جميع قصائد المتنبى المنتهية بحرف الهاء مع الشرح الكامل

 شرح ديوان المتنبي



قافية الهاء

وذكر سيف الدولة جَدَّ أبي العشائر وأباه فقال:


أَغْلَبُ الْحَيِّزَيْنِ مَا كُنْتَ فِيهِ وَوَلِيُّ النَّمَاءِ مَنْ تَنْمِيهِ١

ذَا الَّذِي أَنْتَ جَدُّهُ وَأَبُوهُ دِنْيَةً دُونَ جَدِّهِ وَأَبِيهِ٢

وأجمل سيف الدولة ذكره وهو يسايره فقال:


أَنَا بِالْوُشَاةِ إِذَا ذَكَرْتُكَ أَشْبَهُ تَأْتِي النَّدَى وَيُذَاعُ عَنْكَ فَتَكْرَهُ٣

وَإِذَا رَأَيْتُكَ دُونَ عِرْضِي عَارِضًا أَيْقَنْتُ أَنَّ اللهَ يَبْغِي نَصْرَهُ٤

وقال يمدح أبا العشائر ويودعه، وقد أراد سفرًا:


النَّاسُ مَا لَمْ يَرَوْكَ أَشْبَاهُ وَالدَّهْرُ لَفْظٌ وَأَنْتَ مَعْنَاهُ٥

وَالْجُودُ عَيْنٌ وَأَنْتَ نَاظِرُهَا وَالْبَأْسُ بَاعٌ وَأَنْتَ يُمْنَاهُ٦

أَفْدِي الَّذِي كُلُّ مَأْزِقٍ حَرِجٍ أَغْبَرَ فُرْسَانُهُ تَحَامَاهُ٧

أَعْلَى قَنَاةِ الْحُسَيْنِ أَوْسَطُهَا فِيهِ وَأَعْلَى الْكَمِيِّ رِجْلَاهُ٨

تُنْشِدُ أَثُوابُنَا مَدَائِحَهُ بِأَلْسُنٍ مَا لَهُنَّ أَفْوَاهُ٩

إِذَا مَرَرْنَا عَلَى الْأَصَمِّ بِهَا أَغْنَتْهُ عَنْ مِسْمَعَيْهِ عَيْنَاهُ١٠

سُبْحَانَ مَنْ خَارَ لِلْكَوَاكِبِ بِالـْ ـبُعْدِ ولَوْ نِلْنَ كُنَّ جَدْوَاهُ١١

لَوْ كَانَ ضَوْءُ الشُّمُوسِ فِي يَدِهِ لَصَاعَهُ جُودُهُ وَأفْنَاهُ١٢

يَا رَاحِلًا كُلُّ مَنْ يُوَدِّعُهُ مُوَدِّعٌ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ١٣

إِنْ كَانَ فِيمَا نَرَاهُ مِنْ كَرَمٍ فِيكَ مَزِيدٌ فَزَادَكَ اللهُ١٤

وقال قوم: لم يكنك أبو الطيب يا أبا العشائر، وأنت تعرف بكنيتك، فقال:


قَالُوا: أَلَمْ تَكْنِهِ؟ فقُلتُ لَهُمْ: ذَلِكَ عِيٌّ إِذَا وَصَفْنَاهُ١٥

لَا يَتَوَقَّى أَبُو الْعَشَائِرِ مِنْ لَبْسِ مَعَانِي الْوَرَى بِمَعْنَاهُ١٦

أَفْرَسُ مَنْ تَسْبَحُ الْجِيَادُ بِهِ وَلَيْسَ إِلَّا الْحَدِيدَ أَمْوَاهُ١٧

وكان الأسود قد عمر دارًا، وانتقل إليها فمات له فيها خمسون غلامًا، ففزع من ذلك وخرج منها إلى دار أخرى، فقال وأنشده إياها في شهر المحرم سنة سبع وأربعين وثلاثمائة:


أَحَقُّ دَارٍ بِأَنْ تُسْمَى مُبَارَكَةً دَارٌ مُبَارَكَةُ الْمَلْكِ الَّذِي فِيهَا١٨

وَأَجْدَرُ الدُّورِ أَنْ تُسْقَى بِسَاكِنِهَا دَارٌ غَدَا النَّاسُ يَسْتَسْقُونَ أَهْلِيهَا١٩

هَذِي مَنَازِلُكَ الْأُخْرَى نُهَنِّئُهَا فَمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْأُولَى يُسَلِّيهَا؟٢٠

إِذَا حَلَلْتَ مَكَانًا بَعْدَ صَاحِبِهِ جَعَلْتَ فِيهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ تِيهَا٢١

لَا يُنْكَرُ الْعَقْلُ مِنْ دَارٍ تَكُونُ بِهَا فَإِنَّ رِيحَكَ رُوحٌ فِي مَغَانِيهَا٢٢

أَتَمَّ سَعْدَكَ مَنْ لَقَّاكَ أَوَّلَهُ وَلَا اسْتَرَدَّ حَيَاةً مِنْكَ مُعْطِيهَا٢٣

ونزل أبو الطيب في أرض حِسْمَى برجل يقال له: وردان بن ربيعة الطائي، فاستغوى وردان عبيد أبي الطيب؛ فجعلوا يسرقون له من أمتعته، فلما شعر أبو الطيب بذلك ضرب أحد عبيده بالسيف فأصاب وجهه، وأمر الغلمان فأجهزوا عليه كما تقدم — وقال يهجو وردان:


لَئِنْ تَكُ طَيِّئٌ كَانَتْ لِئَامًا فَأَلْأَمُهَا رَبِيعَةُ أَوْ بَنُوهُ

وَإِنْ تَكُ طَيِّئٌ كَانَتْ كِرَامًا فَوَرْدَانٌ لِغَيْرِهِمِ أَبُوهُ٢٤

مَرَرْنَا مِنْهُ فِي حِسْمَى بِعَبْدٍ يَمُجُّ اللُّؤْمَ مَنْخِرُهُ وَفُوهُ٢٥

أَشَذَّ بِعِرْسِهِ عَنِّي عَبِيدِي فَأَتْلَفَهُمْ وَمَالِي أَتْلَفُوهُ٢٦

فَإِنْ شَقِيَتْ بِأَيْدِيهِمْ جِيَادِي لَقَدْ شَقِيَتْ بِمُنْصُلِيَ الْوُجُوهُ٢٧

وقال يمدح عضد الدولة أبا شجاع فَنَّاخُسْرَوْ سنة أربع وخمسين وثلاثمائة:


أَوْهِ بَدِيلٌ مِنْ قَوْلَتِي: وَاهَا لِمَنْ نَأَتْ وَالْبَدِيلُ ذِكْرَاهَا٢٨

أَوْهِ لِمَنْ لَا أَرَى مَحَاسِنَهَا وَأَصْلُ وَاهًا وَأَوْهِ مَرْآهَا٢٩

شَامِيَّةٌ طَالَمَا خَلَوْتُ بِهَا تُبْصِرُ فِي نَاظِرِي مُحَيَّاهَا٣٠

فَقَبَّلَتْ نَاظِرِي تُغَالِطُنِي وَإِنَّمَا قَبَّلَتْ بِهِ فَاهَا٣١

فَلَيْتَهَا لَا تَزَالُ آوِيَةً وَلَيْتَهُ لَا يَزَالُ مَأْوَاهَا٣٢

كُلُّ جَرِيحٍ تُرْجَى سَلَامَتُهُ إِلَّا فُؤَادًا دَهَتْهُ عَيْنَاهَا٣٣

تَبُلُّ خَدَّيَّ كُلَّمَا ابْتَسَمَتْ مِنْ مَطَرٍ بَرْقُهُ ثَنَايَاهَا٣٤

مَا نَفَضَتْ فِي يَدِي غَدَائِرُهَا جَعَلْتُهُ فِي الْمُدَامِ أَفْوَاهَا٣٥

فِي بَلَدٍ تُضْرَبُ الْحِجَالُ بِهِ عَلَى حِسَانٍ وَلَسْنَ أَشْبَاهَا٣٦

لَقِينَنَا وَالْحُمُولُ سَائِرَةٌ وَهُنَّ دُرٌّ فَذُبْنَ أَمْوَاهَا٣٧

كُلُّ مَهَاةٍ كَأَنَّ مُقْلَتَهَا تَقُولُ: إِيَّاكُمُ وَإِيَّاهَا!٣٨

فِيهِنَّ مَنْ تَقْطُرُ السُّيُوفُ دَمًا إِذَا لِسَانُ الْمُحِبِّ سَمَّاهَا٣٩

أُحِبُّ حِمْصًا إِلَى خُنَاصِرَةٍ وَكُلُّ نَفْسٍ تُحِبُّ مَحْيَاهَا٤٠

حَيْثُ الْتَقَى خَدُّهَا وَتُفَّاحُ لُبـْ ـنَانَ وَثَغْرِي عَلَى حُمَيَّاهَا٤١

وَصِفْتُ فِيهَا مَصِيفَ بَادِيَةٍ شَتَوْتُ بِالصَّحْصَحَانِ مَشْتَاهَا٤٢

إِنْ أَعْشَبَتْ رَوْضَةٌ رَعَيْنَاهَا أَوْ ذُكِرَتْ حِلَّةٌ غَزَوْنَاهَا٤٣

أَوْ عَرَضَتْ عَانَةٌ مُقَزَّعَةٌ صِدْنَا بِأُخْرَى الْجِيَادِ أُوْلَاهَا٤٤

أَوْ عَبَرَتْ هَجْمَةٌ بِنَا تُرِكَتْ تَكُوسُ بَيْنَ الشُّرُوبِ عَقْرَاهَا٤٥

وَالْخَيْلُ مَطْرُودَةٌ وَطَارِدَةٌ تَجُرُّ طُولَى الْقَنَا وَقُصْرَاهَا٤٦

يُعْجِبُهَا قَتْلُهَا الْكُمَاةَ وَلَا يُنْظِرُهَا الدَّهْرُ بَعْدَ قَتْلَاهَا٤٧

وَقَدْ رَأَيْتُ الْمُلُوكَ قَاطِبَةً وَسِرْتُ حَتَّى رَأَيْتُ مَوْلَاهَا٤٨

وَمَنْ مَنَايَاهُمُ بِرَاحَتِهِ يَأْمُرُهَا فِيهِمِ وَيَنْهَاهَا٤٩

أَبَا شُجَاعٍ بِفَارِسٍ عَضُدَ الدَّ وْلَةِ فَنَّاخُسْرُوْ شَهَنْشَاهَا٥٠

أَسَامِيًا لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفَةً وَإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاهَا٥١

تَقُودُ مُسْتَحْسَنَ الْكَلَامِ لَنَا كَمَا تَقُودُ السَّحَابَ عُظْمَاهَا٥٢

هُوَ النَّفِيسُ الَّذِي مَوَاهِبُهُ أَنْفَسُ أَمْوَالِهِ وَأَسْنَاهَا٥٣

لَوْ فَطِنَتْ خَيْلُهُ لِنَائِلِهِ لَمْ يُرْضِهَا أَنْ تَرَاهُ يَرْضَاهَا٥٤

لَا تَجِدُ الْخَمْرُ فِي مَكَارِمِهِ إِذَا انْتَشَى خَلَّةً تَلَافَاهَا٥٥

تُصَاحِبُ الرَّاحُ أَرْيَحِيَّتَهُ فَتَسْقُطُ الرَّاحُ دُونَ أَدْنَاهَا٥٦

تَسُرُّ طَرْبَاتُهُ كَرَائِنَهُ ثُمَّ تُزِيلُ السُّرُورَ عُقْبَاهَا٥٧

بِكُلِّ مَوْهُوبَةٍ مُوَلْوَلَةٍ قَاطِعَةٍ زِيرَهَا وَمَثْنَاهَا٥٨

تَعُومُ عَوْمَ القَذَاةِ فِي زَبَدٍ مِنْ جُودِ كَفِّ الْأَمِيرِ يَغْشَاهَا٥٩

تُشْرِقُ تِيجَانُهُ بِغُرَّتِهِ إِشْرَاقَ أَلْفَاظِهِ بِمَعْنَاهَا٦٠

دَانَ لَهُ شَرْقُهَا وَمَغْرِبُهَا وَنَفْسُهُ تَسْتَقِلُّ دُنْيَاهَا٦١

تَجَمَّعَتْ فِي فُؤَادِهِ هِمَمٌ مِلْءُ فُؤَادِ الزَّمَانِ إِحْدَاهَا٦٢

فَإِنْ أَتَى حَظُّهَا بِأَزْمِنَةٍ أَوْسَعَ مِنْ ذَا الزَّمَانِ أَبْدَاهَا٦٣

وَصَارَتِ الْفَيْلَقَانِ وَاحِدَةً تَعْثُرُ أَحْيَاؤهَا بِمَوْتَاهَا٦٤

وَدَارَتِ النَّيِّرَاتُ فِي فَلَكٍ تَسْجُدُ أَقْمَارُهَا لِأَبْهَاهَا٦٥

الْفَارِسُ المُتَّقَى السِّلَاحُ بِهِ الـْ ـمُثْنِي عَلَيْهِ الْوَغَى وَخَيْلَاهَا٦٦

لَوْ أَنْكَرَتْ مِنْ حَيَائِهَا يَدُهُ فِي الْحَرْبِ آثَارَهَا عَرَفْنَاهَا٦٧

وَكَيْفَ تَخْفَى الَّتي زِيَادَتُهَا وَنَاقِعُ الْمَوْتِ بَعْضُ سِيمَاهَا؟!٦٨

أَلْوَاسِعُ الْعُذْرِ أَنْ يَتِيهَ عَلَى الدُّ نْيَا وَأَبْنَائِهَا وَمَا تَاهَا٦٩

لَوْ كَفَرَ الْعَالَمُونَ نِعْمَتَهُ لَمَا عَدَتْ نَفْسُهُ سَجَايَاهَا٧٠

كَالشَّمْسِ لَا تَبْتَغِي بِمَا صَنَعَتْ مَنْفَعَةً عِنْدَهُمْ وَلَا جَاهَا٧١

وَلِّ السَّلَاطِينَ مَنْ تَوَلَّاهَا وَالْجَأْ إِلَيْهِ تَكُنْ حُدَيَّاهَا٧٢

وَلَا تَغُرَّنَّكَ الْإِمَارَةُ فِي غَيْرِ أَمِيرٍ وَإِنْ بِهَا بَاهَى٧٣

فَإِنَّمَا الْمَلْكُ رَبُّ مَمْلَكَةٍ قَدْ فَغَمَ الْخَافِقَيْنِ سَرَيَّاهَا٧٤

مُبْتَسِمٌ وَالْوُجُوهُ عَابِسَةٌ سِلْمُ الْعِدَا عِنْدَهُ كَهَيْجَاهَا٧٥

أَلنَّاسُ كَالْعَابِدِينَ آلِهَةً وَعَبْدُهُ كَالْمُوَحِّدِ اللهَ٧٦

هوامش

(١) الحيز: المكان الذي يحوز الشيء، والمراد: حيز النسب. والولي هنا: الصاحب. وتنميه: ترفعه، وكل شيء رفعته فقد نميته، ومنه قول النابغة.

