثرت عطاياه عندي حتى صغت لمن أحبه الشنوف والخلاخل من الذهب الذي أعطاني: يعني أن عطاءه وصل إليَّ قبل زيارته.
(٤٦٥) تهدى: اهتدى. يقول: لم تبذل يد ما يجود به، ولا اهتدى فم لأن يأتي بما يقول، يعني أنه أجود الناس بنانًا وأفصحهم لسانًا.
(٤٦٦) بنو العفرنى: مبتدأ، خبره: الأسد، والعفرنى: الأسد القوي، والنون زائدة وأصله من العفر، كأنه يعفر صيده لقوته. ومحطة: اسم جد الممدوح وهو في موضع خفض؛ لأنه بدل من «العفرنى»، إلا أنه لا ينصرف. والأسد: صفة لمحطة — وروى الخوارزمي: محطةِ — بالجر — جعله من الحط، وهو الوضع أي أنه يحط الأسد عن منزلته وشجاعته. والأجم: جمع أجمة؛ الغابة يأوي إليها الأسد. يقول: إن بني محطة الذي هو أسد، أسود مثله، لكن غاباتهم التي يستعصمون بها إنما هي الرماح بدل الآجام التي يمتنع بها الأسود، كما قال علي بن جبلة:
كَأَنَّهُمْ وَالرِّمَاحُ شَائِلةٌ أُسْدٌ عَليْهَا أظَلَّتِ الْأجَمُ
وقال أبو تمام:
آسادُ موتٍ مُخْدِرَاتٌ مَالها إلَّا الصَّوَارِمَ والقنا آجامُ
وقال أيضًا:
أُسدُ العرين إذا ما الموتُ صبَّحها أو صبَّحَتْه ولكن غابها الأسلُ
ولنرتد إلى عفرنى فنقول: يقال: أسد عفرنى ولبوة عفرنى أيضًا، والنون للإلحاق بسفرجل، وناقة عفرناة: أي قوية، قال عمر بن لجأ التيمي يصف إبلًا:
حمَّلْتُ أثقالي مصمِّماتها غُلْبَ الذفارى وعفَرْنيانها
(الذفارى: جمع الذفرى، والذفرى من القفا: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن. والغلب: جمع الأغلب، وهو الغليظ — يقال: عنق أغلب؛ أي غليظ.)
(٤٦٧) قوم: أي هم قوم. والنحور: جمع نحر، وهو موضع القلادة. والكماة: جمع كمي، وهو البطل المستتر في سلاحه. والحلم: البلوغ. يقول: هم قوم بلوغ الغلام عندهم أن يحمل على الأعداء في الحرب ويطعنهم في نحورهم، لا أن يبلغ سن الحلم، فذاك هو معنى الرجولية عندهم. قال أبو دلف:
علامة القوم في بُلوغِهمِ أن يُرْضِعُوا السيف مُهجةَ البطلِ
وقال يحيى بن زيد بن علي بن الحسين:
خرجنا نُقيمُ الدين بعد اعْوجاجه سويًّا وَلم نخرُج لِجَمْعِ الدِّرهم
إذا أحْكم التنزِيلُ والحلمُ طِفلنَا فإن بُلوغَ الطفْلِ ضَرْبُ الْجَمَاجِم
(٤٦٨) الندى: الجود، والهرم: الكبر والعجز عن التصرف. يقول: إنهم نشئوا مع الجود وفطروا عليه، فلا يحول دون جودهم حائل من عجز، فهم أجواد على كل حال. وهذا من قول البحتري:
عريقونَ في الإفضال يُؤْتَنَفُ الندى لناشِئهمْ من حَيثُ يُؤْتنفُ العُمرُ
(٤٦٩) الصنيعة: المعروف. يقول: إذا عادوا أحدًا جاهروا بعداوته؛ لأنهم لا يخافون عدوًّا، وإذا اصطنعوا صنيعة أخفوها ولم يباهوا بها، حياء ونبلًا.
(٤٧٠) يقول: إنهم لا يعتدون بما صنعوا من المعروف، لتناسيهم وغفلتهم عنه، كأنهم لم يعلموا به. كما قال الخريمي:
زاد معْرُوفَكَ عِندِي عِظَمًا أَنهُ عِنْدَكَ مَسْتورٌ حقِيرْ
تَتنَاساهُ كَأَن لَمْ تأْتِهِ وَهْوَ عندَ الناسِ مَشهورٌ كَثيرْ
وقال الآخر:
وَمن تكرُّمِهمْ في الْمَحْل أَنهمُ لَا يَعلَمُ الجَارُ فِيهمْ أنَّهُ جَارُ
«المحل: الجدب.»
(٤٧١) برقوا: خوفوا وهددوا. والحتوف: جمع حتف، وهو الهلاك. يقول: إذا هددوا أعداءهم حضر هلاكهم، وإن نطقوا تكلموا الصواب والحكمة.
(٤٧٢) الغموس: اليمين التي من كذب فيها غمسته في الإثم. يقول: إذا أرادوا أن يحلفوا يمينًا يخافون فيها الإثم عند الحنث فتلك اليمين هي أن يقول حالفهم: «خاب سائلي إن فعلت كذا أو لم أفعل كذا»؛ لأن هذه اليمين أعظم شيء عليهم. ومن أحسن ما سمع في القسم قول الأشتر النخعي الشاعر الصحابي ومن أنصار سيدنا علي كرم الله وجهه:
بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَا وَلَقِيتُ أَضيافي بِوجهِ عبوس
إن لم أشُنَّ عَلَى ابن هِنْدٍ غارة لم تَخْلُ يَوْمًا مِن نِهَابِ نفوس
خَيْلًا كَأَمْثَال السَّعالِي شُزَّبًا تَعْدُو بِبيضٍ في الكريهةِ شُوسِ
حَمِيَ الحديد عليهِم فَكَأَنَّه لَمَعَانُ بَرقٍ أَوْ شُعَاعُ شُمُوسِ
«السعالي: جمع سعلاة؛ سحرة الجن، أو الغول. والشزب: الضوامر. يصف الخيل بالنشاط والضمور. والبيض: يريد الفرسان، يصفهم بأنهم كرام نقية أعراضهم. وفي الكريهة: صلة شوس، وشوس: جمع أشوس، وهو الشديد الجريء على القتال. يقول: إنهم شجعان في الحرب.»
(٤٧٣) يقول: إذا ركبوا الخيل عريًا لكثرة ما يطرقهم المستغيث فلم يمهلهم حتى يسرجوا خيلهم صارت أفخاذهم حزمًا لهم تمنعهم من الوقوع إذا أجروها كما يمنع الحزام السرج أن يقع فيقع الراكب.
(٤٧٤) اللاقح: الحرب الشديدة، شبهت بالناقة إذا حملت. والمهج: جمع مهجة؛ دم القلب. والدارع: لابس الدرع. يقول: إذا شهدوا الحرب ونازلوا الأبطال تحكموا في الأرواح فقتلوا من أرادوا.
(٤٧٥) الأعراض: جمع عرض؛ ما يمدح به الإنسان ويذم. والشيم: الخلائق. أي كأن أعراضهم خلائق تشرق في نفوسهم؛ يصفهم بنقاء الأعراض والوجوه والشيم. وهذا ينظر إلى قول أبي الطمحان القيني:
أَضَاءتْ لُهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوَجُوهُهُمْ دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّم الْجِزْعَ ثاقِبهُ
وقول الآخر:
فإن كان خطب أو ألمت ملمة كفى خابِطَ الظلماء فقدَ المصابحِ
(٤٧٦) يريد بالبحيرة: بحيرة طبرية. والغور: منخفض بالشام، بجوار بلد الممدوح. والشبم: البارد. يقول: لولاك لم أترك البحيرة وماؤها بارد وجئت بلدك الدفيء الحار. وقال بعضهم: المراد بالغور: المكان المجاور طبرية، فيكون المعنى: لولاك لم أترك البحيرة وماؤها بارد وغورها دفيء.
(٤٧٧) الموج: جمع موجة، ومن ثم قال: مثل الفحول. ولك أن ترفع مثل وتنصب مزبدة، على أن مثل خبر ومزبدة حال من الفحول، ولك أن تعكس فتجعل «مثل» حالًا من فاعل مزبدة ومزبدة خبر، والضمير من «تهدر بها» للموج، ومن «فيها» للبحيرة. وهدر الفحل: إذا هاج وأخرج زبده. والقطم: شهوة الضراب وهياج الفحل عند ذلك. شبه الأمواج في اضطرابها وما يسمع من صوتها بالفحول إذا هاجت واشتهت الضراب فرمت بالزبد من أفواهها. ومعنى تهدر فيها: تصيح في البحيرة هديرًا مثل هدير الفحول وما بها شهوة الضراب.
(٤٧٨) الحباب: طرائق الماء عند اختلاف الأمواج. وقوله: فرسان بلق: أراد فرسان خيل بلق، والبلق: التي فيها سواد وبياض. جعل الأمواج بلقًا؛ لأن زبد الماء أبيض وما ليس بزبد فهو إلى الخضرة. وتخونها اللجم: الضمير للفرسان؛ أي تنقطع أعنتها، فتذهب الخيل حيث شاءت. يريد تصرف الموج على غير مراد الطائر في كل وجه. وقال ابن جني: تخونها اللجم: فهي تكبو؛ يريد رفرفة الطير على الماء ثم انغماسها فيه. قال الواحدي: وليس هذا بشيء لأن الفرس إذا انقطع لجامه لم يكبُ، وليست الرفرفة والانغماس مما ذكر في البيت، وإنما بناهما على الكبو الذي ذكره.
(٤٧٩) كأنها: أي الطير. والوغى: الحرب. شبه الطيور وهي يتبع بعضها بعضًا على وجه الماء تضربها الريح بجيشين: هازم ومنهزم فالهازم يتبع المهزوم، ولك أن تقول كأنها — أي الطير والموج — لأن الريح تضربهما معًا فتتتابع الطير على أثر الموج.
(٤٨٠) حف به: أحاط به، قال الواحدي: وكان حقه أن يقول حفه، كما روي في الحديث: «حفت الجنة بالمكاره.» والجنان: جمع جنة، وهي البستان، شبه ماء البحيرة في صفائه — وقد أحاطت به البساتين في خضرتها الضاربة إلى السواد — بقمر أحاطت به ظلمات، وخص النهار؛ لأن هذا الوصف لها بالنهار دون الليل. قال العكبري: وشبه شدة الخضرة حولها بالسواد على حد قوله تعالى: مُدْهَامَّتَانِ؛ أي سوداوان. وقال: حف به ولم يقل: حفه؛ لأنه ضمنه معنى أحاط فعداه تعديته على حد قوله تعالى: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ؛ أي لطف بي وكقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ؛ أي يخرجون عن أمره.
(٤٨١) قال العكبري: لما وصف البحيرة ألغز فيها فقال: لا عظام لها وهي ناعمة الجسم وبناتها السمك؛ أي أن البحيرة ماء والسمك بناتها فهن أمهن وما لها رحم.
(٤٨٢) لما جعلها ناعمة الجسم وجعل لها بنات كنى عن استخراج سمكها وصيدها منها بالبقر، وهو شق البطن.
(٤٨٣) جادت: من الجَود — بفتح الجيم — وهو المطر. والديم: جمع ديمة، وهي المطر الدائم في سكون.
(٤٨٤) الماوية: المرآة، وجعلها مطوقة لما حولها من سواد البساتين. والأدم: الجلد، وهو بيان للغشاء. شبه البحيرة — مع ما يحدق بها من البساتين — بالمرآة وقد جردت مما تغلف به من الجلد.
(٤٨٥) يشينها: يعيبها. والأدعياء: الذين ينسبون إلى غير آبائهم. والقزم: رذال الناس وسفلتهم، يستعمل للواحد وغيره، يقال: هذا رجل قزم وناس قزم. يقول: إن عيب هذه البحيرة أنها في بلد أهله لئام خساس.
(٤٨٦) يقول: إن فعلكم يمدحكم قبل أن ينظم في الشعر؛ أي إنه لحسنه يثني عليكم. ويروى في العقل: يعني أن الناس عقلوا مدحكم قبل أن يتكلموا به.
(٤٨٧) العهاد: جمع عهد، وهو المطر بعد المطر. وقيل: أمطار بعضها في أثر بعض، ومنه — أي من المدح: والمطرة التي تسم هي الوسمى، وهو مطر الربيع الأول، فهو الذي يسم الأرض بالنبات. شبه مدائحه فيهم بالأمطار المتتابعة؛ لأنها تنبت له أنعامهم عليه، وأراد بالتي تسم هذه القصيدة.
(٤٨٨) يقول: إن الدهر مولع بالكرام يأتي عليهم ويعصف بهم، ومن ثم أسأل الله أن يعصمكم من نوائبه. وفي هذا المعنى يقول البحتري:
أَلَمْ تَرَ لِلنَّوَائِب كَيْفَ تَسْمُو إلَى أَهْلِ النَّوَافِلِ وَالْفُضُولِ
وَكَيْفَ تَرُومُ لِلشَّرَفِ المُعَلَّى وَتَخْطُو صَاحِبَ الْقَدْرِ الضَّئِيلِ
وَمَا تَنْفَكُّ أَحْدَاثُ اللَّيالِي تميلُ عَلَى النَّبَاهَةِ للْخُمُولِ
«النوافل: جمع نافلة، كل عطية تبرع بها معطيها من صدقة أو عمل خير. والفضول: الإفضال والتفضل.»
وأصل المعنى لأبي تمام:
إنْ يَنْتَحِلْ حَدَثَانُ الدَّهْرِ أنْفُسَكُمْ وَيَسْلَمِ النَّاسُ بَيْنَ الْحَوْضِ وَالْعَطَنِ
فَالْمَاءُ لَيْسَ عَجيبًا أَنَّ أعْذَبَهُ يَفنَى وَيَمْتَدُّ عُمْرُ الآجِنِ الأَسِنِ
(الآجن: الماء المتغير الطعم واللون. والأسن: الآسن، وهو الآجن.)
(٤٨٩) فؤاد: لك أن تجعله مبتدأ، محذوف الخبر؛ أي لي فؤاد. أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي فؤادي فؤاد. والمدام: الخمر. واللئيم: هو الذي يتلاقى فيه الشح ومهانة النفس والآباء، نقيض الكريم. قال ابن فورجه: يعني أن غرضي بعيد ومرامي متعذر؛ إذ لست كالناس أرضى بما يرضون به ويلهيني السكر. ثم قال المتنبي: وعمر مثل ما تهب اللئام، وهذا تأسف منه؛ يقول: لو كان العمر طويلًا لرجوت أن أدرك أغراضي بطول العمر، ولكن العمر قصير ومدته قليلة، فهو كهبة اللئام يسيرة حقيرة، فما أخوفني أن لا أدرك طلبتي بقدر ما أرجوه من العمر. قال الواحدي: وكأن هذا من قول أبي تمام:
وَكَأَنَّ الْأَنَامِلَ اعْتَصَرَتْهَا بَعْدَ كَدٍّ مِنْ مَاءِ وَجْهِ البَخِيلِ
(٤٩٠) يقول: إنهم صغار الأقدار والهمم وإن كانوا ضخام الأبدان، كما قال حسان بن ثابت:
لَا عَيْبَ بالْقَوْمِ مِنْ طُولٍ وَمِنْ قِصَرِ جِسْمُ البِغَالِ وَأَحْلَامُ العَصَافير
وقال العباس بن مرداس:
فَمَا عِظَمُ الرِّجَالِ لَهُمْ بِفَخْرٍ وَلكِنْ فَخْرُهُمْ كَرَمٌ وخِيرُ
هذا، وقال أهل اللغة: الجثة: شخص الإنسان قاعدًا أو نائمًا، وقيل: جثة الإنسان شخصه متكئًا أو مضطجعًا، وقيل لا يقال له جثة إلا أن يكون قاعدًا أو نائمًا، فأما القائم فلا يقال جثته إنما يقال: قمته، وقيل: لا يقال جثة إلا أن يكون على سرج أو رحل معتمًا. حكاه ابن دريد عن الأخفش، قال: وهذا شيء لم يسمع من غيره.
(٤٩١) الرغام: التراب. يقول: لست من هؤلاء الذين ذكرتهم وإن عشت فيما بينهم مثلي في ذلك مثل الذهب الذي معدنه التراب ثم لا يعد بكونه فيه منه. هذا، والمعدن بكسر الدال: مكان كل شيء فيه أصله ومبدؤه. ومنه معدن الذهب والفضة؛ سمي كذلك لإنبات الله فيه جوهرهما وإثباته إياه في الأرض حتى عدن — أي ثبت — فيها.
(٤٩٢) المعهود في مثل هذا أن يقال: هم ملوك، إلا أنهم في طبع الأرانب، لكنه عكس الكلام مبالغة، فجعل الأرانب حقيقة لهم والملوك مستعارًا فيهم. قال ابن جني: وهذا عادة له — للمتنبي — يختص بها. يقول: هم وإن انفتحت عيونهم نيام من حيث الغفلة كالأرانب تنام مفتحة الأعين، كما قال:
وَأَنْتَ إِذَا اسْتَيْقَظْتَ أَيْضًا فَنَائِمُ
وكما قال أبو تمام:
أيْقَظْتَ هَاجِعَهُمْ وَهَلْ يُغْنيهُمُ سَهُر النَّواظِرِ وَالقُلُوبُ نِيَامُ؟!
(٤٩٣) بأجسام: أي مع أجسام، ويحر: يشتد، من قولهم: حر يومنا يحر حرارة. والأقران: جمع قِرن — بكسر القاف — وهو الكفؤ في الحرب. يقول: إنهم لا يحفلون إلا بالمآكل، ومن ثم يموتون بالتخمة من كثرة الأكل لا في وقائع الحروب.
(٤٩٤) خيل: معطوف على أجسام. وخر: سقط. والقنا: الرماح. والثمام: نبات ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، وربما حشي به وسد به خصاص البيوت، قال الشاعر يصف ضعيف الثمام:
ولوْ أنَّ ما أبقيتَ مِنِّي معلَّق بعُود ثُمَامٍ مَا تأوَّد عُودُها
وقولهم: هو على طرف الثمام: أي أنه ممكن لا محال. يقول: إن طعنهم لا يؤثر في المطعون لضعفهم، فكأنهم يطعنون بالثمام.
(٤٩٥) يقول: لا صديق لأحد على الحقيقة إلا نفسه، وليس من تقول: هو خليلي، خليلًا لك وإن كثر تملقه، ولان لك قوله. هذا، وكما يطلق الخليل على الصديق، يقال للفقير المختل الحال: خليل، قال زهير:
وإنْ أتاهُ خليلٌ يَوْمَ مسْغَبة يقول: لا غائبٌ مالي ولا حَرِم
«مسغبة: مجاعة. وحرم: ممنوع.»
(٤٩٦) حيز: مجهول حاز؛ بمعنى مُلِكَ. والحفاظ: المحافظة على الحقوق ورعي الذمام. والصيقل: الذي يعمل السيوف. والحسام: السيف القاطع. يقول: لو كان في الإمكان أن يحافظ على الوفاء ورعي الذمام ما لا عقل له لكان السيف إذا ضرب به عنق الصيقل الذي صقله لا يقطعه، يعني أنهم لا عقول لهم، ولذلك ليس لهم حفاظ.
(٤٩٧) الطغام: رذال الناس وغوغاؤهم. قال الأزهري: وسمعت العرب تقول للرجل الأحمق: طغامة ودغامة، والجمع: طغام — كنعامة ونعام — وروى ابن السكيت أن رجلًا كان يتردد إلى أبي مهدية الأعرابي، وأنه سافر، فلما قدم قال له أبو مهدية: كيف حال الناس؟ أو نحو ذلك — فقال له: وما الحال؟ فقال أبو مهدية: يا طغامة لقد أحفيتني في المسألة، وأنت لا تدري ما الحال! ولزمت ذلك الرجل الطغامة، فقال فيه بعض النحويين:
مَنْ كَانَ يُعْجبهُ الطَّغامةُ كُلُّها فَعَليْه مَيْمُونًا أَبَا الضَّحَّاكِ
رَجُلًا تَجَمَّعَتِ الطَّغَامَةُ كُلُّهَا فِيهِ وحالَفَها: بَرَاكِ بَرَاكِ
«قال الجوهري: يقال في الحرب: براك براك — كقطام — أي ابركوا.»
يقول: إن الشيء يميل إلى شبهه، والدنيا خسيسة. فلذلك ألفت الخساس؛ لأنهم أشباهها في اللؤم والخسة، والشكل إلى الشكل أميل.
(٤٩٨) ذو محل: أي ذو منزلة رفيعة. والقتام: الغبار. يقول: إن علوهم في الدنيا لا يدل على محلهم واستحقاقهم، ولو كان كذلك لما ارتفع الغبار فوق الجيش.
(٤٩٩) يرع: أي يكون راعيًا. وسامت الماشية: إذا رعت وهي سائمة، وأسامها صاحبها، ويريد بالمسام ها هنا: الرعية، والضمير في «أسامهم» لقوله: ملوك — في أوائل القصيدة — يقول: لو كانت الإمارة بالاستحقاق لوجب أن يكون أولئك الملوك رعية، ورعيتهم ملوكًا يسوسونهم؛ لأنهم أحق منهم بالملك. وقال ابن فورجه: المسام المال المرسل في مراعيه. يقول: هؤلاء شر من البهائم، فلو كانت الولاية بالاستحقاق لكان الراعي لهم البهائم؛ لأنها أشرف منهم وأعقل. قال ابن جني: المسيم الذي يدبر أمور الناس محتاج إلى من يدبره وهو مهمل بلا ناظر في أمره، فلو لم يلِ الأمر إلا من يستحقه لخلا الناس من خليفة يلي أمرهم؛ لأنه لا يستحق أن يلي عليهم.
(٥٠٠) الغواني: جمع غانية، وهي التي غنيت بحسنها عن التجمل. يقول: من جرب الغواني فالغواني ضياء في الظاهر ظلام في الباطن. يريد أنهن يتعبن من يصبو إليهن ويعلق قلبه بحبهن.
(٥٠١) الحمام: الموت. يقول: إذا كان الإنسان في شبيبته كالسكران لهوًا وغفلة، وفي المشيب غارقًا في بحر من الهم لضعفه واهتمامه لما فات من عمره، فإن حياته هي الموت على الحقيقة؛ أي إن حاله وحال الميت سيان. يريد أن الحياة في الدنيا منغصة مكدرة، فالإنسان لدى المشيب يفكر فيما فات من عمره وهو في غفلة. أو تقول: إذا كان الإنسان في شبيبته غائصًا في سكر من اللهو والصبا، وعند مشيبه غائصًا في بحر من الهم حتى لا يعي في عمره شيئًا، فحياته أشبه بالممات.
(٥٠٢) قال الواحدي: يقول: ليس كل أحد يعذر إذا بخل؛ لأن الواجد الغني لا عذر له في البخل والمنع. وليس كل أحد يلام على البخل؛ فإن المعسر المحتاج إلى ما في يده لا يلام في بخله. ووجه آخر: وهو أن الذي لا يعذر في بخله من ولدته الكرام، والذي لا يلام على بخله من كان آباؤه لئامًا بخلاء؛ لأنه لم يتعلم غير البخل، ولم يرَ في آبائه الكرم والجود، فيكون هذا من قول أبي تمام:
لِكُلٍّ مِنْ بَني حَوَّاءَ عُذْرٌ ولَا عُذْرٌ لِطَائيٍّ لَئيمِ
وقال ابن جني: هو من قول أبي نواس:
كَفَى حَزَنًا أنَّ الْجَوَادَ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ وَلَا مَعْرُوفَ عِنْدَ بَخيلِ
(٥٠٣) مقام: مصدر ميمي، بمعنى إقامة. يقول: لم أرَ مثل جيراني في سوء الجوار وقلة المراعاة ولا مثلي في مصابرتهم مع فرط جفوتهم، يشكو جيرانه ويلوم نفسه على الإقامة بينهم. وقوله لمثلي: خبر مقدم عن مقام، والجملة: مفعول ثانٍ لقوله: «لم أرَ». ولك أن تقول: إن مراده: ألمثلي؟ على الاستفهام التعجبي.
(٥٠٤) يقول: كل ما تشتهي وتطلب تجده في هذه الأرض إلا الكرام فإنهم غير موجودين فيها.
(٥٠٥) فيها: خبر «كان». ومنها: حال مقدمة عن «التمام». يقول هلا كان نقص أهل الأرض في الأرض، وتمام الأرض — أي كمالها — في أهلها؟ يعني أن هذه الأرض كاملة في أحوالها، وأهلها ناقصون في أخلاقهم، فهو يتمنى أن يكون كمالها في أهلها ونقصانهم فيها لها؛ إذ إن كمال الأرض مع نقص قطانها ليس يجدي شيئًا.
(٥٠٦) أنافا: أشرفا وطالا. والمغيث: هو الممدوح. واللكام: جبل بالشام، يقال له: جبل الأبدال. يقول: بها جبلان. أحدهما من صخر — وهو جبل اللكام — والثاني من فخر — وهو الممدوح — وقدم الصخر على الفخر صنعة وحذاقة. لما استعار للفخر جبلًا عطفه على الجبل الحقيقي.
(٥٠٧) الغمام: السحاب، وإنما قال هذا؛ لأنه ذم أهل هذه الأرض فهو يقول: ليست هذه البلدة موطنًا للممدوح، ولكنه يمر بها أحيانًا مرور السحاب فتصيب من نفعه، كما قال أبو تمام:
إنْ حَنَّ نَجْدٌ وَأَهْلُوهُ إلَيْكَ فَقَدْ مَرَرْتَ فِيهِمْ مُرورَ العَارِضِ الهطِل
(٥٠٨) يقولون: سقى الله فلانًا، يريدون الدعاء له بالخصب والنماء. والمنجبة: التي تلد النجباء، وابنها: هو الممدوح؛ يريد أنه نجيب. والدر: اللبن، والمراد به عطاياه. والفطام: انفصال الولد عن ثدي أمه. يريد: أنه ليس يقطع عن بره.
(٥٠٩) من: عطف على ابن منجبة. والدوام: يروى الذمام؛ أي العهد. يقول: إن فوائد الممدوح لا تقتصر على العطايا، فإن في التقرب منه فوائد أخرى كالشرف وعزة الجانب وما إليهما، وعطاياه لا تنحصر في الأموال، فإن منها العهد والحفاظ والوفاء يريد أنه لا يعامله معاملة الشعراء الذين يطلبون الجوائز، ولكن يعامله معاملة خلصائه.
(٥١٠) السلك: الخيط الذي ينظم به العقد. والنظام: مصدر نظم. قال الواحدي: يعني أنه غطى بمحاسنه مساوئ الدهر، وتجمل الزمان به تجمل السلك إذا نظم فيه الدر. ومن روى «بها»: عاد الضمير إلى العطايا، والمعنى: لبس الزمان من عطاياه ما لبس السلك من الدر. وقال ابن القطاع: هذا البيت على القلب، يقول: قد خفينا بأفعاله عن حوادث الزمان، فلا يرانا ولا نراه، ويجوز أن يكون المعنى: استخفى الزمان عنا فلم نرَ أذاه ولا حوادثه واستتر عنا خوفًا من هذا الممدوح. وقال آخرون: إن مآثر الممدوح قد كثرت وتواصلت على ممر الساعات، كما يتواصل الدر في السلك، فامتلأ الزمان من فضائله، وصارت لا تمر لحظة إلا وله فيها أثر بأس أو كرم، وحينئذٍ لم نعد نرى إلا أفعاله وآثاره حتى صارت كأنها هي الزمان، وخفي الزمان الذي هي منتظمة فيه كما يخفى السلك وراء الدر.
(٥١١) المروءة: كمال الرجولية. والمراد بالغرام هنا: العذاب اللازب. قال أهل اللغة: الغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم والبلاء والحب والعشق وما لا يستطاع أن يتفصى منه. قال الزجاج: هو أشد العذاب في اللغة. قال الله عز وجل: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا. يقول: المروءة تؤذي صاحبها بما فيها من التكاليف، وهي مع هذا تلذ له كالعشق لذيذ مع ما فيه من النصب والعذاب. كما قال المتنبي:
وَالْعِشْقُ كَالْمَعْشُوقِ يَعْذُبُ قُرْبُهُ لِلْمُبْتَلَى وَيَنَالُ مِنْ حَوْبَائِهِ
(٥١٢) تعلقها: أي تعلق المروءة؛ أي هويها. وهوى: مفعول مطلق. يقول: عشق المروءة كما عشق قيس بن الملوح المجنون ليلى العامرية، غير أنه واصل المروءة فلم يورثه حبها سقمًا كما أورث عشق ليلى قيسًا الجنون حين لم يجد إلى وصلها سبيلًا.
(٥١٣) يروع: يفزع ويخيف. والركانة: الرزانة والوقار. والظرف: خفة الروح وذكاء القلب. يقول: إنه قد جمع بين وقار الشيوخ وظرف الفتيان. هذا: وشيخ: خبر عن محذوف: أي أشيخ هو؟ والجملة في محل رفع سادة مسد معمولي ندري. ويروى: فما يُدْرَى.
(٥١٤) المسائل: المطالب. والندى: الجود. والجدال: معروف. يصفه بالجود وقوة العلم والفهم. يقول: إنه ينقاد لسؤال من سأله؛ أي أن المسائل إذا وردت عليه من جهة السؤال تملكته وانقاد لها حتى لا يستطيع رد مسألة منها بالخيبة، أما المسائل التي ترد عليه في الجدل فإنه لا يطاق فيها.
(٥١٥) النوال: العطاء. والذام: المذمة والعيب. يقول: إن قبول عطائه شرف وعز لآخذه، أما قبول عطاء غيره من اللئام فهو عار، وهذا كقول بعضهم:
عطاؤك زين لامرئٍ إن أصبْتَهُ بخيْر وما كلُّ العطاءِ يزينُ
وَليسَ بعار لامرئ بَذْلُ وجْهِهِ إليْك كما بَعْضُ السؤال يشينُ
وكقول البحتري:
وَيُعجبُني فَقري إليْك وَلمْ يَكُنْ ليعجبَني — لوْلا محبتُك — الفقرُ
(٥١٦) الأيادي: النعم. والحمام عند العرب: اسم جامع لذوات الأطواق من الطير كالقماري والفواخت وساق حر. يقول: إن نعمه وأياديه قد أحاطت برقاب الناس ولازمتها كالأطواق لأعناق الحمام. وهذا كما قال السري الرفاء:
وَطَوَّقْتَ قوْمًا فِي الرِّقَابِ صنَائِعًا كَأَنَّهُمُ مِنْهَا الْحَمَامُ المطَوَّقُ
وقبلهما يقول أبو تمام:
أبْقَيْنَ في الأعْنَاقِ فعْلكَ جَوْهرًا أَبْقَى مِنَ الأطْوَاقِ في الأعْنَاقِ
(٥١٧) عجل: قبيلة الممدوح. والأنواء: جمع نوء، وهو سقوط نجم من منازل القمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق. يقول: إذا عد الكرام لم يتجاوز العد هذه القبيلة، كما أن الأنواء من سقوط أولها إلى سقوط آخرها هي العام، فكذلك عجل هم الكرام. يعني من أراد أن يعد الكرام في الدنيا فليقل هم بنو عجل فإنهم يشملون جميع الكرام لبطلان من عداهم، كما أن الأنواء بطلوعها وسقوطها تشتمل جميع العام. ولك أن تقول لكل شهر من شهور العام نوءًا، فإذا عدت تلك الأنواء فهي عام تام، والمعنى أن الكرم مقصور عليهم لا يتجاوزهم.
(٥١٨) الذرا — بفتح الذال — كل ما استترت به، تقول: أنا في ذرا فلان، أي في كنفه وستره. والشفار: جمع شفرة، وهي حد النصل، والضمير في «شفارها»: للسيوف، وإن لم يجرِ لها ذكر، لدلالة الحال. واللطام: المصادمة بالسيوف. يقول: إنهم يتلقون السيوف بوجوههم ليدفعوا عمن استذرى بهم من الحرم والوفود، وهو من قول الحماسي «الجريش بن هلال القريعي»:
نُعرِّضُ لِلسيوفِ إذا الْتَقيْنَا خدُودًا لَا تُعرَّضَ لِلِّطَام
وروي:
تَقِي جَبَهاتهم ما في ذُراهم
فالذرى: جمع ذروة، وهي أعلى كل شيء، والمراد بما في ذراهم: السيوف؛ لأنها تقلَّد في أعالي البدن. يقول: إن سيوفهم تحمي وجوههم إذا اشتدت الملاطمة بشفار السيوف.
