شرح ديوان المتنبي
قافية النون
وعزم سيف الدولة على لقاء الروم في السنَبُوس سنة أربعين وثلاثمائة، وبلغه أن العدو في أربعين ألفًا، فتهيبتهم أصحابه، فأنشد أبو الطيب بحضرة الجيش:
تَزُورُ دِيَارًا ما نُحِبُّ لَهَا مَغْنَى وَنَسْأَلُ فِيهَا غَيْرَ سَاكِنِهَا الْإِذْنَا١
نَقُودُ إِلَيْهَا الْآخِذَاتِ لَنَا الْمَدَى عَلَيْهَا الْكُمَاةُ الْمُحْسِنُونَ بِهَا الظَّنَّا٢
وَنُصْفِي الَّذِي يُكْنَى أَبَا الْحَسَنِ الْهَوَى وَنُرْضِي الَّذِي يُسْمَى الْإِلَهَ وَلَا يُكْنَى٣
وَقَدْ عَلِمَ الرُّومُ الشَّقِيُّونَ أَنَّنَا إِذَا مَا تَرَكْنَا أَرْضَهُمْ خَلْفَنَا عُدْنَا٤
وَأَنَّا إِذَا مَا الْمَوْتُ صَرَّحَ فِي الْوَغَى لَبِسْنَا إِلَى حَاجَاتِنَا الضَّرْبَ وَالطَّعْنَا٥
قَصَدْنَا لَهُ قَصْدَ الْحَبِيبِ لِقَاؤُهُ إِلَيْنَا وَقُلْنَا لِلسُّيُوفِ: هَلُمِّنَّا٦
وَخَيْلٍ حَشَوْنَاهَا الْأَسِنَّةَ بَعْدَمَا تَكَدَّسْنَ مِنْ هَنَّا عَلَيْنَا وَمِنْ هَنَّا٧
ضُرِبْنَ إِلَيْنَا بِالسِّيَاطِ جَهَالَةً فَلَمَّا تَعَارَفْنَا ضُرِبْنَ بِهَا عَنَّا٨
تَعَدَّ الْقُرَى وَالْمُسْ بِنَا الْجَيشَ لَمْسَةً نُبَارِ إِلَى مَا تَشْتَهِي يَدُكَ الْيُمْنَى٩
فَقَدْ بَرَدَتْ فَوْقَ اللُّقَانِ دِمَاؤُهُمْ وَنَحْنُ أُنَاسٌ نُتْبِعُ البَارِدَ السُّخْنَا١٠
وَإِنْ كُنتَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ الْعَضْبَ فِيهِمِ فَدَعْنَا نَكُنْ قَبْلَ الضِّرَابِ الْقَنَا اللُّدْنَا١١
فَنَحْنُ الْأُلَى لَا نَأْتَلِي لَكَ نُصْرَةً وَأَنْتَ الَّذِي لَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ أَغْنى١٢
يَقِيكَ الرَّدَى مَنْ يَبْتَغِي عِنْدَكَ الْعُلَا وَمَنْ قَالَ: لَا أَرْضَى مِنَ الْعَيْشِ بِالْأدْنَى١٣
فَلَوْلَاكَ لَمْ تَجْرِ الدِّمَاءُ وَلَا اللُّهَا وَلَمْ يَكُ لِلدُّنْيَا وَلَا أَهْلِهَا مَعْنَى١٤
وَمَا الْخَوْفُ إِلَّا مَا تَخَوَّفَهُ الْفَتَى وَمَا الْأَمْنُ إِلَّا مَا رَآهُ الْفَتَى أَمْنَا١٥
وقال يمدحه وقد أهدى له ثياب ديباج ورمحًا وفرسًا معها مهرها، وكان المهر أحسن:
ثِيَابُ كَرِيمٍ مَا يَصُونُ حِسَانَهَا إِذَا نُشِرَتْ كَانَ الْهِبَاتُ صِوَانَهَا١٦
تُرِينَا صَنَاعُ الرُّومِ فِيهَا مُلُوكَهَا وَتَجْلُو عَلَيْنَا نَفْسَهَا وَقِيَانَهَا١٧
وَلَمْ يَكْفِهَا تَصْوِيرُهَا الْخَيْلَ وَحْدَهَا فَصَوَّرَتِ الْأَشْيَاءَ إِلَّا زَمَانَهَا١٨
وَمَا ادَّخَرَتْهَا قُدْرَةً في مُصَوِّرٍ سِوَى أَنَّهَا مَا أَنْطَقَتْ حَيَوَانَهَا١٩
وَسَمْرَاءُ يَسْتَغْوِي الْفَوَارِسَ قَدُّهَا وَيُذْكِرُهَا كَرَّاتِهَا وَطِعَانَهَا٢٠
رُدَيْنِيَّةٌ تَمَّتْ وَكَادَ نَبَاتُهَا يُرَكِّبُ فِيهَا زُجَّهَا وَسِنَانَهَا٢١
وَأُمُّ عَتِيقٍ خَالُهُ دُونَ عَمِّهِ رَأَى خَلْقَهَا مَنْ أَعْجَبَتْهُ فَعَانَهَا٢٢
إِذَا سَايَرَتْهُ بَايَنَتْهُ وَبَانَهَا وَشَانَتْهُ فِي عَيْنِ الْبَصِيرِ وَزَانَهَا٢٣
فَأَيْنَ الَّتِي لَا تَأْمَنُ الْخَيْلُ شَرَّهَا وَشَرِّي وَلَا تُعْطِي سِوَايَ أَمَانَهَا؟٢٤
وَأَيْنَ الَّتِي لَا تَرْجِعُ الرُّمْحَ خَائِبًا إِذَا خَفَضَتْ يُسْرَى يَدَيَّ عِنَانَهَا٢٥
وَمَا لِي ثَنَاءٌ لَا أَرَاكَ مَكَانَهُ فَهَلْ لَكَ نُعْمَى لَا تَرَانِي مَكَانَهَا؟٢٦
ومد نهر قويق وهو نهر بحلب حتى أحاط بدار سيف الدولة، وخرج أبو الطيب من عنده فبلغ الماء إلى صدر فرسه فقال أبو الطيب مرتجلًا:
حَجَّبَ ذَا الْبَحْرَ بِحَارٌ دُونَهُ يَذُمُّهَا النَّاسُ وَيَحْمَدُونَهُ٢٧
يَا مَاءُ هَلْ حَسَدْتَنَا مَعِينَهُ؟ أَمِ اشْتَهَيْتَ أَنْ تُرَى قَرِينَهُ؟٢٨
أَمِ انْتَجَعْتَ لِلْغِنَى يَمِينَهُ؟ أَمْ زُرْتَهُ مُكَثِّرًا قَطِينَهُ؟٢٩
أَمْ جِئْتَهُ مُخَنْدِقًا حُصُونَهُ إِنَّ الْجِيَادَ وَالْقَنَا يَكْفِينَهُ٣٠
يَا رُبَّ لُجٍّ جُعِلَتْ سَفِينَهُ وَعَازِبِ الرَّوْضِ تَوَفَّتْ عُونَهُ٣١
وَذِي جُنُونٍ أَذْهَبَتْ جُنُونَهُ وَشَرْبِ كَأْسٍ أَكْثَرَتْ رَنِينَهُ٣٢
وَأَبْدَلَتْ غِنَاءَهُ أَنِينَهُ وَضَيْغَمٍ أَوْلَجَهَا عَرِينَهُ٣٣
وَمَلِكٍ أَوْطَأَهَا جَبِينَهُ يَقُودُهَا مُسَهِّدًا جُفُونَهُ٣٤
مُبَاشِرًا بِنَفْسِهِ شُئُونَهُ مُشَرِّفًا بِطَعْنِهِ طَعِينَهُ٣٥
عَفِيفَ مَا فِي ثَوْبِهِ مَأْمُونَهُ٣٦
أَبْيَضَ مَا فِي تَاجِهِ مَيْمُونَهُ٣٧ بَحْرٌ يَكُونُ كُلُّ بَحْرٍ نُونَهُ٣٨
شَمْسٌ تَمَنَّى الشَّمَسُ أَنْ تَكُونَهُ٣٩
إِنْ تَدْعُ: يَا سَيْفُ؛ لِتَسْتَعِينَهُ يُجِبْكَ قَبْلَ أنْ تُتِمَّ سِينَهُ٤٠
أَدَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ تَمْكِينَهُ مَنْ صَانَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَدِينَهُ٤١
وقال يمدحه عند منصرفه من بلد الروم سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وأنشده إياها بآمد:
الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهْيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي٤٢
فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِنَفْسٍ مِرَّةٍ بَلَغَتْ مِنَ الْعَلْيَاءِ كُلَّ مَكَانِ٤٣
وَلَرُبَّمَا طَعَنَ الْفَتَى أَقْرَانَهُ بِالرَّأْيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الْأَقْرَانِ٤٤
لَوْلَا الْعُقُولُ لَكَانَ أَدْنَى ضَيْغَمٍ أَدْنَى إِلَى شَرَفٍ مِنَ الْإِنْسَانِ
وَلَمَا تَفَاضَلَتِ النُّفُوسُ وَدَبَّرَتْ أَيْدِي الكُمَاةِ عَوَالِيَ المُرَّانِ٤٥
لَوْلَا سَمِيُّ سُيُوفِهِ وَمَضَاؤُهُ لَمَّا سُلِلْنَ لَكُنَّ كَالْأَجْفَانِ٤٦
خَاضَ الْحِمَامَ بِهِنَّ حَتَّى مَا دُرَى أَمِنِ احْتِقَارٍ ذَاكَ أمْ نِسْيَانِ؟٤٧
وَسَعَى فَقَصَّرَ عَنْ مَدَاهُ في الْعُلَا أَهْلُ الزَّمَانِ وَأَهْلُ كُلِّ زَمَانِ٤٨
تَخِذُوا الْمَجَالِسَ فِي الْبُيُوتِ وَعِنْدَهُ أَنَّ السُّرُوجَ مَجَالِسُ الْفِتْيَانِ٤٩
وَتَوَهَّمُوا اللَّعِبَ الْوَغَى وَالطَّعْنُ فِي الـْ ـهَيْجَاءِ غَيْرُ الطَّعْنِ فِي الْمَيْدَانِ٥٠
قَادَ الْجِيَادَ إِلَى الطِّعَانِ وَلَمْ يَقُدْ إِلَّا إِلَى الْعَادَاتِ وَالْأَوْطَانِ٥١
كُلُّ ابْنِ سَابِقَةٍ يُغِيرُ بِحُسْنِهِ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ عَلَى الْأَحْزَانِ٥٢
إِنْ خُلِّيَتْ رُبِطَتْ بِآدَابِ الْوَغَى فَدُعَاؤُهَا يُغْنِي عَنِ الْأَرْسَانِ٥٣
فِي جَحْفَلٍ سَتَرَ الْعُيُونَ غُبَارُهُ فَكَأَنَّمَا يُبْصِرْنَ بِالْآذَانِ٥٤
يَرْمِي بِهَا الْبَلَدَ البَعِيدَ مُظَفَّرٌ كُلُّ الْبَعِيدِ لَهُ قَرِيبٌ دَانِ٥٥
فَكَأَنَّ أَرْجُلَهَا بِتُرْبَةِ مَنْبِجٍ يَطْرَحْنَ أَيْدِيَهَا بِحِصْنِ الرَّانِ٥٦
حَتَّى عَبَرْنَ بِأَرْسَنَاسَ سَوَابحًا يَنْشُرْنَ فِيهِ عَمَائِمَ الْفُرْسَانِ٥٧
يَقْمُصْنَ فِي مِثْلِ الْمُدَى مِنْ بَارِدٍ يَذَرُ الْفُحُولَ وَهُنَّ كَالْخِصْيَانِ٥٨
وَالْمَاءُ بَيْنَ عَجَاجَتَيْنِ مُخَلِّصٌ تَتَفَرَّقانِ بِهِ وَتَلْتَقِيَانِ٥٩
رَكَضَ الْأَمِيرُ وَكَاللُّجَيْنِ حَبَابُهُ وَثَنَى الْأَعِنَّةَ وَهْوَ كَالْعِقْيَانِ٦٠
فَتَلَ الْحِبَالَ مِنَ الْغَدَائِرِ فَوْقَهُ وَبَنَى السَّفينَ لَهُ مِنَ الصُّلْبَانِ٦١
وَحَشَاهُ عَادِيَةً بِغَيْرِ قَوَائِمٍ عُقْمَ الْبُطُونِ حَوَالِكَ الْأَلْوَانِ٦٢
تَأْتِي بِمَا سَبَتِ الْخُيُولُ كَأَنَّهَا تَحْتَ الْحِسَانِ مَرَابِضُ الْغِزْلَانِ٦٣
بَحْرٌ تَعَوَّدَ أَنْ يُذِمَّ لِأَهْلِهِ مِنْ دَهْرِهِ وَطَوَارِقِ الْحِدْثَانِ
فَتَرَكْتَهُ وَإِذَا أَذَمَّ مِنَ الْوَرَى رَاعَاكَ وَاسْتَثْنَى بَنِي حَمْدَانِ٦٤
الْمُخْفِرِينَ بِكُلِّ أَبْيَضَ صَارِمٍ ذِمَمَ الدُّرُوعِ عَلَى ذَوِي التِّيجَانِ٦٥
مُتَصَعْلِكِينَ عَلَى كَثَافَةِ مُلْكِهِمْ مُتَوَاضِعِينَ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ٦٦
يَتَقَيَّلُونَ ظِلَالَ كُلِّ مُطَهَّمٍ أَجَلِ الظَّلِيمِ وَرِبْقَةِ السِّرْحَانِ٦٧
خَضَعَتْ لِمُنْصُلِكَ الْمَنَاصِلُ عَنْوَةً وَأَذَلَّ دِينُكَ سَائِرَ الْأَدْيَانِ٦٨
وَعَلَى الدُّرُوبِ وَفِي الرُّجُوعِ غَضَاضَةٌ وَالسَّيْرُ مُمْتَنِعٌ مِنَ الْإِمْكَانِ
وَالطُّرْقُ ضَيِّقَةُ الْمَسَالِكِ بِالْقَنَا وَالْكُفْرُ مُجْتَمِعٌ عَلَى الْإِيْمَانِ
نَظَرُوا إِلَى زُبَرِ الْحَدِيدِ كَأَنَّمَا يَصْعَدْنَ بَيْنَ مَنَاكِبِ الْعِقْبَانِ٦٩
وَفَوَارِسٍ يُحْيِي الْحِمَامُ نُفُوسَهَا فَكَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَيَوَانِ٧٠
مَا زِلْتَ تَضْرِبُهُم دِرَاكًا فِي الذُّرَا ضَرْبًا كَأَنَّ السَّيْفَ فِيهِ اثْنَانِ٧١
خَصَّ الْجَمَاجِمَ وَالْوُجُوهَ كَأَنَّمَا جَاءَتْ إِلَيْكَ جُسُومُهمْ بِأَمَانِ٧٢
فَرَمَوْا بِمَا يَرْمُونَ عَنْهُ وَأَدْبَرُوا يَطَئُونَ كُلَّ حَنِيَّةٍ مِرْنَانِ٧٣
يَغْشَاهُمُ مَطَرُ السَّحَابِ مُفَصَّلًا بمُثَقَّفٍ ومُهَنَّدٍ وَسِنَانِ٧٤
حُرِمُوا الَّذِي أَمَلُوا وَأَدْرَكَ مِنْهُمُ آمَالَهُ مَنْ عَادَ بِالْحِرْمَانِ٧٥
وَإِذَا الرِّمَاحُ شَغَلْنَ مُهْجَةَ ثَائِرٍ شَغَلَتْهُ مُهْجَتُهُ عَنِ الْإِخْوَانِ٧٦
هَيْهَاتَ عَاقَ عَنِ الْعِوَادِ قَوَاضِبٌ كَثُرَ الْقَتِيلُ بِهَا وَقَلَّ الْعَانِي٧٧
وَمُهَذَّبٌ أَمَرَ الْمَنَايَا فِيهِمِ فَأَطَعْنَهُ فِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ٧٨
قَدْ سَوَّدَتْ شَجَرَ الْجِبَالِ شُعُورُهُمْ فَكَأَنَّ فِيهِ مُسِفَّةَ الْغِرْبَانِ٧٩
وَجَرَى عَلَى الْوَرَقِ النَّجِيعُ الْقَانِي فَكَأَنَّهُ النَّارَنْجُ فِي الْأَغْصَانِ٨٠
إِنَّ السُّيُوفَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَقُلُوبِهِنَّ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ٨١
تَلْقَى الْحُسَامَ عَلَى جَرَاءَةِ حَدِّهِ مِثْلَ الْجَبَانِ بِكَفِّ كُلِّ جَبَانِ٨٢
رَفَعَتْ بِكَ الْعَرَبُ الْعِمَادَ وَصَيَّرَتْ قِمَمَ الْمُلُوكِ مَوَاقِدَ النِّيرَانِ٨٣
أَنْسَابُ فَخْرِهِمِ إِلَيْكَ وَإِنَّمَا أَنْسَابُ أَصْلِهِمِ إِلَى عَدْنَانِ٨٤
يَا مَنْ يُقَتِّلُ مَنْ أَرَادَ بِسَيْفِهِ أَصْبَحْتُ مِنْ قَتْلَاكَ بِالْإِحْسَانِ٨٥
فَإِذَا رَأَيْتُكَ حَارَ دُونَكَ نَاظِرِي وَإِذَا مَدَحتُكَ حَارَ فِيكَ لِسَانِي
وقال في صباه في المكتب:
أَبْلَى الْهَوَى أَسَفًا يَوْمَ النَّوَى بَدَنِي وَفَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ وَالْوَسَنِ٨٦
رُوحٌ تَرَدَّدُ فِي مِثْلِ الْخِلَالِ إِذَا أَطَارَتِ الرِّيحُ عَنْهُ الثَّوْبَ لَمْ يَبِنِ٨٧
كَفَى بِجِسْمِي نُحُولًا أَنَّنِي رَجُلٌ لَوْلَا مُخَاطَبَتِي إِيَّاكَ لَمْ تَرَنِي٨٨
وقال في صباه على لسان بعض التنوخيين وقد سأله ذلك:
قُضَاعَةُ تَعْلَمُ أَنِّي الفَتَى الَّـْ ـذِي ادَّخَرَتْ لِصُرُوفِ الزَّمَانِ٨٩
وَمَجْدِي يَدُلُّ بَنِي خِنْدِفٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ كَريمٍ يَمَانِ٩٠
أَنَا ابْنُ اللِّقَاءِ أَنَا ابْنُ السَّخَاءِ أَنَا ابْنُ الضِّرَابِ أَنَا ابْنُ الطِّعَانِ٩١
أَنَا ابْنُ الْفَيَافِي أَنَا ابْنُ الْقَوَافِي أَنَا ابْنُ السُّرُوجِ أَنَا ابْنُ الرِّعَانِ٩٢
طَوِيلُ النِّجَادِ طَوِيلُ الْعِمَادِ طَوِيلُ القَنَاةِ طَوِيلُ السِّنَانِ٩٣
حَدِيدُ اللِّحَاظِ حَدِيدُ الْحِفَاظِ حَدِيدُ الْحُسَامِ حَدِيدُ الْجَنَانِ٩٤
يُسَابِقُ سَيْفِي مَنَايَا الْعِبَادِ إِلَيْهِمْ كَأَنَّهُمَا فِي رِهَانِ٩٥
يُرَى حَدُّهُ غَامِضَاتِ الْقُلُوبِ إِذَا كُنْتُ فِي هَبْوَةٍ لَا أَرَانِي٩٦
سَأَجْعَلُهُ حَكَمًا فِي النُّفُوسِ وَلَوْ نَابَ عَنْهُ لِسَانِي كَفَانِي٩٧
وقال أيضًا في صباه:
كَتَمْتُ حُبَّكِ حَتَّى مِنْكِ تَكْرِمَةً ثُمَّ اسْتَوَى فِيهِ إِسْرَارِي وَإِعْلَانِي٩٨
كَأنَّهُ زَادَ حَتَّى فَاضَ مِنْ جَسَدِي فَصَارَ سُقْمِي بِهِ فِي جِسْمِ كِتْمَانِي٩٩
ودخل على عليِّ بن إبراهيم التنوخي فعرض عليه كأسًا فيها شراب أسود، فقال ارتجالًا:
إِذَا مَا الْكَأْسُ أَرْعَشَتِ الْيَدَيْنِ صَحَوْتُ فَلَمْ تَحُلْ بَيْنِي وبَيْنِي١٠٠
هَجَرْتُ الْخَمْرَ كَالذَّهَبِ الْمُصَفَّى فَخَمْرِي مَاءُ مُزْنٍ كَاللُّجَيْنِ١٠١
أَغَارُ مِنَ الزُّجَاجَةِ وَهْيَ تَجْرِي عَلَى شَفَةِ الْأَمِيرِ أَبِي الْحُسَيْنِ١٠٢
كَأَنَّ بَيَاضَهَا وَالرَّاحُ فِيهَا بَيَاضٌ مُحْدِقٌ بِسَوادِ عَيْنِ١٠٣
أَتَيْنَاهُ نُطَالِبُهُ بِرِفْدٍ يُطَالِبَ نَفْسَهُ مِنْهُ بِدَيْنِ١٠٤
وقال يمدح بدر بن عمار وقد سار إلى الساحل، ثم عاد إلى طبرية، وكان أبو الطيب قد تخلف عنه، فقال يعتذر له:
أَلْحُبُّ مَا مَنَعَ الْكَلَامَ الْأَلْسُنَا وَأَلَذُّ شَكْوَى عَاشِقٍ مَا أَعْلَنَا١٠٥
لَيْتَ الْحَبِيبَ الْهَاجِرِي هَجْرَ الْكَرَى مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَاصِلِي صِلَةَ الضَّنَى١٠٦
بِنَّا فَلَوْ حَلَّيْتَنَا لَمْ تَدْرِ مَا أَلْوَانُنَا مِمَّا امْتُقِعْنَ تَلَوُّنَا١٠٧
وَتَوَقَّدَتْ أَنْفَاسُنَا حَتَّى لَقَدْ أَشْفَقْتُ تَحْتَرِقُ الْعَوَاذِلُ بَيْنَنَا١٠٨
أَفْدِي الْمُوَدِّعَةَ الَّتِي أَتْبَعْتُهَا نَظَرًا فُرَادَى بَيْنَ زَفْرَاتٍ ثُنَا١٠٩
أَنْكَرْتُ طَارِقَةَ الْحَوَادِثِ مَرَّةً ثُمَّ اعْتَرَفتُ بِهَا فَصَارَتْ دَيْدَنَا١١٠
وَقَطَعْتُ فِي الدُّنْيَا الْفَلَا وَرَكَائِبِي فِيهَا وَوَقْتَيَّ الضُّحَا وَالْمَوْهِنَا١١١
وَوَقَفْتُ مِنْهَا حَيْثُ أَوْقَفَنِي النَّدَى وَبَلَغْتُ مِنْ بَدْرِ بْنِ عَمَّارِ الْمُنَى١١٢
لِأَبي الْحُسَيْنِ جَدًا يَضِيقُ وِعَاؤُهُ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ الْوِعَاءُ الْأَزْمُنَا١١٣
وَشَجَاعَةٌ أَغْنَاهُ عَنْهَا ذِكْرُهَا وَنَهَى الْجَبَانَ حَدِيثُهَا أَنْ يَجْبُنَا١١٤
نِيطَتْ حَمَائِلُهُ بِعَاتِقِ مِحْرَبٍ مَا كَرَّ قَطُّ وَهَلْ يَكُرُّ وَمَا انْثَنَى١١٥
فَكَأنَّهُ وَالطَّعْنُ مِنْ قُدَّامِهِ مُتَخَوِّفٌ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ يُطْعَنَا١١٦
نَفَتِ التَّوَهُّمَ عَنْهُ حِدَّةُ ذِهْنِهِ فَقَضَى عَلَى غَيْبِ الْأُمُورِ تَيَقُّنَا١١٧
يَتَفَزَّعُ الْجَبَّارُ مِنْ بَغَتَاتِهِ فَيَظَلُّ فِي خَلَوَاتِهِ مُتَكَفِّنَا١١٨
أَمْضَى إِرَادَتَهُ فَسَوْفَ لَهُ قَدٌ وَاسْتَقْرَبَ الْأَقْصَى فَثَمَّ لَهُ هُنَا١١٩
يَجِدُ الْحَدِيدَ عَلَى بَضَاضَةِ جِلْدِهِ ثَوْبًا أَخَفَّ مِنَ الْحَرِيرِ وَأَلْيَنَا١٢٠
وَأَمَرُّ مِنْ فَقْدِ الْأَحِبَّةِ عِنْدَهُ فَقْدُ السُّيُوفِ الْفَاقِدَاتِ الْأَجْفُنَا١٢١
لَا يَسْتَكِنُّ الرُّعْبُ بَيْنَ ضُلُوعِهِ يَوْمًا وَلَا الْإِحْسَانُ أَنْ لَا يُحْسِنَا١٢٢
مُسْتَنْبِطٌ مِنْ عِلْمِهِ مَا فِي غَدٍ فَكَأَنَّ مَا سَيَكُونُ فِيهِ دُوِّنَا١٢٣
تَتَقَاصَرُ الْأَفْهَامُ عَنْ إِدْرَاكِهِ مِثْلَ الَّذِي الْأفْلَاكُ فِيهِ وَالدُّنَا١٢٤
مَنْ لَيْسَ مِنْ قَتْلَاهُ مِنْ طُلَقَائِهِ مَنْ لَيْسَ مِمَّنْ دَانَ مِمَّنْ حُيِّنَا١٢٥
لَمَّا قَفَلْتَ مِنَ السَّوَاحِلِ نَحْوَنَا قَفَلَتْ إِلَيْهَا وَحْشَةٌ مِنْ عِنْدِنَا١٢٦
أَرِجَ الطَّرِيقُ فَمَا مَرَرْتَ بِمَوْضِعٍ إِلَّا أَقَامَ بِهِ الشَّذَا مُسْتَوْطِنَا١٢٧
لَوْ تَعْقِلُ الشَّجَرُ الَّتِي قَابَلْتَهَا مَدَّتْ مُحَيِّيَةً إِلَيْكَ الْأَغْصُنَا١٢٨
سَلَكَتْ تَمَاثِيلَ الْقِبَابِ الْجِنُّ مِنْ شَوْقٍ بِهَا فَأَدَرْنَ فِيكَ الْأَعْيُنَا١٢٩
طَرِبَتْ مَرَاكِبُنَا فَخِلْنَا أَنَّهَا لَوْلَا حَيَاءٌ عَاقَهَا رَقَصَتْ بِنَا١٣٠
أَقْبَلْتَ تَبْسِمُ وَالْجِيَادُ عَوَابِسٌ يَخْبُبْنَ بالْحَلَقِ الْمُضَاعَفِ وَالْقَنَا١٣١
عَقَدَتْ سَنَابِكُهَا عَلَيْهَا عِثْيَرًا لَوْ تَبْتَغِي عَنَقًا عَلَيْهِ أَمْكَنَا١٣٢
وَالْأَمْرُ أَمْرُكَ وَالْقُلُوبُ خَوَافِقٌ فِي مَوْقِفٍ بَيْنَ الْمَنِيَّةِ وَالْمُنَى١٣٣
فَعَجِبْتُ حَتَّى مَا عَجِبْتُ مِنَ الظُّبَا وَرَأَيْتُ حَتَّى مَا رَأَيْتُ مِنَ السَّنَا١٣٤
إِنِّي أَرَاكَ مِنَ الْمَكَارِمِ عَسْكَرًا في عَسْكَرٍ وَمِنَ الْمَعَالِي مَعْدِنَا١٣٥
فَطِنَ الْفُؤَادُ لِمَا أَتَيْتُ عَلَى النَّوَى وَلِمَا تَرَكْتُ مَخَافَةً أَنْ تَفْطُنَا١٣٦
أَضْحَى فِرَاقُكَ لِي عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَيْسَ الَّذِي قَاسَيْتُ مِنْهُ هَيِّنَا١٣٧
فَاغْفِرْ فِدًى لَكَ وَاحْبُنِي مِنْ بَعْدِهَا لِتَخُصَّنِي بِعَطِيَّةٍ مِنْهَا أَنَا١٣٨
وَانْهَ الْمُشِيرَ عَلَيْكَ فِيَّ بِضَلَّةٍ فَالْحُرُّ مُمْتَحَنٌ بِأَوْلَادِ الزِّنَا١٣٩
وَإِذَا الْفَتَى طَرَحَ الْكَلَامَ مُعَرِّضًا فِي مَجْلِسٍ أَخَذَ الْكَلَامَ اللَّذْعَنَا١٤٠
وَمَكَايِدُ السُّفَهَاءِ وَاقِعَةٌ بِهِمْ وَعَدَاوَةُ الشُّعَرَاءِ بِئْسَ الْمُقْتَنَى١٤١
لُعِنَتْ مُقارَنَةُ اللَّئِيمِ فَإِنَّهَا ضَيْفٌ يَجُرُّ مِنَ النَّدَامَةِ ضَيْفَنَا١٤٢
غَضَبُ الْحَسُودِ إِذَا لَقِيتُكَ رَاضِيًا رُزْءٌ أَخَفُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُوزَنَا١٤٣
أَمْسَى الَّذِي أَمْسَى بِرَبِّكَ كَافِرًا مِنْ غَيْرِنَا مَعَنَا بِفَضْلِكَ مُؤْمِنَا١٤٤
خَلَتِ الْبِلَادُ مِنَ الْغَزَالَةِ لَيْلَهَا فَأَعَاضَهَاكَ اللهُ كَيْ لَا تَحْزَنَا١٤٥
وقال وقد سأله الجلوس:
يَا بَدْرُ إِنَّكَ وَالْحَدِيثُ شُجُونُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِمِثَالِهِ تَكْوِينُ١٤٦
لَعَظُمْتَ حَتَّى لَوْ تَكُونُ أَمَانَةً مَا كَانَ مُؤْتَمَنًا بِهَا جِبْرِينُ١٤٧
بَعْضُ الْبَرِيَّةِ فَوْقَ بَعْضٍ خَالِيًا فَإِذَا حَضَرْتَ فَكُلُّ فَوْقٍ دُونُ١٤٨
وقال يمدح أبا عبيد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي، وهو يومئذٍ يتقلد القضاء بأنطاكية:
أَفَاضِلُ النَّاسِ أَغْرَاضٌ لِذَا الزَّمَنِ يَخْلُو مِنَ الْهَمِّ أَخْلَاهُمْ مِنَ الْفِطَنِ١٤٩
وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي جِيلٍ سَوَاسِيَةٍ شَرٍّ عَلَى الْحُرِّ مِنْ سُقْمٍ عَلَى بَدَنِ١٥٠
حَوْلِي بِكُلِّ مَكَانٍ مِنْهُمُ خِلَقٌ تُخْطِي إِذَا جِئْتَ فِي اسْتِفْهَامِهَا بِمَنِ؟١٥١
لَا أَقْتَرِي بَلَدًا إِلَّا عَلَى غَرَرٍ وَلَا أَمُرُّ بِخَلْقٍ غَيْرِ مُضْطَغِنِ١٥٢
وَلَا أُعَاشِرُ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ أَحَدًا إِلَّا أَحَقَّ بِضَرْبِ الرَّأْسِ مِنْ وَثَنِ١٥٣
إِنِّي لَأَعْذِرُهُمْ مِمَّا أُعَنِّفُهُمْ حَتَّى أُعَنِّفُ نَفْسِي فِيهِمِ وَأَنِي١٥٤
فَقْرُ الْجَهُولِ بِلَا عَقْلٍ إِلَى أَدَبٍ فَقْرُ الْحِمَارِ بِلَا رَأْسٍ إِلَى رَسَنِ١٥٥
وَمُدْقِعِينَ بِسُبْرُوتٍ صَحِبْتُهُمُ عَارِينَ مِنْ حُلَلٍ كَاسِينَ مِنْ دَرَنِ١٥٦
خُرَّابِ بَادِيَةٍ غَرْثَى بُطُونُهُمُ مَكْنُ الضِّبَابِ لَهُمْ زَادٌ بِلَا ثَمَنِ١٥٧
يَسْتَخْبِرُونَ فَلَا أُعْطِيهِمُ خَبَرِي وَمَا يَطِيشُ لَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الظِّنَنِ١٥٨
وَخَلَّةٍ فِي جَلِيسٍ أَتَّقِيهِ بِهَا كَيْمَا يُرَى أَنَّنَا مِثْلَانِ فِي الْوَهَنِ١٥٩
وَكِلْمَةٍ فِي طَرِيقٍ خِفْتُ أُعْرِبُهَا فَيُهْتَدَى لِي فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى اللَّحَنِ١٦٠
قَدْ هَوَّنَ الصَّبْرُ عِنْدِي كُلَّ نَازِلَةٍ ولَيَّنَ الْعَزْمُ حَدَّ المَرْكَبِ الْخَشِنِ١٦١
كَمْ مَخْلَصٍ وَعُلًا فِي خَوْضِ مَهْلَكَةٍ وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بِالذَّمِّ فِي الْجُبُنِ!١٦٢
لَا يُعْجِبَنَّ مَضِيمًا حُسْنُ بِزَّتِهِ وَهَلْ يَرُوقُ دَفِينًا جَوْدَةُ الْكَفَنِ؟!١٦٣
للهِ حَالٌ أُرَجِّيهَا وَتُخْلِفُنِي! وَأَقْتَضِي كَوْنَهَا دَهْرِي وَيَمْطُلُني١٦٤
مَدَحْتُ قَوْمًا وَإِنْ عِشْنَا نَظَمْتُ لَهُمْ قَصَائِدًا مِنْ إِنَاثِ الْخَيْلِ وَالْحُصُنِ١٦٥
تَحْتَ الْعَجَاجِ قَوَافِيهَا مُضَمَّرَةً إِذَا تُنُوشِدْنَ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي أُذُنِ١٦٦
فَلَا أُحَارِبُ مَدْفُوعًا إِلَى جُدُرٍ وَلَا أُصَالِحُ مَغْرُورًا عَلَى دَخَنِ١٦٧
مُخَيِّمُ الْجَمْعِ بِالْبَيْدَاءِ يَصْهَرُهُ حَرُّ الْهَوَاجِرِ فِي صُمٍّ مِنَ الْفِتَنِ١٦٨
أَلْقَى الْكِرَامُ الْأُلَى بَادُوا مَكَارِمَهُمْ عَلَى الْخَصِيبِيِّ عِنْدَ الفَرْضِ وَالسُّنَنِ١٦٩
فَهُنَّ فِي الْحَجْرِ مِنْهُ كُلَّمَا عَرَضَتْ لَهُ الْيَتَامَى بَدَا بِالْمَجْدِ وَالْمِنَنِ١٧٠
قَاضٍ إِذَا الْتَبَسَ الْأَمْرَانِ عَنَّ لَهُ رَأْيٌ يُخَلِّصُ بَيْنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ١٧١
غَضُّ الشَّبَابِ بَعِيدٌ فَجْرُ لَيْلَتِهِ مُجَانِبُ الْعَيْنِ لِلْفَحْشَاءِ وَالْوَسَنِ١٧٢
شَرَابُهُ النَّشْحُ لَا لِلرِّيِّ يَطْلُبُهُ وَطُعْمُهُ لِقَوَامِ الْجِسْمِ لَا السِّمَنِ١٧٣
أَلْقَائِلُ الصِّدْقَ فِيهِ مَا يُضِرُّ بِهِ وَالْوَاحِدُ الْحَالَتَيْنِ: السِّرِّ وَالْعَلَنِ١٧٤
ألْفَاصِلُ الْحُكْمَ عَيَّ الْأَوَّلُونَ بِهِ وَالْمُظْهِرُ الْحَقَّ لِلسَّاهِي عَلَى الذَّهِنِ١٧٥
أَفْعَالُهُ نَسَبٌ لَوْ لَمْ يَقُلْ مَعَهَا جَدِّي الْخَصِيبُ عَرَفْنَا الْعِرْقَ بِالْغُصُنِ١٧٦
الْعَارِضُ الْهَتِنُ ابْنُ الْعَارِضِ الْهَتِنِ ابـْ ـنِ الْعَارِضِ الْهَتِنِ ابْنِ الْعَارِضِ الْهتِنِ١٧٧
قَدْ صَيَّرَتْ أَوَّلَ الدُّنْيَا وَآخِرَهَا آبَاؤُهُ مِنْ مُغَارِ الْعِلْمِ فِي قَرَنِ١٧٨
كَأَنَّهُمْ وُلِدُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ وُلِدُوا أَوْ كَانَ فَهْمُهُمُ أَيَّامَ لَمْ يَكُنِ١٧٩
الْخَاطِرِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَبَدًا مِنَ الْمَحَامِدِ فِي أَوْقَى مِنَ الْجُنَنِ١٨٠
لِلنَّاظِرِينَ إِلَى إِقْبَالِهِ فَرَحٌ يُزيلُ مَا بِجِبَاهِ الْقَوْمِ مِنْ غَضَنِ١٨١
كَأَنَّ مَالَ ابْنِ عَبْدِ اللهِ مُغْتَرَفٌ مِنْ رَاحَتَيْهِ بِأَرْضِ الرُّومِ وَالْيَمَنِ١٨٢
لَمْ نَفْتَقِدْ بِكَ مِنْ مُزْنٍ سِوَى لَثَقٍ وَلَا مِنَ الْبَحْرِ غَيْرَ الرِّيحِ وَالسُّفُنِ١٨٣
وَلَا مِنَ اللَّيْثِ إِلَّا قُبْحَ مَنْظَرِهِ وَمِنْ سِوَاهُ سِوَى مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ١٨٤
مُنْذُ احْتَبَيْتَ بِأَنْطَاكِيَّةَ اعْتَدَلَتْ حَتَّى كَأَنَّ ذَوِي الْأَوْتَارِ في هُدَنِ١٨٥
وَمُذْ مَرَرْتَ عَلَى أَطْوَادِهَا قُرِعَتْ مِنَ السُّجُودِ فَلَا نَبْتٌ عَلَى القُنَنِ١٨٦
أَخْلَتْ مَوَاهِبُكَ الْأَسْوَاقَ مِنْ صَنَعٍ أَغْنَى نَدَاكَ عَنِ الْأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ١٨٧
ذَا جُودُ مَنْ لَيْسَ مِنْ دَهْرٍ عَلَى ثِقَةٍ وَزُهْدُ مَنْ لَيْسَ مِنْ دُنْيَاهُ فِي وَطَنِ١٨٨
وَهَذِهِ هَيْبَةٌ لَمْ يُؤْتَهَا بَشَرٌ وَذَا اقْتِدَارُ لِسَانٍ لَيْسَ فِي الْمُنَنِ١٨٩
فَمُرْ وَأَوْمٍ تُطَعْ قُدِّسْتَ مِنْ جَبَلٍ تَبَارَكَ اللهُ مُجْرِي الرُّوحِ في حَضَنِ١٩٠
وقال يمدح أبا سهل سعيد بن عبد الله بن عبيد الله بن الحسن الأنطاكي:
قَدْ عَلَّمَ الْبَيْنُ مِنَّا الْبَيْنَ أَجْفَانَا تَدْمَى وَأَلَّفَ فِي ذَا الْقَلْبِ أَحْزَانَا١٩١
أَمَّلْتُ سَاعَةَ سَارُوا كَشْفَ مِعْصَمِهَا لِيَلْبَثَ الْحَيُّ دُونَ السَّيْرِ حَيْرَانَا١٩٢
وَلَوْ بَدَتْ لَأَتَاهَتْهُمْ فَحَجَّبَهَا صَوْنٌ عُقُولَهُمْ مِنْ لَحْظِهَا صَانَا١٩٣
بالْوَاخِدَاتِ وَحَادِيهَا وَبِي قَمَرٌ يَظَلُّ مِنْ وَخْدِهَا فِي الْخِدْرِ حَشْيَانَا١٩٤
أَمَّا الثِّيَابُ فَتَعْرَى مِنْ مَحَاسِنِهِ إِذَا نَضَاهَا وَيَكْسَا الْحُسنَ عُرْيَانَا١٩٥
يَضُمُّهُ الْمِسْكُ ضَمَّ الْمُسْتَهَامِ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ عَلَى الْأَعْكَانِ أَعْكَانَا١٩٦
قَدْ كُنْتُ أُشْفِقُ مِنْ دَمْعِي عَلَى بَصَرِي فَالْيَوْمَ كُلُّ عَزِيزٍ بَعْدَكُمْ هَانَا١٩٧
تُهْدِي الْبَوَارِقُ أَخْلَافَ الْمِيَاهِ لَكُمْ وَلِلْمُحِبِّ مِنَ التَّذْكَارِ نِيرَانَا١٩٨
إِذَا قَدِمْتُ عَلَى الْأَهْوَالِ شَيَّعَنِي قَلْبٌ إِذَا شِئْتُ أَنْ يَسْلَاكمُ خَانَا١٩٩
أَبْدُو فَيَسْجُدُ مَنْ بِالسُّوْءِ يَذْكُرُنِي وَلَا أُعَاتِبُهُ صَفْحًا وَإِهْوَانَا٢٠٠
وَهَكَذَا كُنْتُ فِي أَهْلِي وَفِي وَطَنِي إِنَّ النَّفِيسَ غَرِيبٌ حَيْثُمَا كَانَا٢٠١
مُحَسَّدُ الْفَضْلِ مَكْذُوبٌ عَلَى أَثَرِي أَلْقَى الْكَمِيَّ وَيَلْقَانِي إِذَا حَانَا٢٠٢
لَا أَشْرَئِبُّ إِلَى مَا لَمْ يَفُتْ طَمَعًا وَلَا أَبِيتُ عَلَى مَا فَاتَ حَسْرَانَا٢٠٣
وَلَا أُسَرُّ بِمَا غَيْرِي الْحَمِيدُ بِهِ وَلَوْ حَمَلْتَ إِلَيَّ الدَّهْرَ مَلْآنَا٢٠٤
لَا يَجْذِبَنَّ رِكَابِي نَحْوَهُ أَحَدٌ مَا دُمْتُ حَيًّا وَمَا قَلْقَلْنَ كِيرَانَا٢٠٥
لَوِ اسْتَطَعْتُ رَكِبْتُ النَّاسَ كُلَّهُمُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بُعْرَانَا٢٠٦
فَالْعِيسُ أَعْقَلُ مِنْ قَوْمٍ رَأَيْتُهُمُ عَمَّا يَرَاهُ مِنَ الْإِحْسَانِ عُمْيَانَا٢٠٧
ذَاكَ الْجَوادُ وَإِنْ قَلَّ الْجَوَادُ لَهُ ذَاكَ الشُّجَاعُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ أَقْرَانَا٢٠٨
ذَاكَ الْمُعِدُّ الَّذِي تَقْنُو يَدَاهُ لَنَا فَلَوْ أُصِيبَ بِشَيءٍ مِنْهُ عَزَّانَا٢٠٩
خَفَّ الزَّمَانُ عَلَى أَطْرَافِ أَنْمُلِهِ حَتَّى تُوُهِّمْنَ لِلْأَزْمَانِ أَزْمَانَا٢١٠
يَلْقَى الْوَغَى وَالْفَنَا وَالنَّازِلَاتِ بِهِ وَالسَّيْفَ وَالضَّيْفَ رَحْبَ الْبَاعِ جَذْلَانَا٢١١
تَخَالُهُ مِنْ ذَكَاءِ الْقَلْبِ مُحْتَمِيًا وَمِنْ تَكَرُّمِهِ وَالْبِشْرِ نَشْوَانَا٢١٢
وَتَسْحَبُ الْحِبَرَ القَيْنَاتُ رَافِلَةً في جُودِهِ وتَجُرُّ الْخَيْلُ أَرْسَانَا٢١٣
يُعْطِي الْمُبَشِّرَ بِالقُصَّادِ قَبْلَهُمُ كَمَنْ يُبَشِّرُهُ بِالْمَاءِ عَطْشَانَا٢١٤
جَزَتْ بَنِي الْحَسَنِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُمُ فِي قَوْمِهِمْ مِثلُهُمْ في الْغُرِّ عَدْنَانَا٢١٥
مَا شَيَّدَ اللهُ مِنْ مَجْدٍ لِسَالِفِهِمْ إِلَّا وَنَحْنُ نَرَاهُ فِيهِمِ الْآنَا٢١٦
إِنْ كُوتِبُوا أَوْ لُقُوا أَوْ حُورِبُوا وُجِدُوا فِي الخَطِّ وَاللَّفْظِ وَالْهَيْجَاءِ فُرْسَانَا٢١٧
كَأَنَّ أَلْسُنَهُمْ فِي النُّطْقِ قَدْ جُعِلَتْ عَلَى رِمَاحِهِمِ فِي الطَّعْنِ خِرْصَانَا٢١٨
كَأَنَّهُمْ يَرِدُونَ الْمَوْتَ مِنْ ظَمَأٍ أَوْ يَنْشَقُونَ مِنَ الْخَطِّيِّ رَيْحَانَا٢١٩
الْكَائِنِينَ لِمَنْ أَبْغِي عَدَاوَتَهُ أَعْدَى الْعِدَا وَلِمَنْ آخَيْتُ إِخْوَانَا٢٢٠
خَلَائِقٌ لَوْ حَوَاهَا الزِّنْجُ لَانْقَلَبُوا ظُمْيَ الشِّفَاهِ جِعَادَ الشَّعْرِ غُرَّانَا٢٢١
وَأَنْفُسٌ يَلْمَعِيَّاتٌ تُحِبُّهُمُ لَهَا اضْطِرَارًا وَلَوْ أَقْصَوْكَ شَنْآنَا٢٢٢
الْوَاضِحِينَ أُبُوَّاتٍ وَأَجْبِنَةً وَوَالِدَاتٍ وَأَلْبَابًا وَأَذْهَانَا٢٢٣
يَا صَائِدَ الْجَحْفَلِ الْمَرْهُوبِ جَانِبُهُ إِنَّ الليُوثَ تَصِيدُ النَّاسَ أُحْدَانَا٢٢٤
وَوَاهِبًا كُلُّ وَقْتٍ وَقْتُ نَائِلِهِ وَإِنَّمَا يَهَبُ الْوُهَّابُ أَحْيَانَا٢٢٥
أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الْأَمَوَالَ مَكْرُمَةً ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّؤَّالَ خُزَّانَا٢٢٦
عَلَيْكَ مِنْكَ إِذَا أُخْلِيتَ مُرْتَقِبٌ لَمْ تَأْتِ فِي السِّرِّ مَا لَمْ تَأْتِ إِعْلَانَا٢٢٧
لَا أَسْتَزِيدُكَ فِيمَا فِيكَ مِنْ كَرَمٍ أَنَا الَّذِي نَامَ إِنْ نَبَّهْتُ يَقْظَانَا٢٢٨
فَإِنَّ مِثْلَكَ بَاهَيْتُ الْكِرَامَ بِهِ وَرَدَّ سُخْطًا عَلَى الْأَيَّامِ رِضْوَانَا٢٢٩
وَأَنْتَ أَبْعَدُهُمْ ذِكْرًا وَأَكْبَرُهُمْ قَدْرًا وَأَرْفَعُهُمْ فِي الْمَجْدِ بُنْيَانَا
قَدْ شَرَّفَ اللهُ أَرْضًا أَنْتَ سَاكِنُهَا وَشَرَّفَ النَّاسَ إِذْ سَوَّاكَ إِنْسَانَا٢٣٠
وقال في مجلس أبي محمد بن طغج وقد أقبل الليل وهما في بستان:
زَالَ النَّهَارُ وَنُورٌ مِنْكَ يُوهِمُنَا أَنْ لَمْ يَزُلْ وَلِجُنْحِ اللَّيْلِ إِجْنَانُ٢٣١
فَإِنْ يَكُنْ طَلَبُ الْبُسْتَانِ يُمْسِكُنَا فَرُحْ فَكُلُّ مَكَانٍ مِنْكَ بُسْتَانُ٢٣٢
وقال في بطيخة من الند في غشاء من الخيزران عليها قلادة لؤلؤ وعلى رأسها عنبر قد أدير حولها كانت في يد أبي العشائر:٢٣٣
مَا أَنَا وَالْخَمْرُ وَبِطِّيخَةٌ سَوْدَاءُ فِي قِشْرٍ مِنَ الْخَيْزُرَانْ٢٣٤
يَشْغَلُنِي عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا تَوْطِينِيَ النَّفْسَ لِيَوْمِ الطِّعَانْ٢٣٥
وَكُلُّ نَجْلَاءَ لَهَا صَائِكٌ يَخضُبُ مَا بَيْنَ يَدِي وَالسِّنَانْ٢٣٦
وقال، وقد بلغ أبا الطيب أن قومًا نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب وهو بمصر:
بِمَ التَّعَلُّلُ لَا أَهْلٌ وَلَا وَطَنُ وَلَا نَدِيمٌ وَلَا كَأْسٌ وَلَا سَكَنُ؟!٢٣٧
أُرِيدُ مِنْ زَمَنِي ذَا أَنْ يُبَلِّغَنِي مَا لَيْسَ يَبْلُغُهُ مِنْ نَفْسِهِ الزَّمَنُ٢٣٨
لَا تَلْقَ دَهْرَكَ إلَّا غَيرَ مُكتَرِثٍ مَا دَامَ يَصْحَبُ فِيهِ رُوحَكَ الْبَدَنُ٢٣٩
فَمَا يَدُومُ سُرُور مَا سُرِرْتَ بِهِ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْكَ الْفَائِتَ الْحَزَنُ٢٤٠
مِمَّا أَضَرَّ بِأَهْلِ الْعِشْقِ أَنَّهُمُ هَوُوا وَمَا عَرَفُوا الدُّنْيَا وَمَا فَطِنُوا٢٤١
تَفْنَى عُيُونُهُمُ دَمْعًا وَأَنْفُسُهُمْ فِي إِثْرِ كُلِّ قَبِيحٍ وَجْهُهُ حَسَنُ٢٤٢
تَحَمَّلُوا حَمَلَتْكُمْ كُلُّ نَاجِيَةٍ فَكُلُّ بَيْنٍ عَلَيَّ الْيَوْمَ مُؤْتَمَنُ٢٤٣
مَا فِي هَوَادِجِكُمْ مِنْ مُهْجَتِي عِوَضٌ إِنْ مُتُّ شَوْقًا وَلَا فِيهَا لَهَا ثَمَنُ٢٤٤
يَا مَنْ نُعِيتُ عَلَى بُعْدٍ بِمَجْلِسِهِ كُلٌّ بِمَا زَعَمَ النَّاعُونَ مُرْتَهَنُ٢٤٥
كَمْ قَدْ قُتِلْتُ وَكَمْ قَدْ مِتُّ عِنْدَكُمُ! ثُمَّ انْتَفَضْتُ فَزَالَ الْقَبْرُ وَالْكَفَنُ٢٤٦
قَدْ كَانَ شَاهَدَ دَفْنِي قَبْلَ قَوْلِهِمِ جَمَاعَةٌ ثُمَّ مَاتُوا قَبْلَ مَنْ دَفَنُوا٢٤٧
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ٢٤٨
رَأَيْتُكُمْ لَا يَصُونُ الْعِرْضَ جَارُكُمُ وَلَا يَدِرُّ عَلَى مَرْعَاكُمُ اللَّبَنُ٢٤٩
جَزَاءُ كُلِّ قَرِيبٍ مِنْكُمُ مَلَلٌ وَحَظُّ كُلِّ مُحِبٍّ مِنْكُمُ ضَغَنُ٢٥٠
وَتَغْضَبُونَ عَلَى مَنْ نَالَ رِفْدَكُمُ حَتَّى يُعَاقِبَهُ التَّنْغِيصُ وَالْمِنَنُ٢٥١
فَغَادَرَ الْهَجْرُ مَا بَيْنِي وَبيْنَكُمُ يَهْمَاهَ تَكْذِبُ فِيهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ٢٥٢
تَحْبُو الرَّوَاسِمُ مِنْ بَعْدِ الرِّسِيمِ بِهَا وَتَسْأَلُ الْأَرْضَ عَنْ أَخْفَافِهَا الثَّفِنُ٢٥٣
إِنِّي أُصَاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي كَرَمٌ وَلَا أُصَاحِبُ حِلْمِي وَهْوَ بِي جُبُنُ٢٥٤
وَلَا أُقِيمُ عَلَى مَالٍ أَذِلُّ بِهِ وَلَا أَلَذُّ بِمَا عِرْضِي بِهِ دَرِنُ٢٥٥
سَهِرْتُ بَعْدَ رَحِيلِي وَحْشَةً لَكُمُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَرِيرِي وَارْعَوَى الوَسَنُ٢٥٦
وَإِنْ بُلِيتُ بِوُدٍّ مِثْلِ وُدِّكُمُ فَإِنَّنِي بفِرَاقٍ مِثْلِهِ قَمِنُ٢٥٧
أَبْلَى الْأَجِلَّةَ مُهْرِي عِنْدَ غَيْرِكُمُ وَبُدِّلَ الْعُذْرُ بِالفُسْطَاطِ وَالرَّسَنُ٢٥٨
عِنْدَ الْهُمَامِ أَبِي الْمِسْكِ الَّذِي غَرِقَتْ فِي جُودِهِ مُضَرُ الْحَمْرَاءِ وَاليَمَنُ٢٥٩
وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِّي بَعْضُ مَوْعِدِهِ فَمَا تَأَخَّرُ آمَالِي وَلَا تَهِنُ٢٦٠
هُوَ الْوَفِيُّ وَلَكِنِّي ذَكَرْتُ لَهُ مَوَدَّةً فَهْوَ يَبْلُوهَا وَيَمْتَحِنُ٢٦١
وقال بمصر ولم ينشدها كافورًا:
صَحِبَ النَّاسُ قَبْلَنَا ذَا الزَّمَانَا وَعَنَاهُمْ مِنْ شَأْنِهِ مَا عَنَانَا٢٦٢
وَتَوَلَّوْا بِغُصَّةٍ كُلُّهُمْ مِنـْ ـهُ وَإِنْ سَرَّ بَعْضَهُمْ أَحْيَانَا٢٦٣
رُبَّمَا تُحْسِنُ الصَّنِيعَ لَيَالِيـ ـهِ وَلَكِنْ تُكَدِّرُ الْإِحْسَانَا٢٦٤
وَكَأَنَّا لَمْ يَرْضَ فِينَا بِرَيْبِ الدْ دَهْرِ حَتَّى أَعَانَهُ مَنْ أَعَانَا٢٦٥
كُلَّمَا أَنْبَتَ الزَّمَانُ قَنَاةً رَكَّبَ الْمَرْءُ فِي الْقَنَاةِ سِنَانَا٢٦٦
وَمُرَادُ النُّفُوسِ أَصْغَرُ مِنْ أَنْ نَتَعَادَى فِيهِ وَأَنْ نَتَفَانَى٢٦٧
غَيْرَ أَنَّ الْفَتَى يُلَاقِي الْمَنَايَا كَالِحَاتٍ وَلَا يُلَاقِي الْهَوَانَا٢٦٨
وَلَوَ أَنَّ الْحَيَاةَ تَبْقَى لِحَيٍّ لَعَدَدْنَا أَضَلَّنَا الشُّجْعَانَا٢٦٩
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ فَمِنَ الْعَجْزِ أَنْ تَكُونَ جَبَانَا٢٧٠
كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّعْبِ فِي الْأَنـْ ـفُسِ سَهْلٌ فِيهَا إِذَا هُوَ كَانَا٢٧١
وقال يذكر خروج شبيب العُقَيلي على الأستاذ كافور، وقتله بدمشق سنة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة:
عَدُوُّكَ مَذْمُومٌ بِكُلِّ لِسَانِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَعْدَائِكَ الْقَمَرَانِ٢٧٢
وَللهِ سِرٌّ فِي عُلَاكَ وَإِنَّمَا كَلَامُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ٢٧٣
أَتَلْتَمِسُ الْأَعْدَاءُ بَعْدَ الَّذِي رَأَتْ قِيَامَ دَلِيلٍ أَوْ وُضُوحَ بَيَانِ؟!٢٧٤
رَأَتْ كُلَّ مَنْ يَنْوِي لَكَ الْغَدْرَ يُبْتَلَى بِغَدْرِ حَيَاةٍ أَوْ بِغَدْرِ زَمَانِ٢٧٥
بِرَغْمِ شَبِيبٍ فَارَقَ السَّيْفُ كَفَّهُ وَكَانَا عَلَى الْعِلَّاتِ يَصْطَحِبَانِ٢٧٦
كَأَنَّ رِقَابَ النَّاسِ قَالَتْ لِسَيْفِهِ: رَفِيقُكَ قَيْسِيٌّ وَأَنْتَ يَمَانِ٢٧٧
فَإِنْ يَكُ إِنْسَانًا مَضَى لِسَبِيلِهِ فَإِنَّ الْمَنَايَا غَايَةُ الْحَيَوَانِ٢٧٨
وَمَا كَانَ إِلَّا النَّارَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تُثِيرُ غُبَارًا فِي مَكَانِ دُخَانِ٢٧٩
فَنَالَ حَيَاةً يَشْتَهِيهَا عَدُوُّهُ وَمَوْتًا يُشَهِّي الْمَوْتَ كُلَّ جَبَانِ٢٨٠
نَفَى وَقْعَ أَطْرَافِ الرِّمَاحِ بِرُمْحِهِ وَلَمْ يَخْشَ وَقْعَ النَّجْمِ وَالدَّبَرَانِ٢٨١
وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْمَوْتَ فَوْقَ شَوَاتِهِ مُعَارُ جَنَاحٍ مُحسِنِ الطَّيَرَانِ٢٨٢
وَقَدْ قَتَلَ الْأَقرَانَ حَتَّى قَتَلْتَهُ بِأَضْعَفِ قِرْنٍ فِي أَذَلِّ مَكَانِ٢٨٣
أَتَتْهُ الْمَنَايَا فِي طَرِيقٍ خَفِيَّةٍ عَلَى كُلِّ سَمْعٍ حَوْلَهُ وَعِيَانِ٢٨٤
وَلَوْ سَلَكَتْ طُرْقَ السِّلَاحِ لَرَدَّهَا بِطُولِ يَمِينٍ وَاتِّسَاعِ جَنَانِ٢٨٥
تَقَصَّدَهُ الْمِقْدَارُ بَيْنَ صِحَابِهِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ دَهْرِهِ وَأَمَانِ٢٨٦
وَهَلْ يَنْفَعُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الْتِفَافُهُ عَلَى غَيْرِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِ مُعَانِ؟!٢٨٧
وَدَى مَا جَنَى قَبْلَ الْمَبِيتِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَدِهِ بِالْجَامِلِ الْعَكَنَانِ٢٨٨
أَتُمْسِكُ مَا أَوْلَيْتُهُ يَدُ عَاقِلٍ وَتُمْسِكُ فِي كُفْرَانِهِ بِعِنَانِ؟!٢٨٩
وَيَرْكَبُ مَا أَرْكَبْتَهُ مِنْ كَرَامَةٍ وَيَرْكَبُ لِلْعِصْيَانِ ظَهْرَ حِصَانِ٢٩٠
ثَنَى يَدَهُ الْإِحْسَانُ حَتَّى كَأَنَّهَا وَقَدْ قُبِضَتْ كَانَتْ بِغَيْرِ بَنَانِ٢٩١
وَعِنْدَ مَنِ الْيَوْمَ الْوَفَاءُ لِصَاحِبٍ شَبِيبٌ وَأَوْفَى مَنْ تَرَى أَخَوَانِ؟!٢٩٢
قَضَى اللهُ يَا كَافُورُ أَنَّكَ أَوَّلٌ وَلَيْسَ بِقَاضٍ أَنْ يُرَى لَكَ ثَانِ٢٩٣
فَمَا لَكَ تَخْتَارُ الْقِسِيَّ وَإِنَّمَا عَنِ السَّعْدِ يَرْمِي دُونَكَ الثَّقَلَانِ؟!٢٩٤
وَمَا لَكَ تُعْنَى بِالْأَسِنَّةِ وَالْقَنَا وَجَدُّكَ طَعَّانٌ بِغَيْرِ سِنَانِ؟!٢٩٥
وَلِمْ تَحْمِلُ السَّيفَ الطَّوِيلَ نِجَادُهُ وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْهُ بِالْحَدَثَانِ؟!٢٩٦
أَرِدْ لي جَمِيلًا جُدْتَ أَوْ لَمْ تَجُدْ بِهِ فَإِنَّكَ مَا أَحْبَبْتَ فِيَّ أَتَانِي٢٩٧
لَوِ الْفَلَكَ الدَّوَّارَ أَبْغَضْتَ سَعْيَهُ لَعَوَّقَهُ شَيْءٌ عَنِ الدَّوَرَانِ٢٩٨
ونظر يومًا إلى كافور فقال:
لَوْ كَانَ ذَا الْآكِلُ أَزْوَادَنَا ضَيْفًا لَأَوْسَعْنَاهُ إِحْسَانَا٢٩٩
لَكِنَّنَا فِي الْعَيْنِ أَضْيَافُهُ يُوسِعُنَا زُورًا وَبُهْتَانَا٣٠٠
فَلَيْتَهُ خَلَّى لَنَا سُبْلنَا أَعَانَهُ اللهُ وَإِيَّانَا٣٠١
وكتب إلى يوسف بن عبد العزيز الخزاعي في بُلْبِيس يطلب منه دليلًا فأنفذه إليه:
جَزَى عَرَبًا أَمْسَتْ بِبُلْبَيْسَ رَبُّهَا بِمَسْعَاتِهَا تَقْرَرْ بِذَاكَ عُيُونُهَا٣٠٢
كَرَاكِرَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ سَاهِرًا جُفُونُ ظُبَاهَا لِلْعُلَا وَجُفُونُهَا٣٠٣
وَخَصَّ بِهِ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ يُوسُفٍ فَمَا هُوَ إِلَّا غَيْثُهَا وَمَعِينُهَا٣٠٤
فَتًى زَانَ فِي عَيْنَيَّ أَقْصَى قَبِيلِهِ وَكَمْ سَيِّدٍ فِي حِلَّةٍ لَا يَزِينُهَا٣٠٥
وقال يمدح عضد الدولة وولديه: أبا الفوارس وأبا دلف، ويذكر طريقه بشعب بوَّان:
مَغَانِي الشِّعْبِ طِيبًا فِي الْمَغَانِي بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزَّمَانِ٣٠٦
وَلَكِنَّ الْفَتَى الْعَرَبِيَّ فِيهَا غَرِيبُ الْوَجْهِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ٣٠٧
مَلَاعِبُ جِنَّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بِتَرْجُمَانِ٣٠٨
طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالْخَيْلَ حَتَّى خَشِيتُ وَإِنْ كَرُمْنَ مِنَ الْحِرَانِ٣٠٩
غَدَوْنَا تَنْفُضُ الْأَغْصَانُ فِيهَا عَلَى أَعْرافِهَا مِثْلَ الْجُمَانِ٣١٠
فَسِرْتُ وَقَدْ حَجَبْنَ الشَّمْسَ عَنِّي وَجِبْنَ مِنَ الضِّيَاءِ بِمَا كَفَانِي٣١١
وَأَلْقَى الشَّرْقُ مِنْهَا فِي ثِيَابِي دَنَانِيرًا تَفِرُّ مِنَ الْبنَانِ٣١٢
لَهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إِلَيْكَ مِنْهُ بِأَشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلَا أَوَانِي٣١٣
وَأَمْوَاهٌ تَصِلُّ بِهَا حَصَاهَا صَلِيلَ الْحَلْيِ فِي أَيْدِي الْغَوَانِي٣١٤
وَلَوْ كَانَتْ دِمَشْقَ ثَنَى عِنَانِي لَبِيقُ الثُّرْدِ صِينِيُّ الْجِفَانِ٣١٥
يَلَنْجُوجِيُّ مَا رُفِعَتْ لِضَيْفٍ بِهِ النِّيرَانُ نَدِّيُّ الدُّخَانِ٣١٦
تَحِلُّ بِهِ عَلَى قَلْبٍ شُجَاعٍ وَتَرْحَلُ مِنْهُ عَنْ قَلْبٍ جَبَانِ٣١٧
مَنَازِلُ لَمْ يَزَلْ مِنْهَا خَيَالٌ يُشَيِّعُنِي إِلَى النِّوْبَنْذَجَانِ٣١٨
إِذَا غَنَّى الْحَمَامُ الْوُرْقُ فِيهَا أَجَابَتْهُ أَغَانِيُّ الْقِيَانِ٣١٩
وَمَنْ بِالشِّعْبِ أَحْوَجُ مِنْ حَمَامٍ إِذَا غَنَّى وَنَاحَ إِلَى الْبَيَانِ٣٢٠
وَقَدْ يَتَقَارَبُ الْوَصْفَانِ جِدًّا وَمَوْصُوفَاهُمَا مُتَبَاعِدَانِ٣٢١
يَقُولُ بِشِعْبِ بَوَّانٍ حِصَاني: أَعَنْ هَذَا يُسَارُ إِلَى الطِّعَانِ؟!٣٢٢
أَبُوكُمْ آدَمٌ سَنَّ الْمَعَاصِي وَعَلَّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الْجِنَانِ٣٢٣
فَقُلْتُ: إِذَا رَأَيْتُ أَبَا شُجَاعٍ سَلَوْتُ عَنِ الْعِبَادِ وَذَا الْمَكَانِ٣٢٤
فَإِنَّ النَّاسَ وَالدُّنْيَا طَرِيقٌ إِلَى مَنْ مَا لَهُ فِي النَّاسِ ثَانِ٣٢٥
لَقَدْ عَلَّمْتُ نَفْسِي الْقَوْلَ فِيهِمْ كَتَعْلِيمِ الطَّرَادِ بِلَا سِنَانِ٣٢٦
بِعَضْدِ الدَّوْلَةِ امْتَنَعَتْ وَعَزَّتْ وَلَيْسَ لِغَيْرِ ذِي عَضُدٍ يَدَانِ٣٢٧
وَلَا قَبْضٌ عَلَى الْبِيضِ المَوَاضِي وَلَا حَظٌّ مِنَ السُّمْرِ اللِّدَانِ٣٢٨
دَعَتْهُ بِمَفْزَعِ الْأَعْضَاءِ مِنْهَا لِيَوْمِ الْحَرْبِ بِكْرٍ أَوْ عَوَانِ٣٢٩
فَمَا يُسْمِي كَفَنَّاخُسْرَ مُسْمٍ وَلَا يُكْنِي كَفَنَّاخُسْرَ كَانِي٣٣٠
وَلَا تُحْصَى فَضَائِلُهُ بِظَنٍّ وَلَا الْإِخْبَارِ عَنْهُ وَلَا الْعِيَانِ٣٣١
أُرُوضُ النَّاسِ مِنْ تُرْبٍ وَخَوْفٍ وَأَرْضُ أَبِي شُجَاعٍ مِنْ أَمَانِ٣٣٢
تُذِمُّ عَلَى اللُّصُوصِ لِكُلِّ تَجْرٍ وَيَضْمَنُ لِلصَّوَارِمِ كُلَّ جَانِي٣٣٣
إِذَا طَلَبَتْ وَدَائِعُهُمْ ثِقَاتٍ دُفِعْنَ إِلَى الْمَحَانِي وَالرِّعَانِ٣٣٤
فَبَاتَتْ فَوْقَهُنَّ بِلَا صِحَابٍ تَصِيحُ بِمَنْ يَمُرُّ: أَمَا تَرَانِي؟٣٣٥
رُقَاهُ كُلُّ أَبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ لِكُلِّ أَصَمَّ صِلٍّ أُفْعُوَانِ٣٣٦
وَمَا تُرْقَى لُهَاهُ مِنْ نَدَاهُ وَلَا الْمَالُ الْكَرِيمُ مِنَ الْهَوَانِ٣٣٧
حَمَى أَطْرَافَ فَارِسَ شَمَّرِيٌّ يَحُضُّ عَلَى التَّبَاقِي بِالتَّفَانِي٣٣٨
بِضَرْبٍ هَاجَ أَطْرَابَ الْمَنَايَا سِوَى ضَرْبِ الْمَثَالِثِ وَالْمَثَانِي٣٣٩
كَأَنَّ دَمَ الْجَمَاجِمِ فِي الْعَنَاصِي كَسَا الْبُلْدَانَ رِيشَ الْحَيقُطَانِ٣٤٠
فَلَوْ طُرِحَتْ قُلُوبُ الْعِشْقِ فِيهَا لَمَا خَافَتْ مِنَ الْحَدَقِ الْحِسَانِ٣٤١
وَلَمْ أَرَ قَبْلَهُ شِبْلَيْ هِزَبْرٍ كَشِبْلَيْهِ وَلَا مُهْرَيْ رِهَانِ٣٤٢
أَشَدَّ تَنَازُعًا لِكَرِيمِ أَصْلٍ وَأَشْبَهَ مَنْظَرًا بِأَبٍ هِجَانِ٣٤٣
وَأَكْثَرَ فِي مَجَالِسِهِ اسْتِمَاعًا فُلَانٌ دَقَّ رُمْحًا فِي فُلَانِ٣٤٤
وَأَوَّلُ رَأْيَةٍ رَأَيَا الْمَعَالِي فَقَدْ عَلِقَا بِهَا قَبْلَ الْأَوَانِ٣٤٥
وَأَوَّلُ لَفْظَةٍ فَهِمَا وَقَالَا إِغَاثَةُ صَارِخٍ أَوْ فَكُّ عَانِ٣٤٦
وَكُنْتَ الشَّمْسَ تَبْهَرُ كُلَّ عَيْنٍ فَكَيْفَ وَقَدْ بَدَتْ مَعَهَا اثْنَتَانِ؟!٣٤٧
فَعَاشَا عِيشَةَ الْقَمَرَيْنِ يُحْيَا بِضَوْئِهِمَا وَلَا يَتَحَاسَدَانِ٣٤٨
وَلَا مَلَكَا سِوَى مُلْكِ الْأَعَادِي وَلَا وَرِثَا سِوَى مَنْ يَقْتُلَانِ٣٤٩
وَكَانَ ابْنَا عَدُوٍّ كَاثَرَاهُ لَهُ يَاءَيْ حُرُوفِ أُنَيْسِيَانِ٣٥٠
دُعَاءٌ كَالثَّنَاءِ بِلَا رِئَاءٍ يُؤَدِّيهِ الْجَنَانُ إِلَى الْجَنَانِ٣٥١
فَقَدْ أَصْبَحْتَ مِنْهُ فِي فِرِنْدٍ وَأَصْبَحَ مِنْكَ فِي عَضْبٍ يَمَانِ٣٥٢
وَلَوْلَا كَوْنُكُمْ فِي النَّاسِ كَانُوا هُرَاءً كَالْكَلَامَ بِلَا مَعَانِي٣٥٣
هوامش
(١) المغنى: المنزل الذي كان به أهلوه فغنى بهم. لما قال: تزور والزيارة تقتضي المحبة نفى أن يكون محبًّا لتلك الديار؛ لأنها ديار أعداء. يقول: تزور هذه الديار على غير محبة لمغنى من مغانيها؛ لأنها ديار عدو، وإذا أردنا زيارتها طلبنا الإذن في ذلك من غير ساكنها — أي استأذنا في الإسراع إليها والتشعب فيها للإغارة — سيف الدولة، لا أصحابها الروم.
(٢) المدى: الغاية. والكماة: جمع كمي، وهو البطل المستتر في السلاح. يقول: نقود إلى هذه الديار خيلًا تبلغ بنا الغاية التي نترامى إليها وتحرز لنا قصب السبق، عليها فرسان قد جربوها وعرفوها فأحسنوا بها الظن لكثرة ما انتصروا عليها.
(٣) نصفي: نمحص. وأراد بالذي يكنى أبا الحسن: سيف الدولة، لأن اسمه علي، والذي: مفعول أول لنصفي. [والهوى] مفعول ثانٍ، وقوله: يسمى الإله ولا يكنى: أي أنه سبحانه لا كنية له، وتعالى عن الولد حتى يكنى به. يقول: ونصفي سيف الدولة مودتنا فنقاتل أعداءه ونقيه بأنفسنا، ونرضي الله بمجاهدة أهل الحرب. هذا، ويقال: كنيت فلانًا، إذا دعوته بكنيته تعظيمًا له أن تدعوه باسمه، والعرب — كما قال العكبري — كانت تكني أولادها وهم صغار تفاؤلًا أن يصيروا آباء، وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يدخل بيت أبي طلحة الأنصاري وكان له ولد صغير من أم سليم — وهي أم أنس بن مالك — فكان يقول له — أي لولده: «يا أبا عمير: ما فعل النغير.» (النغير: تصغير النغر، وهو فرخ العصفور أو طائر يشبه العصفور أو من صغار العصافير تراه أبدًا صغيرًا ضاويًا، وكان لهذا الولد نغر.)
(٤) يقول: إذا أبنا من أرضهم عدنا إليها؛ أي فلا نكف عن قتالهم.
(٥) صرح: برز وظفر. والوغى: الحرب. يقول: إذا صار الموت صريحًا في الحرب بارزًا ليس دونه قناع توسلنا إلى ما نطلبه بالطعن بالرماح والضرب بالسيوف؛ أي اتخذنا الضرب والطعن وقاء لنا منه وتوسلنا بهما إلى ما نطلبه.
(٦) لقاؤه مرفوع ﺑ «الحبيب»؛ أي المحبوب لقاؤه. يقول: قصدنا الموت كما يقصد ما يحب لقاؤه، وقلنا للسيوف: هلمي إلينا، أدخل على «هلمي» نون التوكيد، فحذف الياء لالتقاء الساكنين، ثم أشبع فتحة النون فصار هلمنا، ومن ضم «الميم» خاطب السيوف مخاطبة من يعقل، كقوله تعالى: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ. ثم أسقط الواو من «هلموا» لاجتماع الساكنين، ثم أشبع الفتحة. ولأئمة النحو في هلم كلام كثير ولعل أوجهه ما قاله الخليل بن أحمد، قال: أصله من قولهم: لمَّ الله شعثه أي جمعه، كأنه قال: لم نفسك إلينا، أي اقرب، و«ها» للتنبيه، وحذف ألفها لكثرة الاستعمال، وجعلا اسمًا واحدًا يستوي فيه الواحد والجمع والتأنيث والتذكير في لغة أهل الحجاز، قال الله تعالى: وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين: هلما، وللجمع: هلموا، وللمرأة: هلمي، وللنساء: هلممن، والأول أفصح. وقد توصل باللام فيقال: هلم لك، وهلم لكما، كقولهم: هيت لك. وإذا أدخلت عليه النون الثقيلة قلت: هلمَّن يا رجل، وللمرأة هلمِّن — بكسر الميم — وفي التثنية: هلمان للمذكر والمؤنث جميعًا، وهلمن يا رجال، وهلممنان يا نسوة، وإذا قيل لك: هَلُمَّ إلى كذا: قلت: إلام أَهَلُمُّ — بفتح الألف والهاء — كأنك قلت: إلام «ألم» وتركت الهاء على ما كانت عليه، وإذا قال لك: هلم كذا وكذا: قلت: لا أهلمه، أي لا أعطيه.
(٧) يريد بالخيل: خيل العدو. وحشوناها الأسنة: أي جعلنا الأسنة حشوًا لها بأن طعناها بها. وتكدسن: أي الخيل — أي خيل العدو — أي اجتمعن علينا، وركب بعضهن بعضًا من كثرتها. و«هنا» بمعنى ها هنا، ومنه قول العجاج:
هُنَا وَهنَّا وَعَلَى المسْجُوحِ
«يصفه بالعطاء: أي يعطي يمينًا وشمالًا. وعلى سجيحته: أي طبيعته.» وقد أخذ المتنبي قوله: حشوناها الأسنة من قول الوليد بن المغيرة:
وكمْ مِنْ كرِيم الجدِّ يَركبُ رَدْعَه وآخرَ يَهْوِي قدْ حشوْناهُ ثعلبا
«يقال للقتيل ركب ردعه: إذا خر لوجهه على دمه، وأصل الردع: التلطخ بالزعفران. والثعلب: طرف الرمح الداخل في جبة السنان.»