فَعَدَّ عَمَّ تَرَى إذْ لَا ارْتجَاعَ لَهُ وَانْمِ الْقُتُودَ عَلى عَيْرَانَة أُجُد

(القتود: جمع قتد — بالتحريك — اسم لأداة الرحل. العيرانة: الناقة الناجية في نشاط، أو هي التي شبهت بالعير — حمار الوحش — في سرعتها ونشاطها، وناقة أجد موثقة الخلق.)

يقول: الجانب الذي أنت فيه هو أغلب الجانبين، يعني أن عشيرة تنسب إليها وتكون منها يغلبون بك غيرهم لدى المساماة، ومن ترفعه أنت فهو كل يوم في زيادة ورفعة. هذا، ولنعد إلى الحيز، فنقول: قال العكبري: الحيز فيعل من حاز يحوز وهو المكان، وسيبويه يجمعه: حياييز، والأخفش حياوز. قال: وتحيز تحيزًا، قال سيبويه: هو تفعل من حزت الشيء، يريد أن وزن تحيز تفعل، وكان أصله تحيوز ثم قلب وأدغم، قال القطامي:

تَحَيَّزُ مِنِّي خَشْيَةً أَنْ أُضيفَهَا كَمَا انْحَازَتِ الأفعى مَخَافَة ضَارِبِ

(يقول: تتنحى هذه العجوز وتتأخر خوفًا أن أنزل عليها ضيفًا.)

(٢) يقال: هو ابن عمي دنية ودنيًا بالتنوين؛ أي أدنى — أقرب — بني العم إليَّ. يقول: هذا الذي أنت جده وأبوه — يعني أبا العشائر — يعني أنه ربيب نعمتك وغذي دولتك فأنت إذن جده وأبوه دنية لا اللذان ولداه. يقول: اتصاله بك في القرابة يغنيه عن ذكر الجد والأب، فهو بك يفتخر لا بهما.

(٣) الوشاة: جمع واشٍ، وهو النمام. يقول: أنت تجود على الناس وتسخو وتحب طي ذلك، وتكره أن يذاع عنك لمكانك من النبل، فإذا ذكرتك بالجود كنت من الوشاة الذين يذيعون ما يكره صاحبه أن يظهر.

(٤) العرض: ما يمدح ويذم من الإنسان. وعارضًا: أي معترضًا، حال لأن رؤية العين لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد. يقول: إذا رأيتك تدفع عن عرضي وتحمي دونه علمت يقينًا أن الله يريد نصر ذلك الذي تذود عنه — يعني المتنبي بهذا نفسه؛ لأن سيف الدولة أجمل ذكره، يريد أن الله سبحانه ينصرني على حسادي وأعدائي إذا جعلك تمدحني وتحسن القول فيَّ. هذا، والروي في هذين البيتين هو الهاء لا الراء، وإن اتفقت القافيتان الأخيرتان في التزامها — أي الراء — وقول من قال: إن هاء الإضمار إذا تحرك ما قبلها لا تكون إلا وصلًا مقيد بما إذا تكررت؛ لئلا يكون من قبيل الإيطاء، فإن لم تتكرر كما في البيتين كانت كغيرها من الحروف.

(٥) يقول: الناس أشباه وأمثال بعضهم لبعض، فإذا رأوك اختلفوا بك إذ لا نظير لك بينهم، كما قال:

بَعْضُ الْبَرِيَّة فَوْقَ بَعْضٍ خَالِيًا فَإذَا حَضَرْتَ فَكُلُّ فَوْقٍ دُونَا

ثم قال: وأنت معنى الدهر؛ لأنه بك يحسن ويسيء، وهذا منقول من قول ابن دريد:

واللهُ يَعْلَمُ وَالرَّاضِي وَشِيعَتُهُ أنَّ الْوِزَارَةَ لَفْظٌ أنتَ مَعْنَاه

(٦) ناظر العين: إنسانها. والبأس: الشجاعة. الباع: قدر مد اليدين. وباع الحبل يبوعه بوعًا: مد يديه معه حتى صار باعًا، كما تقول: شبرته — من الشبر — وربما عبر بالباع عن الشرف والكرم، قال العجاج:

إذَا الْكِرَامُ ابْتَدَرُوا الْبَاعَ بَدَرْ تَقَضِّيَ الْبَازِي إذَا الْبَازِي كَسَرْ

(كسر الطائر: ضم جناحيه حتى ينقض يريد الوقوع، وتقضى البازي: انقض، وأصله تقضض، فلما كثرت الضادات أبدلت من إحداهن ياء.)

وقال حجر بن خالد أحد بني قيس بن ثعلبة:

نُدَهْدِقُ بَضْعَ اللَّحْمِ لِلْبَاعِ وَالنَّدَى وَبَعْضُهُمُ تَغْلِي بذَمٍّ مَنَاقِعُهْ

«الدهدقة: دوران البضع الكثير في القدر إذا غلت تراها تعلو مرة وتسفل أخرى. والمناقع: القدور الصغار، واحدها منقع ومنقعة.» يقول المتنبي: أنت من الجود بمنزلة الناظر من العين، ومن البأس بمنزلة اليمين من الباع، وهذا من قول علي بن جبلة:

وَلو جَزَّأ الله الْعُلَا فتجَزَّأتْ لكان لك العَيْنَانِ وَالأذنَانِ

(٧) المأزق: المضيق، يراد به ساحة الحرب. والحرج: الضيق. وكل: مبتدأ، خبره جملة: «فرسانه تحاماه»، والضمير في فرسانه يعود على المأزق، وفي تحاماه يعود على الذي. وأغبر: أي كثير الغبار، صفة لمأزق. وتحاماه — بحذف إحدى التاءين — أي تتحاماه. يقول: أفدي الذي تتحاماه الأبطال في الحرب؛ لأنها تكره ملاقاته لشجاعته.

(٨) فيه: أي في ذلك المأزق. والكمي: البطل المغطى بسلاحه. يقول: أفدي هذا الممدوح الذي يشهد كل مأزق ضيق تتأطر فيه — تتثنى وتعوج — قناة رمحه للينها حين يحمل قرنه برمحه فيصير أوسطه أعلاه ويكون الفارس الكمي منكسًا، كما قال امرؤ القيس:

أرجلهم كالخشب الشَّائِل

قال ابن جني: سألته — المتنبي — عن معنى هذا البيت، فقال: هو مثل البيت الآخر:

وَلَرُبَّمَا أَطَرَ الْقَنَاةَ بِفارِسٍ وَثَنَى فَقَوَّمَها بِآخَرَ مِنْهُمُ

(٩) هنا زلت قدم ابن جني وتبلد حماره ولج به عثاره، إذ قال: يخلع عليهم ثيابًا تنشد مدائحهم فيه بألسن ما لهن أفواه تقعقع لجدتها، والأصم يستغني برؤيتها عن صوتها. قال العروضي: هذا كلام من لم ينظر في معاني الشعر ولم يروِ الكثير منه، وكنت أربأ بأبي الفتح عن مثل هذا القول، ألم يسمع قول نصيب:

فَعاجُوا فَأَثْنَوْا بالَّذِي أنْتَ أَهْلُه وَلَوْ سَكَتُوا أثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ

ولم يكن للحقائب جعجعة، إنما أراد أنهم يرونها ممتلئة، كذلك أراد المتنبي أنا نلبس خلعه وأثوابه فيراها الناس علينا فيعلمون أنها من هداياه، فكأنها قد أثنت عليه وأنشدت مدائحه بألسن لا تتحرك في أفواه؛ لأنها لا تنطق في الحقيقة إنما يستدل بها على جوده، فكأنها أخبرت ونطقت.