(٥١٩) يممتهم: قصدتهم. وتجدو: تطلب جدواهم. يقول: لجودهم وكرمهم لا يردون سائلًا حتى لو قصدهم سائل يوم القيامة لأعطوه صلاتهم وصيامهم. وفي هذا يقول أبو تمام:
وَلوْ قصُرَتْ أَمْوَالُهُ عَنْ سَمَاحِهِ لقَاسمَ مَنْ يرْجُوهُ شطرَ حيَاتهِ
ولوْ لمْ يَجِدْ في قِسْمةِ الْعُمر حيلةً وَجَازَ لهُ الإعْطَاءُ من حسنَاتِهِ
لجادَ بهَا منْ غيْر كُفْرٍ بربِّهِ وَوَاسَاهُمُ منْ صوْمِهِ وَصلاتِهِ
ويقول أبو العتاهية:
فمنْ لي بهذَا؟ ليتَ أنِّي أصبْتُهُ فقاسَمْتُهُ مالي مِن الحسناتِ!
وأخذه بعضهم فقال:
وَلوْ جاءهُ يومَ القيامَةِ سائلٌ تعرَّى له عنْ صومهِ وَصلاتِهِ
(٥٢٠) العرام: الشراسة. وبها: خبر مقدم عن عرام. يقول: إن كانوا حلماء ذوي وقار فإن خيلهم خفاف في العدو — الجري — ورماحهم شرسة عارمة على الأعداء. هذا، والحلم: الأناة والعقل، يقال منه حلُم — يحلم حلمًا فهو حليم. أما الحلم — بمعنى الرؤيا في المنام — ففعله حلَم — بالفتح — يقال: حلم واحتلم إذا رآه في النوم، أما الحلم — بالتحريك — وهو أن يفسد الجلد في العمل ويقع فيه دود فيتثقب ففعله حلم — بالكسر — يقال: حلم الأديم. قال الوليد بن عقبة بن أبي عقبة من أبيات يحض فيها معاوية على قتال علي — عليه السلام — ويقول له: أنت تسعى في صلاح أمر قد تم فساده، كهذه المرأة التي تدبغ الأديم الحلِم — الذي وقعت فيه الحلمة فثقبته وأفسدته — فلا ينتفع به:
فإنك والكِتابَ إلَى عليٍّ كدَابغةٍ وقدْ حَلِمَ الأدِيمُ
وفيه تقدمت بقية الأبيات.
(٥٢١) الجفان: القصاع، جمع جفنة. ومكللات: حال؛ أي مغطاة باللحم فهو عليها كالأكاليل، كما قال زياد بن منقذ:
ترى الجفانَ مِن الشيزَى مكللةً
(الشيزى: خشب أسود تتخذ منه الجفان، قيل: إنه الآبنوس. وقيل: شجر الجوز.)
والشزر: ما كان عن يمين وشمال. والتؤام: جمع التوءم — على غير قياس — أي مزدوج، والقياس: توائم. يقول: عندهم الجفان مملوءة وعندهم الضرب المتدارك المتوالي. يعني: أنهم مطاعيم مطاعين بلغوا أقصى غايات الجود والشجاعة.
(٥٢٢) صرعه: طرحه. والتشديد: للتكثير، ونبا السهم عن الهدف: لم يعمل فيه. يقول: إنهم رقاق الوجوه لفرط الحياء، فإذا نظر إليهم الناظر صرعهم — أي قدر عليهم — إذ يغلبهم الحياء احتشامًا وكرمًا. أما إذا نازلوا العدو في الحرب فإنهم شجعان يردون السهام بأوجههم، وفيه نظر إلى قول العطوي (محمد بن عبد الرحمن بن أبي عطية شاعر من شعراء الدولة العباسية):
أهابُ الرِّيمَ أرُمُقهُ وأَضْرِبُ هامَةَ الأسدِ
وَيجْرَحُني بِمُقْلَتِهِ وَينبُو السيفُ عنْ جَسِدي
(٥٢٣) قبيل: خبر عن محذوف يعود إلى الممدوحين. والقبيل: الجماعة. يقول: إن المعالي مشتملة عليهم اشتمال اللحم والجلد على العظام، يعني أنهم للمعالي كالعظام للأجسام.
(٥٢٤) قال الواحدي: أراد قبيل أنت منهم وأنت أنت في علو قدرك، يعني إذا كنت أنت منهم وجدك بشر فكفاهم بذلك فخرًا، وقد أخر حرف العطف في قوله «وأنت» وهو قبيح جدًّا، وهذا كما تقول قامت زيد وهند، وأنت تريد قامت هند وزيد.
(٥٢٥) الرغائب: جمع رغيبة، وهي كل ما كان مرغوبًا فيه. والأنام: ما على وجه الأرض من الخلق، وقد يراد به الناس بخصوصهم. وقوله: لأن، فاسم «أن» محذوف ضمير الشأن. والذمام: الحرمة والعهد. يقول متعجبًا: لمن هذا المال الذي نراه عندك تفرقه عطاياك ويشترك فيه الناس حتى كأن ليس له مالك مخصوص؟ ثم قال في البيت الثاني: إذا دعوناك صاحب هذا المال لا ترضى بذلك؛ لأنك متى كنت صاحبه وجب عليك أن تصونه على عادتك وتحفظ له حرمة الأصحاب. وعبارة الشراح: لمن هذا المال الذي نراه عندك وعطاياك تفرقه والخلق كلهم شركاء في رغائبه، وأنت لا ترضى أن نقول: هو لك وندعوك صاحبه؛ لأن الصحبة توجب ذمامه، وأنت لا ترعى له ذمامًا؛ أي فلمن هذا المال؟ قال الواحدي: هذا إذا كان البيتان مقترنين ويجوز أن ينفرد كل منهما بالمعنى، فيكون معنى البيت الأول: لمن مال هذه حاله؟ يعني لا مال لأحد بهذه الصفة إلا لك، وأراد لمن مال هذه حاله غير حالك، فحذف لدلالة المعنى، ثم ينفرد معنى البيت الثاني بما ذكرناه، ويروى فيرضى — بالياء — أي إذا دعوناك صاحبه رضي المال بذلك رجاء أن يبقى معك لأجل الصحبة.
(٥٢٦) حاد عن الشيء: مال عنه، وحايده محايدة: جانبه. والسامري: واحد السوامرة، وهم طائفة من اليهود شديدة التنطس، إليهم نسب السامري الذي عبد العجل الذي سمع له خوار. قال الزجاج: وهم إلى هذه الغاية بالشام. والجذام: داء معروف. يقول: أنت تحيد عن هذا المال وتتجنبه وتنفر منه كما ينفر السامري من مصافحة رجل في يده جذام، فأنت تأمر بتوزيعه ولا تمسه. هذا، وقد قال الواحدي: كان حقه أن يقول: كأنك السامري معرفًا؛ لأن هذا نسب له ليس باسم علم، وهو في القرآن معروف بأل، إلا أن يكون أراد واحدًا من قبيلته. وقال العكبري: وهذا الذي قال هو الذي أراد أبو الطيب؛ أي كأنك رجل سامري كما تقول: هو محمدي وداودي وهاروني، فتنسبه إلى نبي من الأنبياء المذكورين عليهم السلام، كقولك: حنفي وشافعي.
(٥٢٧) عراه واعتراه: إذا أتاه وقصده طالبًا معروفه. ومنه قول النابغة الذبياني:
أتيْتك عاريًا خلقًا ثِيابي على خَوفٍ تُظَنُّ بيَ الظنُونُ
والحِبر — بالكسر، ويفتح: الرجل العالم، قال الجوهري: الحِبر والحَبر واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح، وقال الفراء: إنما هو حبر بالكسر وهو أفصح؛ لأنه يجمع على أفعال دون فعل، ويقال ذلك للعالم، كأنه من تحبير الكلام؛ أي تحسينه. يقول: إن العلماء يستفيدون منه ويتعلمون.
(٥٢٨) المُعْلِم بكسر اللام: الذي يشهر نفسه في الحرب بعلامة يعرف بها أنه بطل، يقال: أعلم الرجل نفسه. ومن روى بفتح اللام فهم الذين أعلموا بعلامة. واللهام: الكثير الذي يلتهم كل ما يستقبله. يقول: إذا رآك الأبطال المعلمون قالوا: هذا علامة الجيش العظيم؛ لأنه ليس في الجيش أشهر منه، فهو دليل على قوة الجيش الذي يكون فيه، أي كما أن علامة الفارس تكون دليلًا على شجاعته تكون أنت دليلًا على قوة الجيش الذي تكون فيه. قال الواحدي: يجوز أن يكون يعلَم — بفتح اللام — من العلم؛ أي بهذا يعرف الجيش أي أنه صاحب الجيش وفارس العسكر، ومن روى: يعلِم — بكسر اللام — فمعناه أن الجيش يعلمون أنفسهم بهذا الرجل ليعرف أنهم شجعان إذا كان هو بين ظهرانيهم.
(٥٢٩) يقول: طابت بك أيام الدهر وبدت بشاشتها حتى كأن الدهر مبتسم بك، يعني أنها كانت متجهمة عابسة فزال بك عبوسها، فكأنك ابتسام لها وطلاقة. كما قال أبو تمام:
وَيَضْحَكُ الدَّهرُ مِنهمْ عنْ غطارفةٍ كأنَّ أيامَهُمْ مِنْ حُسْنِهَا جُمعُ
(٥٣٠) البين: البعد والفراق. والواشي: النمام. يقول: نستعظم البين والصدود أعظم منه؛ لأن البين يقرب بقطع المسافة ومسافة الصدود لا يمكن تقريبها، ونتهم الوشاة بإذاعة أسرارنا والدمع واحد منهم؛ لأنه لا يرقأ ويظهر ما في القلب من الوجد، فهو أولى بأن نتهمه بإذاعة أسرارنا. وروى ابن الشجري:
نرَى عِظمًا بالصَّدِّ وَالبينُ أعظمُ
يعني أن الحبيب إذا صد فإن العين تنظره، وإذا فارق، حال البعد دون النظر إليه، وهو معنًى حسن.
(٥٣١) اللب: العقل. ويكتم: يروى بالمعلوم والمجهول، وأراد بكون سره في جفنه أنه يظهر مع ظهور الدمع فكأنه في الجفن. يقول: إذا كان عقلك مع غيرك كيف يكون حالك؟ وإذا كان سرك في جفنك كيف تقدر على كتمانه؟ يريد أن قلبه أسير غيره، وهو دائم البكاء، فالدمع يظهر سره ويفتضحه.
(٥٣٢) النوى: البعد. والواو فيه: واو الحال. وظلت: ظللت. يقول: ولما التقينا، وكان البعد والرقيب في غفلة عنا، ظللت أبكي من الوجد، وهي تضحك تعجبًا من حالي ودلالًا عليَّ.
(٥٣٣) المتنان: الجانبان الأسفلان من الظهر. والخصر: ما فوقهما. وتظلم الرجل: اشتكى الظلم، جعل نفسه في الدقة كخصرها، وجعل ظلمها إياه بتكليفه ما لا يطيق حمله كظلم متنيها لخصرها، ثم وصف نفسه بضعف القوى. هذا، وقد جرت عادة الشعراء — كما قال الواحدي — أن يصفوا الردف بالعظم، والخصر بالهيف، ولم يسمع ذكر سمن المتن وكثرة لحمه، وإنما يصفون النصف الأعلى بالخفة والرشاقة، وهو يقول: متنها ممتلئ يظلم خصرها بتكليفه حمله، والصحيح في هذا المعنى قول خالد بن يزيد الكاتب:
صَبًّا كَئِيبًا يَتَشَكَّى الْهَوَى كما اشْتَكَى خَصْرُكَ مِنْ ردفكا
(٥٣٤) بفرع: متعلق بمحذوف تقديره: تبدو، أو تسبي، أو تقبل بفرع، والفرع: شعر الرأس. يقول: تريك النهار ليلًا بشعرها، والليل نهارًا بوجهها، وفيه نظر إلى قول بكر بن النطاح:
بَيْضاءُ تَسْحبُ منْ قيامِ شعْرَها وتغيبُ فيه وهْوَ جثْلٌ أسْحَمُ
فكأنَّها فِيهِ نهَارٌ مُشْرقٌ وَكَأَنَّهُ ليْلٌ عليْها مُظْلِمُ
«جثل: كثيف، وأسحم: أسود.» وقول أبي تمام:
بَيْضاءُ تَبْدُو في الظَّلَامِ فَيَكْتَسِي نُورًا وَتَسرُبُ في النهار فيُظلمُ
«تسرب: تتوارى.» وقوله أيضًا:
لَحِقْنَا بأُخْرَاهُم وَقَدْ حوَّم الْهَوَى قلُوبًا عَهدْنا طيْرَها وَهْيَ وُقَّعُ
فرُدَّتْ عليْنا الشَّمْسُ وَالليْلُ رَاغمٌ بشمْسٍ لَهُمْ منْ جانب الْخِدْر تطْلعُ
نضا ضوْءُها صبْغ الدُّجُنَّةِ وَانطوَى لِبَهْجتها ثوْبُ الظلام الْمجزَّعُ
فوَالله ما أدْري أأحْلَامُ نائم ألمَّتْ بنا أمْ كانَ في الركْب يُوشعُ؟
«لحقنا بأخراهم … إلخ: أي قصدنا المتأخرين منهم، وقد جعل الهوى قلوبنا تحوم حولهم كحوم الطائر على الماء بعد أن كانت ساكنة بقربهم هادئة لعدم فراقهم، وقوله: ثوب الظلام المجزع: جعله مجزعًا لأجل النجوم، والتجزيع في الشيء: أن يكون فيه لونان مختلفان.»
(٥٣٥) العرمرم: العظيم الكثير. يقول: إنها رحلت وتركت دارها خالية، ولكن قلبي ليس خاليًا مثلها. إذ إنه ملآن بالشوق إليها، وفيه منه جيش عظيم، فحبها ملازم له لا يفارقه.
(٥٣٦) أثافٍ: مبتدأ، محذوف الخبر؛ أي فيها، أو هناك أثافٍ، والأثافي: جمع أثفية، وهي الحجر ينصب تحت القدر، وتقدير أثفية أفعولة من ثفيت، قال الأزهري: الأثفية حجر مثل رأس الإنسان وجمعها أثافي — بالتشديد — قال: ويجوز التخفيف. والصلى: الاصطلاء بالنار، وإذا فتحت الصاد قصرت، وإذا كسرت مددت. والرسم: ما بقي من آثار الديار. يقول: في ديارها أثافٍ بها من الصلاء ما بفؤادي، يعني أن النار حرقتها وأثرت فيها كما أحرق الشوق والحب قلبي، وكما أن رسم دارها بالٍ متهدم، كذلك جسمي لفراقها.
(٥٣٧) ردنا القميص: كماه. والغيم: السحاب. وأسعده: أعانه. والعبرة: الدمع، أو تحلب الدمع، وعبرت عينه واستعبرت: دمعت، وعبر الرجل يعبر عبرًا: إذا حزن، وامرأة عابر وعبرى وعبرة: حزينة. قال الحارث بن وعلة الجرمي:
يقولُ ليَ النهديُّ: هل أنْت مردفي؟ وكيف ردافُ الفَرِّ أمك عابر؟!
يُذكرني بالرُحم بيني وبينه وقد كان في نهدٍ وجَرم تدابر
نجوت نجاءً لم يرَ الناسُّ مثله كأني عُقاب عنْدَ تَيْمَنَ كاسر
(عابر: ثاكل. وتدابر: تقاطع. والنهدي: رجل من بني نهد يقال له: سليط سأل الحارث أن يردفه خلفه لينجو به. فأبى أن يردفه، وأدركت بنو سعد النهدي فقتلوه.)
والصرف: الخالص. يقول: وقفت على دارها والسحاب يمطر كأنه يساعدني في البكاء، ولكن دمعه كان خالصًا، وكان دمعي ممزوجًا بالدم.
(٥٣٨) انهل: سال وجرى. يقول: لو لم يكن دمعي دمًا ما كان أحمر وما كنت هزلت وسقمت بعد انهماله.
(٥٣٩) الهجعة: الرقدة. وقوله: بعدنا؛ أي أبعدنا بهمزة الإنكار، فحذف لضيق المقام. وطعم الشيء: ذاقه. يقول: أفدي بنفسي الخيال الذي زارني بعدما نمت، وقال لي معاتبًا: أتنام بعد فراقنا؟ وهل من فارقه أحبته ينام؟!
(٥٤٠) سلام: من حكاية قول الخيال؛ أي قال لي الخيال معاتبًا: أتنام بعد مفارقتنا؟ سلام: أي عليك سلام. ويروى: سلامًا؛ أي اسلم سلامًا. وأبو حفص: كنية الممدوح. يقول: لولا أن هذا الخيال بخيل لا يجود بمطلوب وجبان لا يزور مجاهرًا لحملني الابتهاج به والإجلال له على أن أظنه الممدوح يسلم عليَّ. وقال ابن جني: لولا خوفي من مفارقته أو معاتبته على نومي، ولولا بخله لأنه لا حقيقة لزيارته، لقلت: المسلم على الممدوح. قال الواحدي: أخطأ ابن جني في تفسيره؛ لأنه جعل الخوف للمتنبي، وأن لا حقيقة لزيارته، وما هو كذلك لا يوصف ببخل. والمرأة توصف بالبخل والجبن. ويقال: إن هذين من شر أخلاق الرجال وهما من خير أخلاق النساء. قالوا: وقوله: بعدنا الغمض تطعم، هو من قول الصنوبري:
قال، والنومُ ممكنٌ: غُرَّ غيري لا تُمَوِّه فلَسْتَ بالمستهامِ
(٥٤١) الصابي: المشتاق. وتيمه الحب: عبده وذللـه، والتيم: العبد، وتيم الله منه، كما تقول: عبد الله. وقيل: المتيم المضلل، ومنه قيل للفلاة: تيماء؛ لأنه يضل فيها، ويقول تيمه الحب وتامه، قال الأصمعي: تيمت فلانة فلانًا تتيمه وتامته تتيمه تيمًا فهو متيم بالنساء، ومتيم بهن، وأنشد للقيط بن زرارة:
تامتْ فُؤَادَكَ لوْ يَحْزُنْكَ ما صنعتْ إحْدَى نساء بَنِي ذُهل بن شَيبانا
يقول: إنه يصبو إلى إنفاق المال على العفاة كما يصبو المحب إلى محبوبه.
(٥٤٢) الضيغم: الأسد. يقول: إنه يزيد على الأسد قوة وشجاعة بعدد شعر بدنه، ولولا ذلك لقلنا: إنه أسد. ثم أكد هذا بالبيت التالي.
(٥٤٣) يقول: إنه زاد على الأسد شجاعة، فإن جعلناه كالأسد كنا قد نقصناه حظه وبخسناه حقه؛ لأنه يستحق أكثر من ذلك. هذا، ويقال: بخسه حقه يبخسه فهو باخس؛ أي نقصه.
(٥٤٤) اللجة: معظم الماء. والضرغام: الأسد. والمخذم: السيف القاطع. يقول: هو أجلُّ من أن يشبه كفه بالبحر ونفسه بالأسد ورأيه بالسيف فكفه فوق البحر، ورأيه أنفذ من السيف، وهو أشجع من الأسد.
(٥٤٥) يؤسى: يداوى — أسوت العليل آسوه أَسْوًا — والآسي: الطبيب. والغور: العمق. والضمير المضاف إليه للجرح: أي إن جرحه أوسع من أن يعالج، لا يبرأ بالعلاج، ولا يرى غور جرحه لعمقه، ويجوز أن يكون الضمير للممدوح، على معنى أنه بعيد الغور في الرأي والتدبير، فلا يدرك غوره. وحده — على المعنى الأول — يراد به حد سيفه، وعلى الثاني: حد عزيمته، على تشبيهها بالسيف. وينبو: أي يكل عن الضريبة. وفي إعراب البيت يقول ابن جني: عطف ﺑ «لا» في هذا البيت على مدخول «لا» في الذي قبله في ظاهر اللفظ، لا في المعنى، وذلك لأن قوله لا الكف لجة؛ أي فيها ما في البحر وزيادة عليه، ولا هو ضرغام؛ أي فيه ما في الضرغام من الشجاعة، وزاد عليه، ولا الرأي مخذم؛ أي لرأيه مضاء السيف وفوق ذلك، وأما قوله ولا جرحه يؤسى: فليس يريد أنه يؤسى ويزاد عليه، وكذا ولا غوره ولا حده، وليس يريد أنه يتثلم ويزيد كما أراد في البيت فهو في البيت الأول مثبت في المعنى لما نفاه في اللفظ، وفي الثاني نافٍ في اللفظ والمعنى جميعًا. قال: ألا ترى إلى إحسانه الصنعة وصحة نظمه وتوفيقه بين الأضداد المتباينة؟
(٥٤٦) يقول: ليس للأمر الذي يحكمه ناقض، ولا للذي نقضه مبرم؛ يعني أنه لا يخالف فيما أراد. هذا، وقد فك الإدغام من قوله: حالل ويحلل ضرورة وهو من التجوزات المكروهة. قالوا: وربما فعل الشاعر هذا ليشعر أنه يعلم بالضرورات، كما قال قعنب بن أم صاحب — شاعر أموي:
مَهْلًا أَعَاذِلَ قَدْ جرَّبتِ مِنْ خُلقي أنِّي أجُودُ لأقْوَامٍ وإنْ ضَنِنوا
(من قصيد له يقول فيها:
ما بَالُ قومٍ صَدِيقًا ثُمَّ ليسَ لهم عَهْدٌ وليسَ لَهُمْ دِينٌ إذا ائْتُمِنوا؟!
إنْ يَسْمَعوا رِيبةً طارُوا بها فرحًا عني وما سَمعُوا مِنْ صالحٍ دفنوا
صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيرًا ذُكرْتُ بِهِ وإنْ ذُكرتُ بِسُوءٍ عِندهُم أذِنوا
جَهْلًا عَلَيَّ وجُبنًا عَنْ عَدُوِّهِم لبئست الْخَلَّتَانِ: الجهل والجبنُ
ويقولون: أذنت له أي سمعت له.)
(٥٤٧) الرمح: الرفس بالرجل. ويقال للمختال: إنه ليرمح الأذيال؛ وذلك إذا كان يطيل ثوبه ولا يرفعه ويضربه برجله، ومنه قول القحيف العقيلي:
يَقُولُ لِيَ الْمَغْنَى وَهُنَّ عَشِيَّةً بمَكَّةَ يَرْمَحْنَ الْمُهَدَّبَةَ السُّحْلَا
«المهدبة: الثياب التي لها أهداب. والسحل: البيض.» والجبرية: الكبر، والجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًّا. يقال: جبار بين الجَبَريَّة والجِبِريَّة — بكسر الجيم والباء — والجبرية والجَبْروه والجَبَروه، والجبروت والجُبورة والجَبورة مثل الفروجة، والجبرياء والتجبار هو بمعنى الكبر، وأنشد الأحمر قول مغلس بن لقيط الأسدي يعاتب رجلًا كان واليًا على أضاح:
فإنَّكَ إنْ عادَيتني غضِبَ الْحَصَى عَلَيْكَ وذُو الْجَبُّورَة الْمُتغطْرف
«يقول: إن عاديتني غضب عليك الخليقة، وما هو في العدد كالحصى. والمتغطرف: المتكبر.» يقول: هو على عظمته وفخامة قدره متواضع لا تزدهيه المراتب عجبًا واختيالًا، وليس هو من الذين يخدمون الدنيا وينصبون في طلب حطامها، وإنما الدنيا تخدمه وتسوق إليه أرزاقها، بما يحمل إليه من جبايات الملك.
(٥٤٨) ولا يشتهي يبقى: يريد: أن يبقى فحذف «أن» للضرورة. يقول: لا يحب أن يبقى ولا عطاء له؛ أي إنما يحب البقاء ليعطي، فإذا لم يكن له عطاء لم يحب البقاء، ولا يحب أن يسلم في نفسه مع سلامة الأعداء منه؛ أي إنه يحب أن يقتلهم وإن كان في ذلك هلاكه.
(٥٤٩) الصهباء: الخمر. واليسر: الغنى. والمعدم: الفقير. يقول: إن ذكره على الألسنة ألذ من الخمر قد مزجت بالماء، وأحسن من اليسر لدى المعدم.
(٥٥٠) عنقاء مغرب: طائر، يقال: إنه ذهب ولم يبقَ إلا اسمه. وأعوز: قال ابن جني: كان الوجه أن يقول: أشد إعوازًا لأن ماضيه أعوز، ولكنه جاء على حذف الزيادة. والمسترفد: السائل. يقول: مثله في الناس أغرب من العنقاء في الطير، وأشد إعوازًا وأقل وجودًا من سائل منه شيئًا يحرمه ولا يعطيه، وهو لا يخرم أحدًا؛ أي فكما أن هذين لا يوجدان كذلك نظيره ومثله.
(٥٥١) الأيادي: النعم. وأياديًا: تمييز، ومن القطر: صلة أكثر، والقطر: المطر. والوبل: المطر الغزير، والواو قبله للحال. وأثجمت السماء: دام مطرها، أراد: هو أكثر أيادي بعد الأيادي من القطر بعد القطر، يعني أن نعمه ومواهبه أكثر تتابعًا من قطر المطر حين يكون كثيرًا دائم الهطلان.
(٥٥٢) السني: الرفيع الشريف. واللؤم: الخسة؛ نقيض الكرم. وآلى: أقسم. والتهويم: اختلاس أدنى النوم، وأصله النوم القليل، كأنهم يريدون به أخذ النوم في هامة — رأس — الإنسان؛ لأنه يبدأ برأسه ثم ينتشر في سائر الجسد. يقول: لو كان النوم الذي لا بد منه للإنسان لؤمًا، لحلف أنه لا ينام.
(٥٥٣) يقول: إن جميع ما في أيدي الناس من المال إنما هو من عطاياه، حتى لو طلب درهمًا ليس من عطائه لأعيا على الناس — أعجزهم — وجوده.
(٥٥٤) يقول: هو يرتاح إلى بأسه وكرمه ويسر بهما، فلو كان ما يسر الإنسان يضره لضره الكرم والبأس. هذا، وقد قال الجوهري: المرء: الرجل، تقول: هذا مرء صالح، ومررت بمرء صالح، ورأيت مرءًا صالحًا، قال: وضم الميم لغة، تقول: هذا مرء ورأيت مرءًا ومررت بمرء، وتقول: هذا مرء ورأيت مرءًا ومررت بمرء، معربًا من مكانين، قالوا: وإن صغرت أسقطت ألف الوصل، فقلت: مريء ومريئة، وبعد. فإذا أردت التوسع في هذه المادة فعليك ﺑ «لسان العرب».
(٥٥٥) بكالفرصاد: أي بدم مثل الفرصاد في حمرته، والفرصاد: ثمر التوت الأحمر. والغارة: اسم من أغار على القوم؛ إذا هجم عليهم في منازلهم. ويتامى: مفعول «يروي»، والظرف بعده: متعلق به، وأراد باليتامى: السيوف التي تفارق أغمادها؛ جعلها يتامى لأنها فارقت ما كان يؤويها ويحوطها كالوالدين. وتُنضى: تُسلُّ. وتوتم: مضارع أيتم. يقول: إنه يروي بدم مثل الفرصاد سيوفًا قد فارقت أغمادها فصارت مثل اليتامى، وتلك السيوف تيتم أولاد من يقتله بها في كل غارة يغيرها على الأعداء.
(٥٥٦) قوله: مذ الغزو، قال ابن جني: من رفع «الغزو» رفعه بالابتداء وخبره محذوف، تقديره: مذ الغزو واقع أو كائن، ومن جره أراد مذ زمن الغزو، فحذف المضاف. وقال الإمام التبريزي: «الغزو» مجرور ﺑ «مذ»؛ لأنها بمعنى «في»، كقولك: أنت عندنا مذ اليوم أي في اليوم. وسارٍ: خبر مبتدأ محذوف. أي هو سارٍ؛ يعني الممدوح. ومسرج: يجوز أن يكون من إضافة الوصف إلى مرفوعه فيكون بفتح الراء، أو إلى منصوبه فيكون بكسرها، وحكم «ملجم» كذلك. يقول — كما قال سائر الشراح: مذ الغزو إلى اليوم وهو مشتغل بعمله في فداء أسارى المسلمين من أيدي الروم لم يحطَّ هذا الاشتغال سروج خيله عن ظهورها، ولكنه سار وخيوله مسرجة ملجمة لا ينفك كذلك. قال الواحدي: وليس في هذا مدح، وإنما المعنى أنه لا يقبل الفداء ولا يدع الغزو، بل يغزو ولا يمنعه الفداء. قال: وما بعد هذا من الأبيات يدل على أن المعنى ما ذكرنا. وإليك بعد هذا ما قال العكبري النحوي الكوفي في إعراب مذ ومنذ، وكان بودنا أن نتبسط في هذا الموضع فنورد ما قال أهل اللغة وعلماء النحو، ولكنا لا نبغي أن نحيد عما شرطنا على أنفسنا وهو أن نورد كل ما أورده شراح المتنبي ليس غير، لا نعدوه، وحسبنا شرح الشواهد التي أوردوها، وهو كل ما يعنينا في هذا الشرح الذي كررنا القول بأنه كأنه شرح للمتنبي وشروحه. قال العكبري: مذ ومنذ مركبان من «من وإذ» فغيرا عن حالهما في إفراد كل واحد منهما فحذفت الهمزة ووصلت «من» بالذال، وضمت الميم للفرق بين حالة الإفراد والتركيب. والدليل على أن كلًّا مركب من «من وإذ» قول بعض العرب مِذ ومِنذ — بكسر الميم — فدل «على أنهما مركبان، وإذا ثبت أنهما مركبان كان الرفع بعدهما بتقدير فعل؛ لأن الفعل يحسن بعد «إذ»، والتقدير: ما رأيته «مذ» مضى يومان، و«منذ» مضى شهران، ومن خفض بهما فقد اعتبر «من» ولهذا كان الخفض بمنذ أجود لظهور نون «من» فيها تغليبًا ﻟ «من»، والرفع ﺑ «مذ» أجود، لحذف نون «من» منها تغليبًا لإذ، ويدل على أن أصل «مذ، منذ» أنك لو سميت بها قلت في تصغيره: «منيذ» وفي تكسيره «أمناذ»، فترد النون المحذوفة؛ لأن التصغير والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها. هذا قول أصحابنا الكوفيين. وقال الفراء: يرتفع الاسم بعدهما بتقدير مبتدأ محذوف، وذلك أنهما مركبان من «من وذو» التي بمعنى «الذي» وهي لغة مشهورة، قال سنان بن الفحل:
فإن الماءَ ماءُ أبي وجَدِّي وبِئرِي ذُو حَفرتُ وَذُو طوَيتُ
(أحد أبيات خمسة أوردها أبو تمام في «الحماسة» لسنان بن الفحل الطائي، قالها سنان حين اختصم بنو أم كهف من جرم طيئ وبنو هرم بن العشراء من فزارة في ماء وهم مخلطون متجاورون، والأبيات:
وقالوا: قدْ جُننتَ! فقلْتُ: كلَّا وَربِّي ما جُننتُ وما انتشَيتُ
ولكني ظُلِمتُ فكِدْت أبْكي منَ الظلمِ المُبَيَّنِ أوْ بكيتُ
فإن الماء ماء أبي … … … … [البيت]
وَقَبْلَك رُبَّ خصمٍ قَدْ تَمالَوْا عليَّ فما هَلعْتُ ولا دَعَوْتُ
ولكنِّي نصبتُ لهمْ جبينِي وآلةَ فارِسٍ حتى قرَيْتُ
و«ذو» هنا: اسم موصول بمعنى التي؛ لأن البئر مؤنثة، ومن ثم تقع مكان جميع الموصولات ولا يتغير لفظها. وتمالوا: بمعنى اجتمعوا وتعصبوا عليَّ. وهلعت: جزعت. ولا دعوت: أي ما ناديت أحدًا ولا استصرخت، ولكني كنت أرد الخصم بقوتي وجلادي. وقوله: آلة فارس؛ يريد بها آلة الحرب. وقريت: أي جمعت، يعني أنه خاصمهم حتى إذا بلغ الخصام بهم إلى الرماح طاعنهم فغلبهم، وجمع الماء في الحوض.)
وقال البصريون: هما اسمان فيرتفع ما بعدهما؛ لأنه خبر عنهما، ويكونان حرفي جر فيكون ما بعدهما مجرورًا بهما، وإنما بنيا لتضمنهما معنى «من، وإلى» في قولك: ما رأيته مذ يومان، معناه: ما رأيته من أول هذا الوقت إلى آخره — وبنيت «مذ» على السكون؛ لأنه الأصل في البناء، و«منذ» على الضم؛ لأنه لما وجب تحريكها لالتقاء الساكنين حركت بالضم، لأن من عادتهم أن يتبعوا الضم الضم.