(٨) قال ابن جني: كانت خيل الروم قد رأت عسكرًا لسيف الدولة فظنوهم رومًا، فأقبلوا نحوهم مسترسلين، فلما تحققوا الأمر ولوا هاربين، ولهذا قال: «جهالة»، ووصل ضربنا ﺑ «إلى» و«عن» فقال: ضربن إلينا، و«عنا» على تضمينه معنى «حثثن» ونحوه.
(٩) تعد: تجاوز. ونبار: نسابق، وروى نبادر: من المبادرة وهي الإسراع، يقول — لسيف الدولة: تجاوز القرى إلى الصحراء، وحارب بنا جيش الروم، وأدننا منهم دنو اللامس من الملموس نسابق يدك اليمنى إلى تبليغك ما تريد من الظفر بهم؛ أي إن الظفر يكون أسرع إليك مما لو تناولته بيدك. هذا، وقد قال العكبري في تفسيره الغريب من هذا البيت: المباراة أن يفعل الرجل كما يفعل الآخر، وباراه إذا جربه واختبره، وكذا الابتيار، وأنشد للكميت:
قبيح بِمثليَ نعتُ الفتا ةِ إما ابتهارًا وإما ابتيارا
ولكن أهل اللغة يقولون: إن الذي بمعنى الاختبار هو البور. قال الأصمعي: بار يبور بورا إذا جرب، قالوا: ويقال للرجل إذا قذف امرأة بنفسه: إنه فجر بها، فإن كان كاذبًا فقد ابتهرها، وإن كان صادقًا فهو الابتيار، افتعال — من برت الشيء أبوره: إذا خبرته — وأنشدوا بيت الكميت هذا، وقول الكميت: «إما ابتهارًا وإما ابتيارًا»: أي إما بهتانًا وإما اختبارًا بالصدق لاستخراج ما عندها.
(١٠) اللقان موضع بالروم. يقول: تقادم عهدنا بسفك دمائهم، وقد برد ما سفكناه، وعادتنا أن نتبع البارد من دماء الأعداء السخن منها، يعني لا ننفك من سفك دمائهم، فإذا برد ما سفكناه أتبعناه دمًا طريًّا حارًّا.
(١١) العضب: القاطع. والقنا: الرماح. واللدن: اللينة، ويقال: رمح لدن بفتح اللام، ورماح لُدن بضمها. يقول: إن كنت فيهم سيفًا قاطعًا فدعنا نتقدم إليهم تقدم الرماح، فنكون أمامك كما تكون الرماح أمام السيوف. قيل: إن سيف الدولة لما أحرق البقعة توجه إلى قلعة «سمندو» وبلغه أن العدو بها معه أربعون ألفًا، فتهيب جيشه المسير إليهم، فلما أنشد هذا البيت، قال له سيف الدولة: قل لهؤلاء — وأشار بيده إلى من حوله من العرب والعجم — يقولوا كما تقول حتى لا ننثني عن الجيش، فما تجمل أحد منهم بكلمة.
(١٢) الألى: الذين. ولا نأتلي: لا نقصر، ونصرة: تمييز. يقول: نحن الذين لا نقصر في نصرتك، وأنت لو اكتفيت بنفسك في قتال الأعداء لاستغنيت عنا.
(١٣) الردى: الموت. والأدنى: الدون، يعني بهذا نفسه؛ لأنه يطلب بخدمته العلا ولا يرضى عنده بالعيش الدنيء، فكأنه يقول أقيك بنفسي.
(١٤) اللها: جمع لهية، وهي العطية. يقول: لولاك لم تكن شجاعة ولا وجود؛ لأن الدماء إنما تجري بشجاعتك وقتلك الأعداء والعطايا تجري بجودك، ولولاك لم يظهر للدنيا ولا لأهلها معنى.
(١٥) هذا تعريض بجيش سيف الدولة، وذلك أنه أراغهم على الذهاب إلى الروم، فخافوا خوفًا منهم على أنفسهم. يقول: الخوف على الحقيقة ما يراه الإنسان خوفًا، فإن خاف شيئًا غير مخوف فقد صار خوفًا، وإن أمن غير مأمون فقد تعجل الأمن. وهذا من قول دعبل:
هِيَ النفسُ ما حَسَّنْتَهُ فَمُحَسَّن لديها وَمَا قَبَّحْتَهُ فَمُقبَّحُ
(١٦) ثياب — بالرفع — على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أو فاعل لفعل محذوف: أي عندي ثياب كريم، أو أتتني ثياب كريم. والصوان: التخت، وهو ما يصون الثياب ويحفظها. يقول: أتتني ثياب من كريم لا يصون الثياب الحسنة، إنما يهبها، فليس لها صوان غير الهبات؛ أي أنه لا يصونها في الصوان وإنما يهبها، ويجوز أن يريد بقوله «كان الهبات صوانها»: أن ما يصونها من لفاف ومنديل كان هبة أيضًا، كما قال في موضع آخر:
أولُ مَحمُولِ سيبهِ الحمَلهْ
(١٧) الصناع: المرأة الحاذقة بالعمل. والقيان: جمع قينة، وهي الجارية. يقول: إن ناسجتها من الروم قد نقشت عليها صور ملوك الروم، فهي ترينا إياهم فيها، وترينا كذلك صورة نفسها وجواريها.
(١٨) يقول: لم تكتفِ بتصوير الخيل وحدها، بل صورت الأجسام وما يمكن تصويره فلم تترك شيئًا إلا صورته ما عدا الزمان؛ لأنه لا صورة له، فلذلك لم تصوره.
(١٩) يقول: إن هذه الصناع لم تدخر عن الثياب المذكورة شيئًا هو في وسع المصور إلا بذلته، غير أنها لم تقدر على إنطاق ما صورت من حيوان، فهذا فقط هو الذي لم تستطعه. هذا، وقوله: «ادخرتها» لا يتعدى إلى مفعولين لكنه أضمر فعلًا في معناه يتعدى إلى مفعولين، كأنه قال: وما حرمتها قدرة.
(٢٠) سمراء: عطف على قوله: ثياب كريم — في البيت الأول — وقد كانت في جملة الهبات؛ يريد قناة سمراء. واستغواء قدها الفوارس: إطماعه إياهم بطوله وملاسته وشرائط كماله في تصريفه واستعماله، وإظهار عجزهم عنه إذا باشروا ذلك، وتذكيرهم الكر والطعن.
(٢١) ردينية: أي أنها مما عملته ردينة؛ امرأة كانت تعمل الرماح. والزج: حديدة تجعل في أسفل الرمح. والسنان: الذي يجعل في أعلاه. يقول لحسن نباتها — الذي أنبته الله: كاد نباتها يجعلها ذات زج وسنان.
(٢٢) أم عتيق: عطف أيضًا على ثياب، والعتيق: الكريم من الخيل. وعانها: أصابها بعينه. يقول: وفرس أنثى لها مهر كريم خال ذلك المهر في الشرف دون عمه، يعني أن أباه كان أكرم من أمه؛ لأن العم والأب أخوان كما أن الخال والأم أخوان، فإذا كان العم أكرم من الخال فالأب أكرم من الأم، وقوله: رأى خلقها … إلخ، يقول: كأنها مصابة بالعين لقبح خلقتها. يريد أن الفرس كانت قبيحة، أما المهر فكان جميلًا.
(٢٣) شانته: عابته. وقوله: في عين البصير: لعله يريد البصير بأمر الخيل دون غيره، ويحتمل أن يكون البصير من أبصرها ولم يكن له علم؛ لأن بصره قد كفاه. يقول: إذا سايرت الأم المهر ظهر بينهما البون وبانت مزيته عليها؛ لأن المهر أكرم من الأم وأجمل فهي تشين المهر بقبحها، ولأنها أمه، والمهر يزينها بحسنه، ولأنه ابنها.
(٢٤) يقول: هلا أهديت إليَّ فرسًا إذا ركبتها خافت الفرسان شرها وشري، ولا يحسن ركوبها غيري؟ أي لا تنقاد لغيري، يعني أين التي تصلح للحرب؟
(٢٥) العنان: سير اللجام. يقول: وأين الفرس التي تصلح للطعان فلا ترد الرمح في الحرب خائبًا إذا طاعنت عليها وقرطت عنانها (قرط الفارس عنان فرسه: مد يده بالعنان فجعله على قذال فرسه، وهي تحضر تجري، والمراد: أرخى العنان) بيدي اليسرى؛ يريد أن هذه لا تصلح لذلك. هذا، ويقال: رجعه يرجعه وأرجعه يرجعه في لغة هذيل.
(٢٦) يقول: ليس لي ثناء إلا وأنا أراك أهلًا له أثنى عليك به، فهل لك نعمى — نعمة — لا تعرفني أهلًا لها فتدخرها عني.
(٢٧) يريد بالبحر: سيف الدولة. وبالبحار: أمواه ذلك النهر، ثم قال: هي دونه في الشرف والنفع، وأنها قامت له مقام الحاجب فمنعت الناس من زيارته، فهي لذلك مذمومة وهو محمود، قال العكبري: يقال: إن سيف الدولة رأى في المنام أن حية طوقت داره، فعظم ذلك عليه، ففسر ذلك أنه ماء، فأمر أن يحفر بين داره وبين قويق حتى أدار الماء حول الدار، وكان بحمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات، فدخل على سيف الدولة، فقال له كلامًا معناه: إن الروم تحتوي على دارك. فأمر به فأخرج بعنف، وقدر الله تعالى أن الروم فتحوا حلب، واحتووا على دار سيف الدولة، فدخل عليه الضرير بعد ذلك، فقال: هذا ما كان من المنام، فأعطاه شيئًا.
(٢٨) المعين: الماء الذي يخرج من الأرض، من عين ونحوها. يقول: هل حسدتنا عليه فحجبت بيننا وبينه، أم أردت أن تكون مثله في الندى فزخرت وزدت؟
(٢٩) أصل الانتجاع: طلب المرعى، ويقال انتجعه: أي قصده يطلب معروفه. والقطين: الجماعة يسكنون مكانًا، والمراد: حشمه وأتباعه وأهل منزله. قال:
نَهَتْهُ فلمَّا لم تَرَ النَّهْيَ عاقهُ بكتْ فبكى مِمَّا شجاهَا قِطَينُها
يقول: أم جئته تطلب معروفه لتصير غنيًّا، أم أتيته زائرًا لتكثير من عنده في مجلسه؟
(٣٠) الخندق: معروف، وهو الحفير حول المدينة. يقول: أم جئته لتحفر خندقًا لحصونه منعًا للعدو؟ لا حاجة به إلى الخندق؛ لأن جياده — خيله — ورماحه تمنعه وتغنيه عن الخنادق والحصون.
(٣١) اللج: جمع لجة، ولجة البحر: معظمه. والسفين: جمع سفينة. والعازب: البعيد. والعون: جمع عانة، وهي القطعة من حمر الوحش. وتوفتها: أخذتها وافية، وقيل: أهلكتها. يقول: رب ماء عظيم عبرته خيله فكن له كالسفين، ورب روض بعيد المراعي أهلكت خيله حمره، وجميع ما فيه من أنواع الوحش فصادتها بجملتها.
(٣٢) وذي جنون: أي ورب ذي جنون — يعني عاصيًا متمردًا مغرورًا بجهله — أذهبت الخيل جنونه: أي أذلته حتى انقاد وأطاع. ثم قال: ورب شرب — اسم جمع بمعنى الشاربين — أي رب قوم لاهين بشرب الخمر هجمت عليهم خيله وأعملت فيهم القتل حتى كثر رنينهم — أي صياحهم وبكاؤهم — على قتلاهم. هذا، ويجمع «الشرب» على «شروب»، قال الأعشى:
هو الواهِبُ المُسْمعاتِ الشُّرُو بَ بينَ الحرير وبين الكتنْ
(الكتن: الكتان، حذف الأعشى «الألف» من الكتان وسماه الكتن للضرورة. قال ابن سيده: لم أسمع الكتن في الكتان إلا في شعر الأعشى. والمسمعات: المغنيات، جمع مسمعة.)
(٣٣) الضمير في «غناءه، وأنينه» للشرب. والضيغم: الأسد. والعرين: مأوى الأسد. يقول: وأبدلت الخيل غناء الشرب وطربه أنينًا، لما ألم به من قتل ذويه. ثم قال: ورب رجل مثل الأسد عزة وقوة أدخل خيله أرضه فوطئتها وأخذت بلاده.
(٣٤) يقول: ورب ملك عظيم من الملوك عصاه فقتله فوطئت خيله جبينه، وهو يقودها إليه لا يعطي جفنه حظًّا من النوم لسرعة السير واتصاله.
(٣٥) طعينه: مطعونه. يقول: إذا طعن إنسانًا شرفه بطعنه إياه؛ لأنه رآه أهلًا للمبارزة والمحاربة.
(٣٦) يقول: إنه عفيف الفرج مأمونه لا يقرب الزنا.
(٣٧) يقول: إنه أبيض الوجه مباركه.
(٣٨) النون: الحوت. يقول: هو بحر — أي كثير العطاء — يصغر كل ملك بالإضافة إليه.
(٣٩) يقول: إن الشمس تتمنى أن تكونه؛ لأنه أشرف منها وأكثر مناقب، وذكر الضمير في «تكونه»؛ لأنه عنى بالشمس الأولى الممدوح.
(٤٠) يقول: إن تدعه أيها المخاطب فقلت: يا سيف — مستعينًا — أجابك قبل إتمام سين السيف. يريد سرعة إجابته للداعي.
(٤١) من صان: فاعل أدام، وهذا دعاء. يقول: أدام الله الذي صان هذا الممدوح وصان دينه من أعدائه تمكينه منهم — من أعدائه — فالضمير في «نفسه» للممدوح، وفي «دينه» لله سبحانه وتعالى.
(٤٢) الرأي: مبتدأ، خبره: الظرف بعده. وقوله: هو أول … إلخ: استئناف. يقول: إن العقل مقدم على الشجاعة، فإن الشجاعة إذا لم تصدر عن عقل أتت على صاحبها وأوردته موارد الهلاك ولم تعد شجاعة، وإنما هي خرق، والحاصل أن العقل — في ترتيب المناقب — هو الأول، والشجاعة ثانٍ له.
(٤٣) هما: فاعل لمحذوف يفسره المذكور، والأصل: إذا اجتمعا اجتمعا، فحذف الفعل الأول وانفصل ضميره، والمِرة — بكسر الميم — القوة والشدة، والمراد: الإباء وعزة النفس، وأصل المرة: إحكام القتل، يقال: أمرَّ الحبل إمرارًا، وتروى: حرة بدل مرة، وتروى: مُرة — بضم الميم — من المرارة: يقول: إذا اجتمع العقل والشجاعة لنفس تأبى الذل والضيم ولا تلين قناتها للأعداء بلغت أعلى المبالغ من العلا.
(٤٤) الأقران: جمع قرن — بكسر القاف — وهو الكفء في الحرب، يؤكد تفضيل العقل، يقول: قد يطعن الفتى أقرانه بالمكيدة ولطف التدبير ودقة الرأي قبل أن يصرح بالقتال.
(٤٥) الضيغم: الأسد، والمراد بأدنى ضيغم: أدون. فأدنى: أخس وأدون، وأدنى إلى شرف: أي أقرب. والكماة: جمع كمى، وهو البطل المشتمل بالسلاح. والعوالي: صدور الرماح. والمران: الرماح اللينة. يقول: إنما تتفاضل نفوس الحيوان بالعقل، فالآدمي أفضل من البهيمة بعقله، ثم يتفاضل بنو آدم بالعقل أيضًا، كما قال المأمون: الأجسام أبضاع ولحوم، وإنما التفاضل بالعقول، فإنه لا لحم أطيب من لحم، وقوله: ودبرت: أي ولما دبرت؛ أي إنما توصلوا إلى استعمال الرماح في الحرب بالعقل، ولولا العقل ما عرفت الأيدي تدبير الطعان بالرماح. يريد أن الشجاعة إنما تستعمل بالعقل. قال الخطيب التبريزي: غزت «تميم» حنيفة فاستاقت أموالًا ورجالًا، فباتت حنيفة ثلاثًا، ثم تبعوهم، فقيل لغلام منهم: كيف صنع قومك بحوافر الخيل حتى لحقوهم بعد ثلاث؟ قال: جعلوا المران أرشية الموت، فاستبقوا بها أرواحهم.
(٤٦) سمي سيوفه: يعني سيف الدولة. والأجفان: جمع جفن، وهو غمد السيف. يقول: لولا سيف الدولة ما أغنت السيوف شيئًا، ولكانت في قلة الغناء كالأجفان؛ لأن السيف إنما يعمل بالضارب، وهذا مثل قول عمرو بن معديكرب الزبيدي أحد فرسان العرب، وقد أعطى سيفه الصمصامة لرجل فلم يعمل به شيئًا، فقال: إنما يفعل الساعد لا السيف.
(٤٧) يقول: خاض الحمام — الموت — بسيوفه حتى لم يعلم أذلك الخوض من احتقار للموت أم نسيان للموت وغفلة عنه؟ ودرى: مجهول «درى» لغة طيئ، وثاني مفعولي «درى» محذوف سد مسده جملة الاستفهام.
(٤٨) المدى: الغاية. وأهل الزمان: أي أهل الزمان الحاضر، ﻓ «أل» فيه للعهد الحضوري: أي قصر عن بلوغ ما بلغ أهل زمانه وأهل كل زمان غيره.
(٤٩) تخذوا واتخذوا: بمعنى. يقول: إن أهل الزمان مجالسهم في البيوت، أما هو فإنه يرى أن الفتى لا يليق به أن يتخذ البيوت مجالس، وإنما سروج الخيل يقضي أيامه عليها في الغارة على أعدائه.
(٥٠) الوغى والهيجاء: من أسماء الحرب. وقوله: والطعن … إلى آخره: كلام مستأنف. يقول: وظنوا أن الحرب لعب؛ أي إذا لعبوا في الميدان فتطاعنوا بالرماح ظنوا أن ذلك هو الحرب، والطعن في اللعب غير الطعن في الحرب؛ لأن طعن اللعب طعن مع إبقاء ولا إبقاء في الحرب. يريد أن أهل زمانه لاهون، أما هو فلا يعرف غير الجد وطلب العلا.
(٥١) يقول: إذا قاد خيله إلى طعان الأبطال في الحرب، فقد قادها إلى ما هو عادة له وإلى وطنه؛ لأنه من المعركة في وطن.
(٥٢) كل: إما بالرفع على أنه خبر عن ضمير محذوف يعود على الجياد، وإما بالنصب على أنه بدل من الجياد. وابن سابقة: أي كل فرس ولدته سابقة من الخيل. يقول: كل فرس كريم إذا نظر إليه صاحبه راقه وسر بحسنه وبدد أحزانه.
(٥٣) الوغى: من أسماء الحرب. والأرسان: جمع رسن؛ ما يكون في رأس الدابة تمنع به من التصرف. يقول: إن خيله مؤدبة بآداب الحرب إذا خليت لم تبرح من مكانها فكأنها مربوطة، وإذا دعوتها أتتك، فلا تحتاج إلى جذبها بالرسن. قال ابن جني: وهذا كقوله:
تُعَطَّفُ فِيهِ والأعِنَّهُ شَعْرُهَا وتُضْرَبُ فيه والسِّياطُ كلامُ
(٥٤) الجحفل: الجيش العظيم، وفي جحفل: حال من الجياد. يقول: قاد خيله في جيش عظيم قد تكاثف غباره حتى ستر العيون، فلا تبصر فيه الخيل مع صدق حاسة نظرها، ولكنها إذا أحست شيئًا نصبت آذانها، فكأنها تبصر بآذانها، وهذا من بديع التخيل، وفيه نظر إلى قول البحتري:
ومُقدِّمِ الْأُذُنينِ تحسِبُ أنه بهِما رأى الشخْصَ الَّذِي لِأَمامِه
(٥٥) يريد بالمظفر: سيف الدولة. يقول: إنه رجل قد عوده الله الظفر والنصر. فلا يبعد عليه شيء، فالبعيد في نظره كالقريب في نظر غيره؛ لعزمه على الأمور.
(٥٦) منبج: بلد بالشام — على مرحلتين من حلب — وحصن الران: من بلاد الروم. يريد سعة خطوتها في العدو — الجري — يقول: كأن أرجلها بالشام وأيديها بالروم لبعد مواقع أيديها من أرجلها، أي كأنها تقصد أن تبلغ الروم بخطوة واحدة. قال ابن جني: وبين «منبج» و«حصن الران» مسيرة خمس ليالٍ.
(٥٧) أرسناس: نهر بالروم، بارد الماء جدًّا، يريد — لسرعتها في السباحة — تنتشر عمائم فرسانها.
(٥٨) يقمصن: يثبن. والمدى: جمع مدية؛ السكين. يقول: إن الخيل تثب في هذا النهر الذي هو كالمدى — السكاكين — لضرب الريح إياه حتى صيرته طرائق كأنها مدى من ماء بارد يذر — يدع — الفحل كالخصي لتقلص خصيتيه لشدة برده.
(٥٩) العجاجة: الغبرة. يقول: إن الجيش صار فريقين في عبور هذا النهر؛ فريق عبروا، وفريق لم يعبروا، ولكل واحد منهما عجاج — غبار — والماء بينهما، فالعجاجتان تفترقان بالماء وتلتقيان من فوقه لشدة انتشارهما. وقال ابن جني: يعني عجاجة المسلمين وعجاجة الروم. قال الواحدي: وليس كما ذكر؛ لأنهم عند عبور النهر ما كانوا قاتلوا الروم بعد، ولكن البيت التالي يؤيد ما ذهب إليه ابن جني. قال ابن جني: ربما حجز الماء بين عجاجتين وربما جازتاه فالتقتا، وقلما تثور العجاجة في الشتاء. قال: وسألته — أي المتنبي — عند القراءة عن هذا، فذكر أنه شاهده، قال: وكان في حزيران، وقال: هو من أبرد المياه في كل وقت؛ لأنه يذوب من الثلج.
(٦٠) اللجين: الفضة. والحباب: الفقاقيع التي تعلو الماء. والأعنة: جمع عنان؛ ما يكون في رأس الفرس. والعقيان: الذهب. يقول: عبر سيف الدولة هذا النهر وركض خيله إلى الروم والماء أبيض كالفضة، فلما قتلهم وجرت فيه دماؤهم عاد وقد احمر كالذهب.
(٦١) الغدائر: جمع غديرة، وهي الخصلة من الشعر. والسفين: جمع سفينة. يقول اتخذ حبال سفنه من ذوائب سباياه من نسائهم، واتخذ خشبها من الصلبان التي استولى عليها من معابدهم، وذلك لكثرة ما غنم وسبى.
(٦٢) حشاه: فعل ماض، والضمير للماء. وعادية: أي راكضة، من العدو — الركض — وعقم: جمع عقيم، وهو الذي لا يلد. والحوالك: الشديدة السواد: يقول: حشا ماء النهر سفنًا تعدو ولا قوائم لها، وهي عقم لا تلد، وألوانها سوداء لأنها مقيرة — مطلية بالقار — شبه السفن بالخيل العادية والخيل لها قوائم، ومن عادتها أن تنتج، فبيَّن أنه أراد السفن.
(٦٣) يقول: إن هذه السفن تحمل النساء التي سبتها الفوارس وكأنهن غزلان والسفن مرابض لها. هذا، والمرابض جمع مربض، وهو مأوى الغنم والوحش، ويجمع مربض على مرابض وأرباض، قال العجاج يصف الثور الوحشي:
واعْتادَ أرباضا لها آريُّ مِنْ معْدِنِ الصِيرانِ عُدْمُلِيُّ
(اعتادها: أتاها ورجع إليها. وقوله: لها آري: أي لها آخية من مكانس البقر لا تزول، ولها أصل ثابت في سكون الوحش بها، قال ابن السكيت: وقد تسمى الآخية آريا، وهو حبل تشد به الدابة في محبسها، والعدملي: القديم.)
(٦٤) بحر أي هو — النهر — بحر … إلخ، وأذم له من فلان: أجاره منه. والحدثان: حوادث الدهر ونوائبه، وقوله: وإذا أذم: جملة حالية. والورى: الخلق. وبنو حمدان: عشيرة سيف الدولة. يقول: هذا النهر الذي عبره سيف الدولة بحر تعود أن يجير أصحابه من حوادث الدهر بأن يمنع العدو من العبور إليهم، ولكن لما عبرته أنت تركته يجير أهله من كل أحد إلا من بني حمدان، يعني أن غيرك لا يقدر على عبوره.
(٦٥) المخفرين: نعت بني حمدان، أو منصوب على المدح، ويقال: خفرت الرجل: إذا أجرته، وأخفرته: إذا نقضت عهده. والأبيض: السيف. والصارم: القاطع. والذمم: جمع ذمة. يقول: إن بني حمدان هم الذين ينقضون عهود الدروع التي على الملوك بسيوفهم لما جعل الملوك في ذمم الدروع؛ لأنهم تحصنوا بها وهي وقاء لهم، فكأنهم في خفارتها، جعل سيوف بني حمدان تنقض تلك الذمم بهتك دروعهم والوصول إلى أرواحهم.
(٦٦) التصعلك: التشبه بالصعاليك، وهم المتلصصون الذين لا مال لهم. وعلى كثافة ملكهم: أي مع عظمة ملكهم وفخامته. يقول: هم على عظم ملكهم كالصعاليك؛ لتعرضهم للغارات وشدائد الأسفار، وهم مع عظم شأنهم يتواضعون للناس كرمًا ولينا.
(٦٧) التقيل: النوم في القائلة، وهي نصف النهار. والمطهم: الحسن التام الخلق من الخيل. والأجل: وقت الشيء الذي يحل فيه، ويراد به أجل الموت وهو صفة لمطهم. والظليم: الذكر من النعام. والربقة: العروة من حبل يشد بها. والسرحان: الذئب. يقول: إذا خرجوا في الغارات استظلوا عند اشتداد الحرب بظل خيولهم، يعني أنهم مثل البدو لا ظل لهم، فإذا قالوا — من القيلولة — لجئوا إلى ظلال خيلهم.
ومعنى قوله:
أجل الظليم وربقة السرحان
أنها — الخيل — إذا طردت النعام والذئاب أدركتها فتقتلها ومنعتها من العدو، وهذا من قول امرئ القيس:
بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابِدِ هَيكل
وامرؤ القيس هو أول من قال: «قيد الأوابد» ثم تبعه الشعراء. قال ابن الرومي في الغزل:
وحدَيثُهَا السِحْرُ الحلالُ لوَ انَّهُ لَمْ يَجنِ قتلَ المُسلمِ المتحرِّزِ
إن طَالَ لَمْ يُمللْ وَإن هي أوجَزَتْ وَدَّ الْمحَدِّثُ أنها لَمْ تُوجِزِ
شركُ العقُولِ وَنُزْهَةٌ مَا مِثْلُها لِلْمُطمَئنِّ وَعُقلةُ المُستوْفِزِ
ورواية: يتقيلون، هي رواية ابن جني، وذهب في معناها مذهبًا غير الذي أسلفنا، قال: يتقيلون من قولهم: فلان يقيل أباه؛ إذا كان يتبعه، والمعنى: يتقيلون آباءهم السابقين في الشرف والسبق إليه كالفرس المطهم. وقال ابن فورجه وابن القطاع: إنما الرواية: يتفيئون، يعني أنهم يستظلون في شدة الحر بأفياء خيلهم، يصفهم بالتغرب والتبدي — أي التشبه بأهل البادية.
(٦٨) المنصل: السيف. وعنوة: أي قهرًا.
(٦٩) على الدروب: صلة نظروا في البيت الثالث — أو حال من ضميره. والدروب: المداخل إلى الروم. والغضاضة: الذلة والعار؛ أي ما يغض من الإنسان. والقنا: الرماح، والمراد بالكفر والإيمان: أصحابهما. والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة من الحديد، والمراد: السيوف. والعقبان: جمع عقاب؛ الطائر المعروف. يقول: حين كنا على الدروب وقد اشتدت الحال حتى تعذر علينا الانصراف والرجوع، لما في ذلك من العار والغضاضة، وتعذر التقدم لكثرة الجيوش أمامنا، وقد ضاقت الطرق لكثرة الرماح واشتباكها، وأهل الكفر قد أحاطوا بأهل الإيمان وتكاثروا عليهم، في هذه الأحوال وفي هذا المكان نظر الروم إلى سيوف المسلمين ترتفع في الهواء — عند رفع الأبطال إياها للضرب — كأنها تصعد إلى مناكب العقبان، فلا يرونها إلا فوق رءوسهم. أو تقول: في هذه الأحوال نظر الروم إلى المسلمين وهم مقنعون في الحديد، حتى كأنهم قطع الحديد، لاشتماله عليهم، وهم فوق خيل كالعقبان في خفتها وسرعتها.
(٧٠) فوارس: عطف على «زبر الحديد». والحمام: الموت. يقول: ونظروا إلى فوارس إذا قتلوا في الحرب حيوا؛ أي يرون حياتهم في قتلهم في الحرب، وكأنهم ليسوا من الحيوان؛ لأن الحيوان لا يحيا بهلاكه، يعني أنهم غزاة مجاهدون في سبيل الله من استشهد منهم بالقتل صار حيًّا مرزوقًا عند الله، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. وهذا ينظر إلى قول أبي تمام:
يَسْتعذبُونَ مَنَايَاهُمْ كأنهمُ لَا يَيأسُونَ مِنَ الدَّنيا إذَا قُتلوا
وقال ابن القطاع: هو مأخوذ من قول زهير نقله نقلًا:
تَراهُ إذَا مَا جِئتهُ مُتهلِّلًا كأنكَ تعطيهِ الذِي أنْتَ سائِلهْ
وهو من الأخذ الخفي؛ لأن زهيرًا جعل الممدوح يسر بما يعطي سائله حتى كأنه يأخذه، وجعل المتنبي هؤلاء الفرسان يسرعون إلى القتل في الحرب حتى كأنه حياة.
(٧١) الدراك: المتابعة. والذرا: جمع ذروة، وهي أعلى كل شيء. يقول: ما زلت تضربهم ضربًا متتابعًا في أعالي أبدانهم، يعمل السيف الواحد فيه عمل سيفين من السرعة، أو لأنه ينفذ المضروب إلى آخر فيقطعه أيضًا، فكأنه سيفان. وقال ابن جني: يريد أنك سيف ومعك سيف، فالضرب ضرب سيفين.
(٧٢) الضمير في «خص» يعود على الضرب، والجماجم: جمع جمجمة، وهي عظم الرأس المشتمل على الدماغ. يقول: إن هذا الضرب لا يقع إلا في وجه أو في رأس؛ لأنه أوحى قتلًا، ولا يتعرض لسائر الجسد، فكأن أجسامهم أتت إليك بأمان، ومن ثم لا تتعرض لها.
(٧٣) الحنية: القوس. والمرنان: التي يسمع لها رنين. يقول: رموا قسيهم التي كانوا يرمون عنها، ثم انهزموا مدبرين يطئون في هزيمتهم تلك القسي التي رموك بها.
(٧٤) مفصلًا: من تفصيل القلادة، وهو أن يجعل بين كل لؤلؤتين خرزة. والمثقف: المقوم، يعني الرمح. والمهند: السيف الهندي. والسنان: الزج الذي في أسفل الرمح. يقول: كان وقع السلاح كوقع المطر يأتي دفعة دفعة. وأراد بالسحاب: الجيش، وبالمطر: الوقعات التي تقع بهم من السيوف والرماح، وهي تقع بهم مفصلة؛ لأنهم يضربون تارة بالرماح وتارة بالسيوف.
(٧٥) يقول: حرموا ما أملوا من الظفر بك، فصار من عاد منهم إلى بيته بالحرمان يعد نفسه مدركًا أمله؛ لأنه نجا بنفسه. و«عاد» يروى: عاذ — بالذال المعجمة — من عذت بالشيء: امتنعت به، وعلى هذه الرواية يكون المعنى: أدرك أمله منهم من لجأ إلى الرضا بالحرمان فترك الحرب وسلم بنفسه. هذا، ويقال: أملت الشيء تأميلًا، وأملته آمله أملًا.
(٧٦) المهجة: الروح. والثائر: طالب الدم. يقول: إذا تناوشت الرماح صاحب ثأر شغلته صيانة روحه عن إدراك ثأر إخوانه. يعني: أن الروم لما أحسوا بالتهلكة خذل بعضهم بعضًا، وشغلوا بأنفسهم عن إدراك ثأر قتلاهم. وهنا زلت قدم ابن القطاع، فذهب في تفسير البيت إلى غير الذي ذكرنا وخبط خبط عشواء، قال: هذا البيت من معانيه الغامضة، وذلك أنه في مدح سيف الدولة، وظاهره هجاء محض؛ لأنه يقول: شغلت سيف الدولة مهجته عن إخوانه، وهذا غاية الهجو، لأن العرب مدحت الرئيس بقتاله عن أصحابه وبذله مهجته دونهم، وقد قال: إن سيف الدولة اشتغل بالدفاع عن الإخوان، فحذف الجار، وقد قيل فيه: إن معناه: إذا الرماح شغلن مهجة ثائر مشغول بمهجته اشتغل سيف الدولة بالدفاع عن الإخوان. فالأول يكون الضمير فيه لسيف الدولة، والثاني يكون «شغلته» صفة لثائر، وهذا إن سلم من الهجاء صح به المعنى، فإن الكلام يحتمل في الحذف ما لا يحتمله. والصحيح من معنى هذا البيت أن قوله: «عن» بمعنى الباء، فيكون المعنى شغلت سيف الدولة مهجته بإخوانه، وهو مثل قوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ؛ أي بالهوى.
(٧٧) العواد: المعاودة، مصدر عاود، بمعنى عاد. والقواضب: السيوف. والعاني: الأسير. يقول: بعدما أملوا من العود إلى القتال فقد عاقهم عن ذلك سيوف كثرت بها القتلى منهم وقل من يجرح ولا يموت فيؤسر.
(٧٨) مهذب: عطف على «قواضب». يقول: يعوقهم عن العودة مهذب — يعني سيف الدولة — أطاعته المنايا في إهلاكهم — أي الروم — وهذه الطاعة: أي طاعة المنايا له هي طاعة لله سبحانه؛ لأنه جهاد في سبيل الله.
(٧٩) المسفة: من قولهم أسف الطائر: إذا دنا من الأرض في طيرانه، والضمير في قوله: «فيه» للشجر. يقول: كثرت قتلاهم حتى أطارت الريح شعورهم على أشجار الجبال فاسودت بها فكأن الغربان وقعت عليها. شبه سواد شعورهم على الأشجار بالغربان السود.
(٨٠) النجيع: الدم. والقاني: الشديد الحمرة، وأصله الهمز فلينه للتصريع. والنارنج: معروف. يقول: لما بعثر شعورهم على الأشجار اسودت، ولما جرت دماؤهم على ورق الشجر احمرَّ، فصار لحمرته كأنه النارنج في الأغصان.
(٨١) يقول: إن السيوف إنما تعين الشجعان الذين لا يفزعون في الحرب، كما لا تفزع هي، ولما ذكر قلوبهم استعار لها — للسيوف — قلوبًا. وهذا من قول البحتري:
وَما السيفُ إلَّا بَزَّغادٍ لِزِينة إذا لَمْ يَكنْ أمْضَى من السَّيفِ حامِله
قال ابن جني: قوله: إن السيوف مع: يدل على معنى النصر والمعونة، كما تقول: الله معنا؛ أي معين وناصر، وليست في معنى الصحبة؛ لأنها لو كانت كذلك لم يكن لها نفع، والمراد أن السيوف تنصر الذين قلوبهم كقلوبها، وإنما يريد إذا كانوا ماضين في الحرب كانت السيوف قاطعة ماضية.
(٨٢) تلقى: أي أيها المخاطب. والحسام: السيف القاطع. وعلى جراءة حده: أي مع جراءة حده. يريد مع مضائه في الضريبة، فعبر عن ذلك بالجراءة لمقابلة الجبان. يقول: إن السيف الماضي إذا كان في يد الجبان لم يغنِ في يده شيئًا، كما لا يغنى الجبان؛ لأن الفعل للضارب.
(٨٣) العماد: الأبنية الرفيعة، يذكر ويؤنث، الواحدة عمادة، ويقال: فلان رفيع العماد: إذا كان في قومه شريفًا، فهم يعنون عماد بيت الشرف، والعرب تضع البيت موضع الشرف في النسب والحسب. والقمم: جمع قمة وهي أعلا الرأس. والمواقد: جمع موقد. يقول: ارتفعت بك العرب وشرفت وقاتلوا الملوك فأوقدوا على رءوسهم نار الحرب، ولك أن تقول: قاتلوا الملوك فقطعوا رءوسهم وجعلوا جماجمهم أثافي؛ احتقارًا لهم.
(٨٤) يقول: هم ينتسبون من جهة آبائهم إلى عدنان، ولكنهم في الفخر والشرف ينتسبون إليك.
(٨٥) يقول: أنت تقتل من أردت بسيفك؛ أي لا يمتنع منك قتل من أردت، لكنك أحسنت إليَّ وغمرتني بإحسانك حتى قتلتني؛ أي استعبدتني بالمنة والإحسان.
(٨٦) يقال: بلي الثوب يبلى بِلًى وبلاء وأبلاه غيره يبليه إبلاء. والأسف: شدة الحزن. ونصب «أسفًا» على المصدر، وعامله محذوف دل عليه ما تقدمه؛ لأن «إبلاء الهوى بدنه» يدل على أسفه، كأنه قال: أسفت أسفًا. ويوم النوى: ظرف ﻟ «أبلى» ويجوز أن يكون معمول المصدر الذي هو قوله: «أسفًا». والنوى: البعد. والوسن: النوم. ومعنى إبلاء الهوى البدن: إذهابه لحمه وقوته بما يورد عليه من شدائده. وخص يوم النوى؛ لأن برح الهوى إنما يشتد عند الفراق، والهوى عذب مع الوصال، سم مع الفراق، كما قال السري الرفاء:
وأرَى الصبابةَ أرْيَة ما لمْ يَشُبْ يَوْمًا حَلاوتَها الفِرَاقُ بِصَابِه
«أرية: فعلة من الأرى، وهو العسل.» يقول: أفضى الهوى ببدني إلى الأسف والهزال يوم الفراق، وأبعد هجر الحبيب بين جفني والنوم، أي لم أجد بعده نومًا.