(١٠) المِسمَع: الأذن، والبيت تأكيد للذي قبله. يقول: إذا مررنا على الأصم — الذي لا يسمع — وهذه الأثواب علينا علم أن الممدوح قد أنعم بها فاستغنى برؤيتها عن أن تخبره بعطائه.

(١١) خار الله له كذا وبكذا: إذا اختار له ذلك. ونِلن: أي كن مما ينال ويحرز. قال العُكْبَرِيُّ: وهي بالكسر — أي كسر النون — أفصح من الضم، وقال الواحدي: نِلن: وزنه فُعلن — بضم الفاء — مثل بِعن، يستوي فيه فَعَلْنَ وفُعِلْنَ، ومنهم من يجعلها بين الضم والكسر، مثل: قيل — لئلا يلتبس فَعَلْنَ وفُعِلْنَ — أي المعلوم بالمجهول. والجدوى: العطية. يقول: سبحان الله الذي اختار للكواكب البعد؛ لأنها لو نيلت وأحرزت لفرقها الممدوح في جملة عطاياه.

(١٢) صاعه: فرقه، يقال: صاع الشجاع أقرانه: أي حمل عليهم ففرق جمعهم، وصاع الراعي ماشيته: أي فرقها في المرعى، وجمع الشمس على تقدير أن لكل يوم شمسًا.

(١٣) قال الواحدي: يريد أنه لا دين إلا به؛ لأنه يحفظه على الناس، ولا دنيا إلا معه؛ لأنه ملك، فمن ودعه فقد ودعهما.

(١٤) فيك: متعلق ﺑ «نراه». ومزيد: اسم «كان». يقول: لا مزيد على كرمك؛ لأنه قد بلغ الغاية، فإن كان يقبل الزيادة فزادك الله منه.

(١٥) كناه: دعاه بكنيته، والعي: ضد الإفصاح. يقول: إنَّا إذا وصفناه كان ذكر كنيته عيًّا منا؛ لأن وصفه يغني عن كنيته بكونه لا يصلح إلا له فقد عرف بذلك، وإن لم يكن. هذا، ولابن جني والواحدي هنا نقد دقيق، قالا: إن الاستفهام إذا دخل على النفي رده إلى التقرير، كقوله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ أي فيها مثوى لهم، وكقول جرير:

ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأنْدَى الْعَالَمينَ بُطُونَ رَاحِ

أي أنتم خير من ركب المطايا … إلخ. فعلى هذا يكون قوله: «ألم تكنه» معناه كنيته، والقوم — الذين لاحظوا على المتنبي — لم يريدوا هذا، إنما أرادوا نفي الكنية، فكان من حقه أن يقول — المتنبي — قالوا: ولم تكنه، ولا يأتي بحرف الاستفهام. وابن فورجه يقول في هذا: إنه استفهام صريح ليس فيه تقرير، كأن واحدًا من القوم سأل أبا الطيب فقال: ألم تكنه؟ أي هل كنيته؟ هذا قوله — قول ابن فورجه — والاستفهام الصريح لا يكون بالنفي؛ لأنك إذا استفهمت أحدًا: هل فعل شيئًا قلت: أفعلت كذا؟ ولم تقل: ألم تفعله؟

(١٦) اللبس: الالتباس. يقول: لا يحذر ولا يخشى أن تلتبس معاني الورى بمعناه أي أن تختلط صفاته ومعاني مدحه بصفات غيره ومعانيه؛ لأنه قد انفرد عن الناس بخصائص لا يشارك فيها ولا يوصف بها غيره، وإذن لا يحتاج في مدحه إلى ذكر كنيته. ولا يتوقى، رواها الواحدي: لا يتوفى، قال: ومعناه: لا يستوفي هذه الكنية وهذا اللفظ رجلًا يزيد معناه على معاني الورى كلهم؛ لأن فيه من معنى الكرم والمدح ما ليس فيهم، وليست هذه الرواية بشيء.

(١٧) أفرس: أي هو أفرس. وأفرس من الفروسية. والجياد: الخيل. وسبحها: عدوها — جريها — حتى كأنها تسبح في بحر، ونصب «الحديد» على أنه استثناء مقدم، واسم «ليس» أمواه، وخبرها محذوف، والتقدير: وليس في الأرض أمواه إلا الحديد. يقول: هو أفرس من تجري به الخيل حالة كون الأسلحة والدروع من حوله كبحر من الحديد — لكثرتها — تسبح الخيل فيه، لما ذكر سبح الجياد جعل الحديد أمواهًا.

(١٨) الملك: تخفيف الملك. يقول: أحق الديار بأن تدعى وتسمى مباركة دار ملكها الذي فيها مبارك، يعني إذا كان صاحب الدار مباركًا فداره أحق الدور بأن تدعى مباركة.

(١٩) استسقاه: سأله السقيا. يقول: أجدر الدور وأحقها بأن تكون مسقية ببركة من يسكنها دار سكانها سقاة الناس، يعني: إذا كان سكان الدار يسقون الناس وينفعونهم فتلك الدار أولى الديار بأن تكون مسقية بهم تشملها بركاتهم ومبراتهم.

(٢٠) يقول: هذه التي انتقلت إليها وعدت نهنئها بعودك إليها، فمن الذي يأتي الدار التي فارقتها فيعزيها لما ألم بساحتها من الحزن لفراقك إياها؟

(٢١) تاه فلان تيهًا إذا تكبر وافتخر. يقول: إذا نزلت مكانًا بعد أن ارتحلت عن مكان آخر تاه الثاني — الذي حللته — على الأول — الذي فارقته — وافتخر عليه بنزولك إياه.

(٢٢) لا ينكر العقل يروى: «لا ينكر الحس». والمغاني جمع مغنى وهو المنزل والمسكن، يقول: لا ينكر على الدار التي تحلها أن تكون ذات شعور تفرح بسكناك وتحزن بمفارقتك فإن ريحك روح لها.

(٢٣) يدعو له. ولقاك، يروى: أعطاك.

(٢٤) لئن تك، يروى: أن تك، فيكون فيه خرم، وربيعة هو أبو وردان، و«أو» من قوله أو بنوه: لك أن تبقيها على معناها ولك أن تجعلها بمعنى الواو. يقول: إن كانوا لئامًا فألأمهم أبوه وبنو أبيه، وإن كانوا كرامًا فأبو وردان ليس منهم، أي هو دعي فيهم. وقال العكبري. تعليقًا على «وردان»، وردان مشتق من الورد، ولو سميت رجلًا بوردان تثنية ورد: جاز لك فيه وجهان؛ أحدهما: أن تجريه مجرى مروان فتعربه كإعرابه ولا تصرفه. والثاني أن تلفظ التثنية، تقول في رفعه: جاءني وردان، وفي نصبه رأيت وردين، وفي جره مررت بوردين.

(٢٥) مررنا منه بعبد: تجريد. وحسمى موضع، وقد مر. ومج الشراب والشيء من فيه يمجه مجًّا ومج به: رماه ولفظه، وقد يستعمل في الأعراض، كما قال القائل:

لَدَدْتُهُمُ النَّصِيحَةَ كل لَدٍّ فَمَجُّوا النُّصْحَ ثُمَّ ثَنَوْا فَقَاءُوا

(اللد: في الأصل أن يؤخذ بلسان الصبي فيمد إلى أحد شقيه ويوجر في الآخر الدواء في الصدف بين اللسان وبين الشدق.) يقول: مررنا في هذا المكان من وردان بعبد قد أفعم لؤمًا حتى إن أنفاسه لؤم، أي لا يتكلم إلا بما يدل على لؤمه.