(٥٥٧) النقع: الغبار. والأبلق: ما فيه سواد وبياض. الأدهم: الأسود. يقول: يخترق بلاد الروم وغبار جيشه أبلق بأسيافه — يريد سواد الغبار ولمعان السيوف — والجو من فوقه أسود بالغبار؛ لأنه ليس فيه لمعان سيوف.
(٥٥٨) إلى الملك: متعلق ﺑ «يشق»، والمراد بالملك الطاغي: ملك الروم. والكتيبة: الفرقة من الجيش. ومنه: تجريد. والحتف: الهلاك. يقول: يخترق بلاد الروم إلى الملك الطاغي، فكم من كتيبة للروم تعارض الممدوح في مسيره إليها وهي تعلم أنه حتفها.
(٥٥٩) العاتق: الشابة البكر. ونصرانة أي نصرانية، تأنيث نصران. وخد أسيل: ناعم طويل. يقول: كم من حسناء عاتق من نساء الروم برزت للممدوح عن سترها — لأنها سبيت — فهي تلطم وتهان وإن كانت أسيلة الخد!
(٥٦٠) صفوفًا: أي برزت صفوفًا؛ لأن عاتق — ها هنا — في معنى الجماعة. فصفوفًا: حال منها. والمتون: جمع متن؛ الظهر. والمذاكي: الخيل المسنة. والوشيج: شجر تتخذ منه الرماح. يقول: برزت هذه العواتق صفوفًا لهذا الممدوح الذي هو في شجاعته كالأسد، وقد قام في جمع كالأسود قد تحصنت بالخيل والرماح.
(٥٦١) يقول: إذا غاب فلم يغزهم غاب عنهم الموت؛ لأنه يكف عن قتلهم، وإن قدم إليهم أهلكهم لذلك يقدم معه الموت.
(٥٦٢) نصب «أجدك» على المصدر، كأنه قال: أتجد جدك، ومعناه: أيجد هذا منك، هذا أصله، ثم صار افتتاحًا للكلام. وعانٍ: أي أسير؛ مبتدأ، خبره: تفكه، وجملة: «عانٍ تفكه» خبر «تنفك». وَعُمَ: ترخيم عمر، جرى فيه على مذهب الكوفيين وهو لحن عند البصريين؛ لأن الاسم الثلاثي لا يجوز ترخيمه، لأنه على أقل الأصول عددًا، فترخيمه إجحاف به، قاله ابن جني. وقال العكبري: وذهب أصحابنا الكوفيون إلى جواز ترخيم الثلاثي من الأسماء إذا كان متحرك الوسط كعمر وزفر. وقال البصريون والكسائي: لا يجوز. وحجة الكوفيين إذا كان وسطه متحركًا: ما جاء من نحو «يد، ودم» إذ الأصل في يد «يدي»، وفي دم «دمو» بدليل قول بعض العرب في تثنيته: «دموان». وقيل: أصله «دمي»، قال الشاعر:
فلو أنَّا على جُحْرٍ ذُبِحْنَا جَرَى الدَّمَيانِ بالخبْرِ اليَقينِ
(قبله:
لعمرك إنني وأبا رباحٍ على حالِ التكاشر منذ حين
ليُبغضني وأبغضه وأيضًا يرانِي دونه وأراه دونِي
روى هذه الأبيات ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، ونسبها لعلي بن بدال بن سليم. والتكاشر: يروى التجاور، والتكاشر: المباسطة. وعلى: بمعنى مع، والجحر بضم الجيم وسكون الحاء: الشق في الأرض. وأراد بالخبر اليقين: ما اشتهر عند العرب من أنه لا يمتزج دم المتباغضين؛ أي لما امتزجا وعرف ما بيننا من العداوة. قال ابن الأعرابي: معناه لم يختلط دمي ودمه من بغضي له وبغضه لي، بل يجري دمي يمنة ودمه يسرة. قال المتلمس:
أحارث إنا لو تساط دماؤنا تزايلن حتى لا يمس دم دما
«تساط» تخلط. وقال بعضهم: المعنى: لو ذبحنا على جحر لعلم من الشجاع منا من الجبان بجري دمي وجموده؛ لأن من زعمهم أن دم الشجاع يجري، ودم الجبان لا يجري.)
فهو من ذوات الياء، والترخيم إنما وضع للتخفيف بالحذف، والحذف قد جاز في مثله للتخفيف، فوجب أن يكون جائزًا، ولا يجوز الترخيم في الاسم الثلاثي الساكن الوسط كزيد؛ لأنه إذا حذف الأخير وجب حذف الساكن فيبقى على حرف واحد، وذلك لا نظير له، بخلاف ما إذا كان متحرك الوسط. وحجة البصريين أن الترخيم حذف آخر الاسم المنادى إذا كثرت حروفه تخفيفًا والثلاثي في غاية الخفة. قوله: ومال تقسم؛ أي تقسمه، فحذف لدلالة المقام. يقول: ما تنفك تفك أسيرًا وتقسم مالًا.
(٥٦٣) مكافيك: أصله الهمز، ولكنه لينه للضرورة، وهو خبر مقدم. ومن أوليت: مبتدأ مؤخر. وأوليت: أعطيت. ولا تؤدي شكرها اليد والفم: أي لا يؤدى شكرها فعل ولا قول. يقول: إن مكافأتك إنما هي عند الله الذي عززت دين رسوله بقوة لا يؤدي شكرها قول ولا فعل.
(٥٦٤) يقول: ارفق بنفسك فإنك إن لم ترحمها من بَذْلِكَ إياها في الحرب، فإن الناس يرحمونك.
(٥٦٥) الشاني: المبغض، وأصله الهمز، ولكن لينه للضرورة. والمفحم: الساكن الذي لا يقدر على النطق، والنيل: العطاء، والخضرم: الكثير. يقول: محلك مقصود يقصده العفاة، وعدوك لا يستطيع أن ينطق فيك بعيب؛ لأنه لا يجد لك عيبًا يعيبك به، وأنت منقطع النظير؛ لأنك قد تفردت بأشياء لم يقدر عليها غيرك، وعطاؤك كثير.
(٥٦٦) التحرج: تجنب الحرج، وهو الإثم. وعنَّ: ظَهَر. يقول: تحرجي من أن أقصد غيرك من الملوك مع إمكان قصدك حملني على إيثارك بالزيارة واختصاصك بها دونهم، ثم ضرب له المثل بالبحر وللملوك بالتراب، وإذا حضر الماء بطل التيمم، كما قال أبو تمام:
لبِسْتُ سِواه أقوامًا فكانوا كما أغْنَى التَّيَمُّمُ بالصَّعِيدِ
هذا، والباء في قوله: «وزارك بي» للتعدية. تقول: زرتك بزيد، وزرتك زيدًا، وأزرت زيدًا إياك.
(٥٦٧) يقول: إن المسلمين جميعًا مملوكون لك، فلو كان يقبل المملوك فداء عن مالكه لم تمت ما دام في الأرض مسلم واحد؛ لأنهم يفدونك بأنفسهم.
(٥٦٨) يقول — مخاطبًا أسود هذا المكان: هل يكون من جاورك مكرمًا عزيزًا فتسكن نفسي إلى جوارك، أو يكون مهانًا مخذولًا؟ والفراديس موضع بالشام. وقوله: فتسكن؛ جواب الاستفهام، ومن ثم نصبه بالفاء.
(٥٦٩) يقول: إنما أطلب جوارك لآمن هؤلاء الذين أخافهم وأحذرهم.
(٥٧٠) الحلف: اسم من المحالفة، وهي المعاهدة. يقول: هل لك رغبة في معاهدتي على ما أريده من جوارك؛ فإني أعلم منك بأسباب المعيشة والتصرف في كسب الرزق؟ وهذا كالترغيب لها في جواره.
(٥٧١) الوجهة: الجهة والناحية. وأثريت: أي كثر مالك. يقول: إن رغبت في جواري أقبل إليك الخير والرزق وكثر عندك المال، مما تغنمينه أنت من الصيد، وأكسبه أنا من المال والغنيمة.
(٥٧٢) يقول: إنها لا تنقل قدمًا في مشيئتها وإرادتها: يعني لا قصد لها ولا إرادة في تحركها، ولا يأخذها في دورانها دوار فتتألم به؛ لأنه لا شعور لها ولا حس. ويروى: «في مُشَيَّةٍ» تصغير مشية.
(٥٧٣) تواقعها: أي وقوعها وسقوطها. قال ابن جني: هذا البيت يناقض الأول؛ لأنه وصفها بأنها لا تشاء ولا تحس بألم، ثم جعلها تضطرب لابتسام الممدوح، وليس بعيب في صناعة الشعر؛ لأنه مبني على المحال.
(٥٧٤) يقول: لا فخر إلا لمن لا يظلم؛ لامتناعه وقوته على دفع الظلم، وهو إما مدرك ما طلب، أو محارب لا ينام ولا يغفل حتى يدرك مطلوبه. هذا، وكان الوجه أن يقول: لا افتخارَ — بفتح الراء — كما يقال: لا رجلَ في الدار، وإنما يجوز الرفع مع النفي ﺑ «لا» إذا عطف عليه فيرفع وينون. فيقال: لا رجل في الدار ولا امرأة، ولكنه أجازه بغير عطف؛ لضرورة الشعر، أو لأنه جعل «لا» بمعنى «ليس» كبيت الكتاب:
من صدَّ عن نيرانِها فأنا ابنُ قيْسٍ لَا بَرَاحُ
(من قصيدة عدتها خمسة عشر بيتًا لسعد بن مالك أحد سادات بكر بن وائل وفرسانها وشعرائها في الجاهلية، وأول القصيدة:
يا بُؤْسَ لِلحَربِ التي وَضَعتْ أَرَاهِطَ فاسْتَرَاحُوا
وبعد البيت:
وَالحربُ لا يبقى لِجَا حِمِها التَّخَيُّلُ وَالمِرَاحُ
إلا الفتى الصَّبَّارُ في النجـ ـداتِ والفرس الوقاحُ
وقد اختارها أبو تمام في «الحماسة». وقوله: فأنا ابن قيس: أي أنا المشهور في النجدة كما سمعت، وأضاف نفسه إلى جده الأعلى لشهرته به. وجملة: «لا براح» حال مؤكدة لقوله: أنا ابن قيس، كأنه قال: أنا ابن قيس ثابتًا في الحرب، والبراح: مصدر برح الشيء من باب تعب؛ إذا زال من مكانه.)
وجعل «من» نكرة، وجر «مدرك، أو محارب»؛ لأنهما وصف لها، كما يقال: مررت بمن عاقل؛ أي بإنسان عاقل.
(٥٧٥) مرَّض: قصَّر. والهم: ما هممت به في نفسك. يقول: لا يعد عزمًا ما قصر الإنسان فيه؛ إذ العازم على الشيء لا يقصر فيه، ولا يعد همة ما حال الظلام دون طلبه؛ لأن ذا الهمة لا يعوقه دون إدراك طلبته شيء.
(٥٧٦) تضوى: تهزل. يقول: إن الصبر على الأذى ورؤية من يجني عليك الأذى غذاء ينحل عليه البدن كما ينحل على الأطعمة الخبيثة؛ يعني يشق على الإنسان ذلك حتى يفضي به إلى النحول والضوى.
(٥٧٧) غبط الرجل يغبطه: إذا تمنى أن يكون مثله دون أن يتمنى زوال نعمته، وإلَّا كان حسدًا. والحمام: الموت. وأخف: خبر مقدم، والحمام: مبتدأ مؤخر. يقول: من عاش في ذل فليس له عيش يغبط عليه، ومن غبطه على ذلك العيش الذليل فهو ذليل؛ لأن الموت في العز أخف من العيش في الذل. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: إذا لم تتصرف النفوس في شهواتها ومرادها، فحياتها موت، ووجودها عدم. ومن قول تأبط شرًّا:
هما خُطَّتَا إمَّا إسارٌ وَمِنَّةٌ وإمَّا دمٌ والقتلُ بالْحُرِّ أَجْدَرُ
(من أبيات في «الحماسة» يقول فيها تأبط شرًّا:
أقول لِلحيانٍ وقد صفرَت لهم وطَابِي ويومِي ضيقُ الجحر مُعْوِرُ:
هُما خطتا … … … … … [البيت]
وبعده:
وأخرَى أُصادِي النفس عنها وإنها لمورِدُ حزم إن فعلت ومصدر
فرشتُ لها صدري فزل عن الصفا به جُؤجؤ عبْلٌ وموتٌ مُخَصَّرُ
فخالط سهلَ الأرْض لم يكدح الصفا به كدْحةً والموتُ خزيانُ ينظرُ
فأُبتُ إلى فهمٍ ولَمْ أَكُ آيبًا وكمْ مثلها فارقتها وهْيَ تَصْفِر!
وكان بنو لحيان من هذيل أخذوا على تأبط شرًّا طريق جبل وجدوه فيه يجني عسلًا ولم يكن له طريق غيره، فأقبلوا عليه وقالوا استأسر أو نقتلك، فكره أن يستأسر وصب ما معه من العسل على الصخر ووضع نفسه عليه حتى انتهى إلى الأرض من غير طريقهم، فصار بينه وبينهم ثلاثة أيام ونجا منهم، فحكى الحكاية في هذه الأبيات، وتأمل قوله: «والموت خزيان ينظر» يتجلى لك شعر الشاعر.)
«أراد: خطتان، فحذف النون؛ طلبًا للخفة.»
(٥٧٨) اللئيم: الخسيس، ضد الكريم. يقول: إن الحلم إذا لم يكن عن قدرة كان عجزًا، وهو حجة يحتج بها اللئام، يسمون عجزهم من مكافأة العدو حلمًا. كما قال الآخر:
إنَّ مِنَ الْحِلمِ ذُلًّا أنْتَ عارِفهُ والْحِلمُ عنْ قُدْرَةٍ فضل مِن الكرمِ
(٥٧٩) يقول: إذا كان الإنسان هينًا في نفسه سهل عليه احتمال الهوان كالميت الذي لا يتألم بالجراحة. قال بعضهم: وهو من قول موسى بن جابر الحنفي — شاعر إسلامي أدرك بني أمية:
إذا ما علا المرءُ رَام العُلا ويقنع بالدونِ من كان دونا
وأين هذا من ذاك؟!
(٥٨٠) زماني: فاعل ضاق. والذرع: الطاقة. وضاق بالأمر ذرعه وذراعه؛ أي ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا ولم يطقه ولم يقوَ عليه، وأصل الذرع إنما هو بسط اليد، فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، وذرعًا — في قولهم — ضاق به ذرعًا — نصبوه؛ لأنه خرج مفسرًا محولًا، لأنه كان في الأصل: ضاق ذرعي به، فلما حول الفعل خرج قوله: «ذرعًا» مفسرًا. ومثله: طبت به نفسًا وقررت به عينًا. يقول: عجز الزمان عن أن يدخل عليَّ أمرًا لا أحتمله؛ أي لست أضيق بالزمان ذرعًا وإن كثرت ذنوبه وإساءاته إليَّ. ثم قال: واستكرمتني الكرام؛ أي وجدني الكرام كريمًا صبورًا على نوائب الدهر غير جزوع، ومن قولهم: استكرمت فاربط؛ أي وجدت كريمًا فتمسك به.
(٥٨١) الأخمص: باطن القدم، وواقفًا الأولى، حال عن ضمير المتكلم «في البيت السابق»، والثانية عن الضمير المستتر في «واقفًا» الأولى. يقول: إنه قد وقف تحت أخمص همته وقدر نفسه في الحال التي وقف الناس فيها تحت أخمصيه. يعني أنه وإن بلغ هذا الحد لا يزال ذلك تحت رتبة همته؛ لأنها تقتضي ما هو أسمى من ذلك. وعبارة ابن جني: نفسي عالية وإن كان جسمي يرى بين الناس، فأنا واقف تحت قدر نفسي، والأنام وقوف تحت إخمصي.
(٥٨٢) الهمزة: للاستفهام الإنكاري، والشرار: ما تطاير من النار. والمرام: المطلب. ويشرق: يغص. والعراقان: العراق العربي والعراق العجمي. والقنا: الرماح. والشآم: الشام، وأصله الهمزة. والقمقام: السيد. يقول: لا أستلذ القرار فوق شرار النار؛ أي لا أصبر على مقاساة الذل، ولا أبغي مطلبًا ما دام ظلمي يرام ويطلب، كأنه يقول: لا أبغي مرامًا ما لم أدفع الظلم عن نفسي، وأترك هذه المواضع غاصة بالرماح كما يغص الجو بالغبار عند ركوب هذا الممدوح. قال العكبري: ولعل هذه البلاد قد كانت لآبائه — المتنبي — فاغتصبت منهم، فهو يحاول أن يستردها … وهذا من حماقته المعروفة ولا بد له في كل قصيدة من مثل هذا.
(٥٨٣) الأصيد. الملك العظيم الذي لا يلتفت كبرًا. والضرب: الماضي في الأمور، وأصله: الخفيف اللحم. والجعد: الكريم، قالوا: وإذا ذكر الجعد مضافًا لليدين فقيل: فلان جعد اليدين كان بمعنى البخيل، وإذا ترك بغير إضافة كان بمعنى الكريم — من الثرى الجعد، وهو الندى — والسري: الشريف من السرو. قال الجوهري: السرو: سخاء في مروءة، وسرا يسرو، وسري — بالكسر — يسري سروًا فيهما، وسرو يسرو سراوة: أي صار سريًّا، ورجل سري من قوم أسرياء وسروء كلاهما عن اللحياني، والسراة اسم للجمع، وليس بجمع عند سيبويه، قال: ودليل ذلك قولهم: سروات. قال الشاعر:
تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرى أسراهما
أي أشرفهما. وقولهم: قوم سراة جمع سرى، جاء على غير قياس أن يجمع فعيل على فعلة. الهمام: الذي ينفذ ما يهم به.
(٥٨٤) ريب الدهر: صروفه ونوائبه. وأساراه: بفتح الهمزة وضمها جمع أسرى، جمع أسير. يقول: إنه حبس صروف الدهر على مراده فلا يتمكن الدهر من إحداث شيء إلا ما يريده ولا يصيب أحدًا إلا بإذنه، وقد تخرق في الكرم، وأطلق يديه بالبذل حتى صار الغمام — السحاب — حاسدًا لهما لقصوره عنهما في البذل والسخاء.
(٥٨٥) الإقلال: قلة المال. وَجُودًا: مفعول له، عامله «الإقلال» أو الفعل قبله. يقول: كأن المال الكثير سقام، وكأن الإقلال برء ذلك السقام، فهو يتداوى من كثرة المال بالإقلال؛ أي يبذل المال حتى يصير مقلًّا، فيصير ذلك دواء له من الداء الذي هو الإكثار.
(٥٨٦) السوام: الماشية. وقوله: حسن، أي هو حسن، وتم الكلام، ثم قال: وهو في عيون أعدائه أقبح من ضيفه في عيون ماله الراعي؛ لأنه ينحر إبله للأضياف فهي تكرههم. كما قال الآخر يصف الضيف.
حَبيبٌ إلى كلْبِ الْكَرِيمِ مُناخُهُ بغيضٌ إلى الكوماء والكلْبُ أَبصر
(الكوماء: الناقة الضخة السنام.)
فقوله: في عيون أعدائه، ظرف لأقبح لا «لحسن» قدمه عليه، كقولك: زيد في الدار أحسن منك. قال ابن جني: ويمكن أن يكون «في عيون أعدائه» ظرفًا لحسن؛ فالمعنى هو في عيون أعدائه حسن، إن قيل: كيف يكون حسنًا في عيون أعدائه وأقبح من ضيفه إذا رأته الإبل؛ لأنه يذبحها للأضياف فهي تكرههم؟ فجوابه أن أعداءه يرونه حسن الصورة قبيح الفعل بهم، فهم يرونه حسنًا وقبيحًا، وفي الأول قبيحًا لا غير.
(٥٨٧) لحماك الإجلال والإعظام: أي لحماك من الموت إجلال الموت لك وإعظامه إياك فلم يجسر عليك تهيبًا. وقال الواحدي: يقول: لو كان سيد محميًّا من الموت لحماك وحفظك منه إجلال الناس إياك، وإعظامهم؛ أي إنهم يفدونك بنفوسهم من الموت لو قبل الفداء فكنت لا تموت. قال: وقال ابن دوست: لأنهم يهابونك فلا يقدمون عليك، وليس المعنى في إجلال الناس إياه ما ذكر؛ لأنه ليس كل الموت القتل حتى يصح ما ذكره.
(٥٨٨) عوارٍ: عطف على «الإجلال»، في البيت السابق؛ أي ولحماك سيوف عوارٍ — مجردة — من الأغماد، ديتها استحلال قتل النفوس، فهي لا تتحرج من شيء، ولكن زيها الإحرام؛ أي العري كالمحرم في الحج، فإنه يكون عاريًا من الثياب.
(٥٨٩) يقول: كتب في صحائف المجد: بسم الله — وهو افتتاح الكلام — ثم قيس — وهي قبيلة الممدوح — ثم السلام الذي يكتب في أواخر الكتب، يعني أن بني قيس قد تفردوا بالمجد، فلا يقال لغيرهم: أهل مجد. هذا، ومن قال: بسم — بالرفع — أجرى «الباء» كبعض حروفها لطول صحبتها الاسم، كما أنشد الفراء:
فلا واللهِ لا يُلْفَى لِمَا بي وَلَا لِلِمِا بِهِمْ أَبدًا شِفَاء
(لمسلم بن معبد الوالبي، شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، من قصيدة أولها:
بكتْ إبلي وَحُق لها البكاءُ وفرقها المظالمُ والعداء
وكان سبب هذه القصيدة أن مسلمًا كان غائبًا، فكتبت إبله للمصدق — أي عامل الزكاة — وكان رقيع الوالبي عريفًا فظن مسلم أن رقيعًا هو الذي أغرى المصدق، وكان مسلم ابن أخت رقيع، ابن عمه فقال هذه الأبيات «انظر خزانة الأدب — ج٢ ص٢٦٧ سلفية».)
وأنشد الآخر:
وَكَاتِبٍ قَطَّطَ أَقْلَامَا وَخَطَّ بِسْمًا ألِفًا وَلَامَا
ومن قال: بسم — بالخفض — خفضه بالباء وأراد بسم الله، وهذا قبيح جدًّا — كما قال الواحدي — أن يجعل ما ليس من نفس الكلمة كالجزء منه. وقوله: وبعد قيس: من كسر السين حذف التنوين لاجتماع الساكنين، ومن نصب «قيس» ذهب إلى القبيلة فلم يصرفها للتعريف والتأنيث.
(٥٩٠) الجمرة: كل قبيل انضموا فصاروا يدًا واحدة ولم يحالفوا غيرهم. قال أبو عبيدة: جمرات العرب ثلاثة: بنو ضبة بن أد، وبنو الحرث بن كعب، وبنو نمير بن عامر. طفئت منهم جمرتان: طفئت «ضبة»؛ لأنها حالفت الرباب، وطفئت بنو الحرث؛ لأنها حالفت مذحج، وبقيت نمير لم تطفأ؛ لأنها لم تحالف. وقال الجاحظ: يقال لعبس وضبة ونمير: الجمرات، وأنشد لأبي حية النميري:
لنا جمرَاتٌ ليْسَ في الأرض مثلُها كِرَامٌ وَقدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجَارِب
نُمير وَعَبْسٌ يُتقى نَفياتُها وضَبَّةُ قَوْمٍ بأسُهُمْ غيرُ كَاذِبِ
وهؤلاء يسمون جمرات لشوكتهم وشدتهم. وقد فضل المتنبي هذه القبيلة على سائر الجمرات؛ إذ جعلها لا تشتهيها النعام، لأنها قبيلة ذات بأس وشدة لا ذات جمر في الحقيقة، فهي جمرات حرب — لا جمرات لهب — والنعام تشتهي جمرة النار لفرط برودة في طبعها.
(٥٩١) الإصباح: مصدر، بمعنى الصبح. يقول: إنهم يوقدون نار القِرى ليلًا ونهارًا فليلهم صبح بضوء النار التي أوقدوها للأضياف، ونهارهم ليل بسواد الدخان إذ يستر ضياء الشمس. ويجوز أن يريد أنهم يغيرون في النهار ويحاربون فيزول نور النهار بالغبار وهو معنًى حسن، وقد أخذه الحيص بيص فقال:
نَفَى وَاضِحَ التَّشْرِيقِ عَنْ شَمْسِ أَرْضِهِ دُخانُ قُدُورٍ أو عجَاجَةُ قَسْطَلِ
وقوله: تِمام: بكسر التاء، فليل التمام أطول ليالي الشتاء، خصه لاشتداد ظلمته. وأكثر ما جاء ليل التمام بالألف واللام والإضافة، ولكنه أتبعه هنا للضرورة على أن المعنى تم بدونه، وإنما أتى به لإتمام القافية.
(٥٩٢) الانبراء: التعرض للشيء. ونفد الشيء: فني. وقبل ينفد: أي قبل أن ينفد. يقول: إن نفوسهم لا تزال مقدمة في الحرب حتى تفنى وإقدامها باقٍ على حاله؛ لأنها لم تتأخر، فنفادها قبل نفاد إقدامها. ويجوز أن يكون المعنى أنهم يعلمون الناس الإقدام فيفنون وإقدامهم باقٍ. ويجوز أيضًا أن يريد أنهم متجسمون من الإقدام، فإذا فنيت الروح فالجسم الباقي هو الإقدام.
(٥٩٣) توطين النفس على الشيء كالتمهيد، قال ابن سيده: وطن نفسه على الشيء وله فتوطنت: حملها عليه فتحملت وذلت له، قال كثير:
فقلتُ لها: يَا عَزَّ كُلُّ مُصِيبَةٍ إذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لها النَّفسُ ذَلَّتِ
وأراد بالروع: الحرب. والاقتحام: الدخول في الحرب. والاستسلام: طلب السلم والصلح. يقول: كأن دخولهم في الحرب طلب للسلم لاسترسالهم وانبساطهم.
(٥٩٤) الشطبة: الفرس الطويلة. وبراها: هزلها وأنحلها، وأراد: براهما؛ أي الشطبة والحصان، فاكتفى بضمير الأول، كما في قوله تعالى: وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ.
(٥٩٥) يتعثرن: أي الخيل. والتمتام: الذي يتردد لسانه بالتاء. يقول: إن خيلهم تعثر برءوس القتلى من الأعداء كما يعثر التمتام بالتاء، يريد: من كثرة القتلى لم يبقَ للخيل مجال إلا بين رءوس القتلى.
(٥٩٦) غشيانك: إتيانك. والكرائه: جمع الكريهة، والكريهة من أسماء الحرب — فعيلة في معنى مفعولة — والحسام: السيف القاطع، وهو فاعل «قال». يقول: طال إتيانك الحروب حتى إن السيف ليشهد لما أقول وأصفك به من الشجاعة والإقدام. يريد بشهادة السيف ما به من الفلول الدالة على كثرة الضرب، وجعل ذلك الانفلال كالقول من السيف.
(٥٩٧) الصفائح: السيوف العريضة. يقول: هاب الناس سيوفك فكفوا عنك ولم تحتج إلى قتالهم، ثم صرت إلى أن كفتك الأقلام السيوف لما استقر لك من الهيبة في القلوب. وقال ابن دوست: كفتك سيوفك الناس من العساكر وغيرها حتى استغنيت عنهم ولم تحتج إليهم. قال الواحدي: وهذا فيه ضعف؛ لأن السيوف تحتاج إلى من يحملها ليحصل له الهيبة وهي بمجردها لا تكفيه الناس. و«الناس»، يروى: الباس.
(٥٩٨) يقول: قد جربت الأمور وعرفتها حتى لا تحتاج إلى التفكر فيها، ثم صار الصواب ديدنك حتى صرت لا تلهم سواه، فكفاك إلهام الله التجارب. قال العكبري: وهذا وما قبله من قول البحتري:
يَوْمَ أرْسَلْتَ مِنْ كَتَائِبِ آرَا ئِكَ جُنْدًا لَا يَأْخُذُونَ عَطَاءَ
وَيَوَدُّ الْأَعْدَاءُ لَوْ تُضْعِفُ الْجَيـْ ـشَ عَلَيْهِمْ وَتَصْرِفُ الآرَاءَ
(٥٩٩) البراز: المبارزة، وهي أن يبارز الرجل قرنه. يقول: إن الفارس الذي يجعل نفسه قرينًا لك ويبارزك في الحرب ينال بذلك فخرًا عظيمًا، فإذا قتلته كان قد اشترى الفخر بنفسه فلا يلام عليه.
(٦٠٠) يقول: الذي ينال منك نظرة ممن ساقه الفقر إليك — أي دعاه فقره إلى زيارتك — فإن للفقر منة عليه؛ لأنه كان سببًا لهذه النظرة.
(٦٠١) يقول: خير أعضاء الإنسان الرأس؛ لأنه مجمع الحواس، وفيه الدماغ الذي هو محل العقل، ولكن الأقدام صارت بقصدك أفضل من الرءوس؛ لأنها كانت آلة للسعي إليك، وهذا كما قال أيضًا:
وإن الفِئَامَ الَّتي حَوْلَهُ لَتَحْسُدُ أَرْجُلَهَا الأرُؤُس
(٦٠٢) أقصر عن الشيء: تركه مع القدرة عليه. والوفد: القوم الوافدون. يقول: لم آتك حين ازدحمت عليك الوفود وازدحمت عليهم عطاياك، وتتمة المعنى في البيت التالي.
(٦٠٣) ذكر علة تأخره عنه، وهي خوفه أن تأخذه الوفود في جملة هباته، وهذا إغراق في وصف كثرة عطاياه حتى يخاف شاعره وزائره أن يجعله من جملة تلك الهبات. وهذا كقول البحتري:
وَمَنْ لوْ تُرَى في مِلكِهِ عُدْتَ نَائِلًا لِأوَّلِ عَافٍ مِنْ مُرجِّيهِ مُقْتِرِ
(٦٠٤) قوله: على القرب: تم الكلام عنده، ثم استأنف ما بعده. والإلمام: الزيارة. يقول: من إصابة الرشد أني لم أزرك وأنا قريب منك؛ لأن حق الزيارة إنما يعرف إذا كانت من موضع بعيد.
(٦٠٥) البطء: اسم من الإبطاء، وهو التأخر. والسيب: العطاء. والجهام: السحاب الذي لا ماء فيه. يقول: تأخُّر عطائك عني — أي تأخر وصوله إليَّ بسبب تأخُّر زيارتي إياك — يدل على كثرة ذلك العطاء، كالسحاب، إنما يسرع منه ما كان جهامًا — لا ماء فيه — أما ما يكون فيه الماء فإنه يكون ثقيل المشي.
(٦٠٦) النظام: خيط العقد. وودها: مبتدأ، خبره: المصدر المتصيد مما بعده. يقول — للممدوح: قل وتكلم فإن الجوهر المنظوم يتمنى أن يكون كلامًا لك، لحسن نطقك وانتظام كلماتك.
(٦٠٧) لم تجز: لم تمر. يقول: إن الدهر يهابك ويأتمر بأمرك، فلو نهيته عن المرور بك لم يمر؛ أي لو أمرته أن يقف لوقف.
(٦٠٨) الأثام: كسلام؛ جزاء الإثم، قال تعالى: يَلْقَ أَثَامًا، وهو هنا الإثم. يقول: كافيك الله، أي هو الذي يكفيك كل شر وغائلة، فأنت مع الحق لا تضل عنه، ولا يجد الإثم سبيلًا إليك؛ لأنك لا تأتي ما تأثم به لعصمة الله إياك.
(٦٠٩) الدنايا: النقائص. و«أما عليك حرام» — وهي رواية ابن جني: يعني ما بالك لا تحذر عاقبة شيء سوى الدنايا؟ أما عليك شيء محرم تتقي عاقبته؟! وكأن هذا تأكيد لما ذكره في البيت السابق، يعني أن المحرمات مصروفة عنه بعصمة الله له، فلا يتهيأ له إتيانها، فلم يبقَ عليه ما يخشى عاقبته إلا الدنايا. وروى غيره: وما عليك حرام، بالواو العاطفة وجعل «ما» موصولة معطوفة على «الدنايا»؛ أي ما هو حرام، قال الواحدي: يعني أنه يقدم على المهالك وكل شيء، لا يتفكر في عاقبة شيء إلا ما كان من دنيئة أو شيء حرام فإنه لا يقدم عليه. يريد لم تفعل ذلك؟ قال اليازجي: وهذا يصح لولا هذا الاستفهام، وإلَّا فهو تعجب في غير محله، وحاصله الإنكار لا المدح كما يظهر بالتأمل. وقال ابن القطاع: لمَ تُلقِ نفسك في المهالك؟ أو ما تظن أن ذلك حرام؟ يشير إلى شجاعته. وعبارة ابن جني — الذي روى: «أما عليك حرام؟» يعني لإفراطك في توقي الدنايا صار كأنه لا حرام عليك غيره؛ يعني أنه لا يفكر في عاقبة شيء سوى الدنايا، فكأنه لم يحرم عليه شيء.