(٨٧) روح: مبتدأ، محذوف الخبر؛ أي لي روح، والروح يذكر ويؤنث. ومن ثم لك أن تجعل «تردد» فعلًا ماضيًا على تذكير الروح، وأن تجعله مضارعًا على تأنيثها، وأصله تتردد — بتاءين — فحذفت إحداهما للتخفيف. والخلال: هو ذلك العود الدقيق الذي تخلل به الأسنان. يقول: لي روح تذهب وتجيء في بدن مثل الخلال في النحول والدقة إذا طيرت الريح عنه الثوب الذي عليه لم يظهر ذلك البدن لدقته؛ أي إنما يرى لما عليه من الثوب فإذا ذهب عنه الثوب لم يظهر. ويجوز أن يكون معنى «لم يبنِ» لم يفارق؛ أي أن الريح تذهب بالبدن مع الثوب لخفته. قال الواحدي: وأقرأني أبو الفضل العروضي: في مثل الخيال، قال — العروضي: أقرأني أبو بكر الشعراني خادم المتنبي: الخيال، قال: ولم أسمع الخلال إلا بالري فما دونه. يدل على صحة هذا أن الوأواء الدمشقي سمع هذا البيت فأخذه فقال:
ومَا أبْقَى الهوَى والشوْقُ مِني سِوَى رُوحٍ ترَدَّدُ في خيال
خَفِيتُ على النوَائِبَ أنْ تَرَاني كأنَّ الرُّوحَ مِنِّي في محال
وهذا المعنى — كما قال الواحدي والعكبري — كثير قد ألمت به الشعراء القدامى والمحدثون، وأحسن ما قيل فيه قول بعضهم:
براني الْهَوَى بَرْيَ المُدى وأذابنِي صُدُودُكَ حتى صِرتُ أنحلَ مِنْ أَمْسِ
فلسْت أرَى حتى أُراك وإنما يَبينُ هباءُ الذرِّ في ألَقِ الشمسِ
وقول الآخر:
لمْ يبقَ إلا نفَسٌ خافِتُ وَمُقْلةٌ إنْسانُها باهِتُ
(٨٨) الباء في «بجسمي»: زائدة. وجسمي: مفعول «كفى». ونحولًا: تمييز. وأنني رجل: في تأويل مصدر، فاعل «كفى». يقول لصاحبه: كفاني فعل النحول بي أنني رجل لو لم أتكلم لم يقع عليَّ البصر: أي إنما يستدل عليَّ بصوتي، كما قال أبو بكر الصنوبري:
ذُبْتُ حتى ما يُسْتَدَلُّ على أنَّـ ـيَ حَيٌّ إلَّا بِبَعْضِ كلامي
وأصل هذا المعنى قول الأخطل:
ضفادِعُ فِي ظَلماء ليل تجاوبَتْ فدلَّ عليها صَوْتُها حيَّةُ البَحْرِ
ونزولًا على حكم خطتنا في هذا الشرح نورد ما ذكره ابن الشجري في تعليقاته النحوية على هذا البيت، قال: فيه سؤال في الإعراب بين «كفى بجسمي نحولًا» وبين «كفى بالله» و«أن» المفتوحة تسكن مع مدخولها في تأويل المصدر كقولك: بلغني أنك ذاهب، أي ذهابك، فبأي مصدر تتقدر؟ وجملة «لولا مخاطبتي» وصف لرجل، و«رجل» من قبيل الغيبة، فكيف عاد إليه منها ضمير متكلم؟ وكان الوجه أن يقال: لولا مخاطبته إياك لم تره؟ الجواب: إن «كفى» مما علمت فيه زيادة الباء تارة مع فاعله، وتارة مع مفعوله، ودخولها على مفعوله قليل، فزيادتها مع الفاعل مثل: كفى بالله، والمعنى: كفى الله، والذي يدلك على أنها مزيدة في «كفى بالله» قول سحيم:
كَفى الشيْبُ والإسْلام لِلْمرْء نَاهِيًا
وأما زيادتها مع المفعول، ففي مثل قول حسان:
وَكَفَى بِنا فضْلا على مَنْ غيرنا
(تقدم أن «من» زائدة بين «على» ومجرورها وهو «غيرنا» وعجزه:
حبُ النبيِّ محمد إيَّانا)
وكفى بجسمي؛ لأن فاعل كفى: «أن» وما بعدها، وأسبك لك من ذلك فاعلًا بما دل الكلام عليه من النفي ﺑ «لم»، وامتناع الشيء لوجود غيره ﺑ «لولا»، والتقدير: كفى بجسمي نحولًا انتفاء رؤيتي لولا وجود مخاطبتي، و«نحولًا» نصب على التفسير، والتفسير في هذا النحو للفاعل دون المفعول، وقوله: كَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا فوكيلًا تفسير لاسم الله، ونحولًا: تفسير لانتفاء الرؤية، كما أن «فضلًا» في بيت حسان تفسير لحب النبي ﷺ إياهم، فهذا فرق في الإعراب بين «كفى بالله» وبين «كفى بجسمي» من حيث كان بالله فاعلًا ووكيلًا، و«بجسمي» مفعولًا، وإنما زيدت الباء في نحو كفى على معناه؛ إذ كان معناه اكتفِ بالله، ونظيره: حسبك بزيد، وأما قوله: «أنني رجل» فخبر موطئ، والخبر في الحقيقة هو الجملة التي وصف بها رجل، والخبر الموطئ هو الذي لا يفيد بانفراده عما بعده، كالحال الموطئة في نحو: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ألا ترى أنك لو اقتصرت هنا على رجل، لم تحصل به فائدة؟ وإنما الفائدة مقرونة بصفته، فالخبر كالزيادة في الكلام، فلذلك عاد الضميران اللذان هما «الياءان» في «مخاطبتي» و«ترني» إلى الياء في «أنني» ولم يعودا على رجل؛ لأن الجملة في الحقيقة خبر عن «الياء» في «أنني» من حيث وقع خبرًا عنها عاد الضميران إليه على المعنى كان قولًا. ونظيره عود الياء إلى «الذي» في قول علي عليه السلام:
أنَا الَّذي سمتنِي أُمِّي حَيدَرَهْ
(قال أبو العباس ثعلب: لم تختلف الرواة في أن هذه الأبيات لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه:
أَنَا الَّذي سَمَّتْنِي أُمِّي الْحَيْدَرَهْ كَلَيْث غَاباتٍ غَليظ الْقَصَرَهْ
أكيلُكُمْ بالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَه
الحيدرة: الأسد. والقصرة: أصل العنق. والسندرة: مكيال كبير، وقيل: اسم امرأة كانت تكيل كيلًا وافيًا.)
لما كان في المعنى «أنا» وليس هذا مما يحمل على الضرورة؛ لأنه قد جاء مثله في القرآن: بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فتجهلون فعل خطاب وصف به قوم، وقوم من قبيل الغيبة، كما ترى، ولم يأتِ بالياء ولكنه جاء وفق المبتدأ الذي هو «أنتم» في الخطاب، ولو قيل: «بل أنتم قوم» لم تحصل بهذا الخبر فائدة. ومما جاء في الشعر بغير ضرورة قوله:
أَأَكْرَمُ مِنْ لَيْلَى عَلَيَّ فتَبْتَغِي بِهِ الجاهَ أَمْ كُنْتُ امْرأً لَا أُطيعُها؟
أعاد من «أطيعها» ضمير متكلم، ولم يعد ضمير غائب وفاقًا لامرئ، فهذا دليل إلى دليل التنزيل.
(٨٩) قضاعة: بطن من حمير، وهي قبيلة التنوخي، والفتى: أصله الكريم الشجاع القوي. يقول: قبيلتي تعلم أني فتاها الذي يحتاجون إليه فيدخرونه لدفع ما ينزل بهم من الحوادث لمكانه من الشجاعة وسداد الرأي، وليلاحظ أن هذه الأبيات هي على لسان غيره وهو من أهل اليمن.
(٩٠) خندف: امرأة إلياس بن مضر، ينسب إليها أحد فخذي مضر. يقول: إن شرفي يدلهم على أن كل كريم يمني — أي من قبائل اليمن — لأني منهم. ولنعد إلى خندف، قال الأخباريون: خندف هي بنت عمران بن الحاف بن قضاعة، وهي امرأة إلياس بن مضر، ولدت له مدركة، وطابخة وقمعة، وكان اسم مدركة «عامرًا» واسم طابخة «عمرًا»، قيل: إنهم كانوا في إبل لهم يرعونها فصاد عامر وعمرو صيدًا. فقعدا يطبخانه فعدت عادية على إبلهما فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل، أم تطبخ هذا الصيد؟ فقال: بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل، فجاء بها، فلما رجعا على أبيهما حدثاه بشأنهما، فقال لعامر: إنك مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة، فجاءت أمهما تمشي، فقال لها: أنت خندف (الخندفة: مشية كالهرولة، فسميت خندف لأنها خندفت في أثر ابنها: أي أسرعت، وأما «قمعة» فسمي كذلك لأنه انقمع في البيت) وأما قمعة فيقال: إن خزاعة من ولده، من ولد عمرو بن لحي الذي هو ابن قمعة بن إلياس، وهو عمرو الذي قال رسول الله ﷺ: «رأيته يجر قصبه في النار.» (القصب: الأمعاء.) وقال محمد بن إسحق بن يسار صاحب «المغازي» في أول كتابه: ولد معد بن عدنان أربعة: نزار بن معد وقضاعة بن معد — وكان قضاعة بكر معد، وكان به يكنى — وقنص بن معد، فأما قضاعة فيمت إلى حمير بن سبأ، وكان اسم سبأ «عبد شمس»، وإنما سمي سبأ؛ لأنه أول من سبى في العرب، واليمن تقول: قضاعة ابن مالك، وأنشد عمرو بن مرة الجهني:
نَحنُ بنُو الشيخ الهِجانِ الأزَهر قُضاعةَ بنِ مالكِ بنِ حميرِ
النسَبِ المَعروفِ غَيرِ المُنكرِ
(الهجان: الكريم. والهجان من كل شيء: الخالص، مأخوذ من الهجان، وهو الأبيض.)
وأما «قنص» فهلكت، وهم ملوك الحيرة الذين منهم النعمان بن المنذر. وقوله: «كل كريم يمان» يريد: من قبائل اليمن الذين ينسبون إلى سبأ، وقد جاء في مدح اليمن ما فيه كفاية، ويكفيهم فخرًا قوله عليه الصلاة والسلام: «الإيمان يمانٍ، وأجد ريح الرحمن من قبل اليمن، والحكمة يمانية، وأهل اليمن ألين قلوبًا.»
(٩١) جرت عادة العرب أن يقولوا لكل من لزم شيئًا أنه ابنه حتى قالوا لطير الماء: ابن الماء. واللقاء: ملاقاة الأقران في الحرب. والضراب: مصدر ضارب يضارب ضرابًا، وهو من ضرب السيف، والطعان: كذلك، مصدر طاعن يطاعن طعانًا، وهو من الطعن بالرمح. يقول: أنا صاحب هذه الأشياء لا أفارقها.
(٩٢) الفيافي: جمع فيفاء، وهي الفلاة. والقوافي: جمع قافية، وهي في الأصل آخر البيت، وقد يقولون للقصيدة: قافية. والرعان: جمع رعن، وهو أنف الجبل الشاخص منه. يقول: أنا صاحب الفلوات؛ لكثرة جوبي إياها، وصاحب القصائد أجيدها وأبدع فيها، وصاحب الجبال لكثرة سلوكي طرقها.
(٩٣) النجاد: حمالة السيف، وطولها دليل على طول القامة، والطول مما تتمدح به العرب:
وَإنَّ أعِزَّاءَ الرِجَالِ طِيالُها
والعماد: عمود الخيمة الذي تقوم عليه، وذلك مما يمدح به؛ لأنه يدل على كثرة غاشيته وزواره، وطول القناة — الرمح — يدل على قوة حاملها؛ لأنه لا يقدر على استعمال القناة الطويلة إلا القوي.
(٩٤) اللحاظ: طرف العين مما يلي الصدغ. يريد أن بصره حديد يرى مقاتل عدوه في الحروب. والحفاظ: المحافظة على ما يجب حفظه. والحسام: السيف القاطع. والجنان: القلب. يقول: هذه الأشياء مني حديدة — قوية.
(٩٥) المنايا: جمع منية، وهي الموت. والرهان: السباق. يقول: سيفي يبادر آجال الناس ليسبقها فيقتلهم قبل انقضاء آجالهم، قال عنترة:
وَأنَا المَنِيَّةُ في المواقِف كلها وَالطعنُ مِنِّي سَابِقُ الآجال
ومثله قول أبي تمام:
يكادُ حِينَ يُلاقِي القِرنَ مِنْ حَنقٍ قَبلَ السِّنانِ عَلَى حَوبَائِهِ يَرد
(الحوباء: النفس.)
هذا، والرهان من قولهم: راهنت فلانًا على كذا — أي خاطرته — وهو الرهن الذي كانوا يرهنون في سباق الخيل، وقد جاء: رهنته وأرهنته بمعنًى، وأنشدوا لهمام بن مرة وفي الصحاح لعبد الله بن همام السلولي:
فَلما خشِيتُ أظافِيرهمْ نجوتُ وأرْهَنتهمْ مالكا
غَريبًا مُقَيمًا بدارِ الهوا ن أَهون عليَّ بِهِ هالكا
وأحْضرْتُ عُذْري عليهِ الشهو دَ إنْ عاذِرًا لي وَإنْ تاركا
وقدْ شَهدَ الناسُ عندَ الإما مِ أني عَدو لِأعْدَائكا
قال أبو العباس ثعلب: كل الرواة قالوا: وأرهنتهم، إلا الأصمعي فإنه رواه: وأرهنهم؛ عطفًا لفعل مستقبل على فعل ماضٍ، وشبهه بقولهم: قمت وأصك وجهه؛ لأن الواو واو الحال. فيجعل «أصك» حالًا للفعل، وقد عاب الأخفش قراءة ابن كثير وابن العلاء: «فرهن مقبوضة» وقال: هي قبيحة؛ لأنه لا يجمع فعل على فعل إلا شاذًّا، إلا أن يكون رهن جمع رهان مثل ثمر وثمار، ورهان جمع رهن. وغاب عن الأخفش جمعهم سقفًا على سقف، فقد قرأ أهل الكوفة ونافع بن عامر: «ولبيوتهم سُقُفًا من فضة» وهذا جمع سقف، فكان الأولى أن يعيب على هؤلاء جمعهم سقفًا على سقف «راجع: لسان العرب والعكبري».
(٩٦) الضمير في «حده» للسيف، والهبوة: الغبار، وغامضات القلوب: الغامضة في الأبدان، وإنما خصها دون سائر الأعضاء الغامضة؛ لأنها مقاتل بلا شك. يقول: يرى حد سيفي قلوب الأعداء فيهتدي إليها حين يظلم الغبار في الحرب حتى لا يرى الفارس نفسه. وهذا من قول زيد الخيل:
وَأَسْمَرَ مَرْفُوعٍ يَرَى مَا أَرَيْتُهُ بصِيرٍ إذَا صَوَّبْتُهُ بالمَقاتل
[يريد إذا هيأته نحو العدو. وبالمقاتل: صلة بصير.] وقال أبو تمام:
مِنْ كُلِّ أَزْرَقَ نَظَّارٍ بِلَا نَظَرٍ إلَى الْمقَاتِلِ مَا في مَتْنِهِ أَوَدُ
هذا، وقوله: لا أراني، قال الواحدي: لا يجوز أراني بمعنى أرى نفسي، وإنما يجوز ذلك في أفعال معدودة نحو ظنتني وحسبتني وبابهما. وقد جاء شاذًّا: فقدتني وعدمتني، ولا يقال: ضربتني ولا رأيتني ولا أكرمتني، وإنما يقال: ضربت نفسي وأكرمت نفسي، فكان الواجب أن يقول: لا أرى نفسي، وقد جاء رأيتني، فحمله على هذا.
(٩٧) الحكم: بمعنى الحاكم. يقول: سأقتل من أعدائي من شئت ولساني كسيفي في الحدة، فلو جعلت لساني مكان سيفي لاكتفيت به؛ لأني أبلغ من التأثير في أعدائي بلساني ما يبلغه السيف. قال الواحدي: ويجوز أن يكون المعنى: ولو ناب اللسان عن السيف — بأن يطيعوا أمري — لم أستعمل فيهم السيف.
(٩٨) يقول: تكرمت بكتمان حبك حتى كتمته منك أيضًا. ويجوز أن يكون معنى تكرمة: إكرامًا للحب وإعظامًا له حتى لا يطلع عليه — ثم تغيرت الحال حتى صار الإعلان والإسرار سواء، يعني: لم ينفع الإسرار وصار كالإعلان؛ حيث ظهر الحب بالشواهد الدالة عليه وبطل الكتمان.
(٩٩) يقول: كأن الحب زاد حتى لم أقدر على إمساكه وكتمانه. ثم فاض عن جسدي كما يفيض الماء إذا زاد على ملء الإناء، وصار سقمي بالحب في جسم الكتمان؛ أي سقم كتماني وضعف، وإذا سقم الكتمان صح الإفشاء والإعلان، وعبارة ابن الشجري في «أماليه»: شبه أبو الطيب حبه بالأشياء المائعة فوصفه بالفيض، ثم قال — المتنبي — فصار سقمي لما أفرط حبي في الزيادة وصار كالشيء الفائض — صار سقمي قويًّا به، وانتقل إلى جسم كتماني فأذابه وأضعفه. فلما ضعف الكتمان ظهر الحب لضعف مخفيه. قال: وقال أبو الفتح — ابن جني: دل الكتمان عليَّ، قال: وهذا في بدائعه، وفي هذا القول اختلال في الإعراب وفساد في المعنى وتناقض في اللفظ، وذلك أنه إذا عاد الضمير من كأنه إلى الكتمان وجب إعادة الضمائر التي بعده إلى الكتمان، فيصير التقدير: كأن الكتمان زاد حتى فاض فصار سقمي به — أي بالكتمان — في جسم كتماني. ففي هذا اختلال في الإعراب كما ترى، وقد جعل الكتمان هو الذي أسقمه، مع أن الحب هو المسقم له.
(١٠٠) أرعشت: من الرعشة، وهي الرعدة. أي حركت اليدين لسكر شاربها. وقوله بيني وبيني: أي بيني وبين عقلي. يقول: غيري يشرب الخمر حتى ترعش يداه سكرًا، أما أنا فإني أبقى على صحوي؛ أي لا أشربها حتى لا تحول الكأس بيني وبين عقلي. قال ابن جني: وجاء به من طرز كلام الصوفية، كقول قائلهم:
عجبْت مِنكَ ومِنِّي أفْنيتَنِي بِكَ عَنِّي
أقمتني بمقَامٍ ظننْتُ أنك أنِّي
(١٠١) المزن: جمع مزنة؛ السحابة البيضاء. واللجين: الفضة. وقوله كالذهب المصفى: حال من «الخمر» وقد قابل بين الفضة وبين الذهب. يقول: لا أشرب الخمر وحسبي الماء.
(١٠٢) هذا من قول أبي تمام:
أغارُ مِنَ القَمِيصِ إذَا عَلَاهُ مَخَافَة أَنْ يُلَامِسَهُ القَمِيصُ
ومن قول الخبز أرري:
مِنْ لُطْفِ إشْفاقي وَدِقَّةِ غَيْرَتي أنِّي أَغَارُ عَلَيْكَ مِنْ مَلكَيْكَا
ولَو اسْتَطَعتُ جَرَحْتُ لفظَك غَيْرَةً أنِّي أَرَاهُ مُقَبِّلًا شَفَتَيْكَا
وقال الواحدي: ولقد أساء أبو الطيب؛ لأن الأمراء لا يغار على شفاههم. ويقول من يعذره — المتنبي: إنما يغار؛ لأنه يرفع شفتيه عن رتبة الكأس والخمر؛ لأنهما — أي شفتيه — للأمر والنهي والألفاظ الحسنة والأمر بالصلة، ويجوز أن الزجاجة نالت ما لم ينله أحد، فهو يغار حيث لا تستحق الزجاجة ذلك.
(١٠٣) الضمير في «بياضها» للزجاجة. والراح: الخمر. وأحدق به: أحاط به. يقول: كأن الزجاجة البيضاء — وفيها هذه الخمر السوداء — بياض محدق بسواد عين.
(١٠٤) الرفد: العطاء. يقول: إن الرفد الذي سألناه إياه عَدَّه هو دينًا على نفسه واجب الأداء؛ لمكانه من الكرم والأريحية. كما قال أبو تمام:
غَريمٌ لِلْمُلمِّ بهِ وحَاشَا نَدَاهُ مِنْ مُمَاطَلَةِ الْغَريمِ
وقال أيضًا:
إلَّا نَدًى كَالدَّينِ حَلَّ قَضَاؤُهُ إنَّ الكريمَ لِمُعْتَفِيه غَرِيمُ
(١٠٥) ما — في الشطرين موصولة بمعنى «الذي» خبر عن المرفوع قبلها. يقول: حق الحب أن يمنع لسان صاحبه من الكلام فلا يقدر على وصف ما في قلبه منه، كما قال المجنون:
ولمَّا شَكَوْتُ الحُبَّ قَالَتْ: كَذَبْتَني فما لِي أَرَى الأعضَاء منْكَ كَوَاسِيَا
فما الْحُبَّ حَتَّى يَلْصَقَ الْجِلْد بالْحَشَا وَتَخْرَسَ حَتَّى لا تُجيبَ الْمُنَادِيَا
وكما قال قيس بن ذريح:
وما هُوَ إلَّا أن أراها فُجاءَةً فأبْهَتَ حَتى ما أكَادُ أَجيبُ
قال الواحدي: والظاهر أن «ما» — في قوله: ما منع — نفي؛ لأن المصراع الثاني حث على إعلان العشق، وإنما يعلن من قدر على الكلام، وهذا كما يقول أبو نواس:
فَبُحْ باسْمِ مَنْ تَهْوَى ودعني مِنْ الكُنَى فلا خَيْرَ في اللَّذَّاتِ مِن دونِهَا سِتْرُ
ويقول علي بن الجهم:
تهتَّكْ وبُحْ بالعشقِ جهرًا فَقَلَّما يطيبُ الهوَى إلَّا لِمُنْهَتِكِ الستْرِ
ويقول السري الرفاء:
ظَهرَ الهوى وتهتَّكتْ أستَارُهُ والحُبُّ خَيْرُ سبيلِهِ إظهارُهُ
أَعصِي العواذِلَ في هواه جَهَارَةً فَأَلَذُّ عيْشِ الْمُسْتهام جِهارُهُ
ولعل ما دعا الواحدي إلى جواز أن تكون «ما» نفيًا. هو ما يظهر من التناقض في البيت إذا جعلت «ما» موصولة، ومن ثم قال بعض الشراح عقب شرحه البيت بما شرحناه للتفصي من هذا التناقض. فقد وقع المحب في بلاء بين هذين أي بين كون حق الحب أن يغلب على اللسان وبين كون ألذ الشكوى الإعلان. هذا، و«الألسنا» يروى بفتح السين — أي الذلق اللسان. وبضمها: جمع لسان. واللسان: الجارحة، واللغة أيضًا، وقد يؤنث ويذكر، قال أعشى باهلة:
إنِّي أَتتني لِسَانٌ لا أُسرُّ بِهَا مِنْ عَلْوَ لَا عَجَبٌ مِنْهَا وَلَا سَخَر
(مطلع قصيدته التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي.)
وإذا ذكر: كان على معنى الكلام، قال الحطيئة:
نَدِمْتُ عَلَى لِسَانٍ فَاتَ مِنِّي فَلَيْتَ بِأَنَّهُ فِي جَوْفِ عِكِمْ
(فليت بأنه: يروى: فليت بيانه، ويروى: وددت بأنه. والعكم: داخل الجنب، على المثل بالعكم الذي هو النمط تجعله المرأة كالوعاء تدخر فيه متاعها.)
ومن أنثه: قال في جمعه: ألسن، كذراع وأذرع. ومن ذكره: قال في جمعه ألسنة كحمار وأحمرة، وهذا قياس ما جاء على فعال من المذكر والمؤنث، وقد تقدم ذلك في هذا الشرح مستوفى.
(١٠٦) هجر وصلة: مفعولان مطلقان. وواصلي: خبر «ليت». والكرى: النوم. والجرم: الذنب. والضنى: المرض والهزال. يقول: ليت الحبيب الذي هجرني من غير ذنب كهجر النوم لأجفاني يواصلني كمواصلة الضنى لجسمي من أجل صده وبعده عني: يعني أن الضنى ملازم له، فتمنى أن يكون وصل الحبيب ملازمًا له ملازمة الضنى جسده.
(١٠٧) بنا: افترقنا، ويروى: «بتنا ولو حليتنا» و«بتنا» تامة. والواو بعدها حالية، و«امتقعن» يروى: سفعن؛ وهو بمعنى امتقعن. وحليتنا: وصفت حليتنا، وهي هيئة الشخص وما يتميز به. وامتقع لونه: تغير حياء أو خيفة. وتلونًا: مفعول له. يقول: فارقنا أحبابنا ولعظم ما نالنا من ألم الفراق لو أردت أن تصفنا ما قدرت لتغير ألواننا، فكنت لا تدري بأي لون تصفنا.
(١٠٨) أشفقت: خفت. وقوله تحترق: أراد أن تحترق، فحذف «أن» وبقي الفعل مرفوعًا، وقد مرت له نظائر. والعواذل: جمع العاذلة — اللائمة — يقول: لشدة حرارة الوجد صارت أنفاسنا كالنار المتوقدة حتى خفت على العواذل أن يحترقن فيما بيننا، قال الواحدي: وإنما خاف ذلك؛ لأنه كان ينم على ما في قلوبهم من حرارة الهوى، وقال الخطيب التبريزي: وجه الإشفاق أن ينم إحراقهن على ما كانوا فيه من حر أنفاسهم. هذا، وقد قلنا: أشفقت؛ أي خفت، ونزيد هنا أن الشفقة الخيفة والمحبة، وهي الاسم من الإشفاق، وكذلك الشفق. قال الشاعر إسحاق بن خلف، وقيل: هو لابن المعلى:
تَهْوَى حَياتِي وأهْوى مَوْتَها شفقًا والموْت أكرمُ نَزَّالٍ على الحرَم
وأشفقت عليه فأنا مشفق وشفيق، وإذا قلت: أشفقت منه فإنما تعني حذرته، وأصلهما واحد، ولا يقال: شفقت، وقال ابن دريد: شفقت وأشفقت بمعنى، وأنكره أهل اللغة.
(١٠٩) فرادى: اسم جمع لفرد. والزفرات: جمع زفرة، وهي النفس الحار، وسكن «فاءه» ضرورة. و«ثنا» — من قولهم: جاء القوم ثناء — أي اثنين، وإنما قصرها للقافية. يقول: أفدي بنفسي هذه المحبوبة التي قد ودعتني، فكلما نظرت إليها نظرة واحدة زفرت زفرتين؛ لشدة ما في صدري من حرارة الوجد.
(١١٠) الديدن: العادة، تقول: ما زال ذلك ديدنه وديدانه ودينه ودأبه وعادته وسدمه وهجيره وهجيراه.
يقول: أنكرت حوادث الدهر أول ما طرقتني، وقلت: ليست تقصدني وإنما أخطأت في قصدي، ثم لما كثرت وتتابعت أقررت بها وعرفت أنها تأتيني، فصارت عادة لي لا تفارقني ولا أنفك منها، وهذا المعنى من قول الآخر:
رُوِّعْتُ بالبَيْن حتى ما أُرَاعُ لَهُ وَبِالْحَوَادِثِ في أهلي وَجيرانِي
(١١١) الفلا: جمع فلاة؛ المفازة البعيدة. والركائب: جمع ركاب، وهي الإبل. والموهن: نحو نصف الليل. يصف كثرة أسفاره وتردده في الدنيا حتى قطع الفلوات بالمسير، وقطع المركوب أيضًا بكثرة الإتعاب، وقطع الليل والنهار بقطع المسافات، يعني أنه قطع المكان والزمان والمركوب، يريد أنه أفنى كلا منها بأسفاره. هذا، وقد قال صاحب «الصحاح»: الضحا مقصورة تؤنث وتذكر، فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة، ومن ذكَّر ذهب إلى أنه اسم على فعل مثل صرد ونغر (الصرد: طائر ضخم الرأس، أبيض البطن، أخضر الظهر، يصطاد صغار الطير، الجمع صردان. والنغر: طائر يشبه العصفور، تراه صغيرًا ضاويًا، وتصغيره نغير، وجمعه نغران). وهو ظرف غير متمكن، مثل سحر، يقول: لقيته ضحًا وضحَا، إذا أردت به ضحا يومك لم تنونه. قال ابن بري: ضحا مصروف على كل حال. قال الجوهري: ثم بعد الضحا: الضحاء، ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى، تقول منه: أقمت بالمكان حتى أضحيت، كما تقول من الصباح: أصبحت، ومنه قول عمر رضي الله عنه: أضحوا بصلاة الضحا؛ أي صلوها لوقتها ولا تؤخروها إلى ارتفاع الضحا، ويقال: أضحيت بصلاة الضحا؛ أي صليتها في ذلك الوقت. وقد أسلفنا القول على «الضحا» في هذا الشرح بأوفى من ذلك.
(١١٢) منها: أي من الدنيا. ويروى: فيها. ويقال: وقفت ووقفني زيد ووقفت دابتي ووقفت وقفًا للمساكين، فقوله: أوقفني الندى: معناه عرضني للوقوف، قال أبو عمرو بن العلاء: لو قال رجل: فلان أوقفني — أي عرضني للوقوف — لم أرَ بذلك بأسًا. وأوقفته: لغة عند بعضهم: والمنى: جمع منية، وهي الشيء الذي تتمناه. يقول: وقفت من الدنيا حيث حبسني الجود — يريد عند الممدوح — أي لما انتهى إليه انقطع عن السفر؛ لأنه أدرك عنده ما كان يتمناه، وهذا من المخالص الحسنة. هذا، وحذف التنوين من «عمار» — كما قال الشراح وكما أسلفنا في هذا الشرح على نظائر لذلك — لالتقاء الساكنين كقوله تعالى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ، قال العكبري: قرأه القراء كلهم بغير تنوين، وكلهم صرف «ثمود» إلا حمزة وحفصًا ووافقهما أبو بكر في آخر سورة النجم، وصرف الكسائي في موضع الجر في هود عند قوله تعالى: لِثَمُودَ، قال: وقد يجوز عندنا — وهو كوفي — إسقاط التنوين في الشعر، وشاهدنا قول العباس بن مرداس يوم حنين للنبي ﷺ:
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حابسٌ يفوقان مِرداسَ في مجمع
(تقدم القول على هذا البيت في غير موضع من هذا الشرح.)
فكلهم رووه مرداس — من غير تنوين.
(١١٣) الجدا: العطاء؛ أي ما تعطيه مجتديك. يقول: إن عطاءه لا يسعه وعاء، ولو كان ذلك الوعاء الدهور مع سعتها للعالم بما فيه، وإذا ضاقت الدهور عن شيء فحسبك به عظمًا.
(١١٤) شجاعة: عطف على «جدا» — في البيت السابق — يقول: إن ذكر شجاعته واشتهارها بين الناس أغناه عن إظهارها واستعمالها، فكل أحد يهابه لما يسمع من شجاعته، وذلك أيضًا يشجع الجبان؛ لأنه يسمع ما يتكرر فيترك حينئذٍ الجبن.
(١١٥) نيطت: علقت. والحمائل: علائق السيف. والعاتق: ما بين المنكب والعنق. والمحرب: صاحب الحرب الممارس لها، ويعني به: الممدوح — على جهة التجريد — وكر عليه في الحرب: عطف. وانثنى: رجع. يقول: علقت حمائل سيفه بعاتق رجل تمرس بالحرب واعتركها واعتركته، ما كر قط؛ لأن الكر يكون بعد الفر، وهو لم ينثنِ عن حرب ولم يولِّ العدو ظهره، فكيف يكر؟ وهذا منقول من قول الآخر:
أللهُ يَعْلَمُ إنِّي لَسْتُ أَذْكُرُهُ وكيفَ أَذكرُهُ إذ لست أَنساهُ؟!
قال ابن جني: الشعراء الفصحاء القدماء والمحدثون قد يصفون الكر بعد الانحياز؛ لأن الحرب خدعة وتحتاج إلى الإطراد والطرد — إلا أنه بالغ ولم يجعله يكر لأنه لا ينثني.
(١١٦) يقول: لشدة إقدامه في الحرب لا يرجع ولا يلتفت إلى خلفه، فهو أبدًا مقدم، فكأنه يخاف طعنًا من خلفه، فهو يتقدم خوفًا مما وراءه، كما قال بكر بن النطاح:
كَأَنَّكَ عِنْدَ الطَّعْنِ في حَوْمَةِ الوغَى تَفِرُّ مِنَ الصَّفِّ الَّذِي مِنْ وَرَائِكَا
(١١٧) التوهم: خلاف التيقن. وهذا كأنه اعتذار مما ذكر من إفراطه وإقدامه، فقال: إن فطنته تقفه على عواقب الأمور حتى يعرفها يقينًا، لا وهمًا.
(١١٨) الجبار: العظيم الشديد البطش. وبغتاته: جمع بغته، وهو ما يفعل فجأة. والمتكفن: لابس الكفن. يقول: إن الرجل الجبار يخاف أن يأخذه بغتة ويهجم عليه من حيث لا يدري فيظل لابس كفنه توقعًا لبغتته وتأهبًا للموت. ومتكفنًا، قال الواحدي: يروى: متلفنًا، والتلفن: التندم على ما فات؛ يعني أنه يندم على معاداته.
(١١٩) سوف: للاستقبال. وقد: لما مضى ومقاربة الحال. والأقصى: الأبعد. وثمَّ: للمكان البعيد المتراخي. وهنا: يستعمل فيما قرب ودنا. يقول: هو ماضي الإرادة، فما يقال فيه: سوف يكون، يقول عنه: قد كان، والبعيد عنده قريب لقوة عزمه، فما يقال فيه: ثم — هنالك — يقال: هو هنا، يعني أن ما يكون من العزائم مستقبلًا عند غيره يعده ماضيًا لأنه سيقع لا محالة، فكأنه قد وقع، وما يكون من المطالب بعيدًا على غيره يعده حاصلًا بين يديه ثقة منه بأنه لا يفوته. هذا، وقد استعمل هذه الكلمات — سوف وقد وهنا — استعمال الأسماء، ولذلك أعرب «قد» ونونها.
(١٢٠) البضاضة: مثل الغضاضة، يقال: غض بض: أي طري لين، يقول: إنه تعود لبس الدروع في الحروب حتى صار يجدها خفيفة لينة كالحرير على بضاضته ونعومته، وفي هذا نظر إلى قول البحتري:
مُلُوكٌ يَعُدُّونَ الرِّمَاحَ مخَاصِرًا إذا زعْزَعوها والدُّروعَ غَلَائِلَا
(المخاصر: جمع مخصرة، ما يأخذه الرجل بيده ليتوكأ عليه من قضيب وسوط ونحوهما، وقد يتوكأ عليه، وكانت من شعار الملوك. والغلائل: جمع غلالة؛ شعار يلبس تحت الثوب.)
(١٢١) أمر: خبر مقدم، وفقد السيوف: مبتدأ مؤخر. والأجفن: جمع جفن؛ غمد السيف، ويجمع جفن على أجفان وجفون أيضًا. يقول: إن الحرب أحب إليه من الغزل والتشبيب، فإذا فقد سيوفه كان ذلك أشد عليه من فقد أحبته، ووصف سيوفه بأنها فاقدة لجفونها — أغمادها — لأنها أبدًا مستعملة في الحروب.
(١٢٢) استكنَّ: من الكن، أي توارى وخفي. والإحسان — الأول — مصدر أحسنت الشيء إذا حذقته وعلمته. والإحسان الثاني: ضد الإساءة. وألا يحسنا: في موضع نصب؛ لأنه مفعول المصدر — الذي هو الإحسان — ولو قال: ولا إحسان أن لا يحسنا كان أقرب إلى الفهم من استعماله بالألف واللام — وإن كان المعنى سواء — فإن قولك: أعجبني ضرب زيد، أقرب إلى الفهم من قولك: أعجبني الضرب زيدًا. يقول: إن الرعب — الخوف والفزع — لا يستكن بين ضلوعه أبدًا؛ لأنه شجاع لا يخشى مخلوقًا. ثم قال: وهو لا يحسن أن لا يحسن؛ أي لا يعرف ترك الإحسان — حتى إذا رام أن لا يحسن لم يعرف ذلك ولم يمكنه، وهذا من قول الآخر:
يُحْسِن أَن يُحْسِنَ حَتَّى إذَا رَامَ سوى الإحْسانِ لَمْ يُحْسِنِ
وقال ابن فورجه: الإحسان: ضد الإساءة. يقول: لا يستكن الإحسان حتى يحسن — أي لا يثبت حتى يفعله — وعلى هذا، الإحسان: الهم به. يقول: إذا هم بالإحسان لم يصبر عليه حتى يفعله. وقال ابن الشجري: الإحسان: ضد الإساءة، يتعدى بحرف الجر — بالباء، إلى — قال كثير عزة:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسنِي لَا مَلُومَةٌ لَدْيَنَا وَلَا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ
(تقلي الشيء: تبغض. وقد خاطبها ثم غايب.)
والثاني: يكون بمعنى إجادة العمل إذا كان حاذقًا في فعله، وفعله يتعدى بنفسه، قال الله تعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا وقال امرئ القيس:
وَقَدْ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْم أنَّنِي كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي
(١٢٣) الاستنباط: الاستخراج، وأصله من استنباط الماء. ونبط الماء: نبع. وأنبط الحفار: بلغ الماء، والضمير من «فيه» لعلمه، ودوَّن الشيء: جمعه في ديوان — أي في كتاب — يقول: هو من ذكائه وفطنته يعرف بعلمه ما يقع فيما يستقبل، فكأن ما سيكون قد كتب في علمه، والمعنى أن علمه صحيفة الكائنات، ويروى: من يومه؛ يعني أنه يستدل بما في يومه على ما سيقع في غد فيعرفه.