(٢٦) شذ العبد: إذا هرب، وأشذه غيره: هربه وأقصاه. والعرس: امرأة الرجل. يقول: فرق عني عبيدي بسبب امرأته، يعني أغراهم بالفجور بها، ودعاهم إلى ذلك فأتلفهم؛ لأنه حملهم على الفجور، وهم أتلفوا مالي؛ لأنهم أتلفوه على امرأته.

(٢٧) الجياد: الخيل. والمنصل: السيف، وقوله: لقد شقيت أراد: فلقد شقيت. يقول: إن كانت خيلي قد شقيت بأخذهم إياها فقد شقي وجه الآخذ بسيفي، يشير إلى العبد الذي ضربه بسيفه فأصاب وجهه، وذلك أن عبدين له ركبا فرسين من خيله وأخذ أحدهما سيفًا لأبي الطيب كان وردان قد طمع فيه وهربا. فأحس أبو الطيب بذلك، فلحق أحد العبدين فقتله ونجا الآخر، وقد تقدم ذلك في قافية الفاء.

(٢٨) أوه: كلمة توجع، قال:

فَأَوْهِ لِذكْرَاهَا إذا مَا ذكَرْتُهَا ومِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وسماء

وواهًا: كلمة تعجب واستطابة، قال أبو النجم:

وَاهًا لريَّا ثُم وَاهًا واهَا

ونأت: فارقت وبعدت. يقول: كنت أتعجب من وصالها — الحبيبة — وأستطيب قربها فصرت الآن أتوجع لفراقها، فصار التأوه بديلًا من التعجب والاستطابة، وصار ذكري إياها بديلًا منها لي بعد أن فارقتني. ويجوز أن يكون معنى والبديل ذكراها: أن هذا البديل الذي هو التوجع ذكرى لها أي كلما ذكرتها توجعت وقلت: أوه، فقوله لمن نأت: أي لأجل من نأت.

(٢٩) يقول: أتوجع لأني لا أرى محاسنها، ولو لم أرها لم أستطب قربها ولم أتوجع لفراقها، أي إنما أتاني هذان بسبب رؤيتها.

(٣٠) الناظر: العين أو إنسانها. والمحيا: الوجه. قال الواحدي: هذا يحتمل معنيين؛ أحدهما: أنه يريد فرط قربها منه، حتى إنها منه بحيث ترى وجهها في ناظره، وهذا عبارة عن غاية القرب، والآخر: أنه أراد حبها إياه فهي تنظر إلى وجهه وتدنو منه لحبه حتى ترى وجهها في ناظره.

(٣١) قال ابن جني: معنى البيت أن الناظر — وهو موضع البصر من العينين — كالمرآة إذا قابله شيء أدى صورته، فهو يقول: أوهمتني أنها قبلت عيني، وإنما قبلت فاها الذي رأته في ناظري، ألا تراه قال: تبصر في ناظري محياها؟

(٣٢) يقول: ليت ناظري مأواها أبدًا، وليتها لا تزال تأوي إلى ناظري، يريد أنه يتمنى دوام قربها الذي ذكره. قال الواحدي: ويجوز أن يكون المعنى: أنه يرضى بأن يكون بصره مأواها من حبه إياها. يقول: لو أوت إلى ناظري فاتخذته مأوى لها لكان ذلك مناي. هذا، وقوله: «آوية» رواها ابن جني: آويه، واحتج للتذكير بأنه أراد لا تزال شخصًا آويه، كما قال الآخر:

قَالَتْ وَتَبْكيهِ على قَبرِهِ: مَن لي مِن بَعْدِكَ يَا عامر

تَرَكْتَنِي في الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ

أي تركتني شخصًا ذا غربة.

(٣٣) دهته: أصابته، ويروى: رمته. يقول: من أصابته بعينيها فتيمته لم ترجَ سلامته.

(٣٤) الثنايا: جمع ثنية، وهي السن في مقدم الفم. وهنا عثر ابن جني عثرة يرحم لها، قال: دل بهذا البيت على أنها كانت مكبة عليه وعلى غاية القرب منه. قال ابن فورجه: أيظنها وقفت عليه تبكي حتى سال دمعها عليه؟ ومعنى البيت: أن دموعي كالمطر تبل خدي، كلما ابتسمت بكيت، فكأن دمعي مطر برقه بريق ثناياها إذا كان بكائي في حال ابتسامها كقوله:

ظِلت أبْكِي وَتَبسم

وكقول غيره:

أبكِي وَيضحكُ مِن بكايَ وَلن ترَى عجبًا كحاضِر ضِحكهِ وَبُكائِي

ونحو هذا قول أبي بكر الخوارزمي:

عذيرِيَ مِن ضِحْكٍ غَدَا سَبَبَ الْبُكَا وَمِن جَنَّةٍ قَدْ أَوْقَعَتْ في جَهَنَّم

(٣٥) الغدائر: الضفائر، وهي الذوائب من الشعر. والمدام: الخمر. والأفواه: أخلاط الطيب، واحدها فوه بضم الفاء. يقول: إن غدائرها لكثرة ما ضمختها به من الطيب صار ينتفض منها الطيب، وإذا نفضت غدائرها الطيب في يدي طيبت به المدام.

(٣٦) في بلد: هذه المحبوبة في بلد … إلخ. والحجال: جمع حجلة، بيت كالقبة يزين بالثياب والأسرة والستور، ويكون له أزرار كبار وهي حجلة العروس. يقول: هي في بلد فيه حسان كثيرات مخدرات لكنهن لا يشبهنها في الجمال، أي أنها تفضلهن في الحسن والجمال. قال الواحدي: ويجوز أن يكون المعنى أن كل واحدة منهن منفردة من الحسن بما لا يشاركها فيه غيرها فلا يشبه بعضهن بعضًا.

(٣٧) الحمول: الإبل عليها الهوادج أكان فيها نساء أم لم يكن. وأمواهًا: حال. يقول: إن هؤلاء الحسان لقيننا، وقد سارت الركاب بهن وهن كالدر حسنًا ونقاء وصيانة فصرن سرابًا لما بعدن عنا، وقال ابن جني: معنى «فذبن أمواها»: أجرين دموعهن أسفًا علينا، وبعبارة: بكين لفراقنا بدمع كثير حتى كأن أبدانهن قد ذابت وسالت دموعًا. وقال الواحدي: يجوز أن يكون المعنى غبن عنا فإن الدر جامد، والذوب يسيله. وقال غيرهما: إن المعنى: نزلن في الوادي سائرات فاستحيين منا فذبن أمواهًا.

(٣٨) المهاة: البقرة الوحشية تشبه بها المرأة الحسناء لحسن عينيها. يقول: كل امرأة كأنها مهاة وكأن مقلتها تقول للناظرين إليها: احذروا أن تصيدكم وتسبيكم، يعني: أنها مهاة صائدة لا مصيدة.

(٣٩) فيهن: أي في كل مهاة. يقول: فيهن من هي منيعة لا يجرؤ العاشق أن يذكرها ولو هو ذكرها لقطرت السيوف دمًا؛ لكثرة من يمنعها ويغار عليها ويحفظها بسيفه، أي إذا ذكرها العاشق وكان له عشيرة تنصره شبت الحرب بين قومه وبين قومها فسالت الدماء.

(٤٠) حمص وخناصرة: بلدان بالشام. ومحياها: موطن حياتها. يقول: أحب حمص وما يليها إلى خناصرة؛ لأنها موضع نشأتي وكل نفس تصبو إلى موطن حياتها وحيث نشأت.