(٦١٠) يصفه بتقوى الله وخشيته، يقول: كم حبيب يستحق المواصلة لتمام حسنه ولا تلام لو واصلته، لكنك مع ذلك تتركه لتقوى الله، فكأنك قد أقمت عليك من التقوى لوامًا يلومونك فيما لا يوافق مقتضاها، وقد أكد هذا بالبيت التالي.
(٦١١) يقول: نزاهتك وتباعدك عن الآثام رفعا قدرك عن مواصلته، وصرفت قلبك عنه الأمور الجسام — العظام — التي تسعى فيها.
(٦١٢) القريض: الشعر، من قرض الشيء؛ إذا قطعه، كأن المرء يقطعه من فكره، والتقريض: صناعة القريض، وفي المثل: حال الجريض دون القريض. الجريض: الغصص. والقريض: الشعر، وهذا المثل لعبيد بن الأبرص، قاله للمنذر حين أراد قتله في يوم بؤسه فقال له: أنشدني من قولك. فقال عند ذلك: حال الجريض دون القريض. وقال الجوهري: القريض قول الشعر خاصة، يقال: قرضت الشعر أقرضه إذا قلته، والشعر قريض، قال ابن بري: وقد فرق الأغلب العجلي بين الرجز والقريض بقوله.
أرجزًا تُرِيدُ أَمْ قريضَا؟ كِلَيْهِمَا أَجِيدُ مُسترِيضَا
«مستريضا: أي واسعًا ممكنًا، من استراض المكان؛ أي فسح واتسع.» وهذى يهذي هذاء وهذيانًا: إذا قال قولًا لا طائل له. والأحكام: جمع حكم بمعنى حكمة، والبيت من الحديث: «إن من الشعر لحكمًا»؛ أي حكمة.
(٦١٣) منه: أي من القريض — الشعر — ما يجلبه الفضل والبراعة؛ أي ما يكون عن فضل ومعرفة وتفوق، ومنه ما يجلبه البرسام أي ما يكون عن مرض وهذيان. فقوله: ما يجلب: أي ما يجلبه. والبرسام: علة معروفة، يقال: برسم؛ إذا خلط في مرضه.
(٦١٤) الأحداث: نوب الدهر ومصائبه. والبطش: الأخذ بغلبة وقوة. يقول: لا أحمد الحوادث السارة ولا أذم الضارة؛ فإنها إذا بطشت بنا أو آذتنا لم يكن ذلك جهلًا منها، وإذا كفت عن البطش والضرر لم يكن ذلك حلمًا؛ يعني أن الفعل في جميع ذلك ليس لها، وإنما تنسب الأفعال إليها استعارة ومجازًا.
(٦١٥) أبدي: هي أبدئ: أي أبدأه الله — أي خلقه — فأصله الهمز، ولينه للضرورة. وأكرى الشيء: نقص. وأرمى: أربى وزاد. يقول: إن كل واحد يرجع إلى مثل ما كان عليه من العدم، ويعود إلى حالته الأولى كما أبدئ، وينقص ما حدث فيه من الحياة كما زاد. وإذن لا ذنب للحوادث حتى أذمها أو أحمدها. هذا، وأكرى — كما أنه بمعنى زاد — أتى بمعنى نقص، فهو من الأضداد، يقال: أكرى الرجل: قل ماله أو نفد زاده، وقد أكرى زاده: أي نقص، قال لبيد:
كَذِي زادٍ متى ما يُكْرِ منهُ فَلَيْسَ وَرَاءَهُ ثِقَةٌ بِزَادِ
وقال آخر يصف قدرًا:
يُقسِّم ما فيها فإنْ هِيَ قَسَّمت فذاكَ وَإنْ أَكْرت فَعَنْ أَهْلها تُكْري
«قسمت: همت في القسم. وإن أكرت: أراد وإن نقصت، فعن أهلها تنقص؛ أي القدر.»
(٦١٦) لك الله: دعاء لها. و«من» — من مفجوعة: زائدة، ومفجوعة، في موضع نصب على التمييز. والوصم: العيب، وعنى بحبيبها: نفسه. يدعو لها ويقول: هي مفجوعة قتلت بسبب شوقها إليه، وليس هذا الشوق مما يلحق بها عيبًا؛ لأنه شوق الأم إلى ولدها.
(٦١٧) يريد بالكأس التي شربت بها: كأس الموت. ومثواها: مقامها؛ يعني القبر. يقول: لا أحب البقاء بعدها وأحب — لأجل مقامها في التراب — التراب وما ضمه التراب؛ يعني شخصها أو كل مدفون في التراب، وحبه التراب: يجوز أن يكون حبًّا للدفن فيه، ويجوز أن يحب التراب لأنها فيه. هذا، والكأس مؤنثة، وجمعها: كئوس وأكؤس وكئاس، قال أهل اللغة: الكأس الزجاجة ما دام فيها خمر، فإذا لم يكن فيها خمر فهي قدح. قال الله تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ، وقال أمية بن أبي الصلت:
مَا رغبةُ النفسِ في الحياة وإن تحيا قليلًا فالموتُ لاحِقُها
يُوشكُ من فَرَّ من منيَّتِهِ في بعضِ غِرَّاتِهِ يُوَافِقُها
من لم يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هرَمًا للموتِ كَأْسٌ وَالمَرْءُ ذَائِقُها
(قال ابن بري: عبطة: أي شابًّا في طراءته، وانتصب على المصدر؛ أي موت عبطة وموت هرم، فحذف المضاف، وإن شئت نصبتهما على الحال: أي ذا عبطة وذا هرم، فحذف المضاف أيضًا، وأقام المضاف إليه مقامه.)
(٦١٨) الثكل: الفقد. وقدمًا: قديمًا. يقول: كنت أبكي عليها في حياتها خوفًا من فقدها، وضرب الدهر من ضرباته وفرق بيننا وتغربت عنها فذاق كل واحد منا ثكل صاحبه قبل الموت. قالوا: وفي المصراع الأول نظر إلى بيت الحماسة:
فيبكِي إن نأوا شوْقًا إليْهم ويبكي إن دَنَوْا خوف الفراق
(من أبيات جميلة منها:
وَمَا في الأرضِ أشقَى من محِبٍّ وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاق
تراهُ باكِيًا فِي كُلِّ حِين مخافَةَ فُرْقةٍ أَو لاشتيَاق
فيبكي … … … … … … [البيت]
وبعده:
فتسخُن عينُهُ عند التنائِي وَتَسْخُن عينهُ عند التلاقي)
(٦١٩) أجد: بمعنى جدد. والصرم: القطيعة. يقول: لو كان الهجر يقتل كل محب كما قتلها هجري لقتل بلدها أيضًا؛ يعني أن بلدها كان يحبها لافتخاره بها لما لها عليه وعلى أهله من الإفضال، ولكن الهجر إنما يقتل بعض المحبين دون بعض. قال بعض الشراح: وقد نفى في هذا البيت ما أثبته في قوله:
لَا تَحْسَبُوا رَبْعَكُمْ وَلَا طَلَلَهْ أَوَّلَ حَيٍّ فِرَاقُكُمْ قَتَلَهْ
(٦٢٠) يقول: كنت عالمًا بالليالي وتفريقها بين الأحبة قبل أن تصنع بنا هذا التفريق فلما دهتني هذه المصيبة لم تزدني بها علمًا. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل حلولها لم يجزع بحلولها. ومن قول أبي تمام:
حلَّمَتْنِي — زَعَمْتُمُ — وَأَرَانِي قَبْلَ هَذَا التَّحْلِيمِ كُنْتُ حليمَا
ومن قول بعض العرب، وقد مات ولده فلم يجزع، فقيل له في ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره.
(٦٢١) قال ابن فورجه: الضمير في «منافعها» للمرثية؛ يعني أنها قتين — قليلة الطعم — تؤثر بالطعام على نفسها فتجوع وتظمأ لتنفع غيرها. ثم جعل المصراع الثاني تفسيرًا للمصراع الأول، فقال: غذاؤها وريها في أن تجوع وتظمأ؛ لأن سرورها بإطعام غيرها يقوم مقام شعبها وريها. وعلى هذا فقوله: «ما ضر» تقديره: ما ضرها، والجار والمجرور التاليان في موضع الحال من فاعل «ضر». وقال الواحدي: الضمير في «منافعها» لليالي والأحداث؛ يعني أن منافع الليالي في مضرة غيرها من الناس، ثم فسر ذلك فقال: غذاؤها وريها في أن تجوع أيها المخاطب وتظمأ، لولوعها بالإساءة بنا كأن ريها وشعبها في جوعنا وظمئنا. قال: ويروى: نجوع ونظما، بالنون على ما ذكرنا من التفسير، ويجوز أن يكون أن تجوع وأن تظما بالتاء خبرًا عن الليالي. والمعنى: غذاؤها وريها جوعها وعطشها؛ أي لا ري لها ولا شبع، لأنها لا تروى ولا تشبع من إهلاك الأنفس وإزهاق الأرواح. وتقدير «ما ضر في نفع غيرها»: ما أثر في نفع غيرها بالضرر، كأنه قال: منافعها في ضر غيرها.
(٦٢٢) الترحة: الاسم من الترح، وهو الحزن. يقول: اشتد حزني عليها فكأني مت بها غمًّا، وماتت هي من شدة سرورها بحياتي بعد إياسها مني.
(٦٢٣) يقول: السرور حرام عليَّ؛ فإنني بعد موتها بالسرور أعده سمًّا فأتجنبه وأحرمه على نفسي.
(٦٢٤) تعجب — بحذف إحدى التاءين — أي تتعجب. والباء من قوله: «بحروف» للتجريد. والأغربة: جمع غراب. والعصم: جمع أعصم، وهو الذي في جناحه بياض، والغراب الأعصم نادر الوجود. قال التبريزي: إنها كانت تتعجب من كتابي — عند رؤيته — حتى كأنها تنظر إلى ما لا يوجد، كالغراب الأعصم، ووجه تعجبها أنه سافر عنها حتى يئست منه، فلما نظرت إلى كتابه أكثرت النظر شغفًا به لا عجبًا حقيقيًّا. قال ابن جني: شبه البياض الذي بين الأسطر بالبياض في الغراب الأعصم.
(٦٢٥) المحاجر: ما حول العينين. وسحما: سودًا. يقول: لم تزل تقبل كتابي وتضعه على عينيها حتى صارت أنيابها وما حول عينيها سودًا بمداده — حبره — هذا، ويقال: لثم فاها — بالكسر — إذا قبلها. وربما جاء بالفتح، قال عمر بن أبي ربيعة — وقيل لجميل بن معمر:
قالت: وعيشِ أبي وحُرْمةِ إخوتي لَأُنَبِّهنَّ الحيَّ إنْ لم تخرُجِ
فخرجْتُ خِيفةَ أهلها فتبسَّمَت فعلمْتُ أن يَمينَهَا لم تُحْرِجِ
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِها شرب النزيف ببرْدِ ماء الحشرج
(النزيف: المحموم الذي منع من الماء. ونصب «شرب» على المصدر المشبه به؛ لأنه لما قبلها امتص ريقها، فكأنه قال: شربت ريقها كشرب النزيف للماء البارد. والحشرج: الماء الذي يجري على الرضراض صافيًا رقيقًا، والحشرج: كوز صغير لطيف.)
(٦٢٦) رقأ الدمع والدم: انقطع، فأصله الهمز، ولكنه لينه هنا للضرورة. يقول: لما ماتت انقطع ما كان يجري من دمعها على فراقي، ويبست جفونها عن الدمع، وسليت عني بعدما أدمى حبي قلبها في حياتها.
(٦٢٧) يقول: لم يسلها عني إلا الموت، وقد ذهب به ما نالها من السقم جزعًا علي، ولكن الذي أذهب ذلك السقم كان أشد عليها من السقم، كما قال أبو تمام:
أقولُ، وقد قالُوا: استراح بمَوْتها مِنَ الكَرب: رَوحُ الْمَوت شَرٌّ مِن الكَرْب
ومثله له:
أجارَك المكروهُ مِن مثله فاقِرةٌ نَجَّتك من فاقِرة
(الفاقرة: الداهية الكاسرة لفقار الظهر.)
(٦٢٨) يقول: إنما سافرت وفارقتها لأطلب لها حظًّا من الدنيا، ففاتتني هي بموتها، وفاتني ذلك الحظ؛ لأني لم أدركه، وكانت قد رضيت بي حظًّا من الدنيا لو كنت أنا قد رضيتها حظًّا لي.
(٦٢٩) استسقى: طلب السقيا. والغمام: السحاب. والوغى: الحرب. والقنا: الرماح. والصم: الصلاب. يقول: بعد أن كنت أستسقي الحرب والرماح دماء الأعداء صرت أستسقي السحاب قبرها، فأقول: سقى الله قبرها — على عادة العرب في الدعاء للقبور بسقيا السماء — يعني تركت الحرب وجدًا بها واشتغلت بالدعاء لها. قالوا: وفيه نظر إلى قول الآخر:
وبرَغْمِي أصبحت أمنحك الودَّ وَأُهْدِي إليكَ صوب الْغَمامِ
(٦٣٠) قبيل: تصغير قبل. والنوى: البعد. يقول: كنت قبل موتها أستعظم فراقها، فلما ماتت صارت حادثة الفراق صغيرة وكانت عظيمة؛ يعني أن موتها أعظم من فراقها.
(٦٣١) يقول: اجعليني واحسبيني بمنزلة من أخذ ثأرك من الأعداء لو قتلوك فكيف آخذ ثأرك من العلة التي قتلتك، وهي العدو الذي لا سبيل إليه. قالوا: وفيه نظر إلى قول عمران بن حطان:
ولم يُغنِ عنكَ الموتُ يا حَمْزَ إذْ أتى رجالٌ بِأيديهم سُيُوفٌ قَوَاضِبُ
(حمز: ترخيم حمزة. وقواضب: قواطع.)
وأحسن فيه أبو الحسن التهامي:
لو كُنْتَ تُمْنَعُ خاض نَحْوكَ فِتيةٌ مِنَّا بحارَ عواملٍ وشِفار
(عوامل: جمع عامل، وعامل الرمح: صدره، والمراد: الرماح نفسها. والشفار: جمع شفرة، والشفرة: ما عرض من الحديد وحدد، والمراد: السيوف.)
(٦٣٢) يقول: إنه قد صار لفقدها كالأعمى فانسدت عليه المسالك لذلك؛ لا لأن الدنيا قد ضاقت.
(٦٣٣) الألف من قوله «فوا أسفا»: للندبة. وأكب على الشيء: مثل انكب؛ أي انحنى على وجهه. واللذي: أراد اللذين، فحذف النون لطول الاسم بالصلة، وقيل: بل هي لغة في تثنية «اللذ»، وأنشدوا على ذلك قول الأخطل:
أبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا كسرا القُيود وفكَّكَا الأغْلالَا
(يفتخر الأخطل على جرير — وجرير من بني كلب — بمن اشتهر من بني تغلب ومنهم الأخطل، كعمرو بن كلثوم قاتل عمرو بن هند، وأبي حنش عاصم بن النعمان قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو آكل المرار يوم الكلاب الأول.)
وقول الأشهب بن رميلة — شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام:
وإن الذي حانت بِفلْج دِماؤُهُم هُمُ القومُ كلُّ القومِ يا أُم خالِدِ
(بعده:
همو ساعِدُ الدهر الذي يُتقى به وما ضر كف لا ينوء بساعد
وفلج: طريق تأخذ من طريق البصرة إلى اليمامة.)
يقول: ما أشد حزني أن لا أكب عليك مقبلًا رأسك وصدرك اللذين ملئا حزامة وعقلًا؛ يتأسف لغيبته لدى وفاتها وأنه لم يودعها قبل دفنها.
(٦٣٤) يقول: ووا أسفى أني لا ألقى روحك الطاهر الذي كأن جسمه أي — جسم ذلك الروح — من المسك الذكي الشديد الرائحة.
(٦٣٥) الضخم: العظيم. والجدة: تسمى أمًّا. يقول: لو لم يكن أبوك أكرم والد لكانت ولادتك إياي بمنزلة أب عظيم تنسبين إليه؛ أي إذا قيل لك: أم أبي الطيب قام ذلك مقام نسب عظيم لو لم يكن لك نسب.
(٦٣٦) لذ: طاب. والشامت: الفرِح بمصيبة عدوه. وبيومها: أي بيوم موتها: ومني: تجريد. يقول: إن كانوا قد شمتوا بموتها فقد خلفت مني من يرغم أنوفهم؛ أي يلصقها بالرغام — التراب — أي يذلهم ويقهرهم.
(٦٣٧) يقول: ولدت مني رجلًا تغرب عن بلاده؛ أي خرج عن بلده إلى الغربة، لأنه لا يستعظم غير نفسه، فأراد أن يغادر الذين كانوا يتعظمون عليه بغير استحقاق، ولا يقبل حكم أحد عليه إلا حكم الله الذي خلقه.
(٦٣٨) العجاجة: الغبار. يقول: ولا أسلك طريقًا إلا قلب غبار الحرب، ولا أستلذ طعم شيء إلا طعم المكارم؛ يعني لا أجد لذتي إلا في الحرب والمكارم.
(٦٣٩) ما أنت: قال بعض الشراح: أي ما أنت صانع؟ على حذف الخبر، أو: ما تصنع؟ على حذف الفعل وإبراز الضمير. وقال العكبري: «ما» واقعة على صفات من يعقل، فإذا قال: ما أنت؟ فالمراد: أي شيء أنت؟ فتقول: كاتب أو شاعر أو فقيه. يقول: يقول الناس لي لما يرون من كثرة أسفاري: أي شيء أنت فإنا نراك في كل بلدة وما الذي تطلبه؟ فأقول لهم: إن ما أطلبه أجل من أن يذكر اسمه، يعني قتل الملوك والاستيلاء على ملكهم.
(٦٤٠) اليتما: مفعول لجلوب، والضمير في «معادنه» لليتم. يقول: إن أبناء هؤلاء الذين يسألون عن حالي وسفري كأنهم يعلمون أني أجلب إليهم اليتم وأصيرهم يتامى بقتل آبائهم؛ أي فهم لذلك يبغضونني.
(٦٤١) الجد: الحظ والبخت. يقول: إن الفهم والعلم والعقل لا تجتمع مع الحظ في الدنيا، وليس الجمع بين الضدين كالماء والنار بأصعب من الجمع بين الحظ والفهم؛ أي فهما لا يجتمعان كما لا يجتمع الضدان، وهذا كالتفسير لقول الحمدوني:
إنَّ المُقَدَّم في حِذْقٍ بَصَنْعَتِهِ أنَّى توجَّهَ فيها فهوَ محْرُومُ
وقد وفينا القول على هذا المعنى في غير موضع من هذا الشرح.
(٦٤٢) بذبابه: أي بذباب السيف، وإن لم يتقدم له ذكر، لدلالة المقام، وذباب السيف: حده. والغشم: الظلم. يقول: لكنني إن لم أقدر على الجمع بين الجد والفهم أطلب النصرة بذباب السيف وأركب الظلم في كل حال. يعني أظلم أعدائي بسيفي.
(٦٤٣) القرم في الأصل: البعير الذي لا يحمل عليه وإنما يعد للفحلة، وهو هنا السيد. يقول: وأحيي أعدائي يوم الحرب بسيفي؛ أي أجعله لهم بدل التحية، كما قال عمرو بن معديكرب:
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بخيلٍ تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وَجيعُ
(المراد بالخيل: الفرسان. ودلفت: دنوت وزحفت، من دلف الشيخ: إذا مشى مشيًا لينا. وتحية: مضاف، وبينهم: مضاف إليه مجرور بكسر النون؛ لأنه ظرف منصرف. ووجيع بمعنى موجع. والعرب تقول: تحيتك الضرب وعتابك السيف فهذا من هذا.)
(٦٤٤) فل: يروى بالفاء وبالقاف، فبالفاء يرتفع «خوف» لأنه فاعل، وبالقاف ينتصب على المفعول له. وفل السيف: ثلمه، استعاره للعزم على تشبيهه بالسيف. والمدى: الغاية. وأبعد شيء: مبتدأ، خبره: ممكن. يقول: إذا أَضعف عزمي عن غايةٍ خوفُ بُعْدِ تلك الغاية، فإن الممكن وجوده لا ينال أيضًا إذا لم يكن لدى طالبه عزم؛ يعني لا يُدرَك شيءٌ ألبتة إلا بالعزم عليه، وإذا كنت تحتاج إلى العزم لنيل القريب وتدركه بالعزم، فاعزم أيضًا على البعيد لتناله ولا يمنعك منه خوفُ بُعده؛ فإنه يقرب بالعزم ويمكن.
(٦٤٥) الأنف: الاستنكاف من الشيء. يقول: إني من قوم ديدنهم التعرض أبدًا للحرب ليقتلوا، فكأن نفوسنا ترى السكنى في أجساد هي لحم وعظم عارًا تأنف منه، ومن ثم تتطلع لسكنى غيرها للتخلص من هذا العار؛ أي تختار القتل على الحياة. قال الواحدي: ولو قال: كأن نفوسهم لكان أوجه لإعادة الضمير على لفظ الغيبة، لكنه قال: نفوسنا؛ لأنهم هم القوم الذين عناهم، ولأن هذا أمدح.
(٦٤٦) الكرائه: جمع كريهة، فعيلة بمعنى مفعولة. يقول — للدنيا: أنا كما وصفت نفسي لا أقبل ضيمًا ولا أسف لدنية، فاذهبي عني إن شئت فلست أبالي بك. ويا نفس زيدي قدمًا — أي تقدمًا — فيما تكرهه الدنيا من التعزز والتعظم عليها وترك الانقياد لها. قال الواحدي: وإن شئت قلت: في كرائهها — أي في كرائه أهلها — يعني زيدي تقدمًا في الحروب، وهي — الحروب — مكروهة عند أهل الدنيا؛ ولذلك تسمى الحرب الكريهة، فيكون الكلام من باب حذف المضاف.
(٦٤٧) يقول: لا مرت بي ساعة — لحظة — لا أكون فيها عزيزًا، ولا صحبتني نفس تقبل أن يظلمها أحد.
(٦٤٨) أنا لائمي: أي أنا لائم نفسي إن كنت … إلخ، وأثبت ألف «أنا»: ضرورة لأنها لا تثبت لفظًا إلا في الوقف. وقوله: وقت اللوائم: أي وقت لوم اللوائم. والمعالم: أي معالم ديار الأحبة، وهي حيث تظهر علامات الراحلين عن الديار من آثار النار والدواب والخيام. يذكر وقوفه على ديار الأحبة وما أصابه من الدهش والوجد لفرقتهم؛ مما أذهب عقله حتى لم يشعر بما كان منه من الجزع والبكاء. يقول: إن كنتُ حين تلومني اللوائم على فرط جزعي علمت ما بي وما الذي دهاني هناك، فأنا لائمي: أي فأنا لائم نفسي في قصور محبتي؛ لأن ثبات علمي وعقلي معي في ديارهم بعد ارتحالهم دليل على أن هواي قاصر. وقال بعض الشراح. يعني: إن كنت حين لامتني اللوائم على فرط جزعي وبكائي علمت بما عراني من ذلك فأنا لائم نفسي على تهتكي واستسلامي للوجد والعبرة، يذكر وقوفه في ديار الأحبة وما أدركه من الدهش والوجد لفرقتهم حتى انهتك ستره ولم يعلم.
(٦٤٩) شده الرجل — كدهش — فهو مشدوه: إذا تحير، ويروى: مما ذهلت. و«ما» قبله: مصدرية. والمتيم: الذي تيمه الحب؛ أي عبده وذللـه. يقول: ولكنني من فرط دهشتي ذهلت عن إدراك ما خامرني من الوجد، فصرت كالسالي، وباح قلبي بما فيه من أسرار الغرام وهو لا يعلم بما فعل فكان كأنه باقٍ على الكتمان. وعبارة الواحدي: ولكنني من فرط دهشتي وذهولي حتى كأنني ذهلت عن الهوى صرت كالسالي مع أني متيم. وباح قلبي بما فيه من الوجد وهو مع ذلك كالكاتم؛ لأنه لم يقصد البوح ولا يدري ما فعل.
(٦٥٠) الأذواد: جمع ذود، وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة من الإبل. يقول: أطلنا الوقوف هناك، فكأن ما في قلوبنا من الوجد حل في قوائم إبلنا؛ لأنها وقفت ولم تبرح.
(٦٥١) المناسم: جمع المنسم، وهو للخف كالسنبك للحافر. يقول: لما وطئت الإبل تراب تلك المعالم جعلت أطلب شفاء ما بي بلثم — تقبيل — أخفافها؛ لأنه علق بها ذلك التراب، وفيه نظر إلى قول الآخر:
أمْسَحُ الرَّبْعَ بخدِّي أنْ مَشى فيهِ الخليلُ
(٦٥٢) القنا: الرماح. والتمائم: جمع تميمة؛ العوذة. يقول: ديارهن منيعة لا يتوصل إليها، وهن يحفظن بالرماح لا بالعوذ.
(٦٥٣) الوشي: النقش في الثوب، وهي الثياب المنقوشة. و«مسن»: تبخترن. يقول: لنعومة أبدانهن ورقتهن إذا مشين متبخترات ينقش الوشي في جلودهن مثل صورته، كما قال السري الرفاء:
رَقَّتْ عَنِ الْوَشْيِ نَعْمَةً فَإِذَا صَافَحَ مِنْهَا الْجُسُومَ وَشَّاهَا
وفي مثل هذا يقول الآخر:
رَقَّ فَلَوْ مَرَّتْ به نَمْلَةٌ مُنْعَلَةٌ أرْجُلُها بالحريرْ
لَأَثَّرَتْ فيه كما أثَّرَت مُدَامَةُ في عَارِضٍ مُسْتديرْ
«العارض: الخد.»
(٦٥٤) التراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي فوق الصدر. والمباسم: جمع المبسم؛ الثغر. يقول: إن ثغورهن في الصفاء وحسن النظم مثل الدر الذي تقلدنه، فكأن تراقيهن حليت بثغورهن. وفي مثل هذا يقول الآخر:
تلكَ الثَّنَايَا مِنْ عِقْدها نُظِمَتْ أمْ نُظِمَ العِقْدُ مِنْ ثَنَاياها
(٦٥٥) طلابي: أي مطلوبي، مبتدأ، خبره: نجومها. والأراقم: ذكور الحيات. يشكو الدنيا وأنها لا تسعفه ولا تحقق ما يطلبه. يقول: ما لي وللدنيا أطلب معالي الأمور وأنا مرتبك في نوائبها وخطوبها؟! يعني أن الدنيا عكست عليه الأمر، هو يطلب المعالي، وهي تدفعه عنها بما توقعه فيه من النوائب، وكنى بنجوم الدنيا عما فيها من الشرف والمجد والذكر، وبشدوق الأراقم عن الخطوب المهلكة والنوائب المفظعة.
(٦٥٦) الحلم: الأناة والعقل. الجهل — هنا — نقيض الحلم، والمظالم: جمع المظلمة — بكسر اللام — وهي الظلم. يقول: إذا كان حلمك داعيًا إلى ظلمك، فإن من الحلم أن تجهل؛ لأن الحلم إنما يُلجأ إليه لتدارك الشر، فإذا تفاقم به الشر ولم يتدارك الشر إلا بالجهل كان الجهل حلمًا، كما قال النابغة الجعدي:
فَلَا خيرَ في حِلمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَادِرُ تَحمِي صَفْوَه أنْ يُكَدَّرَا
وهذا معنى قد تداوله الناس من قديم. قال العكبري: وهو من كلام الحكيم: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك، وزوجتك، وعبدك؛ فسبب صلاحهم التعدي عليهم.
(٦٥٧) شطره: نصفه. يقول: ومن الحلم أن ترد الماء الذي كثر القتل عليه حتى امتزج بدماء المقتولين عليه؛ يعني أن تزاحم على الأمر المتنافس عليه. وبعبارة أخرى: من الحلم أن تزاحم من يزحمك حتى ترد الماء وقد كثر عليه القتل والقتال حتى صار نصفه من دم القتلى، فتشرب منه حيث لا يمكن أن يشرب إلا الهَجوم الذي يزاحم الناس. وهذا المعنى ينظر إلى قول القائل:
لَا يَشْرَبُ الماءَ إلَّا من قَلِيبِ دَمٍ وَلَا يَبيتُ لَهُ جارٌ عَلَى وَجَلِ
(٦٥٨) يقول: من عرف الناس حق المعرفة — كمعرفتي أنا بهم — قتلهم غير راحم لهم، لأنهم إذا ظفروا بمن عرفهم لم يرحموه، فإذا قتلهم — والحالة هذه — فلا إثم عليه، على أنه إن لم يبادر بقتلهم فإنهم ميتون ألبتة حتف أنوفهم، وهذا هو مغزى قوله: «الردى الجاري عليهم».
(٦٥٩) صال عليه: وثب واستطال، يريد أنه بلغ الغاية في الشجاعة والعلم، فإذا صال أو قال أوفى على الغاية وكفى غيره، وكان المقدم الذي لا يجارى ولا يشق له غبار.
(٦٦٠) يقول: وإن كنت كاذبًا فيما قلت فلا وفت لي القوافي — أي الشعر — حتى أعجز عن نظمها، وضعفت عزيمتي في قصد الممدوح حتى يعوقني عنه ضعف عزمي؛ أي فلا أصل بقعودي عنه إلى المطلوب، ويكون حرماني من أفضاله كالعقوبة لي على ذلك.
(٦٦١) التلاد والتليد: المال القديم الموروث، نقيض الطارف والطريف. يقول: عن الذي يحرص على بذل ماله التالد كما يحرص غيره على حفظ تلاده. وعبارة الواحدي: أي عن الذي يدخر البذل مالًا فيقوم بذلك ماله مقام ما يقتنيه؛ يعني أنه يلازم البذل ملازمة المال المقتنى؛ وعبارة الخطيب التبريزي: أي إلى الجاعل بذل التلاد تلادًا له يهب التلاد ويجعل بذله تلادًا له، هذا، وخص «التلاد»؛ لأنه إذا كان هذا فعله بالمال القديم، فكيف بالحادث؟!
(٦٦٢) تمنى — بحذف إحدى التاءين — أي تتمنى. والعفاة: جمع عافٍ، وهو طالب المعروف. والغمائم: السحائب، وأراد بكونها ثقالًا: أن ماءها كثير. يقول: إن أعداءه يتمنون أن يكونوا في مكان عفاته منه؛ لأن عفاته منه في أمان من نوائب الدهر، وهذا أقصى ما يتمناه أعداؤه. ويجوز أن يكون المعنى: إن عفاته يغيرون على أمواله ويترفهون في نعمائه، وهذا ما يتمناه أعاديه. ثم قال: إن السحاب المثقل بالماء يحسد كفيه؛ لأنهما أندى منه، فلهذا يحسدهما لعجزه عن إدراكهما.
(٦٦٣) المهجة: النفس. يقول: ولا يستقبل الحرب إلا بنفس مرفوعة عن الدنايا لا تسف لأمر دنيء، وهي مدخرة لكفاية الأمور العظيمة التي لا تكفى إلا بمثله.
(٦٦٤) وذي لجب: عطف على مهجة، أي ولا يتلقى الحرب إلا بجيش ذي لجب … إلخ. واللجب: اختلاط الأصوات. والمثار: الذي أثاره الخوف من مكمنه. قال ابن فورجه: المعنى عندي أن هذا الجيش جيش ملك تصحبه الفهود والبزاة والكلاب، فلا الطائر يسلم منه ولا الوحش. قال: ونكت بقوله: «المثار»؛ فإن الجيش الكثير يثير ما كمن من الوحوش. لأجل ذلك قال مالك بن الريب:
بجَيْشٍ لُهَامٍ يَشْغَلُ الْأَرْضَ جَمْعُه عَلَى الطَّيْرِ حَتَّى مَا يَجِدْنَ مَنَازِلَا
وقال التبريزي: إذا طار ذو الجناح أمامه فليس بناجٍ لكثرة الرماة في الجيش، وإن ثار وحش أخذ. وقال ابن جني: الجيش يصيد الوحوش والعقبان فوقه تسايره:
ثِقَةً بالشِبْع مِنْ جَزَره
فتخطف الطير أمامه. قال ابن فورجه — ناقدًا: صيد الطير بالنبل والسهام مستمر معتاد، فلم نسبه إلى العقبان ولا مدح في ذلك من فعلها، فإنها تصيد الطير وإن لم تصحب جيش الممدوح.
(٦٦٥) القشاعم: النسور. يقول: تمر الشمس على هذا الجيش وهي ضعيفة من شدة غباره أو من كثرة عقبانه التي تخيم عليه وتتبعه، ولا ينفذ ضوءُها إليه إلا من خلال ريش النسور، وهو ما ذكره في البيت التالي.