(١٢٤) الدنا: جمع دنيا — مثل كبر وصغر، في جمع كبرى وصغرى — يقول: إن أفهام الناس تتقاصر عن إدراك هذا الممدوح كما تقاصرت عن علم الشيء المحيط بالأفلاك وبالأرَضين، فإن أحدًا لا يعرف ما وراء الأفلاك وراء العالم إلى ما ينتهي من الأعلى والأسفل. فقوله «مثل» بالنصب صفة لمصدر محذوف: أي تقاصرًا مثل تقاصرها عن إدراك الذي … إلخ، ورواها بعضهم: مثلُ — بالرفع — على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي فهو مثل الذي … إلخ، وقال العكبري: قال أبو الحسن عفيف الدين علي بن عدلان: الرواية الصحيحة: مثلُ — بالرفع — ويكون التقدير هو مثل؛ يعني أن الأفهام تتقاصر عن هذا الممدوح في معرفة حقيقته، فهو مثل علم الله تعالى. ومن رواه بالنصب يحتاج إلى حذف كثير يخل حذفه بالمعنى، ويكون التقدير مثل تقاصر الأفهام عن علم الله تعالى. هذا، وقد قال ابن جني: لقد أفرط — المتنبي — جدًّا؛ لأن الذي فيه الأفلاك والدنا هو علم الله تعالى وتقدس.
(١٢٥) الطليق: الذي أطلق من القتل. أو الأسير أطلق عنه إساره، الجمع: طلقاء، ودان: خضع وأطاع. وحُينا — بضم الحاء — أي أهلك. وروي بفتح الحاء على المعلوم: أي ممن أهلكه. يقول: من أفلت من سيفه فلم يقتله فهو ممن أطلقه ومنَّ عليه بالعفو، ومن لم يطعه وليس من أهل طاعته فهو من الهالكين.
(١٢٦) قفل: رجع. والسواحل: بلاد الساحل. يقول: لما غبت عنا إلى السواحل عرتنا لك وحشة، فلما رجعت ذهبت إلينا تلك الوحشة من عندنا إلى المكان الذي انصرفت منه إلينا.
(١٢٧) أرج الطيب يأرج أرجًا وأريجًا: إذا فاح. والأرج والأريج: توهج ريح الطيب: قال أبو ذؤيب الهذلي:
كَأَنَّ عَلَيْهَا بَالةً لَطَمِيَّة لَهَا مِنْ خِلَالِ الدَّأْيَتَيْنِ أَريج
(أراد بالبالة الرائحة والشمة، مأخوذ من بلوته؛ أي شممته، وأصلها بلوة فقدم الواو وصيرها ألفًا. واللطيمة واللطمية: العنبرة التي لطمت بالمسك فتفتقت به حتى نشبت رائحتها، والدأية: فقار الكاهل في مجتمع ما بين الكتفين.)
والشذا: شدة ذكاء الريح الطيبة، قال العجير السلولي، وقيل لعمرو بن الأطنابة:
إذا ما مَشَتْ نَادَى بما في ثِيابِها ذكيُّ الشَّذا والْمندِليُّ المطيَّرُ
(إذا ما مشت: يروى: إذا اتكأت. وقيل: الشذا في هذا البيت هو المسك. والمندلي: العود الهندي، منسوب إلى «مندل» بلد بالهند يجلب منه العود. والمطير، قال ابن جني: هو العود، وإذا كان كذلك كان بدلًا من المندلي، وقيل: ضرب من صنعته، وقيل: المطير؛ المشقق المكسر.)
يقول: طاب الطريق الذي سلكته ففاحت رائحته، فما مررت بطريق إلا صارت الرائحة الطيبة مقيمة فيه لا تريم.
(١٢٨) محيية: حال من فاعل «مدت». والأغصنا: مفعول مدت. وإليك: متعلق ﺑ «مدت»، وهذا المعنى كثير. قال الفرزدق:
يَكَادُ يُمسكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ رُكْنُ الْحَطيمِ إذَا مَا جَاءَ يَستلمُ
وقال البحتري:
فَلَوَ انَّ مُشْتَاقًا تَكَلَّفَ فَوْقَ مَا فِي وُسْعِهِ لَسَعَى إلَيْكَ المِنْبَرُ
(١٢٩) القباب: جمع قبة، وهي الخيمة، أو البيت المستدير من بيوت العرب، والمراد بالتماثيل: الصور المنقوشة على القباب. يقول: إن الصور التي فيها تكاد من صحتها وإتقانها كأن أرواح الجن سلكتها — تخللتها — شوقًا إليك فأدارت — الصور — أعينها. قال ابن جني: كان بدر قد خرج من المدينة ثم عاد إليها فضربت القباب، ثم قال: ما أعلم أنه وصفت صورة بأنها تكاد تنطق بأحسن من هذا. وقال الواحدي: المعنى: اشتاقت الجن إليك فتوارت بتماثيل القباب للنظر إليك. وتماثيل القباب: هي القباب فيكون فاعل «أدرن» الجن. يعني أن الجن من الشوق الذي بها إلى رؤيتك دخلت في الصور المنقوشة على القباب التي فوقك لتراك.
(١٣٠) المراكب: جمع مركب، بمعنى مركوب، يعني الخيل. يقول: لسرورها بقدومك طربت حتى ظننا أنها لولا الحياء لرقصت بنا: يعني أن السرور بقدومك غلب حتى ظهر في البهيمة التي لا تعقل.
(١٣١) قوله: تبسم: في موضع الحال — أي باسمًا — والجياد: الخيل، جمع جواد — على غير قياس — والعوابس: جمع عابس، وهو المكلح الوجه. والخبب: ضرب من العدو. الحلق المضاعف: الدروع، والحلق: جمع حلقة. والمضاعف: الكثير. والقنا: الرماح. يقول: أقبلت ضاحكًا وجيادك عوابس لطول سيرها وإثقالها بالدروع والقنا الطوال وما قاست من شدة الحروب.
(١٣٢) السنابك: جمع سنبك، وهو طرف مقدم الحافر. والعثير: الغبار. والعنق: ضرب من السير عليه سريع. يقول: عقدت سنابك الخيل فوقها غبارًا كثيفًا لو تطلب السير عليه لأمكن من كثافته، وهذا المعنى من قول العتابي:
تَبْنِي سَنَابِكُهَا مَنْ فَوْق أَرْؤُسِهمْ سَقْفًا كَوَاكِبُهُ البِيضُ الْبَوَاتيرُ
وأخذه العتابي من قول الأول:
وأرْعَنَ فيهِ لِلسَّوَابِغِ لُجَّةٌ وَسَقفُ سماءِ أنْشَأتْهُ الْحوافرُ
[الأرعن: الجيش. والسابغ: الدروع.]
(١٣٣) خوافق: مضطربة. والمنية: الموت. والمنى: جمع منية؛ ما يتمناه الإنسان من الخير. يقول: أمرك مطاع حتى في حال الحرب حيث اضطراب القلوب، والناس بين خائف يتوقع القتل وبين مؤمل الظفر بالعدو، ومقتول قد لقي منيته، وقاتل قد أدرك أمنيته: أي فإن كنت في هذه الحال مطاعًا فما ظنك بغيرها؟
(١٣٤) الظبا: جمع ظبة؛ حد السيف، والمراد: السيف نفسه. والسنا: الضوء. يريد وصف يوم قدومه إذ رأى السيوف والأسلحة مع عسكره، يقول: عجبت من كثرة السيوف في ذلك اليوم حتى ذهلت فعجزت عن العجب، ورأيت من الضوء وتألق الحديد ما خطف نظري، فرجع وهو حسير، فلم أتمكن من الرؤية. قالوا: وفيه نظر إلى قول أبي تمام:
عَلَى أنَّهَا الْأَيَّامُ قَدْ صِرْنَ كُلُّها عَجَائبَ حَتَّى لَيْسَ فِيهَا عَجَائِبُ
(١٣٥) يقول: إني أراك عسكرًا في عسكر المكارم؛ أي أنت في نفسك عسكر وحولك عسكر آخر من المكارم. وأراك معدنًا من المعالي: أي أصلًا لها، فهي تؤخذ منك.
(١٣٦) فطِن للشيء: بكسر الطاء وفتحها، يقول — كما قال الواحدي: إن قلبك يعرف ما فعلته في حال بعدك وما تركته فلم أفعله خوفًا من أن تعلم فتعاتبني عليه؛ أي فلست في حاجة إلى وشاية الواشين، وكان قد وشي به إليه، وكأنه قد اعترف بتقصيره — كما يدل على ذلك سياق الأبيات — وقال اليازجي: إن فؤادي لم يغفل عما فعلته في حال بعدك من التقصير في خدمتك وما أهملته من المسير معك؛ لأني كنت خائفًا أن تفطن له فتعاتبني عليه؛ يعني أني لم أغفل عن ذلك التقصير ولو لم يوشَ به إليك. فظن أن المراد بالفؤاد فؤاد المتنبي، وليس بشيء.
(١٣٧) عليه: أي على ما فعلته، والضمير في «منه» يعود على الفراق. يقول: صار فراقك عقوبة لي على ما فعلته مما كرهته، أي فحسبي هذا عقوبة.
(١٣٨) فاغفر: أي فاغفر لي — أي ذنبي أو تقصيري — وفدًى: خبر عن محذوف أي أنا فدًى لك. وحباه: أعطاه، والحِباء — بكسر الحاء — العطاء. ومن بعدها: أي من بعد هذه المرة، أو من بعد المغفرة. ومنها: خبر مقدم عن الضمير بعده، والجملة: صفة لعطية. يقول: فاغفر لي هذا الذنب الذي فرط مني فدًى لك نفسي، وأعطني بعد المغفرة لأكون مخصوصًا بعطيه منها نفسي: يعني إذا عفوت عني وأعطيتني كنت قد خصصتني بعطاء أنا من جملته؛ لأنه إذا عفا فقد وهبه نفسه.
(١٣٩) الضلة: الضلال. قال الواحدي: كان الأعور بن كروس قد وشى به إلى بدر بن عمار لما سار وتأخر عنه المتنبي. يقول: أشار عليك بهجراني وحرماني، وهذا ضلال؛ لأني لا أستحق ذلك. وقال ابن جني: ضلة: أي إذا قبلت منه ما أشار به عليك وأطعته فيَّ ضللت، يهدده الهجاء، وعنى بالحر: نفسه، وبأولاد الزنا: الوشاة، وهذا تعريض بابن كروس. هذا، والأصل في هذا المعنى قول مروان بن أبي حفصة:
مَا ضَرَّنِي حَسَدُ اللِّئَامِ وَلَمْ يَزَل ذُو الفضْلِ يَحْسُدُهُ ذَوُو التَّقْصِيرِ
وقال أبو تمام:
لَقَدْ آسَف الْأَعَدَاءَ مَجْدُ ابْنِ يُوسُفٍ وَذُو النَّقْصِ في الدُّنْيَا بِذِي الفضلِ مُولَعُ
(١٤٠) اللذعنا: يريد الذي عناه، يعني أنه عرض بذكر أولاد الزنا، وقد فهم هذا التعريض من عناه به، فهو يأخذه لنفسه.
(١٤١) السفيه: الذي لا عقل له ولا رأي، وأصله الذي لا يعرف أن يدبر أمره، والأصل فيه: الخفة، وتسفهت الريح الغصون: حركتها واستخفتها، قال ذو الرمة:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّت رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيهَا مَرُّ الرياحِ النوَاسِمِ
وتسفهت الريح الشجر: أي مالت به، وناقة سفيهة الزمام إذا كانت خفيفة السير، ومنه قول ذي الرمة يصف سيفًا:
وَأَبْيضَ مَوْشِيِّ القَمِيصِ نَصَبْتَهُ عَلَى ظَهرِ مِقْلَاتٍ سَفيهٍ جديلُها
[يعني خفيف زمامها، يريد أن جديلها يضطرب لاضطراب رأسها، والمقلات: التي تلد واحدًا ثم تقلت رحمها فلا تحمل]، وتسفهت فلانًا عن ماله: إذا خدعته عنه. وعنى بالسفهاء: السعاة والوشاة الذين وشوا به. يقول: كيدهم يعود عليهم بالشر، ثم قال: وإذا عودي الشاعر ألحق بعرض عدوه ما يبقى لاصقًا به بقاء الدهر، وهذا تهديد بالهجاء.
(١٤٢) الضيفن: الذي يتبع الضيف، ونونه زائدة، وهو فعلن، إذا أخذ من الضيافة، وإن أخذ من الضفن — وهو الثقيل الكثير اللحم — فوزنه فيعل، قال الشاعر:
إذَا جَاءَ ضَيْفٌ جَاءَ لِلضَّيف ضَيْفَنٌ فَأَوْدَى بِمَا تُقْرَى الضُّيُوفُ الضيَافِنُ
الضيافن: فاعل أودى. وبما تقرى الضيوف: أي بما تقراه الضيوف». يقول: إن مخالطة اللئيم مذمومة ملعونة. لما تجر وراءها من الندامة، فهي كضيف يليه ضيف من الندامة. والأصل في هذا ما جاء في بعض الآثار: «الجليس السوء كصاحب الكير — أي الحداد — إن لم يصبك من شرره أصابك من دخانه، والجليس الصالح كالداري — يعني العطار — إن لم يصبك طيبه أصابك من ريحه.»
(١٤٣) الرزء: المصيبة. يقول: إذا كنت راضيًا عني لم أكترث بعد ذلك لغضب الحسود؛ لأنه يكون في هذه الحالة من أهون الأرزاء عليَّ فهو رزء لو كان مما يوزن لم يستحق أن يوزن لخفته.
(١٤٤) من غيرنا: حال من اسم أمسى — الثانية — ومعنا: متعلق بمؤمنًا. ومؤمنًا: خبر أمسى — الأولى — يقول: من كان يكفر بالله من غيرنا أمسى مؤمنًا معنا بفضلك؛ أي أن من يخالفنا في الإيمان بالله يوافقنا في الإقرار بفضلك.
(١٤٥) الغزالة: اسم الشمس. يقول: جعلك الله عوضًا من الشمس للبلاد وأهلها عند فقد الشمس بالليل كيلا يحزنوا. هذا، وقد قال ابن جني: إن سيبويه لا يجيز تقديم ضمير الغائب المتصل على الحاضر في مثل قولك: ما فعل الرجل الذي أعطاهك زيد — على معنى الذي أعطاه إياك — فتأتي بالضمير المنفصل وتدع المتصل، وأبو العباس يجيزه، فالصواب عند سيبويه: فأعاضها إياك، ولكن الشعر موقف ضرورة، فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره. قال العكبري: والصواب عند أهل النحو إذا اجتمع ضمير المخاطب والغائب فالواجب تقديم ضمير المخاطب، فكان الواجب: فأعاضكها الله. ويقال: عاضه وأعاضه وعوضه.
(١٤٦) قوله: والحديث شجون: جملة معترضة بين اسم «إن» وخبرها كقول القائل:
وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ أسِنَّةُ قَوْمٍ لَا ضِعَافٍ وَلَا عُزْلِ
(من أبيات لرجل من بني دارم أَسِرته بنو عجل فلما أنشدهم إياها أطلقوه، وقبله:
وقَائِلَةٍ مَا بَالُهُ لَا يَزُورُنَا وقد كنْتُ عن تلْكَ الزِّيَارَة في شُغْلِ
وبعده:
لَعَلَّهُمُ أنْ يُمطرونِي بِنِعْمَةٍ كما صَاب ماء الْمُزْنِ فِي البلد الْمَحْلِ
فَقَد يُنْعِشُ اللهُ الْفَتَى بَعْدَ عَثْرَةٍ وَتَصْطَنِعُ الْحُسْنَى سَرَاةُ بَني عَجْلِ)
وقولهم: الحديث شجون: مثل، معناه الحديث ذو شجون؛ أي ذو فنون وطرائق مشتبكة مختلطة. يقول: إنك الرجل الذي لم يكوِّن الله مثله ولم يخلقه. قال الواحدي: وأشار بقوله «والحديث شجون» إلى أن تحت قوله: «من لم يكن لمثاله تكوين» معاني كثيرة لا تحصى.
(١٤٧) اللام في «لعظمت» رابطة لقسم مضمر، على تقدير «قد» بعدها: أي لقد عظمت. وجبرين: لغة في جبريل، كما يقال في إسماعيل: إسمعين، وفي إسرائيل: إسرائين. يقول: لو كنت أمانة لكانت هذه الأمانة عظيمة حتى لا يؤتمن بتأديتها جبريل الأمين على وحي الله وكتبه إلى أنبيائه. قال الواحدي: وهذا إفراط وتجاوز حد يدل على قلة دين وسخافة عقل.
(١٤٨) البرية: الخلق. وخاليًا: حال، وقد أجرى «فوق، ودون» مجرى الأسماء، فأعربهما إعرابها. يقول: إذا خلا الناس منك تباينوا وكانوا درجات يعلو بعضها بعضًا، فإذا حضرت بينهم استووا كلهم في التقصير عنك وصار أشرفهم وأعلاهم دونك.
(١٤٩) الأغراض: جمع غرض، وهو الهدف يرمى بالسهم. والضمير في «أخلاهم» للناس. يقول: إن الأفاضل من الناس كالأغراض للزمان يرميهم بنوائبه ويقصدهم بالمحن، فلا يزالون محزونين لبعد هممهم ولطف إحساسهم واهتمامهم بما دقَّ وجل من عبر الدهر وصروفه فكأنهم هم المقصودون بها، وإنما يخلو من الحزن من كان خاليًا من الفطنة، وحاصل المعنى: أن الزمان إنما يقصد بشره الأفضل، قال حكيم: على قدر الهمم تكون الهموم، وذلك أن العاقل يفكر في عواقب الأمور فلا يزال مهمومًا، وأما الجاهل فلا يفكر في شيء من هذا. وفي هذا المعنى يقول الجاهلي ذو الأصبع العدواني:
أَطَافَ بِنَا رَيْبُ الزَّمَانِ فَدَاسنا لَهُ طَائِفٌ بالصَّالحِينَ بَصِيرُ
ويقول البحتري:
أَلمْ تَرَ لِلنَّوائِبِ كَيفَ تَسْمُو إلى أَهْلِ النَوافِلِ وَالفُضُولِ
(١٥٠) الجيل: ضرب من الناس. وسواسية: يعني متساوين في الشر واللؤم، ولا يقال في الخير. وشر: تفضيل بمعنى أشر. والمراد بالحر هنا: الكريم — ضد اللئيم — يقول: نحن في جيل من الناس قد تساووا في الشر دون الخير، فليس فيهم من يركن إليه ويعول عليه.
(١٥١) خلق: جمع خلقة، وهي الصورة التي يخلق عليها الشيء، أراد بها الأشباح والأشخاص، ويروى: حلق — بالحاء — جمع حلقة، وهي القوم يجتمعون مستديرين، وهو معلوم أن «من» يستفهم بها عمن يعقل، و«ما» عما لا يعقل، تقول للجماعة من الناس: من أنتم؟ وتقول: ما هذه القطعة أغنم هي أم إبل أم خيل؟ يقول: حولي من هؤلاء الناس جماعة كالبهائم، إذا أردت الاستفهام عنهم فقل: ما أنتم؟ ولا تقل: من أنتم؟ وإلا عدوت الصواب. قالوا: وفي البيت نظر إلى قوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.
(١٥٢) تقول: قروت البلاد واسقريتها: إذا تتبعتها تخرج من بلد إلى بلد. والغرر: الاسم، من قولهم: غرر بنفسه إذا عرضها للهلكة. ومضطغن: ذو ضغن وحقد. يقول: لا أسافر إلا على خطر وخوف على نفسي من الحساد والأعداء، ولا أمر بأحد لا يكون له علي حقد. يعني أنهم جهال أعداء لذوي الفضل والعلم، فلجهلهم وفضلي يعادونني.
(١٥٣) الأملاك: جمع ملك. كجمل وأجمال. والوثن: الصنم. يقول: لا أخالط أحدًا من ملوكهم إلا وهو يستحق القتل، مثله مثل الصنم الذي لا يستحق إلا أن يحطم ويفصل بين رأسه وبدنه حتى لا يبقى على خلقة الإنسان. ويجوز أن يكون ضرب الرأس كناية عن الإهانة والإذلال، يقول: هو أحق بالإذلال من الصنم. وإنما خص الصنم؛ لأنه أراد أنهم — أي الملوك — صور لا معنى وراءها كالأصنام التي يفتن بها أقوام يعبدونها وهي تماثيل لا معنى وراءها.
(١٥٤) التعنيف: التعيير واللوم، والعائد على الموصول: محذوف؛ أي مما أعنفهم عليه، و«حتى» ابتدائية، وأنِي: بمعنى أفتر، قال تعالى: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، ومنه: الأناة من النساء، وهي التي فيها فتور عند القيام وتأنٍ، قال أبو حية النميري:
رَمَتْهُ أَنَاةٌ مِنْ رَبيعَةِ عَامِرٍ نَئُومُ الضُّحَى في مأْتمٍ أيِّ مأْتمِ
(قال الجوهري: المأتم عند العرب: النساء يجتمعن في الخير والشر، وأنشد هذا البيت، ثم قال: فهذا لا محالة مقام فرح.)
يقول: إني أجعل لهم عذرًا فيما ألومهم به من الغفلة واللؤم حتى أعود على نفسي باللوم، وأني — أي أقصر — في لومهم، أما عذرهم فهو أنهم جهال، والجاهل لا يلام على ترك المكارم والرغبة عن المعالي، وقد بين هذا في البيت التالي.
(١٥٥) الجهول: الكثير الجهل، والجهل: ضد العقل. والرسن: الحبل الذي تقاد به الدابة، قال ابن مقبل:
هَرِيتٌ قَصيرُ عِذَار اللِّجَامِ أَسِيلٌ طَوِيلُ عِذَارِ الرَّسَنْ
(هريت واسع الشدقين، ومنه يقال للخطيب من الرجال: أهرت الشقشقة. وقصير عذار اللجام: يريد أن مشق شدقيه مستطيل، وإذا طال الشق قصر عذار اللجام، ولم يصفه بقصر الخد وإنما وصفه بطوله، بدليل قوله: طويل عذار الرسن.)
يقول: إن الجاهل لا يفتقر إلى الأدب إذ لا عقل له، وأول ما يحتاج إليه الإنسان العقل الذي به يعقل، ثم يتأدب بعد ذلك، فإذا لم يكن عاقلًا لم يحتج إلى أدب، كالحمار ما لم يكن له رأس لم يحتج إلى الرسن.
(١٥٦) الواو: واو «رب». والمدقع: الذي لا شيء له، من دقع — بالكسر — إذا لصق بالتراب، والدقعاء: التراب، وفيه معنى الخضوع، والسبروت: الأرض لا نبات فيها، ومنها سمي الرجل المعدم سبروت، ويقال للقبر: سبروت من ثم. والحلل: جمع حلة، وقالوا: الحلة رداء وقميص، وتمامها: العمامة. والدرن: الوسخ والقذر. يقول: رب قوم صعاليك يجلسون لفقرهم على التراب عارين من الثياب كاسين من الوسخ والقذر صحبتهم.
(١٥٧) خراب: جمع خارب وهو الذي يسرق الإبل خاصة، ثم سمي به كل لص. وغرثى: جمع غرثان، وهو الجوعان. وغرثى: خبر مقدم، وبطونهم: مبتدأ مؤخر. ومكن الضِّباب: بيضها، جمع مكنة، والضِّباب: جمع ضب؛ الدويبة المعروفة. يقول: هم لصوص سراق فلوات ليس لهم زاد، ومن جوعهم يأكلون بيض الضباب، يحصلون عليه بلا ثمن.
(١٥٨) طاش السهم: خرج عن صوب الرمية ولم يصب. والظنن: جمع ظنة، وهي ما تظنه بالإنسان من سوء. يقول: يسألونني عن خبري فلا أخبرهم وأكتمهم أمري وهم لا تخطئ ظنونهم بأني أنا المتنبي الذي سمعوا به، ولكني أكتم خبري عنهم خوفًا من غائلتهم.
(١٥٩) أتقيه: رواها بعضهم: «ألتقيه». والخلة: الخصلة المحمودة والمذمومة. ويرى: يُظن. والوهن: الضعف. يقول: رب خصلة في جليس لي أستقبله بمثلها من نفسي — أي أتخلق بمثلها — حتى يظنني مثله في ضعف الرأي، كما قال الآخر:
أُحَامِقُهُ حَتَّى يُقَالَ: سَجِيَّةٌ وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لكُنْتُ أُعَاقِلُهْ
يريد المتنبي أنه يخفي نفسه وفضله خوفًا من الحسد.
(١٦٠) خفت أعربها: أي خفت أن أعربها، وقد تقدم لذلك نظائر، وأصل الإعراب: التبيين، ومنه الأثر: «والثيب تعرب عن نفسها.» وأصل معنى اللحن: العدول عن الظاهر إما خطأ وإما إلغازًا وفطنة، ويسمى الفطن لحنًا، ومنه الحديث: «ولعل بعضكم ألحن بحجته»؛ أي أفطن لها، والمراد هنا: الخطأ. يقول: رب كلام أردت ترك الإعراب فيه لئلا يهتدى إلي ولا يطلع على أنني المتنبي فلم أقدر على ذلك. يريد أنه مطبوع على الفصاحة لا يقدر أن يحيد عنها إلى اللحن.
(١٦١) النازلة: الحادثة من حوادث الدهر تنزل بالإنسان، ومراده بالمركب الخشن ما يركبه من الأمور الشاقة، يقول: صبري جعل كل حادثة تلم بساحتي سهلة هينة، وعزمي ألان المركب الخشن. يريد لا أشتكي النوازل، بل أصبر عليها، ولا أستخشن الخطوب الصعبة لقوة عزمي إذا عزمت.
(١٦٢) العلا: جمع العليا، وهي في الأصل اسم للمكان العالي، ثم استعملت بمعنى الرفعة والشرف. والقتلة: المرة من القتل. يقول: كم من خلاص وعلو لمن خاض المهالك وكم من قتل مع الذم للجبان! يعني أنه كثيرًا ما يتخلص خائض المهالك المقدم عليها مع ما يكسب من الرفعة، وكثيرًا ما يقتل الجبان المحجم مع ما يلحقه من المذمة والعار.
(١٦٣) المضيم: المظلوم. والبزة: اللباس. وراقه الشيء: أعجبه. والدفين: المدفون، وأراد بحسن البزة: اليسر وسعة الرزق. يقول: لا ينبغي للمظلوم أن يسر بسعة رزقه — التي من آثارها حسن البزة — مع ما هو فيه من الذل، فإنه مثل الميت الذي دفن، والميت لا يسر بحسن كفنه. شبه المظلوم الذي لا يدفع الظلم عن نفسه بالميت، وجعل ثوبه الحسن كالكفن.
(١٦٤) يقال عند التعجب من شيء: لله هو. والإخلاف: ضد الإنجاز. وأقتضي: أطالب. وكونها: أي حصولها، مفعول ثانٍ لأقتضي، ودهري: مفعول أول؛ أي أطالب دهري بحصولها. ومطله حقه: سوفه ولم يقضه. يقول: إنه يرجي أن يصل إلى حالٍ ترضيه، وتلك الحال تخلف رجاءه فلا يصل إليها، ويطالب دهره بحصولها فيماطله في تبليغه إياها. وعبارة الواحدي: المعنى ها هنا أن القادر على تمكيني من هذه الحال التي أرجو بلوغها وهي تخلفني؛ أي لا تصل إليَّ ولا تنجز وعدي وأسأل دهري حصولها وهو يمطلني — هو الله تعالى.
(١٦٥) الحصن: جمع حصان، وهو الذكر الفحل من الخيل. يقول: مدحت قومًا لا يستحقون المدح — لشحهم وجهلهم — ولكن إن عشت غزوتهم بخيل إناث وذكور. جعل الخيل قصائد بدل القصائد التي مدحهم بها.
(١٦٦) تحت العجاج: خبر مقدم، وقوافيها: مبتدأ مؤخر. ومضمرة: حال. والعجاج: الغبار. والمضمرة من الخيل: المعدة للسباق. يقول: قوافي هذه القصائد خيل مضمرة تحت العجاج، وليست من القوافي التي إذا أنشدت دخلت الآذان. قال العكبري: وصفها بالتضمير وهو مدح للخيل، وكذلك القوافي في الشعر إذا جادت جاد الشعر، قال ابن الأعرابي: استجيدوا القوافي فإنها حوافر الشعر.
(١٦٧) مدفوعًا: حال، وكذلك مغرورًا. والجدر: جمع جدار، وهو الحائط. والدخن: الفساد والغش والعداوة في القلب، ومنه الحديث: «هدنة على دخن.» ومثله: الدخل. يقول: لست ممن يعتصم في الحرب بالأبنية والجدر، ولا أصالح أعدائي إذا أغروني ونافقوني؛ أي لا أصالحهم إلا على بذل الرضا. و«مدفوعًا»: رواه ابن جني: مرفوعًا؛ أي يرفع إلى الجدر فيحارب عليها.
(١٦٨) مخيم: خبر عن محذوف: أي أنا؟ والجمع: الجيش، وهو فاعل التخييم في المعنى. والبيداء: الصحراء. وصهرت الشمس دماغه: أذابته. والهواجر: جمع هاجرة وهي منتصف النهار. والصم: الشداد. وهذا البيت تأكيد لما ذكره في البيت السابق. يقول: إن عساكره قد نصبوا خيامهم في الصحراء يذيبهم حر الهواجر في فتن صم — شديدة — قال الواحدي: ويجوز أن تقول في فتن لا يهتدى فيها كالحية الصماء التي لا تجيب الراقي.
(١٦٩) الألى: الذين. وبادوا. هلكوا. والخصيبي: هو الممدوح، نسبة إلى جده. يقول: إن الكرام الذي بادوا ألقوا مكارمهم على هذا الممدوح: أي ورثوه إياها وفوضوها إلى عهدته، فهي عنده بجانب فروض الدين وسننه، يحافظ عليها كما يحافظ على هذه. وعبارة الواحدي: فهو يستعملها — أي المكارم — عندما يلزمه كالفريضة، وعندما لا يلزمه كالسنة، فصارت مكارم الكرام عنده تحت تصرفه.
(١٧٠) الحجر — في الأصل — المنع، وحجر القاضي على فلان: منعه من التصرف، وفلان في حجر فلان: أي في كنفه. وبدا — ملين من المهموز — أي بدأ. والمنن: جمع منة وهي النعمة. يقول: لما ورث المكارم بعد هلاك ذويها جعلها في حجره يربيها ويكفلهم في جملة اليتامى الذين يكفلهم، فكان كلما عرضت له اليتامى بدأ بالمجد والمنن — التي هي من جملة المكارم المكفولة عنده — فأفاضها عليهم. قال الواحدي: وإنما ذكر اليتامى؛ لأنه يمدح قاضيًا والقضاة يتكفلون أمر الأيتام. وذهب ابن فورجه في معنى هذا البيت والذي قبله مذهبًا غير الذي ذكرنا، قال: يعني أن المكارم قل راغبوها وكان لها من الكرام آباء، فلما هلكوا كفلوها هذا الممدوح؛ لأنه قاض، والقضاة تكفل اليتامى، فجعلوه كفيلها، فهو يربيها مع سائر الأيتام، غير أنه يؤثر المكارم بحسن التربية على سائر الأيتام، وهذا معنى قوله: «كلما عرضت له اليتامى بدا بالمجد والمنن» أراد بدأ بالمكارم، فأقام «المجد والمنن» مقامها؛ لأنهما في معناها.
(١٧١) عنَّ: ظهر. يقول: هو قاضٍ ذكي فطن ألمعي إذا التبس الأمران واشتبه بعضهما ببعض فصل بينهما برأيه ولو كانا ممتزجين امتزاج الماء باللبن:
(١٧٢) شباب غض: أي ناعم ناضر. والوسن: النوم. قال الواحدي: قوله: «بعيد فجر ليلته» فيه وجهان؛ أحدهما: أن ليلته طويلة لسهره فيما يكسبه من الدين والعلم، وليس هو ممن يقصر ليلته باللذات، والثاني: أنه أراد بالفجر: بياض الشيب، وبالليل: سواد الشباب، والمعنى: أن بياض الشيب بعيد عنه؛ لأنه شاب غض الشباب. وقوله: «مجانب العين للفحشاء والوسن»: أي أن عينه بعيدة عن النظر إلى ما لا يحل، وعن النوم أيضًا لطول سهره.
(١٧٣) نشح الشارب نشحًا: إذا شرب شربًا قليلًا دون الري. (أول الشرب: النشح، ثم التغمير، ثم الري، ثم النقع والتحبيب، ثم اليغر؛ وهو عطش يأخذ الإبل فتشرب فلا تروى وتمرض وتموت.) قال ذو الرمة يصف الوحش:
فَانْصَاعَتِ الْحُقْبُ لَمْ تَقْصَعْ صَرَائِرَهَا وَقَدْ نَشَحْنَ فلا رِيٌّ وَلَا هِيمُ
(الحقب: الدهر، وقيل: السنة. وانصاعت: فرت. وقصع العطشان غلته بالماء: إذا سكنها. والصرائر: جمع صارة؛ أي العطش، وهذا الجمع نادر. والهيم: الإبل العطاش: أي ولا هي هيم.) والطعم: الطعام. يقول: لا ينال من الطعام والشراب إلا القدر الذي يقيم به جسمه، وليس يشرب للري ولا يأكل للسمن، شأنه في ذلك شأن الحكماء الزهاد. قال حكيم: الناس يحبون الحياة ليأكلوا، وأنا آكل لأحيا.
(١٧٤) لك أن تنصب «الصدق» على المفعولية، وأن تجره على الإضافة تشبيهًا بالحسن الوجه. والضمير من «فيه» للصدق. والسر: ما يسره الإنسان، والعلن: ضده. يقول: هو يقول الحق والصدق وإن كان فيه ضرر عليه، ولا يضمر خلاف ما يظهر رئاء الناس وإنما سره وعلنه سواء.
(١٧٥) فصل الحكم: قضاه وقطع به. وعيي بالأمر: إذا عجز عنه. والساهي: الغافل. والذهن: الفطن الذكي. يقول: هو يفصل برأيه وعلمه الحكم الذي عجز عنه السابقون، ويظهر حق الخصم الغبي على الخصم الذكي.
(١٧٦) جدي الخصيب: مبتدأ وخبر، والجملة: مقول القول. و«عرفنا»: جواب «لو». يقول: إن أفعاله الكريمة تدل على كرم أصله وتقوم له مقام النسب، حتى لو لم يقل: جدي فلان لكانت أفعاله كافية في الدلالة عليه، كما يستدل بالغصن على الأصل. وهذا المعنى من قول بعضهم:
وَإذَا جَهلْتَ مِنِ امْرئِ أَعْرَاقَهُ وَأُصُولَهُ فَانْظُرْ إلى مَا يَصْنَعُ
ومثله قول أبي تمام:
فُرُوعٌ لا تَرِفُّ عَلَيْكَ إلَّا شَهِدْتَ بها على طِيبِ الْأُرُومِ
(رف النبات: اهتز نضارة. والأروم — بفتح الهمزة — الأصل، وبضم الهمزة: جمع.)
(١٧٧) العارض: السحاب المعترض في الأفق. والهتن: الكثير الصب، مثل الهطل. يقول: هو جواد ابن آباء أجواد. هذا، وقد عيب لفظ «هتن» على المتنبي؛ لأنه يقال: سحاب هاتن ولا يقال هتن، ولكن جاء به قياسًا على «هطل» وهو من النوادر. وقال العكبري: وقد عاب قوم أيضًا هذا البيت على المتنبي وقالوا: من العي تكرار اللفظ، قال: فسمعت شيخي أبا الفتح نصر بن محمد الوزير الجزري يقول: إن كان هذا عيبًا فحديث النبي ﷺ أصله فقد قال صلوات الله عليه: «يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم.» وإنما تُكرر الألفاظ لشرف الآباء.
(١٧٨) المغار: الحبل المحكم الفتل. والقرن: الحبل يقرن به البعيران. ومن مغار: في موضع حال من قرن مقدمة، وفي قرن: في موضع المفعول الثاني لصيرت. يمدحهم بكثرة التجارب والعلم بالدنيا، يقول: إن آباءه قد أحاطوا علمًا بأحوال الدنيا — ماضيها وغابرها — حتى كأن وصلوا أولها بآخرها. وقال ابن جني: هذا مثل ضربه، يريد أنهم ضبطوا العلم وقيدوا به الأحكام والشرائع، فيكون تقدير أول الدنيا: أول أحكام الدنيا؛ أي الأحكام التي تكون في الدنيا وتجري فيها، والمعنى أن آباءه كانوا علماء. وقال ابن فورجه: مدحهم برواية الحديث، يعني أنها ضابطون للأيام عارفون بالأخبار. وما ذكرناه أولًا هو الأظهر، يدل عليه البيت التالي.
(١٧٩) هذا تأكيد لما في البيت السابق. و«كان» هنا تامة، بمعنى الحدوث والوقوع، ومن ثم تكتفي بالفاعل. يقول: إنهم — لعلمهم بأحوال الدنيا والأمور بما سلف من شئون الأزمنة المتقدمة، كأنهم وجدوا في تلك الأزمنة فولدوا قبل الزمان الذي ولدوا فيه، أو كأن فهمهم كان موجودًا في الأيام التي لم يكن موجودًا فيها فاطلعوا على ما كان في تلك الأيام.
(١٨٠) يقال: خطر الرجل يخطر: إذا مشى متبخترًا. والجنن: جمع جنة، وهي كل ما استترت به من سلاح ونحوه. يقول: يمرون على أعدائهم متبخترين وعليهم من المحامد ما يقي أعراضهم من الذم أكثر مما يقي السلاح. هذا، ونصب «الخاطرين» بمضمر: أي أذكر، أو أمدح، ونحو ذلك.
(١٨١) الغضن: تكسر الجلد. يقول: إنه يقبل على الزائرين إقبالًا يفرحون به فيزول حزنهم وتنبسط وجوههم، والمسرور يكون بشًّا طلقًا، والمحزون يكون منزوي جلدة الوجه.
(١٨٢) يقول: إن عطاياه عمَّت القريب والبعيد فهي تسافر وتصل إلى من نأى عنه، فكأنها تؤخذ من راحتيه في أرض الروم واليمن كما تؤخذ في داره، والحاصل: أن ماله يقرب من القاصي قربه من الداني. قال الشراح: وأما ذكره هذين الإقليمين دون غيرهما فلما بينهما من البعد، فإقليم الروم هو القريب منه، واليمن هو البعيد عنه؛ ليطابق بين القرب والبعد، وإن عطاءه يعم القريب والبعيد.