(٤١) الثغر: مقدم الفم. والحميا: الخمر أو سورتها. يقول: أحب هذين الموضعين حيث اجتمعت لي هذه الطيبات: خد الحبيب وثغري وتفاح الشام — وهو أحمر — وشرب المدام.

(٤٢) صفت: أقمت الصيف، وشتوت: أقمت الشتاء. والصحصحان: الأرض المستوية الواسعة، أو موضع. يقول: وأقمت بها صيفًا كصيف أهل البادية، وأقمت بالصحصحان شتاء كشتاء أهل البادية؛ أي على رسم أهل البادية وعادتهم في الصيد والغزو ونحوهما مما ذكره في الأبيات التالية.

(٤٣) الروضة: الأرض فيها بقل وعشب. والحلة: اسم لبيوت وجماعة نزلوا بمكان، وهذا البيت كالتفسير للذي قبله. يقول: إذا أعشب مكان رعينا ذلك المكان كعادة أهل البادية في تتبع مساقط الغيث، وإذا ذكر لنا قوم حلوا بمكان غزوناهم وأغرنا عليهم.

(٤٤) العانة: القطيع من حمر الوحش، ومقزعة: خفيفة مفرقة كالقزع، وهي قطع السحاب، ورواها ابن جني: مفزعة؛ يعني أنها قد فزعت، فهو أخف لها وأشد على قانصها. يقول: إذا ظهر لنا قطيع من حمر الوحش صدنا بآخر خيلنا أولاها، يعني أن خيلهم سريعة تلحق آخرها أول القطيع، وحمر الوحش توصف بسرعة العدو — الجري.

(٤٥) الهجمة: القطعة من الإبل من أربعين فما فوق، وكاس البعير يكوس؛ إذا مشى على ثلاث قوائم. والشروب: جمع شرْب، جمع شارب، يريد الذين يشربون الخمر. وعقراها جمع عقير — أي معقور — أي البعير الذي قطعت إحدى قوائمه لينحر، يفعلون به ذلك لئلا يشرد عن النحر، يقول: إذا مر بنا قطيع من الإبل سطونا عليه فعقرناه يمشي بين الشاربين معرقبًا.

(٤٦) يقول: والفرسان يتطاردون ويلعبون بالرماح، فبعض خيلهم مطرود وبعضها طارد، وهي تجر الطويل من الرماح والقصير منها. هذا، والطولى: تأنيث الأطول، والقصرى: تأنيث الأقصر، قالوا: وفعلى إذا كانت تأنيث أفعل، مثل طولى وقصرى لا يجوز استعمالها إلا مضافة أو معرفة بلام التعريف، وإن كان قد قرئ: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَا بغير تنوين فهو على إرادة الإضافة: أي حسنى القول، وكذلك أتي في شعر أبي نواس:

كَأَنَّ صُغْرَى وكُبْرَى مِنْ فَقاقِعها حصبَاهُ دُرٍّ عَلَى أرض مِن الذَّهَبِ

أراد صغرى وكبرى فقاقعها، على إسقاط حرف الجر.

(٤٧) الكماة: جمع كمى، وهو البطل المغطى بسلاحه. وينظرها: يمهلها، أضاف القتل إلى الخيل، وهو يريد أصحابها، يقول: يعجب فرسان الخيل قتلهم الكماة: أي يسرون بقتلهم إياهم ولا يلبثون أن يقتلوا بعدهم؛ لكثرة المغاورة، وفشو الحرب، وطلب الثأر. وقال ابن جني: يجوز أن يكون المعنى على الإخبار عن الخيل — لا عن أصحابها — أي يعجب خيلنا قتل الكماة، ألا تراه يقول في موضع آخر:

تَحْمَى السُّيُوفُ على أَعدائِهِ مَعَهُ كَأَنَّهُنَّ بَنُوهَ أَو عشائِرهُ

فإذا جاز أن توصف الجمادات بأنها تحمى، فالحيوان الذي يعرف كثيرًا من أغراض صاحبه أحرى؛ لأنه معلم مؤدب، قال ابن جني: أما قوله: «ولا ينظرها الدهر بعد قتلاها» فالمعنى أنه إذا قتل الفارس عقرت بعده فرسه، قال زياد الأعجم:

وإذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فاعْقِرْ لَهُ كُوْمَ الْهِجَانِ وَكُلَّ طِرْف سَابِحِ

(بعير أكوم وناقة كوماء: عظيمة السنام عاليته. والهجان: الإبل البيض الكرام، يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع، يقال: بعير هجان وناقة هجان. والطرف: الفرس الكريم الأطراف، يعني الآباء والأمهات. والسابح: السريع في مشيه كأنه يسبح.)

ورد ابن فورجه على ابن جني قال: ليس هذا بشيء لأنه يريد بقتلاها من قتلته وقتله أصحابها، فهو يريد خيل القاتلين لا خيل المقتولين، والمعنى: أن أصحابها يهلكونها بالتعب وكثرة الركض بعد الذين قتلوهم فلا بقاء لها بعدهم، وبعد: فالمعنى على هذا أن فرسانها يقتلون الكماة عليها، ولكنهم لا يلبثون أن يقتلوا الخيل أيضًا؛ لأنهم يهلكونها بكثرة الركض في الغارات أو لأنهم ينحرونها للأضياف.

(٤٨) قاطبة: أي جميعًا حال، قال المعري: إن سيف الدولة أنشد هذه القصيدة فلما بلغ إلى هذا البيت قال: ترى هل نحن في الجملة؟

(٤٩) يقول: ومن مناياهم بكفه يصرفها فيهم كيف شاء، فهو يحيي من شاء منهم — من الملوك — أي يبقي عليه، ويميت من شاء.

(٥٠) أبا شجاع: بدلًا من قوله: مولاها. وشهنشاه: أي ملك الملوك، وهو لقب بني بويه. قال ابن جني: هذا البيت على أنه قصير الوزن قد جمع فيه كنية الممدوح وبلده واسمه ونعته وسماه بملك الملوك، وهو من أحسن الجمع والمدح.

(٥١) الأسامي: جمع الأسماء، جمع الاسم، ونصب أساميًا بإضمار فعل كأنه قال: ذكرت أساميًا، دل عليه قوله: ذكرناها. يقول: هذه الأسماء التي ذكرتها لم تزده معرفة فوق شهرته فهو مستغنٍ عن التعريف، وإنما ذكرتها استلذاذًا بلفظها وسماعها. قال ابن جني: وهذا كلام النحويين في أحد ضربي الوصف تناوله منثورًا فنظمه، وذلك أنهم يقولون: إنما يذكر الوصف للاسم، إما للإيضاح كي يتميز عن غيره كقولك: مررت بأبي محمد الكاتب، وإما للإطناب والثناء كقولنا: بسم الله الرحمن الرحيم، فالوصف هنا لم يجئ للإيضاح؛ لأن اسم الله تعالى لا يشركه فيه غيره فيحتاج إلى الوصف، وإنما ذكر للإطناب في الثناء. وكذلك قوله: أساميًا؛ لأنه قال: وسرت حتى رأيت مولاها، فقد علم أنه لا يعني إلا أبا شجاع، فإنما هو ثناء وإطناب وليس يريد التعريف لأنه مجهول، وإنما هو كما قال: ذكرته استلذاذًا للثناء عليه.