(٦٦٦) الفرجة — بالفاء — الخلل بين الشيئين: أي الانفراج، أما بفتح الفاء فهي التفصي من الهم ونحوه، قال أمية بن أبي الصلت:
لا تَضِيقَنَّ فِي الْأُمُور فَقَدْ تُكـْ ـشَفُ غَمَّاؤُها بغَيْرِ احْتِيالِ
رُبَّمَا تَكْرَه النُّفُوسُ مِنَ الْأَ مرِ لَهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ الْعِقَالِ
والبيض: جمع بيضة، وهي الخوذة. شبه ما يتساقط من الضوء في فرج أجنحة الطير بالدراهم. وشبهه في موضع آخر بالدنانير، وهو قوله:
وَألقى الشَرْقُ مِنْها فِي ثِيابي دَنَانِيرًا تَفِرُّ من البَنَانِ
يريد هنا أنه لكثرة اشتباك أجنحة الطير فوقه لا يصل إليه ضوء الشمس إلا من منافذ ضيقة فيقع مستديرًا.
(٦٦٧) حافاته: جوانبه. والهماهم: جمع همهمة، وهو صوت يتردد في الصدر لا يفهم. يقول: لكثرة ما في ذلك الجيش من بريق الأسلحة ولمعانها يختفي عليك البرق إذا برقت السماء فلا تعرفه لغلبه ضوئها عليه، ولكثرة ما فيه من الأصوات وشدتها يخفى عليك الرعد.
(٦٦٨) الفرات: النهر المعروف. وبرقة: قرية في العراق. يقول: أرى دون وصول الأعداء إلى هذا الموضع محاربة بالسيوف يكثر فيها قطع الرءوس حتى تطأها الخيل فتمشي فوق جماجم القتلى.
(٦٦٩) طعن: عطف على «ضرابًا». والغطاريف: جمع غطريف، وهو السيد الكريم. والردينيات: جمع رديني، وهو الرمح، نسبة إلى ردينة؛ امرأة من العرب كانت تقوم الرماح. والمعاصم: جمع معصم، وهو موضع السوار من الساعد. يصف قوم الممدوح يقول: لحذقهم بالطعان كأنهم عرفوا الرماح قبل أن تشد على سواعدهم؛ أي في طفولتهم.
(٦٧٠) الضمير في «حمته»: عائد على «ما بين الفرات وبرقة». وطغج بن جف: جد الممدوح. قال ابن جني: والأجود أن تكسرهما وتحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وطغج — في الأصل — بضم الغين، وإنما غيره لأن العرب إذا نطقت بالأعجمي اجترأت على تغييره كيف شاءت. والقماقم: جمع قمقام، وهو السيد العظيم، وأصله: البحر، وكان حق الجمع «قماقيم» ولكنه حذف الياء ضرورة. يقول: جعلت سيوفهم هذا المكان حمًى على الأعداء فلا يحومون حوله، ولا يستطيع أحد أن يصل إليه من أية ناحية من نواحيه لمكانهم — بني طغج — من القوة والشجاعة.
(٦٧١) الكر: الرجوع على العدو بعد الفر، للجولان في الحرب. وحومة كل شيء معظمه. والوغى: الحرب. يقول: إنهم يكرون في الحرب على أعدائهم، وكذلك يعودون في المكارم فيضاعفونها، فهم يفعلون ذلك مرة بعد مرة، ولا يقتصرون في الأمرين على مرة واحدة.
(٦٧٢) الغرم: ما يلزم الرجل أداؤه من دية أو ضمان أو غير ذلك، والرجل غارم: أي لزمه ما يغرم عنه.
(٦٧٣) الشفار: جمع شفرة، وهي حد السيف. والصوارم: السيوف القواطع. يقول: هم حييون إلا في وقت الحرب، فإنهم فيها صفاق الوجوه لا يلينون لأقرانهم. وهذا من قول بكر بن النطاح:
يتلقَّى النَّدَى بِوَجْهٍ حَييٍّ وصدور القنا بوَجْهٍ وَقَاحٍ
(٦٧٤) قال العكبري: يقول: الأُسد — وهي جمع أسد — معدودة من البهائم، ولولا ذلك لكنت أشبهها بهم، فأقول: الأسد مثلهم، وإنما يقع التشبيه للمفضول بالفاضل إذا كانت بينهما مناسبة، ولا مناسبة بين هؤلاء وبين الأسود إلا بالإقدام. قال: وهذا البيت مما وقع فيه جماعة من الناس فينشدونه: شبهتهم بها، وهو على الظاهر بين، وإنما أغرب أبو الطيب.
(٦٧٥) السرى: السير ليلًا. والصنائع: جمع صنيعة، وهي المعروف. يقول: ذهب النوم عني في مسيري إليه — الممدوح — وهو الذي تسير عطاياه إلى كل نائم عن قصده فضلًا عمن يقصده. هذا، ويقال: سريت سرًى ومسرًى وأسريت — بمعنى — إذا سرت ليلًا، بالألف لغة أهل الحجاز، وجاء القرآن العزيز بهما جميعًا، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا، وقال سبحانه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ. وقال حسان بن ثابت:
حَيِّ النضيرَة رَبَّةَ الْخِدْرِ أسْرَتْ إلَيْكَ ولم تكُن تَسْرِي
(٦٧٦) اخترمهم الدهر: أهلكهم واستأصلهم. ومشكي: من أشكيت الرجل؛ إذا أزلت شكواه، والهمزة فيه للسلب، مثلها في قولهم: أعتبت الرجل؛ أي أزلت عتبه — أي أرضيته — والرغم: القهر والإذلال. والمراغم: المغاضب، والمراغمة: المغاضبة، تقول: راغم أهله؛ أي نبذهم وتمرد عليهم وعاداهم. يقول: إنه يمن على الأسرى فيطلقهم من الإسار، ويختطف الأعداء في الحرب بسيوفه وأسنته، ويزيل شكوى ذوي الشكوى بالإحسان إليهم ويرغم — يذل — المراغم؛ أي الذي يراغمه ويغاضبه.
(٦٧٧) يقول: نفضت الناس لما بلغته نفض القادم حثالة زاده لاستغنائه عنها بعد القدوم، وكذلك أنا استغنيت به عن غيره.
(٦٧٨) يقول: لما اتصلت به عظم سروري بهذا الاتصال فعظمت من أجله ندامتي على حرماني من الاتصال به فيما مضى من عمري حتى كاد هذا السرور لا يفي بذلك الندم. قالوا: وهذا المعنى مثل قول أبي فراس:
أيامُ عزِّي ونفاذِ أمْرِي هِيَ التي أحْسَبُهَا مِن عُمرِي
(٦٧٩) شر الأرض: قال ابن جني: هي طبرية، وفيها أعداء أبي الطيب الذين قال فيهم:
أتاني وعيد الأدعياء … … … … [البيت]
… «البيت». وتربة: عطف على «شر الأرض». وجملة «بها علوي»: نعت لتربة. يقول: لما اتصلت به فارقت أرضًا أهلها شر الأهل، وتربة رجل يدعي نسبه إلى علي وليس من ولده، فليس بشريف.
(٦٨٠) يقول: ابتلى الله حساده بحلمه حتى لا يقتلهم، ورفعه فوقهم حتى يكون منهم مكان عمائمهم، وذلك أن بقاءهم أصعب عليهم من الموت؛ لأنهم يعيشون في ذلة وخوف. كما بين ذلك في البيت التالي.
(٦٨١) الغلاصم: جمع غلصمة، وهي الموضع النائي في الحلق، وقيل: اللحم الذي بين الرأس والعنق. يقول: سرعة الموت راحة لهم من حسدهم؛ لأن في عيشهم وبقائهم موتًا يتجدد على مر اللحظات.
(٦٨٢) جاودني: غالبني في الجود فجدته؛ أي كنت أجود منه. قال الواحدي: هذا تعريض بالذين يبارون الممدوح في الجود والشجاعة من حساده. يقول: أيها الإنسان الذي تباريه في الجود ويظهر عليك جوده، كأنك ما جاودته؛ لأن الفضل والغلبة له عليك، وكأنك لم تقاتل من لم تقاومه في الحرب؛ لأن من غلبك في الحرب لم تنفعك محاربتك إياه، والمعنى أن مفاخرتهم — أي حساده — إياه — الممدوح — لا تنفعهم؛ إذ كانت الغلبة له.
(٦٨٣) الخطاب في «حييت»: للقسم. ومن قسم: في محل نصب على التمييز و«من» زائدة. وقوله: أمسى الأنام له: في موضع الحال من المقسم. ولك أن تجعلها في موضع خفض على الصفة للقسم، فيكون الضمير في «له» عائدًا على القسم، لا المقسم.
(٦٨٤) يقول: إن شربها حرام، وعصيان الأمير حرام، لكن عصيانه أحرم من شربها فإذا شربها وترك عصيانه فقد ترك الأحرم.
(٦٨٥) همه: ما يهم به.
(٦٨٦) المغامرة: الدخول في المهالك. والغمرات: الشدائد. وفي شرف: أي في طلب شرف. ومروم: مطلوب. يقول: إذا حاولت الشرف وخاطرت بنفسك في سبيل الحصول عليه فلا تقنع بما دون أعلاه، ولا ترضَ باليسير منه.
(٦٨٧) يقول: إن طعم الموت في الأمر الهين كطعمه في الأمر الشديد الصعب، وإذن فلا سبيل للمغامر إلا أن يقصد أسمى الأمور.
(٦٨٨) صفائح: فاعل «تبكي»، وفرسي مفعول. والشجو: الحزن، وهو مصدر وضع موضع الحال، على تقدير مشجوة شجوها ثم حذف العامل وأقيم المصدر مقامه على حد قوله تعالى: أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ. والضمير: للصفائح أيضًا. والصفائح: جمع صفيحة؛ السيف العريض. وماء الجسوم كناية عن الدم. يقول: ستبكي حزنًا على فرسي ومهري سيوف دمعها الدماء. يشير إلى أنه سيقتل من قتلهما فتكون دماء قتلاه التي تقطر من سيوفه دموعًا تبكي بها سيوفه، وكل هذا مجاز واستعارة — كما ترى — والمعنى: أنه سيقتل من قتل فرسه ومهره.
(٦٨٩) قربن: من قولهم: قربت الإبل الماء؛ إذا وردته صبيحة ليلها. قال الواحدي: يريد أن السيوف وردت النار، وهذا قلب للمعهود؛ لأن القرب إنما يستعمل في ورود الماء، فجعل النار لهذه السيوف كالماء الذي ترده الشاربة، والنار تهلك وتفني، وقد أنمت هذه السيوف وربتها تربية النعيم للعذارى، يريد أنها تخلصت من الخبث وحسنت صنعتها بحسن تأثير النار في تخليصها، وإنما طبعت وصارت سيوفًا بعد أن كانت زبرًا — قطعًا — بالنار، فذلك نشاؤها نشاء العذارى في النعيم. وقربن: هي رواية ابن جني، وتروى: قرين — من القرى — ما يقرى به الضيف؛ أي جعلت النار قرى لها فنشأن بحسن القرى. وتروى: قرين النار — بالبناء للمعلوم — جعل السيوف بما تؤديه إلى النار من الخبث قارية لها، وكان حكم النماء أن يكون للمقري — لا للقاري — فعكس موجب القرى بأن جعل النشاء — النشء — للقاري.
(٦٩٠) الصياقل: جمع صيقل، وهو القين الذي يصنع السيوف. ومخلصات: أي خالصات من الخبث. والكلوم: الجراح، جمع كلم. يقول: إن الصياقل لم تستطع أن تحفظ أيديها من هذه السيوف لشدة مضائها، فبأيدي الصياقل جراح منها.
(٦٩١) الجبان: نقيض الشجاع. يقول: إن لؤم طبع الجبان يريه العجز عن اقتحام العظائم في صورة العقل حتى يظن أن عجزه وجريه على حكم الجبن عقل، وليس الأمر كذلك، وإنما ذلك لسوء طبعه الرديء وصغر همته.
(٦٩٢) تغني: من الغناء. يقول: إن الشجاعة كيفما كانت وفيمن كانت تغني صاحبها وتكفيه مؤنة الخسف والعار، ولكن الشجاعة في الحكيم لا تقاس بها الشجاعة في غيره؛ لأنها تكون حينئذٍ مقرونة بالحزم، فتكون أبعد عن الفشل، يريد أن العقل لا يغني عن الشجاعة وهي تغني كيفما كانت فتستغني عن العقل، ولكن إذا اجتمعا تعززت الشجاعة بالعقل. هذا، ومثل — من قوله ولا مثل — اسم لا، وإن كان مضافًا إلى معرفة؛ لأنه من الأسماء التي لا تتعرف بإضافتها إلى المعارف، والخبر محذوف: أي ولا مثل الشجاعة في الحكيم موجودة.
(٦٩٣) الآفة: العاهة. والضمير في آفته: للقول، وهذا المعنى من قول أبي تمام — وقد قال له أبو سعيد الضرير: يا أبا تمام لم لا تقول ما يفهم؟ فقال له: يا أبا سعيد لم لا تفهم ما يقال؟!
(٦٩٤) القريحة في الأصل: أول ما يخرج من البئر حين تحفر. وقريحة الإنسان: طبيعته التي جبل عليها؛ لأنها أول خلقته، ويقال لفلان قريحة جيدة، يراد استنباط العلم بجودة الطبع. يقول: إن كل أذن تأخذ مما تسمع على قدر قريحة صاحبها وعلمه: يعني أن الغبي الجاهل إذا سمع شيئًا لم يفهمه ولم يعلمه وكل أحد يدرك ما يسمع على قدر طبعه وعلمه، فإذا عاب إنسان قولًا صحيحًا فذلك لأنه لم يفهمه، إنما أُتي من سقم قريحته. هذا معنًى رائع بديع، وهو كثير، قال جل شأنه: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، وقال أبو العلاء المعري:
والنجمُ تستصغرُ الأبصارُ صُورَتَهُ والذَّنْبُ للطَّرف لا للنجم في الصغر
(٦٩٥) لهوى النفوس: يروى لهوى القلوب. والسريرة: السر. وعرضًا: أي فجاءة واعتراضًا عن غير قصد، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق: أي نظرت نظرًا عرضًا، فيكون صفة مصدر محذوف. وخلت: حسبت. يقول: إن سر الهوى لا يعرف ولا يدرى من أين يأتي ويتسرب إلى قلب العاشق، كما قال:
إن المحبةَ أمْرُهَا عجَبُ تُلقى عليك وما لها سببُ
ثم قال: إني نظرت إليها عن غير قصد — يعني إلى المحبوبة — فعشقتها وكنت أظن أني أسلم من هواها.
(٦٩٦) معتنق الفوارس: وصف للشجاع؛ لأنه يعتنقهم عند الضرب بالسيف. والوغى: الحرب. وثَم: هناك. ورنا إليه يرنو: أدام النظر. وقد اضطربت كلمة الشراح في هذين البيتين، قال ابن جني: يرميه بأخته وبالابنة، وثم إشارة إلى المكان الذي يخلو فيه للحال المكروهة، ويجوز أن تكون إشارة إلى موضع الحرب؛ يصفه بالجبن. وقال العروضي: شبب بامرأة أخوها مبارز فتاك، فقال لها: أخوك على قساوة قلبه وإراقته الدماء أرحم منك. وكيف يرميه بالابنة وبأخته، وهو يقول: يرنو إليك مع العفاف؟! وهذه العفة من جهة الإسلام، وإلا فهو يرى أن تزوج الأخوات عند المجوس من حكمهم فمن حسنها يرى أن المجوس أصابوا في حكمهم. قال: وقد روي أن بشارًا كان في جماعة من نساء يداعبهن، فقلن له: ليتنا بناتك، فقال: وأنا على دين كسرى … وقال ابن فورجه: شبب بامرأة ومدح أخاها وزعم أنها من بيت الفوارس الأنجاد، كما قال في أخرى:
متى تَزُرْ قَوْمَ منْ تَهْوَى زِيَارتَهَا لَا يُتْحِفُوك بغيْرِ الْبِيضِ والأسَلِ
وكقوله أيضًا:
دِيَارُ اللَّوَاتِي دارُهُنَّ عزيزةٌ بِطُولِ الْقَنا يُحْفَظْنَ لا بالتمائم
وكقوله:
تَحُولُ رمَاحُ الخطِّ دونَ سِبائِهِ
ثم قال لحبيبته: أنت قاسية القلب، وأخوك — على بسالته — إذا لقي العدو كان أرحم منك لي وأرق منك علي، ثم أراد المبالغة في ذكر حسنها فقال: أخوك يود لو كان دينه دين المجوس فيتزوج بك. ومن الدليل على النهاية في الحسن أن يود أخوها أنها تحل له؛ ولهذا قال أبو بكر الخوارزمي.
تَخشَى عَليْهَا أمُّها أَبَاهَا
وقال أبو تمام في مثل هذا:
بِأَبِي مَنْ إذَا رَآهَا أَبُوهَا قَالُ حُبًّا: يَا لَيْتَ أَنَّا مَجُوسُ
ومثله لعبد الصمد بن المعذل في جارية كان يسميها بنته:
أُحِبُّ بُنَيَّتِي حُبًّا أَرَاهُ يَزِيدُ على محبَّاتِ البناتِ
أَرَاني مِنْكِ أَهْوَى قَرْصَ خَدٍّ وَرَشْفًا لِلثَّنَايَا وَاللِّثَاتِ
وَإلْصَاقًا بِبَطْنٍ مِنْكِ بَطْنِي وَضَمًّا لِلْقُرُون الواردات
وَشَيْئًا لَسْتُ أَذْكُرُهُ مَليحًا بِهِ يَحْظَى الْفَتَى عِنْدَ الْفَتَاةِ
أَرَى حُكْمَ المجوسِ إذا الْتَقَيْنَا يكونُ أَحَلَّ من ماءِ الفراتِ
هذا، وقد قال أبو علي الفارسي: المجوس واليهود إنما عُرِّفا على حد يهودي ويهود ومجوسي ومجوس، ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما؛ لأنهما معرفتان مؤنثتان فجريا في كلامهم مجرى القبيلتين ولم يجعلا كالحيين في باب الصرف، وأنشد:
أصاح تَرَى بُرَيْقًا هَبَّ وَهْنًا كَنَارِ مَجُوسَ تَسْتَعِرُ اسْتعَارا
(قال ابن بري: صدر البيت لامرئ القيس، وعجزه للتوءم اليشكري. رووا أن امرأ القيس وكان مُعنًا عريضًا، يتعرض الناس بالشر، ينازع كل من قال إنه شاعر. فأتى قتادة بن التوءم اليشكري وأخويه الحارث وأبا شريح، فقال لابن التوءم: إن كنت شاعرًا فملط أنصاف ما أقول وأجزها، فقال: نعم. فقال امرؤ القيس:
أصاح تَرى بُريقا هب وهنا
فقال ابن التوءم:
كنار مَجُوسَ تستعر اسْتعارا؟
فقال امرؤ القيس:
أرقْتُ له وَنَامَ أبُو شُريح
فقال ابن التوءم:
إذا ما قُلتُ: قد هدأ، استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأنَّ هزيزَهُ بوراء غيب
فقال ابن التوءم:
عِشارٌ وُلَّهٌ لاقت عِشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أنْ عَلا كَنفَي أُضاخ
فقال ابن التوءم:
وَهتْ أعْجازُ ريِّقهِ فحارا
فقال امرؤ القيس:
فلمْ يترُكْ بذات السِّرِّ ظبيا
فقال ابن التوءم:
ولم يتركْ بجلهتها حِمارا
«هب وهنا: فالوهن بعد هدء من الليل. وتصغير بريقًا تصغير التعظيم، كقولهم: دويهية. وخص نار المجوس؛ لأنهم يعبدونها، وقوله: أرقت له: أي سهرت من أجله مرتقبًا له لأعلم أين مصاب مائه. واستطار: انتشر. وهزيزه: صوت رعده، وقوله: بوراء غيب؛ أي بحيث أسمعه ولا أراه. وقوله: عشار ولَّه؛ أي فاقدة أولادها فهي تكثر الحنين، ولا سيما إذا رأت عشارًا مثلها، فإنه يزداد حنينها؛ شبه صوت الرعد بأصوات هذه العشار من النوق. وأضاخ: اسم موضع. وكنفاه: جانباه. وقوله: وهت أعجاز ريقه؛ أي استرخت أعجاز هذا السحاب، وهي مآخيره كما تسيل القربة الخلق إذا استرخت. وريق المطل: أوله. وذات السر: موضع كثير الظباء والحمر، فلم يبقَ هذا المطر ظبيًا به ولا حمارًا إلا وهو هارب أو غريق. والجلهة: ما استقبلك من الوادي إذا وافيته».)
(٦٩٧) رائعة البياض: الشعرة البيضاء التي تروع الناظر. ورواها ابن جني: راعية البياض، قال: والراعية من الشعر: أول شعرة تطلع من الشيب، وجمعها: رواع، وأنشد:
أَهْلًا بِرَاعِيَةٍ لِلشَّيْبِ وَاحِدَةٍ تَنْعَى الشبابَ وَتَنْهانَا عَنِ الْغَزَلِ
والأسحم: الأسود. والعارض: صفحة الخد، يقول: راعك — أفزعك — شيبي ولو كان أول لون الشعر بياضًا ثم يسود لراعك الأسود إذا ظهر، فلا تراعي — إذن — بالبياض لأنه كالسواد.
(٦٩٨) سفرت: من سفور المرأة؛ أي كشفها عن وجهها. يقول: لو أمكنني أن أظهر صباي لكشفت عنه فإني حدث السن، ولكن الشيب جار علي عاجلًا فستر شبابي فكأنه تلثم بستر ما تحته من السواد. يعني أن على شبابه لثامًا من الشيب الذي عجل إليه قبل وقته.
(٦٩٩) اليقق: الأبيض. ويعصم: يحفظ. يقول: ليس بياض الشعر موجبًا للموت فقد يعيش الشيخ، وليس سواده واقيًا من الموت فقد يموت الشاب كما هو مشاهد.
(٧٠٠) يخترم: يقتطع ويستأصل. والجسيم: العظيم الجسم. والنحافة: الهزال، ونصبه على التمييز. والناصية: شعر مقدم الرأس. يقول: إن الحزن إذا استولى على المرء أذهب جسم العظيم الجسد وهزله حتى يأتي عليه من الهزال، ويشيب الصبي قبل الأوان حتى يصير كالهرم من الضعف والعجز. يشير إلى علة مشيبه، وأن الهم هو الذي أشابه، كما قال أبو نواس:
وَمَا إنْ شِبتُ مِنْ كِبَر ولكِنْ لقِيت منَ الحوادِثِ مَا أشابَا
(٧٠١) يقول: إن العاقل يشقى وإن كان في نعمة؛ لتفكيره في عاقبة الأمور وعلمه بتحول الأحوال، والجاهل ينعم وهو في الشقاوة لغفلته وقلة تفكيره في العواقب. قال البحتري:
أَرَى الحلْمَ بُؤْسًا فِي المَعِيشَةِ لِلْفَتَى وَلَا عَيْشَ إلَّا مَا حَبَاكَ بِهِ الْجَهْلُ
وقال أبو نصر بن نباتة:
مَنْ لِي بِعَيْشِ الأغبياء فإنَّهُ لَا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ
وقال ابن المعتز:
وَحَلَاوَةُ الدُّنْيَا لِجَاهِلِهَا وَمَرَارَةُ الدُّنْيَا لِمَنْ عَقَلَا
وقال ابن ميكال:
الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِ الْمَطَالبِ عُقْلَةٌ عَجَبًا لَأَمْر الْعَاقلِ الْمَعْقُولِ!
وَأَخُو الدِّرَايَةِ وَالنَّبَاهَةِ مُتْعَبٌ والعيْشُ عَيْشُ الْجَاهِلِ الْمَجْهُولِ
(٧٠٢) نبذ الشيء: ألقاه وطرحه. والحفاظ: المحافظة على الحقوق والعهود. وأولاه كذا: أنعم به عليه. وعافٍ: من العفو عن الإساءة. يقول: إن الناس لا يحافظون على الحقوق ولا يراعون الأذمة — جمع ذمة؛ الحرمة والحق — ويتركون عرفان النعم. فمطلق من الإسار ينسى إحسان مطلقه، وعافٍ عن مسيء يندم لما يرى من كفران صنيعته وعدم شكرها. قال ابن جني: الندم على كل حالٍ غير مستحسن، قال الحطيئة:
مِنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ الله والناس
(قال ابن جني: ظاهره أن «جوازيه» جمع جازٍ؛ أي لا يعدم جزاء عليه. وجائز أن يكون جمع جزاء — لمشابهة اسم الفاعل للمصدر — فلما جمع «سيل» على سوائل جاز أن يكون جوازيه جمع جزاء.)
(٧٠٣) يقول: لا تنخدع ببكاء عدو يستعطفك ولا ترحمه، وارحم نفسك منه؛ فإنك إن رحمته وأبقيت عليه ثم ظفر بك لم يرحمك ولم يبقِ عليك.
(٧٠٤) يقول: لا يسلم للشريف شرفه من أذى الحساد والمعادين حتى يقتل حساده وأعداءه، فإذا أراق — سفك — دماءهم سلم شرفه؛ لأنه يصير مهيبًا فلا يتعرض له. قال ابن جني: أشهد بالله لو لم يقل إلا هذا لكان أشعر الشعراء المجيدين ولكان له أن يتقدم عليهم. قال العكبري: وهو منقول من كلام الحكيم: الصبر على مضض الرياسة ينال به شرف النفاسة.
(٧٠٥) القليل — هنا — ليس قليل العدد وإنما هو الخسيس الحقير. واللئام: جمع لئيم، ضد الكريم، وضمير الفعلين الأخيرين للقليل. يقول: إن اللئيم مطبوع على أذى الكريم لعدم المشاكلة بينهما:
إن الكِرام مشاغِل السفهاء
شوقي
لَقَدْ زَادَني حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي بَغِيضٌ إلَى كُلِّ امْرئٍ غَيْرِ طائِلِ
وأنِّي شَقِيٌّ بِاللِّئَامِ وَلَا تَرَى شَقِيًّا بِهِمْ إلَّا كَرِيمَ الشمائِلِ
الطرماح بن حكيم
(٧٠٦) الشيم: جمع شيمة، وهي الخليقة والطبيعة، ومن شيم النفوس: يروى: في خلق النفوس. يقول: إن الناس جبلوا على الظلم، فإذا رأيت عفيفًا لا يظلم فإنما تَرْكُه الظلم لعلة كالخوف والعجز ونحوهما. قال العكبري: وهو من كلام الحكيم: الظلم من طبع النفس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين؛ إما علة دينية، أو علة سياسية، كخوف الانتقام منها.
(٧٠٧) قال الواحدي: إنما قال هذا لأنه — ابن كيغلغ — كان قد أخذ الطريق على المتنبي حين سأله أن يمدحه فلم يفعل وهرب منه. ومعنى البيت من قول الفرزدق:
وَأَنَخْتَ أُمَّكَ يا جريرُ كَأَنَّهَا للنَّاس بَارِكةً طَرِيقٌ مُعْمَلُ
وقد أبدع ابن الرومي في مثل هذا؛ إذ يقول في امرأة ابن المعلم:
وَتَبِيتُ بَيْنَ مُقابل وَمُدابرٍ مِثْلَ الطَّريقِ لِمُقبلٍ ولمُدْبرِ
كَأَجِيرَي المِنْشَارِ يَعْتَوِرَانِهِ مُتَنَازِعَيْهِ فِي فَليجِ صَنَوْبَرِ
وَتَقُولُ للضَّيْفِ الْملِمِّ بِسَاحَةٍ إنْ شِئْتَ فِي اسْتِي فأتِني أوْ فِي حِرِي
أَنَا كَعْبَةُ النَّيْكِ الَّتِي خُلِقَتْ لَهُ فَتَلَقَّ مِنِّي حَيْثُ شِئْتَ وَكَبِّرِ
أَنَا زَوْجَةُ الْأَعْمَى المُبَاحِ حَرِيمُهُ أَنَا عِرْسُ ذِي القَرْنَيْنِ لَا الإسْكَنْدَرِ
قَالَتْ إذَا أفْرَدْتُ عِدَّةَ نَيْكِهَا تَدْعُوا: عَدِمَتُ الْفَرْدَ عَيْنَ الأعْوَرِ
فَإذَا أضَفْتُ إلى الْفَرِيدِ قرينَهُ قَالَتْ عَدِمْتُ مُصَلِّيًا لَمْ يوترِ
ما زَالَ دَيْدَنَهَا وَذَلِكَ دَيْدَني حَتَّى بَدَا عَلَمُ الصَّبَاح الْأزهرِ
أرْمِي مَشيمَتها بِرَأْسِ مُلَمْلمٍ رَيَّانَ مِنْ مَاء الشَّبيبَةِ أعْجَر
عَبْلٍ إذَا قَلقَ النِسَاءُ بِحَدِّهِ نِلْنَ الْأَمَانَ مِنَ الوِلَادِ الْأَعْسَر
(٧٠٨) المسالح: المواضع يعلق عليها السلاح. والشفر، والشافران: حرفا فرج المرأة، ويريد بحلقتيه: الفرج والرحم. والخضرم: البحر الكثير الماء. شبه المني — لكثرته في رحمها — بالبحر.
(٧٠٩) وارفق بنفسك: يريد لا تتحكك بالشعراء كي لا يذكروا خلقك الناقص — لأنه أعور قصير — وأصلك دنيء لئيم.
(٧١٠) يقول: أنت مكد فيكون غناك في مسألة الناس، وليس وراء طيشك حقيقة، وإنما ذلك نفخة نفخت فيك، ورضاك أن ترى ذا فيشلة — ذكر — من عبد أو ممن ماثل العبد، وربك الذي تعبده درهم … يعني أنه بخيل.
(٧١١) المناواة: المعاداة، وأصله المناوأة؛ لأنه من النوء وهو النهوض. والكمر: جمع كمرة، وهي رأس الذكر، يقول: لا تعادِ الرجال فإنك لا تقدر عليهم ولا لك بهم طاقة، وإنما قدرتك وإقدامك على «أيور العبيد» يصفه بالأبنة.
(٧١٢) العذل: اللوم. ويرعوي: يكف ويقلع. وعن غيه: فالغي نقيض الرشد، ويروى: عن جهله.
(٧١٣) العلوج: جمع علج، وهو في الأصل: حمار الوحش؛ لاستعلاج خلقه وغلظه، ويقال للرجل القوي الضخم من كفار العجم — غير العرب — علج وهو المراد هنا. يقول: يمشي القهقرى حبًّا للاستدخال. أي إن العلوج كانت تركبه فيمشي إلى خلفه على غير العادة، فإن من عادة المركوب أن يمشي إلى قدام، وهو بخلاف المركوب؛ لأنه يلجم من ورائه. هذا، وقوله: بأربعة، كان القياس أن يقول: بأربع؛ لأنه يريد اليدين والرجلين، لكنه ذهب إلى الأعضاء فذكر على المعنى، على حد قول الأعشى:
أرَى رَجُلًا مِنهم أسيفًا كأنما يَضُمُّ إلى كَشْحيهِ كفَّا مُخضَّبا
(الأسيف: الغضبان. يقول: كأن يده قطعت فاختضبت بدمها، وقال المبرد: أسيفًا: من التأسف لقطع يده، وقيل: هو أسير قد غلت يده، فجرح الغل — القيد — يده.)
وقد أنثوا المذكر على المعنى، قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابيًّا يمانيًّا يقول: فلان لغوب — أي أحمق — جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟ ومن تأنيث المذكر على المعنى تأنيث الأمثال في قوله تعالى: فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا؛ لأن الأمثال في المعنى حسنات. فالتقدير: عشر حسنات أمثالها. وإذا أنث المذكر فتذكير المؤنث أسهل؛ لأن حمل الفرع على الأصل أسهل من حمل الأصل على الفرع. وقوله: على أعقابه: قال العكبري: جمع في موضع التثنية، وحقه أن يقول على عقبيه، كما جاء في التنزيل: نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ، ولكنهم جمعوا في موضع الإفراد فقالوا:
شابت مفارقه. وقال الشاعر:
والزعفرانُ على ترائِبِها شَرِقٌ بِهِ اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ
(الترائب: موضع القلادة من الصدر، واحدتها تريبة.)