(١٨٣) المزن: جمع مزنة؛ السحابة البيضاء أو ذات الماء. اللثق: الوحل الذي يصير من أثر الماء بعد امتزاجه بالتراب. يقول: لم نفقد بوجودك من السحاب سوى الوحل الذي يكون من مائه، ولا من البحر غير ركوب السفن والتعرض لعواصف الرياح، يعني أن الممدوح سحاب وبحر، ولكن نفعه خالص لا يشوبه ما يكدره. قال العكبري: وقوله: بك. بمعنى «فيك». وحروف الجر يقوم بعضها مقام بعض.
(١٨٤) يقول: ولم نفقد بوجودك من الأسد وشجاعته وإقدامه إلا قبح منظره، ولا من كل شيء آخر إلا كل ما كان غير حسن؛ يعني أن جميع محاسن الدنيا مجتمعة فيك، وجميع المقابح منفية عنك.
(١٨٥) الاحتباء: أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بعمامته أو بحمائل سيفه أو نحو ذلك، وقد يحتبي بيديه، والاسم: الحِبوة، والحُبوة. والحبوة: الثوب الذي يحتبى به، وجمعها حِبى — مكسور الأول — وحُبى، قال ابن السكيت في «إصلاحه»: ويروى بيت الفرزدق:
وما حُلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَى حُلَمائنا ولا قائلُ المعروفِ فينا يُعَنَّفُ
بالوجهين جميعًا، فمن كَسَر كان مثل سِدْرة وسِدَرٍ، ومن ضم فمثل غُرْفَةٍ وغُرَف، وتحبى مثل احتبى، قال ساعدة بن جؤية:
أرْيُ الْجَوَارِسِ في ذُؤَابَةِ مُشْرِفٍ فِيهِ النُّسُورُ كَمَا تَحبَّى الْمَوْكِبُ
(الأري: العسل. وجرست النحل الشجر للعسل: إذا أكلته، ومنه قيل للنحل: جوارس، وفيه النسور … إلخ. يقول: استدارت النسور فيه كأنهم ركب محتبون. وفي ذؤابة مشرف: أي في أعلى الجبل.)
والأوتار: جمع وتر، وهو الثأر. والهدن: جمع هدنة، وهي السكون بين المتحاربين. يقول: مذ جلست محتبيًا للحكم بهذه البلدة استوى أمرها واستقام حتى كأن أصحاب الأحقاد قد تصالحوا وتهادنوا فزال الشر والظلم والخلاف بينهم، وذلك بعدلك وحسن سيرتك فيهم.
(١٨٦) الأطواد: جمع طود، وهو الجبل. وقرعت: من قرع الرأس، وهو ذهاب شعره. و«لا» عاملة عمل «ليس». والقنن: جمع قنة، وهي أعلى موضع في الجبل. يقول: لما مررت على الجبال عرفت أنك فوقها وأعلى منها وأرجح حلمًا — مع بعدها من التمييز — فخضعت هيبة لك، وجعل الخضوع سجودًا لما بينهما من الملابسة. وبالغ في السجود حتى جعله يتعدى الجبين إلى الرأس، وأنه يتوالى حتى يذهب ما عليها من النبت فصارت قرعاء.
(١٨٧) الصنع: الصانع الحاذق. والمهن: جمع مهنة، وهي الخدمة والتبذل في التصرف. يقول: خلت الأسواق من الصناع حتى عطلوها استغناء بعطائك عما كانوا يعملون، يعني أن مواهبك قد فشت بين الناس وعمت حتى أصاب أهل الأسواق منها ما استغنوا به عن العمل، واستغنى به الفقير عن خدمة الناس.
(١٨٨) يقول: هذا الجود الذي نشاهده منك جود من لا يأمن الدهر ويعلم أن المال للحادثات، فهو يجود به ليحوز به الحمد والأجر، وزهدك هذا زهد من علم أن الدنيا دار قلعة ومحل نقلة ودار فناء فلا يشتغل بعمارتها وجمع المال لها.
(١٨٩) هيبة: تروى: همة. والمنن: جمع منة — بضم الميم — وهي القوة. يقول: لك هيبة وعظمة في قلوب الناس لم يؤتها أحد، ولك قوة منطق ليس هناك مثلها.
(١٩٠) أوم: أصلها أومئ، حذفت الهمزة، وتروى: وأومئ، ويصح بها الوزن. و«قدست» دعاء. وجبل: تمييز، و«من» زائدة. وحضن: جبل بنجد. ومنه المثل: أتجد من رأى حضنًا، يقال للذي يبلغ حاجته وإن كان في غير بلاد نجد ولا قريبًا منها. يقول: مر من شئت وأومئ — أشر — فإنك مطاع كجبل ذي روح في ثباته ووقاره ورزانته.
(١٩١) البين: البعد والفراق، ومنا: حال من «الأجفان» مقدمة عليها. والبين: مفعول ثانٍ «لعلم» مقدم. وأجفانًا: مفعول أول، وتدمى: صفة ﻟ «أجفانًا» كأنه قال: أجفانًا دامية، وقال التبريزي: أراد أن تدمى، «فحذف» أن. يقول: إن فراق الأحبة علم أجفاننا الدامية — من طول البكاء — أن يبتعد بعضها عن بعض؛ كنى به عن إدامة السهر، كما قال:
وَفَرَّقَ الْهَجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ والْوَسَنِ
وجعل الفراق يؤلف الحزن إغرابًا في الصنعة، مثله:
تَصَارَمَتِ الأجْفَانُ لَمَّا صَرَمْتِنِي فَمَا تَلْتَقِي إلَّا عَلَى عَبْرَةٍ تَجْرِي
(١٩٢) ضمير «ساروا» للأحبة، وإن لم يتقدم لهم ذكر، لدلالة المقام. والمعصم: موضع السوار. ويلبث: يقيم. والحي: القوم النازلون والظاعنون. يقول: رجوت وتمنيت عند رحيل الأحبة أن تكشف معصمها — أي تظهره — عند ركوب الهودج ليراه القوم فيقفوا متحيرين عن المسير فأتزود من إقامتها.
(١٩٣) تاه يتيه ويتوه: ضل وتحير، وأتاهه غيره: أضله وحيره. والصون: الحفظ. وعقولهم: مفعول «صان». يقول: لو ظهرت هذه المحبوبة لهم لحيرتهم بجمال طلعتها، ولكن حجبها عنهم صون صان عقولهم عن لحظها، يعني أنها صانت نفسها عن البروز والظهور، وذلك الصون صان عقولهم عن لحظها. ولحظ: مصدر يجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل، ويجوز أن يكون مضافًا إلى المفعول: أي لو لحظوها لطارت عقولهم، أو لحظتهم لأخذت عقولهم.
(١٩٤) الباء: للتعدية. والواخدات: المسرعات. يريد: الإبل، وأصل الوخد: للنعام واستعمل في سير الإبل، وخد البعير يخدو وخدًا ووخدانًا، وهو أن يرمي بقوائمه مثل مشي النعام. والحادي: الذي يسوق الإبل بالغناء. والخدر: خدر المرأة، ما يكنها ويسترها. وخشيانًا: خائفًا. يقول: يفدي بالإبل الواخدة — المسرعة — في السفر وبحاديها وبنفسي قمر يظل في خدره خائفًا مذعورًا من سرعة سير الإبل وهزها له وهو لم يتعود السفر. وخشيانًا: يروى «حشيانا» — من الحشى، وهو تواتر النفس من تعب ونحوه، قال الشماخ:
تُلَاعِبُنِي إذَا ما شِئْتُ خَوْدٌ عَلَى الأنماطِ ذَاتُ حَشًى قَطيعِ
(خود: نعت لبهكنة في قوله:
ولوْ أنِّي أشاءُ كننتُ نفسي إلَى بيضاءَ بهكنة شموع
والبهكنة: التارة الغضة، والشموع: اللعوب الضحوك.)
(أي ذات نفس متقطع من سمنها. وقطيع: نعت لحشى، والأنماط: جمع نمط؛ ضرب من البسط له خمل رقيق.) وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «أن النبي ﷺ خرج من بيتها ومضى إلى البقيع، فتبعته — تظن أنه دخل بعض حجر نسائه — فلما أحس سوادها قصد قصدها، فعدت، فعدا على أثرها، فلم يدركها إلا وهي في جوف حجرتها، فدنا منها — وقد وقع عليها البهر والربو — فقال لها: ما لي أراك حشيا رابية»؛ أي ما لك قد وقع عليك الحشى؟ وهو الربو والبهر والنهيج الذي يعرض للمسرع في مشيته والمحتد في كلامه من ارتفاع النفس وتواتره. يقول المتنبي: إن وخدها يزعجه لشدة ترفه فيتتابع نفسه. قال العكبري: وأنكر بعض من لا يعرف اللغة على أبي الطيب لفظة «حشيان»، وقال: لم أسمعها، وكأنه لم يسمع قول الآخر — هو أبو جندب الهذلي:
فَنَهْنَهتُ أُولَى الْقَوْمِ عَنْهُم بِضَرْبَةٍ تَنَفَّسَ مِنْهَا كُلُّ حَشْيَانَ مُحْجَرِ
(١٩٥) نضا عنه الثوب: خلعه وألقاه. ويكسا: بمعنى يكتسي، يقال: كسوته ثوبًا أكسوه، وكسا يَكسا فهو كاسٍ: إذا اكتسى. يقول: إذا خلع الثياب عريت من محاسنه؛ لأنه يزين الثياب بحسنه، وإذا عرى عن الثوب كان مكسوًّا بالحسن.
(١٩٦) الأعكان: الأطواء في بطن الجارية من السمن، وهي جمع عكن، جمع عكنة، وتعكن بطن الجارية. يقول: إن المسك يحبه كالمستهام به، ويلتف عليه حتى يصير المسك أعكانًا على أعكان بطنه.
(١٩٧) يقول: كنت أشفق — أخاف — على عيني من البكاء، أما وقد افترقنا فقد هان علي كل عزيز لبعدكم، يعني أن يهون عليه فقد البصر في البكاء على فراقهم، وهذا منقول من قول أبي نواس في الأمين:
وَكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ فَلَمْ يَبْقَ لي شَيْءٌ عَلَيْهِ أُحَاذِرُ
وأخذه أبو نواس من قول امرأة من العرب:
كُنْتَ السَّوَادَ لِنَاظِري فَعَلَيْكَ يَبْكِي النَّاظِرُ
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ
(١٩٨) البوارق: السحاب ذوات البرق. والأخلاف: الضروع، واستعار للمياه أخلافًا؛ لأنها تغذو النبات كما تغذو الأم بالإرضاع ولدها. يقول: إذا برقت السحائب بشرتكم بالفطر — المطر — فهي تهدي إليكم الماء وتنبت لكم الكلأ، وتهدي للمحب نيرانًا، أي تذكي نيران شوقي؛ لأنها تلمع من جانبكم الذي ارتحلتم إليه فيتجدد بها شوقي.
(١٩٩) قدمت — بفتح الدال — تقدمت، وبكسرها: وردت. وشيعني: تبعني. وأسلاكم مثل أسلوكم. يقول: قلبي يتبعني ويطيعني في كل هول إلا على السلو، فإنه لا يطيعني وإنما يخونني. وفيه نظر إلى قول البحتري:
أَحْنُو عَلَيْكِ وَفِي فُؤَادِي لَوْعَةٌ وَأَصُدُّ عَنْكِ وَوَجْهُ وُدِّي مُقْبِلُ
وَإِذَا طَلَبْتُ وِصَالَ غَيْرِكِ رَدَّني وَلَهٌ عَلَيْكِ وَشَافِعٌ لَكِ أَوَّلُ
(٢٠٠) الصفح: الإعراض. والإهوان: الإهانة، أخرجه على الأصل للضرورة، كما قال الآخر:
صَدَدْتَ فَأَطْوَلْتَ الصُّدُودَ وَقَلَّمَا وِصَالٌ عَلَى طُولِ الصدود يَدُوم
(يريد: فأطلت فجاء به على الأصل.) يقول: إذا ظهرت لمن يذكرني بالسوء في غيبتي عظمني وخضع لي، وأنا أعرض عن عتابه إعراضًا عنه واحتقارًا له؛ لأنه لا يقدر أن ينظر إليَّ في حضرتي.
(٢٠١) يقول: وكنت وأنا في وطني وبين أهلي غريبًا قليل المرافق والمساعد. ثم قال: وكذلك النفيس العزيز غريب حيث كان، ولو في وطنه وبين أهله؛ لأن هذه الغربة إنما هي لفقد النظير، لا لفقد النسيب. قال أبو تمام:
غَرَّبَتْهُ الْعُلَا عَلَى كَثْرَة الأهـْ لِ فَأَضْحَى فِي الأقْرَبِينَ جَنِيبا
فَلْيَطُلْ عُمْرُهُ فَلَوْ مَاتَ فِي مَرْ وَمُقيمًا بَهَا لمَاتَ غَرِيبَا
(٢٠٢) محسد: خبر مبتدأ محذوف: أي أنا محسد الفضل. والمحسد: من يحسد كثيرًا. والكمي: البطل المستتر بسلاحه. وحان حينه: قرب أجله. يقول: أنا محسود الفضل في كل مكان ويكذب علي إذا قمت وخرجت من مشهد ومجمع، والشجاع إذا حان حينه لقيني في المعركة. فقوله: مكذوب على أثري: أي يكذب علي أعدائي على أثري وخلفي ووقت خروجي من محفل، وهو من قول البرج التغلبي:
يَغْتَابُ عِرْضِي خَاليًا وَإذَا تَلَاقَيْنَا اقْشَعَرْ
وقال سويد بن أبي كاهل:
وَيُحَيِّينِي إذَا لَاقَيْتُهُ وَإذَا يَخْلُو لَهُ لَحْمي رَتَعْ
(٢٠٣) اشرأب إلى الشيء: تطلع نحوه. ومن كلمة لعائشة رضي الله عنها: «اشرأب النفاق وارتدت العرب.» قال أبو عبيد: اشرأب: ارتفع وعلا وكل رافع رأسه مشرئب، وأنشد لذي الرمة يصف الظبية ورفعه رأسها:
ذَكَرْتُكِ إذْ مَرَّتْ بِنَا أُمُّ شَادِنٍ أَمَامَ الْمَطَايَا تَشْرَئِبُّ وَتَسْنَحُ
وحسران: فعلان من الحسرة، يقول: لا أتطلع إلى ما لم يفت من الدنيا، ولا أتحسر على ما فات؛ أي لا أبالي بالدنيا، فلا أتطلع إلى شيء، ولا أتحسر على شيء، وفيه نظر إلى قول الآخر:
إنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي يَرْضَى بِعِيشَتِهِ لَا مَنْ يَظَلُّ عَلَى مَا فَاتَ مُكْتَئِبَا
(٢٠٤) الحميد: المحمود. يقول: لا أسر بالشيء الذي آخذه من غيري؛ لأنه هو المحمود على إعطائه، ونفسي تأبى ذلك، ولو ملأت الدهر لي عطايا.
(٢٠٥) الركاب: الإبل. وقلقلن: حركن. والكيران: جمع كور، وهو رحل الجمل. يقول: لا أقصد أحدًا ما حييت وما حركت ركابي أكوارها، يعني ليس هناك من يستحق أن أقصده وأنتجع إليه. قال العكبري: هذا قوله وقد قصد بعد هذا جماعة، بل يشهد له آخر الشعر.
(٢٠٦) بعرانا: جمع بعير، وهو حال من «الناس». يريد بالناس: جماعة بأعيانهم كما يدل على ذلك البيت التالي. قال الواحدي: يقول: لو قدرت لأظهرت ما وراء ظواهرهم من المعاني البهيمية، وإظهار ذلك بإجرائهم مجرى سائر الحيوان بالركوب، وإنما كنت أفعل ذلك لأنه لا عقل لهم. قال الصاحب بن عباد ينقد المتنبي: أراد أن يزيد على الشعراء في ذكر المطايا، فأتى بأخزى الخزايا، قال: ومن الناس أمه، فهل ينشط لركوبها؟ وللممدوح أيضًا عصبة لا يحب أن يركبوا إليه. قال الواحدي: وليس الأمر على ما قال؛ لأن الشاعر إذا ذكر الناس فإنه يُخرج من جملتهم كثيرًا من الناس كما قال السري الرفاء:
أَلَا إنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَمَيِّتًا أَسِيرَ ثَقِيفٍ عِنْدَهُمْ في السَّلَاسِلِ
لم يفضل السري أحدًا على رسول الله ﷺ وأصحابه بهذا البيت، وإن كان قد أكد بقوله حيًّا وميتًا، على أن المتنبي خصص في البيت التالي.
(٢٠٧) العيس: الإبل البيض. وعما: متعلق بعميانا، و«عميانًا» مفعول ثانٍ لرأيت، وفاعل يراه: ضمير الممدوح. يقول: الإبل أعقل من قوم وجدتهم قد عموا عما رآه هذا الممدوح من الإحسان فلم يهتدوا لفعله، وقد ظهر بهذا البيت أنه إنما يمتطي من الناس اللئام الذي عموا عن طريق الإحسان، فلم يروا منه ما رآه الممدوح.
(٢٠٨) الجواد: السخي الذي يجود بماله. والأقران: جمع قِرن — بكسر القاف — وهو الكفء في الحرب. يقول: لا يمكننا أن نصفه في جوده بصفة فوق الجواد وإن كان لفظ الجواد قليلًا عليه، وهو الشجاع وإن كان لا يرضى له قرينًا ممن يقال لهم شجعان، يعني أنه فوق كل جواد وفوق كل شجاع، وإن قل أن يقال له: أنت الجواد وأنت الشجاع؛ إذ لا يكفي أن يوصف بما يوصف به غيره.
(٢٠٩) المعد: المهيئ الشيء لوقت الحاجة. وتقنو: أي تقتني — يقال: قنوت الشيء أقنوه قنوًا — وعزيت الرجل: سليته عن حزنه. يقول: إن ما يجمعه من المال ويقتنيه إنما يقتنيه للشعراء والوافدين، فلو أصيب بشيء من ذلك المال عزانا؛ لأن ذلك المال لنا وإن كان في يده.
(٢١٠) الأنمل: أطراف الأصابع. يقول: إن الزمان في يده وتحت تصرفه فهو يصرفه على إرادته، فكأن أنامله أزمان للأزمان لتقليبها إياها، والزمان يقلب الأحوال وأنامله تقلب الزمان، فكأنها زمان للزمان.
(٢١١) الوغى: الحرب. والقنا: الرماح. والنازلات: حوادث الدهر تنزل بالإنسان. ورحب الباع: واسع الصدر. وجذلانًا: فرحًا مستبشرًا. يقول: هو شجاع جلد يلقى الأمور الصعاب فرحًا مسرورًا.
(٢١٢) محتميًا: متوقدًا شديد الحرارة. والبشر: طلاقة الوجه وتهلله. والنشوان: السكران. يقول: لحدة قلبه وذكائه كأنه متوقد، ومن كرمه وتهلل وجهه كأنه سكران.
(٢١٣) الحبر: جمع حبرة — بكسر ففتح — وهي ثياب تعمل في اليمن. والقينات: جمع قينة وهي الجارية المغنية. ورفل في ثيابه يرفل: إذا أطالها وجرها متبخترًا. والأرسان: جمع رسن، وهو الحبل. يقول: إن جميع ما تنفقه هو من ماله، فما تلبسه الجواري وترفل فيه من ثياب الحسن فهو من جوده، وكذلك ما تجر خيلنا من الأرسان.
(٢١٤) عطشانًا: حال من «الهاء» في يبشره. يقول: من يبشره بالزوار والعفاة قبل إتيانهم يعطيه لبشارته كما يعطي من يبشره بالماء وهو عطشان، يعني: أنه يعطي القصاد، ويعطي الذي بشر بهم من قبلهم أيضًا؛ لشدة كرمه وارتياحه للبذل، ولعله ينظر إلى قول أبي تمام:
يُبَشِّرُهُ خُدَّامُهُ بِعُفَاتِهِ كَمَا بَشَّرَ الظَّمْآنَ بِالْمَاء وَاشِلُهْ
«وشل الماء وشلًا فهو واشل: سال أو قطر. وجبل واشل: يقطر منه الماء. والوشل: الماء القليل والماء الكثير، فهو من الأضداد.»
(٢١٥) الضمير في «مثلهم» عائد على القوم. والغر: جمع الأغر، وهو السيد الشريف. وعدنانا: بدل من الغر. قال ابن جني: كان الممدوح من ولد الحسن بن علي عليهما السلام. والحسنى: ضد السوءى. وقالوا: المراد بها الجنة. يقول: كانت الحسنى جزاء لهم، فإنهم في قومهم مثل قومهم في عدنان الغر. يعني أنهم خير قومهم، وقومهم خير عدنان، وهذا من قوله تعالى: فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ.
(٢١٦) يقول: إنهم حماة المجد حافظوا على شرف آبائهم وأحسابهم فلم يهدموه ولم يضيعوا شيئًا منه فهو فيهم الآن كما كان قديمًا، وأصل التشييد والإشادة إحكام البناء ورفعه، فاستعير لرفع الصوت. يقال: أشاد بذكره؛ أي رفع من قدره وأشاعه، أفرد به الجوهري الخير، وذهب غيره من أهل اللغة إلى أنه يقال: أشاد فلان بذكر فلان في الخير والشر والمدح والذم إذا شهره ورفعه. والسالف: واحد السلف، وهم الذين مضوا.
(٢١٧) قال الواحدي: هذا تفصيل ما أجمله في البيت الذي قبله؛ يعني أنهم كتاب فضلاء شجعان كآبائهم فهم فرسان الكتابة والبلاغة والحرب، وليس يريد بقوله: لقوا، ملاقاة الأقران في القتال؛ لأنه ذكر الحرب بعده، إنما يريد ملاقاة الأقران في الخطابة والمكالمة.
(٢١٨) الخرصان: جمع خرص، وهو حلقة السنان، والمراد بها هنا: الأسنة نفسها. يقول: إن أسنتهم ماضية نافذة مضاء ألسنتهم في النطق، فكأن ألسنتهم قد جعلت خرصانًا على رماحهم. فهو كما ترى أراد تشبيه الألسنة، فعكس التشبيه وحول وجه الكلام مبالغة في مضاء الألسنة وذلاقتها حتى صارت الأسنة تشبه بها، هذا منقول من قول البحتري:
وَإِذَا تَأَلَّقَ في النَّدِيِّ كَلَامُهُ الـْ مَصْقُولُ خِلْتَ لِسَانَهُ مِنَ عَضْبِهِ
(٢١٩) الظمأ: العطش. وينشقون: يشمون. والخطي: الرمح، نسبة إلى الخط، موضع باليمامة. يقول: لسهولة الحرب عليهم واسترواحهم إليها صار الموت عندهم لذيذًا كالماء للظمآن، وصارت الرماح شهية كالريحان الذي يشم، وهذا بسبيل من قول البحتري:
يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْقتَال لَدَى الْوَغَى كَتَزاحُمِ الإبِلِ الْعِطَاشِ بمَوْرِدِ
(٢٢٠) نصب «الكائنين» على «المدح» كأنه قال: أمدح، أو أعني، وأعدى العدى خبر الكائنين، وهذا مثل قول البحتري:
أخٌ لِيَ لَا يُدْنِي الَّذِي أَنَا مُبْعِدٌ لِشَيء ولا يَرْضَى الذي أَنَا سَاخِطُهْ
(٢٢١) خلائق: خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذه خلائق. والخلائق: جمع خليقة، وهي السجية. والزنج: جيل من السودان. وظمي الشفاه: دقاق الشفاه مع سمرة كأنها لم ترتوِ فتغلظ. والزنجي يوصف بغلظ الشفاه حتى شبهوها بمشافر الإبل، قال الفرزدق:
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفتَ قَرَابَتِي وَلَكِنَّ زَنْجِيًّا عَظِيمَ المَشَافِرِ
(هجا الفرزدق رجلًا من ضبة فنفاه عنها ونسبه إلى الزنج، وأصل المشفر للبعير، واستعاره للإنسان لما قصد من تشنيع الخلق. والقرابة التي بين ضبة وبينه أنه من تميم بن مر بن أد بن طابخة، وضبة هو أبو أد بن طابخة.)
وغران: جمع أغر، وهو الأبيض المشرق. والجعد من الشعر: خلاف المسترسل. يقول: إنهم قوم لهم محامد وخصال جميلة لو حواها الزنج على قبح صورهم لغطت هذا القبح، وصاروا عند الناس كمن خلقتهم خلقة حسنة، وصاروا مع سوادهم كأنهم بيض، ومع غلظ مشافرهم كأنهم ظمي الشفاه. وعبارة بعض الشراح: هذه الخلائق الشريفة لا تُعرف إلا في كرام الناس وساداتهم فلو حواها الزنج على ما يعرفون به من الخسة والهمجية لصيرتهم كرامًا بيض الجلود حسان الصور. قال ابن القطاع: قد أخذ عليه في هذا البيت قوله: «جعاد الشعر» إذ كأنه قال: لانقلبوا من الجعودة إلى الجعودة؛ لأن شعور الزنج جعاد، قال: والمعنى أنهم انقلبوا إلى حد الاعتدال؛ لأن شعور الزنج زائدة الجعودة.
(٢٢٢) أنفس: معطوف على خلائق. واليلمعي: الألمعي الحاد الفطنة. وقوله لها: أي لأجلها. وأقصوك: أبعدوك. والشنآن: البغض، يحرك ويسكن. يقول: ولهم أنفس ذكية فطنة تحبهم — أيها المخاطب — لأجلها ضرورة، ولو أبعدوك بغضًا لك. يعني أن من عادوه يحبهم، لما فيهم من الفطانة، فحبهم ضرورة.
(٢٢٣) الواضحين: نصب على المدح: أي أذكر، أو أعني، ونحوهما. والأبوة: مصدر الأب، يريد الآباء. والأجبنة: جمع جبين. والألباب: جمع لب؛ العقل. يقول: هم معروفو الآباء، وأنسابهم طاهرة، ووجوههم حسنة جميلة — أو متهللة — كرمًا، مشرقو العقول والأذهان. يقال: فلان واضح الجبين؛ إذا كان حسن المنظر بهيًّا، كما قال ابن غنمة:
كأنَّ جَبِينَهُ سَيفُّ صَقيلُ
(٢٢٤) الجحفل: الجيش العظيم. وأحدانا: جمع واحد، وأصله: وحدان. يقول: أنت تصيد الجيش كله والليث يصيد الناس واحدًا واحدًا، فأنت أشد بطشًا من الليث.
(٢٢٥) كل وقت: مبتدأ، خبره: وقت نائله، والجملة: صفة لواهبًا. والنائل: العطاء. الوُهَّاب: جمع واهب، وقد روي بفتح الواو، صيغة مبالغة. يقول: إن الأجواد يجودون الحين بعد الحين، وأنت جواد تجود كل الأوقات.
(٢٢٦) السبك: الإذابة والإفراغ. ومكرمة: مفعول ثانٍ لسبك — على تضمينه معنى حول — والمكرمة: فعل الكرم. يقول: إنه سبك أمواله وأحالها مكارم، ثم جعلها في أيدي العفاة فكأنه اتخذهم خزانًا لأمواله. وعبارة الواحدي: سبك الأموال؛ أي جمعها وصفاها واستخلصها، ثم اتخذ السؤال خزانًا مكرمة، أي سلمها إليهم كما يسلم المال إلى الخازن، وهذا من قول البحتري:
جُمَلٌ مِنْ لُهًا يُشَكِّكْنَ في الْقَوْمِ أهمْ مُجْتَدُوه أمْ خُزَّانُهْ؟
(اللها: جمع لهوة؛ العطية، وقيل: أفضل العطايا وأجزلها.)
(٢٢٧) أخليت: يروى بالبناء للمجهول — أي وجدت خاليًا — ويروى بفتح الهمزة: أي صادفت مكانًا خاليًا، كما يقال: أكذبته؛ أي صادفته كذابًا، وأجبنته: صادفته جبانًا. والمرتقب: الرقيب. يقول: لست تفعل في الخلا ما لا تفعله في الملا، وفي السر ما لا تفعله في العلن، فلك من نفسك رقيب عليك. وهذا ينظر إلى قول عبد الله بن الدمينة:
وَإنِّي لَأَسْتَحْيِيك حَتَّى كَأَنَّمَا عَلَيَّ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مِنْك رَقَيبُ
(٢٢٨) يقول: لقد بلغت الغاية في الكرم، فلو أني استزدتك كرمًا كنت جاهلًا محلك من الكرم، وكنت كمن نبه يقظان واليقظان لا ينبه، كذلك أنت لا تستزاد كرمًا. قال العكبري: إنما قال: نام ولم يقل نمت؛ لأنه لما كان في الضمير ذم لم يرده إلى نفسه، وهذا من أدق ما في شعره وأدله على حكمه واستيلائه على قصب السبق في شعره، ولو تأملت شعره لوجدت فيه كثيرًا من هذا، وإذا كان في الضمير مدح أعاده إلى نفسه، ألا ترى إلى قوله:
وَإني لَمِنْ قَوْمٍ كأنَّ نفُوسَنَا
فأعاد الضمير إليه ولم يقل: «نفوسهم»، وهذا من البلاغة والحذق.
(٢٢٩) باهيت: فاخرت. والسخط: ضد الرضا. ورضوانًا مصدر، يقال بكسر الراء وضمها. يقول: مثلك من أفاخر الكرام به؛ لأنهم يقصرون عن مدى مكارمه، ومثلك يرد الساخط على الأيام راضيًا، بإحسانك وإنعامك.
(٢٣٠) قال ابن جني: لا يعجبني قوله: سوَّاك؛ لأنه لا يليق بشرف ألفاظه، ولو قال: أنشاك أو نحوه لكان أليق. قال العروضي: سبحان الله! أتليق هذه اللفظة بشرف القرآن، ولا تليق بلفظ المتنبي؟ قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وقال: بَشَرًا سَوِيًّا وقال: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ وقال: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا. قال ابن فورجه: قرأت على أبي العلاء المعري ومنزلته في الشعر ما قد علمه من كان ذا أدب، فقلت له يومًا في كلمة: ما ضر أبا الطيب لو قال مكان هذه الكلمة كلمة أخرى أوردتها فأبان لي عوار الكلمة التي ظننتها، ثم قال لي: لا تظنن أنك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها، فجرب إن كنت مرتابًا، وها أنا أجرب ذلك منذ هذا العهد، فلم أعثر بكلمة لو أبدلتها بأخرى كان أليق بمكانها. وليجرب من لم يصدق يجد الأمر على ما أقول.
(٢٣١) جنح الليل — بضم الجيم وكسرها — طائفة منه. وجنوح الليل: إقباله. وجنه الليل وأجنه: ستره. يقول: إذا أبصرنا نور وجهك ظننا أن النهار باقٍ لم يزل، مع أن الليل قد أظلم.
(٢٣٢) يقول: إن كنا إنما نبقى في هذا البستان رغبة في البستان فسر منه، فكل مكان كنت فيه فهو بستان بك.
(٢٣٣) قد تقدمت قطع أخرى في هذه البطيخة.
(٢٣٤) من رفع «الخمر» عطفه على «أنا»، ومن نصب: جعل الواو بمعنى «مع»، وإعراب بطيخة: إعراب الخمر، وأنشدوا:
يَا زِبْرِقَانُ أَخَا بَنِي خَلَفٍ مَا أنْتَ وَيْبَ أبيكَ وَالْفَخْرُ
(للمخبل السعدي، وبعده:
هَلْ أَنْتَ إلَّا في بَنِي خَلَف كَالإسْكَتَيْنِ عَلَاهُمَا البظْرُ
ومعنى ويب أبيك: التصغير له والتحقير. وبنو خلف: رهط الزبرقان بن بدر. يقول: من ساد مثل قومك فلا فخر له في سيادتهم، وشبههم إذا اجتمعوا حوله بالبظر بين الإسكتين والإسكتان — بكسر الهمزة — جانبا الفرج، والشاهد رفع الفخر.)
وقال الهذلي:
فَمَا أَنَا وَالسَّيْرَ فِي مَتْلَفٍ يُبَرِّحُ بالذَّكَر الضَابِطِ
(المتلف: المفازة. والتبريح: المشقة، وأراد بالذكر جملًا؛ لأن الذكر أقوى من الناقة. والضابط: القوي. يقول: ما لي أتجشم المشاق بالسير في الفلوات الملتفة، والشاهد نصب السير «انظر: «شرح ابن يعيش للمفصل» باب المفعول معه».)
وقد جعل غلاف البطيخة قشرًا لها. والخيزران، قال ابن سيده: نبات لين القضبان، أملس العيدان لا ينبت ببلاد العرب، إنما ينبت ببلاد الروم، ولذلك قال النابغة الجعدي:
أتَانِي نَصْرُهُمْ وَهُمُ بَعيدٌ بلَادُهُمُ بلَادُ الْخَيْزُرَانِ
وذلك أنه كان بالبادية، وقومه الذين نصروه بالأرياف والحواضر، وقيل: أراد أنهم بعيد منه كبعد بلاد الروم، وقيل: هو شجر وهو عروق القناة، والخيزران: الرماح لتثنيها ولينها. قال العكبري: والعرب تجعل العرق خيزرانة، قال شاعرهم يصف حمامة:
هَتُوفٌ دَعَتْ أُخْرَى عَلَى خَيْزُرانَةٍ يَكَادُ يُدَنِّيهَا من الأرْضِ لِينُها
هتفت الحمامة: ناحت. وحمامة هتوف: كثيرة الهتاف.
(٢٣٥) وطن نفسه للأمر: ذللها ومهدها. يقول: ما لي ولهذه البطيخة، إني مشغول عنها وعن غيرها بتوطين نفسي للضرب والطعن يوم الطعن.
(٢٣٦) كل — بالرفع — عطف على توطيني، ومن خفضه عطفه على الطعان. والنجلاء: الواسعة، وصائك: لازق، صاك به الطيب يصيك: إذا لصق به، قال الأعشى:
وَمِثْلُكِ مُعجَبَةٌ بالشَّبَابِ وَصَاكَ العَبيرُ بأَجْلَادِها
«أجلاد الإنسان وتجاليده: جسمه وبدنه؛ لأن الجلد محيط بهما، وجمع الأجلاد: أجالد، وهي الأجسام والأشخاص.» يقول: ويشغلني كل طعنة واسعة يسيل منها دم يلصق بالمطعون، ويخضب القناة من يدي إلى السنان.
(٢٣٧) بم: أي بماذا، حذف [ألف] «ما» لدخول الجار عليها، وقد سبق أن بسطنا القول في مثل ذلك. وتعلل بالشيء تلهَّى به. والسكن: الصاحب، وكل ما تسكن إليه، أما السكْن — بسكون الكاف — فأهل الدار، اسم لجمع ساكن كشارب وشرْب، أنشد الجوهري لذي الرمة:
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا عَنِ الدَّار وَالمُسْتَخْلَفِ المُتَبَدَّل
(قوله: فيا كرم: يتعجب من كرمهم. والمستخلف: المتبدل. قال ابن بري: أي صار خلفًا وبدلًا للظباء والبقر.)
يشكو الزمان يقول: بأي شيء أعلل نفسي، وأنا بعيد عن أهلي ووطني، وليس لي شيء ألهو به ولا أحد أسكن إليه؟ قال العكبري: وكتب رجل إلى امرأته من مصر، وهي ببغداد مستشهدًا بهذا البيت، فكتبت إليه: لست كما قلت، وإنما أنت كما قال صاحب هذه القصيدة:
سَهِرْتُ بَعْدَ رَحيلي وَحْشَةً لَكُمُ ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَرِيرِي وَارْعَوَى الْوَسَنُ
(انظر هذا البيت في هذه القصيدة.)
(٢٣٨) يقول: إن همته أعلى من أن يكون في وسع الزمان البلوغ إليها، وهو يتمنى على الزمان أن يبلغه همته. قالوا: ويجوز أن يكون المعنى: أطلب من الزمان استقامة الأحوال، والزمان لا يبلغ هذا من نفسه؛ لأنه لا يثبت على حال. ويجوز أن يريد أنه يطالب الزمان بأن يخليه من الأضداد، والزمان ليس يبلغ هذا من نفسه، فإن الليل والنهار كالمتضادين. ويجوز أن يريد: إني أقترح على الزمان الاستبقاء وهو لم ينل في نفسه البقاء، فيكون قد ألم بقول البحتري:
تُنَابُ النَّائِبات إذَا تَنَاهَتْ وَيَدْمُرُ فِي تَصَرُّفِهِ الزَّمَانُ
(٢٣٩) يقول: ما دمت حيًّا فلا تبالِ بالزمان وصروفه ونوائبه، فإنها تزول ولا تبقى، والذي لا عوض منه إذا فات هو الروح فقط.
(٢٤٠) هذا توكيد للذي قبله. يقول: لا تبالِ بما يحدثه لك الدهر، فإن المفروح به لا يدوم فرحه؛ لأنه لا يدوم، والحزن على الغائب لا يرده إليك. هذه رواية الواحدي، وتبعه العكبري، وعلى هذا فسرور: مضاف إلى ما بعده، قال بعضهم: وهو من التجوزات المستقبحة في الوزن، ومن ثم قال ولعل الأظهر:
فَمَا يُدِيمُ سُرُورٌ مَا سُرِرْتَ بِهِ
قال: وهو ما يقتضيه التطابق بين شطري البيت. يقول المتنبي: سرورك بالشيء لا يديمه عليك؛ لأن كل شيء زائل، فكذلك حزنك عليه بعد زواله لا يرده؛ لأن ما فات لا يعود.
(٢٤١) يقول: مما أضر بالمحبين أنهم أحبوا قبل أن يعرفوا الدنيا ويفطنوا لها ولأهلها وما طبعت وطبعوا عليه من الغدر وعدم الإسعاف والمؤاتاة، ولو هم فطنوا لذلك ما أحبوا ولا أضاعوا أيامهم وأضنوا أنفسهم في سبيل من لا يستحق ذلك منهم. قال العكبري: وهو من قول الحكيم: العشق ضرورة داخلة على النفس، والعاشق جاهل بتلك الضرورة. وقول الواحدي: يعني بأهل العشق الذين يعشقون الدنيا: تخصيص لا معنى له، وتعميمه أنسب.