(٥٢) السحاب: اسم جمع، يذكر ويؤنث. وعظماها: أي معظمها. يقول: إذا ذكرنا هذه الأسماء قادت لنا مستحسن الكلام في مدح صاحبها، كما تقود السحابة العظمى سائر السحاب، يريد أنها مشتملة على جل المعاني التي يثني بها عليه، لما فيها من الدلالة على شجاعة مسماها وشرف منزلته. وعبارة الواحدي: هذه الأسامي محمولة على المعاني فهي ترجمتها تقود إذا ذكرت ما وضعت له فيحسن الكلام بها. ويجوز أن يريد بقودها مستحسن الكلام أنها سبقت إلى الذكر فهي مقدمة معانٍ أذكرها بعد وأصفها به، كما يقود معظم السحاب سائره — باقيه.

(٥٣) كل شيء له قدر وخطر فهو نفيس: أي يتنافس فيه ويرغب. وأسناها: أرفعها وأشرفها. يقول: إنه يهب أفضل أمواله. قال ابن جني: قال بعض خزان عضد الدولة: إنه كان قد أمر له بألف دينار عددًا، فلما أنشد هذا البيت أمر بأن تبدل بألف موازنة فأعطى ألف مثقال.

(٥٤) يقول: لو علمت خيله بجوده وفطنت إليه لم يسرها أن يرضاها الممدوح وأن تعجبه؛ لأنه إذا رضيها وأعجبته وهبها لزائريه ما دام أنه يهب أفضل أمواله فتفارق مربطه، وهي لا ترضى أن تتبدل به غيره.

(٥٥) انتشى: سكر. الخلة: الخصلة والثلمة. وتلافاها — بحذف إحدى التاءين — أي تتلافاها؛ أي تتداركها. يقول: هو قبل الشرب جواد فلا تزيده الخمر جودًا. وليس في مكارمه خلة تتلافاها الخمر، وأول هذا المعنى لعنترة:

وَإذا صَحَوْتُ فما أُقَصِّرُ عَن نَدًى وَكما عَلِمْتِ شَمَائِلي وَتَكرُّمِي

وقريب من هذا قول زهير:

أَخُو ثِقةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مالَه وَلكِنَّه قد يُهلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ

وقول أبي نواس:

فتى لَا تلوكُ الْخَمْرُ شَحْمَةَ مالِهِ ولكِنْ أَيَادٍ عُوَّدٌ وَبَوَادِي

(لا تلوك، تروى: «لا تذيب»، ولاكه يلوكه: مضغه.)

وقول البحتري:

تَكَرَّمْتَ مِنْ قَبلِ الكئوسِ عَلَيْهِم فما اسطَعْنَ أَن يُحْدِثْنَ فِيكَ تَكَرُّمَا

وألم الصابي ببيت المتنبي في بعض محاوراته فقال: ولقد آن الله في اقتبال العمر جوامع الفضل وسوغه في عنفوان الشباب محامد الاستكمال. فلا تجد الكهولة خلة تتلافاها بتطاول المدة، وثلمة يسدها بمزايا الحنكة.

(٥٦) الراح: الخمر. والأريحية: الاهتزاز للكرم والنشاط للجود. يقول: إذا اجتمعت الراح مع أريحيته فأدنى أريحيته يجلب من السخاء ما لا تجلبه الرياح، يريد أن فعل أريحيته فوق فعل الراح، فلا تطيق الراح أن تسامي أريحيته فإذا سامتها سقطت دونها.

(٥٧) طرباته: جمع طربة، وهي المرة من الطرب، وسكن راءها ضرورة. والكرائن: جمع كرينة، وهي الجارية المغنية. وقال ابن جني: الكرائن: الأعواد. يقول: إذا طرب عند الشرب سر طربه جواريه المغنيات بما يفيض عليهن من الأموال والعطايا. ثم تزيل عاقبة طربه سرورهن؛ لأن أريحية الجود لا تزال به حتى يهب الجواري أيضًا فيخرجن عن ملكه فيزول سرورهن لذلك، لأنهن لا يرضين فراقه.

(٥٨) بكل: متعلق ﺑ «تزيل». والمولولة: الداعية بالويل من ثكل أو غيره. والزير: الوتر الدقيق من أوتار العود. والمثنى: الوتر الثاني بعده. يقول: يزيل سرورهن بكل جارية منهن يهبها وهي تولول حزنًا على فراقه، وتقطع أوتار العود غضبًا وأسفًا لزوال ملكه عنها.

(٥٩) تعوم: تسبح. والقذاة: واحدة القذى؛ ما يقع في العين أو الشراب من تبنة ونحوها. والزبد: الرغوة تطفو على وجه الماء؛ ويغشاها: يعلوها. يقول: هذه الجارية التي وهبها تعد في جملة عطاياه، الجملة بمنزلة القذاة العائمة في بحر مزبد يعلوها ويغلبها سائر مواهبه كما يعلو الزبد القذاة. وروى ابن جني: زبِد — بكسر الباء — وهو الكثير الزبد لكثرة مائه.

(٦٠) غرته: وجهه. يقول: إذا وضع التاج على رأسه أشرق تاجه بإشراق وجهه كما تشرق ألفاظه بمعانيها.

(٦١) دان له: خضع وأطاع، والضميران في شرقها ومغربها: يعودان على الدنيا وإن لم يتقدم لها ذكر، لدلالة القرينة. يقول: أطاعه أهل الشرق والغرب ودانوا له، ونفسه تستقل جميع الدنيا. قال الواحدي: وكذا كان يقول عضد الدولة: سيفان في غمد محال، يعني: أن الدنيا يكفي فيها ملك واحد، وكان يقصد أن يستولي على جميع الدنيا.

(٦٢) يقول: قد اجتمع في فؤاده همم لعظمها تملأ الزمان إحداها، وإذا كان الزمان — مع سعته — لا يسع إلا إحداها لم يظهر باقي هممه، إلا أن يقع اتفاق، كما ذكر في البيت التالي. هذا، والهمم: جمع همة، وأصل الهمة من الهميم، وهو الدبيب، وهمت الهوام على وجه الأرض: إذا دبت، فالهم يهم في القلب أي يدب، قال ساعدة بن جؤية الهذلي يصف سيفًا:

تَرى أثرَهُ فِي صَفْحَتيهِ كأنه مدارِجُ شبثان لهن هِميم

[الشبثان جمع شبث، وهو العنكبوت.]

(٦٣) يقول: فإن أتى حظ هممه بزمان أوسع مما ترى أظهر تلك الهمم، يعني أن هممه يضيق عنها هذا الزمان فإن صدف وجود أزمنة أوسع من الزمان الذي نحن فيه أبداها في تلك الأزمنة. وقال ابن جني: الضمير في «حظها» للدنيا؛ أي أن الدنيا إن كان لها حظ فأتاها زمان أوسع من زمانها الذي هو فيه أظهر هذا الممدوح هممه.