فجمع التربية واللبة بما حولهما، وإذا كان هذا جائزًا في موضع الواحد فالجمع في موضع التثنية أجوز. ثم قال العكبري في إعراب «من وراء»: حذف المضاف إليه، والظروف إذا حذفت منهم المضافات بنيت على الضم، كقبل وبعد وفوق وتحت، وإنما بنيت؛ لأن المضاف إليه مقدر عندهم حتى إنها متعرفة به محذوفًا، فلما اقتصروا على المضاف جعلوه نهاية فصار كبعض الاسم وبعض الاسم لا يعرب، فإن نكروا شيئًا منها أعربوه، فقالوا: جئت قبلًا ومن قبل، وبعدًا ومن بعدٍ، قال الشاعر:
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وكُنْتُ قَبْلًا أكادُ أُغَصُّ بِالْمَاء الْفُرَات
(ويروى هذا البيت:
أكاد أغص بالماء الحميم
وروي:
أغص بنقطة الماء الحميم
من أبيات ليزيد بن الصعق. انظر: «الخزانة» ج١ ص٣٨٤ «سلفية».)
وقرئ: من قبل ومن بعد، فأعرب لنية التنكير، فقوله: «من وراء»، على نية التنكير، كأنه قال: من جهة تخالف وجهه.
(٧١٤) طرفت عينه: إذا أصيبت بشيء فدمعت. والحصرم: العنب الأخضر، وهو معروف أنه حامض. قال الواحدي: يقول: إنه أبدًا يحرك جفونه يستدعي العلوج، ويشير بها إليهم فتبقى وكأنها أصيبت بقذًى أو عصر فيها الحصرم؛ لأنها لا تفتر عن التحريك. هذا، وقال العكبري في إعراب فت: عطف «فت» على مطروفة، وليس من حق الفعل أن يعطف على الاسم ولا الاسم على الفعل، ولكن ساغ ذلك في اسم الفاعل واسم المفعول لما بينهما وبين الفعل من التقارب بالاشتقاق والمعنى ولذلك عملًا فيه، وقد عطف الفعل على الاسم في القرآن الكريم في قوله تعالى: صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ، وقوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ، وقال الراجز:
تَبيتُ لا تأوِي ولَا نُفَّاشا
(نفشت الإبل والغنم تنفش نفشًا ونفوشًا: انتشرت ليلًا فرعت بلا راعٍ، وخص بعضهم به دخول الغنم في الزرع، ومنه قوله تعالى: إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ.)
أي لا تأوي ولا تتنفش، وكذلك صافات وقابضات، والذين تصدقوا وأقرضوا.
(٧١٥) يريد قبح وجهه وكثرة تشنجه، وجعل حديثه كضحك القرد، حيث إنه ألكن عيي لا يفصح، ولهذا جعله مشيرًا؛ لأنه لا يقدر على الكلام فيشير، وجعل إشارته كلطم العجور إذا ولولت، قال الإمام ابن الشجري في «أماليه»: عيب على أبي الطيب قوله هذا، وقالوا: لا معنى لتشبيهه الحديث باللطم، وإنما كان حقه أن يضع في موضع تلطم تولول أو تبكي أو نحوهما، لكن لما شبه صوت حديثه بقهقهة القرد، وهي صوت، شبهه بلطم عجوز، ولطم النساء لا بد أن يصحبه صوت فلما اضطرته القافية إلى ذكر اللطم الدال على الولولة والنوح اكتفى بذكر الدليل عن المدلول عليه و«أو» للإباحة؛ أي إن شئت شبهت حديثه بقهقهة قرد وإن شئت شبهته بعجوز تلطم. وقول ثانٍ: وهو أنه شبه شيئين بشيئين، شبه حديثه بقهقهة القرد وشبه إشارته في أثناء حديثه بلطم العجوز؛ لأنه من عيه لا يفهم، وجعله مشيرًا بيديه؛ لأنه لا يقدر على الإفصاح، فهو يستعين بالإشارة إذا حدث كما أشار بأقل لما عجز عن الجواب. وقد مر بقوم ومعه ظبي قد اشتراه بأحد عشر درهمًا، وهو متأبطه، فقالوا له: بكم اشتريته؟ فمد يديه وفرق أصابعه وأخرج لسانه؛ يريد بأصابعه عشرة وبلسانه درهمًا، فشرد الظبي. وفي هذا التشبيه معنًى آخر، وهو أنه أراد قبح وجهه وكثرة تشنجه، فهو في القبح كوجه القرد، وفي التشنج كوجه العجوز. فإن قيل: كيف شبه شيئين بشيئين، وعطف ﺑ «أو» وهي لأحد الشيئين، وحقه أن يعطف بالواو؟ قلنا: إن «أو» قد وردت في كلامهم بمعنى الواو … أقول: ومن مجيئها بمعنى الواو قول حميد بن ثور:
قومٌ إذا نَقَعَ الصَّرِيخُ رَأَيْتَهُمْ مِنْ بَيْنِ مُلجِمِ مُهْرِهِ أو سافِعِ
(الصريخ: أي للحرب. والسافع: أخذ الناصية بلا لجام.)
وقول النابغة الذبياني يخاطب النعمان بن المنذر:
وَاحْكُم كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إذْ نَظَرَتْ إلى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ
قالَتْ: أَلَا لَيْتمَا هذا الحمامُ لنَا إلى حمامتِنَا أوْ نِصْفُهُ فَقَدِ!
فَحَسَّبُوهُ فَألفَوْهُ كمَا ذَكرَتْ سِتًّا وَسِتِّينَ لَمْ تَنْقُصْ وَلَمْ تَزِدِ
(واحكم: يريد تبصر في الأمر وكن حكيمًا معي، ولا تقبل ممن سعى بي إليك، وكن كفتاة الحي إذ وصفت فأصابت، وفتاة الحي: هي زرقاء اليمامة، زعموا أنها كانت تبصر من ثلاثة أيام. فمر بها سرب من القطا، فقالت:
ليْتَ الحمامَ لِيَهْ إلى حَمَامتِيهْ أوْ نِصْفهُ قدِ يَهْ تَمَّ الحمامُ مِيَهْ
فإذا هو ست وستون وإذا ضم نصفه — وهو ثلاث وثلاثون — إليه كان المجموع تسعًا وتسعين فبحمامتها تكمل المائة. وسراع: سريع الطيران. والثمد — بفتحتين — الماء القليل لا مادة له. وحسبوه: عدوه.)
ومنه قوله تعالى: إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أي ويزيدون.
(٧١٦) قلاه يقليه قلًى وقلاء وقليه يقلاه: لغة طيئ، والقلى: البغض، وقال ابن سيده: قليته قلًى وقلاء ومقلية: أبغضته وكرهته غاية الكراهة فتركته. وحكى سيبويه: قلى يقلي وهو نادر، شبهوا الألف بالهمز. وحكى ابن جني: قلاه وقليه، قال: وأرى يقلي إنما هو على قلى. وحكى ابن الأعرابي: قليته في الهجر قِلًى، مكسور ومقصور، وحكى في البغض قليته — بالكسر — أقلاه على القياس. والقذال: جماع مؤخر الرأس، وهو فاعل يقلي، ويجوز أن يكون مفعول المفارقة. وفاعل يقلي ضمير المهجو، أي أن قفاه يكره مفارقة الأكف؛ لأنه قد ألف صحبتها في الصفع فيكاد يتعمم على إحدى يديه، لئلا يخلو قفاه من كف. يريد أنه صفعان تعود أن يصفع فيكاد يتعمم على يده لتصفعه يده أيضًا.
(٧١٧) يقول: تراه أحقر ما يكون حين ينطق؛ لأنه عيي فلا يكاد يبين، أو لأنه ينطق بغير معقول، وأكذب ما يكون إذا حلف — أي حين يكون الصدق أوجب — وذلك كما قال الآخر:
فَلَا تَحلِفْ فإنَّكَ غَيرُ بَرٍّ وأكذَبُ مَا تكُونُ إذَا حَلفْتَا
وقوله: ويقسم: يريد وهو يقسم. هذا، وقد قال ابن الشجري في «أماليه»: فعل الرؤية من العين يعدى إلى مفعول واحد، «وأصغر» نصب على المصدر؛ لأنه أضيف إلى «ما» المصدرية، و«ناطقًا» نصب على الحال، وأفعل المضاف إلى المفضل إليه إنما هو بعض ما يضاف إليه، فصار كقولك: سرت أشد السير، و«أكذب» حكمه في ذلك حكم «أصغر» ونصب «ناطقًا» ترى الأول من الرؤية، وانتصابه على الحال، وتقديره: وتراه ناطقًا أحقر رؤيتك إياه، فالتحقير تناول الرؤية في اللفظ، والمراد تحقير المرئي. والمعنى: تراه ناطقًا أحقر منه إذا رأيته ساكتًا. ويكون كلاهما بمعنى يوجد. وإن جعلت «يكون» الأول ناقصًا وخبره «أكذب» لم يجز؛ لما ذكرته من انتصاب «أكذب» على المصدر لإضافته إلى المصدر، والمضمر في «يكون» عائد على المهجو، وخبر «كان» إذا كان مفردًا فهو واسمها عبارة عن شيء واحد بطل أن يجعل «يكون» ناقصًا لفساد الإخبار عن الجثث بالأحداث، والواو في قوله: «ويقسم» واو الحال. والجملة بعده حال عمل فيها «يكون» الأول، وهي جملة ابتداء، والمبتدأ محذوف، والتقدير: وهو يقسم فحذف هو. وقال اليازحي: الأظهر أن «أفعل» في الموضعين مرفوع على الابتداء، وسدت الحال بعده مسد الخبر، والجملة في محل نصب بالناسخ؛ لأنها في الأصل خبر ابتداء، كما في قولك: هند أحسن ما تراها أو أحسن ما تكون سافرة، فلما دخل الناسخ عمل في المبتدأ الأول لفظًا، وفي جملة الخبر محلًّا، كما تقول: رأيت هندًا، أو كانت هند أحسن ما تكون سافرة. فتأمل.
(٧١٨) أود: خبر مقدم عن الأرقم، والأرقم: ضرب من الحيات فيه سواد وبياض، وفاعل «يود» ضمير الذليل، والعائد محذوف أي لمن يوده: أي لمن يظهر له وده. يقول: إن الذليل يظهر المودة — المحبة — لمن أذله؛ إذ ليس يقدر على مكافأته، ولا امتناع عنده، فيتودد إليه، على أن الحية أقرب إلى المصافاة من الذليل إذا أظهر الود لمن يوده، وهذا من قول سديف:
ذُلُّهَا أَظهَر المَودَّة مِنْهَا وَبِهَا مِنْكمُ كَحَزِّ المَواسِي
(من أبيات يحرض فيها سديف بن ميمون بني العباس على بني أمية.)
(٧١٩) قال ابن جني: يعني أن عداوة الساقط تدل على مباينه طبعه فتنفع — يريد لا تضر — وصداقته تدل على مناسبته فتضر. قال الواحدي: وهو من قول صالح بن عبد القدوس:
عَدُوُّكَ ذُو العقْلِ خَيْرٌ مِنَ الصَّـ ـدِيق لَكَ الْوَامِقِ الأحْمَقِ
«الوامق: المحب.» وعبارة بعض الشراح: أراد بالنفع — هنا — ما هو أعم منه يعني انتفاء الضرر، والبيت مبني على الذي قبله: أي أن عداوة الذليل الذي يطوي كشحه على البغض تظهر ما أضمر من الخبث فتنفع من يعاديه بأن يطلع على دفينته فيحذر جانبه، وبعكسها صداقته فإنها قد تكون سببًا يتوصل بها إلى أذاه؛ لأنه يساتره العداوة، ويتربص به نهزة للغدر.
(٧٢٠) صفراء: اسم أمه: يقول: هي — على سعتها — أضيق منك، فكيف يتجه لي مدحك؟
(٧٢١) أُعَيِّر: تصغير أعور. قال الواحدي: وكان أبوه — واسمه إبراهيم — أعور. يقول: إن القيادة في غيرك كسب وأنت تتكرم بها: أي تحسبها كرمًا.
(٧٢٢) لشد: بمعنى ما أشد، واللام قبلها: للتوكيد. و«ما»: مصدرية. يقول: ما أشد تجاوزك قدرك حين تطلب مني المديح. وما أشد ما قربت الأنجم عندك فطمعت في نيلها. وأرادت بالأنجم: أبيات شعره.
(٧٢٣) الإراغة: الطلب. تقول: أرغت الصيد وفلان يريغ كذا وكذا ويليصه: أي يطلبه ويديره، قال عبد الله بن عمر في ابنه سالم:
يُدِيرُونَني عَنْ سَالِمٍ وَأُرِيغُهُ وَجِلْدَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالأنْفِ سَالِمُ
(قال الجوهري: يقال للجلدة التي بين العين والأنف: «سالم» وأورد هذا البيت، قال: وهذا المعنى الذي أراد عبد الملك في جوابه عن كتاب الحجاج: إنه عندي كسالم والسلام. قال ابن بري: هذا وهم قبيح — أي جعله سالمًا اسمًا للجلدة التي بين العين والأنف، وإنما سالم ابن ابن عمر فجعله لمحبته بمنزلة جلدة بين عينه وأنفه.)
«يديرونني: كيريغونني، ويقال: فلان يريغني أو يديرني على أمر وعن أمر: أي يراودني ويطلبه مني.» يقول: طلبت من المديح ما هو خالص لأبي العشائر؛ لأنه الذي ينعم على زواره وقصاده. فقوله: «خالصًا» حال، أي الذي ثبت لأبي العشائر خالصًا لا ينازع فيه.
(٧٢٤) ولمن: عطف على «لمن يزار». والأخدعان: عرقان في صفحتي العنق قد خفيا وبطنا، ويقال: لأقيمن أخدعيك: أي لأذهبن كبرك، والوجء: اللكز والضرب، ومراده بوجء أخدعيه: صفعه. والنهم: الزجر الشديد. يقول: والثناء لمن تزلفت إليه فأقمت ببابه ذليلًا تصفع هزوًا واستخفافًا، ثم تزجر مطرودًا. والبيت من قول جرير:
قَوْمٌ إذَا حَضَرَ الملوكَ وُفَودُهُم نُتِفَتْ شَوَارِبُهُمْ على الأبْوَابِ
(٧٢٥) وهو مكرم: أي والمال مكرم يضن بمثله، فالضمير عائد على المال، ولك أن ترجعه للممدوح: أي يهين المال ويكرم عند الناس. والعرمرم: الكثير العظيم.
(٧٢٦) الكماة: جمع كمي، وهو البطل المشتمل بالسلاح، والمأزق: المضيق ومنه سمى موضع الحرب مأزقًا. والمعلم: الذي وسم نفسه بسيماء الحرب. وفي هذا البيت نظر إلى قول أبي تمام:
إنَّ الأسودَ أُسُودَ الغابِ هِمَّتُها يَوْمَ الكَرِيهَةِ في المَسْلوب لا السَّلَبِ
(٧٢٧) أطره: عطفه وثناه ولواه. وتأطر الرمح: تثنى. يقول: إذا اعوجت قناته في مطعون طعن بها آخر فثقفها بذلك، يريد شَدَّة طعنه وتتابعه.
(٧٢٨) «ال» هنا نائبة عن ضمير الممدوح: أي ووجهه وفؤاده … وهلم جرا، والواو أول البيت: للحال. يقول: إذا التقى هو والكماة في مأزق: فوجهه أزهر — نير مشرق أبيض — وفؤاده مشيع — أي جريء — ورمحه يطعن به، وسيفه مصمم: أي يطبق المفصل ويصيب المحزَّ، فلا ينبو عن الضريبة.
(٧٢٩) الفعال هنا الفعل. يقول: إن الفعل يشابه النسب والأصل، فمن كرمت مناسبه كرمت أفعاله، ومن كان لئيم النسب كان لئيم الفعل، والأعاجم عند العرب لئام؛ ولذلك جعل الأعاجم في مقابلة الكرام، وإنما قال ذلك لأن هذا الرجل كان روميًّا، وهم يسمون من لم يتكلم بلغتهم أعجم من أي جيل كان، قال الراجز:
سَلُّومُ لَوْ أَصْبَحْتِ وَسْطَ الأعْجَمِ فِي الرُّومِ أَوْ فارِسَ أَوْ في الدَّيْلمِ
إذن لزُرْنَاكِ وَلَوْ بِسُلَّمِ
(يقال: رجل أعجم وقوم أعجم.)
وقال حميد بن ثور:
ولم أَرَ مِثْلي شاقَهُ صوْتُ مِثْلِهَا ولا عَرَبِيًّا شَاقَهُ صوْتُ أَعْجَم
فإنه عنى بالأعجم: حمامة سمع صوتها.
(٧٣٠) الهمام: العظيم الهمة والسيد الشجاع السخي. والهيام: أشد العطش. يقول: نزلنا بفنائك فروينا من عطشنا ولم تترك بنا عطشًا، يريد أنهم غمروا بإنعامه وإحسانه إليهم حتى اكتفوا. هذا، وقد قلنا: إن «الهيام» هنا: أشد العطش، وأنشد ابن بري:
يَهيمُ وليس اللهُ شافٍ هُيامَهُ بِغرَّاءَ ما غنَّى الحمامُ وأنجدا
(شافٍ: في موضع نصب خبر «ليس». وإن شئت جعلته خبر «الله»، وفي «ليس» ضمير الشأن.)
والهيام أيضًا: كالجنون من العشق، وقد هيمه الحب. والهيام أيضًا: داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى، يقال: ناقة هيماء، قال كثير عزة:
فلا يَحْسَبُ الواشُون أنَّ صبابَتي بعزة كانتْ غمرةً فتجَلَّتِ
وأنِّيَ قَد أبللتُ مِنْ دَنَفٍ بها كما أدْنَفتْ هيماءُ ثُم استبلَّت
(أبل واستبل: برأ من مرضه.)
(٧٣١) القلى: البغض، ولغير قلًى: احتراس جميل. يقول: قد استغنينا عن الهدايا وأردنا الارتحال فأحب ما تهديه إلينا أن نودعك ونسلم عليك.
(٧٣٢) الموالي — بفتح الميم — جمع مولى، وهو هنا العبد، ورواها العكبري: المُوالي — بضم الميم — أي الذي يلي بعضه بعضًا. والأيادي: النعم. والجسام: العظام. يقول: لسنا نرتحل عنك لأننا مللنا تفقدك إيانا بالإحسان ولا لأنا ذممنا نعمك العظيمة.
(٧٣٣) توالت: تتابعت. والغمام: السحاب. وهذا تتمة لما ذكر في البيت السابق. يقول: إن المسافر إذا كثر عليه المطر مل مقامه — إقامته — واحتباسه لأجل المطر، كذلك نحن عطاياك تأتينا وأنت قيدتنا بإحسانك وأنا مسافر أريد الارتحال، ولولا أني على سفر لم أملل نعمتك والمطر يسأله كل أحد إلا المسافر. وكره المقاما: رواها بعض الشراح: كره الغماما، وقال: المعنى إنما عفنا الزيادة من إحسانك؛ لأنه يقيدنا بخدمتك ويحبسنا عن السفر، فهو كالمطر يعترض المسافر ويعوقه عن طريقه، فيكرهه لذلك؛ [لا] لأنه مكروه من نفسه.
(٧٣٤) هذا استفهام معناه الإنكار. والرهو: السير السهل. يقول: الريح لا تهب ساكنة سهلة بإذني، وكذا الغمام لا يسري بمشيئتي، ويريد بالريح والغمام: الممدوح على تشبيهه بهما في سرعة العطاء وكثرته — يعني أن الذي يفعله ليس يفعله بإذني ومشيئتي إنما يفعله طبعًا طبع عليه — كما بين في البيت التالي.
(٧٣٥) تبجسه: مبتدأ، وبها: خبره. والتبجس: التفجر.
(٧٣٦) فراق: مبتدأ، محذوف الخبر؛ أي لي فراق. وقال العكبري: فراق خبر لمبتدأ محذوف، ويجوز رفعه بإضمار فعل أي حدث فراق. وأَمَّ: أي قصد، ويممت: قصدت. يقول — عند ارتحاله: هذه الحالة التي أنا فيها فراق، والذي أفارقه — يعني سيف الدولة — غير مذموم. وهذا الفراق هو في الوقت عينه قصد لإنسان آخر — يعني كافورًا — وهو خير مقصود.
(٧٣٧) عنده: أي فيه، يقول: لا أقيم بمكان للذة العيش وطيب الحياة إذا لم أكن مكرمًا معظمًا؛ لأنه مع الذل لا يطيب لي.
(٧٣٨) مليحة: مشفقة خائفة، يقال: ألاح من الأمر؛ إذا أشفق منه. والمخرم: الطريق في الجبل. يقول: هذا الفراق أو هذا الذي أذكره من أنفتي والاحتفاظ بكرامتي سجية — طبيعة — نفسي التي هي أبدًا خائفة من أن تظلم ويبخس حقها من الإكرام، وأنا أرمي بها كل طريق هاربًا عن الضيم والذل.
(٧٣٩) الشادن: ولد الغزال. والضيغم: الأسد. يقول: فكم من رجال ونساء بكوا على فراقي وجزعوا لارتحالي عنهم! فالباكي بجفن الشادن: المرأة المليحة الحسناء، والباكي بأجفان الضيغم: الرجل الشجاع الكريم: قال ابن جني: بأجفان ضيغم: يريد سيف الدولة، وهذا وفاء لما أوعده به من قوله:
لِيَحْدُثَنَّ لِمَنْ فَارَقْتُهُ نَدَمُ
(٧٤٠) القرط: الذي يعلق في شحمة الأذن. ومكانه: فاعل المليح. والحسام: السيف القاطع. والمصمم: الذي يطبق المفاصل، ولك أن تجلعه صفة لرب. يقول: لم تكن المرأة بأجزع على فراقي من الرجل.
(٧٤١) يقول: لو كان الذي أشكوه من الغدر بي كان من امرأة عذرتها؛ لأن شيمة النساء الغدر، ولكنه من رجل فلا أعذره. فكنى بالحبيب المقنع عن المرأة، وبالحبيب المعمم عن الرجل.
(٧٤٢) قال الواحدي: هذا مثل يقول: لم يحسن إلي — أي سيف الدولة — ولم أهجه لحبي إياه، فضرب المثل لإساءته إليه بالرمي، ولأمنه من المكافأة — المجازاة — بالهجاء بالاتقاء، بحب يكسر كفه وقوسه وسهامه إن أراد أن يرميه. والمعنى: أن حبي إياه منعني عن مكافأته بالإساءة، فكان كرامٍ يرميني وهو وراء جنة — سترة — من حبي تمنعني من أن أرميه.
(٧٤٣) يعتاده: ينتابه. ومن توهم: بيان ﻟ «ما». يقول: إذا كان فعل المرء سيئًا قبيحًا ساء ظنه بالناس لسوء ما انطوى عليه، وإذا توهم في أحد ريبة أسرع إلى تصديق ما توهمه؛ لما يجد من مثل ذلك في نفسه. وعبارة الواحدي: المسيء يسيء الظن؛ لأنه لا يأمن من أساء إليه، وما يخطر بقلبه من التوهم على إساءة غيره يصدق ذلك، فكلما سمع عن شخص كلام سوء يظنه فيه لسوء وهمه وفعله، وهو كقول الآخر:
وما فَسَدتْ لي — يشهدُ اللهُ — نِيةٌ عَليكَ بَلِ اسْتَفْسَدْتَنِي فاتَّهمْتَني
(٧٤٤) يقول: ولسوء ظنه يعادي الذين يحبونه بوشاية أعدائه، فلا يميز صديقه من عدوُّه؛ إذ يشك في كل أحد ويصبح في كل أموره حائرًا بسبب أنه يصدق ما يتوهمه.
(٧٤٥) يريد بالنفس: المعاني الكريمة والفضائل الإنسانية التي تستشف من الإنسان يذكر لطف حسه ودقة علمه، وأنه قبل أن يقع بينه وبين من يحبه معرفة يصادق نفسه أولًا، ويستدل عليها بكلامه وفعله. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: الائتلاف بالجواهر قبل الائتلاف بالأجسام.
(٧٤٦) يقول: وأصفح عن خليلي علمًا بأني متى جازيته على سفهه وجهله بالحلم ندم على قبيح فعله، فاعتذر إليَّ وأعتبني — أرضاني — ورجع إلى مرادي. وهذا من قول سالم بن وابصة:
وَنَيْرَبٍ مِنْ مَوَالي السُّوءِ ذِي حَسَد يَقْتاتُ لحمي وما يَشفِيهِ مِن قَرَمِ
دَاوَيْتُ صَدْرًا طَوِيلًا غِمْرُهُ حَقِدًا مِنْهُ وَقَلَّمْتُ أَظْفارًا بِلَا جَلَمِ
بالْحَزْمِ والخيْر أُسْدِيهِ وَأُلْحِمُهُ تَقْوَى الإلهِ وَما لَمْ يَرْعَ مِنْ رَحِمِ
فأَصْبَحَتْ قَوْسُهُ دُونِي مُوتَّرةً تَرْمي عَدُوِّي جِهارًا غَيْرَ مُكْتَتِمِ
إنْ في الْحِلْمِ ذُلًّا أَنْتَ عَارِفُهُ والْحِلْمُ عن قُدْرَةٍ فَضْلٌ من الكَرَم
(رجل نيرب، وذو نيرب: ذو شر ونميمة. والقرم: شدة الشهوة إلى اللحم.)
(الغمر: الحقد والغل. والجلم: أحد شقي المقراض، وإنما هما جلمان.)
ومن روى:
وأحلم عن خلي وأعلم أنني متى أجْزِهِ يومًا على الجهلِ أندم
يكون المعنى: متى جهلت عليه كما جهل علي ندمت على ذلك؛ لأن السفه والجهل ليسا من أخلاقي في شيء.
(٧٤٧) يقول: إني لا آخذ من الإنسان الصلة — العطية — حتى يكون معها بِشْر وبشاشة، وإذا بذلها وهو عابس جدت عليه بترك تلك الصلة وأنا مبتسم راضٍ بتركها. وقال ابن القطاع: صحف هذا البيت سائر الرواة فرووه: بجود التارك، ولا معنى للتارك، وإنما هو الباذل، ومعناه: وإن بذل الإنسان لي جوده وهو عباس الوجه غير منشرح الصدر جازيته مجازاة من بذل لي جوده وهو ضاحك ولم أكافئه.
(٧٤٨) السميدع، والسميذع: السيد الكريم الجميل الجسم الموطأ الأكناف، وقيل: هو الشجاع. والنجيب: الفاضل الكريم — ضد اللئيم — والسمهري: الرمح القوي الصلب. وصدره: مقدمه مما يلي السنان. يقول: أحب من الفتيان كل سيد يغشى الناس بيته للضيافة، نجيب جميل طويل القد كالرمح المقوم.
(٧٤٩) خطت: جابت وقطعت. والضمير من تحته للسميذع. والعيس: الإبل البيض. والكبة: الحملة في الحرب — من قولهم: كبه لوجهه؛ إذا ألقاه — قال بعض العرب: طعنته في الكبة طعنة في السبة، فأخرجتها من اللبة، فقيل له كيف طعنته في السبة — هي حلقة الدبر؟ فقال: إن رمحه كان قد سقط من يده فأكب ليأخذه فطعنته. والخميس: الجيش من خمس فرق. والعرمرم: الكثير. يقول: قد سافر كثيرًا وقطعت به الإبل الفلوات وشهد الحروب وألفها، فخالطت به الخيل الجيوش وحملاتها.
(٧٥٠) يقول: ليس بعفيف السيف والرمح، فإنه إذا شهد الحرب قتل الأقران لم يتعفف عن دمائهم، وإنما عفته في كفه؛ لا يأخذ من مال أحد شيئًا، وفي فرجه لا يقرب الزنا، وفي فمه؛ فهو يمسك لسانه عن كل ما لا يحل ولا يأكل إلا من حل.
(٧٥١) يقول: ليس كل من أحب الأمر الجميل يصنعه ولا كل من يصنعه يتممه.
(٧٥٢) فدًى: خبر مقدم، والكرام: مبتدأ مؤخر. والأدهم: الأسود. جعل الكرام كخيل سوابق، وجعله كأدهم يتقدم تلك السوابق وهن يجرين على أثره. يعني أنه إمام الكرام وسابقهم.
(٧٥٣) أغر: أي بأدهم أغر، فهو نعت لأدهم. وبمجد: متعلق بأغر. وشخصن: رفعن أبصارهن. والرحب: الواسع. ومطهم: تام. يقول: إن هذا الأدهم أغر غير أن غرته المجد لا البياض، وهذه السوابق قد مدت أعينها وراء هذا الأغر تنظر منه إلى خلق واسع وخلق تام الجمال.
(٧٥٤) يقول: إذا لم تحسن السياسة فوقفة واحدة في مجلسه — وهو يتعاطى سياسة الأمور — تكفيك لأن تتعلم منه السياسة.
(٧٥٥) راءه: مقلوب «رآه». والعذر: فاعل يضيق. والمساعي: جمع مسعاة، وهي السعي في طلب المجد. يقول: من رآه ورأى أفعاله لم يكن له عذر في أن يكون ضعيف المساعي، قليل الكرم. يعني منه تتعلم هذه الأشياء، فمن رآه ولم يتعلمها منه فهو غير معذور. وقد جعل ابن جني هذا داخلًا في الهجاء على معنى: لم أرَ مثله في خسته ولؤم أصله إذا كان له مسعاة وتكرم فلا عذر لأحد بعده في تركها كما قال الآخر:
لا تيْأَسَنَّ مِنَ الإمَارةِ بَعْدَما خَفَقَ اللِّواءُ على عِمَامَةِ جَرْولِ
(٧٥٦) يقول: من مثله إذا أحجمت الكتيبة — تأخرت — وقل من يحثها على ورود المعركة؟ أي إنه يحث الجيش عند الإحجام ويشجعه على لقاء العدو. قال الواحدي: والرواية: اقدُمي بضم الدال؛ أي تقدمي، من قدم يقدم إذا تقدم. ومن روى اقدَمي بفتح الدال؛ فمعناه ردي الحرب — من الورود — من قدم يقدم قدومًا.
(٧٥٧) الطرف: الفرس. والنقع: الغبار. واللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة المتدلية في أقصى الحلق، وكأنه جمعها على إرادة اللهاة واللوزتين من باب التغليب. يقول: إذا سطع الغبار وثار حتى وصل إلى لهوات من شد على فمه اللثام اتقاء الهواء والغبار، فهو حينئذٍ ثابت في المعركة لا يحجم ولا يتأخر ولا يتسرب إليه الفزع. ومن روى: الطَّرف بفتح الطاء: أي العين، فمعناه أن عينه لا تبرق (برق البصر يبرق، من باب طرب: إذا تحير فلم يطرف) ولا يتداخله الفزع.
(٧٥٨) أبا المسك: أي يا أبا المسك. والبيض: السيوف. يقول: أرجو منك أن تنصرني على أعدائي بحسن رأيك، وتؤتيني عزًّا أتمكن به منهم، وأخضب سيوفي بدمائهم.
(٧٥٩) يقول: أرجو أن أدرك بعزك حالةً شقائي فيها عندي مثل التنعم؛ أي أشقى في حرب الأعداء فأتنعم بهذا الشقاء. ويجوز أن يكون المعنى: أني أبدل تنعم الأعداء بالشقاء لما أجلب لهم من الحسد لنعمتي والغيظ لمكاني فيشقون بي.
(٧٦٠) يقول: أنت أهل لأن يرجى لديك ما رجوته، ولم أضع الرجاء منك في غير موضعه كمن يرجو مطرًا من غير سحاب فيقال له: ظلمت — أي وضعت الشيء في غير محله — حين رجوت المطر من غير موضعه.
(٧٦١) المستهام: الذي ذهب على وجهه من عشق ونحوه. والمتيم: الذي ملك عليه الحب أمره واستعبده.
(٧٦٢) الديلم: جيل من الترك، كانت بينهم وبين العرب عداوة. فصار اسمهم عبارة عن الأعداء، حتى جاء أن الديلم هم الأعداء، قال عنترة:
شَرِبَتْ بمَاءِ الدُّحْرُضَيْنِ فَأَصْبَحَتْ زَوْرَاءَ تَنْفِرُ عَنْ حِياضِ الدَّيْلَمِ
(قيل: إن الديلم في بيت عنترة، رجل من ضبة، وهو الديلم بن ناسك بن ضبة، وذلك أنه لما سار ناسك إلى أرض العراق وأرض فارس استخلف الديلم ولده على أرض الحجاز، فقام بأمر أبيه وحوَّض الحياض، وحمى الأحماء. ثم إن الديلم لما سار إلى أبيه أوحشت داره وبقيت آثاره، فقال عنترة في ذلك ما قال. والدحرضان: هما دحرض ووسيع — ماءان فدحرض لآل الزبرقان بن بدر ووسيع لبني أنف الناقة. وقيل: أراد عنترة أن عداوتهم كعداوة الديلم للعرب كما قال:
جاءوا يَجُرُّونَ البرُود جرَّا صُهبَ السِّبَالِ يَبْتَغُون شرا
أراد أن عداوتهم كعداوة الروم للعرب، والروم صهب السبال، وألوان العرب السمرة والأدمة إلا قليلًا.)