(٢٤٢) دمعًا مفعول لأجله، وأنفسهم: مبتدأ خبره ما بعده، والجملة حال. يقول: يبكون حتى تفنى عيونهم بالبكاء وأنفسهم بالحزن على كل مستحسن في الظاهر قبيح عند الاختبار. قال الواحدي — وتبعه العكبري: يريد بذلك الدنيا ومتاعها. قال العكبري: وأحسن من هذا كله قول أبي نواس:
إذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَاب صَديقِ
(٢٤٣) تحملوا: أي ارتحلوا. والناجية: الناقة المسرعة. والبين: البعد والفراق. وعليَّ: متعلق بمؤتمن. قال ابن جني: هذا تشبيب من يضمر في نفسه عتبًا وموجدة، يقول — لمن شبب بهم بعد الذي ذكره من حال العاشق والمعشوق: ارتحلوا عني فإن الفراق اليوم — أي بعد اختباري لأحوال الدنيا وأهلها — مؤتمن علي، أي أرضى بحكمه ولا تضرني غائلته، يعني لا أحزن لفراقكم. وقوله: حملتكم كل ناجية دعاء بالبعد، وفي الكلام تعريض لا يخفى.
(٢٤٤) الهودج: مركب النساء. والمهجة: الروح. يقول: لستم أهلًا لأن تبذل فيكم الأرواح شوقًا إليكم ومحبة لكم. فلستم تعوضونني روحًا غيرها إذا أتلفتها.
(٢٤٥) الناعون: جمع ناعٍ، وهو الذي يأتي بخبر الميت، وأصله أن العرب كانت إذا مات منها من له قدر جليل ركب راكب فرسًا وجعل يسير ويقول: نعاء فلانًا أي انعه، أي أظهر خبر وفاته، قال الكميت:
نَعَاءِ جُذَامًا غَيْرَ مَوْتٍ وَلَا قَتْلٍ وَلكِنْ فِرَاقًا لِلدَّعَائِم والْأَصْلِ
(يقول الكميت هذا منكرًا على جذام انتسابها إلى عدي بن عمرو بن سبأ ومؤاخاتها للخم بن عدي بن عمرو، والكميت من أسد بن خزيمة بن مدركة، وكان متعصبًا لمضر وهاجيًا لليمن، وجذام فيما يزعم بعض النسابين قبيلة من ولد أسد بن خزيمة لحقوا باليمن وانتسبوا إليهم، فقال الكميت محققًا لذلك: انع جذامًا غير ميتين ولا مقتولين، ولكن مفارقين لأصلهم من مضر ومنتسبين إلى غيرهم من اليمن.)
يقول: إني قد نعيت بمجلسكم على البعد، وكل أحد مرتهن بالموت لا بد له منه فلا يفرح أحد بنعي أحد.
(٢٤٦) يقول: كم قد أخبرتم بموتي وتحقق ذلك عندكم، ثم بان الأمر بخلاف ذلك فكأني كنت ميتًا ثم خرجت من القبر!
(٢٤٧) قوله: قبل قولهم: أي قبل قول الناعين. يريد أن قومًا نعوه قبل هؤلاء وأخبروا أنهم شاهدوا دفنه ثم ماتوا قبل المتنبي، أي فقد بان كذبهم فيما ادعوا.
(٢٤٨) يقول: إن أعدائي يتمنون موتي ولكنهم لا يدركون ما يتمنون. ثم ضرب لذلك مثل السفن، قال: إن السفن — يعني أهلها — تشتهي الرياح الموافقة لسيرها، ولكن الرياح كثيرًا ما تجري على غير ما تشتهي. هذا، ويجوز في كل — كما قال العكبري — الرفع والنصب؛ فالنصب بفعل مضمر، يريد ما يدرك المرء كل ما يتمنى، فلما أضمر الفعل فسره بقوله يدركه، كقولك: ما زيدًا ضربته فيختار النصب لأجل النفي ومضارعته، وهذا في لغة تميم؛ لأن «ما» عندهم غير عاملة، فتجري مجرى «لا» في نحو قول زهير:
لا الدَّارُ غَيَّرَهَا بَعْدِي الْأَنِيسُ وَلَا بِالدَّارِ لَوْ كَلَّمَتْ ذَا حَاجَةٍ صَمَمُ
(وصف زهير دارًا خلت من أهلها ولم يخلفهم غيرهم فيها، فيغيروا ما عهد من آثارها ورسومها. ويروى: بعد الأنيس: أي هي باقية الآثار كما عهدتها لم يغيرها بعد من عهدت من الأنيس فيها. والأنيس: من يؤنس به من الناس، ثم قال: وقفت بها فسألتها وناديتها بمقدار ما أسمعها لو أجابت، ولكنها لم تجب فكأن بها صممًا.)
أنشده سيبويه بنصب الدار لأجل حرف النفي، وأما أهل الحجاز فيرفعون «كل» ﺑ «ما»، لأنها عاملة عندهم كليس، ويكون الخبر «يدركه»، ومثله ما أنشده سيبويه لمزاحم العقيلي:
وقالوا: تَعَرَّفْهَا الْمَنَازِلَ مِنْ مِنَى وما كُلُّ مَنْ وَافَى مِنًى أنا عارف
(يقول: إنه اجتمع بمحبوبته في الحج فجعل يتفقدها، فقيل له: تعرفها بالمنازل من منًى — وهي حيث ينزلون أيام رمي الجمار — فزعم أنه لا يعرف كل من وافى منًى حتى يسأله عنها؛ لأنه لا يسأل عنها إلا من يعرفه ويعرفها.)
أنشده بالرفع على إرادة الهاء، وبنو تميم ينصبون «كل» على ما تقدم. والقرآن قد جاء بالحجازية في قوله تعالى: مَا هَذَا بَشَرًا وفي قراءة السبعة: مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ بكسر التاء.
(٢٤٩) العرض: ما يمدح به الرجل ويذم، وقيل: الحسب، وقيل: النفس. يقول: من جاوركم لا يقدر على صون عرضه؛ لأنه يشتم عندكم فلا تكترثون لشتمه ولا تحامون عنه، وإذا رعت النعم في أرضكم لم يدر لبنها على مرعاكم لوخامته. وهذا مثل، يريد أن نعمتكم مشوبة بالأذى فلا يهنأ آخذها حتى تزكو عنده بالشكر، وكل هذا تعريض لسيف الدولة وهجاء مر له.
(٢٥٠) الضغن والضغن: الحقد. يقول: من قرب منكم مللتموه وأبغضتموه ومن أحبكم حقدتم عليه، أي لستم تجازون المحب ولا القريب بما يستحقانه.
(٢٥١) الرفد: العطاء. والمنن: جمع منة اسم من امتن عليه إذا عدد له صنائعه. يقول: لا يخلو عطاؤكم من المن والأذى حتى يصير آخذه معاقبًا بتنغيص ما أخذه، وهذا كله تعريض — كما أسلفنا — بسيف الدولة.
(٢٥٢) اليهماء: الأرض التي لا يهتدى فيها، يقال: بر أيهم وفلاة يهماء، يذكر شدة إبعاده في الرحيل أنفة من الحال التي ذكرها. يقول: ترك الهجر بيني وبينكم فلاة بعيدة الأطراف مضلة المسالك ترى العين فيها من الأشباح وتسمع الأذن من الأصوات ما لا حقيقة له؛ لكثرة ما يخيل فيها من المخاوف. وقال سائر الشراح: يدعو بالبعد بينهم وبينه. يقول: ترك الهجر بيني وبينكم فلاة مترامية الأطراف ترى العين فيها من الأشباح وتسمع الأذن من الأصوات ما لا حقيقة له، وهو معلوم أن سالك المفاوز والقفار تخيل لعينه الأشياء ولسمعه الأصوات.
ومن هذا قول ذي الرمة:
إذَا قَالَ حَادِينَا لِيَسْمَعَ نَبأةً: صَهٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا دَوِيُّ الْمَسَامِع
«النبأة: الصوت ليس بالشديد.»
(٢٥٣) حبا يحبو: مشى على بطنه ويديه. والرواسم: الإبل التي سيرها الرسيم، وهو ضرب من السير سريع. والثفن: جمع ثفنة، مثل كلم وكلمة؛ وهي ما مس الأرض من أعضاء البعير إذا برك كالركبتين والكركرة — الزور — وإنما سميت ثفنات؛ لأنها تغلظ في الأغلب من مباشرة الأرض وقت البروك، ومنه: ثفنت يده: إذا غلظت من العمل. يقول: لطول السير في هذه اليهماء ومتابعته تبري الأرض أخفاف الإبل فتحبو على ثفناتها بعد أن كانت تسير الرسيم، وتقول الثفنات للأرض: أين ذهبت الأخفاف حتى انتقل السير عليها — على الثفنات — بعد أن كان على الأخفاف؟ وهذا تمثيل لطول السير وقوته: أي لو قدرت على السؤال لسألت.
(٢٥٤) يقول: أحلم عمن يؤذيني ما دام حلمي يعد كرمًا، فإذا كان يعد جبنًا لا أحلم، قال الفند الزماني:
وبعضُ الحلمِ عِنْدَ الجهـْ ـلِ للذِّلةِ إذعَانُ
(٢٥٥) الدرن: الوسخ. يقول: لا آخذ المال بالذل، وكل مال يحصل لي بذل تركته، ولا أستطيب شيئًا يلطخ عرضي بأخذه.
(٢٥٦) أصل المرير: الحبل الشديد الفتل، ويقال: استمر مريره على كذا إذا استحكم أمره عليه وقويت شكيمته فيه وألفه واعتاده. وارعوى: انزجر وارتدع. والوسن: النعاس. يقول: لما فارقتكم استوحشت لفراقكم حتى امتنع رقادي، أي لألفى إياكم على جفائكم، ثم قويت وتصبرت وعاد إلي النوم إذ سلوت.
(٢٥٧) بفراق مثله: أي بفراق مثل رحيلي عنكم. وقمن: خليق وجدير. يقول: إن كنت في قوم آخرين فعاملوني معاملتكم فارقتهم كما فارقتكم، وهذا تعريض بكافور، يعني إن بليت منه بود ضعيف مثل ودكم فارقته كما فارقتكم. قال الواحدي: ومثل هذه الأبيات ما نشده المبرد:
لا تطْلُبِ الرِّزْقَ بامْتِهانِ ولا تَرِدْ عُرْفَ ذِي امْتنانِ
واسْتَرزِقِ اللهَ واستعِنْهُ فإنَّهُ خيرُ مُسْتَعانِ
أشدُّ مِنْ فاقَةٍ وَجُوعٍ إغْضاءُ حُرٍّ عَلَى هَوَانِ
فإنْ نَبَا مَنزِلٌ بِقَوْم فمِنْ مَكان إلى مَكانِ
(٢٥٨) الجل: واحد الجلال، وجمع الجمع: الأجلة، وهو ما يتجلل به الفرس. والعذر: جمع عذار، وهو ما كان على خد الفرس من اللجام. والفسطاط: اسم لمصر. والرسن: الحبل. يقول: طال مقامي بمصر لإكرام مثواي هناك حتى بليت جلال فرسي وعذره ورسنه فأبدلت بغيرها. عبر عن طول المقام ببلى هذه الأشياء.
(٢٥٩) الهمام: العظيم الهمة، ومضر الحمراء — بالإضافة — هو مضر بن نزار، وإنما قيل له ذلك؛ لأن نزارًا لما مات تحاكم أولاده — ربيعة ومضر وإياد وأنمار — إلى جرهم في قسم ميراثه، فأعطى ربيعة الخيل، فسمى ربيعة الخيل فسموا ربيعة الفرس، قال القائل:
قولُوا لِقَحْطَان مِنْ ذَوِي يَمَنٍ: كَيْفَ وَجَدْتُمْ رَبيعَةَ الْفَرَسِ؟
وأعطى إياد الإبل والغنم، فسموا إياد النعم، وإياد الشمط، قالوا:
إذَا ما إيَادُ الشَّمْطِ يَوْمًا تَجَشَّمَتْ ظَنَنْتَ لَهَا صُمَّ الْجِبَال تَمِيدُ
وأعطى مضر الذهب وقبه حمراء فسموا بذلك، قال قائلهم:
إذَا مُضَرُ الْحَمْرَاءِ عَبَّ عُبَابُهَا فَمَنْ يَتَصَدَّى مَوْجَهَا حِينَ تَزْخَرُ؟!
وأعطى أنمار الحمار والأرض وما شاكلها، فسميت أنمار الحمار، وأنشدوا:
فلَو أنَّ أنمار الحمار تَناصرت لَكَانَ لها مِنْ بَيْنِ فَيدٍ إلَى هَجَرْ
«فيد: منزل بطريق مكة. وهجر: بلد بالبحرين.» واليمن ليسوا من أولاد مضر. يقول: إن كافورًا عم جوده العرب جميعًا.
(٢٦٠) تأخر — بحذف إحدى التاءين — أي تتأخر. وبعض موعده: يروى: بعض نائله. وتهن: تضعف؛ يريد أن عداته زائدة على آماله. يقول: هو ينفذ آمالي ولا يتأخر عني ما آمله، ولا يضعف رجائي عنده وإن تأخر بعض موعده، يشير إلى ما وعده به من خطة الولاية، ثم ذكر عذر تأخره في البيت التالي.
(٢٦١) الابتلاء، والامتحان: الاختبار. يقول: هو يفي بما وعد غير أنه يختبر ما ذكرت له من المودة والمحبة، فلهذا يتأخر عني ما وعدني به.
(٢٦٢) عناه الأمر: أهمه، ومنه الحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»؛ أي لا يهمه. يقول: كل من صحب الزمان اهتم بشأنه كما نهتم نحن.
(٢٦٣) تولوا: ذهبوا. والغصة: ما غصصت به من هم وحزن ونحوهما، وأصلها الشجا يغص به في الحرقدة، تقول: غصصت باللقمة وبالماء. يقول: لم ينل أحد مراده من الدنيا ولم يبلغ أمله فمات بغصته وإن سر في بعض الأحايين.
(٢٦٤) يقول: ديدن الدهر أن يعطي ثم يرجع فيما يعطي، ويحسن ولكنه لا يتم الإحسان، بل يعود فيكدره ويشوبه بما ينغصه، كما قال الآخر:
الدَّهْرُ آخِذُ ما أَعْطَى مُكَدِّرُ مَا أَصْفَى وَمُفْسِدُ مَا أَهْدَى لَهُ بِيَدِ
(٢٦٥) قال ابن جني: في «يرضَ» ضمير هو فاعل يرض، يفسره «من أعانا» وأضمره قبل الذكر على شريطة التفسير، أو تقول: إن «من أعانا» فاعل «يرض» و«أعانه» على التنازع، ويروى: لم ترض — بالتاء — والضمير لليالي. يقول: هذا الذي أعان على الدهر كأنه لم يرضَ بما يصيبني من محنه حتى أعانه علي، كما قال الآخر:
أَعَانَ عَلَيَّ الدَّهْرَ إذْ حَكَّ بَرْكَهُ كَفَى الدَّهْرُ لَوْ وَكَّلْتَهُ بِي كَافِيًا
(البرك: كلكل البعير وصدره الذي يدوك به الشيء تحته. يقال: حكه ببركه. ومن المجاز: حكت الحرب بركها بهم، قال القائل يصف الحرب وشدتها:
فَأَقْعصَتْهُمْ وَحَكَّتْ بَرْكها بِهمِ وأَعْطَتِ النَّهْبَ هَيَّانَ بْنَ بَيَّانِ
وحك الدهر بركه بهم، ووضع عليهم بركه، قال الجعدي:
وَضَعَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمْ بَرْكَهُ فأَرَاهُ لم يُغَادِرْ غَيْرَ فَلَّ)
قال ابن جني: هذا البيت — والذي قبله — أحسن ما قيل في الزمان وأن طباعه الشر، وفعل الزمان منسوب إلى القضاء، فالزمان لا يفعل شيئًا، وإنما يفعل فيه، وكذا قولهم: يوم سعيد. فاليوم لا يوصف بسعد، وإنما يوصف به من يشتمل عليه اليوم.
(٢٦٦) القناة: عود الرمح والسنان زجه الذي يطعن به. يقول: إذا انتدب الزمان للإساءة بما جبل عليه صارت عداوة المعادي مددًا لقصده نحوك، فجعل «القناة» مثلًا لما في طبع الزمان، وجعل «السنان» مثلًا للعداوة، وعبارة ابن جني — ونقلها الخطيب التبريزي: الزمان إذا أنبت قناة إنما ينبتها بالطبع ولا يشعر لأي شيء تصلح فيتكلف بنو آدم اتخاذ القناة توصلًا إلى هلاك النفوس، فالزمان يفعل ولا يشعر ما يراد به.
(٢٦٧) هذا نهي عن المعاداة والتحاسد لأجل مراد النفوس، فإن ما تريده النفوس من جاه الدنيا وحطامها أقل وأحقر من أن يعادي بعضنا بعضًا لأجله.
(٢٦٨) كالحات: عابسات. يقول: إن الحر الكريم أحب إليه الموت الكريه من أن يلقى ذلًّا وهوانًا.
(٢٦٩) يقول: لو كانت الحياة باقية لكان الشجاع الذي يتعرض للقتل أضل الناس، يعني: أن الحياة لا تبقى، وإن جبن الإنسان ولزم عقر داره وحرص على البقاء، ثم أكد هذا بالبيت التالي.
(٢٧٠) يقول: إذا كان الموت لا محيص عنه ولا ينجو منه شجاع ولا جبان، فإن الجبن إذن من ضعف الهمة وعجزها، قال خالد بن الوليد لما حضره الموت: في جسدي مائة طعنة وضربة، وها أنا قد مت حتف أنفي، فلا أقر الله أعين الجبناء.
(٢٧١) كل: مبتدأ، ومن الصعب: خبرها، وسهل: خبر ثانٍ، ويكن: تامة، وكذا «كانا» — آخر البيت — يقول: إنما يصعب الأمر على النفس قبل وقوعه، فإذا وقع سهل وهان، كما قال البحتري:
لَعَمْرُكَ ما المكْرُوهُ إلَّا ارْتِقابُهُ وأبْرَحُ مِمَّا حَلَّ ما يُتَوَقَّعُ
والأصل في هذا قول أعشى باهلة:
لا يَصْعُبُ الأمْرُ إلَّا رَيْثَ يَرْكَبُهُ وكلَّ أمْرٍ سِوَى الفحْشاء يأْتَمرُ
وبعد: فقد وفق المتنبي في هذه القطعة كل التوفيق، ولعل شيطانه ممن كانوا يسترقون السمع، فتلقى هذه الآيات من ذات الرجع — السماء — فكأنها المعنية بقول حسان بن ثابت:
وَقَافِيَةٍ عَجَّتْ بِلَيْلٍ رَزِينَةٍ تَلَقَّيْتُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ نُزُولَها
فلله دره!
(٢٧٢) القمران: الشمس والقمر. يقول: من عاداك دل بذلك على جهالته وسقطت منزلته عند الناس وعاداه كل أحد وذمه، ولو كان القمران من أعدائك لصارا مذمومين مع عموم نفعهما وارتفاع منزلتهما. قال ابن جني: هذا المدح ينعكس هجاء، يقول: أنت رذل ساقط، والساقط لا يضاهيه إلا مثله، وإذا كان معاديك مثلك فهو مذموم بكل لسان، كما أنك كذلك ولو عاداك القمران.
(٢٧٣) الهذيان: التكلم بغير معقول. قال ابن جني: هو من فصيح كلام العرب ولم يذكره الجوهري ولا ابن فارس في «مجمله». يقول: لله سبحانه سر فيما أعطاك من العلو والبسطة لا يطلع الناس على ذلك السر ولا يعلمون ما هو، وما يخوض الأعداء فيه من الكلام إنما هو نوع من الهذيان بعد أن أراد الله فيك ما أراد. قال الواحدي: وهذا إلى الهجاء أقرب؛ لأنه نسب علوه على الناس إلى قدر جرى به من غير استحقاق، والقدر قد يوافق بعض الناس فيعلو ويرتفع على الأقران، وإن كان ساقطًا باتفاق من القضاء.
(٢٧٤) يقول: هل يطلب أعداؤك دليلًا على سيادتك، وعلى أن الله يريد أن يرفع قدرك على من يعاديك بعد الذي رأوه؟ ثم ذكر ما رأوا في البيت التالي:
(٢٧٥) يقول: رأى الأعداء كل من ينطوي لك على غدر أو يضمر لك خلافًا غدرت به حياته، فهلك قبل أن ينال منك مأربًا، أو غدر به الدهر فهلك بآفة تصيبه.
(٢٧٦) شبيب هذا، هو شبيب بن جرير العقيلي، من قوم كانوا من القرامطة وكانوا مع سيف الدولة، وولي شبيب معرة النعمان دهرًا طويلًا، واجتمع إليه جماعة من العرب فوق عشرة آلاف، وأراد أن يخرج على كافور وقصد دمشق فحاصرها، فيقال: إن امرأة ألقت عليه رحى فصرعته فانهزم من كان معه بعد أن هلك، ويقال: إنه حدث به صرع من شرب الخمر، فتركه أصحابه ومضوا، فأخذه أهل دمشق فقتلوه. يقول: إنه هلك ففارق سيفه كفه، وكانا لا يفترقان على العلات — أي على كل حال.
(٢٧٧) قيس: من عدنان، واليمن: من قحطان، وكان بينهما شقاق وتنازع واختلاف. يقول: كأن رقاب الناس أغرت ما بينه وبين سيفه — لكثرة قطعه إياها — لتفرق بينهما، وقالت لسيفه: إن شبيبًا الذي يصاحبك «قيسي» وأنت «يمني» — والسيوف الجيدة تنسب إلى اليمن — ففارقه سيفه لما علم أنه مخالف له في الأصل.
(٢٧٨) يقول: إن يك شبيب قد هلك ومات، فإن الموت غاية كل حيٍّ فلا عار عليه من ذلك.
(٢٧٩) النار: خبر كان، وتثير: حال من «النار»، أو نعت لها على أن «أل» الجنسية لا تفيد تعريفًا. يقول: كان شبيب في كل موطن يلم به كالنار في إيقاد الفتنة والشر، غير أنه يثير بدل الدخان غبار الحرب. قالوا: وهذا من قول الآخر:
مَاوِيَّ يَا رُبَّتَما غارَةٍ شَعْوَاءَ كَاللَّذْعَةِ بِالمِيسَم
«غارة شعواء: فاشية متفرقة. والميسم: المكواة، أو الشيء الذي يوسم به الدواب.»
(٢٨٠) يقول: فنال حياة؛ حياة طيبة يشتهي عدوه مثلها، يعني أنه عاش في عز ومنعة، ثم مات موتًا يشهي الموت إلى الجبناء؛ لأنه كان موتًا في عافية لم يتقدمه ألم ولا مرض. هذا، ويشهي لا يتعدى إلى مفعولين إلا بحرف جر، وقد حذفه وهو يريده، فكأنه قال: يشهي الموت إلى كل جبان.
(٢٨١) أراد بالنجم: الثريا، وأراد: وقع قضاء النجم، فحذف. والدبران: قال الجوهري: خمسة كواكب من الثور — والثور: برج من بروج السماء — وهو من منازل القمر، وسمي كذلك لأنه يدبر الثريا؛ أي يتبعه. يقول: نفى عن نفسه الرماح برمحه، يعني أنه كان شجاعًا يقي نفسه برمحه، ولكنه لم يجر في حسبانه مناحس النجوم — والدبران من النحوس في حكم المنجمين وزعمهم — والمعنى: أنه دفع نحوس الأرض عن نفسه ولم يستطع دفع نحوس السماء التي قضت بحلول أجله. قالوا: وهذا خلاف قول لبيد في أخيه أربد:
أَخْشَى عَلَى أَربَدَ الْحُتُوفَ وَلَا أَرْهَبُ نَوْءَ السِّمَاكِ وَالْأَسَدِ
(انظر الكلام على «الأنواء» في «لسان العرب، مادة: نوأ.» والسماك: نجم معروف، وهما سماكان: رامح وأعزل، والكلام على ذلك مبسوط في مواضعه.)
(٢٨٢) الشواة: جلدة الرأس. وفوق شواته: خبر «أن»، ومعار: خبر ثانٍ. وروي: معار ومحسن: على أنهما حالان. يقول: ولم يدرِ أن الموت فوق رأسه كيفما توجه حتى لكأنه أعير جناحًا يحوم به فوقه يقع عليه. وعبارة الواحدي: ولم يدرِ أن الموت قد أعير جناحًا فهو يرفرف فوق رأسه ليقع عليه من علو، وذلك فيما يقال: إن امرأة أدلت على رأسه رحًى من سور دمشق.
(٢٨٣) الأقران: جمع قرن — بكسر القاف — وهو الكفء في الحرب. قال الواحدي: ذكر في قصته أنه كان يحارب أهل دمشق ويريد الغلبة عليها فسقط على الأرض وثار من سقطته، فمشى خطوات، فلما سار سقط ميتًا ولم يصبه شيء، وكثر تعجب الناس من أمره حتى قال قوم: إنه كان مصروعًا وأصابه الصرع في تلك الساعة فانهزم أصحابه، وزعم قوم أنه شرب وقت ركوبه سويقًا مسمومًا فلما حمي عليه الحديد عمل فيه السم. فهو قوله: حتى قتلته بأضعف قرن في أذل مكان، يعني في غير الحرب وميدان القتال. قال ابن جني: لما أنشد أبو الطيب هذا البيت بحضرة كافور قال كافور: لا والله إلا بأشد قرن في أعز مكان، فرواه الناس كقول كافور.
(٢٨٤) يقول: إنه مات فجاءة من غير أن يستدل أحد على موته بمرئي أو مسموع، كما قال يزيد المهلبي:
جَاءَتْ مَنِيَّتُهُ وَالْعَيْنُ هَاجِعَةٌ هَلَا أَتَتْهُ المَنَايَا وَالْقنَا قِصَدُ
«قصد: أي قطع، جمع قصدة، وهي الكسرة. وتقصدت الرماح: تكسرت.»
(٢٨٥) سلكت: أي المنايا. والجنان: القلب. يقول: لو أتته المنايا من طريق السلاح لدفعها عن نفسه بطول يده وسعة صدره، يعني أن أعداءه لو حاولوا قتله لما قدروا على ذلك؛ لأنه بطل لا يغالب.
(٢٨٦) تقصده: إما بمعنى قصده، وإما بمعنى أقصده: أي قتله. والمقدار: القدر، والمراد: القضاء، والطرفان بعده: حالان من الهاء. يقول: قصده القضاء أو أهلكه وهو بين أصحابه واثق بالحياة آمن من الموت.
(٢٨٧) التفافه: فاعل الكثير. وعلى غير: متعلق به، والالتفاف: الاجتماع، يقال: التف عليه الناس: إذا ازدحموا حوله. والاستفهام: للإنكار. يقول: إن الجيش الكثير لا ينفع من لم يكن منصورًا من قبل الله سبحانه وتعالى معانًا بتأييده، كما لم ينفع شبيبًا كثرة أصحابه.
(٢٨٨) ودى: من الدية، أي أعطى الدية، وهي ثمن الدم. والمبيت: اسم زمان يعني الليل. والجامل: اسم لجماعة الجمال، كالباقر: اسم لجماعة البقر، والعكنان: الإبل الكثيرة العظيمة، ونعم عكنان وعكنان: أي كثيرة، قال أبو نخيلة السعدي:
هَلْ بِاللِّوَى مِنْ عَكَر عَكْنَانِ أَمْ هَلْ تَرَى بالْخَلِّ مِنْ أَظْعَانِ؟
(العكر: القطيع الضخم من الإبل. والخل: الطريق النافذ بين الرمال المتراكمة.)
يقول: أدى بنفسه دية من قتل من الناس قبل دخول الليل عليه ولم يؤدِ الدية بالإبل، يريد: أنه بهلاكه كأنه اقتص منه، فكانت نفسه دية عن الذين قتلهم.
(٢٨٩) أوليته: أعطيته، والضمير لشبيب، والعائد إلى «ما» محذوف: أي أوليته إياه. وقوله: وتمسك: لك أن تعطفه على أتمسك فترفعه، ولك أن تقول: إن الواو للمصاحبة والفعل منصوب بإضمار «أن»، ومثله: ويركب — في عجز البيت التالي — والضمير من «كفرانه» للموصول — في صدر البيت — والعنان: سير اللجام. يقول: هل يمسك عاقل مثل النعمة التي أنعمت بها على شبيب ثم يمسك عنان فرسه في كفران تلك النعمة لقتال من أنعم بها عليه؟! والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ، أي لا يفعل ذلك عاقل؛ لأنه يعلم أن من قدر على الإنعام يقدر على الانتقام. وعبارة الواحدي: إن العاقل لا يجمع بين إمساك ما أعطيته من النعم وإمساك العنان في الكفران؛ لأن من كان عاقلًا لم يكفر نعمة المنعم عليه، وهذا إشارة إلى أن «شبيبًا» كفر نعمة كافور فصرعه شؤم الكفران حتى هلك. وقال ابن جني: يقول: إذا كفر نعمتك من أحسنت إليه لم يقبض يده على عنانه تخاذلًا وحيرة.
(٢٩٠) البيت عطف على ما قبله، فهو في معناه. يقول: وهل يركب عاقل مثل الكرامة التي أركبتها شبيبًا، ثم يركب حصانه لعصيان من أكرمه؟ أي لا يجتمع لأحد إكرامك ومعصيتك.
(٢٩١) ثنى يده: ردها. والبنان: أطراف الأصابع. قال ابن جني: ملئت يده بالإحسان حتى ثناها إلى ورائها كأنها كانت لما قبضت ما وهبت لم يكن لها بنان يطبقها على الموهوب فأرسلته. وقال الواحدي: إحسانك إليه رد يده عما امتدت فيه حتى كأنها وهي مقبوضة لم تبسط فيما أراد كانت بغير بنان؛ لأن القبض يحصل بالبنان، فإذا كانت اليد بغير بنان لم يحصل القبض، وكأنها مقبوضة حين لا تقدر على القبض والانبساط، ومن روى قبضت — بإسناد الفعل إلى اليد — كان المعنى أن يده، وإن كانت قابضة لما صرفت عما قصدت له، صارت كأنها بغير بنان وغير قابضة.
(٢٩٢) عند من: استفهام معناه الإنكار، وهو خبر مقدم، والوفاء: مبتدأ مؤخر؛ أي ليس عند أحد اليوم وفاء لصاحب. وشبيب: مبتدأ، وأوفى عطف عليه، وإخوان: خبر. يقول: ليس من يفي لصاحبه اليوم؛ أي لا وفاء اليوم عند أحد، فإن أوفى من ترى من الناس غادر كشبيب، فهما في ذلك إخوان في الغدر.
(٢٩٣) قال الواحدي: هذا من أجود ما مدح به ملك، يقول: قضى الله أنك أول في المكارم والمعالي ولم يسبقك أحد إلى ما سبقت إليه، ولم يقضِ أن يلحقك أحد أو يكون لك مثل فيكون ثانيك.
(٢٩٤) القسي: جمع قوس. والثقلان: الإنس والجن، أنكر عليه اختيار القسي لرمي أعدائه بها، يقول: لا حاجة لك باستجادة القسي لترمي بها أعداءك فإن أعداءك — أكانوا من الإنس أم من الجن — يرمون عن قوس سعادتك؛ أي إن قسي سعادتك ترميهم عنك فيهلكون بالآفات تصيبهم، وإذن لا تحتاج إلى اتخاذ السلاح.
(٢٩٥) عني بالشيء — بصيغة المجهول — اهتم به. والأسنة: جمع سنان. والقنا: الرماح. والجَد: الحظ، والبيت في معنى البيت الأول، يقول: لِمَ تعتني بادخار الأسنة والرماح، وحظك يطعن أعداءك فيقتلهم بغير سنان؟!
(٢٩٦) لِمْ: أي لماذا، وإسكان الميم خاص بالشعر. والنجاد: حمالة السيف، ونجاده: فاعل الطويل، وإذا وصف النجاد بالطول دل على طول حامله، والحدثان: حوادث الدهر ونوائبه، يقول: أنت مستغنٍ بحوادث الدهر عن استعمال السيف في قتل أعدائك، يشير في هذه الأبيات كلها إلى مصرع شبيب حين خرج عليه، دون أن يكون هلاكه بشيء من السلاح.
(٢٩٧) يقول: إن المقدار جار بحكمك. فإذا أردت شيئًا كان، وإذا أردت أن تعطيني شيئًا وصل إلي وإن لم تجد به، يعني أن القدر موافق لإرادته، فإذا أراد به خيرًا أتاه ذلك وإن لم يجد به عليه، وهذا من قول أبي تمام:
فالدهرُ يفعلُ صَاغِرًا مَا نأمُرُهْ
(٢٩٨) الفلك: يروى بالنصب والرفع، والنصب أجود، وهو منصوب بفعل محذوف بعد «لو» يؤخذ من لازم الفعل المذكور؛ أي لو استوقفت الفلك الدوار ونحوه. يقول: لو كرهت دوران الفلك لحدث له شيء يمنعه عن الدوران، يريد المبالغة في قوة سعده ومؤاتاة الأقدار لمراده، وهو المعنى الذي تحور إليه أكثر هذه الأبيات. قال الواحدي: هذه الأبيات ليس في معناها مثل لها. هذا، وطردًا لهذا الشرح على وتيرة واحدة ونزولًا على حكم خطتنا فيه — أن نورد كل ما أورده الشراح — نذكر هنا ما قاله العكبري النحوي الكوفي في إعراب الفلك وإن كان يغني عنه ما قلناه آنفًا، على أن أهم ما نقصد إليه من إيراد هذه المقاصد النحوية هو شرح ما يرد فيها من الشواهد وهي مزية تفرد بها شرحنا هذا. قال العكبري: يروى الفلك «بالرفع والنصب»، والنصب أجود؛ لأن «لو» تقتضي الفعل فيجب أن تضمر له فعلًا ينصبه، ويكون الفعل الذي نصب سعى المضاف إلى الضمير، وهو «أبغض» تفسيرًا للمضمر كقولك: لو أخاك أكرمت غلامه لجازاك عنه، وتقدير الفعل الناصب للفلك: لو كرهت الفلك؛ أي دورانه لأنك تقول: أنا أكره زيدًا وأنت تريد فعله، «وأبغضت» مفسر فلا موضع له من الإعراب، كقوله تعالى في قراءة الكوفيين وابن عامر «والقمرَ — بالنصب — قدَّرناه» فقدَّرنا هو الناصب للضمير وهو مفسر فلا موضع له من الإعراب، تقديره: قدرنا القمر، ومن رفع القمر فبالابتداء أو يضمر له فعل يرفعه في معنى الظاهر، والظاهر تفسير له كأنه قال: لو خالفك الفلك لعوقه شيء، وصار «أبغضت» تفسيره ودليلًا عليه كقول ذي الرمة:
إذَا ابنُ أبي مُوسَى بِلَالٌ بَلَغْتِهِ فَقَامَ بِفَأْسٍ بَيْنَ أُذْنَيْكِ جَازِرُ
(أذنيك يروى: عينيك، ويروى: وصليك مثنى وصل، وهو كل عظمين يلتقيان، وبلال هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وكان ذو الرمة كثير المدح لبلال هذا، يخاطب بهذا البيت ناقته صيدح، وقد أخذ هذا المعنى من قول الشماخ: في عرابة الأوسي يخاطب ناقته:
إِذَا بَلَّغتنِي وَحَمَلْتِ رَحْلي عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بدَمِ الوَتينِ
وجاء بعدهما أبو نواس، فكشف هذا المعنى وأوضحه بقوله في الأمين محمد بن الرشيد:
وَإِذَا الْمَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّدًا فَظُهُورُهُنَّ عَلَى الرِّجالِ حَرامُ
والأصل في هذا المعنى قول الأنصارية المأسورة بمكة وقد كانت نجت على ناقة لرسول الله ﷺ فلما وصلت إليه قالت له يا رسول الله: إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها، فقال ﷺ: «بئس ما جزيتها …» ومعنى الأبيات الثلاثة: إني لست أحتاج أن أرحل إلى غيرك فقد كفيتني وأغنيتني إلا أن الشماخ وعد ناقته بالذبح، وذو الرمة دعا أيضًا عليها بالذبح، وأبو نواس حرم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار، فهو أتم في المقصود؛ لكونه أحسن إليها في مقابلة إحسانها إليه حيث أوصلته إلى الممدوح.)
أي إذا بلغ ابن أبي موسى، ثم فسره ببلغته، وهذا فيه خلاف بيننا وبين البصريين، فإن أصحابنا يقولون: في الاسم المرفوع بعد «إن وإذا» الشرطيتين أنه يرتفع بما عاد إليه من الفعل من غير تقدير فعل، وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بتقدير فعل، والفعل المظهر تفسير له، وحجتنا أن «إن» هي الأصل في باب الجزاء ولقوتها جاز تقديم المرفوع معها فيرتفع بالعائد؛ لأن المكني المرفوع في الفعل: الاسم الأول، فينبغي أن يكون مرفوعًا به كما قالوا: جاءني الظريف زيد، وإذا كان مرفوعًا به لم يفتقر إلى تقدير فعل. وقال البصريون: إنه لا يجوز أن يفصل بين حرف الجزم وبين الفعل باسم لم يعمل فيه ذلك الفعل، ولا يجوز أن يكون الفعل هنا عاملًا فيه؛ لأنه لا يجوز تقديم ما يرتفع بالفعل عليه، فلو لم يقدر ما يرفعه لبقي الاسم مرفوعًا بلا رافع، وذلك لا يجوز، فدل على أن الاسم ارتفع بتقدير فعل. وقال الأخفش من البصريين: هو المرفوع بالابتداء.
(٢٩٩) الأزواد: جمع زاد، وهو طعام المسافر، وقوله: لأوسعناه إحسانًا، قال بعض الشراح: الأصل لأوسعنا له الإحسان: فعدى الفعل إلى الضمير ونصب إحسانًا على التمييز. يقول: هذا الذي يأكل زادي لو كان ضيفًا لي لأكثرت من الإحسان إليه؛ أي لو أتاني وقصدني ضيفًا لأحسنت إليه. وهذا كما قال أيضًا:
جَوْعَانُ يَأكلُ مِن زَادِي وَيُمسكني
قال الواحدي: ولأكل زاده وجهان؛ أحدهما: أن المتنبي أتاه بهدايا وألطاف ولم يكافئه عنها، والآخر: أن المتنبي يأكل عنده من خاص ماله وينفق على نفسه مما حمله، وهو يمنعه من الارتحال، فكأنه يأكل زاده، حين لم يبعث إليه شيئًا ومنعه من الطلب. وقال قوم: كان الأسْود قد جمع له شيئًا من غلمانه وخدمه ثم أخذه ولم يعطه شيئًا.