(٦٤) الفيلق: الجيش، وأنثه باعتبار الكتيبة والجماعة، قال ابن جني: أي شن الغارة في جميع الأرض — عند إظهار تلك الهمم — فخلط الجيش، فصارا — لاختلاطهما — كالجيش الواحد، وتعثر الأحياء منهما بالموتى، قال ابن فورجه يرد على ابن جني: ليس أبو الطيب من ذكر الغارة وشنها في شيء، وإنما هو يقول قبل هذا البيت: في فؤاده هممم إحداها أعظم من فؤاد الزمان، فهو لا يبديها؛ لأنه لا يجد زمانًا يسعها، فإن قضى لها وجاء حظها وبختها بأزمنة أوسع من هذا فحينئذٍ يظهر تلك الهمم، ويجتمع أهل هذا الزمان وأهل تلك الأزمنة، ويصيران شيئًا واحدًا، وتضيق الأرض بهم حتى يعثر حيهم بميتهم للزحمة وكثرة الناس، ومثل هذا في ذكر الزحمة وقوله أيضًا:

سُبِقْنَا إلى الدُّنْيَا فَلَوْ عَاشَ أَهلُهَا مُنِعْنَا بِهَا مِنْ جَيْئَة وذُهُوبِ

(٦٥) قال الواحدي: أراد بالنيرات والأقمار ملوك الدنيا إذا عادوا واجتمعوا في زمان واحد، وأراد بأبهاها عضد الدولة، ومعنى سجود الأقمار: خضوع الملوك له، فحينئذٍ يبدي هممه. وعبارة ابن جني: شبه الجيوش لما اختلط بعضها ببعض بفلك تدور فيه نجومه، وشبه ملوك الجيوش بالأقمار، وشبه عضد الدولة بالشمس؛ لأنه أشرفهم وأشهرهم. وتسجد: تذل وتخضع، والضمير في أبهاها يعود على النيرات.

(٦٦) السلاح: نائب فاعل المتقى. والوغى: الحرب، وهي فاعل المثنى. وخيلاها: تثنية خيل. يقول: هو الفارس الذي يتقى به السلاح، أي يتوقى به جيشه سلاح الأعداء، يريد أنه يتقدم الجيش إلى الأعداء، ويدفع السلاح عنهم، كما يروى عن علي قال: «كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله ﷺ فكان أقربنا من العدو.» وتثني عليه الحرب لما تشاهد من بأسه وحذقه، وأراد بقوله: خيلاها أي خيل الوغى: خيله وخيل العدو، يعني: أن العدو أيضًا يثني عليه؛ لأنه يرى من شجاعته وإقدامه ما لا يسعه إنكاره. وقال ابن فورجه: يتقى به السلاح أي لا يعمل معه شيئًا.

(٦٧) يقول — كما قال الواحدي: لو أن يده أنكرت جراحاتها لعرفنا أنها من آثار يده؛ لأن غيره لا يقدر على مثلها؛ يريد أن ضرباته تعرف من ضربات غيره وكذا طعناته. والمراد باليد صاحبها؛ لأن اليد لا توصف بالإنكار ولا بالحياء.

(٦٨) قال الواحدي: المراد بالزيادة — ها هنا — السوط، وهو مأخوذ من قول المرار الفقعسي:

وَلَمْ يُلْقُوا وَسَائِدَ غَيْرَ أيد زيَادَتُهُنَّ سَوْطٌ أَوْ جَدِيلُ

والناقع من الموت: الكثير، والناقع: الثابت. يقال: سم ناقع: إذا كان ثابتًا في نفس شاربه حتى يقتله، وسيماها: علامتها. يقول: كيف تخفى اليد التي سوطها يقتل به فكيف سيفها. يعني كيف تخفى آثار يد سوطها والموت به من علاماتها؟ أي أن من ضربه بسوطه قتله.

(٦٩) أن يتيه: أي في أن يتيه، وتاه يتيه: تكبر وتعظم. يقول: لو أنه تاه على الدنيا وتكبر على أهلها لكان له العذر الواسع لظهور مزيته عليهم، ولكنه لم يفعل ذلك، وفي مثل هذا يقول الآخر:

وَمَا تَزْدَهِينا الكبْريَاءُ عَلَيْهِمِ إذا كَلَّمُونَا أَنْ نُكَلِّمَهُمْ نَزْرًا

(٧٠) كفر: جحد. وعدت: جاوزت. والسجايا: الطبائع والأخلاق. يقول: لو أن إنعامه قوبل من الناس بالكفران ولم يشكروه له لم يترك الإحسان إليهم ولا تركت نفسه ما جبلت عليه من السجايا الكريمة؛ لأنه لا يجود للشكر حتى إذا لم يشكر قطع العطاء، وإنما يجود بطبعه، كما قال بشار:

لَيْسَ يُعْطِيكَ لِلرَّجاء وَلِلْخَوْ فِ وَلكِن يَلذُّ طَعْمَ الْعَطَاء

(٧١) ضرب له المثل بالشمس فإن أكثر منافع الدنيا إليها تحور ومنها تحصل، ثم هي لا تبتغي — لا تطلب — بصنعها منفعة عند الناس ولا جاها، وذلك أنها مسخرة لتلك المنافع. كذلك هو — الممدوح — مطبوع على الجود والكرم.

(٧٢) حدياها: معارضًا لها، وهو في الأصل اسم من تحداه؛ إذا باراه ونازعه الغلبة، ويقال: أنا حدياك في هذا الأمر، أي ابرز لي فيه وحدك وجارني، قال عمرو بن كلثوم:

حُدَيَّا النَّاسِ كُلِّهِمِ جَمِيعًا مُقَارَعَةً بَنِيهِمْ عَنْ بَنِينَا

يقول: كل أمر الملوك إلى من يتولاهم، أي لا تخدمهم ودعهم ومن يتولاهم ويخدمهم ويواليهم، والجأ إلى الممدوح تكن مثل الملوك، وهذا من قول بعض الواعظين: يا عبد الله صانع وجهًا واحدًا تقبل عليك الوجوه كلها.

(٧٣) في غير أمير حال من الإمارة، و«إن» وصلية، والجملة حال من «غير». وباهى: فاخر. يقول: لا يغرنك منصب الإمارة فيمن ليس بأمير حقيقة وإن فاخر بها، أي فهو الأمير على الحقيقة، أما من عداه فهو أمير مجازًا.

(٧٤) الملك: بسكون اللام تخفيف ملك بكسرها، ويقال: فغمته الرائحة إذا ملأت خياشيمه. والخافقان: أفقا المشرق والمغرب، والريا: الريح الطيبة. يقول: إن الملك على الحقيقة هو الذي ملأ ذكر مملكته الدنيا شرقًا وغربًا، وشاع الثناء عليه فيها، مثل الممدوح. وفغم: يروى فعم أي ملأ، ويقال: أفعم المسك البيت أي ملأه بريحه، وفعمت المرأة فعامة وفعومة وهي فعمة: استوى خلقها وغلظ ساقها، وساعد فعم، ومخلخل فعم، قال:

فَعْمٌ مَخْلخلُهَا وَعْثٌ مُؤَزَّرُهَا عَذْبٌ مُقَبَّلُهَا طَعْمُ السَّدَا فُوهَا

(الوعث: اللين. والسدا ها هنا: البلح الأخضر، واحدته: سداة، وقيل: هو العسل، من قولهم: سدت النحل تسدو سدًا.)

وأفعمت الرجل: ملأته غضبًا.

(٧٥) كهيجاها: كحربها، يقول: لشجاعته وثقته بقوته يحتقر أعداءه، ولا يكترث لهول الحرب وشدتها، فإذا كانت الوجوه عابسة لشدة الحال وضيق الأمر كان هو مبتسمًا ضاحكَا، وصلح الأعداء وحربهم عنده سواء.

(٧٦) يعني بعبده: نفسه. يقول: الناس في خدمتهم لغيره كمن يعبد آلهة من دون الله؛ لأنه هو الملك على الحقيقة وغيره من الملوك زور، وأنا في اقتصاري على خدمته دون غيره كمن يوحد الله ولا يشرك به. وعبارة ابن جني: الناس الذين في طاعة غيره كأنهم يعبدون آلهة مختلفة، وعبيده الذين يطيعونه كأنهم الموحدون لله لا يشركون به فلا يرجون سواه، ومن يخدم سواه لم تنفعه تلك الخدمة كالذين يعبدون آلهة مختلفة.


No comments:

Post a Comment

Pages