وقال ابن جني: سأل أبا الطيب بعضُ من حضر فقال: أتريد بالديلم الأعداء أم هذا الجيل من العجم؟ فقال: من العجم. وحملات جمع حملة، وأسكنه ضرورة. يقول: إنه كان يمر بالليل في طريقه إلى مصر على القبائل فتصول كلابها على خيله كأنها أعداء تحمل عليها.
(٧٦٣) القائف: الذي يقفو الآثار — يتبعها — والمنسم: خف البعير. يقول: إن الذي اتبعنا واقتفى آثارنا ليردنا عن المسير إليك لم يرَ إلا آثار الإبل والخيل؛ أي لم يدركنا لسرعة سيرنا، وكان من عادتهم إذا طالت الرحلة أن يركبوا الإبل ويجنبوا الخيل، فلذلك قال: إلا حافرًا فوق منسم، أي إلا أثر حافر فوق أثر خف. ومن هذا قول مقاس العائذي (مسهر بن النعمان من بني عائذة، شاعر مقل مجيد، وهذا البيت من أبيات تجدها في «المفضليات»):
أولى فأولى يا امْرءَ القيسِ بعدما خَصَفْنا بآثارِ المطِيِّ الحوافِرا
[يقال: خصفت الإبل الخيل: تبعتها.]
(٧٦٤) تغمرت: أي شربت قليلًا من الغمر، وهو القدح الصغير. واستذرت: نزلت في ذراه؛ أي في كنفه وناحيته. والمقطم: الجبل المعروف بمصر. يقول: وسمنا البيداء بآثار خيلنا وركابنا — يعني سرنا في أرض غفل لا أثر بها لسالك فصارت آثار الخيل والإبل كالسمة لها — أي العلامة — حتى وردت النيل — نيل مصر — فشربت منه دون الري؛ وذلك لأنها وردت الماء مكدودة فقلَّ شربها، ومنه قول طفيل الغنوي:
أنخَنَا فُسْمَنَاهَا النِّطَافَ فَشَارِبٌ قَلِيلًا وَآبٍ صَدَّ عَنْ كُلِّ مَشْرَب
«النطاف: جمع نطفة، وهي الماء الصافي قل أو كثر.» وسامه الأمر سومًا: كلفه إياه أو عرضه عليه.
(٧٦٥) الأبلخ: العظيم في نفسه، وهو من صفات الملوك، ويروى بالجيم، فهو الجميل الوجه، وهو عطف على «المقطم». وقوله: بقصديه: أي بقصدي إياه. يقول: واستذرت بظل أبلخ يعصي من يشير عليه بتركي بأن يختصني دون غيري، كما أني عصيت من أشار علي بترك المسير إليه. قال الواحدي: يقال: إنه أراد بهذا ابن حنزابه — جعفر بن الفرات — وزير الأسود ولم يكن المتنبي مدحه. قال ابن جني: هو مما يجوز نقله إلى الهجاء. وابن جني يحاول دائمًا أن يوجه مدائح المتنبي في كافور إلى الهجاء، ولعل له عذرًا في ذلك، وهو أدرى بدهاء المتنبي ومكانة كافور لديه.
(٧٦٦) العرف: المعروف. والمجمجم: من قولهم: جمجم كلامه؛ إذا عمَّاه وستره ولم يأتِ به على الوجه الذي يُهتدى إليه. يقول: لم يكدر إحسانه إليَّ بالمن ولم ينغصه بالأذى، فكان شكريه صريحًا خالصًا غير مشوب. قال ابن جني: هذا النفي يشهد بما ذكرته من قلب المدح إلى الهجاء.
(٧٦٧) قوله: اخترتك الأملاك. يريد اخترتك من الأملاك — الملوك — فحذف «من» وأوصل الفعل، كما في قوله تعالى: وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا. يقول: اخترتك من بين ملوك الدنيا، وآثرتك بقصدي إياك دونهم، فاختر لهم بنا حديثًا من مدح أو هجاء، بمنع أو حرمان؛ أي أنهم سيتحدثون بنا وبما كان منا، فاختر ما تريد من ثناء وإطراء بالبر والإحسان، أو ذم وهجاء بالبخل والحرمان، فأنت المحكم فيما تختار. يعني إن أحسنت مكافأتي صوبوا رأيي في قصدك ومدحك وإلا شمتوا بي وذموك.
(٧٦٨) أيمن: من اليمن، وهو البركة. قال الواحدي: هذا البيت يوري عن هجائه بقبح الصورة، وأنه لا منقبة له يمدح بها، غير أنه إذا أحسن بالإعطاء فوجهه أحسن الوجود ويده أيمن الأيدي بالإنعام. وكذلك البيت الذي بعده.
(٧٦٩) معظم: أي أمر عظيم قال الواحدي: يريد أنه خالٍ عمَّا يمدح به الملوك من حسبٍ أو نسب أو شرف تليد — قديم موروث — فإن لم يستحدث لنفسه شرفًا بعلو همة وإقدام لم يكن له خصلة يمدح بها.
(٧٧٠) لمن: استفهام إنكار. يقول: إنما تراد الدنيا ويتناحر عليها ويتنافس فيها لنفع الأولياء وضر الأعداء وليس تصلح لغير هذين. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: إذا لم تصن بالمال أبناء الجنس، وتقتل به أعداء النفس فما تصنع بالأعراض؟
(٧٧١) المعصم: موضع السوار من الزند، يريد أن «المهر» الذي أهداه إليه كان موسومًا باسمه ليعلم أنه من خيله، وأن ذلك غير خاص بالخيل، فإن كل حيوان موسوم باسمه كذلك؛ يعني أنه يملك جميع الأحياء، فكأنهم موسومون باسمه، وإن لم يوسموا حقيقة — كما كشف عن ذلك في البيت التالي. هذا، والمهر: هو الصغير السن من الخيل، و«الأنثى» مهرة، وجمع المذكر: أمهار ومهار، ومهارة. وجمع المؤنث: مهر ومهرات. قال الربيع بن زياد العبسي يحرض قومه في طلب دم مالك بن زهير العبسي، وكانت فزارة قتلته لما قتل حذيفة بن بدر الفزاري:
أَفَبَعْدَ مَقْتَل مالِكِ بْن زُهَيْرٍ ترجو النِّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ
ما إنْ أَرَى فِي قَتْلِهِ لِذَوي الْحِجَا إلَّا المَطِيَّ تُشَدُّ بِالْأكْوَارِ
وَمُجَنَّبَاتٍ مَا يَذُقْنَ عَذُوفَةً يَقْذِفْنَ بِالْمُهَرَاتِ والْأَمْهارِ
(المجنبات: الخيل تجنب إلى الإبل. ويقال: ما ذاق عذوفًا ولا عذوفة — بالذال والدال — أي ما ذاق شيئًا.)
(٧٧٢) أراد بالحيوان الراكب الخيل: الإنسان. والموسم: المعلم. يقول: لك الخيل ومن يركبها وكل حيوان وإن كانت غير معلمة. ومراده بالخيل ما هو أهم منها من الحيوان، وإنما خصها بالذكر لمكان ذكر المهم.
(٧٧٣) هذا استبطاء لما يرجوه منه، يقول: لو كنت أعرف كم مقدار بقائي في الدنيا لجعلت ثلثي ذلك المقدار مدة انتظار عطائك. وهذا من قول مسلم بن الوليد:
لَوْ كَانَ عِنْدَكَ مِيثَاقٌ يُخَلِّدُنَا إلى المَشِيبِ انْتَظَرْنَا سَلْوَةَ الكِبَرِ
(٧٧٤) البادر: المسرع. والمتغنم: الذي يغتنم الشيء. يقول: ما فات من العمر لا يعود؛ أي أن ما بقي من الحياة غير طويل، فإن الماضي غير مستدرك، فجد لي بحظ من يستعجل ويبادر إلى الأمور ويغتنمها وقت القدرة والإمكان.
(٧٧٥) هذا كالعود من عتاب الاستبطاء. يقول: إن كنت ترضى بتأخير ما أرجوه فأنا أرضى به أيضًا؛ محبة لك، وانجذابًا إلى هواك وموافقة لرضاك؛ لأني قدت نفسي إليك قود من سلم إليك أمره تصرفه كما تشاء.
(٧٧٦) يقول: مثلك في كرمك وسماحتك يكون فؤاده وسيطًا بينه وبيني فيكلمه عني ولا يحوجني إلى الكلام.
(٧٧٧) الفعال: بمعنى الفعل. يقول — لصاحبيه اللذين يلومانه على تجشم الأسفار وإخطاره بنفسه في طلب المعالي: ملومكما — يعني نفسه — أجل من أن يلام؛ لأن فعله يجوز طوق القول، فلا يدرك فعله بالوصف والقول، ولأنه لا مطمع للائم فيه بأن يطيعه أو يخدعه هو بلومه. وذهب ابن القطاع إلى أن الكلام بمعنى الجراحات، قال: المعنى ملومكما يجل عن لومكما ووقع فعال لومكما فوق الكلام؛ أي الجراحات، فالكلام بكسر الكاف — جمع كلم.
(٧٧٨) ذراني: دعاني واتركاني. والفلاة: الصحراء، ونصب الفلاة والهجير؛ لأنهما مفعولان معهما. ووجهي: عطف على «الياء» من ذراني. والهجير: حر نصف النهار. يقول: دعاني مع الفلاة أسلكها بغير دليل لاهتدائي فيها وخبرتي بمسالكها، ودعاني مع الهجير أسير فيه بغير لثام يقي وجهي؛ لأني قد اعتدت ذلك.
(٧٧٩) الإناخة: النزول. والمقام: مصدر ميمي، بمعنى الإقامة. وقوله: بذي وهذا يعني بالفلاة والهجير. يقول: راحتي فيهما وتعبي في النزول والإقامة.
(٧٨٠) الرواحل: جمع راحلة وهي الناقة. وبغام الناقة: صوت لا تفصح به، وبغمت الناقة تبغم بغامًا: قطعت الحنين ولم تمده. ورزحت الناقة: سقطت من الإعياء. قال الواحدي: قال ابن جني: معناه إن حارت عيني، فأنا بهيمة مثل رواحلي، وعيني عينها وصوتي صوتها، كما تقول: إن فعلت كذا فأنت حمار، وأنت بلا حاسة. وزاد ابن فورجه هذا بيانًا فقال: يريد أنه بدوي عارف بدلالات النجوم في الليل، فيقول: إن تحيرت في المفازة فعيني البصيرة عين راحلتي، ومنطقي الفصيح بغامها. وقال التبريزي: عيون رواحلي تنوب عني إذا ضللت أهتدي بها وصوتها إذا احتجت إلى أن أصوت ليسمع الحي يقوم مقام صوتي، وإنما قال: «بغامي» على الاستعارة.
(٧٨١) يقول: لا أحتاج في ورود الماء إلى دليل يدلني سوى أن أعد برق الغمام، وأستدل بذلك على المطر فأتبع موقعه، على عادة العرب في عدها بروق الغمام؛ وذلك أن العرب كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقة، وقيل: مائة، فإذا كملت وثقوا بأن البرق برق ماطر، فرحلوا يطلبون موضع الغيث. قال قائلهم:
سقَى اللهُ جِيرانًا حَمِدْتُ جِوارهم كرامًا إذَا عُدُّو وفَوقَ كِرام
يَعُدُّونَ برق المُزْنِ فِي كِلِّ مَهْمهِ فَما رِزْقُهُمْ إلا بُروقُ غمامِ
(٧٨٢) يقال: أذم له؛ أي أعطاه الذمة، وهي العهد والخفارة. والمهجة: الروح. يقول: من احتاج في سفره إلى ذمة ليأمن بذلك، فإني أكون في ذمة الله وذمة سيفي؛ يعني: لا أستصحب أحدًا في سفري لآمن بصحبته.
(٧٨٣) وليس قِرًى: أي وليس لي قِرًى، فخبر «ليس» محذوف. والجملة: حال. يقول: لا أمسي ضيفًا للبخيل وإن لم يكن لي طعام ألبتة — لأنه لا مخ للنعام — ويجوز أن يريد بهذا أن البخيل لا قرى عنده. ويروى: مح — بالحاء المهملة — وهو صفرة البيض، وقيل: ما في جوف البيض من أصفر وأبيض كله مح، والمعنى على هذا: لو لم يكن لي قرًى سوى بيض النعام شربته ولم آتِ بخيلًا.
(٧٨٤) الخب: الخداع. يقول: لما فسد ود الناس وصار خداعًا يبشون بوجوههم وكشحهم منطوٍ على الخبث عاملتهم بمثل ما يعاملونني به، فهم يكاشرونني وأنا أكاشرهم؛ أي ابتسمت إليهم كما يبتسمون إلي.
(٧٨٥) يقول: لعموم الفساد في الخلق كلهم صرت إذا اصطفيت — اخترت — أحدًا لمودتي لم أكن على ثقة من مودته لعلمي أنه من جملة الخلق. حكي عن المتنبي أنه قال: كنت إذا دخلت على كافور وأنشدته يضحك إلي ويبش في وجهي حتى أنشدته هذين البيتين فما ضحك بعدها في وجهي إلى أن تفرقنا، فعجبت من فطنته وذكائه.
(٧٨٦) الوسام والوسامة: حسن الصورة. يقول: العاقل إنما يحب من يحبه لأجل صفاء الود بينهما. فمن أصفى له الود أحبه، أما الجاهلي الأحمق فإنه يحب على جمال الصورة؛ وذلك حب الجهال — الحمقى — لأنه ليس كل جميل المنظر يستحق المحبة كخضراء الدمن (أصل الدمن: ما تدمنه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها؛ أي تلبده في مرابضها، فربما نبت فيها النبات الحسن النضير وأصله من دمنة، فذلك النبت هو خضراء الدمن، وفي الحديث: «إياكم وخضراء الدمن، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء.» شبه المرأة بما ينبت في الدمن من الكلأ له غضارة وهو وبيء المرعى منتن الأصل) رائق اللون وبيء المذاق.
(٧٨٧) آنف: أي أستنكف. وقوله: لأبي وأمي: حال؛ أي مولودًا لهما — يعني الأخ الشقيق.
(٧٨٨) يقول: إذا لؤمت الأخلاق غلبت الأصل الطيب الكريم حتى يكون صاحبها لئيمًا وإن كان من أصل كريم. كما قال آخر:
أبُوك أبٌ حُرٌّ وأمُّك حُرة وقدْ يلِدُ الحُرَّانِ غيرَ نجيبِ
وقال آخر:
لئن فخرْتَ بآبَاء لهُمْ شَرف لقدْ صَدَقْتَ ولكن بِئس ما ولدُوا
(٧٨٩) أعزى: أنسب. والهمام: السيد الشجاع السخي. يقول: لا أقنع من الفضل بأن أنسب إلى جد فاضل. يعني: إذا لم أكن فاضلًا بنفسي لم يغنِ عني فضل جدي.
(٧٩٠) القد: القامة. وحد: أي حد السيف. يريد بمن له قد وحد: الشاب الذي لم يهدم الهرم جسمه ولم يذهب الكبر بقوته. ونبا السيف: كلَّ عن الضريبة. والقضم: السيف الذي فيه فلول. والكهام: الذي لا يقطع. يقول: عجبت لمن توافرت له قوة الشباب وبأسه، ثم لا ينفذ في الأمور ولا يكون ماضيًا.
(٧٩١) المطي: الإبل. والسنام: ما شخص من ظهر البعير. يقول: وعجبت لمن وجد الطريق إلى معالي الأمور فلا يبادر إلى قطعها ليصل إليها، ولا يتعب مطاياه في ذلك الطريق حتى تذهب أسنمتها.
(٧٩٢) يقول: ولا عيب أبلغ من عيب من قدر أن يكون كاملًا في الفضل فلم يكمل؛ أي لا عذر له في ترك الكمال إذا قدر على ذلك ثم تركه، والعيب ألزم له من الناقص الذي لا يقدر على الكمال. يشير بهذه الأبيات إلى نفسه ويعرض بالرحيل عن مصر.
(٧٩٣) الخبب: ضرب من السير. والركاب: الإبل. يقول: أقمت بمصر لا تسير بي الإبل إلى خلف ولا إلى قدام، يعني: أنه لزم الإقامة بها لا يريم.
(٧٩٤) يقول: إن مرضه قد طال حتى مله الفراش، وكان هو يمل الفراش، وإن لاقاه جنبه في العام مرة واحدة؛ لأنه أبدًا كان يكون على سفر.
(٧٩٥) يقول: إني بمصر غريب فليس يعودني بها إلا القليل من الناس، وفؤادي سقيم لتراكم الأحزان عليَّ، وحسَّادي كثير لوفور فضلي، ومرامي — مطلبي — صعب لأني أطلب الملك.
(٧٩٦) قوله: من غير المُدام: أي أني سكران من غير خمر، وإنما من الضعف والهموم.
(٧٩٧) وزائرتي: أي ورب زائرة لي — يريد الحمى وكانت تأتيه ليلًا — يقول: كأنها حيية؛ إذ كانت لا تزورني إلا في دجنات الظلام.
(٧٩٨) المطارف: جمع مطرف، وهو رداء من خز في جنبه علمان. والحشايا: جمع حشية، وهي ما حشي من الفراش مما يجلس عليه. وعافتها: كرهتها وأبتها. يقول: هذه الزائرة — يعني الحمى — لا تبيت في الفراش، وإنما تبيت في عظامي.
(٧٩٩) يقول: جلدي لا يسعها ولا يسع أنفاسي للصعداء، والحمى تُذْهب لحمي وتوسع جلدي بما تورده علي من أنواع السقام.
(٨٠٠) قال الواحدي: يريد أنه يعرق عند فراقها، فكأنها تغسله لعكوفها على ما يوجب الغسل، وإنما خص الحرام للقافية، وإلا فالاجتماع على الحلال كالاجتماع على الحرام في وجوب الغسل. وقال ابن الشجري: وإنما خص الحرام؛ لأنه جعلها زائرة غريبة ولم يجعلها زوجة ولا مملوكة.
(٨٠١) سجم الدمع: سال وانسكب: أي بأربعة أدمع. يقول: إنها تفارقه عند الصبح، فكأن الصبح يطردها وكأنها تكره فراقه فتبكي بأربعة أدمع. يريد كثرة الرحضاء وهو عرق الحمى، والدمع يجري من الموقين، فإذا غلب وكثر جرى من اللحاظين أيضًا. والموق: طرف العين مما يلي الأنف. واللحاظ: طرفها مما يلي الصدغ.
(٨٠٢) يقول: إنه لجزعه من ورودها يراقب وقت زيارتها خوفًا لا شوقًا.
(٨٠٣) يقول: إنها صادقة الوعد في الورود — لأنها لا تتخلف عن ميقاتها — وذلك الصدق شر من الكذب؛ لأنه صدق يضر ولا ينفع، كمن أوعد ثم صدق في وعيده.
(٨٠٤) يريد ببنت الدهر: الحمى. وبنات الدهر: شدائده. يقول للحمى: عندي كل نوع من أنواع الشدائد، فكيف لم يمنعك ازدحامها من الوصول إلي؟! وهذا من قول الآخر:
أتيتُ فؤادَهَا أشكُو إليهِ فَلم أخْلُصُ إليهِ منَ الزحامِ
(٨٠٥) يقول: لقد جرحت رجلًا من كثرة ملاقاته الحروب لم يبقَ فيه مكان لضرب السيوف ولا السهام.
(٨٠٦) يقولون: ليت شعري ما حال فلان؟ أي ليتني أشعر. وخبر «ليت» محذوف: أي ليت شعري حاصل ونحوه. والعنان: سير اللجام. والزمام: المقود. يقول: ليت يدي علمت هل تتصرف بعد هذا في عنان خيل أو زمام إبل؟ يعني ليتني علمت: هل أصح وأبرأ فأسافر على الخيل والإبل؟
(٨٠٧) هواي: يعني ما يهواه ويطلبه. وبراقصات: أي بإبل تسير الرقص، وهو ضرب من الخبب، يقال: رقص البعير رقصًا إذا خب. ومحلاة: من الحلية. واللغام: زبد يخرج من فم البعير. يقول: وهل أقصد ما أهواه من المطالب والمقاصد بإبل تسير الرقص وقد جمد الزبد على مقاودها فصار عليها مثل الحلي الفضية؟ وهذا كما قال منصور النميري:
وَيَقْطَعُ البيدَ منْهَا كلُّ يَعْمَلةٍ خُرْطُومُها بِاللُّغامِ الْجَعْدِ مُلتفِعُ
(لغام جعد: متراكب مجتمع، وذلك إذا صار بعضه فوق بعض على خطم البعير أو الناقة، يقال: جعد اللغام، قال ذو الرمة:
تنجوُا إذ جعلتْ تَدْمَى أخشتُها واعْتمَّ بالزَّبَدِ الجَعْد الخراطيمُ
«تنجو: تسرع السير، والنجاء: السرعة، وأخشتها جمع خشاش، وهي حلقة تكون في أنف البعير».)
(٨٠٨) الغليل: العطش، ويراد به كل ما حز في الصدر. والقناة: الرمح. والحسام: السيف القاطع. يقول: إنه لما كان صحيحًا كان يسافر ويقاتل فيشفي غليله بالسير إلى ما يهواه، وبالسيف والرمح.
(٨٠٩) الخطة: الأمر والقصة. والفدام: ما يجعل على فم الإبريق ونحوه ليصفى به ما فيه. يقول: ربما ضاق أمر علي فخلصت منه كما تخلص الخمر من النسيج الذي تشد به أفواه الأباريق.
(٨١٠) يقول: وربما فارقت الحبيب بلا وداعٍ لعجلتي. يريد أنه قد هرب من أشياء كرهها فلم يقدر على توديع الحبيب ولا على أن يسلم على أهل ذلك البلد الذي هرب منه.
(٨١١) الجمام: الراحة. يقول: إن الطبيب يظن أن سبب دائي الأكل والشرب فيقول: أكلت كذا وكذا مما يضر، وليس في طبه أن الذي أضر بجسمي طول لبثي وقعودي عن الأسفار، كالفرس الجواد، يضر بجسمه طول قيامه في المرابط، فيفتر ويني.
(٨١٢) السرايا: جمع سرية، وهي القطعة من الجيش تسري إلى العدو. والقتام: الغبار، وأراد بدخول القتام: حضور الحرب. يقول: تعود هذا الجواد — يعني نفسه — أن يثير الغبار في الجيوش، ويخرج من حرب فيدخل في غيرها.
(٨١٣) فأمسك: أي الجواد. ولا يطال له: أي لا يرخى طِوَلُه، وهو حبل طويل تشد به قائمة الدابة وترسل في المرعى. يقول: أمسك هذا الجواد لا يرخى له الطِّوَل فيرعى فيه ولا هو في السفر فيعتلف من المخلاة — التي تعلق على رأسه — وليس هو في اللجام، وهذا مثل ضربه لنفسه، وأنه حليف الفراش، ممنوع عن الحركة، وجائز أن يكون هذا المثل قد ضربه لحالته مع كافور.
(٨١٤) أحمم: من الحمَّى. يقول: إن كنت قد مرضت في بدني فإن صبري وعزمي باقيان على ما كانا عليه لم يمرضا بمرض جسمي.
(٨١٥) الحمام: الموت. يقول: وإن سلمت من الحمى لم أبقَ خالدًا، ولكني أسلم من الموت بها إلى الموت بغيرها، وهذا قريب من قول طرفة بن العبد:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الموْتَ مَا أَخْطَأَ الفتَى لَكَالطِّوَلِ المُرْخَى وَثِنْياهُ بالْيَدِ
(الطِّوَل: الحبل الطويل جدًّا، أو حبل طويل تشد به الدابة ويمسك صاحبه بطرفة ويرسلها ترعى.)
ومن قول الآخر:
إذَا بَلَّ مِنْ دَاء به خَالَ أَنَّهُ نَجَا وَبِهِ الدَّاءُ الَّذِي هُوَ قَاتِلهْ
(بلَّ: برأ وصح. والداء الذي هو قاتله: الهرم.)
(٨١٦) السهاد: السهر. والكرى: يريد به النوم. والرجام: القبور — واحدها رجم، وأصلها حجارة ضخام تجعل على القبر، ومنه قول عبد الله بن مغفل: لا ترجموا قبري؛ أي لا تجعلوا عليه الرجم — أي لا تسنموه بل سووه بالأرض. يقول: ما دمت حيًّا فتمتع من حالتي السهر والنوم ولا ترج النوم في القبر. وفيه نظر إلى قول الآخر:
تَمَتَّعْ بالرُّقَاد عَلَى شِمَالٍ فَنوْمُكَ قَدْ يَطُولُ عَلَى الْيَمين
(٨١٧) يريد بثالث الحالين: الموت. يقول: إن الموت حال غير حالي السهر والنوم فلا يتمتع فيه بشيء.
(٨١٨) المحاجم: جمع المحجمة، وهي القارووة يحجم بها الجلد، والجلم: أحد شقي المقراض وهما جلمان. يقول: لا طريق للكرم إليك، فإنك لست منه في شيء، إنما أنت أهل لأن تكون حجامًا — مزينًا — فأين آلة الحجامة حتى تشتغل بها؟ وفيه إشارة إلى أن الذي اشتراه قديمًا كان حجامًا.
(٨١٩) الألى: أي الذين. وقدرهم: مفعول «جاز». يقول: إن هؤلاء الذين تملكهم قد تجاوزوا قدرهم بالبطر والطغيان؛ فملكك الله عليهم تحقيرًا لهم ووضعًا من قدرهم، حين ملكهم كلب.
(٨٢٠) قال الواحدي: يريد بالفحل ذي الذكر، رجال عسكره، وبالأمة التي لا رحم لها، الأسود — كافورًا — يوبخهم بانقيادهم له، يقول: لا شيء أقبح في الدنيا من رجل ينقاد لأمة حتى تقوده إلى ما تريد. وقال ابن فورجه: يريد أن ابن طغج فحل له ذكر وكافورًا خصي، فهو كالأمة من حيث إنه خصي لكنه قد خالفها بكونه لا رحم له، فكأنه أنقص من أمة، فهذا إغرابه. يقول: لم تملكه أمرك وأنت فحل وهو أمة في العجز ودناءة القدر؟
(٨٢١) القزم: رذال الناس وسفلتهم، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، وروى ابن جني: القُزُم — بضمتين — وهو جمع، مثل أسد وأسد، وهذا إغراء لأهل مملكته به. يقول: كل جيل وأُمَّة يملكهم من هو من جنسهم، فكيف ساد المسلمين عبيد رذال لئام؟
(٨٢٢) أحفى شاربه: استأصله. يقول — لأهل مصر: لا شيء عندكم من الدين إلا إحفاء الشوارب حتى ضحكت منكم الأمم، وهذا إنكار عليهم طاعة الأسود وتقريره في المملكة.
(٨٢٣) الهندي: السيف، نسبة إلى الهند. والهامة: الرأس؛ يحرض على قتله، يقول: ألا رجل منكم يقتله حتى يزول عن العاقل الشك والتهمة؟ وذلك أن تمليك مثله يشكك العاقل في حكمة الباري — جل شأنه — حتى يفضي به إلى أن يظن أن الناس معطلون عن صانع يدبرهم.
(٨٢٤) يقول: إن الدهري يقول: لو كان للعالم مدبر وكانت الأمور جارية على تدبير حكيم لما ملك هذا العبد.
(٨٢٥) ولا يصدق قومًا: أي لا يجعلهم صادقين. يقول — كما قال الواحدي: إن الله تعالى قادر على إخزاء الخليقة بأن يملك عليهم لئيمًا ساقطًا من غير أن يصدق الملاحدة الذين يقولون بقدم الدهر. يشير إلى أن تأمير مثله إخزاء للناس، وأن الله تعالى فعل ذلك عقوبة لهم وليس كما يقول الملاحدة. وذهب بعضهم إلى أنه يحتمل أن يكون المراد أن الله قادر أن يخزي الملحدين ويكذب زعمهم بأن يسلط عليه — على كافور — من يقتله ويبطل حجتهم.
(٨٢٦) يشكو خلو الدنيا من الكرام. يقول: أما فيها كريم يؤنس به ويستروح إليه وتزول به الهموم؟
(٨٢٧) يقول: إن كل الأمكنة التي وصل إليها قد عمها اللؤم والأذى، أليس في الدنيا مكان يحفظ أهله الجار ويرعونه فيسر بجوارهم؟
(٨٢٨) العبدَّى: العبيد، جمع عبد، والمراد بهم هنا: العباد — أي الناس — والموالي: جمع مولًى؛ المملوك. والصميم: الصريح النسب الخالص. يقول: عم الجهل الناس كلهم الذين هم عبيد الله، حتى التبسوا علينا بالبهائم؛ إذ أشبهوها في الجهل، وملك المملوكون فالتبس الصميم — الأحرار — بالموالي — أي الذين كانوا عبيدًا أرقاء — وذلك أن نفاذ الأمر يترجم عن علو القدر، والإمارة إذا صارت إلى اللئام التبسوا على هذا الأصل بالكرام. يعني أن التملك إنما يستحقه الكرام، فإذا صار إلى اللئام ظُنُّوا كرامًا.
(٨٢٩) يقول: لست أدري أهذا الذي أصاب الناس من تملك العبيد واللئام عليهم حدث الآن، أم هو قديم كان قبلنا فيما تقدم؟
(٨٣٠) يعني: أن الحر بينهم مجفوٌّ مهان كاليتيم.
(٨٣١) اللابي: نسبة إلى اللاب؛ بلد بالنوبة، ويقال: أسود لوبي ونوبي: نسبة إلى اللوبة والنوبة، وهما في الأصل: الأرض التي قد ألبستها حجارة سود. والبوم: الطائر المعروف الذي يسكن الخراب، وبه يضرب المثل في الشؤم. والرخم: طائر من الجوارح الكبيرة الجثة الوحشية الطباع. شبه الأسود بالغراب — وهو طير خسيس كثير العيوب — وشبه أصحابه أيضًا بخساس حول الغراب.
(٨٣٢) أخذت: رواها الواحدي بصيغة المجهول، قال: أي أكرهت. وتروى: أَخذت بصيغة المعلوم؛ أي شرعت. و«لهوًا» مفعول ثانٍ مقدم. ومقالي: مفعول أول. يقول: أكرهت على مدحه فرأيتني لاهيًا أن أصف الأحمق بالحلم وأن أمدحه بما ليس فيه.
(٨٣٣) ولما أن هجوت: أي ولما هجوت: ﻓ «أن» زائدة، والعي: ضد الفصاحة، عي في منطقه عيًّا: إذا لم يوفق إلى التعبير عما في نفسه. وابن آوى: ضرب من الكلاب البرية تنذر بالسبع بصياحها. يقول: ولما هجوته وهو ظاهر اللؤم كان نسبتي إياه إلى اللؤم عيًّا؛ لأن التكلم بما لا يحتاج فيه إلى بيان عي. ومن قال لابن آوى — وهو من ألأم السباع وأخسها — يا لئيم، كان متكلفًا.
(٨٣٤) يقول: فهل من عاذر لي يقوم بعذري في مدحه وهجائه — فإني كنت مضطرًّا لم يكن لي فيهما اختيار، كالسقم يطرأ على السقيم من غير اختياره؟
(٨٣٥) يعتذر من تكلفه هجاءه، يقول: إذا أساء إلى وضيع لئيم ولم أوجه اللوم إليه فإلى من أوجه؟ وهذا من قول أبي تمام:
إذا أنا لمْ أَلُمْ عَثراتِ دَهْرٍ أُصِبْتُ بِهِ الغَداةَ فَمن ألومُ؟!
(٨٣٦) الند: عود يتبخر به. والضمير في «اسمه»: لفاتك.
(٨٣٧) الضمير في «ريحه»: لفاتك. وفي «شمه»: للند.
(٨٣٨) المنون: الموت، وأمه: تنازعه كل من «تدر» و«ولدت» أي لم تدر أمه ما ولدت.
(٨٣٩) هالها: أفزعها. يقول: لو علمت أمه التي كانت تضمه إلى صدرها في صغره أنه شجاع فاتك قتال لفزعت منه ولهالها ضم ذلك الولد إلى صدرها.
(٨٤٠) قوله: بمصر ملوك: يعرض بكافور. وهمه: أي همته. يقول: إن لهم مالًا كثيرًا مثل ماله، ولكن ليس لهم مثل علو همته. وهذا من قول أشجع السلمي:
وَليْسَ بِأَوْسَعِهِمْ فِي الغِنَى ولكِنَّ مَعْروفَهُ أوْسَعُ
وقول الآخر:
ولم يكُ أكثرَ الفِتْيان مالًا ولكن كَانَ أوسعَهم ذِراعا
(٨٤١) يقول: إذا بخل كان أجود منهم، وإذا ذُمَّ كان أحمد منهم. وقال العكبري: المعنى أنه لا يبخل بشيء تمتد يده إليه، فإذا لم يجد شيئًا يهبه كان يعده من نفسه بخلًا. قال: وقوله: أحمد من أحمدهم: أي لا يذم إلا بالإسراف في الجود والمخاطرة بنفسه في الإقدام، وهذا أحمد من حمدهم.