(٣٠٠) يقول: نحن في الظاهر أضيافه لأنا أتيناه، غير أنه لا يعطينا قرًى غير الزور والبهتان والمواعيد الكاذبة.
(٣٠١) يقول متمنيًا: ليته أطلقنا! ثم قال: أعانه الله على تخلية طرفنا وإطلاقنا، وأعاننا الله على الذهاب والرحيل من عنده. هذا، والسبل جمع سبيل. والسبيل: الطريق، يذكر ويؤنث. وفي التنزيل العزيز: وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فذكر، وفيه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ فأنث.
(٣٠٢) بلبيس: هو ذلك البلد الذي بمصر. والمسعاة: المكرمة والمعلاة في أنواع المجد والجود، والعرب تسمي مآثر أهل الشرف والفضل: مساعي، لسعيهم فيها كأنها مكاسبهم وأعمالهم التي أعنوا فيها أنفسهم. وسعى: إذا عمل وكسب، وكل من ولي شيئًا فهو ساعٍ، ومنه السعاة، وهم ولاة الصدقة وعمالها الذين يأخذونها من الأغنياء ويردونها في الفقراء. وسعى عليها: أي عمل عليها. قال عمرو بن العداء الكلبي في عمرو بن عتبة بن أبي سفيان — وكان معاوية قد استعمله على صدقات كلب فاعتدى عليهم:
سَعَى عِقالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْن؟!
لَأَصْبَحَ الْحَيُّ أوْبَادًا وَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ التَّفَرُّق فِي الْهَيْجَا جِمَالَيْنِ
(العقال: زكاة عام من الإبل والغنم، ونصب «عقالًا» على الظرف، أراد مدة عقال. والسبد: الوبر. وقيل: الشعر، العرب تقول: ما له سبد ولا لبد: أي ما له ذو وبر ولا صوف متلبد، يكنى بهما عن الإبل والغنم. والأوباد: جمع وبد، ورجل وبد فقير سيء الحال، وقوله: جمالين، يريد: قطيعين من الجمال، وأراد جمالًا ها هنا وجمالًا ها هنا، وذلك أن أصحاب الإبل يعزلون الإناث عن الذكور.)
وتقرر: جواب الدعاء، وقال العكبري: أراد لتقرر، على الأمر، فحذف اللام، كبيت الكتاب:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ إذَا ما خِفْتَ مِنْ أَمْرٍ تَبَالا
(التبال: سوء العاقبة، وهو بمعنى الوبال، فكأن التاء بدل من الواو: أي إذا خفت وبال أمر أعددت له، وهذا البيت قيل لحسان بن ثابت، وقيل: لأبي طالب عم رسول الله ﷺ وقيل: للأعشى، وقيل: قائله مجهول. وعبارة سيبويه: واعلم أن هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة، وكأنهم شبهوها ﺑ «أن» إذا عملت مضمرة، وأنشد هذا البيت والذي بعده. قال الأعلم: وهذا من أقبح الضرورات؛ لأن الجازم أضعف من الجار وحرف الجار لا يضمر.)
وكقول الآخر:
عَلَى مِثْلِ أصْحَابِ الْبَعُوضَةِ فَاخْمُشِي لَكِ الْويْلُ حُرَّ الْوَجْهِ أَوْ يَبْكِ مَنْ بَكَى
(البيت لمتمم بن نويرة، والبعوضة هنا: موضع بعينه قتل فيه رجال من قومه فحض على البكاء عليهم. ومعنى اخمشي: الطمي وقطعي، وبابه ضرب ونصر. وحر الوجه: مفعول اخمشي، وهو ما بدا من الوجه، أراد: ليبكِ، فحذف اللام.)
وقرت عينه تقر: هذه هي اللغة الأعلى، أعني فعلت تفعل وزان طربت تطرب، ومعناها: بردت وانقطع بكاؤها واستحرارها بالدمع، وذلك كناية عن السرور؛ لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة. يقول: جزى رب العرب التي أمست بهذه البقعة جزاء يقابل مسعاتها لتقر عيونها بذلك الجزاء.
(٣٠٣) كراكر: بدل من عرب. والكراكر: الجماعات. الواحد: كركرة — بكسر الكاف — وهي الجماعة من الناس، وقيس بن عيلان: قبيلة، وساهرًا: نعت سببي لكراكر، وجفون ظباها: فاعل ساهر. والظبا: جمع ظبة، وهي حد السيف، والمراد: السيوف أنفسها. وجفون: جمع جفن وهو الغمد. يقول: هؤلاء العرب جماعات من قيس لا تزال جفونهم ساهرة في طلب العلا وجفون سيوفهم خالية من نصالها؛ لأن سيوفهم لا تزال مسلولة. قال ابن جني: لما وصف جفونهم بالسهر في طلب العلا وصف جفون سيوفهم بالسهر لتجانس القول، يريد أنها قد فقدت نصولها، فكأنها ساهرة مع جفون عيونه في طلب المعالي والفخار، فاستعار لها السهر لما ذكر جفون العين. وقد ألم بهذا بعض المحدثين فقال:
وَطَالَمَا غَابَ عَنْ جَفْنِي لِزَوْرَتِهَا وَجَفْنِ سَيْفِي غِرَارُ السَّيْفِ وَالْوَسَنُ
(٣٠٤) الضمير في «به» يعود على الجزاء. والغيث: المطر. والمعين: الماء الجاري. يقول: وخص بهذا الجزاء هذا الرجل الذي هو أفضلهم وسيدهم، فهو بينهم كالغيث وكالمعين، لا حياة لهم بدونه. وغيثها: رواها العكبري: «عينها»، قال: والعين من الشيء خيره وأفضله.
(٣٠٥) القبيل: الجماعة. والحلة: الجماعة يحلون بالمكان. يقول: هو زين عشيرته ورهطه وإن تباعدوا عنه في النسب؛ أي إنه زين عشيرته — القريب منها والبعيد — أما غيره من السادة فليس بهذا الصفة.
(٣٠٦) المغاني: جمع مغنًى، والمغنى: المنزل الذي غنى — أقام — به أهله ثم ظعنوا عنه. والشعب: المنفرج بين جبلين، والمراد هنا: شعب بوان، وهو موضع عند شيراز، كثير الشجر والمياه، يعد من جنان الدنيا. قال أبو بكر الخوارزمي: متنزهات الدنيا أربعة مواضع: غوطة دمشق، ونهر الأبلة، وشعب بوان، وصغد سمرقند. وطيبًا: تمييز. يقول: منازل هذا المكان في المنازل كالربيع في الأزمنة، يعني أنها تفضل سائر الأمكنة طيبًا كما يفضل الربيع سائر الأزمنة. هذا، وقد قال ابن جني في إعراب «طيبًا»: الشاميون ينصبون طيبًا بإضمار فعل: أي تزيد طيبًا، أو تطيب طيبًا، كقولك: زيد سيرًا؛ أي يسير سيرًا، والبغداديون يرفعونه ويمنعون من نصبه، أو من نصبه فعلى التمييز؛ لأنه ليس ثم فعل، ولو كان ثم فعل لجاز تقديمه منصوبًا، كقول الآخر:
أتهجُرُ سَلْمَى بالْفِرَاقِ حَبِيبَهَا وَمَا كَانَ نَفْسًا بِالفِرَاقِ تَطِيبُ
قال: ووجه الرفع أن المغاني: مبتدأ. وطيب: خبره.
(٣٠٧) يعني بالفتى العربي: نفسه. يقول: إني بها غريب الوجه في عيون أهلها؛ إذ لا يعرفني أحد هناك، أو لأنه أسمر اللون، إذ غالب ألوان العرب السمرة، وأهل الشعب شقر الوجوه، وغريب اليد: أي لا ملك له في هذه البقعة، فيده أجنبية فيها؛ أو لأن سلاحه الرمح ويده تستعمل الرمح، أما أسلحة أهل الشعب التي يستعملونها بأيديهم فهي الرايات والمزاريق، أو لأنه يكتب بالعربية وهؤلاء يكتبون بالفارسية، وغريب اللسان: لأن لغتي العربية وهؤلاء عجم لا يفصحون.
(٣٠٨) الجنة: الجن، وترجمان — بفتح التاء وضمها — قال الواحدي: جعل الشعب — لطيبه وطرب أهله — ملاعب، وجعل أهله جنة — جنًّا — لشجاعتهم في الحرب. والعرب إذا بالغت في مدح شيء نسبته إلى الجن، كقول الشاعر:
بِخَيْلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَريَّة
وأخبر أن لغتهم بعيدة عن الأفهام حتى لو أن سليمان أتاهم لاحتاج إلى من يترجم له عن لغتهم مع علمه باللغات وفهمه قول الحكل (الحكل من الحيوان: ما لا يسمع له صوت كالذر والنمل، قال:
وَيَفْهَمُ قَوْلَ الحُكْل لَو أَنَّ ذَرَّةً تُسَاوِدُ أُخْرَى لَمْ يَفُتْهُ سِوَادَهَا
وقيل الحكل: العجم من الطيور والبهائم، قال رؤبة بن العجاج — وكان قد نزل ماء من المياه فأراد أن يتزوج امرأة، فقالت له المرأة: ما سنك ما مالك ما كذا؟ فأنشأ يقول:
لَمَّا ازْدرت نَقْدِي وَقَلَّتْ إبلي تَسْأَلُنِي عن السِنينَ كَمْ لِي
فَقُلْتُ: لَوْ عُمِّرْتُ عُمْرَ الْحِسل أَوْ عُمْرَ نُوح زَمَن الْفَطحْلِ
وَالصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كَطِينِ الْوَحْلِ أَوْ أَنَّني أوتِيتُ عِلْمَ الحُكْل
عِلمَ سليمانَ كَلَامَ النَّمْلِ كُنْتَ رَهِينَ هَرَم أَوْ قَتْلِ
[السواد: السرار، يقال منه: ساودته مساودة وسوادًا إذا ساررته: والحسل: ولد الضب، وسئل رؤبة عن قوله: زمن الفطحل، فقال: أيام كانت الحجارة فيه رطابًا، قال أهل اللغة: الفطحل دهر لم يخلق الناس فيه بعد).]
هذا، والترجمان — وهو الذي يفسر كلام غيره بلسانه — بفتح التاء وضمها. والجمع: تراجم، مثل: زعفران وزعافر، وصحصحان وصحاصح، قال نقاده الأسدي:
وَمنْهَلٍ وَرَدْتُهُ الْتقَاطَا لَمْ ألقَ إذْ وَرَدْتُهُ فُرَّاطَا
إلا الْحَمَامَ الْوُرْقَ وَالغَطَاطَا فَهُنَّ يُلغِطْنَ بِهِ إلْغَاطَا
كالترْجُمَانِ لَقِيَ الأنباطَا
يقال: وردت الماء والشيء التقاطًا: إذا هجمت عليه بغتة ولم تحتسبه، وفراط القطا: متقدماتها إلى الوادي والماء، والغطاط: ضرب من القطا، ولغط القطا والحمام بصوته وألغط، وأصل اللغط: الصوت المبهم الذي لا يفهم، والأنباط: جيل ينزلون سواد العراق.
(٣٠٩) طباه يطبوه ويطبيه طبيًا وطبوًا: إذا دعاه. قال ذو الرمة:
لَيَالِي اللَّهْوُ يَطْبيني فأَتْبَعُهُ إنني ضَاربٌ فِي غَمْرَة لَعِبُ
[أي يدعوني اللهو فأتبعه.] ويقال: أطباه، على افتعله فقلبت التاء طاء وأدغمت، وفي حديث ابن الزبير: أن مصعبًا أطبى القلوب حتى ما تعدل به: أي تحبب إلى قلوب الناس وقربها منه، وقال كثير:
لَهُ نَعَلٌ لَا يَطَّبي الْكَلْبَ رِيحُهَا وَإنْ وُضِعَتْ وَسْطَ المَجَالِسِ شُمَّتِ
(حرك حرف الحلق من نعل لانفتاح ما قبله، ففتحها ليس بلغة، والنعل مؤنثة وهي الحذاء، وقد سبق شرح هذا البيت.)
والحران في الدواب: أن تقف ولا تبرح المكان. يقول: إن هذه المغاني استمالت قلوبنا وقلوب خيلنا بخصبها وطيبها حتى خشيت عليها الحران وأن تقف بها فلا تبرح ميلًا إليها وإن كانت خيلنا كريمة لا يعروها هذا الداء؛ داء الحران.
(٣١٠) تنفض الأغصان … إلى آخره: حال. وأعرافها: جمع عرف، وهو الشعر الذي على ناصية الفرس. والجمان: حب من فضة يشبه اللالئ. يقول: سرنا بين أشجار هذه المغاني صباحًا، وقد تساقط الندى من أغصانها على أعراف خيلنا كأنه الجمان، فكأن الأغصان تنفضه على أعرافها، والذي يؤخذ من الواحدي — ويدل عليه البيت التالي — أن الذي يقع على أعراف الخيل من خلل الأغصان مثل الجمان هو ضوء الشمس لا الندى.
(٣١١) الضمير من حجبن: للأغصان. يقول: إنه كان يسير في ظل الأغصان، وأنها تحجب عنه حر الشمس وتلقي عليه من الضياء ما يكفيه. وقال ابن جني: يريد أن الجمان الذي يقع على الخيل هو ما يقع عليها من بين الأغصان من ضوء الشمس.
(٣١٢) الشرق: المشرق، وهو أيضًا الضوء والشمس، يقال: طلع الشرق ولا يقال: غرب الشرق، وهو المراد هنا. والبنان: أطراف الأصابع. يقول: كما قال التبريزي: إن هذا الشجر كثير الورق ملتف، فضوء الشمس يدخل من خلاله فيكون على الثياب كأنه الدنانير إلا أنه يفر من البنان وليست الدنانير كذلك وهو معنى لم يسبق إليه. وعبارة بعض الشراح: يريد بالدنانير ما يتخلل الأغصان من ضوء الشمس فإنه يقع مستديرًا، يقول: لما طلعت الشمس من المشرق ألقى الشرق بطلوعها دنانير لا تمسك باليد، فالشرق بمعنى المشرق.
(٣١٣) أواني: جمع آنية، جمع إناء. يقول: إن ثمار هذه الأغصان رقيقة القشر فهي تشير إلى الناظر بأشربة — جمع شراب — واقفة بلا إناء؛ لأن ماءها يرى من وراء قشرها كما يرى الماء في الزجاج، يعني أن هذه الثمار كأنها أشربة قائمة بنفسها ليس لها أوعية تمسكها، وهذا المعنى منقول من قول البحتري:
يُخفي الزُّجَاجَةَ لَوْنُها فَكَأَنَّهَا فِي الكَفِّ قَائِمَةٌ بِغَيْر إنَاء
(٣١٤) تصل: تصوت. وحصاها: فاعل تصل. وبها: أي بتلك الأمواه، يعني بجريها، وروى ابن جني: لها؛ أي لأجلها أي لأجل جريها. والحلي: ما يلبسه النساء من الذهب والفضة والجوهر. والغواني: جمع غانية، المرأة التي غنيت بحسنها. شبه الأمواه، في اندماجها وصفاء لونها، بمعاصم الحسان، وما يصل بها من الحصى بالحلي الذي يلبس في المعاصم — جمع معصم وهو موضع السوار.
(٣١٥) يقال: ثنى عنانه: إذا رده عن عزمه. والعِنان — في الأصل — سير اللجام. واللبيق: الحاذق الرفيق بما يعمله كاللبق، والثرد: جمع ثريد، وهو الخبز يفت ويبل بالمرق. وروى ابن جني بفتح الثاء على المصدر، قال: يريد به الثريد. والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة. وصيني الجفان: أي أن جفانه صينية. يقول: لو كانت هذه المغاني الطيبة دمشق — أي لو كنت في غوطة دمشق مكان شعب بوان — لثنى عناني إليه رجل جيد الثريد ذو قصاع صينية؛ يعني لأضافني هناك رجل ذو مروءة يحسن إلى الضيفان؛ لأنها — دمشق — من بلاد العرب، وشعب بوان من بلاد العجم. وقال ابن جني: لو كانت هذه المغاني كغوطة دمشق في الطيب لرغبت عنها، وملت إلى هذا الممدوح الذي ثرده لبيق وجفانه صينية؛ لأنه ملك، وليس هو من أهل البادية. قال الواحدي: وليس الأمر على ما قال — أي ابن جني — لأن البيت ليس بمخلص، ولم يذكر الممدوح بعد، والمعنى: أنه يبين فضل دمشق وأهلها وإحسانها إلى الضيفان، وخص دمشق من سائر البلدان؛ لأن شعب بوان مضاهٍ لغوطة دمشق في الطيب وكثرة المياه والأشجار.
(٣١٦) يلنجوجي: نسبة إلى اليلنجوج، وهو العود الذي يتبخر به. و«ما»: موصولة. ورفعت النار: شبت. وبه: متعلق برفعت، والضمير: ﻟ «ما»، وندى: نسبة إلى النَّدِّ، وهو ضرب من الطيب يدخن به، قال أبو عمرو بن العلاء: يقال للعنبر: الند، وقال غيره: هو ضرب من الدخنة. يقول: إن هذا الرجل يوقد النيران للأضياف بالعود اليلنجوجي، ودخانه طيب تشم منه رائحة الند.
(٣١٧) اضطربت كلمة الشراح في هذا البيت، ولعل أحسنها ما ذهب إليه الواحدي، قال: تحل به أنت — أيها الرجل — أي تنزل بهذا الرجل الذي وصفه بما تقدم على قلب شجاع جريء على الإطعام والقِرى غير بخيل؛ لأن البخل جبن وهو خوف الفقر، وترحل منه عن قلب جبان خائف فراقك وارتحالك. وقال ابن جني: المعنى: يسر بأضيافه فتقوى نفسه بالسرور، فإذا ارتحلوا عنه اغتم، فضعفت نفسه، فالقلبان — على هذا وعلى ما ذهب إليه الواحدي — قلبا المضيف. وقال ابن فورجه: كأنه — أي ابن جني — يظن أنهما قلبا عضد الدولة. ولو أراد المتنبي ما قال لقال: تحل به على قلب مسرور وترحل منه عن قلب مغموم، فأما الشجاعة والجبن فلهما معنى غير ما ذهب إليه — أي ابن جني — وإنما يريد — المتنبي — أنك إذا حللت به كنت ضيفًا له وفي ذمامه فأنت شجاع القلب لا تبالي بأحد، وتفارقه ولا ذمام لك فأنت جبان تخشى من لقيك، ومثله قوله:
وَإِنَّ نفُوسًا أمَّمتْكَ منيعةٌ
فالقلبان في البيت: قلبا من يحل ويرحل — أي قلبا الضيف.
(٣١٨) نوبنذجان: بلد بفارس. ويشيعني: يتبعني. قال الواحدي: يريد أنه يرى دمشق في النوم وهو بفارس، فخيال منازل دمشق يتبعه، والمعنى أنه يحب دمشق ويكثر ذكرها ويحلم بها، قال: ويجوز أن يريد خيال حبيب له بدمشق ونواحيها يأتيه في منامه.
(٣١٩) الورق: جمع ورقاء، وهي التي في لونها بياض إلى سواد، ويقال للرماد: أورق. وللحمامة والذئبة: ورقاء: قال رؤبة:
فَلَا تَكُونِي يَا ابْنَة الأشَمِّ وَرْقَاء دَمَّى ذِئْبَهَا الْمدمِّي
(الذئاب إذا رأت ذئبًا قد عقر وظهر دمه أكبت عليه فقطعته وأنثاه معها، وقيل: الذئب إذا دمي أكلته أنثاه، فيقول هذا الرجل لامرأته: لا تكوني إذا رأيت الناس قد ظلموني معهم عليَّ فتكوني كذئبة السوء.)
والقيان: جمع قينة، وهي الجارية المغنية. يريد لطيبها اجتمعت أصوات الحمام والقيان بها يجاوب بعضها بعضًا.
(٣٢٠) يقول: إن أهل الشعب — شعب بوان — وقطانه أحوج إلى البيان من حمامه في غنائه ونوحه؛ لأنهم أعاجم لا بيان لهم ولا فصاحة، فلا يفهم العرب كلامهم. قال اليازجي: يريد التنظير بين غناء هؤلاء وغناء قيان دمشق وهو تفضيل آخر لدمشق على شعب بوان. هذا، وأخبر عن الحمام بالغناء والنوح؛ لأن العرب تشبه صوت الحمام مرة بالغناء لأنه يطرب، ومرة بالنوح لأنه يشجي، ونوح الحمام وغناؤه مذكوران في أشعارهم.
(٣٢١) يقول: إن العجمة تجمع الحمام وأهل الشعب، والموصوف بها مختلف؛ لأن الإنسان غير الحمام، فأهل الشعب بعدوا بالإنسانية عن الحمام، ولكن وصفهما في الاستجمام وعدم الإفصاح متقارب.
(٣٢٢) يقول: إن فرسي يقول لي حين رأى شعب بوان وطيب الإقامة به — منكرًا علي السير منه إلى الحرب: أعن هذا المكان يسار إلى الطعان والنزال؟! والاستفهام معناه هنا الإنكار، والمراد أن فرسه لو نطق لقال ذلك.
(٣٢٣) يقول: إنما تفعلون ذلك اقتداء بأبيكم آدم حين عصى ربه فأخرج من الجنة، فهو الذي سن لكم ركوب المعاصي ومفارقة مواطن النعيم بسببها. قال الواحدي: وإنما ذكر هذا لكي يتخلص إلى ذكر الممدوح فيقول: هذا المكان وإن طاب فإني لم أعرج به عما كان سبيلي إليه.
(٣٢٤) أبو شجاع: كنية عضد الدولة. يقول — مجيبًا فرسه: إنما أغادر هذا المكان؛ لأني أقصد أبا شجاع الذي متى رأيته نسيت الناس طرًّا، ونسيت هذا المكان مع جماله وطيبه؛ لأني أجد عنده ما يسليني عن كل شيء.
(٣٢٥) يقول: إن الناس كلهم — والدنيا بأجمعها — طريق إليه لا يمسكني شيء منهم ومنها حتى أبلغه.
(٣٢٦) الطراد: أن يحمل بعض الفرسان على بعض في الحرب. والسنان: نصل الرمح. يقول: علمت نفسي القول في الناس بالشعر في مدائحهم قبله كما يتعلم الطعان أولًا بغير سنان ليصير المتعلم ماهرًا بالطعان بالسنان، كذلك أنا تعلمت الشعر في مدح الناس لأتدرج إلى مدحه وخدمته، وعبارة بعض الشراح: يريد أنه لم يكن يقصد الجد في مدح غيره، وإنما كان يمرن نفسه على الشعر حتى يعرف كيف يمدحه حق المدح متى انتهى إليه، وقوله: لقد علمت، يروى: له علمت — أي لأجله — وذلك أظهر في المعنى.
(٣٢٧) قال الواحدي: أي أن الدولة امتنعت بعضدها وعزت، ولا يد لمن لا عضد له ولا يدفع عن نفسه من لا يد له، والمعنى أنه للدولة يد وعضد به تدفع عن نفسها. وعلى هذا يكون الضمير في قوله: «امتنعت» عائدًا على المضاف إليه من قوله: «بعضد الدولة»، فهو على حد قولك: بغلام هند مرت: أي مرت هند بغلامها، وهو كما تراه. قال ابن جني: يعرض بدولة غيره من الملوك التي لا يذب عنها ولا يحميها، وأودع كلامه رمزًا خفيًّا وتعريضًا بجميع من لا عضد له دولة كان أو إنسانًا بقوله:
وليس لغير ذي عضد يدان
هذا، وعضد بسكون الضاد: تخفيف عضد بضمها.
(٣٢٨) البيض: السيوف. والمواضي: القواطع. والسمر: الرماح. واللدان: جمع لدن، وهو اللين المتثني. يقول: من لم يكن له يدان لم يقبض على السيوف ولم يطعن بالرماح؛ لأنه لا يتأتى له ذلك. يعني أن غيره لا يقوم مقامه في الدفع عن الدولة؛ لأنه عضدها ومن لا عضد له لا يد له، ومن لا يد له لم يضارب ولم يطاعن. هذا، وقوله: «ولا حظ»، يروى: ولا حط — بالطاء المهملة — وهو خفض الرماح بالطعن.
(٣٢٩) قوله: بكر. صفة لموصوف محذوف، كأنه قال: ليوم الحرب حرب بكر أو عوان، والحرب العوان: التي قوتل فيها [مرة بعد] مرة، كأنهم جعلوا الأولى بكرًا، وقوله: بمفزع الأعضاء، رواها ابن جني: بموضع الأعضاء، وقال: أي دعته السيوف بمقابضها، والرماح بأعقابها؛ لأنها مواضع الأعضاء منها، وحيث يمسك الطاعن والضارب. قال: ويحتمل أن يريد: دعته الدولة بمواضع الأعضاء من السيوف والرماح؛ أي اجتذبته واستمالته. قال ابن فورجه: هذا ما ذهب إليه ابن جني مسخ للشعر لا شرح له، وما قال الشاعر إلا بمفزع الأعضاء يعني دعته الدولة عضدًا. والعضد: مفزع — ملجأ — الأعضاء كأنه شرح قوله بعضد الدولة امتنعت وعزت. قال الواحدي: وهو على ما قال — ابن فورجه — يريد أن الدولة سمته عضدها وهي — العضد — مفزع الأعضاء؛ لأن الأعضاء عند الحرب تفزع إلى العضد، والعضد هي الدافعة عنها الحامية لسائر الأعضاء. وحاصل المعنى: أن الدولة دعته بعضدها وهو ملجؤها الذي تدخره لأيام الحروب.
(٣٣٠) أسماه وسماه: بمعنى. يقول: إنه لا نظير له، فلا يدعى أحد باسم ولا بكنية هو مثله. أو تقول: إذا ذكر أحد اسمه أو كنيته فقد ذكر من لا يماثله أحد. فالمسمى: الداعي بالاسم. والكاني: الداعي بالكنية.
(٣٣١) يقول: إن فضائله لا يحيط بها الظن — على اتساعه — ولا تستوفيها الأخبار، ولا تستقصى بالمشاهدة والعيان لكثرتها، وقوله عنه: قال الواحدي: كان حقه أن يقول: «عنها» لكنه علقه به لإقامة الوزن. أراد: ولا الإخبار عنه بها.
(٣٣٢) أروض: جمع أرض، قالوا: وهذا الجمع قياس — لا سماع — فقد نص سيبويه على أن العرب لا تجمع الأرض جمع تكسير، قال: واستغنوا عن تكسيرها بأرضات وأرَضين، وحكى أبو زيد في جمع أرض: أروض. والمراد بالناس ها هنا: الملوك. يقول: إن أرض غيره من الملوك مخلوقة من التراب والخوف معًا؛ لأن الخوف ملازم لها لا يفارقها فكأنها خلفت منه كما خلقت من التراب، وهذا كقوله تعالى: خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ لما كان في أكثر أحواله عَجِلًا صار كأنه مخلوق من عجلة. وأرض الممدوح كأنها مخلوقة من الأمان، للزوم الأمن لها، والمعنى: أن أحدًا لا يعيث في نواحي مملكته؛ هيبة له وخوفًا منه.
(٣٣٣) تذم: أي الأرض، وفي رواية يذم: أي الممدوح، وأذم له أعطاه الذمام وهو العهد والجوار. والتجر: جماعة التجار كالشرْب، لكن المتنبي أجرى التجر مجرى الواحد ذهابًا إلى أنه واحد التجار كما قال الآخر:
تُسائِلُ عَن أبِيها كُلَّ ركب
يقول: إن أرض هذا الممدوح تجير كل تاجر من اللصوص فلا يخافون اللصوص؛ إذ لا يستطيعون العدوان على أحد، هيبة وخوفًا من الممدوح، وهي تضمن لسيوف الممدوح كل من يجني جناية أن يكون طعمة لها؛ إذ لا ينجو من يده.
(٣٣٤) الثقات: الذين يوثق بهم. والمحاني: جمع محنية، منعطف الوادي. والرعان: جمع رعن، أنف الجبل، والضمير في «ودائعهم»: للتجر. يقول: إن ودائع التجار إذا تركت في محاني الأودية ورعان الجبال فكأنها عند ثقات أمناء. يعني إذا تركوها في هذه الأماكن أمنوا ولم يخافوا عليها أحدًا؛ لأن هيبة الممدوح تحميها فلا يجرؤ أن يمسها أحد.
(٣٣٥) يقول: باتت بضائع التجار فوق المحاني والرعان ظاهرة للناظرين، وكأنها تقول لمن مر بها: أما تراني؟ لأنه يعرض عنها فلا يجسر أن يمد يده إليها يعني أنها لا حرز دونها وليس هناك من يحفظها ويحرسها غير هيبته فلا يجسر من يمر بها أن يمد يده إليها وإن لم يرَ عندها أحدًا. قال اليازجي: وكان الوجه أن يقول: «ألا ترانا»؛ لأنه حكاية قول الودائع، ولكنه لما استعمل لهن ضمير الواحدة في قوله: تصيح أجرى فعل التكلم مجرى فعل الغيبة.
(٣٣٦) الرقى: جمع الرقية. والأبيض: السيف. والمشرفي: نسبة إلى مشارف، وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف تنسب إليها السيوف. والصل: ضرب من الحيات خبيث يشبه بها الرجل إذا كان داهيًا نكرًا فيقال: إن فلانًا لَصِل أصلال، والأفعوان: ذكر الأفعى. جعل اللصوص كالأفاعي وجعل سيوفه رقى لتلك الأفاعي، فكما أن الحية يدفع أذاها بالرقية، كذلك هو يدفع عادية اللصوص بسيوفه.
(٣٣٧) اللها: جمع لهية، وهي العطية. يقول: مع أنه يرقي أموال التجار من أفاعي اللصوص فإن عطاياه لا ترقى من جوده وبذله أي لا تحمى منه، ولا ماله الكريم يرقى من هوانه؛ لأن جوده يبددها ويهب أمواله فتبتذل في أيدي الناس.
(٣٣٨) شمري: جاد مشيح في الأمور، كثير التشمير والانكماش فيها. وأراد بالتباقي: البقاء، وبالتفاني: الفناء. يقول: إن الممدوح رجل شمري حمى بلاد فارس بمضائه. يقول لأصحابه: أفنوا أنفسكم في الحرب ليبقى ذكركم فكأنكم باقون ببقائه. وقال العروضي: إن المعنى: حمى فارس بقتل اللصوص فاعتبر غيرها فلم يؤذوا الناس ولم يستحقوا القتل فبقوا، يعني أنه إذا قتل أهل العيث والفساد كان في ذلك زجر لغيرهم فيصير ذلك حثًّا لهم على اغتنام التباقي، فيكون هذا من قبيل قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، ولكن يدل على المعنى الأول: البيت التالي.
(٣٣٩) بضرب: متعلق بحمى. والأطراب: جمع طرب. والمثالث والمثاني: من أوتار العود، جمع مثلث ومثنى، وهما الوتر الثالث والثاني. يقول: حمى أطراف فارس بضرب يطرب المنايا فيحركها؛ لكثرة من يقتله، وذلك الضرب غير ضرب العود الذي من شأنه أن يطرب ويهيج الشوق، يعني: أنه يضرب بالسيوف، ولا يميل إلى ضرب العود وما إليه.
(٣٤٠) العناصي: جمع عنصوة، وزان ترقوة، وهي الشعر المتفرق في الرأس، قال أبو النجم:
إنْ يُمِسِ رأسي أشمَط العَناصِي كأنما فَرَّقهُ مُناصِ
عَنْ هَامَةٍ كالحجَرِ الرَّباصِ
[مناص: لعله من أناص الشيء عن موضعه: أي حركه وأداره عنه لينتزعه، والرباص: البراق.] والحيقطان: ذكر الدراج، وهو طائر شبيه بالحجل وأكبر منه أرقط بسواد وبياض قصير المنقار. يقول: إن جماجم الأعداء الذين أعمل فيهم سيفه كانت تطير وشعورها المتلطخة بالدماء تنتثر على وجه البلدان، فكأن دماءهم قد كست البلدان ريش هذا الطائر الكثير الألوان.
(٣٤١) قلوب العشق: أي قلوب أهل العشق. يقول: إن الأمن عم بلاد فارس حتى لو كانت قلوب العشاق فيها لما خشيت سهام أحداق الحسان، وهو معنى غريب.
(٣٤٢) الشبل: ولد الأسد. والهزبر: من أسماء الأسد. والمهر: الحدث من الخيل. والرهان: السباق. يقول: لم أرَ في الناس مثل ولديه اللذين هما كشبلي أسد في الشجاعة ومهري رهان في المسابقة إلى غاية الكرم.
(٣٤٣) أشد: صفة لمهري رهان. والهجان: الخالص الكريم. يقول: لم أرَ قبلهما ولدين أشد تنازعًا — أي تجاذبًا — لأصل كريم، يعني أن كل واحد منهما ينزع إلى أصله نزوعًا شديدًا حتى كأنهما يتنازعانه فيريد أن يكون أكرم من صاحبه، بأن يكون حظه أوفر من حظ صاحبه في الكرم، ولم أرَ ولدين أشبه منهما بأبٍ كريم خالص النسب.
(٣٤٤) الضمير في «مجالسه» يعود إلى أب، وجملة «فلان دق رمحًا في فلان»: حكاية، وهي مفعول الاستماع. يقول: ولم أرَ ولدين أكثر منهما استماعًا في مجالس أبيهما لمثل هذه العبارة، وهي فلان دق — كسر — رمحًا في فلان: يعني أنه لا يجري في مجلس أبيهما غير ذكر الطعان والطراد فهما لا يسمعان غير ذلك.
(٣٤٥) رأية: فعلة من الرأي. ورأيا: صفة لرأية، والعائد محذوف: أي رأياها. والمعالي: خبر أول، وعلقا بها: عشقاها. يقول: أول شيء رأياه هو المعالي، فقد عشقاها قبل أوان العشق. وروى ابن جني: وأول داية، والداية: الظئر — التي ترضع المولود — فيكون المعنى: إن المعالي تولت تربيتهما فهما يميلان إليها ويحبانها حب الصبي مَن ربَّاه.
(٣٤٦) الصارخ: المستغيث، وإغاثته: نصرته. والعاني: الأسير. يقول: وأول كلام فهموه هو إجابة من استصرخهم ونصرته وفك الأسير من وثاقه، و«لفظة»: تروى: كلمة.
(٣٤٧) تبهر: أي الشمس، وبهره: غلبه. وقوله: فكيف … إلخ: أي فكيف تصنع مثلًا. يقول: كنت شمسًا تبهر العيون ببهائك فكيف اليوم وقد ظهر معك من ولديك شمسان آخران؟
(٣٤٨) يدعو لهما بأن يبقيا بقاء الشمس والقمر، يحيا الناس بضوئهما، وأن لا يكون بينهما تحاسد أو اختلاف.
(٣٤٩) هذا دعاء لأبيهما بالحياة يقول: لا ملكا ملكك بل ملك الأعادي، ولا ورثاك إنما ورثا من يقتلانه من الأعداء.
(٣٥٠) كاثراه: فاخراه بالكثرة. وياءَيْ: خبر «كان»، وأنيسيان: مصغر إنسان وهو من شواذ التصغير. وإنسان: خمسة أحرف، وهو مكبر، فإذا صغرته وقلت «أنيسيان» زاد عدد حروفه وصغر معناه، والبيت دعاء أيضًا. يقول: عدوك الذي له ابنان وكاثرك بهما كانا زائدين في عدده ناقصين من حسبه وفخره بأن يكونا ساقطين خسيسين كياءي أنيسيان: يزيدان في عدد الحروف وينقصان من معناه، وقال بعض الشراح: أي إذا فاخرا — أي ابنا الممدوح — عدوًّا بتكثيرهما عدد رهطك، فليكن ابنا ذلك العدو؛ أي العدد الذي يقابلهما، عنده بمنزله الياءين في أنيسيان: أي آيلين إلى نقصه وخسته وإن زادا في عدده، وهذا المعنى الثاني أنسب وأقرب والسبق يدل عليه.
(٣٥١) دعاء: أي هذا دعاء. والرئاء: التظاهر بغير ما في الباطن، والجنان القلب. يقول، وهذا الذي ذكرته دعاء وهو ثناء عليك لا رئاء فيه؛ لأنه إخلاص من القلب يخرج من قلبي فتفهمه بقلبك، وتعلم أنه إخلاص لا يشوبه رئاء.
(٣٥٢) فرند السيف: جوهره ووشيه. والعضب: السيف القاطع. واليماني: نسبة إلى اليمن، شبه الممدوح بسيف يمان، وشبه شعره بفرند ذلك السيف: أي أن شعره زينة للممدوح كالفرند للسيف؛ لأنه نوه بمناقبه ومحامده، وقد نزل منه في منزل هو أهل له كنزول الفرند من السيف اليماني وهو أجود السيوف.
(٣٥٣) في الناس: خبر كونكم، والهراء: الساقط من الكلام، قال ذو الرمة:
لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ رَخِيمُ الحواشِي لَا هُرَاءٌ ولا نَزْرُ
(ويحتمل أن يكون الهراء — في البيت — بمعنى المنطق الكثير، والنزر القليل التافه. قال ابن منظور: يريد ذو الرمة أن كلامها مختصر الأطراف وهذا ضد الهذر والإكثار، وذاهب في التخفيف والاختصار، فإن قال قائل: وقد قال: ولا نزر فلسنا ندفع أن الخفر يقل معه الكلام وتحذف منه أحناء المقال؛ لأنه على كل حال لا يكون ما يجري منه وإن خف ونزر أقل من الجمل التي هي قواعد الحديث الذي يشوق موقعه ويروق مسمعه.)
يقول: بكم صار للناس معنى، ولولاكم لكان الناس كاللغو من الكلام الذي لا معنى له، وهذا كقوله:
والدَّهر لفْظٌ وأنْتَ مَعْنَاه
No comments:
Post a Comment