(٨٤٢) الوجد: الغنى. والعدم: الفقر. يقول: إنه وهو ميت أشرف منهم وهم أحياء، وهو في حال عدمه أنفع منهم وهم أغنياء؛ لأنه كان يجود بما يجد، وهم يبخلون مع الوجد والغنى.
(٨٤٣) المنية: الموت. والخمر: تذكر وتؤنث، فمن ذكرها ذهب بها إلى النبيذ. يقول: إن المنية كانت منه تنبث في الناس، ثم عادت عليه فأهلكته. وبعبارة أخرى: إنه كان يسقي المنية لأعدائه، فلما مات سقيها، فكانت في ذلك كالخمر التي أصلها الكرم ومنه خرجت، ثم عادت فسقيها الكرم وردت إليه.
(٨٤٤) عبه: جرعه وشربه. قال ابن جني: يعني أن الزمان أتى من موته بما فيه نقض العادة، وذلك أن الماء مشروب لا شارب، والطعم مذوق لا ذائق، فموته كانقلاب الأمر وهو أن يعب الماء مع كونه مشروبًا، ويذوق الطعم مع كونه مذوقًا. وقال ابن فورجه: عند ابن جني أن الضمير في «عبه» لفاتك، وكذلك الهاء في «ذاقه» — على ما ذكر في تفسيره — وليس كذلك؛ لأنه قد قال في البيت الذي قبله: إن الموت الذي أصابه هو بمنزلة الخمر سقيها الكرم: أي كانت المنية مما يسقيه الناس بسيفه فصارت شرابًا له، ثم قال: فذاك الذي عبه — يعني الخمر — هو ماء الكرم فعبه، وذاك الذي ذاقه هو الموت وهو طعم نفسه الذي كان يموت به الخلق. قال الواحدي: والمعنى على ما قاله ابن فورجه لكنه لم يبينه بيانًا شافيًا، والمعنى أن هذا مثل، وهو أن الكرم إذا سُقي الخمر فشربه فقد شرب ماء نفسه، والذي ذاقه من طعم الخمر هو طعم الكرم، كذلك موت «فاتك» لما أهلكه فشرب شراب الموت وذاق طعمه، فكأنه شرب شراب نفسه وذاق طعم نفسه.
(٨٤٥) حرًى: أي خليق وجدير. يقول: إن من ضاقت الأرض عن همته لخليق أن يضيق جسمه بهمته فلا يسعها، وإذا لم يسعها ولم يطق احتمالها هلك؛ لعظم ما يطلبه، كما قال الآخر:
عَلَى النفوسِ جِنايات مِنَ الهِمم
(٨٤٦) حتام: هي «حتى» و«ما»، حذفت ألف «ما» لامتزاجها ﺑ «حتى» وكثرة استعمالها، ويجوز إثباتها على الأصل. ونساري: نفاعل — من السرى، وهو السير ليلًا — والنجم: اسم جنس — أي النجوم — قال تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، والواو من «وما سراه»: حالية. والخف للبعير بمنزلة الحافر للدابة. يقول: إلى متى نسري مع النجوم في ظلم الليل وليست تسري هي على خف كالإبل ولا على قدم كالناس؛ أي إن النجوم لا يصيبها الكلال من السرى كما يصيبنا ويصيب مطايانا.
(٨٤٧) فاعل «يحس» الأولى. يعود على «النجم»، وفاعل «يحس» الثانية: غريب. يقول: إن النجوم لا يؤثر فيها عدم النوم كما يؤثر في رجل بعيد على أهله بات يسري ساهرًا، يعني نفسه.
(٨٤٨) العذر: جمع عذار، وأصلها: عُذُر «بضم الذال» ولكنه أسكنها هنا على لغة، والعذار: جانب اللحية؛ أي الشعر الذي يحاذي الأذن. واللمم: جمع لمة، وهو الشعر المجاوز شحمة الأذن والذي يلم بالمنكب. يقول: إن الشمس تغير ألواننا فتسود وجوهنا البيض، ولكنها لا تؤثر ذلك التأثير في شعورنا البيض. وهذا من قول أبي تمام:
تَرَى قَسَمَاتِنَا تَسْوَدُّ فيها وما أخْلاقُنا فيها بسُود
«القسمات — بفتح السين وكسرها — الوجوه.»
(٨٤٩) الحكم: الحاكم. واحتكمنا: تحاكمنا. يقول: لو احتكمنا إلى حاكم من حكام الدنيا لحكم بأن ما يسود الوجه يسود الشعر، ولكن الله قضى بأن الشمس إنما تسود الوجه ولا تسود الشعر، ومن ثم لا تجري في شأنها على أحكام الناس.
(٨٥٠) الأدم — بفتحين وبضمتين — جمع أديم؛ وهو الجلد المدبوغ. يقول: ونجعل الماء لا يزال مسافرًا: إما في السحاب، وإما في قربنا؛ لأنا نغترفه من السحاب فنودعه روايانا.
(٨٥١) العيس: الإبل. يقول: ليست الإبل ببغيضة إليَّ، فليس إتعابي إياها في السفر بغضًا لها مني، ولكني أسافر عليها لأقي قلبي من الحزن أو جسمي من السقم؛ وذلك أن السقيم إذا غير الهواء والماء وسافر صح جسمه، وكذلك المحزون يتنسم بروح الهواء أو يصير إلى مكان يسر فيه بالإكرام.
(٨٥٢) أيديها وأرجلها: أي العيس، وأسكن الياء في «أيديها» ضرورة، كقول الرجز يصف إبلًا بالسرعة:
كَأَنَّ أَيْدِيهنَّ بالقَاع الْقَرِقْ أيْدِي نِسَاءٍ يَتَعَاطَيْنَ الْوَرِقْ
(قاع قرق: مستوٍ. وقد شرحنا هذا البيت في موضع آخر من هذا الشرح.)
ومرقن: أي خرجن، من مرق السهم من الرمية: إذا خرج من الجانب الآخر. وجوش والعلم: مكانان. يقول: حثثتها على السير وأعجلتها حتى كأن أرجلها طاردة لأيديها، كما قال بعض العرب:
كَأَنَّ يَدَيْهَا حينَ جَدَّ نَجَاؤُهَا طَرِيدَانِ وَالرِّجْلَانِ طَالِبَتَا وِتْرِ
(النجاء: السرعة.)
وذلك أن اليد أمام الرجل كالمطرود يكون أمام الطارد. شبه خروجها من هذين المكانين بخروج السهم من الرمية لسرعة سيرها، ولذلك قال: «مرقن».
(٨٥٣) تبري: تعارض، يقال: برى له وانبرى له؛ إذا عارضه. قال أبو النجم:
يَبْرِي لَها مِنْ أيْمُنٍ وأَشْملِ
(يبري: يروى: يأتي. يصف ظليمًا ونعامة، يقول: كلما أسرعت إلى أدحيها — وهو مبيضها — عرض لها يمينًا وشمالًا، مزعجًا لها.)
والدو: الفلاة. وأراد بنعام الدو: الخيل، جعلها كالنعام في سرعة عدوها، وظهر بقوله: مسرجة أنها الخيل. والجدل: جمع جديل، وهو حبل من أدم أو شعر في عنق البعير. يقول: تنبري الخيل للعيس وتعارض أزمتها بلجمها وأعنتها؛ أي تباريها في السير. وكأن هذا من قلب التشبيه، أراد أن هذه الإبل تباري الخيل وتعارض أعنتها بالزمام، فقلب الكلام تفننًا ومبالغة في وجه الشبه في المشبه حتى صار أكمل فيه من المشبه به. وقال ابن جني: يقول — المتنبي: الخيل — لعلو أعناقها وإشرافها — تباري أعناق الإبل، فتكون اللجم في أعناقها كالجدل — الأزمة — في أعناق الإبل.
(٨٥٤) غلمة: جمع غلام. وأخطروا أرواحهم: أي خاطروا بها. ولقين: أي الأرواح والأيسار: جمع يسر، وهم الذين يتقامرون ويجتمعون على الميسر. والزلم: السهم من سهام الميسر. يقول: سرت من مصر في غلمة حملوا أرواحهم على الخطر لبعد المسافة وصعوبة الطريق، ورضوا بما يستقبلهم من فوز أو تهلكة، كما يرضى المقامرون بما يخرج لهم بالأزلام.
(٨٥٥) اللثم: جمع لثام؛ ما يلقى على الوجه من طرف العمامة. يقول: إن هؤلاء الغلمة كلما ألقوا عمائمهم التي على رءوسهم ظهر من شعورهم على رءوسهم عمائم سود ليس لها لثم، وذلك أن العرب تجعل العمائم بعضها لثمًا على الوجه وبعضها على الرأس، فهو يقول: إن شعورهم على رءوسهم كالعمائم وليس فيها شيء على وجوههم. يعني أنهم مردٌ لم يتصل شعر العوارض والوجوه بشعر الرأس — كما بيَّن ذلك في البيت التالي.
(٨٥٦) العوارض: جمع عارض؛ صفحة الخد. وشلالون: طرَّادون. والنعم: الماشية، وغلب على الإبل. يقول: إنهم مرد صعاليك (لصوص: قطاع طريق، وصعاليك العرب: ذؤباتها ولصوصها) قتالون للفوارس طرادون للنعم، يغيرون عليها أينما وجدوها.
(٨٥٧) بلَّغوا بالتشديد: مبالغة في بلغوا بالتخفيف، ورواها بعض الشراح: بلَغوا — بالتخفيف — وقال في تعليقه: وجه الكلام أن يقال: بلغوا — بتخفيف اللام — والباء بعده للتعدية، فيكون الجزء مطويًّا. والقنا: يذكر ويؤنث، وفوق هنا اسم متمكن مفعول «بلغوا» يقول: قد استفرغوا وسع الرماح طعنًا، ومع ذلك لم تبلغ الرماح غاية هممهم.
(٨٥٨) الضمير في «به» للقنا. يقول: هم — أبدًا — في القتال والغارة، كفعل أهل الجاهلية، إلا أن أنفسهم طابت بالقتل وسكنت إليه، فكأنهم في الأشهر الحرم أمنًا وسكونًا، وكان أهل الجاهلية يأمنون في الأشهر الحرم؛ لأن القتال يترك فيها. وعبارة ابن القطاع: المعنى أنهم لتمرنهم في الحرب والقتل في مثل أحوال الجاهلية، إلا أن أنفسهم غير خائفةٍ من الحرب. لشجاعتهم وثقة بظهورهم على أعدائهم، فكأنهم في الأشهر الحرم. هذا، والأشهر الحرم أربعة؛ ثلاثة سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب.
(٨٥٩) ناشو: تناولوا. والبهم: جمع بهمة، وهو الشجاع الذي لا يُدرى من أين يُؤتى. يقول: تناولوا الرماح وكانت جمادًا لا تنطق فأسمعوا الناس صريرها في طعان الشجعان فصارت كأنها طير تصيح. وهذا من قول هلال المازني (شاعر إسلامي):
تصِيح الرُّدَيْنيَّاتُ فينا وَفِيهِمُ صِياحَ بناتِ الماء أصبَحنَ جُوَّعا
ومثله قول بعض العرب:
زُرْقٌ تصايَحْنَ في المتون كما هَاج دَجاجَ المدِينةِ السَّحَرُ
(٨٦٠) خدت الناقة تخدي: أي أسرعت، مثل وخدت وخودت. قال الراعي:
حَتَّى غَدَتْ في بياضِ الصُّبْحِ طَيِّبَةً رِيحَ المَبَاءَةِ تَخْدِي وَالثَّرَى عَمِدُ
(ضمير «غدت» بقرة وحشية تقدم ذكرها. ومباءتها: مكنسها. وعمد: شديد الابتلال، وإنما نصب ريح المباءة لما نون طيبة، وكان حقها الإضافة، فضارع قولهم: هو ضاربٌ زيدًا.)
والركاب: الإبل. والمشافر: جمع المشفر، وهو للبعير بمنزلة الشفة للإنسان. والفراسن: جمع فرسن؛ لحم خف البعير. والرغل والينم: نبتان. يقول: تسير الإبل بنا وهي بيض المشافر باللغام — زبد أفواه الإبل — وقال ابن جني: لأنها لا تترك ترعى لشدة السير فيجف اللغام على أشداقها خضر الفراسن لكثرة وطئها هذين النبتين.
(٨٦١) كعم البعير: شد فمه كيلا يعض أو يأكل، ومثله: عكم. يقول: إن السياط كانت تمنعها من المرعى، فكأنما قد شدت أفواهها. وهذا من قول ذي الرمة:
يَهْماءُ خابِطُها بالخوف مَكْعُومُ
[أي لا يتكلم فيها خوفًا، فكأن الخوف قد كعم فمه.] وكنا نضربها عن الرعي في منبت العشب؛ لأنا نبغي منبت الكرم، والبيت من قول الأسدي:
إِلَيك أمِيرَ المؤمنينَ رَحَلْتُها من الطَّلحِ تبْغِي منْبِتَ الزَّرَجُونِ
«الزرجون: الكرم، ويعني بمنبت الزرجون: الشأم؛ لأنها أكثر البلاد عنبًا.»
(٨٦٢) القريع: السيد، وأصله: الفحل المختار للفحلة، وسمي قريعًا لذلك؛ ولأنه يقرع الناقة، قال ذو الرمة:
وقدْ عارَضَ الشِّعْرَى سُهيْلٌ كأنَّه قريعُ هِجان عارَض الشولَ جافِرُ
(يقال للبعير إذا أكثر الضراب حتى ينقطع: قد جفر فهو جافر، وفي الأثر أن عليًّا — كرم الله وجهه — رأى رجلًا في الشمس فقال: قم عنها فإنها مجفرة: أي تذهب شهوة النكاح. وعارضها: أي جانبها وعدل عنها.)
يقول: أين منبت الكرم بعد موت هذا الرجل الذي كان منبت الكرم، وكان سيد العرب والعجم؟! وهذا استدراك — كما ترى — لما ذكره في البيت السابق.
(٨٦٣) يقول: ليس لنا في مصر رجل آخر مثله في جوده فنقصده، وليس له خلف مثله كرمًا وشجاعة، فقوله: لا فاتك: كأنه يقول: لا رجل آخر مثل «فاتك» ومن ثم نعته بنكرة.
(٨٦٤) الشيم: الخلائق، جمع شيمة. والرمم: العظام البالية. يقول: من لم يكن له شبيه من الأحياء في شيمه وأخلاقه صار الأموات يشابهونه في العظام البالية؛ أي مات فأشبه الأموات وأشبهوه.
(٨٦٥) يقول: لكثرة أسفاري وترددي في الدنيا كأني أطلب له نظيرًا، ولكني لا أحصل إلا على العدم؛ أي لا أجد مثله بعده.
(٨٦٦) إبلي بسكون الباء: تخفيف إبل بكسرها. يقول: ما زلت أسافر على إبلي إلى من لا يستحق القصد إليه، فلو أنها مما يضحك لضحكت إذا نظرت إلى من جشمتها جوب الفلوات إليه حتى اختضبت أخفافها بالدم استخفافًا به، وفي الكلام محذوف به يتم المعنى، تقديره: إلى من اختضبت أخفافها بدم في قصده أو في المسير إليه. قال العكبري: وفيه تعريض ببعض أهل بغداد.
(٨٦٧) أسار دابته: كسيرها، ويروى: أسيرها — مضارع سرت — أي أسير عليها. وعنى بالأصنام: قومًا يطاعون ويعظمون، وهم كالجماد لا اهتزاز فيهم للكرم ولا أريحية للجود، ثم فضل الصنم عليهم، فقال: ليست لهم عفة الصنم؛ لأن الصنم وإن لم ينفع فهو غير موصوف بالفضائح والقبائح، وهؤلاء لا يعفون عن منكر ولا قبيح.
(٨٦٨) يقول: حتى عدت إلى وطني وقد علمت أن المجد إنما يدرك بالسيف لا بالقلم؛ لأن ذا الفضل لا يعظم ولا يهاب كما يهاب صاحب السيف، ولا يدرك من معاني المجد والشرف ما يدركه، وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ فِي حَدِّهِ الْحَدُّ بَيْنَ الجِدِّ واللَّعِب
هذا، وقال العلامة العكبري: قطع — المتنبي — ألف الوصل في أول النصف الثاني، وقد ذكره سيبويه في الضرورات — أي الضرورات الشعرية — وأنشد للأعشى:
إذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فقال لَهُ: إِعْرِضْهُمَا هكذا أَسْمَعْهمَا حَار
وحسن هذا أنه حكاية عن قائل. قال: ولقطع ألف الوصل أربع مراتب: الأولى: أن تكون في أول البيت، وهذا لا ضرورة فيه كقول القطامي:
أَلضَّاربُونَ عُمَيْرًا عَنْ بيوتهمِ بالنَّبْل يَوْمَ عُمَيْرٌ ظَالمٌ عادِ
والثانية: هكذا لأبي الطيب. والثالثة: أن تكون بعد حرف ساكن كقول جميل:
ألَا لا أَرَى إِثْنَيْنَ أَحْسَنَ شيمَةً عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْر مِنِّي وَمَنْ جُمْلِ
(حدثان الدهر: ما يحدث فيه من النوائب والنوازل، وجمل — بضم الجيم وسكون الميم — اسم امرأة.)
وكقول قيس بن الخطيم:
إذَا جَاوَزَ الْإثْنَيْنِ سِرٌّ فَإنَّهُ بِنَثٍّ وَتَكثير الحديث قمَينُ
(نث الحديث ينثه نثًّا: أفشاه. وقمين: أي جدير، وبنث متعلق به، وتكثير عطف على «بنث»، وبعده.
وإنْ ضَيَّعَ الإخوانُ سِرًّا فإنني كتوم لأسرار العَشير أمينُ)
والرابعة — وهي أقبح الضرورات — أن تكون ألف الوصل بعد متحرك كقول الراجز:
وكلُّ إثنين إلى افتِرَاق
قال: ولو ترك قيس بن الخطيم الاثنين وقال: الخلين؛ لتخلص من الضرورة وكذلك الراجز، وقد قيل: إنهما نطقا به على الصواب وغيره الرواة.
(٨٦٩) الكتاب: مصدر كالكتابة، وهذا من حكاية قول الأقلام. يقول: قالت لي الأقلام: اخرج على الناس بالسيف واقتلهم، ثم اكتب بنا ما فعلت بالسيف وما تقول من الشعر في ذلك، فإن القلم كالخادم للسيف؛ جعل الضرب بالسيف كالكتابة به. وهذا من قول البحتري:
تَعْنُو لَهُ وُزَرَاءُ الْمُلْك خَاضِعَةً وَعادَةُ السَّيْفِ أنْ يَسْتَخْدِمَ القَلما
(٨٧٠) هذا جواب منه للأقلام، يقول لها: أسمعتني قولك، والذي أشرت به علي هو الدواء الذي يشفي ما بي، فإن تركت مشورتك ولم أفطن لها صار دائي هو قلة الفهم، لا ما أظنه من قلة إنصاف الناس وعدم تقديرهم إياي.
(٨٧١) هذا تأكيد لما أشارت به الأقلام عليه من استعمال السيف، يقول: من طلب حاجته بغير الهندي — السيف — أجاب سائله عن قوله: هل أدركت حاجتك؟ بقوله: لم أدرك، أو لم أصل أو لم أظفر، ونحو ذلك. قال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز صاحب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»: كان الواجب أن يقول: عن هل بلا؛ لأن الطالب بغير السيف يقول: هل تتبرع لي بهذا المال؟ فيقول المسئول: لا، فأقام «لم» مقام «لا»؛ لأنهما حرفا نفي. قال الواحدي: وهذا ظلم منه — من القاضي — للمتنبي، وقلة فهم من القاضي، ولو أراد ذلك الذي ظنه لقال: أجيب عن كل سؤال ﺑ «هل» ﺑ «لا»؛ لأن المقتضى مجاب ليس هو المجيب، والذي أراد المتنبي أن الناس يسألونه: هل أدركت حاجتك؟ هل وصلت إلى بغيتك؟ فيجيب ويقول: لم أدرك، لم أبلغ لم أظفر، لم أصل إلى ما أطلب. هذا، وأعرب هل ولم وهما حرفان؛ لأنهما قد صارا علمين على لفظهما. وقال ابن جني: جعل «هل» و«لم» اسمين فجرهما و«هل» حرف استفهام و«لم» حرف نفي، قال: ويجوز أن تكون الكسرة في «لم» كسرة الساكن إذا احتيج إلى تحريكه للقافية. كقول النابغة: «وكأن قد»؛ (قطعة من بيت هو:
أزِفَ التَّرحلُ غير أنَّ ركابَنا لما تَزُلْ برِحالنا وكأنْ قدِ)
وحكى الخليل قال: قلت: لأبي الدقيش — الأعرابي — هل لك في ثريدة كأن ودكها عيون الضياون؟ فقال: أسد الجواب لهل أوحاه — أُسرعه. (قال الأزهري: أبو الدقيش كنية واسمه الدقش، قال يونس: سألت أبا الدقيش ما الدقش؟ فقال: لا أدري. قلت: ما الدقيش؟ فقال: ولا هذا. قلت: فاكتنيت بما لا تعرف ما هو؟ قال: إنما الكنى والأسماء علامات. وقال أبو زيد: دخلت على أبي الدقيش الأعرابي وهو مريض فقلت له: كيف تجدك يا أبا الدقيش؟ قال أجد ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجد، وأنا في زمان سوء؛ زمان من وجد لم يَجُد، ومن جاد لم يَجِد. والضياون جمع ضيون: السنور الذكر أو دويبة تشبهه.)
(٨٧٢) يقول: إن القوم الذين قصدناهم بالمديح توهموا أن العجز عن طلب الرزق قربنا إليهم. ثم قال: ولهم الحق في أن يتوهموا ذلك؛ لأن بعض التقرب قد يدعو إلى التهمة، لأنك إذا تقربت إلى إنسان توهمك عاجزًا محتاجًا إليه.
(٨٧٣) الإنصاف: إعطاء الحق. قال ابن الأعرابي: أنصف إذا أخذ الحق وأعطى. قال: وتفسيره أن تعطيه من نفسك النصف، أي تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك. والرحم: القرابة. يقول: إن ترك الإنصاف يدعو إلى التقاطع بين الناس ولو كانوا أقارب، فما الظن بمن لا قرابة بينهم؟! يشير إلى إعراضه عن القوم الذين ذكرهم؛ لأنهم لم ينصفوه في قصده لهم، وهذا من قول الآخر:
إذَا أنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أخَاكَ وَجَدْتَهُ عَلَى طَرَفِ الهِجْرَانِ إن كانَ يَعْقِلُ
(٨٧٤) الخذم: جمع خذوم؛ أي القاطع، يعني السيوف. وأيد فاعل تزورهم. يقول: فلا أزورهم بعد ذلك إلا بأيد قد ألفت القتال ونشأت في صحبة السيوف. يعني إذا لم ينصفوا فإني لا أزورهم إلا محاربًا.
(٨٧٥) من كل: بيان للمصقولة الخذم. وشفرته: أي حده فاعل قاضية. يقول: من كل سيف تقضي شفرته بالموت بين الفريقين، الظالم والمظلوم.
(٨٧٦) قوائمها: مقابضها. واللؤم: خسة الأصل، ضد الكرم. والكزم: قصر اليد، وناقة كزماء: قصر خطامها. يقول: صنا قوائم السيوف فما وقعت إلا في أيدينا التي لا لؤم فيها ولا قصر: يعني أنهم لا يحسنون العمل بالسيوف ونحن أربابها نشأت أيدينا معها. والمعنى: إنهم لم يسلبونا سيوفنا فتقع في أيديهم التي هي مواقع اللؤم والقصر عن بلوغ الحاجة.
(٨٧٧) ما شق منظره: ما صعبت رؤيته. يقول: هون على العين ما شق عليها النظر إليه مما تراه من المكاره، وهبك تراه في الحلم؛ لأن ما تراه في اليقظة شبيه بما تراه في المنام، لأنهما يمكثان قليلًا ثم يزولان، فكأنهما لم يكونا. وروي: منظره — بفتح الراء فيكون المراد: الشيء الذي يشق البصر ويفتحه باقتضائه النظر إليه. والضمير على هذا للبصر، وعلى الرواية الأولى ﻟ «ما». قال الواحدي: ولم يعرف ابن جني شيئًا من هذا، وقال: يقال: شق بصر الميت شقوقًا، الفعل للبصر، قال: ومعنى البيت: هون على بصرك شقوقه ومقاساة النزع … وهذا كلام — كما تراه — في غاية الفساد والبعد عن الصواب. وقال ابن القطاع: قول ابن جني: هون على بصرك شقوقه ومقاساته النزع والحشرجة صحيح، فإن الحياة كالحلم. قال العكبري: وهو من قول الحكيم: كرور الأيام أحلام، وغذاؤها أسقام وآلام.
(٨٧٨) يقول: لا تشك إلى أحد ما ينزل بساحتك من ضر وشدة فتشمته بشكواك، فتكون شكواك كشكوى الجريح إلى الطير التي ترقب أن يموت فتأكله. وعبارة التبريزي: الناس بعضهم أعداء بعض، فمن شكا حاله إليهم فهو كمثل جريح اجتمعت عليه الطير لتأكل لحمه. فهو يشكو إلى من ليس عنده رحمة؛ لأن الغربان — جمع غراب — والرخم — جمع رخمة؛ طائر من الجوارح الخسيسة — إنما يجتمعان حول الجريح ليأكلا لحمه.
(٨٧٩) يقول: احذر الناس واستر حذرك منهم، ولا تغتر بابتسامهم إليك؛ فإنهم يضمرون في قلوبهم ما لا يبدون لك من الغدر والخداع. قال العكبري: وهذا من قول الحكيم: الحيوان كله متغلب، وليس من السياسة شكوى بعض إلى بعض.
(٨٨٠) غاض: قل ونقص. وأعوز الشيء: عز فلا يكاد يوجد. يقول: لا ترى الوفاء في عدة؛ أي إذا وعدك أحد بشيء لم يفِ به. ولا يوجد الصدق في إخبارٍ ولا قسم؛ أي إذا أخبرك أحد بشيء لم يصدق فيه، وإذا حلف لم يصدق.
(٨٨١) يتعجب من أن الله سبحانه جعل لذته في جوب المفاوز والتمرس بالمهالك واقتحامها وهو غاية ألم النفوس. قال العكبري: وهو من قول الحكيم: النفس الشريفة ترى الموت بقاء لدركها أماكن البقاء، وهذه حالة تعجز الخلق عن ركوبها.
(٨٨٢) الحطم بالضم: جمع حطوم، وبفتح الطاء: جمع الحطمة؛ أي التي تحطم من ألمت به. وصبر جسمي، يروى: وصبر نفسي.
(٨٨٣) وقت: أي لي وقت، فهو مبتدأ محذوف الخبر. أو تقول: إن التقدير: هو وقت، فيكون «وقت» خبر مبتدأ محذوف. يقول: لي وقت أو هو وقت يضيع في مخالطة أهل هذا الدهر ومصاحبتهم؛ لأنهم سفلة أنذال يضيع الوقت بصحبتهم، وليت مدة عمري كانت في أمة أخرى من الأمم السالفة التي تقدر الرجل حق قدره. يشكو من أهل دهره ويتأسف على ضياع وقته في معاشرتهم.
(٨٨٤) يقول: إن بني الزمان من الأمم السالفة جاءوا في حدثان الدهر وجدته فسرهم وأتاهم بما يفرحون، ونحن أتيناه وقد هرم وخرف فلم نجد عنده ما يسرنا. وقد أخذنا أبو الفتح البستي هذا المعنى وجنس اللفظ فقال:
لا غَرْوَ إنْ لم نَجِدْ فِي الدَّهْرِ مُخْتَرفًا فَقد أتيناهُ بَعْدَ الشَّيْبِ وَالخرَفِ
وقد نظر المتنبي في بيته إلى قول من قال:
وَنحنُ فِي عَدَمٍ إذْ دَهْرُنا جَذَعٌ فالآنَ أمسى وَقد أوْدَى بهِ الخَرَفُ
(٨٨٥) نثره: أي منثوره — أي ما نثر منه — والديم: جمع الديمة، وهي المطر الدائم في سكون، يريد أن الورد لكثرة ما نثر عليهم كأنه يقول لهم: قد صيرني الأمير مطرًا. يقول: قد صدق الورد فيما قاله؛ لأنا نراه كذلك.
(٨٨٦) مائج: يروى: مازج. والعنم: شجر له ثمرة حمراء يشبه بها البنان المخضوب، قال النابغة:
بمُخَضَّبٍ رَخْص الْبَنَانِ كَأَنَّهُ عَنَمٌ عَلَى أغْصانِهِ لمْ يُعْقَدِ
(لم يعقد: يريد لم يدرك بعد.)
يقول: كأن الهواء — وهو مائج بهذا الورد عند نثره — بحر من العنم. يريد كثرة الورد في الهواء، حتى صار كأنه بحر قد حوى العنم مثل مائه كثرة.
(٨٨٧) يقول: إن الذي نثر هذا الورد هو الذي ينثر السيوف؛ أي يفرقها في أعدائه وهي دم — أي متلطخة بالدم فكأنها دم — وينثر كل قول يقوله وهو حكم؛ أي إذا قال قولًا قال حكمة. هذا، ومن نصب «كل» فعلى أنه معطوف على المعنى، كما تقول: هذا ضاربُ زيدٍ وعمرًا، ومنه قوله تعالى: وَجَاعِلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ يريد في قراءة الحرميين وأبي عمرو وابن عامر على معنى: وجعل الشمس.
(٨٨٨) الخيل: عطف على ما قبله. قال الواحدي: والسابغات: التامات. ويقال: فصل العقد إذا نظم فيه أنواع الخرز فجعل كل نوع مع نوع ثم فصل بين الأنواع بذهب أو شيء آخر، هذا هو الأصل في تفصيل العقود، ثم يسمى نظم العقد تفصيلًا، فيقال: عقد مفصل: إذا كان منظومًا. ومنه قول امرئ القيس:
تَعَرُّضَ أثناء الوِشَاحِ المفصَّلِ
(من معلقته، وصدره:
إذَا ما الثريا في السماء تعرَّضَتْ)
والمعنى أنه جمع هذه الأشياء بالخيل: أي تمكن من جمعها بالخيل، وجعل جمعها تفصيلًا؛ لأنها أنواع، فجعل ذلك كتفصيل العقد. يقول: إنه ينثر الخيل — أي يفرقها في الغارة — ثم ذكر أنه جمع بها هذه الأشياء التي ذكرها من النعم لأوليائه والنقم لأعدائه. انتهى كلام الواحدي، ويؤخذ من كلامه أن «النعم» عنده عطف على «الخيل»، ولكن الأوجه جعلها عطفًا على «السيوف» أي والذي ينثر الخيل — أي يفرقها — في الضياع فينظمها بها، والذي ينثر النعم على أوليائه والنقم على أعدائه.
(٨٨٩) أحسن منه: مفعول ثانٍ ﻟ «يرنا»، والضمير في «منه» للورد. يقول: إن يده تنثر ما هو أحسن من الورد — يريد الدنانير والدراهم — فإن كان الورد يشكو يده — لأنها نثرته — فليرنا شيئًا أحسن منه سلم من جود يده.
(٨٩٠) عوذه: رقاه رقية تدفع عنه السوء. يقول: قل للورد: لست أفضل ما نثرت يد هذا الملك، وإنما خشيت أن تصيبه أعين الناس حين يرون سعة بذله بذلك. فنثرك وقاية لكرمه من أعينهم إذا رأوه يجود بما لا قيمة له.
(٨٩١) خوفًا: مفعول له عامله عوذت. وبها يصاب: رواها ابن جني: «بها يعان» من قولهم: عين الرجل فهو معين ومعيون؛ إذا أصابته العين. وقوله: أصاب عينًا إلى آخره دعاء. وعمى: فاعل أصاب. يقول: أعمى الله عينًا يصاب بها. قال الواحدي: وهذه الأبيات في نثر الورد غير مليحة، وليس المتنبي من أهل الأوصاف. قال العكبري: إنما المتنبي ممن يحسن الأوصاف في كل فن، وإنما هذا الذي يأتي له في البديهة والارتجال — أو في وقت يكون على شراب أو غيره — فلا يعتد به، ولو كان أبو الفتح ابن جني عمل صوابًا لكان أسقطه من شعره.
No comments:
Post a Comment